|
|||||||
| الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#11
|
||||
|
||||
|
حكم تأخير سداد ديون الميت لمصلحة الورثة وبالنسبة للديون، قد يكون التعجيل بقضائها في بعض الأحيان يتضمن بعض الضرر على الورثة، مثل: كساد السوق، ورخص الأسعار، فمثلا: لو أن الميت توفي وعنده (عمارة) ، حتى ولو كان يسكنها أولاده، وليس عندهم سكن غيرها، فإنه يجب أن يسدد دينه ولو أن تباع (العمارة) ؛ لأن هذا ماله، ونفسه معلقة ومرهونة بدينه، وهو قد قام بإسكان وستر ورثته ومن يعول مدة حياته، فإذا وفى لهم فالواجب أن يوفوا له بعد موته، فلا تعطل ديونه وتبقى نفسه معلقة مرهونة بالدين، وقد ترك وفاء لهذا الدين. وأعجب من هذا وأعظم ظلما للميت حينما يكون الميت قد ترك سدادا، مثل أن يكون عنده مزارع وأرض وسيارات، ولكن الورثة يؤخرون ذلك من أجل كساد السوق حتى يفضل لهم فضل من الإرث! فهذا من الظلم للميت. فيجب أن يبادر بسداد دين الميت، ولا يجوز تأخير سداد الدين؛ لأن المال هو مال الميت، ولا يجوز أن يحبس الحق عن صاحبه، والميت محتاج أن تبرأ ذمته. وقد اختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن معلقة بدينه) ، فقال بعضهم: مرهونة: بمعنى: محبوسة؛ لأن الرهن في أصل اللغة: الحبس، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38] ، فهي فعيلة بمعنى: مفعولة، ورهينة بمعنى: مرهونة محبوسة. وقال بعض العلماء في تفسير هذا الحديث إن معنى ذلك: أنه لا ينعم حتى يقضى عنه الدين، فيحبس عن النعيم حتى يقضى عنه الدين، وإلا فما معنى (نفس المؤمن مرهونة) ؛ لأن الحبس إما حبس عن النعيم، أو حبس فيه عذاب، وإذا كان الحبس فيه عذاب فهذا الأمر أعظم، نسأل الله السلامة والعافية. فالأمر جد خطير، فلا ينبغي التساهل في حقوق الموتى من قضاء ديونهم، وهذا يحتم على كل شخص أن يتدارك الحقوق الواجبة عليه، فيحتاط، فإذا علم من ورثته من يوثق بدينه وأمانته أسند إليه وبين له الحقوق وكتبها، وأوصل الحقوق إلى أهلها، وخاصة إذا كان هناك أمر يحتاج إلى أمين وثقة يقوم عليه. السبب في وجوب سداد الحقوق التي على الميت والسبب في تشديد الشريعة في هذا الأمر ونص العلماء رحمهم الله على أهمية قضاء الديون: لما فيها من حقوق العباد، فإن حقوق الناس والخلق مبنية على المشاحة والمقاصة، وإن من الظلم أن يكون الإنسان قادرا على سداد ديونه، ويؤخر الناس في سدادها. قال صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم يبيح لومه وعرضه) ، يعني: أن من امتنع عن سداد حقوق الناس فإنه ظالم، فإذا كان الميت قد ترك سدادا وامتنع ورثته من السداد، فقد أصبح الظلم من جهتين: ظلم لأصحاب الحقوق بتأخيرها، وظلم للميت حينما ترهن نفسه وتعلق. وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء) ، ثم نزل عليه الوحي فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا الدين سارني به جبريل آنفا) ، فالشهيد الذي له المنزلة والمكانة، وهو الذي يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويؤمن من الفتان، ويبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دما، ويزمل في ثيابه حتى تشهد له دماؤه وجراحه كما قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: (زملوهم في ثيابهم، فإني شفيع لهم وشهيد بين يدي الله) . فهذه المنزلة العظيمة التي تبوأها الشهيد حتى أمن من عذاب القبر، لم يفك عنه حقوق الناس. فالواجب أن يحتاط الإنسان، وألا يدخل في الدين إلا من حاجة ماسة، وإذا دخل في الدين سأل الله المعونة. نصيحة لمن أراد أن يستدين وإذا أراد الإنسان أن يقترض شيئا فعليه بأمرين مهمين: الأمر الأول: ألا يقترض إلا من حاجة شديدة ماسة، فإن من نزلت به فاقة وحاجة فردها إلى الله عز وجل، أوشك الله له بالفرج العاجل، فجعل الله قليله كثيرا، ويسيره عظيما، وبارك له، ومن يصبر يصبره الله. وإذا ضاقت عليه الأمور لحاجة ماسة، مثل: طعام الأولاد والأهل، أو لشقة يستأجرها، أو يستدين لشراء سيارة من أجل نقلهم، وقد يكون عدم وجود هذه السيارة زيادة دين، فهذه حوائج يضطر إليها الإنسان فتبيح له الدين، وتبيح له المسألة، وإذا لم توجد حاجة ماسة فليتق الدين؛ فإن الدين في الحقيقة تبعة ومسئولية وبلاء على العبد، ولذلك قال بعض السلف في الدين: (هم الليل وذل النهار) . وهذا إبراهيم بن أدهم حينما ركب البحر، فهاج البحر، وجاءت أمواج عظيمة حتى كادوا أن يغرقوا، فقيل له: يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة؟ فقال: إنما الشدة الحاجة إلى الناس. نسأل الله العظيم بوجهه الكريم ألا يجعل لنا ولكم إلى لئيم حاجة، وأن يجعل لنا ولكم الغنى به سبحانه والفقر إليه. فالمقصود: أن الإنسان يصبر قدر المستطاع، فإذا ضاقت عليه الأمور ووجدت الحاجة، فيطلب دينه ممن يعرف منه السماحة وحسن النفس وطيبها، ومن لا يضيق بالاستدانة منه؛ لأن مثل هذا حري به أن يسامح، وحري به أن يوسع عليه، فلا يضيق على نفسه مع وجود السعة، فإذا وجد غنيا كريما طيبا، وفيه الخير، ويحب معونة الناس؛ عرض عليه أمره، أما إذا كان الإنسان الذي يريد أن يسأله ويطلب منه -حتى لو كان قريبا- يعلم أنه سيضيق عليه، فالأفضل أن لا يضيق عليه؛ لأن المال الذي في الدين يبارك لصاحبه إذا أخذه على الوجه الحسن، ويضع الله فيه البركة، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم من كان سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى، فلابد أن يكون الإنسان سمحا، فلا يضيق على الناس في الدين، ولا يحرج أحدا بذلك ما أمكنه. الأمر الثاني الذي ينبغي توفره: حسن النية، فينوي في قرارة قلبه أن يرد هذا المال عاجلا أو آجلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) . فقوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها) ، أي: في نيته وقرارة قلبه، والله يشهد ومطلع عليه أنه أخذها ليسدد عند وجود اليسر والسعة، ومن أخذها يريد إتلافها، أو أن يتلاعب بها، فكما أخذ دينا وقضى دينا جاء إلى دين آخر، ثم أخذ من فلان وفلان وأخذ يتلاعب، وهو يعلم أنه لن يستطيع السداد، ويعلم أنه يستطيع أن يضيق على فلان مع أنه غني فيماطله ويؤخره حتى ييأس من حقه، ثم ينفلت من التبعة، لكنه لن ينفلت من عقوبة الله جل جلاله، ولو كان صاحب الحق غنيا، فالحق حق، ولذلك أمر الله بالشهادة العادلة ولو كانت على فقير: {إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا} [النساء:135] ، فلو كان الذي له الحق غنيا فلا تقل: إن هذا فقير، وقد استدان وهو ضعيف، وهذا غني، لا، فما دام أنه أخذ حقا فليرده إلى صاحبه، سواء كان غنيا أو فقيرا، فلا يجوز أن يأخذ أموال الناس وهو يريد إتلافها. فمن يأخذ الأموال تلو الأموال وهو يعلم من قرارة قلبه أنه لن يسدد، بل أصبحت عادة له، فمن فعل ذلك فإن الله يفتح عليه باب الاستدراج حتى لا يبالي به في أي أودية الدنيا هلك؛ ولذلك ينزع الله البركة من المال الذي يأخذه، ولربما جعل الله حتفه ونقمته عليه في الذي أخذ، فيبني (عمارة) فتكون سببا في شقائه ومرضه، أو يأخذ سيارة فيكون فيها حتفه ونهايته والعياذ بالله، أو حتف ولد من أولاده، أو حتف عزيز عليه؛ لأنه كما يضر بالناس يضر الله به. فالنية مهمة جدا، فلا يأخذ الإنسان الدين إلا من وجود حاجة وضرورة، ولا يأخذ إلا وفي نيته وفي قرارة قلبه أن يقضيه، ثم يستعين بالله عز وجل على قضاء دينه بأمرين أعظمهما وأجلهما: كثرة الدعاء، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من غلبة الدين وقهر الرجال، فيستعيذ بالله من غلبة الدين، ثم يبادر بالسداد ولو كان عنده ريال واحد من عشرة آلاف، فكلما تيسر له السداد قليلا كان أو كثيرا فليسدد، فإن هذا من أفضل وأبرك ما يكون في سداد الديون؛ لأن مثل هذا حري أن يعينه الله عز وجل، ويفتح له أبواب الفرج من حيث لا يحتسب. وعلى كل حال: الدين أمره عظيم، حتى إنهم قالوا: إن الإنسان قد يؤذى في عبادته وخشوعه وصلاته وطاعته بسبب حقوق الناس، فتجد الرجل أخشع ما يكون قلبا، فإذا وقع في الدين تغير حاله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه) أي: مرهونة بدينه، ولم يفرق بين الحياة والموت، وهذا الذي جعل بعض العلماء يتحاشى الدين ولا يحبه ولا يرضاه، حتى إنه يخشى أن يؤثر على صلاحه واستقامته؛ لأن صاحب الحق إذا طلب حقه أجحف بالإنسان، وشوش عليه في عبادته، وآذاه وأضره. وأيا ما كان فالدين جائز ومشروع، فهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد استدان، وإن كان بعض العلماء قد اعتذر فقال: رسول الأمة صلى الله عليه وسلم نيطت به حقوق، والناس كلهم يعولون عليه صلى الله عليه وسلم، وذلك مثلما يوجد في الفضلاء والكبراء، كشيخ القبيلة أو أميرها، فغالبا أنه يدخل في الشفاعات، ويواسي المعدومين والمحتاجين، فمثل هؤلاء غالبا يقعون في الدين؛ لكن لهم من الله عز وجل المعونة؛ لأنهم أخذوا الدنيا معونة على الدين، فما دام أنهم لا يريدون بها جاها ولا سمعة ولا فخرا، وإنما يفعلون ذلك رحمة بالناس، فمن رحم حري أن يرحمه الله عز وجل، وأن يبارك له في رزقه، وأن ييسر له من أمره. تيسير الله قضاء دين المحسنين ولقد جعل الله عز وجل للغارمين الذين يتحملون الديون، وهم رؤساء العشائر من الكبار الذين لهم مكانة، وأهل العلم وأهل الفضل الذين تأتيهم حوائج الناس دائما، وكذلك أهل الكرم، فهؤلاء لا يستطيعون أن يعتذروا، والكريم في بعض الأحيان يفضل أن يموت ولا أن يعتذر لصاحب الحاجة، وهذا شيء وضعه الله في القلوب، وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (ثلاثة لهم علي فضل، وذكر منهم: رجل نزلت به حاجة فاختارني من بين الناس) ، أي: جاء إلي من بين الناس ووقف علي وسألني هذه الحاجة. فلا شك أنه لم يوجد ولن يوجد رجل عرف برحمة الناس -وكان ذلك بحسن نية- فضاق عليه الأمر إلا ووسعه الله عز وجل، وهذا شيء لا يخطر على بال، وقد رأينا من العلماء والفضلاء وأهل الفضل العجب في هذا. ولذلك فلن تجد إنسانا كريم النفس يستدين إلا تكفل الله عز وجل برزقه، فنحن حينما ذكرنا مسألة الدين، قد يكون بعض الناس فيه رحمة، وأفضل ما يكون الكرم والإحسان في رجل عطوف شفوق رحيم بذوي رحمه، فتجده دائما ينظر إلى أخواته المحتاجات وإخوانه وقرابته المحتاجين، وينظر إلى العجزة وكبار السن من قرابته؛ فيستدين لهم ويتحمل عنهم؛ فإن الله سبحانه وتعالى يجعل لمثل هذا من الفرج ما لم يخطر له على بال. وهذا رجل ضاقت عليه الأرض بما رحبت في دين أهمه وأغمه -وكان من أفضل الناس في جماعته إحسانا وكرما، وكان من حفاظ كتاب الله عز وجل، ومن الصالحين الأخيار رحمه الله، نحسبه ولا نزكي على الله أحدا- يقول: إنه ضاق عليه الأمر في مبلغ كبير، حتى وقف عليه صاحب المبلغ وآذاه وسبه وشتمه؛ لأنه تأخر عليه، وقد وعده أكثر من مرة أن يفي فلم يستطع، يقول: فنزلت إلى بيت الله، فطفت فيه -وقد كان رجلا معروفا بمواساة المحتاجين، وهذا شيء أدركته عليه، وقد كان من أعجب ما رأيت من الرجال، تجد بيته بيت الأيتام والأرامل والمحتاجين، لا يبالي بالدنيا أقبلت أو أدبرت من صلاحه رحمه الله- يقول: وأنزلت حاجتي بالله سبحانه وتعالى، فوالله إني عند المقام أصلي ركعتي الطواف، وإذا برجل ثري غني موفق جاء وصلى بجواري، قال: فسلم علي وتبسم في وجهي وناولني كيسا، فإذا فيه ثلاثة أضعاف المبلغ الذي أردته!! فمن أنزل حاجته بالله عز وجل فإن الله لا يخيبه، وما من أحد أحسن إلى الناس وضيع الله إحسانه أبدا، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان. ومن غريب ما رأيت في هذا: أن الوالد رحمه الله كان لا يمسك المال، ولا يبالي بالدنيا أقبلت أو أدبرت، وهذا شيء شهدته ورأيته فيه رحمه الله، وأشهد أمام الله أني رأيت فيه من الكرم والإحسان إلى الضعفة والمساكين ما الله به عليم، فمما حدث: أنه جاء في مرض موته رحمه الله، وكان عندنا عمال قد احتاجوا إلى مبلغ من المال، وقد كان رحمه الله يعطي الأجير أجره قبل نهاية الشهر، وقد كانت وفاته رحمه الله في آخر شهر جمادى -أي: قرابة الرابع والعشرين- فاحتاج العمال إلى المال، فجئت إليه وقلت له: إنهم يحتاجون إلى مبلغ كذا وكذا، وكان هذا بعد صلاة العصر في اليوم الذي سبق وفاته، فتألم وتغير وجهه، وقال: ليس عندي الآن شيء، لكني أرجو من الله ألا يضيق علي أمرا إلا وسعه. والله ما زاد على هذه الكلمة، وأشهد بالله العظيم أنه ما إن انتهى من الكلمة إلا والباب يقرع، فإذا بأحد أبناء العم من القرابة جاء لزيارة الوالد، وقد كان عليه دين لوالدي -وقد توفي والدي وله على الناس ما لا يقل عن ثلاثة ملايين، وما وقفنا على أحد نسأله دينا للوالد، ولا نعلم ذلك أبدا من قبل، وفي آخر حياته كان يقول له بعض الناس: ألك حقوق على الناس؟ فيقول: حياتي كلها ما وقفت على رجل أقول له: أد ديني، أبعد أن شابت لحيتي وابيض شعري أفعل ذلك؟ فالشاهد: أنه جاء هذا القريب -انظر إلى تقدير الله عز وجل- ولو واجه الوالد لما قبل منه المال، لكن الوالد كان مريضا، فأدخلته في غرفة الضيوف، فجاء وقال لي: أريد أن أسلم على الوالد -وكان مريضا جدا إذ كانت عليه الحمى رحمه الله، وذلك في اليوم الذي سبق وفاته- فقلت له: لا يستطيع الآن أن يقابلك، ولو أنك عدت بعد العشاء أو في وقت آخر، فقال لي: سلم عليه وأعطه هذه الرسالة، وكنت لا أدري ما الذي بداخلها -انظر إلى تقدير الله عز وجل- فلو أنه جاء إلى الوالد وأعطاه المبلغ لغضب عليه ورفض قبوله، وأنا أعرف أنه إذا أعان أحدا فلا يأخذ منه بعد ذلك ما أعطاه إياه، ولو وسع الله عليه، رحمة الله عليه- فالشاهد: أنه أعطاني هذا الظرف، وأقسم بالله العظيم أن المبلغ الذي فيه هو راتب العمال الثلاثة، لا يزيد ولا ينقص، فجلست مع الوالد وقلت له: فلان يسلم عليك، ويقول: هذه الأمانة التي أخذها منك، فتغير وجهه وقال: أمانة ماذا؟ ففتحتها فإذا فيها المبلغ الذي يعادل ألفين وأربع مائة، وهي تعادل حقوق الثلاثة العمال. وهذا من أعجب ما رأيت؛ لأن كلمته لما قال: أرجو من الله ألا يضيق علي شيئا إلا وسعه، فالدين إذا لم يسد به حوائج المحتاجين، ويواسي به المكروبين، ويقف به مع الضعفة والمحتاجين، فلاشك أن الأولى الابتعاد عنه ما لم يضطر الإنسان إلى ذلك. وأما في هذا الزمان فلا شك أن الأمر أضيق، فقد كان أهل الفضل وأهل الكرم وأهل المال -من قبل- يحبون أهل العلم وطلاب العلم، ويواسونهم، لكن اليوم قل أن تجد من يكرم أهل العلم، وقل أن تجد من يقف عليه طالب العلم في حاجة لأحد إلا أذله وأهانه، ولاشك أن الله يأجر طالب العلم على هذا، لكن قد تكون النفس عزيزة، فتربأ بالإنسان أن يقف هذا الموقف مخافة أن يكون في ذلك تبعة عليه أمام الله سبحانه وتعالى. فقد تغير الزمان وفسد، إلا من رحم ربي، وإن كان -والحمد لله- لا يزال هناك بعض أهل الخير، لكن الأمور قد تغيرت، وقد كان أهل العلم معروفين بهذا، وقصة الأوزاعي في ذلك مشهورة، كل هذا تحملوا فيه حقوق الناس، وأيا ما كان فالإنسان عليه أن يبتعد عن الدين ما لم يحتج إليه. وقد كانت أم المؤمنين ميمونة رضي الله تتدين وتستدين كثيرا، فقيل لها في ذلك، فقالت: ما أترك الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) ، فكانت تعول على أن الله لا يخيبها، ولم يخيبها ربها سبحانه، فقد قضيت ديونها، وكفيت حاجتها، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يغنينا من فضله، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه. ولقد بين المصنف رحمه الله أنه يبدأ بالدين وبالحقوق الواجبة، وينبغي على طالب العلم أن ينتبه إلى أن المسألة التي ذكرناها حينما قلنا: أن يكون الذي وصى به من الواجبات، أو يكون من المستحبات، بمعنى: أن يكون الدين ضمن الوصية، فيجعل في وصيته من الثلث، كأن يقول: اقضوا ديني من الثلث، وحجوا عني من الثلث، وتصدقوا بكذا وكذا من الثلث، فلما جئنا نقضي الدين وجدناه سبعة آلاف ريال، ووجدنا -مثلا- أن الحج عنه بألف ريال، ووجدنا الذي وصى به أربعة آلاف ريال، فأصبح المجموع اثني عشر ألفا، وكان ثلث ماله عشرة آلاف ريال، وهذه مسألة التقديم، فنقدم الدين، ونقدم الحج، ثم نتصدق بنصف الأربعة آلاف تتمة للعشرة آلاف ريال، فمسألة التقديم هذه لا تشكل على طالب العلم؛ لأن الحقوق الواجبة يجب سدادها سواء وصى أو لم يوص، وإنما أدخلناها في الثلث أولا إذا نص على أنها تكون ضمن الثلث، فيقول: اقضوا الدين من الثلث، وحجوا عني من الثلث، واعتمروا عني من الثلث، وأدوا ثلاث فديات من الثلث، فيجعلها حقوقا واجبة. فحينئذ ينظر فيها على التفصيل الذي ذكرناه في مسألة الثلث، وأما من حيث الأصل فلا إشكال أن الذي يجب هو المبادرة بسداد الدين، سواء وصى أو لم يوص. قال رحمه الله: [ويخرج الواجب كله من دين وحج وغيره] . إخراج الواجب من مال الميت وإن لم يوص به (من): بيانية، كقوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} [البينة:1] ، فـ (من) هنا بيانية، وقد بين المصنف رحمه الله أن من الواجب الدين، وأن من الواجب الحج، فمثل للدين بحقوق العباد، ومثل للحج بحق الله عز وجل، ومن مات ولم يحج حج عنه وليه. ويجب أن يستأجر عنه إذا كان الولي لا يريد أن يحج، أو لا يتيسر له الحج، فيستأجر من يحج عنه، وتدفع له مئونة الحج، ونفقة الحج ذهابا وإيابا. ثم إما أن يحدد موضعا، فيقول له: حج عني من المدينة، فعند ذلك يجب أن يلتزم بوصيته، وإما أن يكون قد توفي أثناء الحج ولم يكن قد فعل الواجبات، فيوصي أن يكمل عنه، فيكمل من الموضع، ويكون إحرامه من الموضع الذي توفي فيه، وإما أن يطلق، فإذا أطلق قال بعض العلماء: إذا وجب عليه الحج وقصر حتى توفي فيجب الإحرام من الموضع الذي هو فيه؛ لأن الوكيل منزل منزلة الأصيل، فلو كان من أهل المدينة فلا يصح أن نقول لرجل من أهل جدة: حج عنه، فيحرم من جدة؛ لأنه وجب عليه وتعين عليه أن يحرم من المدينة، وهو الميقات الأبعد، فلا يحرم من ميقات أدنى إذا وجب عليه من الأبعد، وهذه مسألة صحيحة تشهد الأصول الشرعية بصحتها؛ لأن النائب عن الإنسان في الحج قائم مقامه، وعلى هذا يجب أن يحج عنه من الموضع الذي وجب عليه الحج وقصر فيه؛ لأن ذمته مشغولة بالحج على هذا الوجه. وعلى كل حال: يجب أداء الحج عن الميت إذا ترك، سواء وصى أو لم يوص، وعلم وارثه بذلك. قال رحمه الله: [من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به] . أي: الواجب، فإذا كان الحج حج نافلة، فيحج من الثلث، ولا يحج من أصل المال، وينبغي أن تفرق بين أمرين: فالحقوق والواجبات والديون تقضى قبل قسمة المال، أو التركة عموما، فهي في رأس المال، لكن بالنسبة للوصايا والصدقات، وما خصص شيئا داخل الثلث، فهذه يتقيد فيها بالثلث، فينظر فيها بعد الانتهاء من الوجبات، وهذا هو الفرق بين الأمرين، فبين رحمه الله أنه يقضى الواجب من كل تركته، ويبدأ به؛ لورود النص في كتاب الله عز وجل بالأمر بكتابة الوصية والدين على قسمة المواريث. قال رحمه الله: [فإن قال: أدوا الواجب من ثلثي؛ بدئ به] . وذلك لأن الثلث في الحقيقة يؤخر من حيث الأصل، أي: يؤخر على الدين الواجب، فإذا أدخل الواجب في الثلث بدئ به، وكونه واجبا ثم جعله في الثلث لا يسقط ذلك مرتبته؛ بل يبدأ به، وهذا هو مراد المصنف. فمثلا: الميت عليه دين عشرة آلاف ريال، فقال: لصالح علي عشرة آلاف ريال، أدوها من الثلث، فيبدأ بها، ولا يقال: إنها وصية في الثلث فتوفر، بل يبدأ بها؛ لأن الدين الواجب يبدأ به قبل قسمة المواريث، وعلى ذلك فتقدم، وكونها واجبة، وكونه يجعلها في الثلث، لا يقتضي تأخيرها عن مرتبة الوجوب كما ذكرنا. تزاحم الحقوق الواجبة مع المستحبة في الوصية قال رحمه الله: [فإن بقي شيء أخذه صاحب التبرع وإلا سقط] قوله: (فإن بقي شيء) بمعنى: إذا كان قد وصى بقضاء الدين من الثلث، ووصى بأشياء من الثلث، فإنه سيحدث ازدحام بين الدين وبين الصدقات والهبات، فلو قال: اقضوا ديني من الثلث، ووصيت لمحمد ابن عمي بعشرة آلاف ريال، ثم وجدنا الثلث عشرين ألفا، والدين الذي عليه خمسة عشر ألف ريال، فمعنى ذلك: أننا سنعطي ابن عمه خمسة آلاف، فسقط ما زاد على الثلث، ونعتبر الدين مقدما، فهذا أول شيء نقوم به؛ لأنه واجب، ثم بعد ذلك تعطى الوصية؛ لأن الاحتمال الذي جعل أهل العلم ينصون على هذه المسألة: أنه قد يقول قائل: فلننقل الحقوق الواجبة إلى أصل التركة، ونبقي الثلث حتى ننفذ الوصايا، فنقول: هذا لا يصح، فما دام أنه أدخل الدين ضمن وصيته بالثلث فيجب التقيد بذلك، ثم يعطى المستحب والنوافل بعد الواجب، فصارت المسألة راجعة إلى المسألة التي ذكرناها، وهو أنه لا يعطى المستحب مع وجود ما هو أوجب وآكد منه، فرجعت إلى الأصل وهو: البداءة بالواجبات قبل المستحبات والصدقات. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم، نافعا يوم لقائه العظيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________________
|
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 112 ( الأعضاء 0 والزوار 112) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |