|
|||||||
| ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
|
مراجعة نقدية لكتاب “الربيع الأول” قراءة سياسية واستراتيجية في السيرة النبوية صالح سليمان عبدالعظيم مقدمة كتاب وضاح خنفر “الربيع الأول” هو إعادة تفسير عميقة وطموحة لسيرة النبي محمد ﷺ، لم يُكتب كسرد ديني تقليدي، بل كدراسة شاملة للذكاء السياسي والقيادة والرؤية الاستراتيجية. يمتد هذا العمل لما يقارب أربعمائة صفحة، ويضع نفسه في نقطة التقاء التاريخ والفكر السياسي والفلسفة الأخلاقية. خنفر، المعروف بمسيرته المهنية كصحفي ومحلل سياسي ومدير سابق لشبكة الجزيرة، يتناول السيرة بقناعة راسخة بأنها لا تجسد التوجيه الروحي فحسب، بل تمثل أيضا إطارا متماسكا وقابلا للتكيف للحكم وبناء المؤسسات والتحول المجتمعي. فبدلا من مجرد سرد للأحداث أو الوقائع الأخلاقية، يقرأ خنفر حياة النبي ﷺ كممارسة سياسية واستراتيجية مدروسة وعميقة الاطلاع، تدمج الإيمان بالسياسة الواقعية والسلطة الأخلاقية مع إدارة الدولة البراجماتية. يضع الكتاب رسالة النبي ﷺ في إطارها الإقليمي والدولي الأوسع، في ظل هياكل السلطة القبلية في شبه الجزيرة العربية، وتراجع الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية، وظهور نظام أخلاقي جديد، موضحا كيف تطور المشروع النبوي من الإقناع الأخلاقي في مكة المكرمة إلى التصميم المؤسسي والترسيخ السياسي في المدينة المنورة. من هذا المنظور، لا يصبح كتاب “الربيع الأول” مجرد دراسة تاريخية، بل مسعى فكري لاستعادة الأبعاد الاستراتيجية لقيادة النبي ﷺ للمجتمعات الإسلامية المعاصرة التي تتصارع مع مسائل الشرعية والإصلاح والتجديد الحضاري. وهكذا، يحول توجه خنفر المنهجي السيرة إلى نص حي؛ نص يربط بين الكلاسيكي والحديث، ويعيد ربط العمق الأخلاقي للوحي بالدقة التحليلية للنظرية السياسية، مُقدّمًا للقراء نموذجا للقيادة النبوية يبقى خالدا وذا صلة ملحة. أولا: البناء والمنهج يتميز كتاب “الربيع الأول” بتوازنه المدروس والمتطور بين التماسك الموضوعي والتسلسل الزمني، مما يسمح لوضاح خنفر بربط التطور التاريخي لرسالة النبي ﷺ بتأمل مفاهيمي وتحليلي عميق. يبدأ الكتاب بالفترة المكية، التي لا يتعامل معها خنفر كمجرد فصل من فصول المشقة والوحي، بل كمرحلة تأسيسية تشكلت فيها شخصية النبي ﷺ الفكرية والأخلاقية. ويصور هذه المرحلة على أنها مرحلة من المرونة الهادئة وتنمية متعمدة للإيمان في بيئة شديدة العداء، مؤكدا أن السنوات الأولى للإسلام كانت تتعلق بالتحمل الأخلاقي والصبر الاستراتيجي بقدر ما كانت تتعلق بالقناعة الروحية. تصبح مكة، في قراءة خنفر، مختبرا ديناميا للتحول؛ بوتقة صقل فيها النبي ﷺ فهمه للإقناع الاجتماعي والتواصل الأخلاقي وفن الموازنة بين الإيمان الراسخ وضبط النفس التكتيكي. هنا، كما يرى خنفر، تعلم النبي ﷺ إدارة المعارضة دون الاستسلام لليأس، وإيصال الرؤية دون مواجهة مباشرة، وإعداد أساس أخلاقي تقوم عليه الهياكل المؤسسية اللاحقة. بتقديم مكة كمكان للتدريب الفكري والاستراتيجي لا كمجرد معاناة، يدعو خنفر القراء إلى النظر إلى رسالة النبي ﷺ المبكرة كعملية هندسة اجتماعية مدارة بوعي، متجذرة في القيم، لكنها مسترشدة ببصيرة في السلوك البشري والواقع السياسي. لم تكن تجارب هذه المرحلة، في تفسيره، مجرد بلاءات عشوائية، بل مراحل ضرورية لتنمية ما يسميه “الصبر الاستراتيجي”؛ وهي فضيلة تجمع بين النزاهة الأخلاقية وفطنة التصرف في الوقت المناسب وبالطريقة الصحيحة. إن ضبط النبي ﷺ نفسه، واستخدامه للإقناع بدلا من الإكراه، وتركيزه على تكوين مجتمع مؤمن ملتزم، تصبح، في تحليل خنفر، النموذج الأولي للقيادة السياسية والأخلاقية. تُحول هذه القراءة الفترة المكية من قصة اضطهاد إلى تثقيف في القيادة تحت الضغط؛ فترة نضجت فيها رؤية النبي ﷺ من خلال الشدائد، مُشكّلةً الاستراتيجيات التي ستحدد لاحقا مشروعه لبناء الدولة في المدينة المنورة. وهكذا، يحدد القسم المكي من “الربيع الأول” النبرة الفكرية والمنهجية للكتاب بأكمله؛ فهو يبين كيف يمكن للقناعة الأخلاقية أن تتعايش مع الحكمة السياسية، وكيف تنشأ القيادة القائمة على الإيمان لا بمعزل عن العالم، بل من خلال انخراط منضبط في تحدياته. يعكس اختيار خنفر الهيكلي والمنهجي لبدء الكتاب باستكشاف معمق لهذه السنوات التكوينية فرضيته المركزية؛ وهي أن رحلة النبي ﷺ كانت بمثابة وحي روحي وعملية مدروسة للبناء الاجتماعي والسياسي. ومن خلال هذا النهج، يرسي أسس الفصول المدنية اللاحقة، حيث تتطور مبادئ النبي ﷺ الأولى في الصبر والإقناع والتوقيت إلى ممارسات متكاملة للحكم وعقد التحالفات وتصميم المؤسسات. إن التفاعل الدقيق بين التطور الأخلاقي والاستراتيجي في هذا القسم يجسد جوهر منهج خنفر والذي يتمثل في قراءة السيرة ليس فقط باعتبارها تسلسلا من الأحداث الإلهية ولكن كنموذج متكامل للقيادة، حيث يصبح الثبات الأخلاقي هو الأساس الحقيقي للحكم الناجح. مع انتقال السرد إلى الفترة المدنية، يمر كتاب “الربيع الأول” بتحول مفاهيمي وبنيوي كبير، منتقلا من الإقناع الأخلاقي والصبر اللذين ميزا السنوات المكية إلى المجالات العملية للحكم والإدارة وفن إدارة الدولة. يصور وضاح خنفر هذه الفترة على أنها التجربة الكبرى للنبي محمد ﷺ في بناء المؤسسات، وهي تجربة اختبرت قدرة المبادئ القائمة على الإيمان على تشكيل نظام سياسي منظم وعادل وشامل. لم تكن المدينة المنورة، في قراءة خنفر، مجرد نقل جغرافي للمجتمع الإسلامي، بل كانت بداية مشروع مدروس ومنهجي لترجمة المُثل الأخلاقية إلى مؤسسات اجتماعية وسياسية. هنا، تُقدم قيادة النبي ﷺ على أنها براجماتية للغاية ولكنها ذات أساس أخلاقي؛ توازن بين الهداية الإلهية والفطنة الدنيوية. فقد وضع معاهدات حددت الحقوق والمسؤوليات بين المسلمين وغير المسلمين، لا سيما من خلال ما يفسره خنفر بدستور المدينة المنورة، وهي وثيقة تأسيسية رسخت مبادئ التعايش والدفاع الجماعي والتضامن الاجتماعي بين قبائل المدينة وطوائفها الدينية المتنوعة. وبذلك، وضع النبي ﷺ الأساس لما يراه خنفر أول ميثاق سياسي في التاريخ الإسلامي، ميثاق جمع بين الشرعية الأخلاقية والوظيفة السياسية، والمثالية والواقعية السياسية. يكشف تصوير خنفر للمرحلة المدنية عن دور النبي ﷺ كرجل دولة لم ينظر إلى الحكم على أنه هيمنة، بل أمانة متجذرة في العدل والشورى والمساءلة. وتقدم وساطة النبي ﷺ في النزاعات القبلية، وجهوده لضمان التوزيع العادل للموارد، وقدرته على الحفاظ على الوحدة وسط التنوع الأيديولوجي والاقتصادي، كخطوات مدروسة في التصميم المؤسسي. تصبح المدينة المنورة، في هذا السياق، مثالا حيا على كيفية تطور السلطة الأخلاقية إلى إطار إداري وقانوني قادر على دعم التماسك المجتمعي والاستقرار طويل الأمد. كان أسلوب قيادة النبي ﷺ ، كما وصفه خنفر، شاملا وتشاركيا، إذ شجع على الحوار والشورى كأدوات للحكم، وعزز التحالفات التي توازن بين النزاهة الأخلاقية والضرورة العملية. تتحدى هذه الرؤية اختزال السيرة في لحظات روحية معزولة، بل تصورها كعملية مستمرة لبناء نظام مدني قائم على المبادئ الأخلاقية والوعي الاستراتيجي. من خلال هذا التأطير، يُظهر خنفر كيف أن الفترة المدنية لم تُمثّل قطيعة مع الرسالة المكية، بل تحقيقا لها أى تحوّل الإيمان إلى بناء، والعقيدة إلى شريعة، والرؤية إلى ممارسة. هذا الانتقال من السلطة الأخلاقية إلى السلطة المؤسسية، الذي يعتبره خنفر العمود الفقري لكتابه، يجسد مشروع النبي ﷺ طويل الأمد للتحول المجتمعي. كل مرحلة من مراحل الرواية، صمود مكة وبناء مؤسسات المدينة، تجسد مرحلة متميزة، وإن كانت متكاملة، في تطور نموذج حضاري شامل. وهكذا، فإن إنجازات النبي ﷺ في المدينة لا تعني مجرد تأسيس مجتمع سياسي؛ بل ترمز إلى نضج حركة أخلاقية وتحويلها إلى دولة فاعلة، تسترشد بمبادئ العدل والرحمة والمسؤولية الجماعية. يفسر خنفر هذا التطور على أنه أوضح تجليات القيادة النبوية، القدرة على تحويل القناعة الروحية إلى نظام اجتماعي مستدام. وبذلك، يؤطر التجربة المدنية كنقطة تحول تاريخية ومنهجية، مبينا كيف تقدم استراتيجيات النبي ﷺ في الحكم والشمول والمرونة المؤسسية دروسا خالدة للمجتمعات الحديثة التي تواجه أزمات الشرعية والتشرذم والانحدار الأخلاقي. وبهذا المعنى، لا تختتم المرحلة المدنية رسالة النبي ﷺ فحسب، بل تبلور جوهرها، مُقدّمةً نموذجا لكيفية مواءمة الإيمان والأخلاق وحكم الدولة لتحقيق حضارة مستقرة وراسخة أخلاقيا. طوال العمل يقاطع وضاح خنفر عمدا السرد الزمني لحياة النبي ﷺ بفصول تأملية وتحليلية تستخرج وتشرح مبادئ استراتيجية واسعة مستمدة من لحظات تاريخية محددة. تعمل هذه الفواصل كتوقفات فكرية أى مساحات يتجاوز فيها خنفر تسلسل الأحداث لتقطير دروس دائمة حول طبيعة القيادة واتخاذ القرار والحوكمة الأخلاقية. من بين المبادئ التي يسلط الضوء عليها الصبر والتوقيت، والتي لا يعاملها كفضائل أخلاقية سلبية ولكن كأدوات استراتيجية متعمدة؛ أشكال من ضبط النفس التي تسمح للقائد بالتصرف بدقة وبصيرة بدلا من الاندفاع. بالنسبة لخنفر، يتم تقديم إتقان النبي ﷺ للتوقيت، أى معرفة متى يواجه، ومتى يصالح، ومتى ينتظر، كواحد من الأبعاد الأساسية لحكم الدولة النبوي. وبالمثل، يبرز التواصل السياسي باعتباره العمود الفقري للتعبئة الجماعية. يؤكد خنفر أن قدرة النبي ﷺ على صياغة رؤيته، وإلهام الولاء، وصياغة رسائل تناسب مختلف الجماهير كانت محورية في نجاحه، تماما مثل أي قرار عسكري أو إداري. ويحلل الكتاب خطب النبي ﷺ ورسائله ومفاوضاته كأدوات للإقناع وبناء الشرعية، مما يُظهر أن التواصل بحد ذاته كان ركيزة من ركائز الحكم والاستراتيجية. كما يلفت خنفر الانتباه إلى النهج الأخلاقي للنبي ﷺ في التنازلات وبناء التحالفات، معتبرا إياها لا تنازلات عن المبادئ، بل تعبيرا براجماتيا عن غاية أخلاقية عليا. ويُظهر كيف وازن النبي ﷺ بين المثل العليا والواقع؛ فدخل في تحالفات عندما كانت تخدم العدالة والسلام، وتقبل القيود المؤقتة عندما كانت تحافظ على الرؤية الأخلاقية العليا، وتفاعل حتى مع الخصوم من خلال الحوار والإقناع. هذه القراءة الدقيقة للتنازلات كفضيلة سياسية تتحدى الثنائية التبسيطية بين المثالية والبراجماتية التي غالبا ما تميز مناقشات القيادة الحديثة. علاوة على ذلك، يسلط خنفر الضوء على تركيز النبي ﷺ على بناء مؤسسات متينة قادرة على تجاوز الكاريزما الفردية؛ وهي رؤية ثاقبة لافتة لقائد ديني غالبا ما يُصوَّر من منظور القداسة الشخصية. ومن خلال التأكيد على جهود النبي ﷺ في إرساء أنظمة إدارية، وقوانين مدونة، وهياكل حوكمة تشاركية، يرى خنفر بأن القيادة النبوية لم تكن شخصية فحسب، بل كانت مؤسسية، مُصمّمة للاستمرار بعد وفاة مؤسسها. ولم تقتصر رؤية النبي ﷺ، في هذا التفسير، على إنشاء مجتمع ورع، بل امتدت إلى بناء نظام مدني مستدام قائم على الحوكمة الأخلاقية. هذه الفواصل التحليلية، المتشابكة على طول التسلسل الزمني، لا توضح التفاصيل التاريخية فحسب، بل تكشف عن طموح خنفر التفسيري وعمقه النظري. فكل وقفة في السرد تدعو القراء إلى رؤية “السيرة” ليس فقط كقصة عن رسالة إلهية، بل كمجموعة من المبادئ الاستراتيجية ذات الصلة بمسائل الحكم والإصلاح والسلطة الأخلاقية المستمرة. يُنتج التفاعل بين السرد والتأمل ما يمكن تسميته بالإيقاع التحليلي للكتاب؛ أى تذبذب دينامي بين آنية التاريخ وتجريد النظرية. يتيح هذا البناء لخنفر التنقل بسلاسة بين السرد القصصي والفلسفة السياسية، بين الوحي والعقل، محولا السيرة من سجل ثابت للأحداث المقدسة إلى دليل حي للمنهجية السياسية والتجديد الحضاري. بهذا المعنى، يعمل كتاب “الربيع الأول” كتاريخ ومخطط في آن واحد أى كسرد للتحول وتأمل في كيف يمكن للقيادة الأخلاقية، عندما تستنير بالحكمة الاستراتيجية، أن ترسي أسس إصلاح مجتمعي مستدام. يرتكز مشروع خنفر على ركيزتين منهجيتين متشابكتين بعمق، أولهما هو “إعادة الصياغة المعاصرة” لسيرة النبي ﷺ باعتبارها إطارا تفسيريا حيا وليس سجلا تاريخيا ثابتا. في “الربيع الأول”، يرفض التعامل مع “السيرة” كأثر محصور في القرن السابع، بعيدا عن حقائق العالم الحديث. وبدلا من ذلك، فهو يعيد وضعها كمرآة نشطة يمكن من خلالها دراسة وفهم تحديات القرن الحادي والعشرين. بالنسبة لخنفر، لا تمثل حياة النبي ﷺ تاريخا مقدسا فحسب، بل تمثل أيضا نموذجا دائما لمعالجة الأزمات التي تحدد المجتمعات الإسلامية المعاصرة المتمثلة في تآكل الشرعية في المؤسسات السياسية، وتفتيت السلطة الأخلاقية، والفجوة المتسعة بين المُثُل الروحية والحكم العملي. ويرى أن العالم الإسلامي اليوم يقف عند مفترق طرق مشابه لما كان عليه في أوائل المدينة المنورة، حيث يواجه أسئلة وجودية تتعلق بالهوية والعدالة والتماسك الاجتماعي في نظام عالمي سريع التغير وغالبا ما يكون عدائيا. ومن خلال إعادة تفسير السيرة كدليل لتجاوز هذه الظروف، يسعى خنفر إلى استخلاص مجموعة من الأدوات السياسية والأخلاقية التي تنطبق على الحكم الحديث والإصلاح والقيادة. يحول هذا الاختيار المنهجي كتاب “الربيع الأول” من دراسة تاريخية تقليدية إلى مشروع فكري جريء يهدف إلى سد الوحي والإصلاح. يضع خنفر عمله ضمن خطاب الفكر الإسلامي ما بعد الاستعماري، وهي حركة تدعو إلى استعادة القدرة على تعريف الحداثة من خلال الموارد الأخلاقية والفكرية المحلية. وفي هذا السياق، يصبح كتابه حوارا بين الماضي النبوي والحاضر العالمي، بين تراث الهداية الإلهية والحقائق المعقدة للجغرافيا السياسية والسلطة والعدالة الاجتماعية. وهو يقرأ استراتيجيات النبي ﷺ مثل استخدامه للتحالفات، ودبلوماسيته الأخلاقية، ورؤيته المؤسسية، كموارد فكرية لصانعي السياسات المعاصرين، والإصلاحيين، والمفكرين الذين يسعون إلى إعادة بناء الحياة السياسية على أسس أخلاقية متينة. إن النهج الذي اتبعه النبي ﷺ في القيادة، والذي يتجذر في التوازن والشورى والبصيرة الأخلاقية، يُقدَّم باعتباره ترياقا للاستبداد والإرهاق الأخلاقي والاستقطاب الإيديولوجي الذي ابتليت به العديد من المجتمعات الإسلامية اليوم. ومن خلال ربط السيرة بهذه الاهتمامات العالمية والتاريخية، يوسع خنفر نطاق السيرة النبوية إلى ما هو أبعد من حدودها التعبدية أو الأكاديمية، ويحولها إلى إطار للتجديد الحضاري. إن إعادة تفسيره حديثة بوعي في مقصدها؛ ليس بمعنى علمنة المقدس، ولكن في إعادة تنشيط رؤاه الأخلاقية والاستراتيجية لعصر يبحث عن الاتجاه الأخلاقي. ويؤكد أن رسالة النبي ﷺ تقدم مبادئ الحكم وبناء المجتمع القادرة على تجاوز الحدود الثقافية والزمنية، وتوفير نماذج للعدالة والاندماج في نظام دولي ممزق. بهذه الطريقة، لا يقوم “الربيع الأول” فقط بإعادة سرد الماضي أو إعادة تفسيره؛ فهو يستعيدها كبوصلة أخلاقية وفكرية للإبحار في المستقبل. وبالتالي فإن إعادة صياغة خنفر تجسد طموحا منهجيا مميزا يؤكد على إعادة صياغة حياة النبي ﷺ باعتبارها مستودعا للحكمة القابلة للتنفيذ، والتي يمكن أن تسلط الضوء على معضلات العالم الإسلامي الحديث وتساهم في الحوار العالمي الأوسع حول الشرعية والأخلاق وازدهار الإنسان. الركيزة المنهجية الثانية لمشروع خنفر هي التوليف متعدد التخصصات، وهي سمة مميزة تضفي على كتاب “الربيع الأول” ثراء فكريا ونسيجا تحليليا مميزا. لا يقتصر منهج خنفر التفسيري على مجال أو تقليد واحد؛ بل يدمج الأطر المفاهيمية للتأريخ الإسلامي الكلاسيكي مع الدقة التحليلية لعلم السياسة الحديث، مُنشئا حوارا بين عالمين معرفيين غالبا ما يُنظر إليهما على أنهما متعارضان. ينتقل خنفر بسلاسة بين المصطلحات القرآنية والنظرية السياسية المعاصرة، مستندا إلى مفاهيم مثل الشورى والأمة والبيعة والحكمة، إلى جانب مفاهيم حديثة مثل “فن الحكم” و”الاستراتيجية” و”الشرعية” و”القوة الناعمة”. هذا التقارب ليس مجرد تقارب زخرفي، بل منهجي أيضا، إذ يُمكّن خنفر من ترجمة الأبعاد الأخلاقية والروحية لتجربة النبي ﷺ إلى لغة مفهومة للقراء المعاصرين الملمين بالتحليل السياسي، والمفردات المؤسسية، والخطاب العالمي للحكم. لذا، يعكس معجمه التحليلي تكوينه المزدوج كصحفي يفسر الحقائق المعاصرة، ومفكر سياسي يسعى إلى استخلاص مبادئ متماسكة من التاريخ للقيادة والتجديد. هذا التهجين في الخطابات يضفي على الكتاب هوية فريدة؛ فهو جزء من تأمل أخلاقي، وجزء من أطروحة سياسية، وجزء من بيان حضاري. يرفض خنفر رسم حدود صارمة بين الروحانية والبراجماتية؛ بل يصر على أن القيادة السياسية الفعالة لا يمكن فصلها عن الأسس الأخلاقية، وأن الرؤية الأخلاقية، عند تجسيدها في المؤسسات، تصبح مصدرا للمرونة والشرعية. وهكذا، يصبح مثال النبي ﷺ، كما يقدمه خنفر، نموذجا للقيادة التكاملية التي توائم بين المقدس والاستراتيجي. يستخدم المؤلف توليفة متعددة التخصصات كمنهج ورسالة في آن واحد؛ فدمج الشورى مع “نظرية الشورى”، أو الأمة مع “القومية”، يصبح بحد ذاته حجة على توافق الأخلاق الإسلامية مع أطر الحكم الحديثة. وفي هذا السياق، تُصوَّر حكومة النبي ﷺ ليس فقط كفعل إرشاد أخلاقي، بل أيضا كتجربة مبكرة في تصميم نظام سياسي أخلاقي يتمثل في اندماج للقيم والهياكل يتجاوز الزمان والجغرافيا. بوضع التاريخ النبوي في لغة التحليل السياسي، يرتقي خنفر بكتاب “الربيع الأول” من نطاق السيرة التعبدية إلى نطاق التدخل الفكري. يدعو توليفته القراء، سواء كانوا علماء أو مصلحين أو مفكرين سياسيين، إلى التفكير في كيفية تأثير الأخلاق القائمة على الإيمان على التحديات العملية للقيادة والحكم وإعادة البناء الاجتماعي في عالم اليوم. تصبح حياة النبي ﷺ نموذجا للأخلاق السياسية بدلا من مجرد سجل للمعالم الدينية، ويصبح الكتاب نفسه جسرا بين الوحي والعقل، وعلم الكلام والسياسة. من خلال هذا الدمج المنهجي، يحول خنفر السيرة الذاتية من مستودع جامد للذاكرة المقدسة إلى إطار تحليلي حي لفهم التفاعل بين السلطة والأخلاق والتغيير الاجتماعي. تبرز هذه المناورة الفكرية، الجريئة والمتطورة في آن واحد، طموحه المحوري الذي يتمثل في إثبات أن المشروع النبوي لم يكن رحلة روحية فحسب، بل كان أيضا تجربة منهجية ودائمة في بناء حضارة أخلاقية. لذا، يُعد كتاب “الربيع الأول” عملا أكاديميا وعملا تركيبيا في آن واحد؛ محاولة للتوفيق بين لغة الإيمان وضرورات الحداثة السياسية، داعية إلى الإعجاب بأصالته والتأمل في سياق ومخاطر نطاقه التفسيري الطموح. ثانيا: الإيجابيات والسلبيات التحليلية للكتاب من ناحية، تكمن إحدى أبرز نقاط قوة كتاب “الربيع الأول” في إعادة صياغته المبتكرة لسيرة النبي محمد ﷺ كبرنامج متماسك للممارسة السياسية والحضارية، بدلا من كونها سجلا أخلاقيا أو تعبديا بحتا. يبتعد نهج خنفر عن تقاليد السيرة التقليدية، التي غالبا ما تشدد على فضائل النبي ﷺ الأخلاقية وهدايته الإعجازية بمعزل عن الهياكل الأوسع للحياة السياسية. وبدلا من ذلك، يتعامل مع رسالة النبي ﷺ كمشروع مستدام للتحول الاجتماعي؛ تجربة في بناء المؤسسات، وإدارة الصراعات، وبناء نظام سياسي أخلاقي قادر على الاستمرار بما يتجاوز القيادة الكاريزمية. يُعد هذا التحول التفسيري مثمرا من الناحية التحليلية لأنه يستعيد الذكاء المؤسسي للمجتمع الإسلامي المبكر من خلال صياغة المعاهدات بعناية، وتصميم الحكم الشامل، وإدارة التحالفات والعقود الاجتماعية. وبذلك، يفتح خنفر السيرة لقراءات جديدة تُلقي الضوء ليس فقط على القيادة الروحية للنبي ﷺ، بل أيضا على رؤيته الاستراتيجية العميقة. يتبع
__________________
|
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |