ابتلاء وتمكين في البلد الأمين - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 129 - عددالزوار : 1099 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 21785 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 20405 )           »          حياة البرزخ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          مذاهب العلماء في نفقة الزوجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 84 )           »          سعي المرأة لطلب الرزق بين الوجوب وعدمه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          الغُمة الشعورية الكئيبة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 74 )           »          التفسير بالعموم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          فشكر الله له فغفر له (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          وتعاونوا على البر والتقوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 71 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-11-2020, 11:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي ابتلاء وتمكين في البلد الأمين

ابتلاء وتمكين في البلد الأمين
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل


عناصر الخطبة

1/ ارتباط تاريخ مكة بقصة الخليل وأهله عليهم السلام
2/ قصة بناء البيت الحرام والدروس المستفادة منها
3/ التمكين لا يكون إلا بعد الابتلاء.





الخطبة الأولى:



الْحَمْدُ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].



أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.



أَيُّهَا النَّاسُ: لِمَوْسِمِ الْحَجِّ وَشَعَائِرِهِ وَعِيدِهِ الْأَكْبَرِ لَذَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي قُلُوبِ المُوَحِّدِينَ، حَيْثُ اجْتِمَاعُ شَعَائِرِ التَّوْحِيدِ فِيهَا، وَحَيْثُ ذِكْرَيَاتُ مَكَّةَ وَوَادِيهَا، تِلْكَ الْأَرْضُ المُقْفِرَةُ الْخَالِيَةُ مِنْ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ، حِينَ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى لَهَا أَنْ تَكُونَ أَعْظَمَ بُقْعَةٍ فِي الْأَرْضِ؛ جَعَلَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهَا، وَلَيْسَ فِيهَا مَا تَطْلُبُهُ النُّفُوسُ مِنْ جَمَالِ الْأَرْضِ، أَوْ رِقَّةِ الْهَوَاءِ، أَوْ طِيبِ الثِّمَارِ. بَلْ هِيَ أَرْضٌ جَرْدَاءُ، جِبَالُهَا سَوْدَاءُ، وَحَرُّهُا شَدِيدٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ أَفْئِدَةَ المُؤْمِنِينَ تَهْوِي إِلَيْهَا، وَتَبْذُلُ المَالَ وَالْجُهْدَ لِبُلُوغِهَا، وَثَمَرَاتُ الْعَالَمِ تُجْبَى إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مَوْطِنُ بَيْتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، أَوَّلِ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ.



وَإِذَا ذُكِرَتْ مَكَّةُ ذُكِرَ إِسْمَاعِيلُ وَأُمُّهُ هَاجَرُ وَأَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ، ذُرِّيَّةٌ مُؤْمِنَةٌ صَالِحَةٌ هُمْ عُمَّارُ مَكَّةَ، وَهُمْ بُنَاةُ بَيْتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِيهَا.



خُلِّدَ ذِكْرُ هَاجَرَ وَهِيَ أَمَةٌ مَمْلُوكَةٌ.. وَكَمْ مِنْ مَلِكَاتٍ وَأَمِيرَاتٍ وَبَنَاتِ أَبَاطِرَةٍ وَأَكَاسِرَةٍ وَقَيَاصِرَةٍ مَاتَ ذِكْرُهُنَّ بِمَوْتِهِنَّ، أَوْ بِتَحَوُّلِهِنَّ عَنْ قُصُورِهِنَّ؛ وَمَنْ أَحَبَّ اللهَ تَعَالَى وَأَرْضَاهُ، أَحَبَّهُ اللهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ، وَمَنْ أَحَبَّهُ اللهُ تَعَالَى أَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَكُتِبَ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَبَقِيَ ذِكْرُهُ فِي الْخَلْقِ. إِنَّهُ الِاصْطِفَاءُ الرَّبَّانِيُّ لِبَعْضِ الْبَشَرِ، فَلَا يُحْجَبُ عَنْ ضَعِيفٍ لِضَعْفِهِ، وَلَا تَسْتَجْلِبُهُ قُوَّةُ قَوِيٍّ.



هَاجَرُ الْأَمَةُ المَمْلُوكَةُ، لَا يُذْكَرُ تَارِيخُ مَكَّةَ إِلَّا وَهُوَ مُعَطَّرٌ بِذِكْرِهَا، وَلَا يُذْكَرُ زَمْزَمُ إِلَّا ذُكِرَتْ هَاجَرُ؛ لِأَنَّهَا وَرِضِيعَهَا أَوَّلُ مَنْ سَكَنَ مَكَّةَ؛ وَنَبَعَ زَمْزَمُ بِسَبَبِهِمَا. لَكِنْ مَا كَانَ ذَلِكَ لَهَا حَتَّى أَعْلَنَتْ رِضَاهَا بِاللهِ تَعَالَى فِيمَا اخْتَارَهُ لَهَا مِنَ الْوَحْدَةِ فِي أَرْضٍ مُقْفِرَةٍ لَا مَاءَ فِيهَا وَلَا أَنِيسَ، وَمَنْ رَضِيَ بِاللهِ تَعَالَى رَضِيَ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَأَعْطَاهُ فَوْقَ مَا يَتَمَنَّاهُ.



وَهَبَتْ سَارَةُ زَوْجَةُ إِبْرَاهِيمَ أَمَتَهَا هَاجَرَ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، فَتَزَوَّجَهَا فَحَبَلَتْ بِإِسْمَاعِيلَ، فَغَارَتْ مِنْهَا سَارَةُ لِأَنَّهَا عَقِيمٌ؛ فَخَرَجَ الْخَلِيلُ بِهَاجَرَ وَوَلِيدِهَا بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فَوَضَعَهُمَا فِي مَكَّةَ، وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمَا، فَلَا مَاءَ وَلَا طَعَامَ وَلَا بِنَاءَ وَلَا بَشَرَ. وَمَنْ تَأَمَّلَ طَاعَةَ الْخَلِيلِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ عَجِبَ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ وَلَدَهُ الْوَحِيدَ وَقَدْ جَاءَهُ عَلَى كِبَرٍ فِي وَادٍ يَغْلِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْهَلَاكُ؟! وَلَكِنَّهَا الثِّقَةُ بِاللهِ تَعَالَى، وَالمُسَارَعَةُ لِمَرْضَاتِهِ وَلَوْ فِي فَقْدِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ.



قَامَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ أَنْ تَرَكَ هَاجَرَ وَوَلَدَهَا فِي الْوَادِي لِيَرْحَلَ، "ثُمَّ قَفَّى مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: "إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ"، وَفِي رِوَايَة فَقَالَتْ: "حَسْبِي"، أَيْ: يَكْفِينِي، وَفِي رِوَايَةِ فَقَالَتْ: "رَضِيتُ بِاللَّهِ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).



رِضَاهَا بِاللهِ تَعَالَى، وَتَوَكُّلُهَا عَلَيْهِ، وَثِقَتُهَا بِهِ هِيَ الْأَعْمَالُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي كَانَ جَزَاؤُهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا نَبْعَ زَمْزَمَ لَهَا، وَتَخْلِيدَ ذِكْرِهَا، وَتِلَاوَةَ قِصَّتِهَا، فَلَا تُذْكَرُ تَوَارِيخُ مَكَّةَ إِلَّا كَانَتْ فِي أَوَّلِهَا، وَلَا يُذْكَرُ زَمْزَمُ إِلَّا وَاسْمُهَا مَقْرُونٌ بِهَا.



وَرَغْم تَوَكُّلِ الْخَلِيلِ عَلَى رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- حِينَ وَضَعَ ذُرِّيَّتَهُ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ فَإِنَّهُ دَعَا بِالدَّعَوَاتِ المَشْهُورَةِ (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37] أُسْرَةُ إِيمَانٍ وَصَلَاحٍ؛ عَلَّلَ كَبِيرُهَا أَنَّهُ وَضَعَهُمَا بِهَذَا الْوَادِي المُقْفِرِ لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فِيهِ، فَهَوَتْ إِلَيْهِمُ الْأَفْئِدَةُ، وَجُعِلَ بَيْتُهُمْ هُوَ الْقِبْلَةَ، فَكَمْ مِنْ مُؤْمِنٍ مُسْتَقْبِلٍ لَهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ؟! وَكَمْ مِنْ مَلَايِينَ يَفِدُونَ إِلَى مَكَّةَ فِي الْعَامِ مِنْ حُجَّاجٍ وَعُمَّارٍ، حَتَّى كَانَتْ أَرْضُهَا أَغْلَى أَرْضٍ فِي الْبَسِيطَةِ، وَإِلَيْهَا تُجْبَى الْأَرْزَاقُ، وَبُورِكَ فِيهَا فَكَانَتْ رَغْمَ غَلَاءِ أَرْضِهَا وَمَسَاكِنِهَا أَرْخَصَ أَرْضٍ طَعَامًا وَثَمَرَاتٍ، وَلَيْسَ بِهَا طَعَامٌ وَلَا ثَمَرٌ، وَإِنَّمَا يُجْبَى إِلَيْهَا فَيُبَاعُ بِأَرْخَصَ مِنْ مِثْلِهِ فِي أَرْضِهِ الَّتِي زُرِعَ فِيهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِبَرَكَةِ دَعْوَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.



"جَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا".



مَنْ كَانَ يَتَصَوَّرُ أَنَّ سَعْيَ هَاجَرَ بَيْنَ جَبَلَيِ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ بَحْثًا عَنْ مَاءٍ لَهَا وَلِوَلَدِهَا سَيَجْعَلُهُ اللهُ تَعَالَى نُسُكًا مِنْ أَنْسَاكِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَلَا يَتِمُّ حَجُّ أَحَدٍ وَلَا عُمْرَتُهُ إِلَّا بِالسَّعْيِ فِي ذَاتِ المَكَانِ الَّذِي سَعَتْ هَاجَرُ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ؛ كَرَامَةً مِنَ اللهِ تَعَالَى لِلْأَمَةِ المُؤْمِنَةِ المُتَوَكِّلَةِ هَاجَرَ -عَلَيْهَا السَّلَامُ-، وَأَيُّ تَخْلِيدٍ لِذِكْرِهَا أَعْظَمُ مِنْ هَذَا التَّخْلِيدِ؟!



وَفِي المَوَاسِمِ يَزْدَحِمُ المَسْعَى بِالسَّاعِينَ طَوَالَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَوْ أَنَّ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ الدُّنْيَا أَرَادَ أَنْ يُخَلِّدَ ذِكْرَهُ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا لَعَجَزَ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَضَاهُ، فَجَعَلَ تَقْلِيدَ هَاجَرَ وَهِيَ تَسْعَى تَبْحَثُ عَنِ المَاءِ لِوَلَدِهَا مَنْسَكًا مِنْ المَنَاسِكِ. وَكَمْ مِنْ عَظِيمٍ صُنِعَتْ لَهُ التَّمَاثِيلُ، وَحُفِرَتْ صُورَتُهُ فِي الْجِبَالِ، وَوُضِعَتْ لَهُ الْأَلْوَاحُ فِي الْبِحَارِ، فَانْتَهَى اسْمُهُ، وَانْدَثَرَ ذِكْرُهُ، وَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِهِ.



نَزَلَ المَلَكُ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى لِيَحْفِرَ لَهَا وَلِوَلَدِهَا زَمْزَمَ، وَظَلَّ النَّاسُ يَشْرَبُونَ مِنْ زَمْزَمَ أَرْبَعَةَ آلَافِ سَنَةٍ، وَيَرِدُونَ عَلَيْهَا، وَيَأْخُذُونَ مِنْ مَائِهَا، فَلَمْ يَجِفَّ بِئْرُهَا، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ مَاؤُهَا، وَهُوَ يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَتَأَثَّرُ؛ كَرَامَةً مِنَ اللهِ تَعَالَى لِهَاجَرَ وَابْنِهَا. لَمْ يَزْهَدْ فِيهِ المُسْلِمُونَ وَلَمْ تَضْعُفْ رَغْبَتُهُمْ فِيهِ، بَلْ يَتَحَمَّلُونَ مَشَقَّةَ حَمْلِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَقَاصِي الْأَرْضِ.



وَيَكْفِيهَا طَمْأَنَةُ المَلَكِ لَهَا حِينَ حَفَرَ لَهَا زَمْزَمَ، فَقَالَ لَهَا: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلاَمُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ. وَفِي حَدِيثٍ آخر: نَادَاهَا جِبْرِيلُ فَقَال: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا هَاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: فَإِلَى مَنْ وَكَلَكُمَا؟ قَالَتْ: إِلَى اللَّهِ، قَالَ: وَكَلَكُمَا إِلَى كَافٍ.



قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ يُقَالُ لَهُ: مَاءُ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ وَلَدُ هَاجَرَ، وَقَدْ رُبِّيَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَهِيَ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ.



وَمِنْ أَعْظَمِ الْكَرَامَةِ أَنْ يُكْرِمَ اللهُ تَعَالَى وَلَدَهَا الَّذِي نَزَلَتْ بِهِ فِي الْوَادِي المُقْفِرِ بِالنُّبُوَّةِ، وَبِمُشَارَكَةِ أَبِيهِ فِي بِنَاءِ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، الَّذِي يَحُجُّ النَّاسُ إِلَيْهِ كُلَّ عَامٍ.



وَمِنْ تَكْرِيمِ اللهِ تَعَالَى لَهَا أَنْ جُعِلَ المَاءُ مَاءَهَا، تَشْتَرِطُ فِيهِ عَلَى مَنْ يُسَاكِنُهَا. اسْتَأْذَنَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبِيلَةِ جُرْهُمٍ فِي النُّزُولِ عِنْدَهَا فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لاَ حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الإِنْسَ" فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ.



هَذَا ثَوَابُ الدُّنْيَا المُعَجَّلُ لِهَاجَرَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، عَلَى إِيمَانِهَا بِاللهِ تَعَالَى وَيَقِينِهَا، وَرِضَاهَا بِابْتِلَائِهِ لَهَا، وَحُسْنِ ظَنِّهَا، وَصِدْقِ تَوَكُّلِهَا. وَأَمَّا ثَوَابُ الْآخِرَةِ فَخَيْرٌ مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَأَبْقَى.



أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطَّلاق: 3].



بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...





الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:



الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ-.



أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ وَشَعَائِرِهِ، وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا إِلَى النَّاسِ فِي عَرَفَةَ يَقُولُ لَهُمْ: "قِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ" وَمِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ) [النحل: 123].



أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: فِي قِصَّةِ هَاجَرَ وَزَمْزَمَ وَالمَسْعَى تَكْرِيمُ اللهِ تَعَالَى لِلْمَرْأَةِ المُؤْمِنَةِ وَلَوْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ أَمَةً؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران: 195]. وَلَنْ تَجِدَ المَرْأَةُ رُبْعَ هَذَا التَّكْرِيمِ وَلَا عُشْرَهُ فِي غَيْرِ الْإِسْلَامِ.



وَفِيهَا أَنَّ التَّمْكِينَ وَالْجَزَاءَ وَالثَّوَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الِابْتِلَاءِ، إِذَا ثَبَتَ المُؤْمِنُ عَلَى الْحَقِّ، وَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَرَضِيَ بِهِ وَعَنْهُ. وَأَنَّ الرِّفْعَةَ وَالتَّمْكِينَ وَتَخْلِيدَ الذِّكْرِ مَنُوطٌ بِحَجْمِ الْبَلَاءِ مَعَ قُوَّةِ التَّوَكُّلِ وَالثَّبَاتِ، وَمَا أَعْظَمَ مَا ابْتُلِيَتْ بِهِ هَاجَرُ عَلَيْهَا السَّلَامُ! فَلَمَّا ثَبَتَتْ وَرَضِيَتْ وَتَوَكَّلَتْ كَانَ الْجَزَاءُ عَظِيمًا لِعِظَمِ ابْتِلَائِهَا.



وَالمُؤْمِنُ فِي هَذَا الزَّمَنِ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّأَسِّي بِالثَّابِتِينَ عَلَى الْحَقِّ، الرَّاضِينَ عَنِ اللهِ تَعَالَى، المُوقِنِينَ بِوَعْدِهِ، الَّذِينَ لَا يُبَدِّلُونَ وَلَا يَنْتَكِسُونَ مَهْمَا عَظُمَ الْبَلَاءُ، وَلَا يَتَلَوَّنُونَ لِنَيْلِ المَصَالِحِ الْآنِيَّةِ؛ لِأَنَّ هِمَمَهُمْ تَسْمُو عَلَى دَنَايَا الدُّنْيَا، وَتَرْتَقِي إِلَى رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى وَالْفَوْزِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.



فَلْنَتَعَلَّمْ مِنْ تَارِيخِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَتَارِيخِ عَامِرِيهِ وَسَاكِنِيهِ حُسْنَ التَّعَامُلِ مَعَ الْبَلَاءِ، وَصِدْقَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَحُسْنَ الظَّنِّ بِهِ، وَالثِّقَةَ بِوَعْدِهِ، فِي زَمَنٍ تَكَالَبَ فِيهِ أَهْلُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ، يُرِيدُونَ مَحْوَ دِينِهِمْ، وَإِخْلَاءَ الْأَرْضِ مِنْهُمْ، وَاللهُ تَعَالَى نَاصِرٌ دِينَهُ، مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لِعِبَادِهِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَثْبُتُوا وَيَصْبِرُوا وَيَتَّقُوا، وَلَا يُغَيِّرُوا دِينَهُمْ وَلَا يُبَدِّلُوا (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران:120].



وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 63.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 61.72 كيلو بايت... تم توفير 1.63 كيلو بايت...بمعدل (2.58%)]