|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#11
|
||||
|
||||
![]() دروس من قصص القرآن الكريم .. دروس من قصة يعقوب -عليه السلام-
إن يعقوب -عليه السلام- نبي من أنبياء الله، ذُكر اسمه في القرآن ستة عشر مرة في تسع سور، لكن أبرزها في التعريف به البقرة وآل عمران ويوسف، ففي البقرة بين الله -تعالى- مدى قوة إيمانه وتمسكه بعقيدته، وفي آل عمران بين لنا عبادته، ومدى التزامه الوفاء لله بما قطع على نفسه، وفي يوسف بين لنا جوانب من شخصيته، وقوة عاطفته، وغزارة علمه، وحكمته في التربية، وصبره، وهي كلها دروس نتعلمها؛ فقد كانت كل مسيرة حياته التي وردت في القرآن في كل حدث من أحداثها، عبرا وعظات ودروسا جمة. يعقوب والتوحيد إن تمسكه بدينه وعقيدته قد أبانت عنه وصيته لأبنائه، حين احتضاره، قال -تعالى-: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، (البقرة: 133)، ففي ذلك الوقت الذي قد حضره الموت فيه؛ حيث لا تعبر إلى الذهن في تلك اللحظات العصيبة إلا أهم الأمور، وأشدها إلحاحاً على قلب الإنسان وعقله، إذا بيعقوب -عليه السلام- يجمع بنيه ليوصيهم وليطمئن على دينهم، فليس عنده شغل شاغل إلا ذلك، لا يريد أن يوزِّع عليهم شيئاً من الأموال، ولا يريد منهم أن يسددوا عنه دينًا، إنما يسألهم {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}، هذا هو ما يشغله ويؤرقه ويحرص عليه وهو في سكرات الموت، قضية الإيمان بالله، فهي عنده القضية الأهم، والميراث الحقيقي الباقي بعد فناء كل شيء، عند ذلك يطمئنه أولاده أنهم على عهده وعهد آبائه باقون، وعلى التوحيد الخالص لله مقيمون. يعقوب العابد كما كان حريصًا -عليه السلام- على التوحيد فإنه كان وفيا في عبادته آخذاً نفسه فيها بالعزيمة، قال -تعالى-: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} (آل عمران: 93)، إن إسرائيل هو يعقوب -عليه السلام-، قال الشوكاني -رحمه الله في فتح القدير-: «اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام- ومعناه عبد الله؛ لأن إسرا في لغتهم: هو العبد وإيل هو الله»، وإنه قد كان نذر لله ألا يأكل من لحوم الإبل إذا شفاه الله من مرض شديد كان قد ألم به، فلما شفاه الله وفا بنذره، روى الطبري بسند صحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن عصابة من اليهود حضرت رسولَ الله -[-، فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا أيّ الطعام حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرضَ مرضًا شديدًا، فطال سقمه منه، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من سقْمه ليُحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب إليه، وكان أحبّ الطعام إليه لُحمان الإبل، وأحبّ الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. فكان هذا هو النذر الذي نذر ووفى به لله، حين حرم على نفسه أحب الطعام إليه إذا شفاه الله. زواجه وإنجابه لقد تزوج يعقوب -عليه السلام- من ابنتي خاله لابان، ليا وراحيل، قيل لم يكن الجمع بين الأختين في شريعته محرماً، وقيل إنه تزوج ليا أولاً فلما ماتت تزوج بأختها الصغرى راحيل، وقد رُزق منهما ومن جاريتين أخريين باثني عشر ولداً وبنت واحدة، وكان أصغر أولاده يوسف -عليه السلام- وأخوه بنيامين، وكانت أمهما راحيل قد توفيت عقب ولادتها لبنيامين، فكان يعقوب لذلك يعطف على ولديه الصغيرين أكثر من غيرهما، ويزيدهما عناية؛ بسبب صغرهما من جهة وموت أمهما من جهة أخرى، وكان يُفترض أن يشارك الأولادُ الكبارُ أبَاهم في ذلك الاهتمام، وتلك الرعاية، لو كانوا أسوياء النفس، لكن السياق القرآني يشير إلى أنهم لم يكونوا كذلك؛ إذ بدؤوا يلتفتون إلى أشياء أوْغَرت صدورهم على يوسف وأخيه، بل لقد وصفوا أباهم وهو رسول معصوم بأنه في ضلال مبين، وأنه يفضل يوسف وأخاه عليهم. يعقوب نبيٌ عالم إن الله -تعالى- قد قص لنا عن يعقوب -عليه السلام- وأبنائه في سورة يوسف -عليه السلام-، ما يبرز لنا العديد من المحاور في شخصيته، فهو كما وصفه الله -تعالى- فقال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 68)، فقد برزت في سورة يوسف -عليه السلام- عديد من المواقف التي تُنبئ عن شأن يعقوب -عليه السلام-، ومدى ما كان عليه من علم وفهم وحكمة وصبر، فأما علمه فإنه قد ظهر في تأويله لرؤيا يوسف -عليهما السلام-، {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، (يوسف)، هكذا في كلمات قليلات موجزات، لخص يعقوب لابنه مسيرة حياته كلها، فذكر له أولاً: أن إخوته فيهم الحسد؛ لذلك ينبغي أن يكتم عنهم تلك الرؤيا؛ لما تحمله من بشارة عظيمة له، وذكر له ثانياً: أن إخوته فيهم الاستعداد النفسي للانحراف قال: {فيكيدوا لك كيدا}، وذكر له ثالثاً: أنه سيكون له شأن وأن الله سيختاره ويجعله نبيا ورسولا كأبويه إبراهيم وإسحاق. فهمه وحكمته -عليه السلام- فكما تميز يعقوب -عليه السلام- بقوة العلم فإنه تميز أيضاً بقوة الفهم؛ إذ لم تنطل عليه حيلة أولاده حين جاؤوا بقميص يوسف ملطخاً بالدماء سالما من التمزق، بل استدل بذلك على كذبهم، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لما نظر إلي القميص قال كذبتم؛ لو كان الذئب أكله لخرق قميصه. كما تميز -عليه السلام- أيضاً بالحكمة، وتجلت تلك الحكمة حين نسب إثم كيد أولاده وضلالهم إلى الشيطان فقال: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، ومكمن الحكمة في ذلك: ألا يوغر صدر يوسف على إخوته، وأن يلتمس لهم بعض العذر حين يقومون بذلك الجرم في حقه، وأن يتعامل يعقوب نفسه مع الأمر حين حدوثه بعد ذلك بحكمة وانضباط، فإنه قد عرف من الرؤيا أن ذلك حادثٌ لا محالة، فلعلَّه قد وطَّأ بحكمته لرد فعله حين قَدَّم بين يديه معذرةَ { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، وإن هذا هو عين ما حدث، فقد تعامل مع هذه المُصيبة المركبة، التي ابتُلي فيها ببلاءين في أولاده، بفقد واحد وانحراف تسعة، بمنتهى الحكمة وضبط النفس. فلقد علم أن الله لن يتخلى عن يوسف، وقد أتته البشارة بنبوته واجتبائه، فلا حكمة في أن يفضح أولاده بجرمهم ولا أن يشهر بهم، بل الحكمة أن يعكف على إصلاحهم، ويعالج مواطن الخلل في نفوسهم، ولعله قد أفلح في ذلك -عليه السلام- إلى حد ما؛ لأنهم كانوا قد صرحوا بأن نفوسهم مريضة من جهة يوسف وأخيه، {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} (يوسف: 8)، فكان المتوقع وقد سلكوا طريق الجريمة مع يوسف أن يُكْمِلوا جريمتهم مع بنيامين، لكن ذلك لم يحدث؛ وذلك لأن يعقوب -عليه السلام- كان قد اختار أن يستر عليهم مع الاستمرار في تبكيتهم وتذكيرهم بجريمتهم حتى يحصل لهم الندم عليها، فإنَّ وجهه لم يخل لهم يوماً كما أرادوا، وحين طلبوا أن يأخذوا أخاهم معهم لملاقاة عزيز مصر، ظل يعقوب يذكرهم بأنه لم ينس جريمتهم، وأنه رغم عدم ثقته فيهم، فإنه سيجعل بنيامين يذهب معهم لتمام توكله على الله {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف: 64)، فإننا نجد عند ذلك أنه قد ظهر من سلوكهم أن شيئاً ما قد اختلف في نفوسهم، فلم تعد لديهم تلك الجرأة على اقتحام الجرائم، وصار عندهم قدر أكبر من الحياء والشعور بالمسؤولية، حتى ما استطاع كبيرهم أن يعود إلى بلده مرة أخرى حين احتبس يوسف أخاه وضمه إليه، {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (يوسف: 80). الرضا والحزن الكظيم إن يعقوب -عليه السلام- حين أصيب في ثلاثة من أولاده بالفقد، اشتد الحزن على قلبه {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (يوسف: 84)، أي يكتم ألماً شديداً في قلبه، وهنا نتعلم أن الرضا لا يَبطل بمجرد التألم أو الحزن، فإن الإنسان قد يتألم بمقتضى بشريته، وهو مع ذلك راض بما قدره الله وقضاه، ومن ثم فإن غلبة البكاء لتألم القلب بسبب حدث ما مهما بلغ ذلك البكاء كثرة، فإنه لا ينافي الرضا والتسليم، ما لم يكن معه قول مُحرَّمٌ أو فعلٌ منكر، وقد كان يعقوب -عليه السلام- متحلياً بالصبر والرضا واليقين دائماً أبداً، لم يفارق شيئاً من ذلك قلبه، فإنه في المرتين قال {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (يوسف: آيتي: 18و 83)، وحين اشتد كربه وعظم مصابه تعلق بالله فقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف: 83). اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد
__________________
|
#12
|
||||
|
||||
![]() دروس من قصص القرآن الكريم … بين يدي قصة يوسف -عليه السلام-
جعل الله -تعالى- القصص في القرآن الكريم ذكرى وعظة، تناسب جميع الأفهام وتدركها كل العقول، كل بحسب علمه وعلى قدر فهمه، وإن مما قصه القرآن علينا من القصص الزاخر بالعبر، قصة نبي الله يوسف -عليه السلام-، وهو الابن الحادي عشر لنبي الله يعقوب -عليه السلام-، وقصته هي القصة الوحيدة التي جاءت في سورة كاملة بالقرآن الكريم سميت باسمه. قال الله -تعالى-: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف: 3)، فكل قصص القرآن هو أحسن القصص، وقصة يوسف -عليه السلام- هي أنموذج من أحسن القصص، ثم هي بعد ذلك قد احتوت على عالم كامل من الحكم والعبر والعظات، فاشتملت على أحداث جسام، وعلوم ومعارف وأحوال، تعلقت بأنبياء ومجتمعات وأسر وملوك ونساء ورجال وأطفال، وذلك مما لم يُذكر في أي موضع آخر في غيرها، فهي بذلك قصة ثرية بالدروس على المستوى التربوي، والدعوي، والتشريعي، والاجتماعي، والعقائدي. أول دروس قصة يوسف إن من أول دروسها أن الأنبياء بشر كسائر البشر؛ من حيث جريان أقدار الله عليهم؛ فهم وإن كانوا أكمل الناس خَلقاً وخُلقاً، لكن أقدار الله -تعالى- لا تميزهم عن البشر في شيء خارج حدود وظيفة البلاغ عن الله -تعالى-، فهم يمرضون كما يمرض الناس، ويتعرضون للمحن والأذى أشد مما يتعرض له الناس؛ ولذلك قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الحديث عند الترمذي عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - «قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ». الكريم ابن الكرام لقد أثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يوسف -عليه السلام- في مواضع عدة، منها ما رواه البخاري عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام-»، فقد جمع يوسف -عليه السلام- مع كرم النبوة والاصطفاء، كرم النسب الشريف، مع ما قصه الله علينا في شأنه من كرم الأخلاق، وسعة الحلم، وقوة الصبر، والحكمة، والعلم، وغير ذلك من الكمالات. أهداف ورودها في القرآن لقد نزلت سورة يوسف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يزال في مكة، فرسمت للمسلمين، من بعيد، ملامح خطة الخلاص والتمكين؛ إذ بينت لهم أن ما يلقونه على أيدي أقربائهم في مكة، قد نال مثله وأشد نبيا كريماً على أيدي إخوته، وكما جعل الله -تعالى- العاقبة ليوسف فسيجعل العاقبة أيضاً لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وكما أتي إخوة يوسف إليه نادمين تائبين، فكذلك سيأتي القريشيون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة تائبين نادمين، بل وكما انتقل كل إخوة يوسف من الشام إلى مصر، فأقاموا بها معه، تحت سلطانه، فكذلك سوف ينتقل الذين آذوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليعيشوا معه في المدينة المنورة، وهكذا حملت سورة يوسف للمسلمين مفاتيح البشرى، وبشريات الفرج؛ حيث بشرت بأن فترة الاضطهاد المكي سيعقبها التمكين، كما حصل مع يوسف -عليه السلام-، من بعد الاسترقاق والسجن. الحسد لا يغير الأقدار إذا كانت قصة يوسف -عليه السلام- قد علمتنا أن الحسد يكثر بين الأقران، فإنها علمتنا أيضاً أن الحاسد لا يفلح، وأن الحسد وإن أثر فإنه لا يضر المحسود إلا بما قدره الله وقضاه، وفي النهاية لا يكون إلا ما أراد الله، لا ما أراد الحاسد، فمهما حاول إخوة يوسف القضاء عليه، فإن القدر المقدر له من الرفعة والتمكين جار على مراد الله وترتيبه، وعلى وفق مشيئته، لا مشيئة أحد سواه. العدل بين الأبناء لقد كان يعقوب -عليه السلام- عادلاً بين أبنائه؛ فهو رسول من رسل الله لا يليق وصمه بعدم العدل، إنما رأى الحاسدون من أبنائه في عينيه مزيد شفقة وعطف على يوسف وأخيه، لصغرهما، مع حداثة فقدهما لأمهما، فتغلغل الحقد في قلوبهم، ولا سيما مع ما تميز به يوسف -عليه السلام- من مخايل النجابة، وجميل المنظر، وحسن السمت، وكمال الأدب؛ فحرك في نفوسهم الحقد والحسد نحوه، لاستكثارهم نعم الله عليه، وكان قد زاد من تحريك ذلك الشر في نفوسهم وأجَّجَ ناره في قلوبهم، كثرةُ نظر أبيهم إليه، فقد فهموا من ذلك مزيد اهتمامه بيوسف، ومحبته له دونهم، هكذا تصوروا، وهكذا يفعل الحسد بأصحابه؛ لذلك نتعلم وجوب العدل بين الأولاد، ليس فقط في العطايا والمنح المالية، بل في كل شيء، حتى في توزيع النظرات، والابتسامات، والقبلات، ولا ينبغي أن تميز أحدهم على غيره، إلا مع شرحٍ واف وذكرٍ للأسباب والأعذار. تدمير الأسرة لأجل نظرة لقد تعلمنا من قصة يوسف -عليه السلام-، أن الحسد بين الإخوة كما يعود بالضرر على الحاسد والمحسود منهم، فإنه يعود بالضرر على الأسرة جميعها، وما كان يطمع إخوة يوسف من وراء جريمتهم النكراء في وراثة ماله، ولا متاعه، ولكن فقط من أجل أن يَخْلوَ لهم وَجْهُ أَبِيهم، {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} (يوسف)، لقد استنتجوا من كثرة نظر أبيهم ليوسف وأخيه أنهما أحب إليه منهم؛ فلذلك قرروا أن يتخلصوا من أخيهم بالقتل أو التغريب، بإلقائه في أرض بعيدة مجهولة، حتى يموت فيها غريبا، والتغريب عقوبة لا تقل عن القتل، بل هو كالقتل، وإن كان في الشكل دونه؛ لذلك قال الشاعر: حَسَّنُوا القول وقالوا غربة إنما الغربة للأحرار ذبحٌ لقد سولت لهم أنفسهم ذلك حتى يُقبل عليهم أبوهم بوجهه ولا يشاركهم في محبته أحد، قالوا {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ}، هكذا حين يسيطر الحقد على القلوب وتقوى بها نيران الحسد؛ فتتحول العقولُ إلى كومة من النفايات الهالكة، والقلوبُ إلى حجارة سوداء متفحمة، فترى الشرَّ خيرا والخير شرا والصغائر كبائر والكبائر صغائر، وتفقد التقدير الصحيح للأمور. الرؤى محور الأحداث لقد قص القرآن الكريم علينا طرفاً من قصص نبي الله يوسف -عليه السلام- في طفولته وفي شبابه وفي كهولته، وفي كل ذلك كانت للرؤى دورها البارز في تحولات حياته، وقد بدأ ذلك برؤيا رآها يوسف في نومه وقصها على أبيه، {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} (يوسف)، هنا يتبين لنا أن الرؤيا بوصفها حدثاً لها دور كبير في حياة يوسف -عليه السلام-، فقد بدأ على إثرها كيد إخوته له، وبها تنبأ أبوه له بالتفوق على أقرانه، كما كان للرؤيا بعد ذلك دور أيضاً في إنهاء معاناته وأبيه، وتحولهما من الابتلاء إلى العافية، ومن الصبر على البلاء إلى الصبر على النعمة؛ إذ بدأ التمكين ليوسف برؤيا رآها الملك، على ما سيرد في حينه. الرؤى دليل صدق المرسلين الرؤيا هي ما يراه الإنسان في نومه، مما لا مدخل لإرادته فيه، وهي من هذا الباب سر من أسرار النفس البشرية، وهي أحد الدلائل التي يستدل بها على أن الإنسان مركب من روح ومادة، وهو ما يدل على صدق المرسلين، على خلاف ما يراه الملاحدة من أن الإنسان مادة وحسب، فالرؤى من هذه الناحية باب عظيم من أبواب عالم الغيب، والإقرار بها يستلزم الإيمان بالله والملائكة والجن؛ إذ الإلحاد يقوم في ركنه الأساس على إنكار ما وراء الطبيعة، وعلى أن الإنسان هو إله نفسه، والرؤى حيث لا سيطرة للإنسان على ما يراه في نومه دليل على أن هناك قوى أخرى هي التي تسيطر على تلك الصور والأحداث التي يشاهدها في نومه، ثم يراها تتحقق في يقظته. الحذر لا يمنع القدر لقد أرشد يعقوبُ يوسفَ -عليهما السلام- ألا يحدث برؤياه إخوته، خوفاً عليه من حسدهم: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (يوسف: 5)، ولكن الحذر لا يمنع القدر، فها هي ذي الأحداث تسير كما قدرها الله، حَدَّثَ يوسف برؤياه أو لم يُحدِّث، لكنه أدب نبوي، ذكره يعقوب -عليه السلام-، وأيده نبينا - صلى الله عليه وسلم - ففي صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب، فلا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا، وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها، ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره». اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |