«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 26 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         خطبة حجة الوداع والدروس المستفادة منها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          خطبة عيد الأضحى 1446 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          خطبة عيد الأضحى المبارك (الإخلاص طريق الخلاص) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          خطبة عيد الأضحى 1446هـ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          خطبة عيد الأضحى 1446 هـ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          خطبة عيد الأضحى 1446هـ (مختصرة وشاملة) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          أهمية التعامل مع الأجهزة الإلكترونية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          إمام دار الهجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          البعثة والهجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          (المساجد والاحترازات) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20-12-2022, 08:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,361
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم


فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى... ﴾

1- تصدير الخطاب بالنداء، للتنبيه والعناية والاهتمام؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.

2- نداء المؤمنين بوصف الإيمان تكريمًا وتشريفًا لهم.

3- في نداء المؤمنين بوصف الإيمان، حث على الاتصاف بهذا الوصف، وعلى امتثال ما بعده من أوامر ونواه، وأن امتثال ذلك من مقتضيات الإيمان، وعدمه يعد نقصًا في الإيمان.

4- وجوب القصاص بقتل القاتل عمدًا بمن قتله، وأن يُفعل به كما فعل بالمقتول؛ من حيث صفة القتل وآلته، حتى لو اشترك جماعة في قتل واحد، وجب قتلهم به؛ لقوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ، والخطاب للمؤمنين، والمراد بذلك حكامهم.

5- أن الحر يقاد ويقتل قصاصًا بالحر؛ لقوله تعالى: ﴿ الحر بالحر، ومفهوم هذا أن الحر لا يقتل بالعبد، وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم، مستدلين بمفهوم هذه الآية، وبأن العبد يباع ويشترى كالسلعة، فكيف يساوَى بالحر، وغير ذلك من الأدلة التي لا يسلم منها دليلٌ واحد، أو يصح على ما ادَّعَوْه.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحر يقتل بالعبد مستدلين بأدلة كثيرة؛ منها:
أ- قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾، قالوا: فيجب القصاص من القاتل أيًّا كان، قالوا: وأما قوله في الآية بعد ذلك: ﴿ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى، فهذا للرد على أهل الجاهلية؛ حيث كانوا يقتلون بالحر أحرارًا، وبالعبد حرًّا، وبالأنثى ذكرًا.

ب- قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179]، وهذا عام.

جـ- قوله تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ [المائدة: 45]، وهذا عام في كل نفس.

د- قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء: 33]، وهذا عام في كل مقتول وفي كل قاتل.

هـ- قوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194]، وهذا عام أيضًا.

و- قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126].

ز- قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس،...»[1]، وهذا عام في كل نفس.

ح- قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»[2]، وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته.

6- أن العبد يقتل بالعبد؛ لقوله تعالى: ﴿ والبعد بالعبد، وإذا كان العبد يقتل بالعبد، فقتلُه بالحر من باب أولى.

7- أن الأنثى تقتل بالأنثى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى، وإذا كانت الأنثى تقتل بالأنثى، فقتلُها بالذكر من باب أَولى.

وإنما جاءت الآية على هذا النسق ﴿ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ﴾، لما جاء في سبب النزول، أنهم كانوا يعتدون في القصاص، فيقتلون بالعبد حرًّا، وبالأنثى ذكرًا، ولو كان غير القاتل.

واختلف في قتل الذكر بالأنثى، والصحيح أن الذكر يقتل بالأنثى، للأدلة السابقة في قتل الحر بالعبد، ولما جاء في حديث أنس رضي الله عنه: «أن يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين حجرين، فاعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فرض رأسه بين حجرين»[3]، وقد حكى القرطبي الإجماع على قتل الذكر بالأنثى[4].

8- جواز العفو عن القصاص إلى الدية، تخفيفًا من الله عز وجل على هذه الأمة، ورحمة لها؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، كما يجوز العفو عن القصاص بلا دِية؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة: 237]، وقال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].

9- إذا عفا ورثة المقتول أو بعضهم، ولو واحدًا، سقط القصاص؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، وشيء نكرة في سياق الشرط تعم أي شيء، قليلًا كان أو كثيرًا.

10- أن القاتل عمدًا لا يخرج بالقتل عن الإيمان، ولا تزول الأخوة الإيمانية بينه وبين المقتول؛ لقوله: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، علمًا أن القتل العمد من أكبر الكبائر، بل يعد أكبرها عند أكثر أهل العلم.

وفي هذا رد على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إن مرتكب الكبيرة خارج من الإيمان، مخلد في النار، وإذا كان القاتل عمدًا لا يخرج بالقتل من الإيمان، فما دونه من باب أولى.

11- أن دية القتل العمد على القاتل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ ؛ يعني القاتل.

12- أن دية القتل العمد حسب ما اتفق عليه بين ورثة المقتول والقاتل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، ولو اختار القاتل القصاص على الدية فله ذلك.

13- يجب على ولي المقتول إذا عفا عن القصاص إلى الدية أن يتَّبع القاتل ويطالبه بالدية بالمعروف، من غير أن يشق عليه، أو يكلفه ما لا يطيق، أو يمن عليه بعفوه عنه، عن القصاص إلى الدية، أو يؤذيه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾.

14- يجب على القاتل أداء الدية إلى أولياء المقتول بإحسان فعلي، بعدم المماطلة والمضارة لهم، وإحسان قولي، بشكرهم والدعاء لهم، مقابل عفوهم عن القصاص منه، واتباعهم له بالمعروف؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾.

15- فضل الله عز وجل ونعمته على هذه الأمة بشرع العفو عن القصاص، وأخذ الدية تخفيفًا على هذه الأمة ورحمة بها؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾.

16- إثبات ربوبية الله عز وجل الخاصة بالمؤمنين، ورحمته الخاصة بهم؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾.

17- يُسر هذه الشريعة المحمدية بين الشرائع السابقة وتخفيف أحكامها.

18- الترغيب في العفو عن القصاص إلى الدية؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾، ففي هذا ترقيق وحث على العفو إلى الدية، ولقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ، فهو رخصة من الله، وتخفيف ورحمة للأمة، يندب الأخذ به، وأفضل من ذلك العفو بلا مقابل.

19- الوعيد الشديد لمن اعتدى على القاتل، فقتله بعد عفوه عنه إلى الدية بالعذاب المؤلم الموجع، حسيًّا للبدن، ومعنويًّا للقلب في الآخرة، مع ما يترتب عليه من العقوبة الدنيوية، من القصاص أو غيره؛ لما في هذا من الخيانة، ونقض العهد، والعود في الهبة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
وهذا الوعيد يشمل أيضًا القاتل الذي يعود إلى الاعتداء والقتل بعد العفو عنه.

20- حكمة الله عز وجل البالغة العظيمة في مشروعية القصاص، لما فيه من صون الأنفس المعصومة، وسلامتها من القتل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، وهذا أبلغ من قولهم: «القتل أنفى للقتل».

21- حفظ الدين الإسلامي للأنفس والأرواح؛ لأنها إحدى الضرورات الخمس التي جاء الإسلام بالحفاظ عليها، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال.

22- سمو مبادئ الإسلام وأحكامه وتشريعاته، مما تتهاوى أمامه وتضعف جميع النظم والقوانين الأرضية الوضعية الوضيعة التي تتعاطف مع القاتل المجرم، وتمنع قتله، وتَعُدُّه من الهمجية، فترحم القاتل، ولا ترحم المجتمع، أمام شرور أهل السطو والقتل والإجرام، وترى في عقوبة السجن كفاية، مما جعل السجون تغص بالمجرمين والقتلة، واللصوص، ويستشري شرهم وبلاؤهم في المجتمعات التي لا تدين بالإسلام، أو لا تطبق شرع الله.

23- أن الذين يفقهون ويعقلون عن الله عز وجل شرعه وأحكامه، ويعلمون أن لله عز وجل الحكمة البالغة العظيمة في مشروعية القصاص، هم أصحاب العقول والنهى، ولهذا خصهم دون غيرهم، وفي هذا ثناء من الله عز وجل عليهم، وامتداح لهم، وكفاهم بذلك شرفًا وفخرًا؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.

24- أن الله عز وجل شرع القصاص، وأوجبه على العباد ليتقوه، فلا يقتل بعضهم بعضًا، ولا يرتكبوا ما نهاهم عنه، وليمتثلوا أوامره؛ لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.


[1] أخرجه البخاري في الديات- قوله تعالى ﴿ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ [المائدة: 45] (6878)، ومسلم في القسامة- ما يباح به دم المسلم (1676)، وأبوداود في الحدود (4352)، والنسائي في تحريم الدم (4016)، والترمذي في الديات (1402)، وابن ماجه في الحدود (2534)، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

[2] أخرجه البخاري في العلم (111)، ومسلم في الحج (1370)، وأبوداود في المناسك (2034)، والنسائي في القسامة (4735)، والترمذي في الديات (1412)، وابن ماجه في الديات (2658)، (2683)، وأحمد (1/ 119)، من حديث علي رضي الله عنه.

[3] أخرجه البخاري في الخصومات (2413)، ومسلم في القسامة (1672)، وأبوداود في الديات (4527)، والنسائي في القسامة (4740)، والترمذي في الديات (1394)، وابن ماجه في الديات (2665)، من حديث أنس رضي الله عنه.

[4] انظر: «الجامع لأحكام القرآن» (2/ 248).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20-12-2022, 08:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,361
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ... ﴾


قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾[البقرة: 183 - 186].

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ سبق الكلام عليه.

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ؛ أي: فرض عليكم الصيام، أي: فرض الله عليكم الصيام وأوجبه.

والصيام لغة: الإمساك، قال تعالى: ﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26]؛ أي: إمساكًا عن الكلام، وقال النابغة الذبياني[1]:
خيل صيام وخيل غير صائمة
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما


فقوله: «خيل صيام»؛ أي: ممسكة عن السير.

والصيام شرعًا: التعبد لله بترك الأكل والشرب، وجميع المفطرات الحسية والمعنوية، من طلوع الفجر، إلى غروب الشمس.

﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ الكاف صفة لموصوف محذوف وقع مفعولًا مطلقًا لـ«لكتب»، و«ما» مصدرية، أو موصولة، والتقدير: كتب عليكم الصيام، كتبًا مثل كتبه، أو مثل الذي كتب، على الذين من قبلكم، من الأمم السابقة، من أهل الكتاب وغيرهم.

والتشبيه هنا بالفرض دون المفروض، فلا يلزم عليه أن يكون صيامنا كصيام من قبلنا؛ في وقته، ومقداره، وصفته، وغير ذلك.

واختلف في الذي كتب على الذين من قبلنا، فقيل: كتب عليهم صيام شهر رمضان، وقيل: كتب عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقيل: صيام عاشوراء.

ولا دليل على شيء من هذه الأقوال، والأظهر أن صيام رمضان مما اختص الله به هذه الأمة.

والحكمة في قوله تعالى: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾:
أولًا: الترغيب في المنافسة لهم بالأعمال الصالحة، والإشارة إلى استكمال هذه الأمة فضائل الأمم السابقة؛ لأن الصيام من أفضل الأعمال.
ثانيًا: تخفيف فرض الصيام على النفوس ببيان أن الصيام كما كُتب على هذه الأمة، فقد كُتب على من قبلهم من الأمم، وقد قيل: إن التكاليف إذا عمَّت خفَّت، كما أن المصائب إذا عمَّت خفَّت، كما قالت الخنساء[2]:
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي


وذكر أنه لما حضرت الإسكندر المقدوني الوفاة أمر أمه أن تكتب على باب القصر: «لا يأتيني للتعزية أحد أصابته مصيبة»، فكتبت ذلك، فلم يأتها أحد، فسألت عن ذلك، فقيل لها: إنك كتبت على باب القصر: «لا يأتيني للتعزية أحد أصابته مصيبة»، وما من أحد إلا وقد أصابته مصيبة، ففهمت السر في أمر ابنها لها بذلك، فقالت: «لقد عزيتني عن نفسك بنفسك».

﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾؛ أي: لأجل أن تتقوا الله، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.

فالصيام من تقوى الله عز وجل، ويحمل على تقوى الله؛ لما فيه من تربية النفس وتزكيتها، وتجديد الإيمان وزيادته، فهو مدرسة يتربى فيها المسلم على سلوك الطريق المستقيم، والمنهج القويم، لما فيه من تقوية القلب، وتعويده الصبر، والتحمل ومراقبة الله عز وجل من جهة.

ولما فيه من تليين القلب وترقيقه من جهة أخرى، مما يكون سببًا للألفة والمحبة والتواصل، والعطف على الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، ولما فيه من تضييق مجاري الشيطان، وإضعاف نوازع النفس، ودواعي الشهوة.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ««يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»[3].

قوله تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.

قوله: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ «أيامًا» منصوب بفعل مقدر؛ أي: أن تصوموا ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ و«أيامًا» نكرة تفيد القلة لوصفها بـ«معدودات».

والمعنى: أيامًا محصيات محدودات قليلات، ثلاثين يومًا، أو تسعة وعشرين يومًا، في السنة، من بين اثني عشر شهرًا، فليس فيه عنت، ولا مشقة، بل هو في غاية اليسر والسهولة.

وقد عوَّض الله عز وجل هذه الأمة لما كانت أعمارهم قليلة بالنسبة لمن سبقهم من الأمم بصيام هذا الشهر؛ ليدركوا من سبقهم، بل وليسبقوهم بالفضيلة كما قال صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا»[4].

وما أسرع ما تمضي هذه الأيام المباركة، من هذا الشهر المبارك- وخاصة عند من قَدَّرها قدرها.

﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ هذا تيسير بعد تيسير، والفاء في قوله: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ عاطفة، و«من» شرطية، و«كان» فعل الشرط، وجوابه ﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، وهذا كالاستثناء من عموم قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾.

والمريض: هو معتل الصحة، وقد قالوا في تعريف المرض: هو عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ.

والصحيح أن المريض: من به علة.

والمراد بالمريض الذي يشق عليه الصوم، أو يضره، كأن يخشى على نفسه الهلاك، أو زيادة العلة، أو تأخر البرء، أو يحتاج إلى استعمال الدواء المفطِّر أثناء النهار، ونحو ذلك.

أما المريض الذي لا يشق عليه الصوم، فليس له أن يفطر.

﴿ أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ «أو» عاطفة، أي: أو كان مسافرًا.

والسفر: هو الضرب في الأرض والسير فيها، قال تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [المزمل: 20]؛ أي: يسافرون في الأرض، وسُمي سفرًا؛ لأنه خروج من البلد إلى حيث السفر والنور، وقيل: سُمي السفر سفرًا؛ لأنه يُسفر عن أخلاق الرجال، ويُعرفون به، فرجل يقوم بخدمة رفاقه في تهيئة منزلهم، وطعامهم وشرابهم وقهوتهم، وغير ذلك.

ورجل يستند إلى متكأ، ويُصدر الأوامر، افعلوا كذا، وكذا، وأعطوني كذا. وشتان بين الرجلين.

ولا شك أن السفر محك عظيم، عن خرشة بن الحر، قال: «شهد رجل عند عمر بن الخطاب بشهادة، فقال له: لست أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، ائت بمن يعرفك، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه قال: بأي شيء تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل، فقال: فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره، ومدخله، ومخرجه؟ قال: لا، قال: فعاملته بالدينار، والدرهم اللذين بهما يستدل على الورع؟ قال: لا، قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: لست تعرفه. ثم قال للرجل: ائت بمن يعرفك»[5].

وفي قوله: ﴿ أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ إشارة إلى أن المسافر يترخص بأحكام السفر، ولو أقام في بعض البلدان، حتى ينوي الإقامة.

وفي إطلاق السفر دلالة على أن للمسافر الفطر مطلقًا سواء كان السفر طويلًا أو قصيرًا، ومهما كان القصد من السفر.

﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ جواب الشرط، واقترن بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، والتقدير: ومن كان منكم مريضًا، أو على سفر، فأفطر، فعليه صيام عدة من أيام أخر، إذا زال عذر المرض والسفر، بقدر الأيام التي أفطرها.

وفي قوله: ﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ مع حذف المقدر في الكلام وهو (فأفطر) إشارة- والله أعلم- إلى اختلاف حكم الفطر في حق المريض والمسافر، فقد يكون جائزًا، وقد يكون مستحبًا؛ وقد يكون واجبًا- كما سيأتي تفصيله في الأحكام.

كما أن في قوله: ﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ بتنكير «أيام» دلالة على أن الوقت موسع في قضاء رمضان، فلا يلزمه أن يصوم حال زوال عذره، من مرض، أو سفر، ونحو ذلك، وإن كان الأولى المبادرة بصيامها.

وفيه دلالة على أنه لا يلزم التتابع في صيام القضاء.

كما أن فيه أن على من أفطر لعذر المرض، أو السفر أن يقضي أيامًا بعدد الأيام التي أفطرها، ولو كان الشهر كله، كاملًا كان أو ناقصًا، ولو كانت أيامًا قصيرة باردة عن أيام طويلة حارة، أو العكس.

﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ﴾ أي: وعلى الذين يستطيعونه - يعني الصيام - ولم يصوموا.

﴿ فِدْيَةٌ طَعَامُ ﴾ قرأ نافع وأبو جعفر، وابن ذكوان عن ابن عامر: «فديةُ طعامِ» بإضافة فدية إلى طعام، وقرأ الباقون: ﴿ فِدْيَةٌ طَعَامُ ﴾ بتنوين «فديةٌ»، ورفع «طعامُ» أي: فديةٌ هي طعام.

﴿ مِسْكِينٍ ﴾ قرأ نافع وابن عامر: «مساكين» على الجمع، وقرأ الباقون بالإفراد: ﴿ مِسْكِينٍ ﴾.

والفدية: ما يفتدى به من مال، أو عرض، «طعام» مطلق في أي طعام.

و«المسكين» من لا يجد كفايته، مأخوذ من السكون، وهو عدم الحركة؛ لأن الفقر أسكنه وأذله.

أي: وعلى الذين يستطيعون الصيام ولم يصوموا فدية عن الصوم، وهي طعام مسكين نصف صاع من الطعام عن كل يوم.

أي: إن الإنسان مخير بين الصيام والإطعام، وهذا في أول فرض الصيام، ثم نسخ هذا التخيير بتعين الصيام، بقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185].

عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: «لما نزلت: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها»[6].

وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: «نسخت هذه الآيةَ - يعني: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ التي بعدها ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾»[7].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ كان من شاء صام، ومن شاء أفطر، فنسختها: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [8].

وقد ثبت عن ابن عباس القول بأنها غير منسوخة، كما روى البخاري، عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ قال ابن عباس: «ليست منسوخة، هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا»[9].
والصحيح أنها منسوخة.

﴿ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا ﴾ الفاء: عاطفة، و«من» شرطية، و«تطوع» فعل الشرط، و«خيرًا» منصوب صفة لمصدر محذوف، أي: فمن تطوع تطوعًا خيرًا.

ويحتمل أن تكون «خيرًا» مفعولًا لأجله، أي: تطوع يريد الخير.

والتطوع: فعل الطاعة، واجبة كانت، أو مستحبة، ولا يكون الفعل طاعة، إلا بالإخلاص لله عز وجل ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

أي: فمن تطوع بالفدية بأن زاد على الواجب فأطعم أكثر من مسكين، أو زاد في إطعام المسكين.

﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ : جواب الشرط، وقرن بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، أي: فهو خير له، يدخره عند الله، ويثاب عليه، أو فهو أفضل له من ترك التطوع.

﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ الواو: عاطفة، و«أن» والفعل بعدها في تأويل مصدر، في محل رفع مبتدأ، أي: وصيامكم خير لكم، وأفضل من الفدية بالطعام.

وهذا حال التخيير بين الصيام والإطعام، في أول فرض الصيام.

﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي: إن كنتم ذوي علم تنتفعون بعلمكم، أي: فاعلموا أن صيامكم خير لكم.

قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.

قوله: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي، أي: الأيام المعدودات - شهر رمضان.

و«الشهر» مدة ما بين الهلالين، سمي بذلك لاشتهاره.

و«شهر» مضاف و«رمضان» مضاف إليه، وهو ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون، مشتق من الرمضاء، وهي الحرارة.

قيل: سمي بذلك؛ لأنه لما سميت الشهور بأسمائها وافق وقت الحر والرمضاء.

وقيل: لأنه أول أشهر الحرارة، بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب.

وفي قوله: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾ خبر يتضمن تحديد وقت ومقدار الصيام الذي فرضه الله عز وجل على المؤمنين، ووصفه بأنه ﴿ أيامًا معدودات ﴾.

وفيه تعظيم هذا الشهر وامتداحه من بين شهور السنة؛ لأن الله عز وجل أنزل فيه القرآن، وخصه بفريضة الصيام.

﴿ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ وصف لـ«شهر رمضان» والمعنى: الذي ابتدئ فيه إنزال القرآن؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1].

فابتدأ إنزاله في شهر رمضان في ليلة مباركة منه هي ليلة القدر، ثم تتابع نزول القرآن مفرقًا خلال ثلاث وعشرين سنة، حسب الوقائع والأحداث؛ قال تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32].

وقد نزلت صحف إبراهيم والزبور والتوراة والإنجيل كل منها جملة واحدة.

وعلى هذا فتكون «أل» في قوله: ﴿ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ للجنس، ويكون المراد بالقرآن بعضه، وهو أوله نزولًا، ويشهد لهذا القول الواقع، فإن القرآن نزل في جميع شهور السنة، فمنه ما نزل في شوال، ومنه ما نزل في ذي القعدة، ومنه ما نزل في ذي الحجة، ومنه ما نزل في غير ذلك.

وقد رُويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما «قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ؛ أي: أنه أنزل في رمضان إلى بيت العزة في السماء الدنيا جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلًا في الشهور والأيام»[10].

وعلى هذا تكون «أل» في القرآن للعموم، أي: أنزل فيه القرآن كله من السماء السابعة إلى بيت العزة في السماء الدنيا.

والصحيح القول الأول؛ لأن المعنى عليه أقوى، وهو أن المراد بإنزال القرآن في شهر رمضان: بدء إنزاله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين.

وقوله ﴿ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ بالبناء لما لم يسم فاعله؛ لأن المنزل معلوم وهو الله جل وعلا، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2].

و«القرآن» مأخوذ من «قرأ»، إذا تلا، ومن «قرى» بمعنى «جمع» لأنه مجموع آيات وسور، وهو كلام الله عز وجل المنزل على الرسول- محمد صلى الله عليه وسلم، المتعبد بتلاوته، والعمل به، المعجز بأقصر سورة منه، المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس.

﴿ هدى للناس ﴾ حال من القرآن، أي: حال كونه هاديًا للناس، أو مفعول لأجله، أي: لأجل هداية الناس، والمراد هنا: الهداية العامة، هداية الدلالة والعلم والبيان والإرشاد، أي: دالًا للناس على الطريق المستقيم، والمنهج القويم؛ كما قال عز وجل: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]، وقال تعالى: ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 138].

و«الناس» أصلها «الأناس» قال الشاعر[11]:
إن المنايا يطْلعْ
نَ على الأناس الآمنينا


وقال لبيد[12]:
وكل أناس سوف تدخل بينهم
دويهية تصفر منها الأنامل


وخففت لكثرة الاستعمال، فقيل: «الناس»، والمراد بهم البشر، الموجود منهم حال نزول القرآن، ومن سيوجد إلى قيام الساعة؛ لأن رسالته صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الوحي عام لجميع الناس، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [سبأ: 28]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158].

بل رسالته صلى الله عليه وسلم وما جاء به عام للثقلين الإنس والجن، والقرآن هدى لهم جميعًا هداية عامة، وهو هدى هداية خاصة للمتقين المؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2].

وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النحل: 64]، وقال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89].

﴿ وَبَيِّنَاتٍ﴾ معطوف على «هدى» أي: حال كونه هدى للناس، ومشتملًا على آيات بينات، كما قال تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 49]، وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ﴾ [الحج: 16]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 9].

﴿ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ صفة لـ«بينات»، أي: مشتملًا على آيات واضحات ﴿ مِنَ الْهُدَى ﴾ أي: من الدلالة والإرشاد إلى الحق وبيانه.

﴿ وَالْفُرْقَانِ﴾ أي: ومن الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل، والرشد والغي، والهدى والضلال، والخير والشر، والحلال والحرام، وأهل السعادة وأهل الشقاوة، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].

و«الهدى» و«الفرقان» من أسماء القرآن الكريم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159]، وقال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].

﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ الفاء: عاطفة، و«من» شرطية، و«شهد» فعل الشرط، ومعناه: حضر، وكان مقيمًا حال دخول الشهر ﴿ مِنْكُمُ ﴾ أيها المؤمنون، ﴿ الشَّهْرَ ﴾ شهر رمضان، و«أل» فيه للعهد الذكري، أي: الشهر المذكور قبل في قوله ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾.
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 20-12-2022, 08:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,361
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله



﴿ فَلْيَصُمْهُ ﴾ الفاء رابطة لجواب الشرط؛ لأنه جملة طلبية، واللام للأمر، والأصل في الأمر الوجوب، أي: فمن حضر منكم الشهر، بأن كان شاهدًا مقيمًا، حال دخول شهر رمضان ﴿ فَلْيَصُمْهُ ﴾ أي: فليصم نهاره وجوبًا، وإن شهد بعض الشهر وجب عليه صيام ذلك البعض.

وهذا ناسخ للتخيير بين الصيام والإطعام في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.

والحكمة والله أعلم في التخيير بين الصيام والإطعام أولًا، ثم نسخ التخيير، وإيجاب الصيام هي التدرج في الحكم، ونقل الناس من الأخف إلى الأثقل شيئًا فشيئًا، فلو أُمروا أول ما أُمروا بوجوب الصوم لربما استثقلوه وشق عليهم- وكما هو الحال في الخمر، حيث جاء التدرج في تحريمه على عدة مراحل.

ونسخ التخيير بين الصيام والإطعام إلى تحتم الصيام من نسخ الحكم وبقاء التلاوة. والحكمة فيه- والله أعلم- تذكير الخلق بهذا التدرج، امتنانًا عليهم.

وهذه الواقعة من أصح وقائع النسخ في هذه السورة، بل من أصح وقائع النسخ في القرآن الكريم.

﴿ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ، أعاد ذكر الرخصة للمريض والمسافر بالفطر مع القضاء من أيام أخر - والله أعلم - لئلا يعتقد أن الرخصة منسوخة، كما نسخ التخيير بين الصيام والإطعام بوجوب الصيام.

وأيضًا تأكيدًا وتذكيرًا بنعمة الله عز وجل وفضله عليهم في التخفيف عن المريض والمسافر.

ولمناسبة ما بعده، وهو قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ فهذا تعليل لقوله: ﴿ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ﴾.

﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ﴾ المراد بالإرادة هنا الإرادة الشرعية التي بمعنى المحبة، أي: يحب الله لكم اليسر، أي: التيسير والتخفيف عليكم فيما شرع لكم، ولذلك رخص في الفطر للمريض والمسافر.

﴿ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ هذه الجملة لتأكيد إرادته عز وجل اليسر، أي: ولا يحب لكم العسر والمشقة.

والصفات المنفية يؤتى بها لإثبات كمال ضدها، أي: يريد الله ويحب لكم اليسر كل اليسر، يسرًا لا عسر معه، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال تعالى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].

وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما، حين بعثهما إلى اليمن: «يسِّرا، ولا تعسِّرا، وبشِّرا، ولا تنفِّرا»[13].

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا، ولا تنفروا»[14]، وفي رواية: «وسكِّنوا ولا تنفروا»[15].

﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ﴾ قرأ يعقوب وأبو بكر عن عاصم «ولتكمِّلوا» بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف. والواو في قوله: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ﴾ عاطفة، واللام للتعليل، والفعل منصوب بـ«أن» مضمرة بعد اللام. والجملة معطوفة على «اليسر» في قوله: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ أي: يحب الله لكم اليسر، وأن تكملوا العدة.

أي: ولتكملوا عدة شهر رمضان، بصيامه وقضاء ما أفطرتم منه لعذر المرض والسفر ونحو ذلك، سواء كان الشهر ثلاثين يومًا، أو تسعة وعشرين يومًا.

قال ابن كثير[16]: «أي: إنما رخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم».

﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ معطوفة على ﴿ وَلِتُكْمِلُوا ﴾ داخلة ضمن ما يريده الله ويحبه، أي: يحب الله لكم اليسر، وأن تكملوا العدة، وأن تكبروا الله على ما هداكم.

ومعنى: ﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ ﴾؛ أي: ولتعظموا الله بألسنتكم وقلوبكم بتكبير الله عز وجل لأنه أكبر من كل شيء، وله الكبرياء والعظمة؛ كما قال عز وجل: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري»[17].

﴿ مَا هَدَاكُمْ ﴾ «ما» مصدرية، أي: على هدايته لكم، هداية بيان وعلم ودلالة وإرشاد، وهداية توفيق للعمل.

والمعنى: ولتكبروا الله وتعظموه على الدوام، وفي ختام هذا الشهر، وليلة العيد ويومه إلى الفراغ من خطبة العيد على هدايته لكم للصراط المستقيم، ولصيام شهر رمضان وإكماله؛ مرددين: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد»[18]، «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد»[19]، «الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا»[20].
إلى غير ذلك من ألفاظ التكبير.

وكذا تعظيم الله عز وجل بأنواع الذكر كلها، التي تشرع على الدوام، وبخاصة عند إكمال العبادات وقضائها، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ [البقرة: 200]، وقال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ﴾ [النساء: 103]، وقال تعالى: ﴿ ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]، وقال تعالى: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴾ [ق: 40].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير»[21].

وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: «لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك»[22].

﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ الواو: عاطفة، و«لعل» للتعليل، أي: ولأجل أن تشكروا الله على ما أنعم به عليكم، من الشرع المطهر، وفرض الصيام، والتيسير فيه على المريض والمسافر، وتوفيقكم لإكمال عدة الشهر، وختامه بتكبير الله، وذلك بالاستمرار على طاعته، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، كما قال تعالى في أول الآيات: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.

قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.

ذكر الله عز وجل مشروعية الصيام وأحكامه في الآيات قبل هذه الآية وبعدها، وجعل هذه الآية بين تلك الآيات ترغيبًا- والله أعلم- للصائم في دعاء الله عز وجل، وإشارة إلى أن دعوة الصائم مستجابة لا ترد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنَّك ولو بعد حين»[23].

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد»[24].

عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه رضي الله عنه: «أن أعرابيًّا قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾»[25].

قوله: ﴿ وإذا سَأَلَكَالواو: عاطفة، و«إذا» ظرفية شرطية، غير عاملة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.

﴿ عباديَ؛ أي: عبادي المؤمنون، وأضافهم عز وجل إليه تشريفًا وتكريمًا لهم؛ لأن المراد بالعبودية هنا العبودية الخاصة، عبودية أوليائه عز وجل.
﴿ عني ﴾ أي: عن قربي، وإجابتي، بدليل الجواب: ﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾.

﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ جواب «إذا»، أي: فقل لهم: إني قريب، أسمع دعاءهم، فليناجوني بالدعاء، دون النداء برفع الصوت.

وقربه عز وجل من عباده المؤمنين قرب خاص، وكلما كان العبد لله أعبد وأتقى، كان الله منه أقرب.

قال صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»[26].

وفي الحديث القدسي قوله- عز وجل: «ومن تقرب إليَّ شبرًا تقربت منه باعًا»[27].

فهو عز وجل قريب، ومع عباده المؤمنين معية خاصة، يسمع كلامهم، ويستجيب دعاءهم، ويحفظهم ويسددهم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].

وقال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: ﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46].

وقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر- فيما حكى الله تعالى عنه: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما»[28].

كما أنه سبحانه مع جميع خلقه بعلمه وإحاطته، كما قال تعالى: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7].

﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ هذه الجملة خبر ثان لـ«إن» وخبرها الأول «قريب»، و«الداع» أصلها «الداعي» فحذفت الياء تخفيفًا.

و«الدعاء» الطلب، وهو نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والآية تشمل النوعين، وهما متلازمان. والمعنى: فإني قريب، أسمع دعوة الداعي إذا دعاني وناجاني، وأجيبه، أعطيه إذا سألني، وأثيبه إذا عبدني.

وفي هذا توجيه وإرشاد إلى أدب السؤال والدعاء، وأن يكون بالمناجاة بين العبد وربه دون النداء برفع الصوت.

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، اربعوا[29] على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، يا عبدالله بن قيس، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله»[30].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني» الحديث[31].

﴿ إِذَا دَعَانِ ﴾ «دعان» أصلها «دعاني» فحذفت الياء تخفيفًا. والمعنى: إذا صدق في دعائه إياي، وأخلص في ذلك، وذلك بصدق اللجوء إلى الله عز وجل والانكسار بين يديه، والثقة بوعده، وتمام قدرته، وكمال جوده.

﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي ﴾ الفاء: رابطة لجواب الشرط، واللام للأمر، أي: فليجيبوا لي، وعدي باللام- مع أنه يتعدى بنفسه، فيقال: (فليجيبوني)- وذلك لأنه ضمن معنى الانقياد: أي: فلينقادوا لي ويجيبوني ويطيعوني، ويدعوني.

و«يستجيبوا» أبلغ من «يجيبوا»؛ لأن زيادة المبنى تدل غالبًا على زيادة المعنى. وهذا كقوله تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ﴾ [آل عمران: 195]؛ أي: أجاب، وقوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى ﴾ [الرعد: 18]، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ﴾ [الشورى: 38]، أي: أجابوا، وقوله تعالى: ﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [الشورى: 26]، أي: ويجيب الذين آمنوا.

﴿ وَلْيُؤْمِنُوا بِي ﴾ معطوف على ما قبله، أي: فليصدقوا بي، وبقربي، وأني أجيب دعوة الداعي إذا دعاني.

﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ «لعل» للتعليل، أي: لأجل أن يرشدوا.

والرشد: حسن التصرف والاهتداء إلى طرق الخير عامة، في الدين، وفي الولاية، وفي التصرف في المال، وغير ذلك، أي: لأجل أن يهتدوا للإيمان والعمل الصالح فيرشدوا في دينهم ودنياهم وأخراهم، وذلك لإيمانهم بالله وانقيادهم له واستجابتهم لأمره.

قال تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم ﴾ [الحجرات: 7، 8]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29].

وفي قوله: ﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ ترغيب في دعائه عز وجل وأنه عز وجل لا يخيِّب دعاء من دعاه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، وقال تعالى: ﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [الشورى: 26]، وقال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62].

وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى يستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرًا، فيردهما صفرًا»[32].

وفي رواية: «فيردهما خائبتين»[33].

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة، ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدَّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها». قالوا: إذًا نكثر، قال: «الله أكثر»[34].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي»[35].

وفي رواية[36]: «لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل. قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء».

وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل»[37].

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: يا بن آدم، واحدة لك وواحدة لي، وواحدة فيما بيني وبينك، فأما التي لي: فتعبدني لا تشرك بي شيئًا، وأما التي لك: فما عملت من شيء وَفَّيْتُكَه، وأما التي بيني وبينك: فمنك الدعاء وعليَّ الإجابة»[38].

[1] انظر «ديوانه» ص(113).

[2] انظر «ديوانها» ص(84).

[3] أخرجه البخاري في الصوم – باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة (1905)، ومسلم في النكاح (1400)، وأبو داود في النكاح (2046)، والنسائي في الصيام (2239)، والترمذي في النكاح (1081)، وابن ماجه في النكاح (1845)، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

[4] أخرجه البخاري في الجمعة (876)، ومسلم في الجمعة (855)، والنسائي في الجمعة (1367)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[5] أخرجه البيهقي في «السنن الصغير» (4/ 134), وأخرجه في «سبعة مجالس من أمالي أبي طاهر المخلص» ص(65).

[6] أخرجه البخاري في تفسير سورة البقرة (4507)، ومسلم في الصيام (1145)، وأبو داود في الصوم (2315)، والنسائي في الصيام (2315)، والترمذي في الصوم (798).

[7] أخرجه البخاري في الصوم، باب ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ (1949)، وفي التفسير (4506).

[8] أخرجه أبوعبيد في «الناسخ والمنسوخ» الأثر (59)- من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أبو داود في «الصوم» (2315)- من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 167)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 307)- كلاهما من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما.

[9] أخرجه البخاري في تفسير قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ (4505).

[10] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 188- 192)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 310)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 222، 223، 530)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (7/ 131).

[11] البيت لذي جرن الحميري. انظر «اشتقاق أسماء الله الحسنى» ص(32)، «الكشاف» (1/ 6), و«المعمرون والوصايا» للسجستاني ص (14).

[12] انظر: «ديوانه» ص (132).

[13] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3038)، ومسلم في الأشربة (1733)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

[14] أخرجه البخاري في العلم (69)، ومسلم في الجهاد والسير (1734).

[15] أخرجها مسلم.

[16] في «تفسيره» (1/ 312).

[17] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2620)، وأبو داود في اللباس (4090)، وابن ماجه في الزهد (4174)، وأحمد (2/ 248)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وأخرجه أحمد (6/ 19)، من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه.

[18] أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (2/ 168)، وأبويوسف في «الآثار» (297)- عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما.

[19] انظر: «المغني» (3/ 290).

[20] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (601)، والنسائي في الافتتاح (885)، والترمذي في الدعوات (3592)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

[21] أخرجه البخاري في الأذان (842)، ومسلم في المساجد (583)، والنسائي في السهو (1335).

[22] أخرجه أبو داود في الصلاة (1522)، والنسائي في السهو (1303)، من حديث معاذ رضي الله عنه.

[23] أخرجه الترمذي في الدعوات (3598)، وابن ماجه في الصيام (1752)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: «حديث حسن».

[24] أخرجه ابن ماجه في الصيام (1753).

[25] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 314)، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 313) ونسبه لابن مردويه وأبي الشيخ الأصبهاني.

[26] أخرجه مسلم في الصلاة (482)، وأبو داود في الصلاة (875)، والنسائي في التطبيق (1137)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[27] أخرجه البخاري في التوحيد (7405)، ومسلم في الذكر والدعاء (2675)، والترمذي في الدعوات (3603)، وابن ماجه في الأدب (3822)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[28] أخرجه البخاري في المناقب (3653)، ومسلم في فضائل الصحابة (2381)، والترمذي في التفسير (3096)، من حديث أبي بكر رضي الله عنه.

[29] أي: ارفقوا على أنفسكم.

[30] أخرجه البخاري في المغازي (4205)، ومسلم في الذكر والدعاء (2704)، وأبو داود في الصلاة (1526)، والترمذي في الدعوات (3374)، وابن ماجه في الأدب (3824).

[31] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2675)، والترمذي في الزهد (2388).

[32] أخرجه أبو داود في الصلاة (1488)، والترمذي في الدعوات (3556)، وابن ماجه في الدعاء (3865)، وقال الترمذي: «حديث حسن غريب».

[33] أخرجها أحمد (5/ 438).

[34] أخرجه أحمد (3/ 18)، وأخرج الترمذي في الدعوات (3573)- وأحمد- نحوه مختصراً (5/ 329)- عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب».

[35] أخرجه البخاري في الدعوات (6340)، ومسلم في الذكر والدعاء (2735)، وأبو داود في الصلاة (1484)، والترمذي في الدعوات (3387)، وابن ماجه في الدعاء (3853).

[36] لمسلم.

[37] أخرجه أحمد (2/ 177).

[38] أخرجه البزار- فيما ذكر ابن كثير في «تفسيره» (1/ 316).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 26-12-2022, 07:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,361
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





فوائـد وأحكـام من قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ...﴾

1 - تصدير الخطاب بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.

2 - نداء المؤمنين بوصف الإيمان تكريمًا وتشريفًا لهم، وحثًّا على الاتصاف بهذا الوصف، وأن امتثال ما بعده يعد من مقتضيات الإيمان، وعدمه يعد نقصًا في الإيمان.

3 - وجوب صيام شهر رمضان؛ لقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾.

4 - أن الصيام كتب على من كان قبلنا من الأمم من أهل الكتاب وغيرهم، والله أعلم بصفة ذلك وعدده؛ لقوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.

5 - استكمال هذه الأمة فضائل الأمم السابقة، وترغيبها في منافستهم بالأعمال؛ لقوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.

6 - أن التكاليف إذا عمت خفت؛ لقوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، ومثل ذلك المصائب.

7 - أن الحكمة من مشروعية الصيام تقوى الله - عز وجل - بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ لقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾؛ لأن الصيام مدرسة يتربى فيها المسلمون على سلوك الطريق المستقيم، والمنهج القويم، فهو من تقوى الله - عز وجل - ويربي على تقوى الله.

8 - وجوب تقوى الله عز وجل؛ لأن الله أوجب من أجلها الصيام.

9 - أن الصيام الذي فرضه الله - عز وجل - أيام قليلة معدودة محدودة؛ لقوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾.

10 - تيسير الله - عز وجل - لأحكام الشريعة الإسلامية رحمة بهذه الأمة، فالصيام أيام معدودة، والصلوات خمس صلوات في العمل وخمسون في الميزان.

11 - مراعاة الجانب النفسي في خطاب المكلفين - تخفيفًا وتسهيلًا للأمر عليهم؛ لقوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾.

12 - مراعاة الشرع لأحوال المكلفين، وأن المشقة تجلب التيسير؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.

13 - جواز الفطر في نهار رمضان للمريض والمسافر؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ تيسيرًا من الله - عز وجل - على العباد.

فالمريض إن كان يشق عليه الصوم استحب له أن يفطر أخذًا برخصة الله - عز وجل - لأن الله - عز وجل - يحب أن تؤتى رخصه[1].

فإن كان الصوم يضره وجب عليه الفطر، وحرم عليه الصوم؛ لقول الله عز وجل: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]، فإن كان الصوم لا يضره، ولا يشق عليه، فهو كالصحيح يجب عليه أن يصوم.

وأما المسافر فله الفطر مطلقًا، لكن إن كان الصوم يشق عليه مشقة شديدة فالفطر في حقه واجب؛ لما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له: إن بعض الناس قد صام، فقال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة»[2].

والعاصي: من ترك واجبًا، أو ارتكب محرمًا.

وإن كان الصوم يشق عليه مشقة غير شديدة، فالمستحب في حقه الفطر، أخذًا برخصة الله - عز وجل - ويكره له الصوم - لما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فرأى زحامًا، ورجلًا قد ظلل عليه، فسأل عنه، فقالوا: صائم، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصيام في السفر»[3].

فنفى صلى الله عليه وسلم أن يكون من البر الصيام في السفر، ولم يعتبره معصية، كما في الحالة الأولى. وقد يستدل بهذا الحديث أيضًا للحالة الأولى.

وإن كان الصوم في السفر ليس فيه مشقة، تزيد على الصوم في الحضر فالفطر جائز لعموم الآية؛ ولأن السفر مظنة المشقة، لكن المستحب في حقه الصوم، لما في ذلك من إدراك فضيلة الشهر، وكون الصيام في وقته، ولأنه أسرع لإبراء الذمة، ولأن ذلك أنشط له وأسهل لصيامه مع الناس، وأيسر عليه من القضاء.

وقد استدل لهذا بحديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، في يوم حار، حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن رواحة»[4].

قالوا: فالصوم له في هذه الحالة أفضل؛ لأنه فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.

14 - أن كل ما يسمى سفرًا يجوز فيه الفطر من غير تحديد أو تقييد بزمن أو مسافة، وذلك لإطلاق السفر في الآية. وعلى هذا فما اعتبره عرف الناس سفرًا فهو سفر طال أو قصر بدون تحديد.

وقد ذهب جمهور أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - رحمهم الله - إلى أن للسفر الذي يجوز الترخص فيه بالفطر وغيره حدًّا - بينته السنة، وأنه لا يجوز الترخص في السفر القصير.

وحدد الجمهور السفر الذي يجوز الترخص فيه بالفطر والقصر والجمع ونحو ذلك بمسيرة يومين فأكثر، أي: نحو ستة فراسخ، أي: ثمانية وأربعين ميلًا، أي: ثمانين كيلو متر[5].

15 - أن للمسافر الفطر في البلد الذي سافر إليه، ما لم يعزم على الإقامة فيه؛ لقوله تعالى: ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ، وكذا لو عزم على الإقامة فيه أربعة أيام فأقل، فإن عزم على الإقامة أكثر من ذلك فليس له الفطر عند الجمهور؛ لأنه بحكم المقيم. وذهب طائفة من أهل العلم إلى أن له الفطر، لأنه بحكم المسافر حتى يرجع.

16 - جواز الفطر والترخص بأي سفر، مهما كانت غايته سواء كان لطاعة، أو تجارة، أو سياحة، أو سفر معصية؛ لإطلاق السفر في الآية، وقيل: لا يترخص في سفر المعصية. والصحيح الجواز(2).

17 - وجوب القضاء من أيام أخر، على من أفطر في نهار رمضان بعذر المرض، أو السفر، بعدد الأيام التي أفطرها؛ لقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.

وفيه دلالة على أن الوقت فيها موسع، لكن الأفضل المبادرة بقضائها بعد رمضان، إذا زال العذر، إبراءً للذمة، فإن أخر قضاءها جاز ذلك؛ لقول عائشة رضي الله عنها: «كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فلا أقضي إلا في شعبان، وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم»[6].

فإن أخر القضاء حتى أدركه رمضان آخر فعليه مع القضاء إطعام مسكين نصف صاع من الطعام عن كل يوم، أو إطعام عدد من المساكين بعدد الأيام التي أفطر غداء أو عشاء. وقال بعض أهل العلم: لا يلزمه الإطعام.

كما أن في قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ دلالة على أنه لا يلزم في القضاء التتابع، وقيل: يجب التتابع؛ لأن القضاء يحكي الأداء. والصحيح عدم وجوب التتابع في القضاء، لكنه أفضل.

18 - أن الصيام كان أول ما شرع على التخيير، من شاء صام، ومن شاء أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكينًا؛ لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ وفي هذا تظهر حكمة التدرج في التشريع، مراعاة للمكلفين.

19 - عناية الإسلام بالمساكين والمحتاجين؛ لقوله تعالى: ﴿طَعَامُ مِسْكِينٍ.


20 - أن المجزئ في الإطعام ما يطلق عليه طعام مسكين، لإطلاق الآية في ذلك، فلو غدّى المساكين أو عشّاهم أجزأه ذلك. فقد أطعم أنس بن مالك رضي الله عنه لما كبر عامًا أو عامين كل يوم مسكينًا خبزًا ولحمًا وأفطر[7].

وفي رواية «أنه صنع جفنة من ثريد، فدعا ثلاثين مسكينًا فأطعمهم»[8].

ولو أعطى كل مسكين نصف صاع من الطعام أجزأه ذلك، كما في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له - لما تأذى من هوام رأسه وهو محرم: «احلق رأسك، وأطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع»[9].

21 - أن من عجز عن الصوم لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه فعليه الإطعام عن كل يوم مسكينًا؛ لأن الله - عز وجل - جعل الإطعام في الآية عديلًا للصيام حال التخيير بينهما؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إن هذه الآية: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يطيقان الصيام، فيطعمان عن كل يوم مسكينًا»[10].

وهكذا فعل أنس بن مالك رضي الله عنه لما كبر أطعم عن كل يوم مسكينًا - كما تقدم.

22 - الترغيب في الاستزادة من الطاعة والخير؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾.

23 - أن الصيام أفضل من الإطعام، حين التخيير بينهما؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ وهذا يدل على تفاضل الأعمال والعمال.

24 - فضل العلم الذي ينتفع به صاحبه، ويدله إلى الخير في دينه ودنياه، والحث عليه؛ لقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.

25 - أن ابتداء نزول القرآن الكريم كان في شهر رمضان؛ لقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.

26 - تعظيم شهر رمضان وامتداحه وفضله من بين الشهور، لخصوصية نزول القرآن فيه، وإيجاب صيامه.

27 - إثبات العلو المطلق لله - عز وجل - علو الذات، وعلو الصفات؛ لأنه هو الذي أنزل القرآن، والإنزال يكون من أعلى إلى أسفل.

28 - إثبات أن القرآن الكريم منزل من عند الله - عز وجل - كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، والرد على المعتزلة القائلين بخلق القرآن؛ لقوله تعالى: ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.


وقد ذهب المعتزلة إلى القول بخلق القرآن، وحصل بسبب ذلك فتنة القول بخلق القرآن، أيام خلافة المأمون، وأوذي بسبب ذلك وعذب كثير من العلماء، منهم الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - فصبر وثبت على منهج السلف، ومذهب أهل السنة، بأن القرآن منزل غير مخلوق، ولهذا صار إمام أهل السنة رحمه الله.

قال علي بن المديني: «أعز الله هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبوبكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة»[11].

29 - اشتمال القرآن الكريم على هداية جميع الناس، وإرشادهم بالآيات الواضحات، التي فيها الدلالة إلى الحق وبيانه، والتفريق بين الحق والباطل؛ لقوله تعالى: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾.

30 - تعين وجوب الصيام، وأن عدته شهر، هو شهر رمضان، فمن شهد هذا الشهر وجب عليه صيامه؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾.

وهذا ناسخ للتخيير بين الصيام والإطعام في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ كما جاء في حديث سلمة بن الأكوع وابن عمر رضي الله عنهما [12]، وغيرهما وهو من نسخ الحكم مع بقاء التلاوة[13].

31 - أن صيام شهر رمضان إنما يجب عند ثبوت دخول الشهر برؤية الهلال، أو بإكمال شعبان ثلاثين يومًا، وذلك إنما يجب على المؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾.

32 - التدرج في التشريع تخفيفًا على المكلفين، وذلك بتخييرهم بين الصيام والإطعام، في أول مشروعية الصيام، ثم نقلهم إلى وجوب وتحتم الصيام.

33 - تأكيد الرخصة للمريض والمسافر بالفطر في نهار رمضان، والقضاء، والتذكير بنعمة الله - عز وجل - وفضله في ذلك، وإزالة اللبس من أن يظن أن ذلك مما نسخ؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.

34 - إثبات الإرادة الشرعية لله - عز وجل - التي معناها المحبة؛ لقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ.

35 - أن الله - عز وجل - يريد فيما شرع من الأحكام والصيام التيسير، والتخفيف على المؤمنين، ورفع العسر والمشقة عنهم؛ ولهذا رخص للمريض والمسافر بالفطر مع القضاء؛ لقوله تعالىٰ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾.

36 - أن الله - عز وجل - أوجب صيام رمضان، وقضاء ما أفطره الصائم منه لعذر المرض والسفر من أيام أخر؛ لأجل إكمال عدة الشهر - فهذا مما أراده الله وأحبه وأمر به؛ لقوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾.

37 - مشروعية تكبير الله - عز وجل - يوم العيد وليلته، وتعظيمه - عز وجل - على هدايته وما شرعه لهذه الأمة من هذا الشرع المطهر الميسر، وتوفيقه لصيام رمضان، وإكماله؛ لقوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾.

38 - أن الله - عز وجل - شرع للمؤمنين هذا الشرع المطهر، وفرض صيام شهر رمضان على المقيم، ورخص بالفطر للمريض والمسافر - مع القضاء، وأمر عز وجل بإكمال العدة وتكبيره، كل ذلك لأجل شكره بطاعته، وامتثال أمره واجتناب نهيه؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

39 - في ذكر قوله -عز وجل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي الآية، بيَّن آيات الصيام، إشارة إلى الترغيب في الدعاء حال الصيام، وبخاصة عند الإفطار، وأن ذلك مظنة لإجابة الدعاء.

40 - تشريف الله -عز وجل - للمؤمنين وتكريمه لهم، وعنايته بهم بإضافتهم إليه -عز وجل - في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي؛ لأن المراد بهذا العبودية الخاصة، عبودية أوليائه عز وجل.

41 - إثبات قرب الله -عز وجل - من عباده المؤمنين؛ لقوله - عز وجل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ.

42 - إثبات السمع لله -عز وجل -؛ لقوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾؛ أي: أسمع وأجيب دعوة الداعي إذا دعاني، فالإجابة مستلزمة لسماع الدعاء.

43 - في وعده -عز وجل - بإجابة دعوة الداعي، وتكفله بذلك دلالة تامة على تمام قدرته، وكمال تصرفه، وعظيم جوده وكرمه.

44 - يشترط لقبول الدعاء وإجابته الاستجابة لله تعالى والإيمان به وصدق اللجوء إلىه، والإخلاص له، والثقة بوعده؛ لقوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.

45 - وجوب الانقياد لله - عز وجل - والاستجابة له، والإيمان به، وأن ذلك سبب للرشد في أمور الدين والدنيا، والسعادة في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.

[1] كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته» أخرجه أحمد (2/ 108).

[2] أخرجه مسلم في الصيام -جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية (1114)، والنسائي في الصيام (2263)، والترمذي في الصوم (710).

[3] أخرجه البخاري في الصوم (1946)، ومسلم في الصيام (1115)، والترمذي في الصوم (710).

[4] أخرجه البخاري في الصوم (1945)، ومسلم في الصيام - التخيير في الصوم والفطر في السفر (1722)، وأبو داود في الصوم (2409)، وابن ماجه في الصيام (1663).

[5] انظر: تفصيل الكلام في أحكام السفر ما يأتي في الكلام على قوله تعالى في سورة النساء: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [النساء: 101].

[6] أخرجه البخاري في الصوم (1950)، ومسلم في الصيام (1146)، وأبو داود في الصوم (2399)، والنسائي في الصيام (2319)، والترمذي في الصوم (783)، وابن ماجه (1669).

[7] ذكره البخاري - معلقًا بصيغة الجزم في تفسير - قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾؛ انظر: «فتح الباري» (8/ 179).

[8] أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده من حديث أيوب بن أبي تميمة - فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 309).

[9] أخرجه البخاري في الحج - الإطعام في الفدية نصف صاع (1814)، ومسلم في الحج - جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى (1201)، وأبو داود في المناسك (1856)، والنسائي في المناسك (2851)، والترمذي في الحج (953)، وابن ماجه في المناسك (3079).

[10] سبق تخريجه.

[11] أخرجه في «تاريخ بغد» (6/ 90), وفي «طبقات الحنابلة» (1/ 227), و«تاريخ دمشق» (5/ 28).

[12] سبق تخريجهما.

[13] انظر: «الناسخ والمنسوخ» للنحاس بتحقيقنا (1/ 502)، وانظر: «مجموع الفتاوى» (5/ 553 -555).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 26-12-2022, 07:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,361
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى:﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ.. ﴾



تفسير قوله تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187].


ســبب النــزول:
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها، وأن قيس بن صِرْمَةَ الأنصاري كان صائماً، وكان يومه ذلك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال: هل عندكم طعام؟ قالت: لا، ولكن أَنْطَلِقُ فأَطْلُبُ لك، فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته، فلما رأته نائماً قالت: خَيْبَةً لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم- فنزلت هذه الآية: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، ففرحوا بها فرحًا شديدًا»[1].

وفي رواية عن البراء: «لما نزل صوم رمضان، كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾»[2].

وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسًا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام، في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾»[3].

قوله تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ ؛ أي: أبيح لكم، والتحليل: ضد التحريم، وجاء «أحل» بالبناء لما لم يسم فاعله؛ لأن المُحل والمبيح معلوم، وهو الله عز وجل.

﴿ لَيْلَةَ الصِّيَامِ ﴾ ليلة: ظرف زمان، والمعنى: أحل لكم جميع ليالي الصيام، أي: جميع ليالي شهر رمضان، والليل يشمل ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر.

﴿ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ الرفث: الجماع، ﴿ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ أي: إلى زوجاتكم، أي: أحل لكم ليالي الصيام جماع زوجاتكم، سواء كان ذلك بعد صلاة العشاء أو قبلها، بعد النوم أو قبله.

وكان الأمر في ابتداء الإسلام، وفي أول مشروعية الصيام أنه إذا صلى أحدهم العشاء أو نام حرم عليه الأكل والشرب والجماع إلى الليلة القابلة- كما جاء في روايات سبب النزول- فشق عليهم ذلك، فرخص الله لهم بالأكل والشرب والجماع الليل كله مطلقًا.

﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ هذه الجملة تعليل لإحلال الجماع ليالي الصيام، أي: أحللنا لكم جماع زوجاتكم ليالي الصيام؛ لأنهن ﴿ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾، واللباس في الأصل ما يلبس ويستتر به، أي: لأنهن ستر لكم كاللباس، لا تستغنون عنهن، وأنتم ستر لهن كاللباس، لا يستغنين عنكم، قال الشاعر:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها
تثنت عليه فكانت لباسا[4]


فكل من الزوجين ستر للآخر، ظاهرًا وباطنًا، وسبب لتحصينه وإعفافه، أشبه باللباس الذي تستر به العورات، وينكشف عوار كل منهما بدون الآخر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج»[5].

وكل منهما سكن للآخر؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21] وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ [الأعراف: 189].

ولهذا جعل الله- عز وجل- الزواج سُنَّة من السُّنن الكونية، ورغَّب فيه بالكتاب والسنة، وجعل الرغبة عنه من الرغبة عن السنة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مظعون لما أراد التبتل، وتحريم النساء: «يا عثمان، أرغبت عن سنتي؟» قال: لا والله، يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب، قال: «فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لضيفك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، فصم وأفطر، وصل، ونم»[6].

وما حال الإنسان بلا زوج، رجلًا كان أو امرأة، إذا دخل منزله، كما يقال: «طارت العصافير في وجهه».

وهذا كناية عن الوحشة، وفقدان الأنس والسكن. وفي الحديث: «مسكين مسكين رجل ليست له امرأة, وإن كان غنيًّا من المال، ومسكينة مسكينة امرأة ليس لها زوج وإن كانت غنية من المال»[7].

﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: تخونون أنفسكم، بارتكابكم ما لا يجوز من الجماع، والأكل والشرب بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء- كما حصل من بعض الصحابة رضي الله عنهم.

وفي التعبير بقوله: ﴿ تَخْتَانُون ﴾ ما قد يشير إلى أن البعض قد يتساهلون في هذا الأمر، ويخادعون أنفسهم في هذا، أو يبررون لها.

والوقوع في المخالفة والمعصية خيانة للنفس؛ لأن نفس الإنسان وديعة عنده يجب أن يحملها على ما فيه صلاحها وسعادتها، في دينها ودنياها وأخراها، كما قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].

﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ توبة الله- عز وجل- على العباد توفيقه لهم للتوبة، وقبولها منهم، أي: فتاب الله عليكم مما وقع منكم من الخيانة لأنفسكم.

وتاب عليكم أيضًا بالتوسعة لكم، والتخفيف عنكم بنسخ المنع من الجماع، والأكل والشرب بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء، ليالي الصيام، بإباحة ذلك.

والنسخ إلى أخف توبة من الله- عز وجل- على عباده، كما قال تعالى في نسخ وجوب الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ [المجادلة: 13].

وكما قال تعالى في نسخ وجوب قيام الليل إلى استحبابه: ﴿ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ﴾ [المزمل: 20].

﴿ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾ أي: تجاوز عن عقوبتكم.

﴿ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾ الفاء: استئنافية، أي: فالآن بعد هذه الرخصة جامعوا نساءكم ليالي الصيام، وتمتعوا بما أباح الله لكم منهن، ويفهم من هذا أنه قبل ذلك لم يكن مباحًا، وهو ما دلت عليه الأحاديث في سبب النزول.

والقرآن الكريم يكني عن الجماع بالمباشرة، كما يكني عن ذلك بالملامسة والمس والإفضاء.

والأمر في الآية للإباحة؛ لأنه أمر بعد حظر، وفيه إشارة إلى أن الإنسان يؤجر في إتيان أهله.

﴿ وَابْتَغُوا ﴾ أي: اطلبوا ﴿ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ «ما» موصولة، و«كتب» بمعنى: قدر، وبمعنى «شرع»، أي: اطلبوا في جماعكم لنسائكم ما قدر الله لكم من الولد، وما شرع لكم من قضاء الوطر وإعفاف أنفسكم ونسائكم، والتقرب إلى الله- عز وجل- بذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أيكون عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»[8].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فولد بينهما ولد، لم يضره الشيطان»[9].

والمصيبة أن كثيرًا من الناس في هذا الأمر بهيمي ينزو على زوجته، كما تنزو ذكور الحيوانات على إناثها من غير استشعار لهذه المعاني.

وأيضًا: ابتغوا ما شرع الله لكم من قيام ليالي هذا الشهر، وتحري ليلة القدر، التي خصكم الله بها، والتي هي خير من ألف شهر.

﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ معطوف على قوله: ﴿ بَاشِرُوهُنَّ، والأمر فيه للإباحة- كما سبق؛ لأنه أمر بعد حظر.

﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ «حتى» لانتهاء الغاية. أي: إلى غاية أن يظهر ويتميز لكم ﴿ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ ﴾ أي: بياض النهار، ﴿ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ أي: من سواد الليل.

﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾.

ســبب النــزول:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «أنزلت: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾، ولم ينزل: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ فعلموا أنما يعني: الليل والنهار»[10].

فقوله تعالى: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ بيان للمراد بقوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ، وأن المراد به تبيُّن بياض النهار وضيائه من سواد الليل وظلمته.

كما في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ عمدت إلى عقالين، أحدهما أسود، والآخر أبيض، قال: فجعلتهما تحت وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما، فلا يتبين لي الأسود من الأبيض، ولا الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت. فقال: «إن وسادك إذًا لعريض، إنما ذلك بياض النهار، من سواد الليل»[11].

ومعنى قوله: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ؛ أي: حتى طلوع الفجر- كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعنكم أذان بلال عن سحوركم، فإنه يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر»[12].

والفجر فجران: الأول الفجر الممتد في الأفق طولًا من الشرق إلى الغرب، يسطع في الأفق كأنه ذنب السرحان[13]، وبينه وبين الأفق ظلمة، ثم يزول نوره ويظلم وهو الفجر الكاذب.

والفجر الثاني: المعترض الأحمر المستطير، الممتد في الأفق من الجنوب إلى الشمال، الذي يظهر نوره ويزداد، وهو الفجر الصادق، وهو الذي يدخل بطلوعه وقت الصلاة، ويجب الإمساك. عن قيس بن طلق عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الفجر المستطيل في الأفق، ولكنه المعترض الأحمر»[14].

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا، حتى يستطير هكذا»[15].

فأباح عز وجل الجماع ليالي الصوم والأكل والشرب حتى طلوع الفجر، وفي ذلك إشارة إلى استحباب السحور، وتأخيره، وهو ما صرحت به السنة.

فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسحروا، فإن في السحور بركة»[16].

وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر»[17].

وعن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار، وأخروا السحور»[18].

ومقتضى إباحة الجماع والأكل والشرب إلى طلوع الفجر صحة صوم من أدركه الفجر وهو جنب، كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة.

فعن أبي بكر بن عبدالرحمن، قال: كنت أنا وأبي، فذهبت معه، حتى دخلنا على عائشة رضي الله عنها قالت: «أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنبًا من جماع غير احتلام، ثم يصومه. ثم دخلنا على أم سلمة، فقالت مثل ذلك»[19].

وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال: يا رسول الله، تدركني الصلاة وأنا جنب، فأصوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب، فأصوم» فقال: لست مثلنا يا رسول الله- قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «والله، إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي»[20].

ومثل الجنب الحائض، إذا طهرت قبل الفجر فصيامها صحيح وإن لم تغتسل إلا بعد الفجر.

﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ أي: ثم أكملوا الصيام إلى دخول الليل، وذلك بغروب الشمس، فالصيام الواجب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، أي: مغيب قرصها. فإذا غاب قرصها، حل الفطر، وأفطر الصائم حكمًا.

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم»[21].

وفي قوله تعالى: ﴿ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ إشارة إلى تعجيل الفطور، كما رغبت بذلك السنة، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر»[22].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله- عز وجل: أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا»[23].

كما أن في قوله: ﴿ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ ما يدل على عدم مشروعية الوصال، كما صرحت بذلك السنة، فعن بشير بن الخصاصية رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، وقال: يفعل ذلك النصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله، وأتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا»[24].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تواصلوا، قالوا: إنك تواصل. قال: إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني. فلم ينتهوا عن الوصال، فواصل النبي صلى الله عليه وسلم بهم يومين، أو ليلتين، ثم رأوا الهلال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تأخر الهلال لزدتكم، كالمنكِّل لهم»[25].

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر...» الحديث[26].

﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ الآية.

ذكر اﷲ- عز وجل- حل مباشرة النساء ليالي الصيام، ثم أتبع ذلك بالنهي عنها حال الاعتكاف في المساجد، احترازًا من أن يظن جوازها مطلقًا حتى للمعتكف، فهذا أشبه بالاستثناء من قوله تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾.

قوله: ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ الواو: عاطفة، و«لا» ناهية، والضمير «هن» يعود إلى النساء، أي: الزوجات، أي: ولا تجامعوهن.

﴿ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ الواو: حالية، أي: حال كونكم عاكفين في المساجد.

وقوله: ﴿ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ لبيان الواقع، فالاعتكاف الشرعي لا يكون إلا في المساجد. فلا يجوز للمعتكف في المسجد في رمضان ولا في غيره جماع زوجته، ولا فعل مقدمات الجماع، لا ليلًا ولا نهارًا، ولو خرج لحاجة فليس له فعل شيء من ذلك.

أما المباشرة بمعنى لمس البشرة البشرة لمعاطاة شيء ونحو ذلك فلا حرج فيها؛ لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إليَّ رأسه، وهو معتكف، فأرجله وأنا حائض»[27].

والاعتكاف والعكوف: ملازمة الشيء، والمداومة عليه، كما قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 52]؛ أي: ملازمون لعبادتها، مديمون على ذلك.

والاعتكاف شرعًا: لزوم مسجد لطاعة الله عز وجل والتعبد له والانقطاع إليه.

ولا يصح إلا في مسجد تقام فيه صلاة الجماعة، والأفضل أن يكون مما تقام فيه الجمعة والجماعة؛ حتى لا يحتاج للخروج لصلاة الجمعة.

وفي النهي عن مباشرة النساء حال الاعتكاف في المساجد في نهاية أحكام الصيام إشارة إلى فضل الاعتكاف في رمضان، وبخاصة في العشر الأواخر منه، اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله- عز وجل- ثم اعتكف أزواجه من بعده»[28].

كما أن في ذلك إشارة أيضًا إلى أن مما يستحب للمعتكف في غير رمضان الصيام.

﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ الإشارة إلى ما سبق في الآية من إحلال الجماع والأكل والشرب ليالي الصيام، حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بطلوع الفجر الثاني، ومن ثم إتمام الصيام إلى الليل، بغروب الشمس، والنهي عن المباشرة حال الاعتكاف في المساجد.

وأشار إلى هذه الأحكام بإشارة البعيد تعظيمًا لها.

و«حدود» جمع «حد» والحد لغة: الفاصل بين شيئين، ومنه حدود الأرض، وهي مراسيمها التي تحددها وتفصل بينها.

وحدود الله تنقسم إلى قسمين: حدود أوامر وواجبات يجب فعلها، وعدم تركها، وتعديها، كما قال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة: 229].

والقسم الثاني: حدود نواه ومحرمات وممنوعات يجب تركها والبعد عنها، وعدم قربها، كما قال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾.

قوله: ﴿ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ الفاء: للتفريع، و«لا» ناهية، أي: فلا تقربوا حدود الله، ومحرماته، بل ابتعدوا عنها واجتنبوها، كما قال عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32]، وذلك لأن الوسائل لها أحكام الغايات والمقاصد، فالوسيلة المؤدية إلى المحرم محرمة، فالزنا محرم، وكذا ما يؤدي إليه من الخلوة بالأجنبية، والسفور، ونحو ذلك.

فجماع المعتكف لزوجته محرم، وكذا ما يؤدي إليه من تقبيل المعتكف لزوجته، وضمه لها، ومعانقتها ونحو ذلك.

وذلك لأن من حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان ابن بشير رضي الله عنه: «إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه»[29].

ولهذا فإن من غير الجائز شرعًا أن يخلو الرجل بامرأة أجنبية، وقد رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما»[30].

وإن من المؤسف حقًّا أن يستبيح الكثيرون الخلوة بالخادمات في بيوتهم هم وأولادهم، والخلوة بالمرأة في أماكن العمل متجاهلين حرمة هذا الأمر، وما يترتب عليه من أمور لا تحمد عقباها، وما حال هؤلاء إلا كما قيل:
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء[31]



﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ الكاف: اسم يفيد التشبيه بمعنى «مثل» في محل نصب صفة لموصوف محذوف وقع مفعولًا مطلقًا للفعل ﴿ يُبَيِّنُ ﴾.

أي: مثل ذلك البيان للآيات، في الصيام وأحكامه، وحكم الجماع والأكل والشرب ليالي الصيام، وحكم المباشرة للمعتكف وغير ذلك يبين الله- عز وجل- آياته الشرعية في سائر الأحكام للناس.

﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ «لعل» للتعليل، أي: لأجل أن يتقوا الله، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، عن علم ومعرفة وبصيرة، بأحكام الله- عز وجل- وحدوده.

أي: إن الله- عز وجل- أقام الحجة على الخلق، وأوضح المحجة بما أنزل من الآيات البينات في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ليتقوه، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 9]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44].

[1] أخرجه البخاري في الصوم- قوله تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ ﴾ (1915)، وأبو داود في الصوم- مبدأ فرض الصيام (2314)، والنسائي في الصيام- تأويل قوله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ (2168)، والترمذي في التفسير (2968)، وأحمد (4/ 295).

[2] أخرجها البخاري في التفسير، ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ ﴾ (4508).

[3] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 236)، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 317).

[4] البيت للنابغة الجعدي: انظر «شعره» ص(81)، «جامع البيان» (3/ 231)، «الشعر والشعراء» (1/ 296).

[5] سبق تخريجه.

[6] أخرجه أبوداود في الصلاة (1369)، وأحمد (6/ 268)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[7] أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1/ 163 رقم448) مرسلًا من حديث ابن أبي نجيح قال: قال رسول الله ﷺ، وكذا أخرجه الطبراني في «الأوسط» (6/ 348 رقم 6589) والبيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 337 رقم5097).

[8] أخرجه مسلم في الزكاة (1006)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

[9] أخرجه البخاري في الوضوء (141)، ومسلم في النكاح (1434)، وأبو داود في النكاح (2161)، والترمذي في النكاح (1092)، وابن ماجه في النكاح (1919).

[10] أخرجه البخاري في الصوم- قول الله: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ (1917)، ومسلم في الصيام- بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1091).

[11] أخرجه البخاري في التفسير (4509)، ومسلم في الصيام- في الباب السابق (1090)، وأبو داود في الصوم (2349)، والنسائي في الصيام (2169)، والترمذي في «تفسير القرآن» (2971).

[12] أخرجه البخاري في الصوم (1919)، ومسلم في الصيام (1092)، والنسائي في الأذان (637)، والترمذي في الصلاة (203).

[13] السرحان: الذئب.

[14] أخرجه أحمد (4/ 22) وأخرجه بمعناه أبوداود في الصوم (2348)، والترمذي في الصوم (705).

[15] أخرجه مسلم في الصيام (1094)، وأبو داود في الصوم (2346)، والنسائي في الصيام (2171)، وأحمد (5/ 7، 18).

[16] أخرجه البخاري في الصوم (2923)، ومسلم في الصيام (1095)، والنسائي في الصيام (2146)، والترمذي في الصوم (708)، وابن ماجه في الصيام (1692).

[17] أخرجه مسلم في الصيام (1096)، وأبو داود في الصوم (2343)، والنسائي في الصيام (2166)، والترمذي في الصوم (709).

[18] أخرجه أحمد (5/ 147).

[19] أخرجه البخاري في الصوم (1932)، ومسلم في الصيام (1109)، وأبو داود في الصوم (2388).

[20] أخرجه مسلم في الصيام (1110).

[21] أخرجه البخاري في الصوم- متى يحل فطر الصائم (1954)، ومسلم في الصيام- وقت انقضاء الصيام، وخروج النهار (1100)، وأبو داود في الصوم (2351)، والترمذي في الصوم (698).

[22] أخرجه البخاري في الصوم (1957)، ومسلم في الصيام (1098)، والترمذي في الصوم (699)، وابن ماجه في الصيام (1697).

[23] أخرجه الترمذي في الصوم (700)- وقال: «حديث حسن غريب».

[24] أخرجه أحمد (5/ 225).

[25] أخرجه البخاري في الاعتصام (7299)، ومسلم في الصيام (1103).

[26] أخرجه البخاري في الصوم (1963)، وأبو داود في الصوم (2361).

[27] أخرجه البخاري في الحيض (295)، ومسلم في الحيض (297)، وأبو داود في الصوم (2467)، والنسائي في الحيض (387)، والترمذي في الصوم (804)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (633).

[28] أخرجه البخاري في الاعتكاف (2026)، ومسلم في الاعتكاف (1172)، وأبو داود في الصوم (2462)، والترمذي في الصوم (590).

[29] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599)، وأبو داود في البيوع (3329)، والنسائي في البيوع (4453)، والترمذي في البيوع (1205)، وابن ماجه في الفتن (3984).

[30] ذكره الترمذي في الرضاع (1171).

[31] البيت للحلاج. انظر: «نفح الطيب» (5/ 292).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 08-01-2023, 12:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,361
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم






فوائـد وأحكـام من قوله تعالى:﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ... ﴾

الفوائد والأحكام:
1- تحريم أكل الأموال بالباطل، من أي طريق كان، سواء كان من طريق البيوع والمعاملات المحرمة، كالربا، أو من طريق الغصب والسرقة، أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188].

2- وجوب حفظ المال؛ لأن به قوام الحياة والمعاش، وهو أحد الضروريات التي جاء الدين بحفظها، وذلك بكسبه من حلال، وصرفه في وجوهه المشروعة باعتدال.

3- التنديد بمن يحتالون لأكل أموال الناس بالباطل، بالإدلاء والرفع بها إلى الحكام؛ ليجعلوهم وسيلة لأكلها، بالأيمان الفاجرة، والتلبيس عليهم، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ ﴾ [البقرة: 188].

4- تحريم الرشوة؛ لما فيها من إبطال الحق، وإظهار الباطل، والتوصل إلى أكل الأموال بغير حق.

5- أن حكم الحاكم والقاضي لا يغير الشيء في الواقع ونفس الأمر، فلا يُـحل حرامًا ولا يُـحرم حلالًا.

6- الوعيد والتهديد لمن يُقدمون على أكل أموال الناس بالباطل، بأي وسيلة، وهم يعلمون حرمتها عليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188].

7- أن من أخذ شيئًا أو حُكم له به، وهو يعتقد أنه له، فلا إثم عليه، لكن لو علم بعد ذلك أنه ليس له؛ حرم عليه أخذه ووجب عليه رده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188].

8- تحريم الوكالة والمحاماة عن شخص مبطل في دعواه؛ لأن هذا من التعاون على الإثم وأكل الأموال بالباطل- مع العلم بذلك، وهذا يحصل كثيرًا اليوم مِن بعض مَن جعلوا المحاماة وسيلة للرزق، وصار هَمّ الواحد منهم أن يكسب القضية؛ ليأخذ ما جعل له من جعل، غير مبالٍ بما ارتكبه من الحيَل والأسباب غير المشروعة للحصول على ذلك.

9- وجوب الحذر من فتنة الدنيا والمال، ومن الوقوع في الإثم والمحرم بسبب ذلك.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 08-01-2023, 12:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,361
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ... ﴾

قال الله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189].

رُويَ عن جمع من السلف: أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ[1].


قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والسائلون هم الصحابة رضي الله عنهم.

والأهلة: جمع هلال، وهو القمر عندما يظهر ويبدو أول الشهر، أي: يسألونك عن الأهلة، ما الحكمة فيها؟ بدليل الجواب، وهو قوله تعالى: ﴿ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.


أو عن سبب كون الهلال يبدو ضعيفًا ثم يأخذ في الزيادة حتى يتم، ثم يأخذ في النقص، فأجيبوا عن الحكمة في ذلك، لأنها الأهم، وهي التي يحتاجون لبيانها، كما في قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾، فأجيبوا بقوله تعالى: ﴿ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 215].

﴿ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾ الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: «هي» يعني الأهلة.

﴿ مَوَاقِيتُ﴾ جمع ميقات، من الوقت، أي: يعرف بها الناس مواقيت عباداتهم من الصيام والحج، وأوقات الزكاة، والكفارات، وعدة النساء، وغير ذلك، مما يحتاج إلى توقيت من أمور دينهم ودنياهم كوقت حلول الديون والإجارات وغير ذلك.

كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾ [الإسراء: 12].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين يومًا»[2].

﴿ والحج ﴾ أي: ومواقيت للحج، كما قال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [البقرة: 197]، وهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.

وهي أيضًا مواقيت للصيام، كما قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه ﴾ [البقرة: 185].

وخص الحج بالذكر- والله أعلم- لكثرة أشهره؛ ولأن هذه الآيات توطئة وتمهيد لذكر أشهر الحج وأحكامه.

﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.

سبب النزول:
عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: «نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا، فجاؤوا، لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قبل بابه، فكأنه عُيِّر بذلك، فنزلت: ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)»[3].


قوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ﴾ «البر» اسم «ليس» مرفوع، والباء في قوله: «بأن» زائدة من حيث الإعراب، مؤكدة من حيث المعنى للنفي، و«أن» والفعل بعدها في تأويل مصدر، في محل نصب خبر «ليس» أي: وليس البر إتيانكم البيوت من ظهورها.

و«البر» في الأصل: اسم جامع لكل خصال الخير الظاهرة والباطنة، وهو ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب.

قرأ أبو جعفر وأبو عمرو ويعقوب، وورش عن نافع، وحفص عن عاصم: ﴿ البيوت ﴾ بضم الباء، وقرأ الباقون بكسرها ﴿ البِيُوتَ ﴾ في جميع القرآن.

قوله: ﴿ مِنْ ظُهُورِهَا ﴾ «من» بيانية، و«ظهورها»: خلفها، أي: وليس البر، ولا من أعمال الخير، التي يتعبد لله - عز وجل - بها إتيان البيوت من خلفها، تسلقًا وتسورًا للجدران، كما كان يفعله كثير من أهل الجاهلية، إذا أحرموا بحج أو عمرة زعمًا منهم أنه لا يجوز للمحرم أن يدخل تحت سقف، وهذا باطل.

والمُحْرِم إنما يُمنع من تغطية رأسه بشيء مباشر، ولا يمنع من الدخول تحت سقف ونحوه، وإنما هذا من الابتداع في الدين، كما هو شعار الرافضة أخزاهم الله.

﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ﴾ قرأ نافع وابن عامر بتخفيف النون في «لكن»؛ ورفع «البرُّ» على أنها مبتدأ، وقرأ الباقون بتشديد النون ﴿ وَلَكِنَّ ﴾، ونصب ﴿ البر ﴾ على أنها اسم «لكن».

والمعنى: ولكن البار من اتقى، أو ولكن البر بر من اتقى الله، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، كما قال تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].

و«البر» يفسر بالتقوى، كما تفسر التقوى بالبر في حال انفراد كل منهما عن الآخر، لكن في حال اجتماعهما يفسر كل منهما بمعنى، كما في قوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]، فالبر هنا يراد به فعل المأمورات، والتقوى ترك المنهيات.

﴿ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾، لمَّا بين - عز وجل - أنه ليس من البر إتيان البيوت من ظهورها أتبع ذلك بالأمر بإتيان البيوت من أبوابها كما هو المعتاد؛ لأنه الأيسر، إذ لا فائدة في إتيانها من ظهورها، وليس فيه سوى المشقة.

وكما ينبغي إتيان البيوت من أبوابها ومداخلها المعروفة؛ لأنه الأيسر والأصلح، وهو المعتاد، فكذلك ينبغي إتيان كل أمر من الأمور من بابه المناسب الموصل إليه، بأقرب وأيسر طريق.

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، إذ إن هذا هو حقيقة البر.


﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي: لأجل أن تفلحوا، وتفوزوا وتحصلوا على المطلوب، وهي الجنة غاية المطالب، وتنجوا من المرهوب، وهي النار، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].

المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»

[1] انظر: «جامع البيان» (3/ 280- 282).

[2] أخرجه عبدالرزاق في المصنف، والحاكم في المستدرك، وقال: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه»، وأخرجه أحمد (4/ 23)، من حديث قيس بن طلق عن أبيه رضي الله عنه، وروي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورُويَ من كلام علي رضي الله عنه؛ انظر: «تفسير ابن كثير» (1/ 326).

[3] أخرجه البخاري في الحج قول الله تعالى: ﴿ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ [البقرة: 189] (1803)، ومسلم في «التفسير» (3026).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 08-01-2023, 12:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,361
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ... ﴾

1- حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم، ومعرفة أمور دينهم ودنياهم، لقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ﴾.
مع أدبهم رضي الله عنهم؛ ولهذا لم يسألوا إلا عما يعنيهم في ذلك في بضع عشرة مسألة.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ما رأيت قومًا خيرًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن»[1].

2- علم الله- عز وجل- المحيط بكل شيء، وسمعه الواسع لجميع الأصوات؛ لقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ﴾.

3- تشريف الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم وتكريمه بخطابه - عز وجل - له.

4- ينبغي التوجه بالسؤال في الأمور الشرعية للرسل عليهم الصلاة والسلام في حياتهم، ولورثتهم بعد وفاتهم وهم العلماء الربانيون، كما قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنبياء: 7].

5- أن معرفة الحكمة من جعل الأهلة أهم من معرفة ماهيتها، ولهذا سأل الصحابة رضي الله عنهم عنها فأجيبوا عن ذلك، أو أنهم سألوا عن ماهيتها فأجيبوا عن الحكمة فيها؛ لأنها أهم.

6- تولي الله عز وجل الإجابة عن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189].


وهذا دليل على عنايته - عز وجل - به صلى الله عليه وسلم ورحمته به وبأمَّته، كما أن فيه ردًّا على مَن يزعمون تقوّله للقرآن من عند نفسه.

7- أن الحكمة من الأهلة أنها مواقيت للناس، يعرفون بها شهر صومهم وأشهر حجهم، وعدة نسائهم، وحلول ديونهم، وغير ذلك مما يحتاج إلى توقيت من أمور دينهم ودنياهم؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾.

8- أن الأصل التوقيت بالأهلة «أي: بالأشهر القمرية»؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾، وهو التوقيت الشرعي الذي ينبغي أن يتميز به المسلمون ويعملوا به.

9- أن الحج مُوَقت بالأهلة والأشهر؛ لقوله تعالى: ﴿ والحج ﴾، كما قال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [البقرة: 197].

10- أنه ليس من أعمال البر التي يُتعبد لله- عز وجل- بها إتيان البيوت من ظهورها، تسورًا وتسلقًا، كما كان يعتقد ذلك أهل الجاهلية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا[البقرة: 189].


11- ليس من محظورات الإحرام التي تحرم على المحرم الدخول مع الأبواب، أو تحت سقف، وإنما المحظور عليه تغطية الرأس مباشرة.

12- أن حقيقة البر: تقوى الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى[البقرة: 189].


13- كما ينبغي إتيان البيوت السكنية من أبوابها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة: 189]، كذلك ينبغي إتيان الأمور المعنوية من أبوابها المناسبة.

14- وجوب تقوى الله - عز وجل - وتأكيد ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾.

15- أن تقوى الله- عز وجل- سبب للفلاح والسعادة في الدنيا، والفوز بالجنة، والنجاة من النار في الأخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[البقرة: 189].
* * *

[1] أخرجه البزار- فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 219).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 19-01-2023, 07:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,361
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله


وسميت هذه الأشهر بالأشهر الحرم؛ لأن الله حرم فيها القتال، والاعتداء والظلم، كما قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 217]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ ﴾ [المائدة: 2]، وقال تعالى: ﴿ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36].

﴿ بالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ الباء: للتعويض، كما يقال: صاعًا بصاع، أي: أنه لما منعكم المشركون من دخول مكة في الشهر الحرام «ذي القعدة» سنة ست من الهجرة، قاضاكم الله بالدخول من قابل، سنة سبع من الهجرة في «ذي القعدة» أي: هذا بهذا.

وفي هذا تطييب لقلوب الصحابة رضي الله عنهم بتمام نسكهم.

ويحتمل أن المعنى: إذا قاتلكم الكفار في الشهر الحرام، فقاتلوهم فيه، أو إن قاتلتموهم في الشهر الحرام فقد قاتلوكم فيه، وهم المعتدون، فلا حرج عليكم في قتالهم فيه.

عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى، أو يغزو فإذا حضر أقام حتى ينسلخ»[15].

﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ معطوف على ما قبله، من عطف العام على الخاص.

والحرمات: جمع حرمة، وهي كل ما يجب احترامه، من زمان أو مكان أو أشخاص أو منافع أو أعيان، ومنها حرمة الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام، وحرمة المسلم والذمي، والمعاهد والمستأمن.

والمعنى: أن هذه الحرمات إذا انتهك شيء منها أو اعتدي عليه يقتص من المعتدي بمثله، فمن قاتل في الشهر الحرام قوتل في الشهر الحرام، ومن اعتدى في الحرم اقتص منه في الحرم، ومن اعتدى على مسلم أو ذمي ونحوه في بدنه أو عرضه أو ماله اقتص منه، وهكذا.

ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية أن عثمان رضي الله عنه قد قتل- وكان بعثه برسالة إلى قريش ليبلغهم أنه صلى الله عليه وسلم ما جاء لقتال- بايع أصحابه تحت الشجرة وكانوا ألفًا وأربعمائة على قتال المشركين، وعدم الفرار، فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك، وتم الصلح بينه وبينهم.

﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ الفاء عاطفة، تفيد التفريع، و«من» شرطية، والفاء في قوله: ﴿ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ﴾ رابطة لجواب الشرط، لأنه جملة طلبية، وهذه الآية توكيد وتقوية لقوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾، والاعتداء مجاوزة الحد، أي: فمن اعتدى عليكم من الكفار بقتال، أو قتل، أو انتهاك عرض، أو سلب مال، أو غير ذلك.

﴿ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ الباء للمقابلة، والبدل، و«ما» مصدرية أو موصولة، أي: فخذوا حقكم منه بمثل اعتدائه عليكم، أو بمثل الذي اعتدى عليكم به، في هيئته وفي كيفيته، وفي زمانه، وفي مكانه، وغير ذلك، سواء بقتال أو قتل، أو غير ذلك، في الشهر الحرام، أو البلد الحرام، أو حال الإحرام، أو غير ذلك.

وسمى أخذهم بحقهم اعتداء؛ لأن سببه الاعتداء عليهم، وأيضًا من باب المجانسة والمشاكلة اللفظية، كما في قوله تعالى: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [النحل: 126]، وقوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40].

والأمر في قوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ للإباحة، بدليل قوله تعالى في آخر آية سورة النحل المذكورة: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، وقوله تعالى في آخر آية سورة الشورى المذكورة: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40]، وقوله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة: 237]، إلى غير ذلك.

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ومن ذلك عدم القتال في الشهر الحرام، والبلد الحرام، ما لم يعتد عليكم فيهما، وعدم تجاوز الحد في القصاص ممن اعتدى، وعدم الاعتداء على من لم يعتد.

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ الأمر للوجوب، أي: يجب أن تعلموا علم يقين أن الله عز وجل مع المتقين خاصة بنصره وعونه، وتأييده وتوفيقه؛ ليحملكم ذلك على تقوى الله عز وجل كما أنه عز وجل مع المتقين، ومع جميع خلقه بإحاطته بهم، علمًا وسمعًا وبصرًا وقدرة، وغير ذلك من معاني ربوبيته- عز وجل- العامة لجميع خلقه.

قوله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾.

سبب النزول:
عن أسلم أبي عمران قال: «حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكه، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما أنزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجيًا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره، حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين، والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا، فنقيم فيهما، فنزل فينا: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾، فكانت التهلكة: الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد»[16].

قوله: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الإنفاق: إخراج المال وبذله، والأمر للوجوب.

﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ أي: في الجهاد لإعلاء كلمة الله- عز وجل- وذلك بتجهيز الغزاة والمجاهدين في سبيل الله، وهذا من الجهاد بالمال الذي قد يكون أهم وأوجب من الجهاد بالنفس؛ ولهذا يقدم في الذكر في القرآن غالبًا على الجهاد بالنفس، وجعله الله أحد مصارف الزكاة الثمانية.

وفي الحديث: «من جهز غازيًا فقد غزا»[17]، ولما جهز عثمان رضي الله عنه جيش العسرة ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها قال صلى الله عليه وسلم: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم، يرددها مرارًا»[18].

كما يشمل الأمر بالإنفاق في سبيل الله جميع وجوه البر الواجبة من إخراج الزكاة والنفقات الواجبة والكفارات والصدقات والنفقات المستحبة في وجوه الخير كلها، فكل ذلك في سبيل الله عز وجل.

﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ الواو: عاطفة، و«لا» ناهية؛ أي: ولا تلقوا بأنفسكم وتفضوا بها إلى الهلكة، أو إلى الهلاك، والإلقاء بالأيدي إلى التهلكة معناه: الإلقاء بالنفس، وإنما يعبر بالأيدي وباليدين وباليد ونحو ذلك عن النفس، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [الأنفال: 51]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ [النبأ: 40].

كما يعبر بالوجه عن الذات كلها، كما قال عز وجل: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 27].

ولا يقال في مثل هذه الإطلاقات: إنها من المجاز، بل هي من الحقيقة، والسياق يدل على هذا.

والتعبير بالإلقاء فيه إشارة إلى إذلال من سلك هذا المسلك لنفسه، وهوانها عليه، فألقاها من غير اعتبار لها ولا مبالاة بها، وإذا هانت على المرء نفسه فمن ذا الذي يكرمها ويعزها، قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها»[19].

وقد أحسن القائل:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها
هوانًا بها كانت على الناس أهونا[20]



وقال الآخر:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام[21]


والتهلكة والهلكة والهلاك نوعان: هلاك حسي بالموت، كما في قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ﴾ [غافر: 34].

وهلاك معنوي: بالكفر والمعاصي، وترك الجهاد والإنفاق في سبيل الله والعمل للآخرة، والتعرض لعذاب الله، والحرمان من ثوابه. وهذا أشد وأعظم.

وهذا هو المراد بالتهلكة في الآية، كما قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه في سبب نزول الآية: «فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد».

وكما قال البراء بن عازب رضي الله عنه: «ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب، فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب»[22].

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: «التهلكة عذاب الله»[23].

قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم»[24].

وهذا هو الهلاك الحقيقي؛ لما في ذلك من التعرض لعذاب الله- عز وجل- ودخول النار، والحرمان من ثوابه وجنته، وذلك حسب كبر الذنب وصغره، وكون صاحبه يخلد في النار أو لا يخلد.

كما قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].

وهذا الهلاك هو الذي عناه الصحابي الجليل سلمة بن صخر رضي الله عنه لما وقع على امرأته في نهار رمضان، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فزعًا مرعوبًا يقول: «يا رسول الله، هلكت وأهلكت». قال صلى الله عليه وسلم: «وما أهلكك؟» قال: «يا رسول الله، وقعت على امرأتي، وأنا صائم»[25].

ولا يمتنع أن يشمل النهي في الآية أيضًا: المعنى الأول وهو التسبب لإهلاك النفس بالموت، بقتل الإنسان نفسه، بأي سبب من الأسباب؛ لأن النفس وديعة عند الإنسان، يجب عليه المحافظة عليها، وحملها على ما فيه سلامتها في دينها ودنياها، والنَّأيُ بها عن مواقع الزلل والخطر.

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سُمًّا، فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا»[26].

ومن أسباب قتل النفس المحقق: استعمال المخدرات والدخان، كما ثبت ذلك من خلال الطب والإحصائيات المتزايدة للوفيات بسبب ذلك.

ولا يدخل في قتل النفس المبارزة في جهاد الكفار، ولا ما فيه إظهار شجاعة المسلمين وقوتهم، كأن ينغمر المجاهد في صفوف الكفار، ويحمل عليهم؛ ليريهم قوة المسلمين وشجاعتهم، وليرهبهم ويرعبهم، كما حصل هذا من أحد الصحابة المهاجرين في القسطنطينية- كما جاء في سبب النزول.

وعن أبي إسحاق السبيعي قال: قال رجل للبراء بن عازب: «إن حملت على العدو وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟ قال: لا. قال الله لرسوله: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ﴾ [النساء: 84]، إنما هذا في النفقة».

وفي رواية: «ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب، فيلقي بيده إلى التهلكة، ولا يتوب». وفي رواية عنه: «التهلكة: أن يذنب الرجل الذنب فيقول: لا يغفر الله لي»[27].

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}: «ليس في القتال، ولكن حبسك النفقة في سبيل الله؛ لأنه عرضة تهلكة»[28].

وإذا كان دخول المجاهد بين صفوف الكفار، وحمله عليهم جائزًا؛ لإظهار قوة المسلمين وشجاعتهم وإرهاب الكفار وإرعابهم، فليس من الجائز أن يفجر الإنسان نفسه ليقتل غيره، وربما من غير المقاتلين ومن النساء والصبيان، كما هو واقع من يفعلون هذا، فهذا من الانتحار وقتل النفس بغير حق.

وفرقٌ بين من يدخل في صفوف الكفار، فيَقْتُلُ من استطاع منهم- مع احتمال أن ينجو بنفسه، وبين من يقتل نفسه لعل أحدًا منهم أن يموت معه، فهذا ليس من الجهاد في شيء، بل من قتل النفس والانتحار، وقد قال الله- عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء: 29].

وهذا تشويه لمفهوم الجهاد في الإسلام، بل تشويه للإسلام وأحكامه، وخروج عما كلف الله به، وعلى تحريم هذا عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا، وليس مع من يرى جواز ذلك دليل ولا تعليل صحيح؛ ولهذا لا يجوز أن يُفتى الناس بذلك ويُغرر بهم.

قوله: ﴿ وَأَحْسِنُوا ﴾ من عطف العام على الخاص؛ لأن الأمر بالإحسان أعم من الأمر بالإنفاق؛ لأن الإحسان يشمل الإنفاق وغيره، كما يشمل الإحسان بفعل الواجب والمستحب.

وقد يحمل الأمر بالإنفاق على الواجب، ويحمل الأمر بالإحسان على المستحب، والأول أعم وأولى.

أي: وأحسنوا في عبادة الله- عز وجل- إخلاصًا لله- عز وجل- ومتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال- عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]، وقال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّه ﴾ [البقرة: 112]؛ أي: أخلص العمل لله- عز وجل- وهو محسن باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»[29].

فالذي عبَد الله كأنه يراه قد غلّب جانب الرجاء والرغبة فيما عند الله.

والذي عبَد الله لأن الله يراه، قد غلّب جانب الخوف من الله.

والمرتبة الأولى أكمل من المرتبة الثانية.

وأَحْسِنوا أيضًا: إلى خلق الله بأداء حقوقهم الواجبة والمستحبة، وبذل المعروف، وكف الأذى، ومعاملتكم للناس بما تحبون أن تعاملوا به.

ولا يطلب من العبد غير هذين الأمرين: الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى عباد الله. ولهذا قال- عز وجل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ هذا تعليل للأمر بالإحسان، أي: إن اﷲ يحب المحسنين بنوعي الإحسان: الإحسان في عبادته- عز وجل- والإحسان إلى عباده.

وفي هذا إثبات صفة المحبة لله- عز وجل- والحض على الإحسان بنوعيه، والترغيب فيه، ويفهم من هذا أنه- عز وجل- لا يحب الذين لا يحسنون بل يبغضهم.

[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7458)، ومسلم في الإمارة (1904)، وأبوداود في الجهاد (2517)، والنسائي في الجهاد (3136)، والترمذي في فضائل الجهاد (1646)، وابن ماجه في الجهاد (2783)، من حديث أبي موسى h.

[2] أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1731)، وأبو داود في الجهاد (2613)، والترمذي في السير (1617)، وابن ماجه في الجهاد (2858).

[3] أخرجه أحمد (1/ 300).

[4] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3014)، ومسلم في الجهاد والسير (1744)، وأبو داود في الجهاد (2668)، والترمذي في السير (1569)، وابن ماجه في الجهاد (2841).

[5] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 291)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 325).

[6] أخرجه البخاري في الفتن (7084)، ومسلم في الإمارة (1847)، وابن ماجه في الفتن (3979)، من حديث حذيفة رضي الله عنه.

[7] أخرجه البخاري في الحج (1834)، ومسلم في الحج (1353)، وأبو داود في المناسك (2017)، والنسائي في مناسك الحج (2892)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[8] أخرجه مسلم في الإيمان (121).

[9] أخرجه البخاري في التفسير- قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ (4515).

[10] أخرجه البخاري في التفسير- قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ (4515).

[11] أخرجه البخاري في الإيمان (25)، ومسلم في الإيمان (22).

[12] سبق تخريجه.

[13] انظر: «جامع البيان» (3/ 304- 309).

[14] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3197)، وفي التفسير (4662)، ومسلم في القسامة (1679)، وأبو داود في المناسك (1947)، وابن ماجه في المقدمة (233)، وأحمد (5/ 37).

[15] أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» رقم (388)، وأحمد (2/ 334)، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (1/ 535- الأثر 93) وإسناده صحيح.

[16] أخرجه أبو داود في الجهاد (2512)، والترمذي في تفسير سورة البقرة (2972)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 322- 323)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 330)، والحاكم (2/ 84، 275)، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب»، وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».

[17] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2843)، ومسلم في الإمارة (1895)، وأبو داود في الجهاد (2509)، والنسائي في الجهاد (3180)، والترمذي في فضائل الجهاد (1628)، وابن ماجه في الجهاد (2759)، من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه.

[18] أخرجه أحمد (5/ 63)، والترمذي في المناقب (3701)، من حديث عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه، وقال: «حديث حسن غريب».

[19] أخرجه مسلم في الطهارة (223)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

[20] البيت مجهول النسبة. انظر: «الدر الفريد» (2/ 367).

[21] البيت للمتنبي. انظر: «ديوانه» (4/ 94).

[22] سيأتي تخريجه بتمامه.

[23] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 325).

[24] أخرجه أبو داود في البيوع (3462)، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.

[25] أخرجه البخاري في الصوم (1936)، ومسلم في الصيام (1111)، وأبو داود في الصوم (2390)، والترمذي في الصوم (724)، وابن ماجه في الصيام (1671)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[26] أخرجه البخاري في الطب (5778)، ومسلم في الإيمان (109)، وأبو داود في الطب (3872)، والنسائي في الجنائز (1965)، والترمذي في الطب (2043)، وابن ماجه في الطب (3460).

[27] أخرج هذا الأثر برواياته الطبري في «جامع البيان» (3/ 319- 320). وانظر: «تفسير ابن أبي حاتم» (1/ 332).

[28] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 318).

[29] أخرجه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4991)، وابن ماجه في المقدمة (64)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 19-01-2023, 07:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,361
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ... ﴾

فوائد وأحكام من قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 190 - 195].

1- وجوب قتال الكفار الذين يقاتلون المؤمنين؛ صيانة للدين، وحماية لحرمات المسلمين، ودفاعًا عنها، وقد يكون ذلك وجوبًا عينيًّا أو على الكفاية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾.

2- يجب أن يكون القتال لإعلاء كلمة الله- عز وجل- ووفق شرعه؛ لقوله تعالى: ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.

3- تهييج المسلمين وتحريضهم على قتال الكفار؛ لقوله تعالى:﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾.

4- أن الجزاء من جنس العمل، وكما يدين المرء يدان؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾.

5- النهي عن الاعتداء بقتل من لم يقاتل، أو بقتل النساء والصبيان ونحوهم، أو أخذ أموالهم أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾.

6- عدل الدين الإسلامي حتى مع غير المسلمين في حال السلم والحرب.

7- نفي محبة الله- عز وجل- للمعتدين؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، ويفهم من هذا إثبات محبة الله- عز وجل- لغير المعتدين على ما يليق بجلاله وعظمته.

8- وجوب قتل الكفار الذين يقاتلوننا في أي مكان وزمان وجدناهم وظفرنا بهم باستثناء المسجد الحرام، فلا يجوز قتالهم فيه، واستثناء الأشهر الحرم ذي القعدة، وذي الحجة، ومحرم، ورجب، فلا يجوز قتلهم ولا قتالهم فيها إلا إن قاتلوا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ الآية.

9- تحريض المسلمين على إخراج الكفار كما أخرجوهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾.

وفي هذا إشارة إلى أن الأحق في الخلافة في الأرض هم المسلمون، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128].

وقال تعالى: ﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 27]، وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [النور: 55].

10- أن الفتنة في الدين بالكفر والشرك، والصد عن سبيل الله أشد وأعظم من القتل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾.

وهذا يؤكد وجوب قتال الكفار وقتلهم حتى لا تكون فتنة، كما قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 193]، وقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39].

وقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله- عز وجل»[1].

11- تحريم ابتداء القتال عند المسجد الحرام، وداخل الحرم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ وذلك تعظيم لحرمة الحرم، قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا البلد حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة...» الحديث[2].

12- جواز قتل الكفار وقتالهم في الحرم إذا ابتدؤوا هم بالقتال، دفعًا لشرهم، وحفاظًا على الدين وحرمات المسلمين؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾، ولمنطوق قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾.

13- أن جزاء الكافرين المقاتلين للمسلمين في الحرم وغيره قتلهم في الدنيا مع ما لهم في الآخرة من العذاب الأليم في النار؛ لقوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾.

14- وجوب الكف عن قتال الكفار إذا انتهوا عما هم عليه من الكفر وقتال المؤمنين والصد عن دين الله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وهذا يدل على كمال عدل الإسلام.

15- مغفرة الله- عز وجل- ورحمته لمن تابوا من الكفر والصد عن دينه وقتال أوليائه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
وهذا يدل على عظيم فضل الله- عز وجل- وأنه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره.

16- إثبات صفة المغفرة الواسعة لله- عز وجل- وصفة الرحمة الواسعة له سبحانه وتعالى.

17- أن التخلية قبل التحلية، فبالتخلية زوال المرهوب، وبالتحلية حصول المطلوب، لهذا قدم المغفرة على الرحمة.

18- وجوب مقاتلة الكفار حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]..

والقتال في الأصل فرض كفاية، ويتعين في حالات، منها ما يلي:
الحالة الأولى: إذا حضر صف القتال، فإنه يكون في حقه فرض عين، ولا يجوز له أن ينصرف؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الأنفال: 15، 16].

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].

الحالة الثانية: إذا استنفر الإمام المسلمين، فإنه يجب ويتعين الخروج على كل أحد؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ﴾ [التوبة: 38، 39].

الحالة الثالثة: إذا حاصر العدو البلد، فإنه يتعين القتال على جميع أهل البلد، لفك الحصار عنه، والحفاظ على حرمات المسلمين، والدفاع عنها.

19- أن الهدف والغاية من قتال الكفار حتى لا توجد فتنة بالكفر والشرك والصد عن دين الله، وأن يكون دين الله غالبًا ظاهرًا على جميع الأديان بدخول الناس فيه، وأداء الجزية ممن امتنع عن الدخول في الإسلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾.

20- يجب أن يكون الدين كله لله- عز وجل- وحده- عبادة وطاعة وانقيادًا له، وتحكيمًا لشرعه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾.

21- إذا انتهى الكفار عما هم عليه من الكفر والصد عن دين الله وقتال المسلمين والظلم وجب الكف عنهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ وقتالهم في هذه الحال من العدوان عليهم، والظلم لهم.

22- أن المقاتلة لا تجوز إلا للمعتدين الظالمين مجازاة لهم على ظلمهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾.

23- وجوب احترام الأشهر الحرم وتعظيمها؛ لقوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾.

24- جواز القتال في الأشهر الحرم إذا ابتدأ المشركون القتال للمسلمين فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾.

وقيل: بجواز القتال في الأشهر الحرم مطلقًا، وأن المنع من ذلك منسوخ بآيات القتال. وسيأتي تفصيل القول في هذا عند قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 217].

25- تطييب قلوب الصحابة رضي الله عنهم لما صدهم المشركون عام الحديبية، سنة ست من الهجرة في ذي القعدة بتمكينهم من دخول مكة، وأداء العمرة سنة سبع في شهر ذي القعدة مقاضاة لهم، ولهذا سميت عمرة القضاء.

26- أن الحرمات قصاص فمن انتهك حرمة من الحرمات، في الوقت أو المكان، أو في الأنفس والأعراض والأموال، أو غير ذلك، انتهكت حرمته واقتص منه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾.

27- يجب أن يكون القصاص من المعتدي بمثل اعتدائه، من غير زيادة؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾.

28- وجوب تقوى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ومن ذلك العدل مع المسلمين وغيرهم في السلم والحرب؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾.

29- إثبات معية الله- عز وجل- الخاصة للمتقين بتوفيقهم ونصرهم وحفظهم وتأييدهم وغير ذلك، ووجوب العلم بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾.

30- شرف التقوى وفضلها، وأن فيها، وفي العلم أنه- عز وجل- مع المتقين- أعظم معين على كمال التوكل عليه- عز وجل- والثقة بوعده ونصره.

31- وجوب الإنفاق في سبيل الله، في الجهاد، وغير ذلك من وجوه الإنفاق الواجبة، من الزكاة وغيرها من النفقات، والترغيب في الصدقات والنفقات المستحبة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.

32- وجوب الإخلاص في الإنفاق، وفي غير ذلك من الأعمال لله تعالى، وأن تكون وفق شرعه- عز وجل- لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.

33- تحريم الإلقاء بالنفس إلى التهلكة في أمر دينها ودنياها؛ لأن النفس وديعة عند الإنسان يجب أن يحملها على ما فيه صلاحها في دينها ودنياها، فلا يعرضها لعذاب الله تعالى، وعقوبته، ولا لما فيه ضرر عليها في دنياها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾.

34- أن الانشغال بالأموال والأولاد والحروث والزروع وترك الجهاد في سبيل الله هو عين التهلكة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾.

35- أن الهلاك الحقيقي هو الهلاك في الدين، بالوقوع بالشرك والمعاصي.

36- وجوب الإحسان في عبادة الله عز وجل؛ إخلاصًا لله- عز وجل- ومتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، والإحسان إلى عباد الله بأداء حقوقهم الواجبة واستحباب الإحسان بفعل النوافل والصدقات وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَحْسِنُوا ﴾.

37- محبة الله- عز وجل- للمحسنين؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾، وفي هذا إثبات صفة المحبة لله- عز وجل- والترغيب في الإحسان.

38- عدم محبة الله- عز وجل- للمسيئين وغير المحسنين؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾.

39- الترغيب في الجمع بين أداء الواجبات، من العبادات والنفقات وغير ذلك، وبين فعل المستحبات من ذلك وغيره؛ لأن الله- عز وجل- أمر بالإنفاق، وأتبعه بالأمر بالإحسان.

[1] سبق تخريجه.

[2] سبق تخريجه بتمامه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 345.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 339.86 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.69%)]