تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 48 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 909 - عددالزوار : 120165 )           »          التنمر الإلكترونى عبر الإنترنت.. إحصاءات وحقائق هامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          طرق مهمة للتعامل لحماية الأطفال من مخاطر الإنترنت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          علماء الفلك يحذرون من احتمال بنسبة 50% لاصطدام مجرتنا مع أخرى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          احم طفلك.. ألعاب إلكترونية ونهايات مأساوية أبرزها الحوت الأزرق وبابجى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          كيفية جعل أيقونات الشاشة الرئيسية لجهاز أيفون داكنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          كيفية تحويل ملف Word إلى PDF فى 3 خطوات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          كل ما تريد معرفته عن روبوت لوحى من أبل يشبه ايباد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          سلسلة Google Pixel 9.. ما تقدمه الهواتف المستخدمة للذكاء الاصطناعى مقابل السعر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          تطبيق رسائل جوجل يحصل على بعض التعديلات قريباً.. تعرف عليها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21-11-2024, 04:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النُّورِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4515 الى صـ 4515
الحلقة (471)




القول في تأويل قوله تعالى :

[27 - 28] يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم .

يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا أي : تستعلموا وتستكشفوا الحال . هل يراد دخولكم أم لا ؟ من (الاستئناس ) وهو الاستعلام . من (آنس الشيء ) إذا أبصره ظاهرا مكشوفا . أو المعنى : حتى يؤذن لكم فتستأنسوا . من (الاستئناس ) الذي هو خلاف الاستيحاش . لما أن المستأذن مستوحش من خفاء الحال عليه ، فيكون عبر بالشيء عما هو لازم له ، مجازا أو استعارة . وجوز أن يكون من (الإنس ) والمعنى : حتى تعلموا هل فيها إنسان ؟ وتسلموا على أهلها أي : ليؤمنهم عما يوحشهم : ذلكم أي : الاستئذان والتسليم : خير لكم أي : من الدخول بغتة : لعلكم تذكرون أي : فتتعظوا وتعملوا بموجبه .

فإن لم تجدوا فيها أحدا أي : من الآذنين : فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم أي : واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم . ويحتمل : فإن لم تجدوا فيها أحدا من أهلها ، ولكم فيها حاجة ، فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها .

قال الزمخشري : وذلك لأن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الداخل على عورة ، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط ، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ، ولأنه تصرف في ملك غيرك . فلا بد من أن يكون برضاه ، وإلا أشبه الغصب والتغلب . انتهى .

[ ص: 4502 ] وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا أي : إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع ، سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أو لا ، كالنساء والولدان ، فارجعوا ولا تلحوا بتكرير الاستئذان ، لأن هذا مما يجلب الكراهة في قلوب الناس ، ولذا قال تعالى : هو أي : الرجوع : أزكى لكم أي : أطهر مما لا يخلو عنه الإلحاح والوقوف على الأبواب ، من دنس الدناءة . وأنمى لمحبتكم .

قال الزمخشري : وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة ، وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف ، والتصييح بصاحب الدار ، وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس .

لطيفة :

قال ابن كثير : قال قتادة : قال بعض المهاجرين : لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها : أن أستأذن على بعض إخواني ، فيقول لي : ارجع . فأرجع وأنا مغتبط . انتهى والله بما تعملون عليم أي : فيجزيكم على نيتكم الحسنة ، في الزيارة ، أو المكر والخيانة بأهل المزور أو ماله .

تنبيه :

قال السيوطي في (" الإكليل " ) : في هذه الآية وجوب الاستئذان عند دخول بيت الغير ، ووجوب الرجوع إذا لم يؤذن له ، وتحريم الدخول إذا لم يكن فيها أحد . ويستفاد من هذا تحريم دخول ملك الغير ، والكون فيه ، وشغله بغير إذن صاحبه فيدخل تحته من المسائل والفروع ما لا يحصى . واستدل بالآية الأكثر على الجمع بين الاستئذان والسلام . والأقل على تقديم الاستئذان على السلام بتقديمه في الآية . وأجاب الأكثرون ، بأن الواو لا تفيد ترتيبا ، واستدل بها من قال : له الزيادة في الاستئذان على ثلاث ، حتى يؤذن له أو يصرح بالمنع ، وفهم من الآية أن الرجل لا يستأذن عند دخول بيته على امرأته . انتهى .

[ ص: 4503 ] وقال ابن كثير : ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره ، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن ، فحذقته بحصاة ، ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح » وأخرج الجماعة عن جابر قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي . فدققت الباب ، فقال : « من ذا » فقلت : أنا قال : « أنا ، أنا » كأنه كرهه . وإنما كرهه ، لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها ، حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها . وإلا فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا فلا يحصل به المقصود الاستئذان ، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية . وعن ابن مسعود قال : عليكم الإذن على أمهاتكم . وعن طاوس قال : ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم . وكان يشدد النكير في ذلك . وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا . قال ابن كثير : وهذا محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ، ولا يفاجئها به ، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها . وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة ، فانتهى إلى الباب ، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه . ولهذا جاء في الصحيحعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا .

[ ص: 4504 ] ثم بين تعالى ما رخص فيه عدم الاستئذان ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[29] ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون .

ليس عليكم جناح أن تدخلوا أي : بغير استئذان : بيوتا غير مسكونة أي : غير معدة لسكنى طائفة مخصوصة ، بل ليتمتع بها كائنا من كان ، كالخانات والحمامات وبيوت الضيافات : فيها متاع لكم أي : منفعة وحاجة : والله يعلم ما تبدون وما تكتمون وعيد لمن يدخل مدخلا من هذه المداخل ، لفساد أو اطلاع على عورات . أفاده أبو السعود .

ثم أرشد سبحانه إلى آداب عظيمة تتناول المستأذنين عند دخولهم وغيرهم ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[30] قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون .

قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم أي : مقتضى إيمانكم الغض عما حرم الله تعالى النظر إليه : ويحفظوا فروجهم أي : عن الإفضاء بها إلى محرم ، أو عن الإبداء والكشف : ذلك أي : الغض والحفظ : أزكى لهم أي : أطهر للنفس وأتقى للدين : إن الله خبير بما يصنعون أي : بأفعالهم وأحوالهم . وكيف يجيلون أبصارهم ، وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم . فعليهم ، إذ عرفوا ذلك ، أن يكونوا منه على تقوى وحذر ، في كل حركة وسكون . أفاده الزمخشري .

[ ص: 4505 ] تنبيهات :

الأول : قال السيوطي في (" الإكليل " ) : في الآية تحريم النظر إلى النساء وعورات الرجال وتحريم كشفها . أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية : كل شيء في القرآن من (حفظ الفرج ) فهو من الزنى ، إلا هذه الآية والتي بعدها ، فهو أن لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة . انتهى .

وليس بمتعين . وعليه فيكون النهي عن الزنى يعلم منه بطريق الأولى . أو الحفظ عن الإبداء يستلزم الحفظ عن الإفضاء .

الثاني : إن قيل : لم أتى بـ(من ) التبعيضية في غض الأبصار وقيدها به دون حفظ الفروج ؟ مع أنه غير مطلق ومقيد في قوله تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم لأن المستثنى في الحفظ هو الأزواج والسراري ، وهو قليل بالنسبة لما عداه . فجعل كالعدم ولم يقيد به . مع أنه معلوم من الآية الأخرى . بخلاف ما يطلق فيه البصر ، فإنه يباح في أكثر الأشياء ، إلا نظر ما حرم عن قصد . فقيد (الغض به ) ومدخول (من ) التبعيضية ينبغي أن يكون أقل من الباقي . وقيل : إن الغض والحفظ عن الأجانب . وبعض الغض ممنوع بالنسبة إليهم ، وبعضه جائز : بخلاف الحفظ فلا وجه لدخول (من ) فيه . كذا في (" العناية " ) .

الثالث : سر تقديم غض الأبصار على حفظ الفروج ، هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور ، كما قال الحماسي :


وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما ، أتعبتك المناظر


[ ص: 4506 ] ولأن البلوى فيه أشد وأكثر . ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه . فبودر إلى منعه . ولأنه يتقدم الفجور في الواقع ، فجعل النظم على وفقه .

الرابع : غض البصر من أجل الأدوية لعلاج أمراض القلوب . وفيه حسم لمادتها قبل حصولها . فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس . ومن أطلق لحظاته ، دامت حسراته .


كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر


قال الإمام ابن القيم رحمه الله في " الجواب الشافي " : في غض البصر عدة منافع :

أحدها : امتثال أمر الله هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده . وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك و تعالى . وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة . إلا بامتثال أوامر ربه . وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره .

الثاني : أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه ، إلى قلبه .

الثالث : أنه يورث القلب أنسا بالله وجمعية على الله ، فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده من الله ، وليس على العبد شيء أضر من إلى إطلاق البصر . فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه .

الرابع : أنه يقوي القلب ويفرحه . كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه .

الخامس : أنه يكسب القلب نورا . كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة ، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر . فقال : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ثم قال إثر ذلك : الله نور السماوات والأرض أي : مثل نوره في قلب عبده المؤمن ، الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه . وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب ، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان . فما شئت من بدعة وضلالة ، واتباع هوى واجتناب هدى ، وإعراض عن أسباب السعادة ، واشتغال [ ص: 4507 ] بأسباب الشقاوة . فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب . فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حناديس الظلام .

السادس : أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل والصادق والكاذب . وكان شاه بن شجاع الكرماني يقول : من عمر ظاهره باتباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات ، واعتاد أكل الحلال - لم تخطئ له فراسة .

وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة ، والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله . ومن ترك شيئا لله عوضه خيرا منه ، فإذا غض بصره عن محارم الله ، عوضه بأن يطلق بصيرته عوضا عن حبسه بصره لله . ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة ، والفراسة الصادقة المصيبة التي ، إنما تنال ببصيرة القلب . وضد هذا مما وصف الله به اللوطية من العمه الذي هو ضد البصيرة . فقال تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل ، والعمه هو فساد البصيرة ، فالتعلق بالصور يوجب إفساد العقل ، وعمه البصيرة يسكر القلب ، كما قال القائل :


سكران : سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من به سكران ؟


وقال الآخر :


قالوا : جننت بمن تهوى فقلت لهم : العشق أعظم مما بالمجانين


العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين


السابع : أنه يورث القلب ثباتا وشجاعة وقوة . ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة ، وسلطان القدرة والقوة ، كما في الأثر : (الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ) . وضد هذا تجده في المتبع هواه ، من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها . [ ص: 4508 ] وما جعل الله سبحانه فيمن عصاه . كما قال الحسن : إنهم وإن طقطقت بهم البغال ، وهملجت بهم البراذين ، فإن المعصية لا تفارق رقابهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه . وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته . والذل قرين معصيته ، فقال تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وقال تعالى : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين والإيمان قول وعمل ظاهر وباطن . وقال تعالى : من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه أي : من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله وذكره ، من الكلم الطيب ، والعلم الصالح . وفي دعاء القنوت : إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت . ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه . وله من العز بحسب طاعته ، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه . وله من الذل بحسب معصيته .

الثامن : أنه يسد على الشيطان مدخله من القلب . فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي ، فيمثل له صورة المنظور إليه ، يزينها ويجعلها صنما يعكف عليه القلب ، ثم يعده ويمنيه . ويوقد على القلب نار الشهوة ، ويلقي عليه حطب المعاصي ، التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة . فيصير القلب في اللهب ، فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار ، وتلك الزفرات والحرقات . فإن القلب قد أحاطت به نيران بكل جانب . فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور ، ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة ، أن جعل لهم في البرزخ تنور من نار ، وأودعت أرواحهم فيه ، إلى حشر أجسادهم ، كما أراها الله نبيه صلى الله عليه وسلم في المنام في الحديث المتفق على صحته .

[ ص: 4509 ] التاسع : أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها . وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول عليه بينه وبينها . فتنفرط عليه أموره ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن أمر ربه ، قال تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه .

العاشر : أن بين العين والقلب منفذا وطريقا يوجب انفعال أحدهما عن الآخر . وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده . فإذا فسد القلب فسد النظر . وإذا فسد النظر فسد القلب . وكذلك في جانب الصلاح . فإذا خربت العين وفسدت ، خرب القلب وفسد ، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ . فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه . وإنما يسكن فيه أضداد ذلك . فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر ، تطلعك على ما وراءها . انتهى .

ثم أمر الله تعالى النساء بما أمر به الرجال . وزاد في أمرهن ، ما فرضه من رفض حالة الجاهلية المألوفة قبل لهن ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[31] وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم [ ص: 4510 ] ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون .

وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن أي : بالتستر والتصون عن الزنى كما تقدم . قال الزمخشري : النساء مأمورات أيضا بغض الأبصار . ولا يحل للمرأة أن تنظر إلى الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبته . وإن اشتهت غضت بصرها رأسا . ولا تنظر من المرأة إلا إلى مثل ذلك . وغض بصرها من الأجانب أصلا ، أولى بها وأحسن . ومنه حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة . فأقبل ابن أم مكتوم . وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب . فدخل علينا . فقال : « احتجبا » . فقلنا : يا رسول الله ! أليس أعمى لا يبصرنا ! قال : « أفعمياوان أنتما ؟ ألستما تبصرانه ؟ » وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال الزمخشري : الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب . فما كان ظاهرا منها ، كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب ، فلا بأس بإبدائه للأجانب . وما خفي منها كالسوار والخلخال ، والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط ، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين . وذكر الزينة دون مواقعها ، للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر . لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد ، لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء . وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن . فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل لها لملابستها تلك المواقع ، بدليل أن النظر لها غير ملابسة لها ، لا مقال في حله - كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر ثابت القدم في الحرمة ، شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها.

[ ص: 4511 ] (فإن قلت ) : لم سومح مطلقا في الزينة الظاهرة ؟ قلت : لأن سترها فيه حرج . فإن المرأة لا تجد بدا من مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة إلى كشف وجهها ، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح . وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها . وخاصة الفقيرات منهن . وهذا معنى قوله تعالى : إلا ما ظهر منها يعني : إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره ، والأصل فيه الظهور . انتهى .

وقال السيوطي في (" الإكليل " ) : فسر ابن عباس قوله تعالى : إلا ما ظهر منها بالوجه والكفين ، كما أخرجه ابن أبي حاتم . فاستدل به من أباح النظر إلى وجه المرأة وكفيها ، حيث لا فتنة . ومن قال : إن عورتها ما عداهما . وفسره ابن مسعود بالثياب ، وفسر الزينة بالخاتم والسوار والقرط والقلادة والخلخال . أخرجه ابن أبي حاتم أيضا . فهو دليل لمن لم يجز النظر إلى شيء من بدنها ، وجعلها كلها عورة : وليضربن بخمرهن على جيوبهن أي : وليسترن بمقانعهن ، شعورهن وأعناقهن وقرطهن وصدورهن ، بإلقائها على جيوبهن أي : مواضعها ، وهي النحر والصدر .

قال الزمخشري : كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها . وكن يسدلن الخمر من ورائهن ، فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها . ويجوز أن يراد بالجيوب الصدور ، تسمية بما يليها ويلابسها ، ومنه قولهم : (ناصح الجيب ) .

لطيفة :

قال أبو حيان : عدي (يضربن ) بـ(على ) لتضمنه معنى الوضع . وجعله الراغب مما يتعدى بها دون تضمين . و(الخمر ) : جمع خمار يقال (لغة ) لما يستر به . وخصصه العرف بما تغطي به المرأة رأسها . ومنه (اختمرت ) المرأة و(تخمرت ) . و(الجيب ) ما جيب ، أي : قطع من أعلى القميص . وهو ما يسميه العامة طوقا . وأما إطلاقه على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها ، فليس من كلام العرب . كما ذكره ابن تيمية . كذا في (" العناية " ) ثم كرر النهي عن [ ص: 4512 ] إبداء الزينة لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه ، باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور ، بقوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أي : فإنهم المقصودون بالزينة . ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج . لكن بكراهة على المشهور .

وقال الإمام أبو الحسن بن القطان في كتاب (" إحكام النظر " ) : عن أصبغ ، لا بأس به ، وليس بمكروه . وروي عن مالك لا بأس أن ينظر إلى الفرج في الجماع . ثم ذكرنا أن ما روي من أن ذلك يورث العمى ، فحديث لا يصح . لأن فيه (بقية) وقد قالوا (بقية أحاديثه غير نقية ) ولم يؤثر عن العرب كراهة ذلك . وللنابغة والأعشى وأبي عبيدة وابن ميادة وعبد بني الحساس والفرزدق ، في ذلك ما هو معروف .

وقوله تعالى : أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أي : لأن هؤلاء محارمهن الذين تؤمن الفتنة من قبلهم . فإن آباءهن أولياؤهن الذي يحفظونهن عما يسوءهن . وآباء بعولتهن يحفظون على أبنائهن ما يسوءهم . وأبناؤهن شأنهم خدمة الأمهات ، وهم منهن . وأبناء بعولتهن شأنهم خدمة الآباء وخدمة أحبابهم . وإخوانهن هم الأولياء بعد الآباء . وبنوهم أولياء بعدهم . وكذا بنو أخواتهن ، هم كبني إخوانهن في القرابة فيتعيرون بنسبة السوء إلى الخالة . تعيرهم بنسبته إلى العمة . هذا ما أشار له المهايمي .

وأجمل ذلك الزمخشري بقوله : وإنما سومح في الزينة الخفية أولئك المذكورون ، لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالفتهم . ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفرة عن ممارسة القرائب . وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك . وقوله تعالى : أو نسائهن قيل : هن المؤمنات . أخذا من الإضافة . فليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية . وقيل : النساء كلهن . فإنهن سواء في حل نظر بعضهن إلى بعض .

قال في (" الإكليل " ) : فيه إباحة نظر المرأة إلى المرأة كمحرم . وروى ابن أبي حاتم عن عطاء ; [ ص: 4513 ] أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما قدموا بيت المقدس ، كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات .

وقال الرازي : القول الثاني هو المذهب وقول السلف الأول محمول على الاستحباب والأولى .

وقوله تعالى : أو ما ملكت أيمانهن أي : لاحتياجهن إليهم . فلو منع دخولهم عليهن اضطررن . قاله المهايمي . وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء . وإليه ذهب قوم . قالوا : لا بأس عليهن في أن يظهرن لعبيدهن من زينتهن ما يظهرن لذوي محارمهن . واحتجوا أيضا بما رواه أبو داود عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها . قال : وعلى فاطمة ثوب ، إذا قنعت به رأسها ، لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها ، لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : « إنه ليس عليك بأس . إنما هو أبوك وغلامك » .

وجاء في (" تاريخ ابن عساكر " ) أن عبد الله بن مسعدة كان أسود شديد الأدمة . وقد كان وهبه النبي صلوات الله عليه لابنته فاطمة . فربته ثم أعتقته ، ثم كان ، بعد مع معاوية على علي . نقله ابن كثير ، فاحتمل أن يكون هو هو . والله أعلم .

وذهب قوم إلى أنه بذلك الإماء المشركات ، وأنه يجوز لها أن تظهر زينتها إليهن وإن كن مشركات . قالوا : وسر إفراد الإماء مع شموله قوله : أو نسائهن لهن الإعلام بأن المراد من في صحبتهن من الحرائر والإماء لظهور الإضافة في نسائهن بالحرائر . كقوله : شهيدين من رجالكم فعطفن عليهن ليشاركنهن في إباحة النظر عليهن ، والقول الأول أقوى . لأن الأصل هو العمل بالعام حتى يقوم دليل على تخصيصه . لا سيما والحكمة ظاهرة فيه وهي رفع الحرج . وهذا الذي قطع به الشافعي وجمهور أصحابه .

قال في (" الإكليل " ) : وعلى الأول استدل بإضافة اليمين على أنه ليس لعبد الزوج النظر . [ ص: 4514 ] واستدل من أباحه بقراءة : أو ما ملكت أيمانكم

وقوله : أو التابعين أي : الخدام لأنهن في معنى العبيد : غير أولي الإربة أي : الحاجة إلى نساء : من الرجال كالشيخ الهرم والبله واستدل بهذا من أباح نظر الخصي . وقوله تعالى : أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء أي : لم يفهموا أحوالهن ، لصغرهم . فيستدل به على تحريم نظر المراهق الذي فهم ذلك كالبالغ . كما في (" الإكليل " ) .

قال الزمخشري : (يظهروا ) إما من (ظهر على الشيء ) إذا اطلع عليه ، أي : لا يعرفون ما العورة ، ولا يميزون بينها وبين غيرها . وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على القرآن أخذه وأطاقه أي : لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء . و(الطفل ) مفرد وضع موضع الجمع بقرينة وصفه بالجمع . ومثله (الحاج ) بمعنى : الحجاج . وقال الراغب : إنه يقع على الجمع .

تنبيه :

قال السيوطي في (" الإكليل " ) : استدل بعضهم بقوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا إلخ على أنه لا يباح النظر للعم والخال ، لعدم ذكرهما في الآية . أخرج ابن المنذر عن الشعبي وعكرمة ، قالا : لم يذكر العم والخال لأنهما ينعتان لأبنائهما ، ولا تضع خمارها عند العم والخال .

وقال الرازي : القول الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر . وهو قول الحسن البصري . قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب . وقال في سورة الأحزاب : لا جناح عليهن في آبائهن الآية ، ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم . وقد ذكروا ها هنا . وقد يذكر البعض لينبه على الجملة .

ثم قال : في قول الشعبي من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر .

[ ص: 4515 ] ثم أشار تعالى إلى أن الزينة ، كما يجب إخفاؤها عن البصر ، يجب عن السمع ، إن كانت مما تؤثر فيه ميلا ، بقوله سبحانه :

ولا يضربن بأرجلهن أي : الأرض : ليعلم ما يخفين أي : عن الأبصار : من زينتهن كالخلخال . وهذا نهي عن ما كان يفعله بعضهن . وذلك من ضرب أرجلهن الأرض ليتحرك خلخالهن فيعلم أنهن متحلين به . فإن ذلك مما يورث الرجال ميلا إليهن ، ويوهم أن لهن ميلا إليهم .

قال الزمخشري : وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي ، علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ . قيل : وإذا نهي عن استماع صوت حليهن . فعن استماع صوتهن بالطريق الأولى . وهذا سد لباب المحرمات ، وتعليم للأحواض الأحسن ، لا سيما في مظان الريب وما يكون ذريعة إليها .

تنبيه :

قال ابن كثير : يدخل في هذا النهي كل شيء من زينتها كان مستورا ، فتحركت بحركة ، لتظهر ما خفي منها . ومن ذلك ما ورد من نهيها عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليشم الرجال طيبها . فروى الترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كل عين زانية . والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا » . يعني زانية .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 21-11-2024, 04:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النُّورِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4516 الى صـ 4530
الحلقة (472)





قال : ومن الباب عن أبي هريرة . وهذا حديث حسن صحيح . ورواه أبو داود والنسائي . وروى الترمذي أيضا عن ميمونة بنت سعد ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الرافلة في الزينة في غير أهلها ، كمثل ظلمة يوم القيامة ، لا نور لها » . ومن ذلك أيضا ، نهيهن من المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج . فروى أبو داود عن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد ، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء : « استأخرن ، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق . عليكن بحافات الطريق » . فكانت المرأة تلصق بالجدار ، حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به . وقوله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون أي : ارجعوا إليه بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه ، فإن مقتضى إيمانكم ذلك : لعلكم تفلحون أي : لكي تفوزوا بسعادة الدارين . ولما زجر تعالى عن السفاح ومباديه القريبة والبعيدة ، أمر بالنكاح . فإنه ، مع كونه مقصودا بالذات من حيث كونه مناطا لبقاء النوع ، خير مزجرة عن ذلك . فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[32] وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم .

وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم أي : زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر ، ومن كان فيه صلاح غلمانكم وجواريكم ، والخطاب للأولياء والسادات ، و(الأيامى ) : جمع أيم . من لا زوجة له أو لا زوج لها . يكون للرجل والمرأة يقال : آم وآمت وتأيما ، إذا لم يتزوجا ، بكرين كانا أو ثيبين .

قال أبو السعود : واعتبار الصلاح في الأرقاء ، لأن من لا صلاح له منهم ، بمعزل من أن يكون خليقا بأن يعتني مولاه بشأنه ، ويشفق عليه ، ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بد منه شرعا وعادة ، من بذل المال والمنافع . بل حقه ألا يستبقيه عنده . وأما عدم اعتبار الصلاح [ ص: 4517 ] في الأحرار والحرائر ، فلأن الغالب فيهم الصلاح . على أنهم مستبدون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم . فإذا عزموا النكاح ، فلا بد من مساعدة الأولياء لهم ; إذ ليس عليهم في ذلك غرامة ، حتى يعتبر في مقابلتها غنيمة عائدة إليهم . عاجلة أو آجلة : وقيل : المراد هو الصلاح للنكاح والقيام بحقوقه . وقوله تعالى : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله إزاحة لما عسى يكون وازعا من النكاح من فقر أحد الجانبين . أي : لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة . فإن في فضل الله عز وجل غنية عن المال . فإنه غاد ورائح . يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب . أو وعد منه سبحانه بالإغناء . لكنه مشروط بالمشيئة . كما في قوله تعالى : وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء والله واسع عليم أي : غني ذو سعة ، لا يرزؤه إغناء الخلائق ، إذ لا نفاذ لنعمته ولا غاية لقدرته { عليم } يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة . انتهى كلام أبي مسعود .

تنبيهات :

الأول : الأمر في الآية للندب . لما علم من أن النكاح أمر مندوب إليه . وقد يكون للوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة ذلك .

وفي (" الإكليل " ) : استدل الشافعي بالأمر على اعتبار الولي . لأن الخطاب له ، وعدم استقلال المرأة بالنكاح . واستدل بعموم الآية من أباح نكاح الإماء بلا شرط ، ونكاح العبدة الحرة . واستدل بها من قال بإجبار السيد على نكاح عبده وأمته .

الثاني : قدمنا أن قوله تعالى : يغنهم الله من فضله مشروط بالمشيئة . فلا يقال إنه تعالى لا يخلف الميعاد ، وكم من متزوج فقير . والتقيد بالمشيئة بدليل سمعي ، وهو الآية المتقدمة . أو إشارة قوله تعالى : { عليم حكيم } لأن مآله إلى المشيئة . أو عقلي وهو أن الحكيم لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة .

[ ص: 4518 ] قال الناصر في (" الانتصاف " ) : ولقائل أن يقول : إذا كانت المشيئة هي المعتبرة في غنى المتزوج ، فهي أيضا المعتبرة في غنى الأعزب ، فما وجه ربط وعد الغنى بالنكاح ، مع أن حال الناكح منقسم في الغنى على حسب المشيئة . فمن مستغن به ، ومن فقير ، كما أن حال غير الناكح منقسم ؟ .

فالجواب ، وبالله التوفيق : إن فائدة ربط الغنى بالنكاح ، أنه قد ركز في الطباع السكون إلى الأسباب والاعتماد عليها ، والغفلة عن المسبب ، جل وعلا . حتى غلب الوهم على العقل فخيل أن كثرة العيال سبب يوجب الفقر حتما ، وعدمها سبب يوجب توفير المال جزما . وأن كل واحد من هذين السببين غير مؤثر فيما ربطه الوهم به . فأريد قلع هذا الخيال المتمكن من الطبع ، بالإيذان بأن الله تعالى قد يوفر المال وينميه ، مع كثرة العيال التي هي سبب من الأوهام ، لنفاد المال . وقد يقدر الإملاق مع عدمه ، الذي هو سبب في الإكثار عند الأوهام . والواقع يشهد لذلك بلا مراء . فدل ذلك قطعا على أن الأسباب التي يتوهمها البشر ، مرتبطات بمسبباتها ، ارتباطا لا ينفك - ليست على ما يزعمونه . وإنما يقدر الغنى والفقر مسبب الأسباب . غير موقوف تقدير ذاك إلا على مشيئة خاصة . وحينئذ لا ينفر العاقل المتيقظ من النكاح . لأنه قد استقر عنده أن لا أثر له في الإقتار . وأن الله تعالى لا يمنعه ذلك من إغنائه ، ولا يؤثر أيضا الخلو عن النكاح لأجل التوفير ، لأنه قد استقر أن لا أثر له فيه ، وأن الله تعالى لا يمنعه مانع أن يقتر عليه . وأن العبد إن تعاطى سببا فلا يكن ناظرا إليه ، ولكن إلى مشيئة الله تعالى وتقدس . فمعنى قوله حينئذ : إن يكونوا فقراء الآية ، أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله . فعبر عن نفي كونه مانعا ، من الغنى ، بوجوده معه . ولا يبطل المانعية إلا وجود ما يتوهم ممنوعا مع ما يتوهم مانعا ولو في صورة من الصور على أثر ذلك . فمن هذا الوادي أمثال قوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض فإن ظاهر [ ص: 4519 ] الأمر طلب الانتشار عند انقضاء الصلاة، وليس ذلك بمراد حقيقة . ولكن الغرض تحقيق زوال المانع وهو الصلاة ، وبيان أن الصلاة متى قضيت ، فلا مانع . فعبر عن نفي المانع بالانتشار ، بما يفهم تقاضي الانتشار مبالغة في تحقيق المعنى عند السامع . والله أعلم .

فتأمل هذا الفصل واتخذه عضدا حيث الحاجة إليه . انتهى .

الثالثة : (" في الإكليل " ) : استدل بعضهم بهذه الآية على أنه لا يفسخ النكاح بالعجز عن النفقة ، لأنه قال : يغنهم الله ولم يفرق بينهم .

ثم أرشد تعالى العاجزين عن أسباب النكاح ، إلى ما هو أولى لهم ، بعد بيان جواز مناكحة الفقراء ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[33] وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم .

وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله أي : وليجتهد في العفة الذين لا يجدون نكاحا ، أي : أسبابه ، أو استطاعة نكاح أي : تزوج . فهو على المجاز ، أو تقدير المضاف . أو المراد (بالنكاح ) : ما ينكح به .

قال الشهاب : فإن (فعالا ) يكون صفة بمعنى مفعول . ككتاب بمعنى مكتوب . واسم آلة كركاب لما يركب به . وهو كثير . كما نص عليه أهل اللغة . وقوله تعالى : حتى يغنيهم الله من فضله ترجية للمستعفين وتقدمة وعد بالتفضيل عليهم بالغنى ، ليكون انتظار ذلك [ ص: 4520 ] وتأميله ، لطفا لهم في استعفافهم ، وربطا على قلوبهم . وليظهر بذلك أن فضله أولى بالأعفاء . وأدنى من الصلحاء . وما أحسن ما رتب هذه الأوامر . حيث أمر أولا بما يعصم من الفتنة ، ويبعد من مواقعة المعصية ، وهو غض البصر ، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ، وقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام . ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء ، وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح ، إلى أن يرزق القدرة عليه . أفاده الزمخشري .

تنبيه :

قال في (" الإكليل " ) : في الآية استحباب الصبر عن النكاح لمن لا يقدر على مؤنته . واستدل بعضهم بهذه الآية على بطلان نكاح المتعة .

ولما أمر تعالى للسادة بتزويج الصالحين من عبيدهم وإمائهم ، مع الرق ، رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ، ليصيروا أحرارا ; فيتصرفوا في أنفسهم كالأحرار ، فقال تعالى : والذين يبتغون الكتاب أي : الكتابة : مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم حرصا على تحريرهم الذي هو الأصل فيهم ، وحبا بتحقيق المساواة في الأخوة الجنسية . والمكاتبة أن يقول السيد : كاتبتك . أي : جعلت عتقك مكتوبا على نفسي ، بمال كذا تؤديه في نجوم كذا . ويقبل العبد ذلك ، فيصير مالكا لمكاسبه ولما يوهب له ، وإنما وجب معه الإمهال ، لأن الكسب لا يتصور بدونه . واشترط النجوم لئلا تخلو تلك المدة عن الخدمة وعوضها جميعا . وقوله تعالى : إن علمتم فيهم خيرا أي : كالأمانة ، لئلا يؤدوا النجوم من المال المسروق . والقدرة على الكسب والصلاح ، فلا يؤذي أحدا بعد العتق . وقوله تعالى : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم أمر للموالي ببذل شيء من أموالهم . وفي حكمه ، حط شيء من مال الكتابة . ولغيرهم بإعطائهم من الزكاة إعانة لهم على تحريرهم .

تنبيه :

قال في (" الإكليل " ) : في الآية مشروعية الكتابة . وأنها مستحبة . وقال أهل الظاهر : [ ص: 4521 ] واجبة لظاهر الآية . وأن لندبها أو وجوبها ، شرطين : طلب العبد لها وعلم الخير فيه وفسره مجاهد وغيره بالمال والحرفة والوفاء والصدق والأمانة .

ثم نهى تعالى عن إكراه الجواري على الزنى كما اعتادوه في الجاهلية ، بقوله سبحانه : ولا تكرهوا فتياتكم أي : إماءكم ، فإنه يكنى بالفتى والفتاة ، عن العبد والأمة ، وفي الحديث : « ليقل أحدكم : فتاي وفتاتي ، ولا يقل . عبدي وأمتي » وقوله تعالى : على البغاء أي : الزنى . يقال : بغت بغيا وبغاء ، إذا عهرت . وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها . وقوله تعالى : إن أردن تحصنا ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنى ، وإخراج ما عداها من حكمه ، بل للمحافظة على عادتهم المستمرة ، حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه ، مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور ، وقصورهن في معرفة الأمور ، الداعية إلى المحاسن ، الزاجرة عن تعاطي القبائح ، انتهى كلام أبي السعود . أي : وحينئذ فلا مفهوم للشرط ، وهذا كجواب بعضهم : إن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن . والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب . كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق . ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق ، لا جرم لم يكن لقوله تعالى : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به مفهوم . ومن هذا القبيل قوله : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا والقصر لا يختص بحال الخوف . ولكنه سبحانه أجراه على سبيل الغالب . فكذا ها هنا انتهى .

قال أبو سعود : وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا عليه من القبائح ، ما لا يخفى . فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه حرمه من إمائه ، وفضلا [ ص: 4522 ] عن أمرهن به ، أو إكراههن عليه . لا سيما عند إرادتهن التعفف . وإيثار كلمة إن على (إذا ) مع تحقق الإرادة في مورد النص حتما ، للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه ، عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك . فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع ؟ وقوله تعالى : لتبتغوا عرض الحياة الدنيا قيد للإكراه ، لكن لا باعتبار أنه مدار للنهي عنه ، بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم ، كما قبله جيء به تشنيعا لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير ، لأجل النزر الحقير . أي : لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال ، الوشيك الاضمحلال . يعني من كسبهن وأولادهن .

وقوله تعالى : ومن يكرهن جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل به ببيان خلاص المكرهات عن عقوبة المكره عليه عبارة ، ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارة ، أي : ومن يكرهن على ما ذكر من البغاء فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم أي : لهن . كما وقع في مصحف ابن مسعود . وعليه قراءة ابن عباس رضي الله عنهم . وكما ينبئ عنه قوله تعالى : من بعد إكراههن أي كونهن مكرهات . على أن الإكراه مصدر من المبني للمفعول فإن توسيطه بين اسم (إن ) وخبرها ، للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة . وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى ، إذا قرأ هذه الآية يقول : لهن ، والله ! لهن ، والله ! وفي تخصيصهما (بهن ) وتعيين مدارهما ، مع سبق ذكر المكرهين أيضا في الشرطية ، دلالة بينة على كونهم محرومين منهما بالكلية ، كأنه قيل : لا للمكره . ولظهور هذا التقدير ، اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط . فتجويز تعلقهما بهم بشرط التوبة استقلالا ، أو معهن ، إخلال بجزالة النظم الجليل ، وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل . وحاجتهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم ، إما باعتبار أنهن وإن كن مكرهات ، لا يخلون في تضاعيف الزنى عن شائبة مطاوعة ما يحكم الجبلة البشرية . وإما باعتبار أن الإكراه قد يكون قاصرا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار بالمرة . وإما لغاية تهويل أمر الزنى ، وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه ، والتشديد في تحذير المكرهين ، ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة ، لولا أن تداركهن [ ص: 4523 ] المغفرة والرحمة ، مع قيام العذر في حقهن . فما حال من يكرهن في استحقاق العذاب ؟ انتهى كلام أبي السعود وقد أجاد في تحقيق المرام رحمه الله تعالى .

تنبيه :

قال في (" الإكليل " ) : في الآية النهي عن إكراه الإماء على الزنى . وأن المكره غير مكلف ولا آثم . وأن الإكراه على الزنى يتصور . وإن مهر البغي حرام . وفيه رد على من أوجب الحد على المكره له .

ثم حذر سبحانه من مخالفة ما نهى عنه ، مما بينه أشد البيان ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[34] ولقد أنـزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين .

ولقد أنـزلنا إليكم آيات مبينات أي : واضحات أو مفسرات لكل ما تهم حاجتكم إليه من عبادات ومعاملات وآداب . ومنه ما ذكر قبل ، من النهي عن الإكراه . فلا يخفى المراد منها : ومثلا من الذين خلوا من قبلكم أي : خبرا عظيما عن الأمم الماضية وما حل بهم ، بظلمهم وتعديهم حدود الله : وموعظة للمتقين أي : فيتعظون به وينزجرون عما لا ينبغي لهم . كما قال تعالى : فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين أي : عبرة يعتبرون بها . وإيثار المتقين لحث المخاطبين على الانتظام في سلكهم ، فإنهم الفائزون . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[35] الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة [ ص: 4524 ] مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم .

الله نور السماوات والأرض أي : منورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار . فهو مجاز من إطلاق الأثر على مؤثره . كما يطلق السبب على مسببه . أو مدبرهما ، من قولهم للرئيس الفائق في التدبير : (نور القوم ) لأنهم يهتدون به في الأمور فيكون مجازا . أو استعارة استعير (النور ) بمعنى : المنور ، للمدبر ، لعلاقة المشابهة في حصول الاهتداء . أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره - كما قاله الغزالي - فيكون أطلق عليه تعالى مجازا مرسلا باعتبار لازم معناه .

قال أبو السعود : وعبر عن المنور بالنور ، تنبيها على قوة التنوير وشدة التأثير . وإيذانا بأنه تعالى ظاهر بذاته ، وكل ما سواه ظاهر بإظهاره . كما أن النور نير بذاته وما عداه مستنير به . وأضيف النور إلى : السماوات والأرض للدلالة على سعة إشراقه . أو المراد بهما العالم كله : مثل نوره أي : صفة نوره العجيبة الشأن . قال أبو السعود : أي : نوره الفائض منه تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن المبين . كما يعرب عنه ما قبله من وصف آياته بالإنزال والتبيين . وقد صرح بكونه نورا أيضا في قوله تعالى : وأنـزلنا إليكم نورا مبينا وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما ، والحسن ، وزيد بن أسلم رحمهم الله تعالى : كمشكاة أي : كصفة كوة - طاقة - غير نافذة في الجدار ، في الإنارة والتنوير : فيها مصباح أي : سراج ضخم ثاقب - شديد الإضاءة - وقيل : المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل ، والمصباح الفتيلة المشتعلة : المصباح في زجاجة أي : قنديل من الزجاج الصافي الأزهر : الزجاجة كأنها كوكب دري أي : متلألئ وقاد شبيه بالدر في صفائه وزهرته : يوقد من شجرة مباركة أي : كثيرة المنافع ، بأن رويت فتيلته بزيتها : زيتونة لا شرقية ولا غربية [ ص: 4525 ] أي لا شرقية تقع عليها الشمس وقت الشروق فقط ، ولا غربية تقع عليها عند الغروب . ولا تصيبها في الغداة بل في مكان عليها الشمس مشرقة من أول طلوعها إلى آخر غروبها . كصحراء أو رأس جبل . فزيتها أضوأ : يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار أي : يكاد يضيء بنفسه من غير نار لصفائه ولمعانه : نور على نور أي : ذلك النور الذي عبر به عن القرآن ، ومثلت صفته العجيبة بما فضل عن صفة المشكاة . نور عظيم كائن على نور كذلك . فـ(نور ) خبر مبتدأ محذوف ، والجار متعلق بمحذوف صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة ، والجملة فذلكة للتمثيل ، وتصريح لما حصل منه ، وتمهيد لما يعقبه . وليس معنى : نور على نور نور واحد فوق آخر مثله ، ولا مجموع نورين اثنين فقط ، بل هو عبارة عن نور متضاعف كتضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر . فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة ، كان أضوأ له وأجمع لنوره . بخلاف المكان الواسع ، فإن الضوء ينبث فيه وينتشر . والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة . وكذلك الزيت وصفاؤه . وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقا ، مرتبة أخرى عادة يهدي الله لنوره من يشاء أي : لهذا النور الثاقب العظيم الشأن ، بأن يوفقهم للإيمان به وفهم دلائل حقيته .

قال أبو السعود : وإظهاره في مقام الإضمار . لزيادة تقريره ، وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عز وجل : ويضرب الله الأمثال للناس أي : ليدنو لهم المعقول من المحسوس ، توضيحا وبيانا . ولذلك مثل نوره المعبر عنه بالقرآن ، بنور المشكاة : والله بكل شيء عليم أي : فلا يخفى عليه شيء وفيه وعد ووعيد . لأن علمه تعالى ، عبارة عن مجازاته في أمثال هذه الآي .

تنبيه :

هذه الآية الكريمة - آية النور - من الآيات التي صنفت فيها مصنفات خاصة . منها (" مشكاة الأنوار " ) للإمام الغزالي ، وقد نقل عنه الرازي في (" تفسيره " ) هنا جملة سابغة الذيل . ورأيت [ ص: 4526 ] للإمام ابن القيم في كتابه (" الجيوش الإسلامية " ) ما يجمل إيراده ، تعزيزا للمقام واستظهارا بزيادة العلم .

قال رحمه الله : سمى الله سبحانه وتعالى نفسه نورا وجعل كتابه نورا ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا ودينه نورا . واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ ، قال الله تعالى : الله نور السماوات والأرض وقد فسر بكونه منور السماوات والأرض ، وهادي أهل السماوات والأرض . فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض . وهذا إنما هو فعله . وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به . ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى . والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين . إضافة صفة إلى موصوفها ، وإضافة مفعول إلى فاعله . فالأول كقوله عز وجل : وأشرقت الأرض بنور ربها فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى ، إذا جاء لفصل القضاء . ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء المشهور : « أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت » . وفي الأثر الآخر : « أعوذ بوجهك - أو بنور وجهك - الذي أشرقت له الظلمات » . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم . أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله . كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره .

وفي (" معجم الطبراني " ) و (" السنة " ) له و (" كتاب عثمان الدارمي " ) وغيرها ، عن ابن مسعود رضي الله عنه . قال : ليس عند ربكم ليل ولا نهار ، نور السماوات والأرض من نور وجهه . وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية ، من قول من فسرها بأنه هادي أهل السماوات والأرض . وأما من فسرها بأنه منور السماوات والأرض ، فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود . والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها . وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله [ ص: 4527 ] صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال : « إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل . حجابه النور . لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك ؟ قال : « نور ، أنى أراه » فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول : معناه كان ثمة نور ، وحال دون رؤيته نور ، فأنى أراه ؟ قال : ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة : هل رأيت ربك ؟ فقال : رأيت نورا . وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال : نوراني أراه . على أنها ياء النسب ، والكلمة كلمة واحدة . وهذا خطأ لفظا ومعنى . وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه وكان قوله : « أنى أراه » كالإنكار للرؤية ، حاروا في الحديث ، ورده بعضهم باضطراب لفظه ، وكل هذا عدول عن موجب الدليل . وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب (" الرؤية " ) له إجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج . وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك . وشيخنا يقول : ليس ذلك بخلاف في الحقيقة . فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه ، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال : إنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل . ولم يقل بعيني رأسه . ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنهما . ويدل على صحته ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه : قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : « حجابه النور » فهذا النور ، والله أعلم . النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه « رأيت نورا » .

ثم قال ابن القيم : وقوله تعالى : مثل نوره كمشكاة فيها مصباح هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن . كما قال أبي بن كعب وغيره : وقد اختلف في الضمير في (نوره ) فقيل : هو النبي صلى الله عليه وسلم . أي : مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : مفسره المؤمن . أي : مثل نور المؤمن .

[ ص: 4528 ] والصحيح أن يعود على الله تعالى . والمعنى : مثل نور الله سبحانه في قلب عبده . وأعظم عباده نصيبا من هذا النور رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذا ، مع ما تضمنه عود الضمير المذكور - وهو وجه الكلام - يتضمن التقادير الثلاثة ، وهو أتم لفظا ومعنى . وهذا النور يضاف إلى الله تعالى . إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه . ويضاف إلى العبد . إذ هو محله وقابله . فيضاف إلى الفاعل والقابل . ولهذا النور فاعل وقابل ، ومحل وحامل ، ومادة . وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل . فالفاعل وهو الله تعالى مفيض الأنوار . الهادي لنوره من يشاء . والقابل : العبد المؤمن . والمحل : قلبه . والحامل : همته وعزيمته وإرادته . والمادة : قوله وعمله . وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية ، فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن ، بما أناله من نوره ، ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم . وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان : إحداهما : طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف . وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن ، من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ، ومقابلته بجزء من المشبه به . وعلى هذا عامة أمثال القرآن . فتأمل صفة المشكاة ، وهي كوة تنفذ لتكون أجمع للضوء ، وقد وضع فيها مصباح ، ذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها . ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقودا ، من زيت شجرة في وسط القراح ، لا شرقية ولا غربية ، بحيث تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار ، بل هي في وسط القراح ، محمية بأطرافه تصيبها الشمس أعدل إصابة ، والآفات إلى الأطراف دونها . فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها ، يكاد يضيء من غير أن تمسه نار . فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به . والطريقة الثانية ، طريقة التشبيه المفصل . فقيل : المشكاة صدر المؤمن ، والزجاجة قلبه . شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها . وكذلك قلب المؤمن . فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة . فهو يرحم ويحسن ويتحنن ويشفق على الخلق برقته وبصفائه . تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه . ويتباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء . وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى ، ويتصلب [ ص: 4529 ] في ذات الله تعالى ، ويغلظ على أعداء الله تعالى . ويقوم بالحق لله تعالى . وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية ، كما قال بعض السلف : القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها . والمصباح هو نور الإيمان في قلبه . والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق . وهي مادة المصباح التي يتقد منها . والنور على النور ، نور الفطرة الصحيحة ، والإدراك الصحيح ، ونور الوحي والكتاب . فينضاف أحد النورين إلى الآخر ، فيزداد العبد نورا على نور . ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة ، قبل أن يسمع ما فيه بالأثر . ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به . فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي . فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة . بل يتصادقان ويتوافقان . فهذا علامة النور على النور . انتهى . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[36 - 38] في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب

في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه أي : أمر أن تعظم عن اللغو ، أو ترفع بالبناء قدرا . ويتلى فيه اسمه ، ولا يعبد فيها غيره ، لأنه شيدت على اسمه جل شأنه . والظرف صفة (لمشكاة ) أو (لمصباح ) أو (لزجاجة ) أو متعلق بـ(توقد ) أو بمحذوف . أي : سبحوه في بيوت . أو بـ(يسبح ) . ولفظ (فيها ) تكرار للتوكيد .

[ ص: 4530 ] قال أبو السعود : لما ذكر شأن القرآن الكريم في بيانه للشرائع والأحكام ، ومبادئها وغاياتها المترتبة عليها من الثواب والعقاب ، وأشير إلى كونه في غاية ما يكون من التوضيح ، حيث مثل بنور المشكاة - عقب ذلك بذكر الفريقين وتصوير بعض أعمالهم المعربة عن كيفية حالهم في الاعتداء وعدمه ، والمراد بالبيوت ، المساجد كلها : يسبح له فيها بالغدو يعني قبل طلوع الشمس : والآصال جمع أصيل وهو العشي قبل غروب الشمس : رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله أي : بالتسبيح والتحميد : وإقام الصلاة أي : إقامتها لمواقيتها من غير تأخير : وإيتاء الزكاة أي : المال الذي يتزكى مؤتيه من دنس الشح ورذيلة البخل ، وتطهر نفسه ويصفو سره : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار أي : تضطرب وتتغير من الهول والفزع . كما في قوله تعالى : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب اللام متعلقة بيسبح أو لا تلهيهم أو بمحذوف يدل عليه السوق . أي : يفعلون ما يفعلون مما ذكر ، ليجزيهم . وفي آخر الآية تقرير وتنبيه على كمال القدرة ، ونفاذ المشيئة ، وسعة الإحسان ، لأن بغير حساب كناية عن السعة . والمراد أنه لا يدخل تحت حساب الخلق وعدهم .

تنبيه :

قال السيوطي في (" الإكليل " ) : في هذه الآية الأمر بتعظيم المساجد وتنزيهها عن اللغو والقاذورات . وفيها استحباب ذكر الله والصلاة في المساجد . وفي قوله : رجال إشارة إلى أن الأفضل للنساء الصلاة في قعر بيوتهن . كما صرح به الحديث ، إلا في نحو العيدين لحديث : « ليشهدن الخير ودعوة المسلمين » ، وقوله : لا تلهيهم الآية ، فيه أن التجارة [ ص: 4531 ] لا تنافي الصلاة . لأن مقصود الآية أنهم يتعاطونها ، ومع ذلك لا تلهيهم عن الصلاة وحضور الجماعة .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 21-11-2024, 04:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النُّورِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4531 الى صـ 4545
الحلقة (473)






لأن مقصود الآية أنهم يتعاطونها ، ومع ذلك لا تلهيهم عن الصلاة وحضور الجماعة . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق ، فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد . فقال ابن عمر : فيكم نزلت : رجال لا تلهيهم الآية . وأخرج عن الضحاك والحسن وسالم وعطاء ومطرف مثل ذلك . انتهى . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[39] والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب .

والذين كفروا عطف على ما ينساق إليه ما قبله . كأنه قيل : الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف ، والذين كفروا : أعمالهم أي : التي يحسبونها تنفعهم وتأخذ بيدهم من العذاب : كسراب وهو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس ، وقت الظهيرة ، يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري : بقيعة بمعنى القاع ، وهو المنبسط من الأرض . أو جمع قاع (كجيرة ) في (جار ) : يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا أي : لا محققا ولا متوهما . كما كان يراه من قبل ، فضلا عن وجدانه ماء ، وبه تم بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل . وقوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أي : وجد عقاب الله وجزاءه عند السراب ، أو العمل . وفي التعبير بذلك زيادة تهويل . وقيل : المعنى وجده محاسبا إياه . فالعندية بمعنى الحساب ، على طريق الكناية لذكر التوفية بعده . قيل : هذه الجملة معطوفة على : لم يجده ولا حاجة إلى عطفه على ما يفيده من نحو : (لم يجد ما عمله نافعا ) .

قال الشهاب : ويحتمل أن يكون بيان لحال المشبه به ، الكافر فيعطف بحسب المعنى على التمثيل بتمامه . ولو قيل على الأول إنه من تتمة وصف السراب . والمعنى : وجد مقدوره تعالى من الهلاك بالظمأ عند السراب ، فوفاه ما كتب له ، من لا يؤخر الحساب - كان الكلام [ ص: 4532 ] متناسبا . واختار الثاني أبو السعود حيث قال : هو بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة ، لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط ، كما هو شأن الظمآن . ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر عنده للخيبة أصلا . فليست الجملة معطوفة على : لم يجده شيئا بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل ، من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم المذكورة عينا ولا أثرا . كما في قوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا فإن قيل : لم خص (الظمآن ) بالذكر ، مع أنه يتراءى لكل أحد كذلك ؟ فكان الظاهر الرائي بدله . وأجيب بأنه إنما قيده به ولم يطلقه لقوله : ووجد الله عنده إلخ ، لأنه من تتمة أحوال المشبه به . وهو أبلغ . لأن خيبة الكافر أدخل وأعرق . ونحوه : مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا إلخ ، فإن الكافرين هم الذين يذهب حرثهم بالكلية . يعني أنه شبه أعمال الكفار التي يظنونها نافعة ، ومآلها الخيبة ، برؤية الكافر الشديد العطش في المحشر ، سرابا يحسبه شرابا ، فينتظم عطف (وجد الله ) أحسن انتظام كما نوروه . كذا في (" الكشف " ) .

الثالثة : قال الشهاب : وهذا تشبيه بليغ وقع مثله في قول مالك بن نويرة :


لعمري إني وابن جارود كالذي أراق شعيب الماء والآل يبرق

فلما أتاه ، خيب الله سعيه
فأمسى يغض الطرف عيمان يشهق


ثم أشار تعالى إلى تمثيلهم بنوع آخر ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[40] أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

[ ص: 4533 ] أو كظلمات في بحر لجي أي : عميق كثير الماء : يغشاه موج من فوقه موج أي : متراكم بعضه على بعض : من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض أي : متكاثفة متراكمة . وهذا بيان لكمال شدة الظلمات : إذا أخرج يده أي : وجعلها بمرأى منه ، قريبة من عينه لينظر إليها : لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور أي : ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن ، فما له هداية ما . وهذا في مقابلة قوله تعالى في مثل المؤمنين : يهدي الله لنوره من يشاء والجملة تقرير للتمثيل قبل ، وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم ، إذ لم يجاهدوا لنيل ذلك ، قال تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا

لطيفة :

قال ابن كثير : هذان المثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار . كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين : ناريا ومائيا . وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم ، في سورة الرعد ، مثلين مائيا وناريا .

ثم قال : أما الأول فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم أصحاب الجهل المركب الذين يحسبون أنهم على شيء . فمثلهم كالسراب . والثاني لأصحاب الجهل البسيط وهم المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم ، الذين لا يعقلون . فلا يعرف أحدهم حال من يقوده ولا يدري أين يذهب . بل كما يقال في المثل للجاهل : أين تذهب ؟ قال : معهم . قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال : لا أدري انتهى .

وما ذكره مما يحتمله اللفظ الكريم ، وليس بمتعين . ومستنده في ذلك ما ذكره شيخه الإمام ابن القيم ، عليهما الرحمة والرضوان ، في (الجيوش الإسلامية ) ولا بأس بإيرادها لما اشتملت عليه من بدائع الفوائد . قال : انظر كيف انتظمت هذه الآيات طرائق بني آدم أتم [ ص: 4534 ] انتظام ، واشتملت عليه أكمل اشتمال . فإن الناس قسمان : أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى ، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من العقل والسمع أمرها ، فيظنها شيئا له حاصل فينتفع به . وهي كسراب بقيعة إلخ ، وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق ، أصحاب العلم النافع والعمل الصالح ، الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره ، ولم يعارضوها بالشبهات . وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات . فلا هم في عملهم ، من أهل الخوض الخراصين : الذين هم في غمرة ساهون ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم ، الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون . أضاء لهم نور الوحي المبين ، فرأوا في نوره أهل الظلمات في آرائهم يعمهون . وفي ضلالهم يتهوكون . وفي ريبهم يترددون . مغترين بظاهر السراب ، ممحلين مجدبين ما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه أوجبه لهم اتباع الهوى ، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان .

القسم الثاني : أهل الجهل والظلم الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به والظلم باتباع أهوائهم . الذين قال الله تعالى فيهم : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى وهؤلاء قسمان : أحدهما ، الذين يحسبون أنهم على علم وهدى ، وهم أهل الجهل والضلال . فهؤلاء أهل الجهل المركب ، الذين يجهلون الحق ويعادونه ، ويعادون أهله ، وينصرون الباطل ويوالون أهله . وهم يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون . فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه ، بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا . وهكذا هؤلاء . أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه . ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان ، كما هو حال من أم السراب فلم يجده ماء . بل انضاف إلى ذلك أنه وجد عنده أحكم الحاكمين وأعدل العادلين . سبحانه وتعالى . فحسب له ما عنده من العلم والعمل ، فوفاه إياه بمثاقيل الذر . وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه [ ص: 4535 ] فجعله هباء منثورا . إذ لم يكن خالصا لوجهه ، ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوما نافعة ، كذلك هباء منثورا . فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه . و(السراب ) ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري و(القيعة ) و(القاع ) هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا فيه واد . فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله ، بسراب يراه المسافر في شدة الحر ، فيؤمه ، فيخيب ظنه ويجده نارا تلظى . فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس واشتد بهم العطش ، بدت لهم كالسراب . فيحسبونه ماء . فإذا أتوه وجدوا الله عنده ، فأخذتهم زبانية العذاب ، فعتلوهم إلى نار الجحيم فسقوا ماء حميما ، فقطع أمعاءهم . وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع ، والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعالى حميما سقاهم إياه . كما أن طعامهم من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة التي كانت في الدنيا كذلك لا تسمن ولا تغني من جوع وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهم الذين عنى بقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وهم الذين عنى بقوله تعالى : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار

القسم الثاني من هذا الصنف ، أصحاب الظلمات . وهم المنغمسون في الجهل . بحيث قد أحاط بهم من كل وجه ، فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضل سبيلا . فهؤلاء أعمالهم التي عملوها على غير بصيرة ، بل بمجرد التقليد واتباع الآباء من غير نور من الله تعالى : كظلمات جمع ظلمة وهي ظلمة الجهل وظلمة الكفر وظلمة الظلم واتباع الهوى وظلمة الشك والريب وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم . والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور . فإن المعرض عما بعث الله به تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم [ ص: 4536 ] من الهدى ودين الحق ، يتقلب في خمس ظلمات : قوله : ظلمة . وعمله ظلمة . ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره إلى ظلمة . وقلبه مظلم ووجهه مظلم وكلامه مظلم . وحاله مظلم . وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من النور ، جد في الهرب منه ، وكاد نوره يخطف بصره ، فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي به أنسب وأولى كما قيل :


خفافيش أعشاها النهار بضوئه ووافقها قطع من الليل مظلم


وقوله تعالى : في بحر لجي اللجي العميق . منسوب إلى لجة البحر وهو معظمه . وقوله تعالى : يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب تصوير لحال المعرض عن وحيه . فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره ، بتلاطم أمواج ذلك البحر ، وأنهم أمواج بعضها فوق بعض . والضمير الأول في قوله : يغشاه راجع إلى البحر ، والضمير الثاني في قوله : من فوقه عائد إلى الموج . ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب . فها هنا ظلمات : ظلمة البحر اللجي ، وظلمة الموج الذي فوقه ، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله : إذا أخرج من في هذا البحر : يده لم يكد يراها واختلف في معنى ذلك . فقال كثير من النحاة : هو نفي لمقاربة رؤيتها . وهو أبلغ من نفيه الرؤية . وإنه قد ينفي وقوع الشيء ولا تنفى مقاربته . فكأنه قال : لم يقارب رؤيتها بوجه .

قال هؤلاء : (كاد ) من أفعال المقاربة . لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات . فإذا قيل : كاد يفعل ، فهو إثبات مقاربة الفعل . وإذا قيل : لم يكد يفعل ، فهو نفي لمقاربة الفعل .

وقالت طائفة أخرى : بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد . وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر ، لأجل تلك الظلمات : قالوا : لأن (كاد ) لها شأن ليس لغيرها من الأفعال . فإنها إذا أثبتت نفت . وإذا نفت أثبتت . فإذا قلت : (ما كدت أصل إليك ) فمعناه : وصلت إليك بعد الجهد والشدة . فهذا إثبات للوصول . وإذا قلت : (كاد زيد يقوم ) فهي نفي لقيامه . كما قال تعالى : وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا

[ ص: 4537 ] ومنه قوله تعالى : وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم وأنشد بعضهم في ذلك لغزا :


أنحوي هذا العصر ! ما هي لفظة جرت في لساني جرهم وثمود ؟


إذا استعملت في صورة النفي أثبتت وإن أثبتت قامت مقام جحود


وقالت فرقة ثالثة ، منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره : إن استعمالها مثبتة ، يقتضي نفي خبرها . كقولك كاد زيد يقوم واستعمالها منفية يقتضي نفيه بطريق الأولى ، فهي عنده تنفي الخبر . سواء كانت منفية أو مثبتة . (فلم يكد زيد يقوم ) أبلغ عنده في النفي من (لم يقم ) واحتج بأنها إذا نفيت - وهي من أفعال المقاربة - فقد نفيت مقاربة الفعل . وهو أبلغ من نفيه . وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها . وذلك يدل على عدم وقوعه . واعتذر عن مثل قوله تعالى : فذبحوها وما كادوا يفعلون وعن مثل قوله : (وصلت إليك وما كدت أصل ) و(سلمت وما كدت أسلم ) بأن هذا وارد على كلامين متباينين . أي : فعلت كذا بعد أن لم أكن مقاربا له ، فالأول يقتضي وجود العمل ، والثاني يقتضي أنه لم يكن مقاربا له ، بل كان آيسا منه . فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان .

وذهبت فرقة رابعة إلى الفرقة بين ماضيها ومستقبلها . فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل . سواء كانت بصيغة الماضي أو المستقبل . وإن كانت في طرف النفي ، فإن كانت بصيغة المستقبل ، كانت لنفي الفعل ومقاربته . نحو قوله : لم يكد يراها وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات نحو قوله : فذبحوها وما كادوا يفعلون فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة .

والصحيح أنها فعل يقتضي المقاربة . ولها حكم سائر الأفعال . ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها . فإنها لم توضع لنفيه . وإنما استفيد من لوازم معناها . فإنها إذا اقتضت [ ص: 4538 ] مقاربة الفعل ، لم يكن واقعا ، فيكون منفيا باللزوم . وأما إذا استعملت منفية ، فإن كانت في كلام واحد ، فهي لنفي المقاربة . كما إذا قلت : (لا يكاد البطال يفلح ) و(لا يكاد البخيل يسود ) و(لا يكاد الجبان يفرح ) ونحو ذلك . وإن كانت في كلامين ، اقتضت وقوع الفعل ، بعد أن لم يكن مقاربا . كما قال ابن مالك : فهذا التحقيق في أمرها .

والمقصود إن قوله : لم يكد يراها إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة ، وهو الأظهر . فإذا كان لا يقارب رؤيتها ، فكيف يراها ؟ قال ذو الرمة :


إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى في حب مية يبرح


أي لم يقارب البراح . وهو الزوال ، فكيف يزول ؟ فشبه سبحانه أعمالهم أولا ، في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم ، بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد . فإذا جاءه وجده عنده عكس ما أمله ورجاه . شبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها ، لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان ، بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج : الذي قد غشيه السحاب من فوقه . فيا له تشبيها ما أبدعه ! وأشد مطابقته بحال أهل البدع والضلال ! وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه ! وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح ، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم . وكل واحد من السراب والظلمات ، مثل لمجموع علومهم وأعمالهم . فهي سراب لا حاصل لها ، وظلمات لا نور فيها . وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه ، التي تلقاها من مشكاة النبوة . فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد . ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة . ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع ، لأوليائه وأعدائه . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى .
ثم أشار تعالى إلى تعديل الدلائل على ربوبيته ووحدانيته في ألوهيته ، وظهور أمره وجلالته ، بقوله سبحانه :

[ ص: 4539 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[41] ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون .

ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض أي : ينزهه ويقدسه وحده ، أهلوهما : والطير صافات أي : يصففن أجنحتهن في الهواء : كل قد علم صلاته وتسبيحه أي : كل واحد مما ذكر ، قد هدي وأرشد إلى طريقته ومسلكه ، في عبادة الله عز وجل . فالضمير في (علم ) لكل . أو للفظ الجلالة ، كالضمير في صلاته وتسبيحه .

قال الزمخشري : ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه ، كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها .

وتقدم في سورة الإسراء كلام في تسبيح الجمادات ، فارجع إليه : والله عليم بما يفعلون
القول في تأويل قوله تعالى :

[42] ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير .

ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير أي : هو الإله الحاكم المتصرف فيهما ، الذي لا تنبغي العبادة فيهما إلا له ، وإليه يوم القيامة ، مصير الخلائق ، فيحكم بينهم ، ويجزي الذين أساءوا بما عملوا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[43] ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينـزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار .

[ ص: 4540 ] ألم تر أن الله يزجي سحابا أي : يسوقها برفق . ومنه البضاعة المزجاة ، يزجيها كل أحد . أي : يدفعها لرغبته عنها ، أو لقدرته على سوقها وإيصالها : ثم يؤلف بينه بضم بعضه إلى بعض . فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة : ثم يجعله ركاما أي : متراكما بعضه فوق بعض : فترى الودق أي : المطر : يخرج من خلاله وهي فرجه ومخارج القطر منه : وينـزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء قال ابن كثير : يحتمل المعنى : فيصيب بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد رحمة بهم ويصرفه عن آخرين حكمة وابتلاء . ويحتمل المعنى : فيصيب بالبرد من يشاء نقمة لما فيه من نثر الثمار وإتلاف الزروع . ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم . انتهى .

وخلاصته أن الضمير إما للأقرب ، على الثاني ، أوله ولما قبله ، على الأول .

لطيفة :

قد ذكرت (من ) الجارة في الآية ثلاث مرات . فالأولى ابتدائية اتفاقا . والثانية زائدة أو تبعيضية أو ابتدائية ، على جعل مدخولها بدلا مما قبله بإعادة الجار . والثالثة فيها هذه الأقوال . وتزيد برابع ، وهو أنها لبيان الجنس . والتقدير : ينزل من السماء بعض جبال ، التي هي البرد .

يكاد سنا برقه أي : لمعانه : يذهب بالأبصار أي : يخطفها لشدته وقوته .
القول في تأويل قوله تعالى :

[44] يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .

يقلب الله الليل والنهار أي : يأتي بكل منهما بدل الآخر خلفا له . أو يأخذ من طول أحدهما فيجعله في الآخر رحمة بالعباد ، لانتظام معايشهم : إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار
[ ص: 4541 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[45 - 46] والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير لقد أنـزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

والله خلق كل دابة من ماء كل حيوان يدب على الأرض من ماء ، وهو جزء مادته . أو ماء مخصوص هو النطفة ، فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل لأن من الحيوانات ما لا يتولد من نطفة . وقيل : من ماء متعلق بـ(دابة ) وليست صلة (لخلق ) : فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات . وتسمية حركتها مشيا ، مع كونها زحفا ، بطريق الاستعارة أو المشاكلة : ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء أي : مما ذكر وغيره ، على من يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والحركات : إن الله على كل شيء قدير لقد أنـزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو صراط تلك الآيات ، صراط الحق والهدى والنور . وهم المؤمنون الصادقون الذين استجابوا لله والرسول ، وإذا دعوا إلى حكمها استكانوا .

ثم أشار إلى ما كان يقع من المنافقين من أثر النفاق ، تحذيرا من صنيعهم ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[47 - 50] ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون [ ص: 4542 ] وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون .

ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك أي : دعوى الإيمان : وما أولئك بالمؤمنين أي : في قلوبهم . ثم برهن عليه بقوله : وإذا دعوا إلى الله أي : كتابه : ورسوله أي : سنته وحكمه : ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون أي : عن المجيء إليه : وإن يكن لهم الحق أي : الحكومة لهم ، لا عليهم : يأتوا إليه مذعنين أي : مسرعين طائعين . وقوله تعالى : أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله أي في الحكم فيظلموا فيه . قال أبو السعود : إنكار واستقباح لإعراضهم المذكور . وبيان لمنشئه بعد استقصاء عدة من القبائح المحققة فيهم ، والمتوقعة منهم . وتردي المنشئية بينها . فمدار الاستفهام ليس نفس ما وليته الهمزة وأم من الأمور الثلاثة ، بل هو منشئيتها له . كأنه قيل : أذلك ، أي : إعراضهم المذكور ، لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم ، أم لأنهم ارتابوا في أمر نبوته عليه السلام ، مع ظهور حقيتها ؟ أم لأنهم يخافون الحيف ممن يستحيل عليه ذلك ؟ إشارة إلى استجماعهم تلك الأوصاف الذميمة ، التي كل واحد منها كفر ونفاق .

ثم بين اتصافهم مع ذلك بالوصف الأسوأ وهو الظلم ، بقوله تعالى : بل أولئك هم الظالمون أي : الذين رسخ فيهم خلق الظلم لأنفسهم ولغيرهم . فالإضراب انتقالي .

والمعنى : دع هذا كله ، فإنهم هم الكاملون في الظلم ، الجامعون لتلك الأوصاف .
[ ص: 4543 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[51 - 52] إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون .

إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون

قال السيوطي في (" الإكليل " ) : فيها وجوب الحضور على من دعي لحكم الشرع ، وتحريم الامتناع ، واستحباب أن يقول : سمعنا وأطعنا . انتهى .

ثم أشير إلى حكاية شيء من أحوال أولئك المنافقين الممتنعين عن قبول حكمه ، وذلك إقسامهم الكاذب ، ليستدل به على إيمانهم الباطن ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[53] وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون .

وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم أي : بالخروج من ديارهم وأموالهم وأهليهم : ليخرجن أي : مجاهدين . و(جهد ) منصوب على الحالية . أو هو مصدر (لأقسموا ) من معناه . وهو مستعار من (جهد نفسه ) إذا بلغ وسعها . أي : أكدوا الأيمان وشددوها : قل لا تقسموا طاعة معروفة أي : لا تقسموا على ذلك وتشددوا لترضونا . فإن الأمر المطلوب منكم طاعة معروفة ، لا تنكرها النفس . إذ لا حرج فيها . فأطيعوا بالمعروف من غير حلف ، كما يطيع المؤمنون . وقيل : معناه طاعتكم طاعة معروفة . أي : أنها قول بلا عمل . [ ص: 4544 ] إذ عرف كذبكم في أيمانكم . كما قال تعالى : يحلفون لكم لترضوا عنهم الآية ، وقال تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة الآية ، فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه ، كما قال تعالى : ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون وقوله تعالى : إن الله خبير بما تعملون أي : من الأعمال الظاهرة والباطنة ، التي منها الأيمان الكاذبة ، وما تضمرونه من النفاق ومخادعة المؤمنين ، التي لا تخفى على من يعلم السر وأخفى .
القول في تأويل قوله تعالى :

[54] قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين .

قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا أي : تولوا عن الإطاعة : فإنما عليه ما حمل أي : كلفه من أداء الرسالة . فإذا أدى فقد خرج من عهدة تكليفه .

وعليكم ما حملتم أي : ما أمرتم به من الطاعة والتلقي بالقبول والإذعان والقيام بمقتضاه : وإن تطيعوه تهتدوا أي : لأنه يدعوكم إلى الصراط المستقيم . فإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى . وإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه : وما على الرسول إلا البلاغ المبين أي : التبليغ البين بنفسه ، أو الموضح لما أمرتم به .

[ ص: 4545 ] ولما تضمن قوله تعالى : { تهتدوا } إشارة إلى وعد كريم ومستقبل فخيم ، استأنف التصريح به تقريرا له ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[55] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون .

وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض أي : يورثهم الأرض ويجعلهم فيها خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم . أو خلفاء من الذين لم يكونوا على حالهم من الإيمان والأعمال الصالحة : كما استخلف الذين من قبلهم أي : من الأمم المؤمنة برسلها . التي أهلك الله عدوها ، وأورثها أرضها وديارها . كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم فلسطين ، بعد إهلاك الجبابرة : وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم أي : فليجعلن دينهم ثابتا مقررا ، مرفوع اللواء ، ظاهرا على غيره ، قاهرا لمن ناوأه .

قال أبو السعود : وفي إضافة الدين إليهم . وهو دين الإسلام ، ثم وصفه بارتضائه لهم ، تأليف لقلوبهم ومزيد ترغيب فيه ، وفضل تثبيت عليه : وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك أي : بعد هذا الوعد الكريم الموجب لتحصيل ما تضمنه من السعادتين : فأولئك هم الفاسقون أي : الكاملون في فسقهم . حيث كفروا تلك النعمة العظيمة . وجسروا على غمطها .

[ ص: 4546 ] تنبيه :

في هذه الآية من الدلالة على صحة النبوة للإخبار بالغيب على ما هو عليه قبل وقوعه - ما لا يخفى . فقد أنجز الله وعده ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب . ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا ، وصاروا إلى حال يخافهم كل من عداهم .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 21-11-2024, 04:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النُّورِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4546 الى صـ 4560
الحلقة (474)






القول في تأويل قوله تعالى :

[56 - 57] وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير .

وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة معطوف على أطيعوا الله وما اعترض بينهما كان تأكيدا ، أو على مقدر يستدعيه السوق . أي : فآمنوا واعملوا صالحا وأقيموا . أو فلا تكفروا وأقيموا . إلخ . ثم كرر طاعة الرسول ، تأكيدا لوجوبها ، بقوله : وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض أي : معجزين لله تعالى ، بل مدركون : ومأواهم النار ولبئس المصير

ثم أشير إلى تتمة الأحكام السابقة ، إثر تمهيد ما يجب امتثاله من الأحكام ، ومن الترغيب والترهيب ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[58] يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين [ ص: 4547 ] تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم .

يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم أي : من العبيد والجواري : والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم أي : هي ثلاث عورات لكم . إشارة إلى علة وجوب الاستئذان بأنهن أوقات يختل فيها التستر عادة ، ويكون النوم فيها مع الأهل غالبا . فالهجوم على أهل البيت في هذه الأحوال ، مما تأباه النفوس وتكرهه أشد الإباء والكراهة : ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم أي : ليس عليكم جناح في ترك نهيهم عن الدخول بلا إذن . ولا عليهم جناح من الدخول بدونه ، بعد هذه الأوقات ، وإن احتمل فيها الإخلال بالتستر لندرته . وذلك لأنهم طوافون عليكم ، فيعسر عليهم الاستئذان في كل مرة : بعضكم على بعض أي : بعضكم طائف على بعض طوافا كثيرا . أو بعضكم يطوف على بعض .

قال الزمخشري : يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة ، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام . فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأدى إلى الحرج كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم يشرع ما فيه الحكمة وصلاح الحال وانتظام الشأن .

تنبيه :

في الآية إقرار ما جرت به العادة من أن النوم وقته بعد العشاء وقبل الفجر ووقت الظهيرة . وقد يستدل بها على أن كشف العورة في الخلوة جائز . كذا في (" الإكليل " ) . [ ص: 4548 ] وقال الرازي : الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين : أحدهما بقوله تعالى : ثلاث عورات لكم والثاني بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة ، وبين ما عداها ، بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة ، وإنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات .
القول في تأويل قوله تعالى :

[59] وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم .

وإذا بلغ الأطفال أي : الذين رخص لهم في ترك الاستئذان في غير الأوقات المذكورة : منكم أي : من الأحرار ، دون المماليك ، فإنهم باقون على الرخصة : الحلم أي : حد البلوغ بالاحتلام ، و بالسن الذي هو مظنة الاحتلام : فليستأذنوا أي : في سائر الأوقات أيضا : كما استأذن الذين من قبلهم أي : الذين بلغوا الحلم من قبلهم ، وهم الرجال أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا

والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن ، إلا في العورات الثلاثة . فإذا اعتاد الأطفال ذلك ، ثم خرجوا عن حد الطفولة ، بأن يحتلموا أو يبلغوا السن التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات ، كما يستأذن الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن .

وهذا مما الناس منه في غفلة . وهو عندهم كالشريعة المنسوخة . وعن ابن عباس : آية لا يؤمن بها أكثر الناس : آية الإذن . وإني لآمر جارتي أن تستأذن علي .

[ ص: 4549 ] وسأله عطاء : أستأذن على أختي ؟ قال : نعم ، وإن كانت في حجرك تمونها . وتلا هذه الآية .

وعنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله . وقوله : إن أكرمكم عند الله أتقاكم فقال ناس : أعظمكم بيتا . وقوله : وإذا حضر القسمة كذا في (" الكشاف " ) .

تنبيه :

قال في (" الإكليل " ) : في الآية أن التكليف إنما يكون بالبلوغ . وأن البلوغ يكون بالاحتلام . وأن الأولاد البالغين لا يدخلون على والديهم إلا بالاستئذان ، كالأجانب . انتهى .

وقال التقي السبكي في " إبراز الحكم في شرح حديث رفع القلم " : أجمع العلماء على أن الاحتلام يحصل به البلوغ في حق الرجل . ويدل لذلك قوله تعالى : وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : « وعن الصبي حتى يحتلم » . وهي رواية ابن أبي السرح عن ابن عباس . قال : والآية أصرح . فإنها ناطقة بالأمر بعد الحلم . وورد أيضا عن علي رضي الله عنه ، رفعه : « لا يتم بعد احتلام ، ولا صمات يوم إلى الليل » رواه أبو داود . والمراد بالاحتلام خروج المني . سواء كان في اليقظة أم في المنام ، بحلم أو غير حلم . ولما كان في الغالب لا يحصل إلا في النوم بحلم ، أطلق عليه الحلم والاحتلام ، ولو وجد الاحتلام من غير خروج مني ، فلا حلم له .

ثم قال : وقوله في الحديث : « حتى يحتلم » دليل البلوغ بذلك . وهو إجماع . وهو [ ص: 4550 ] حقيقة في خروج المني بالاحتلام ، ومجاز في خروجه بغير احتلام يقظة أو مناما . أو منقول فيما هو أعم من ذلك ، ويخرج منه الاحتلام بغير خروج مني ، إن أطلقناه عليه منقولا عنه . ولكونه فردا من أفراد الاحتلام . انتهى .

وفي (" القاموس " ) : الحلم (بالضم ) والاحتلام : الجماع في النوم . والاسم الحلم كعنق . انتهى .

وقال الراغب : سمي البلوغ حلما ، لكون صاحبه جديرا بالحلم : أي : الأناة والعقل .
القول في تأويل قوله تعالى :

[60] والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم .

والقواعد من النساء أي : اللاتي قعدن عن الحيض والولد ، لكبرهن : اللاتي لا يرجون نكاحا أي : لا يطمعن فيه ، لرغبة الأنفس عنهن : فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن أي : الظاهرة مما لا يكشف العورة ، لدى الأجانب . أي : يتركن التحفظ في التستر بها . فلا يلقين عليهن جلابيبهن ولا يحتجبن : غير متبرجات بزينة أي : مظهرات لزينة خفية . يعني الحلي في مواضعه المذكورة في قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو المعنى غير قاصدات بالوضع ، التبرج . ولكن التخفف إذا احتجبن إليه : وأن يستعففن أي : من وضع تلك الثياب : خير لهن لأنه أبلغ في الحياء وأبعد من التهمة والمظنة . ولذا يلزمهن ، عند المظنة ، ألا يضعن ذلك . كما يلزم مثله في الشابة : والله [ ص: 4551 ] سميع عليم أي : فيسمع مقالهن مع الأجانب ، ويعلم مقاصدهن من الاختلاط ووضع الثياب . وفيه من الترهيب ما لا يخفى . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[61] ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون .

ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج أي : في القعود عن الغزو ، لضعفهم وعجزهم . وهذه الآية كالتي في سورة الفتح وكآية براءة : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله وهذا ما ذهب إليه عطاء وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وزعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده ، مردود بأن المراد أن كلا من الطائفتين منفي عنه الحرج . ومثال هذا - كما قال الزمخشري - أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان . وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر . قلت له : ليس على المسافر حرج أن يفطر ، ولا عليك ، يا حاج أن تقدم [ ص: 4552 ] الحلق عن النحر . يعني أنه إذا كان في العطف غرابة ، لبعد الجامع في بادئ النظر ، وكان الغرض بيان حكم حوادث تقاربت في الوقوع ، والسؤال عنها والاحتياج إلى البيان لكونها في معرض الاستفتاء ، والإفتاء كان ذلك جامعا بينها ، محسنا للعطف ، وإن تباينت .

قال الشهاب : وبهذا يظهر الجواب عن زعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده .

لأن ملاءمته لما بعده قد عرف وجهها . وأما ملاءمته لما قبله فغير لازمة ، إذا لم يعطف عليه . انتهى .

وقيل : كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم ، وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم ، فيطعمونهم منها . فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك . وخافوا أن يلحقهم فيه حرج . وكرهوا أن يكون أكلا بغير حق ، لقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل فقيل لهم : ليس على الضعفاء ، ولا على أنفسكم ، يعني عليكم ، وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين ، حرج في ذلك .

وقيل : كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم ، لما عسى يؤدي إلى الكراهة من قبلهم . ولأن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله إليه وهو لا يشعر . والأعرج يتفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه ، فيضيق على جليسه . والمريض لا يخلو عن حالة تؤنف .

وقيل : كانوا يخرجون إلى الغزو ، ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ، ويدفعون إليهم المفاتيح ، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم . فكانوا يتحرجون . فقيل : ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه ، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت .

هذا ما ذكروه . ولا يخفى صدق الآية على جميع ذلك ، ونفي الحرج عنه كله .

ولا يستلزم نفي الحرج عن مواكلة المريض على هذه الأوجه الأخر ، أن يشرك أكيله الصحيح في غمس يده من إنائه مما حظر منه الطب ، وغدت الأنفس تعافه . بل يراد به حضوره مع [ ص: 4553 ] الصحيح على مائدة واختصاصه بقصعة على حدة . وما أحسن عادة الانفراد بالقصاع ، مما تطيب معه نفس المرضى والأصحاء في الاجتماع . وقوله تعالى : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أي : بيوت أزواجكم وعيالكم . أضافه إليهم ، لأن بيت المرأة كبيت الزوج وهذا قول الفراء .

وقال ابن قتيبة : أراد بيوت أولادهم . فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء ، لأن الولد كسب والده ، ماله كماله . قال صلى الله عليه وسلم : « إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وأن ولده من كسبه » .

قال : والدليل على هذا ، أنه تعالى عدد الأقارب ولم يذكر الأولاد . لأنه إذا كان سبب الرخصة هو القرابة ، كان الذي هو أقرب منهم أولى . انتهى .

وعليه ، لا يقال إنه ليس في أكل الإنسان من بيت نفسه حرج ، فما فائدة ذكره بأن المراد بالأنفس من هو بمنزلتها من العيال والأولاد ، كما في قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم

وفي (" الكشف " ) : فائدة إقحام النفس ، أن المراد به ليس على الضعفاء المطعمين ، ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات ، أو من هو في مثل حالهم وهم الأصدقاء - حرج .

وقيل إنه على ظاهره . والمراد إظهار التسوية بينه وبين قرنائه .

قال الشهاب : وهو حسن . ولا يراد عليه أنه حينئذ لم يذكر فيه الأكل من بيوت الأزواج والأولاد ، لأنه داخل في قوله : من بيوتكم انتهى .

أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه يعني أموال المرء ، إذا كان له عليها قيم ووكيل يحفظها له ، أن [ ص: 4554 ] يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته . وملك المفتاح كونها في يده وحفظه : أو صديقكم أي : أو بيوت أصدقائكم . والصديق يكون واحدا وجمعا . وكذلك الخليط والقطين والعدو . كذا في (" الكشاف " ) .

قال الناصر : وقد قال الزمخشري : إن سر إفراده في قوله تعالى : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم دون الشافعين ، والتنبيه على قلة الأصدقاء ، ولا كذلك الشافعون فإن الإنسان قد يحمي له ، ويشفع في حقه من لا يعرفه ، فضلا عن أن يكون صديقا .

ويحتمل في الآيتين ، أن يكون المراد به الجمع . فلا كلام . ويحتمل أن يراد الإفراد ، فيكون سره ذلك . والله أعلم .

قال الزمخشري : يحكى عن الحسن أنه دخل داره . وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره ، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة ، وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا ، وضحك وقال : هكذا وجدناهم ، هكذا وجدناهم . يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين رضي الله عنهم .

وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسه ، فيأخذ منه ما شاء . فإذا حضر مولاها فأخبرته ، أعتقها سرورا بذلك .

وعن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما : من عظم حرمة الصديق ، أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة ، بمنزلة النفس والأب والأخ والابن .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الصديق أكبر من الوالدين . إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات . فقالوا : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم وقالوا : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك ، قام ذلك مقام الإذن الصريح . وربما سمج الاستئذان وثقل . كمن قدم إليه طعام ، فاستأذن صاحبه في الأكل منه . انتهى .

[ ص: 4555 ] ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا أي : مجتمعين أو متفرقين . روي أن قوما من الأنصار إذا نزل بهم ضيف ، لا يأكلون إلا مع ضيفهم . وإن قوما كانوا تحرجوا من الاجتماع على الطعام ، لاختلاف الناس في الأكل ، وزيادة بعضهم على بعض . فأبيح لهم ذلك .

وقال قتادة : كان هذا الحي من بني كنانة ، يرى أحدهم ; أن مخزاة عليه ، أن يأكل وحده في الجاهلية . حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحقل وهو جائع ، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه . واشتهر هذا عن حاتم لقوله :


إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحدي


قال الشهاب : وفي الحديث : « شر الناس من أكل وحده ، وضرب عبده ، ومنع رفده » والنهي في الحديث لاعتياده بخلا بالقرى ، ونفي الحرج عن وقوعه أحيانا ، بيان لأنه لا إثم فيه ، ولا يذم به شرعا ، كما ذمت به الجاهلية .

فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم أي : إذا دخلتم بيتا من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدأوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ، قرابة ودينا . قاله الزمخشري .

أشار رحمه الله ، إلى أن المراد بالأنفس من هم بمنزلتها ، لشدة الاتصال كقوله : ولا تقتلوا أنفسكم ويحتمل أن المسلم ، إذا ردت تحيته عليه ، فكأنه سلم على نفسه . كما أن القاتل لاستحقاقه القتل بفعله ، كأنه قاتل نفسه . وأما إبقاؤه على ظاهره ; إذا لم يكن في البيت أحد ، يسره أن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . كما روي عن ابن عباس - فبعيد غير مناسب لعموم الآية . كذا في (" الشهاب " ) .

[ ص: 4556 ] وقال الناصر : في التعبير عنهم ، بالأنفس ، تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من هذه البيوت المعدودة ، وأن ذلك إنما كان ، لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه ، لاتحاد القرابة . . فليطب نفسا بانبساط فيها : تحية من عند الله أي : ثابتة بأمر ، مشروعة من لدنه : مباركة أي : مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامها : طيبة أي : تطيب بها نفس المستمع : كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون أي : ما فيها من الأحكام أو الآداب القائدة إلى سعادة الدارين .

ولما أمر تعالى بالاستئذان عند الدخول ، أرشد إلى الاستئذان عند الانصراف من مجلسه صلوات الله عليه ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[62] إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم .

إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم

قال الزمخشري : أراد عز وجل أن يريهم عظم الجناية ذهاب الذاهب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه . فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ، ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله . وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره . وذلك مع تصدير الجملة (بإنما ) وإيقاع المؤمنين مبتدأ [ ص: 4557 ] مخبرا عنه بموصول ، أحاطت صلته بذكر الإيمانين . ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا ، حيث أعاده على أسلوب آخر ، وهو قوله : إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله وضمنه شيئا آخر . وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين ، وعرض بحال المؤمنين وتسللهم لواذا . ومعنى قوله : لم يذهبوا حتى يستأذنوه لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم ، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استوصوا بأن يأذن له .

والأمر الجامع : الذي يجمع له الناس . فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز . وذلك نحو مقاتلة عدو ، أو تشاور في خطب مهم ، أو تضام لإرهاب مخالف ، أو تسامح في حلف وغير ذلك . أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وقرئ : أمر جميع . وفي قوله : وإذا كانوا معه على أمر جامع أنه خطب جلل ، لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوة ، يظاهرونه عليه ويعاونونه ، ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم ، في كفايته . فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال ، مما يشق على قلبه ، ويشعث عليه رأيه فمن ثم غلظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان ، مع العذر المبسوط ، ومساس الحاجة إليه ، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم ، وذلك قوله : لبعض شأنهم وذكر الاستغفار للمستأذنين ، دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ، ولا يستأذنوا فيه .

وقيل : نزلت في حفر الخندق . وكان قوم يتسللون بغير إذن . وقالوا : كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدمهم في الدين والعلم ، يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ، ولا يتفرقون عنهم ، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام . إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن . على حسب ما اقتضاه رأيه .

تنبيه :

استدل بالآية على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه صلى الله عليه وسلم . وتسمى هذه المسألة مسألة التفويض . وهي مبسوطة في الأصول ، وقوله تعالى :
[ ص: 4558 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[63] لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .

لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا أي : إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر ، فدعاكم ، فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه . ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا . ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، قاله الزمخشري .

وكذا قال ابن الأثير في (" المثل السائر " ) أي : إذا حضرتم في مجلسه ، فلا يكن حضوركم كحضوركم في مجالسكم . أي : لا تفارقوا مجلسه إلا بإذنه ، والزموا معه الأدب .

وذهب قوم إلى أن المراد بالدعاء الأمر . منهم ابن أبي الحديد حيث قال في " الفلك الدائر " : إن المعنى المتقدم ، وإن دلت عليه قرينة متقدمة ، كما قال ابن الأثير - ففي الآية قرينة أخرى متأخرة تقتضي حمله على محمل آخر غير هذا . ولعله الأصح . وهي أن يراد بالدعاء الأمر . يقال : دعا فلان قومه إلى كذا ، أي : أمرهم به وندبهم إليه وقال سبحانه : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم أي : ندبكم . وقال سبحانه : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم أي : أمرتهم وندبتهم ، والقرينة المتأخرة قوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره انتهى . وكذا قال المهايمي : أي : لا تجعلوا أمره بينكم كأمركم بينكم يجاب تارة دون أخرى . لأنه واجب الطاعة . لا يسقط بالانسلال عن جملة المدعو .

قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا أي : ينسلون قليلا قليلا . و(اللواذ ) : الملاوذة ، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا . يعني ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة ، واستتار بعضهم ببعض . و (لواذا ) حال . أي : ملاوذين .

[ ص: 4559 ] هذا ، وقيل معنى الآية : لا تجعلوا نداءه وتسميته ، كنداء بعضكم باسمه ورفع الصوت به ، والنداء وراء الحجرة . ولكن بلقبه المعظم . مثل : يا نبي الله ! ويا رسول الله ! مع التوقير والتواضع وخفض الصوت .

وضعف بأنه لا يلائم السياق واللحاق . وتكلف بعضهم لربطه بما قبله ، بأن الاستئذان يكون بقولهم : يا رسول الله ! إنا نستأذنك . ولأن من معه في أمر جامع يخاطبه ويناديه . والأول أظهر وأولى كما في (" العناية " ) .

نعم ، في التنزيل عدة آيات ، في إيجاب مشافهته صلوات الله عليه بالأدب ومخاطبته بالتوقير ، جعله من ضرورة الإيمان ومقتضاه . كآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا الآية ، و : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إلى قوله : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون فليحذر الذين يخالفون عن أمره أي : يعرضون عنه ولا يأتون به . فضمن (المخالفة ) معنى الإعراض والصد . أو عن صلته . وقيل : إذا تعدى (خالف ) بـ(عن ) ضمن الخروج . وأصل معنى المخالفة أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله ، كما قاله الراغب : أن تصيبهم فتنة أي : محنة في الدنيا : أو يصيبهم عذاب أليم أي : في الآخرة أو فيهما .

تنبيه :

استدل به على وجوب وزن الأمور بميزان شريعته وسنته ، وأصول دينه . فما وافق قبل ، وما خالف رد على قائله وفاعله ، كائنا من كان . كما ثبت في الصحيحين عنه صلوات الله [ ص: 4560 ] عليه وسلامه : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » واستدل بالآية أيضا أن الأمر للوجوب . فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين . قيل : هذا إنما يتم إذا أريد بالأمر الطلب لا الشأن كما في قوله : على أمر جامع وقد جوزا فيه مع إرادتهما معا . وتفصيل البحث في (" الرازي " ) .
القول في تأويل قوله تعالى :

[64] ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم .

ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه أيها المكلفون من المخالفة والموافقة ، والنفاق والإخلاص . وإنما أكد علمه بـ(قد ) لتأكيد الوعيد ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم أي : فلا يخفى عليه خافية . لأن الكل خلقه وملكه . فيحيط علمه به ضرورة ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير

* * *


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 21-11-2024, 04:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْفُرْقَانِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4561 الى صـ 4575
الحلقة (475)






سُورَةُ الْفُرْقَانِ

الجمهور على أنها مكية . وعن الضحاك : مدنية . وعن بعضهم : مكية إلا ثلاث آيات (والذين لا يدعون ) إلى (رحيما ) .

قال المهايمي : سميت بالفرقان لاشتمالها على أنه ظهر كثرة خيرات الحق بالفرقان ، الذي هو التمييز بين الحق والباطل . والأظهر أنه لذكره فيها بمعانيه الآتية المتسع لها اللفظ لا خصوص ما ذكره ، وآياتها سبع وسبعون .

[ ص: 4562 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى :

[1] تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا .

تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا يحمد تعالى نفسه الكريمة ويثني عليها ، لما أنزله من الفرقان ، كما قال : الحمد لله الذي أنـزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات

قال الزمخشري : (البركة ) : كثرة الخير وزيادته . ومنها : تبارك الله وفيه معنيان : تزايد خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه ، في صفاته وأفعاله . و : { الفرقان } مصدر فرق بين الشيئين ، إذا فصل بينهما . وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل . أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ، ولكن مفروقا مفصلا بعضه عن بعض في الإنزال .

ألا ترى إلى قوله : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونـزلناه تنـزيلا انتهى .

قال الناصر : والأظهر ها هنا هو المعنى الثاني . لأنه في أثناء السورة بعد آيات : وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة قال الله تعالى : كذلك أي : أنزلناه مفرقا كذلك : لنثبت به فؤادك فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة - والله أعلم - . كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد . انتهى .

قال أبو السعود : وإيراده صلى الله عليه وسلم بذلك العنوان ، لتشريفه والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية ، والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ; ردا [ ص: 4563 ] على النصارى ، والكناية في (ليكون ) للعبد أو للفرقان . و(النذير ) صفة بمعنى منذر ، أو مصدر بمعنى الإنذار ، كالنكر مبالغة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[2] الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا .

الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا أي : أحدثه إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية لما أريد منه . كخلق الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المفيدة . وكذلك كل حيوان وجماد خلق على الصورة المقدرة . بأمثلة الحكمة والتدبير لأمر ما ، ومصلحته مطابقا لما قدر له ، غير متجاف عنه .

ولما تضمن هذا إثبات التوحيد والنبوة ، تأثره بالبرهنة عليهما ، وتضليل المخالفين فيهما ، بقوله سبحانه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[3] واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا .

واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا أي : لا يملكون دفع ضر ولا جلب نفع ولا إماتة أحد وإحياءه أولا وبعثه ثانيا . ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهية ، لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها . وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على البعث والجزاء . أفاده القاضي .

[ ص: 4564 ] قال الشهاب : قدم الموت لمناسبته للضر المتقدم وفسر الموت والحياة بالإماتة والإحياء والإنشار ، إما بيانا لحاصل المعنى ، لأن ملك الموت له القدرة على الإماتة ، أو إشارة إلى أنه بمعنى الأفعال . كما في قوله : أنبتكم من الأرض نباتا
القول في تأويل قوله تعالى :

[4 - 5] وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا

وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما أي : بجعل الصدق إفكا ، والبريء عن الإعانة معينا : وزورا أي : باطلا لا مصداق له ، يعلمون من أنفسهم أنه باطل وبهتان : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها أي : ما سطروه ، كتبها لنفسه وأخذها : فهي تملى عليه أي : تلقى عليه ليحفظها : بكرة وأصيلا أي : دائما .

قال ابن كثير : وهذا الكلام ، لسخافته وكذبه وبهته منهم ، يعلم كل أحد بطلانه . فإنه قد علم بالضرورة : أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يعاني شيئا من الكتابة ، لا في أول عمره ولا في آخره . وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده ، إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة ، وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه وبره ونزاهته وأمانته . وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الردية ، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره ، وإلى أن بعث (بالأمين ) لما يعلمون من صدقه وبره . فلما أكرمه الله بما أكرمه به ، نصبوا له العداوة ، ورموه بهذه الأقوال ، التي يعلم كل عاقل براءته منها . وحاروا بما يقذفونه به ، فتارة من إفكهم يقولون : ساحر . وتارة يقولون : شاعر . وتارة يقولون : مجنون . وتارة يقولون كذاب ، قال الله تعالى : انظر [ ص: 4565 ] كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا وقال تعالى في جواب ما افتروه هنا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[6] قل أنـزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما .

قل أنـزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض أي : الخفي فيهما . إشارة إلى علمه تعالى بحالهم بالأولى . ومن مقتضاه رحمته إياهم بإنزاله ، لزيادة حاجتهم وافتقار أمثالهم إلى إخراجهم من الظلمات بأنواره . وفي طيه ترهيب لهم بأن ما يسرونه من الكيد للنبي عليه الصلاة والسلام ، مع ما يتقولونه ويفترونه ، لا يعزب عن علمه . فسيجزيهم عليه بزهوق باطلهم ومحو أثرهم ، وسموق حقه وظهور أمره : إنه كان غفورا رحيما تعليل لما هو مشاهد من تأخير عقوبتهم ، مع استيجابهم إياها . أي : فهو يمهل ولا يعاجل لمغفرته ورحمته . أو الوصفان كناية عن كمال قدرته على الانتقام منهم . لأنه لا يوصف بالمغفرة إلا القادر . هذا ما يستفاد من (" الكشاف " ) ومن تابعه ، لبيانه مطابقة ذلك لما قبله .

وقال ابن كثير : قوله تعالى : إنه كان غفورا رحيما دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم ، وأن من تاب إليه تاب عليه . فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم ، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا ، يدعوهم سبحانه إلى التوبة ، والإقلاع عما هم فيه ، إلى الإسلام والهدى . كما قال تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم وقال تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم [ ص: 4566 ] ولهم عذاب الحريق قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود . قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة .

ثم أشار تعالى إلى تعنتهم بخصوص المنزل عليه ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[7] وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنـزل إليه ملك فيكون معه نذيرا .

وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام أي : كما نأكل : ويمشي في الأسواق أي : يتردد فيها لشؤونه كما نمشي . قال الزمخشري : يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش . أي : فيخالف حاله حالنا . قال أبو السعود : وهل هو إلا لعمههم وركاكة عقولهم ، وقصور أنظارهم على المحسوسات . فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية ، وإنما هو بأمور نفسانية . كما أشير إليه بقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا ، إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك حتى يتساندا في الإنذار فقالوا : لولا أنـزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ثم نزلوا أيضا إلى اقتراح أن يرفد بكنز ، إن لم يرفد بملك ، فقالوا :
القول في تأويل قوله تعالى :

[8] أو يلقى إليه كنـز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا .

أو يلقى إليه كنـز أي : من السماء يستظهر به ، ولا يحتاج إلى طلب المعاش ، ويكون دليلا على صدقه . ثم نزلوا فاقتنعوا باقتراح ما هو أيسر منه ، فقالوا : أو تكون له [ ص: 4567 ] جنة يأكل منها أي : بستان يرتزق منه : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أي : مغلوبا على عقله . وقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[9] انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا .

انظر كيف ضربوا لك الأمثال استعظام للأباطيل التي اجترأوا على التفوه بها . والتعجب منها . أي : انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقوال الخارجة عن العقول : فضلوا فلا يستطيعون سبيلا أي : القدح في نبوتك ، بأن يجدوا قولا يستقرون عليه ، أو فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا إليه .

قال ابن كثير : كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال ، حيثما توجه ، لأن الحق واحد ، ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضا .

ثم نبه تعالى على أنه إن شاء آتاه خيرا مما يقترحون ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[10] تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا .

تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا أي : إن شاء جعل لك خيرا مما قالوا . وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور . ولكن قضت حكمته ذلك ليكون الرضوخ للحق لا للمال . وليصدع بأن الأمر مبني على النظر والاستدلال ، لا ما يلهي المشاعر والخيال . مما يتطرق إلى الشغب فيه والجدال ، فسبحان الحكيم المتعال . وقوله تعالى .
[ ص: 4568 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[11] بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا .

بل كذبوا بالساعة إضراب انتقالي عن توبيخهم بحكاية جنايتهم السابقة ، وانتقال منه إلى توبيخهم بحكاية جنايتهم الأخرى ، للتخلص إلى بيان ما لهم في الآخرة بسببها ، من فنون العذاب ، بقوله : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا أي : نارا شديدة الاستعار ، أي : التوقد والالتهاب .

وقيل : هذا الإضراب عطف على ما حكى عنهم وهو : وقالوا مال هذا الرسول على معنى : بل أتوا بأعجب من ذلك كله ، وهو تكذيبهم بالساعة . والحال أنا قد أعتدنا لكل من كذب بها سعيرا . فإن جراءتهم على التكذيب بها ، وعدم خوفهم مما أعد لمن كذب بها ، أعجب من القول السابق .

ويجوز أن يتصل بما يليه ، كأنه قيل : بل كذبوا بالساعة ، فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ؟ وكيف يصدقون بتعجيل ما وعدك الله في الآخرة وهم لا يؤمنون بها ؟ . ثم وصف تعالى السعير بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[12] إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا .

إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا أي : إذا كانت بمرأى منهم : (أي : قريبة منهم ) ونسبة الرؤية إليها لا إليهم ، للإيذان بأن التغيظ والزفير منها ، لهيجان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم ، حقيقة أو تمثيلا . و(من ) في قوله : من مكان بعيد إشعار بأن بعد ما بينها وبينهم من المسافة ، حين رأتهم ، خارج عن حدود البعد المعتاد في المسافات المعهودة . فيه مزيد تهويل لأمرها . أفاده أبو السعود . و(التغيظ ) : [ ص: 4569 ] إظهار الغيظ وهو أشد الغضب ، وقد يكون مع صوت كما هنا . شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره ، وهو صوت يسمع من جوفه ، تصريحا أو مكنيا أو تمثيلا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[13 - 14] وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا .

وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين أي : قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل : دعوا هنالك ثبورا أي : هلاكا . أي : نادوه نداء المتمني الهلاك . ليسلموا مما هو أشد منه . كما قيل : أشد من الموت ما يتمنى معه الموت . فيقال لهم : لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا لكثرة أنواعه المتوالية . فإن عذاب جهنم ألوان وأفانين . أو كثرته باعتبار تجدد أفراده وإن كان متحدا . أو كثرته كناية عن دوامه . لأن الكثير شأنه ذلك كما قيل في ضده : وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وقيل : وصف الثبور بالكثرة ، لكثرة الدعاء أو المدعو به .
القول في تأويل قوله تعالى :

[15 - 16] قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا .

قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا أي : حقيقا أن يسأل ويطلب ويتنافس فيه . وما في (على ) من معنى الوجوب ، لامتناع الخلف في وعده تعالى .
[ ص: 4570 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[17 - 18] ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا .

ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أي : الله تعالى للمعبودين ، تقريعا لعبدتهم : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل أي : عن السبيل بأنفسهم ، لإخلالهم بالنظر الصحيح ، وإعراضهم عن المرشد : قالوا سبحانك تعجبا مما قيل لهم . لأنهم إما ملائكة معصومون أو جمادات لا قدرة لها على شيء . أو تنزيها له عن الأنداد : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء أي : نعبدهم فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليا غيرك ، أو (من أولياء ) أي : أتباعا للعبادة : ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر استدراك مسوق لبيان أنهم هم الضالون ، بعد بيان تنزههم عن إضلالهم . وقد نعى عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسبابا للضلالة . أي : ما أضللناهم . ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم ، ليعرفوا حقها ويشكروها . فانهمكوا في الشهوات حتى نسوا الذكر ، أي : ذكرك . أو التذكر في آلائك ، والتدبر في آياتك ، فجعلوا أسباب الهداية ، بسوء اختيارهم ، ذريعة إلى الغواية - أفاده أبو السعود : وكانوا قوما بورا أي : هالكين . ثم أشار تعالى لاحتجاجه على عبدتهم وإلزامهم ما يبكتهم ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[19] فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا .

[ ص: 4571 ] فقد كذبوكم أي : المعبودون ، أيها الكفرة : بما تقولون أي : في قولكم إنهم آلهة . أو في قولكم هؤلاء أضلونا : فما تستطيعون أي : ما تملكون : صرفا أي : دفعا للعذاب عنكم بوجه ما : ولا نصرا أي : لأنفسكم من البوار : ومن يظلم منكم أيها المكلفون ، كدأب هؤلاء : نذقه عذابا كبيرا ثم أجاب عن شبههم السابقة ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[20] وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا .

وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق أي : ليحتاجون إلى التغذي بالطعام ويتجولون في الأسواق للتكسب والتجارة . وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم . فإنه تعالى جعل لهم من السمات الحسنة ، والصفات الجميلة ، والأقوال الفاضلة ، والأعمال الكاملة ، والخوارق الباهرة ، والأدلة القاهرة ، ما يستدل به كل ذي لب به كل سليم وبصيرة مستقيمة ، على صدق ما جاءوا به من الله . ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وقوله : وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام

تنبيه :

قال السيوطي في (" الإكليل " ) : في الآية إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الصلاح خلافا لمن كرهها لهم .

[ ص: 4572 ] وقوله تعالى : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا قال الزمخشري : هذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق . بعدما احتج عليهم بسائر الرسل . يقول : وجرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم ، أيها الناس ، ببعض . والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم . وبمناصبتهم لهم العداوة . وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف ، وأنواع أذاهم ، وطلب منهم الصبر الجميل . ونحوه : ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وفي قوله تعالى : وكان ربك بصيرا زيادة تسلية وعدة جليلة . أي : هو عالم فيما يبتلى به وغيره ، فلا يضق صدرك . فإن في صبرك سعادة وفوزا في الدارين .
ثم أشار إلى نوع آخر من أقاويلهم الباطلة ، وإبطالها ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنـزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا .

وقال الذين لا يرجون لقاءنا أي : الرجوع إليه بالبعث والحشر : لولا أنـزل علينا الملائكة أي : للرسالة ، أو لتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم : أو نرى ربنا أي : فيخبرنا بذلك : لقد استكبروا في أنفسهم أي : في شأنها حتى تفوهوا بمثل هذه العظيمة : وعتوا أي : تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان : عتوا كبيرا أي : بالغا أقصى غايته حيث أملوا رتبة التكليم الرباني من غير توسط الرسول والملك . ولم يكتفوا بهذا الذكر الحكيم والخارق العظيم .
[ ص: 4573 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[22] يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا .

يوم يرون الملائكة أي : عند الموت أو في القيامة : لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا أي : كما كانوا يقولون عند لقاء العدو وشدة النازلة : حجرا أي : أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا و : محجورا تأكيد لـ : حجرا وقيل هو من قول الملائكة ومعناه حراما محرما عليكم الغفران والجنة والبشرى ، أي : جعل الله ذلك حراما عليكم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[23] وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا .

وقدمنا إلى ما عملوا من عمل أي : مما كانوا يراءون به ابتغاء السمعة والشهرة ، ويرونه من مكارمهم : فجعلناه هباء منثورا أي : مثل الغبار المنثور في الجو ، في حقارته وعدم نفعه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[24 - 25] أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ويوم تشقق السماء بالغمام ونـزل الملائكة تنـزيلا .

أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ويوم تشقق السماء بالغمام أي : ينصدع نظامها فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما يرى اليوم . فيخرب العالم بأسره . و(الباء ) بمعنى : (مع ) أي : مع السحب الجوية أو بمعنى : (عن ) أي : تنفطر عن الغمام الذي يسود الجو ويظلمه ، ويغم القلوب مرآه : ونـزل الملائكة تنـزيلا فيحيطون بالخلائق في المحشر .
[ ص: 4574 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[26 - 29] الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا .

الملك يومئذ الحق للرحمن أي : فلا يدعيه ثم غيره . ويكون له سبحانه السلطة القاهرة الشاملة : وكان يوما على الكافرين عسيرا ويوم يعض الظالم على يديه أي : تشتد حسراته وتتصاعد زفراته : يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا يعني من أضله عن الذكر ، وصده عن سبيل الله : لقد أضلني عن الذكر أي : القرآن ، أو موعظة الرسول : إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا أي : مبالغا في إضلاله ، يعده ويمنيه في الدنيا ، ما يحسره عليه في العقبى .
القول في تأويل قوله تعالى :

[30] وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا .

وقال الرسول أي : إثر ما شاهد من عتوهم وعنادهم : يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا أي : متروكا ، معرضا عنه . وجملة : وقال الرسول عطف على : وقال الذين لا يرجون وما بينهما اعتراض ، سيقت لانتظام ما قالوه ، وطلب النصر عليهم واستنزال الفرج الإلهي مما أضاقوا به الصدور ، وجلبوه من الكدور ، وللإشارة إلى ما يحيق بهم من شقاء الدارين .

[ ص: 4575 ] تنبيه :

الآية ، وإن كانت في المشركين ، وإعراضهم هو عدم إيمانهم ، إلا أن نظمها الكريم مما يرهب عموم المعرضين عن العمل به ، والأخذ بآدابه . الذي هو حقيقة الهجر . لأن الناس إنما تعبدوا منه بذلك . إذ لا تؤثر تلاوته إلا لمن تدبرها . ولا يتدبرها إلا من يقوم بها ويتمسك بأحكامها .

ومن (فوائد ) الإمام ابن القيم رحمه الله . قوله في هذه الآية : هجر القرآن أنواع :

أحدها : هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه .

والثاني : هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه ، وإن قرأه وآمن به .

والثالث : هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه ، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين ، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم .

والرابع : هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها . فيطلب شفاء دائه من غيره ، ويهجر التداوي به .

قال : وكل هذا داخل في هذه الآية ، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض . انتهى .

وفي (" الإكليل " ) : إن في الآية إشارة إلى التحذير من هجر المصحف وعدم تعاهد بالقراءة فيه . وكذا قال أبو السعود : فيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن ، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم . ثم قال : وفيه من التحذير ما لا يخفى . فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم ، عجل لهم العذاب ولم ينظروا .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 21-11-2024, 09:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْفُرْقَانِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4576 الى صـ 4590
الحلقة (476)








القول في تأويل قوله تعالى :



وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا أي : إلى ما يبلغك ما تتمناه : ونصيرا أي : لك على كل من يناوئك . ثم أشار تعالى إلى مقترح خاص بالتنزيل الكريم ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[32 - 33] وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا .

وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة أي : دفعة واحدة في وقت واحد . وقد بين سبحانه بطلان هذه المماراة والحمقاء بقوله : كذلك لنثبت به فؤادك أي : نقويه به على القيام بأعباء الرسالة ، والنهوض لنشر الحق بين قادة الجهالة . فإن ما يتواتر إنزاله لذلك ، أبعث للهمة وأثبت للعزيمة وأنهض للدعوة ، من نزوله مرة واحدة : ورتلناه ترتيلا أي : فصلناه تفصيلا بديعا ، لا يلحق شأوه ولا يدرك أمده .

قال القاشاني : الترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر ، مدة يمكن فيها ترسخه في قلبه ، وأن يصير ملكة لا حالا : ولا يأتونك بمثل أي : بصفة عجيبة من باطلهم في قدح أو مقترح : إلا جئناك بالحق أي : الذي يقمع تلك الصفة . كما قال : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه وأحسن تفسيرا أي : بيانا وهداية ، عناية بك وبما أرسلت من أجله ، وخذلانا لأعداء الحق وخصوم الرشاد .

تنبيه :

يذكر المفسرون ها هنا أن الآية رد على الكفرة في طلبهم نزول القرآن جملة ، كنزول بقية الكتب جملة . ويرون أن القول بنزول بقية الكتب دفعة ، صحيح . فيأخذون لأجله في سر مفارقة التنزيل له . والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة لا أصل له ، وليس عليه أثارة من علم ، ولا يصححه عقل . فإن تفريق الوحي وتمديد مدته بديهي الثبوت . لمقدار مكث النبي . إذ ما دام بين ظهراني قومه ، فالوحي يتوارد تنزله ضرورة . ومن راجع التوراة والإنجيل الموجودين ، يتجلى له ذلك واضحا لا مرية فيه . وعذر القائل به ظنه أن الآية تعريض بنزول غيره كذلك . وما كل كلام معرض به . وإنما الآية حكاية لاقتراح خاص ، وتعنت متفنن فيه . والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[32 - 33] وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا .

وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة أي : دفعة واحدة في وقت واحد . وقد بين سبحانه بطلان هذه المماراة والحمقاء بقوله : كذلك لنثبت به فؤادك أي : نقويه به على القيام بأعباء الرسالة ، والنهوض لنشر الحق بين قادة الجهالة . فإن ما يتواتر إنزاله لذلك ، أبعث للهمة وأثبت للعزيمة وأنهض للدعوة ، من نزوله مرة واحدة : ورتلناه ترتيلا أي : فصلناه تفصيلا بديعا ، لا يلحق شأوه ولا يدرك أمده .

قال القاشاني : الترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر ، مدة يمكن فيها ترسخه في قلبه ، وأن يصير ملكة لا حالا : ولا يأتونك بمثل أي : بصفة عجيبة من باطلهم في قدح أو مقترح : إلا جئناك بالحق أي : الذي يقمع تلك الصفة . كما قال : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه وأحسن تفسيرا أي : بيانا وهداية ، عناية بك وبما أرسلت من أجله ، وخذلانا لأعداء الحق وخصوم الرشاد .

تنبيه :

يذكر المفسرون ها هنا أن الآية رد على الكفرة في طلبهم نزول القرآن جملة ، كنزول بقية الكتب جملة . ويرون أن القول بنزول بقية الكتب دفعة ، صحيح . فيأخذون لأجله في سر مفارقة التنزيل له . والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة لا أصل له ، وليس عليه أثارة من علم ، ولا يصححه عقل . فإن تفريق الوحي وتمديد مدته بديهي الثبوت . لمقدار مكث النبي . إذ ما دام بين ظهراني قومه ، فالوحي يتوارد تنزله ضرورة . ومن راجع التوراة والإنجيل الموجودين ، يتجلى له ذلك واضحا لا مرية فيه . وعذر القائل به ظنه أن الآية تعريض بنزول غيره كذلك . وما كل كلام معرض به . وإنما الآية حكاية لاقتراح خاص ، وتعنت متفنن فيه . والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[34 - 36] الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا .

الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا وهم فرعون وقومه . والآيات الخوارق التسع . أي : فذهبا إليهم . فأرياهموها فكذبوها : فدمرناهم تدميرا أي : بالإغراق في البحر .
القول في تأويل قوله تعالى :

[37 - 39] وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا .

وقوم نوح لما كذبوا الرسل يعني نوحا . وجمع تعظيما لرسالته . أو هو ومن تقدمه عليهم السلام : أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا يعني قوم هود : وثمود بالصرف وعدمه . قراءتان . على معنى الحي أو القبيلة : وأصحاب الرس اسم بئر . ونبيهم قيل : شعيب ، وقيل غيره . ويروي هنا بعضهم آثارا منكرة لا تصح . كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله . فلا يحل الجراءة على روايتها ، ولا تنزيل الآية عليها . لأنه من قفو ما ليس للمرء به علم . ومثله يحظر الخوض فيه وقرونا أي : أقواما : بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال أي : الأنباء التي تزجر عن الكفر والفساد : وكلا تبرنا تتبيرا أي : إهلاكا عظيما .
القول في تأويل قوله تعالى :

[40] ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا .

ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أي : أهلكت بالحجارة وهي قرى قوم لوط : أفلم يكونوا يرونها أي : في مرورهم ، ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله ؟ وفيه توبيخ لهم على تركهم الذكر ، عند مشاهدة ما يوجبه : بل كانوا لا يرجون نشورا أي : كفرة ، لا يتوقعون عاقبة وجزاء .
القول في تأويل قوله تعالى :

[41 - 42] وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا .

وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا أي : يستهزئون قائلين ذلك . والإشارة للاستحقار . لأن كلمة (هذا ) تستعمل له . وعائد الموصول محذوف . أي : بعثه . و (رسولا ) حال منه : إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها أي : أنه كاد ليصرفنا عن عبادتها صرفا كليا ، لولا أن ثبتنا عليها .

قال الزمخشري : فيه دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم ، وبذل قصارى الوسع والطاعة في استعطافهم ، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم ، حتى شارفوا بزعمهم ، أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام ، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم : وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا جواب منه تعالى لآخر كلامهم . وفيه وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال . ولا بد للوعيد أن يلحقهم ، فلا يغرنهم التأخير .
القول في تأويل قوله تعالى :

[43] أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا .

أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا تعجيب للنبي صلوات الله عليه من شناعة حالهم ، بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال .

قال الزمخشري : من كان في طاعة الهوى في دينه ، يتبعه في كل ما يأتي ويذر ، ولا يتبصر دليلا ، ولا يصغي إلى برهان ، فهو عابد هواه وجاعله إلهه . فيقول تعالى لرسوله : هذا الذي لا يرى معبودا إلا هواه ، فكيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى ؟ أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام ؟ وتقول : لا بد أن تسلم ، شئت أو أبيت . ولا إكراه في الدين . وهكذا كقوله : وما أنت عليهم بجبار لست عليهم بمصيطر
القول في تأويل قوله تعالى :

[44] أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا .

أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا أي : منهم . لأن الأنعام تصرف قواها إلى طلب ما ينفعها ، والنفرة مما يضرها . وهؤلاء عطلوا قواهم وهي العقول التي يهتدى بها للحق ، ويميز بها بين الخير والشر . ثم أشار تعالى إلى بعض دلائل التوحيد ، وما فيها من النعم العظمى الجديرة بأن تتلقى بالشكر لا بالكفر ، كحال هؤلاء الكفرة بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[45] ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا .

ألم تر إلى ربك كيف مد الظل أي : عجيب صنعه أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس : ولو شاء لجعله ساكنا أي : ثابتا على حاله ، من الطول والامتداد . من السكنى أو غير متقلص من (السكون ) بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد فلم ينتفع به أحد : ثم جعلنا الشمس عليه دليلا أي : علامة يستدل بأحوالها في مسيرها على أحوال الظل ، من كونه ثابتا في مكان ، زائلا ومتسعا ومتقلصا . فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه ، على حسب ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى :

[46 - 47] ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا .

ثم قبضناه إلينا أي : أنزلناه بعد ما أنشأناه ممتدا ، ومحوناه بمحض قدرتنا ومشيئتنا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه : قبضا يسيرا أي : على مهل ، قليلا قليلا حسب ارتفاع دليله على وتيرة معينة مطردة مستتبعة لمصالح المخلوقات ومرافقتها . وفي هذا القبض اليسير ، شيئا بعد شيء ، من المنافع ما لا يعد ولا يحصر . ولو قبض دفعة واحدة ، لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا وهو الذي جعل لكم الليل لباسا أي : ساترا كاللباس : والنوم سباتا أي : راحة للأبدان تستعيض به ما خسرته من قواها : وجعل النهار نشورا أي : زمان انتشار لطلب المعاش .
القول في تأويل قوله تعالى :

[48 - 49] وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنـزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا .

وهو الذي أرسل الرياح بشرا أي : ناشرات للسحاب وفي قراءة بشرا بضم الموحدة بدل النون وسكون الشين ، أي : مبشرات : بين يدي رحمته أي : قدام المطر . وهي استعارة بديعة . استعيرت الرحمة للمطر ثم رشحت . كقوله : يبشرهم ربهم برحمة منه وجعلها بين يديه تتمة لها . لأن البشير يتقدم المبشر به . ويجوز أن تكون تمثيلية . و (بشرا ) من تتمة الاستعارة ، داخل في جملتها . ومن قرأ (نشرا ) كان تجريدا لها .

لأن النشر يناسب السحاب : وأنـزلنا من السماء ماء طهورا أي : مطهرا ، لقوله : ليطهركم به وهذه الآية أصل في الطهارة بالماء .

قال القاضي : وتوصيف الماء به إشعار بالنعمة فيه ، وتتميم للمنة فيما بعده . فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته . وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها ، فبواطنهم بذلك أولى : لنحيي به بلدة ميتا أي : بإنبات النبات : ونسقيه أي : ذلك الماء : مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا قال الكرخي : خص الأنعام بالذكر ، لأنها ذخيرتنا ومدار معاش أكثر أهل المدر . ولذلك قدم سقيها على سقيهم ، كما قدم عليها إحياء الأرض . فإنها سبب لحياتها وتعيشها ، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[50 - 52] ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا .

ولقد صرفناه أي : كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر : بينهم ليذكروا أي : ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا : فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي : كفران النعمة وجحودها : ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا أي : نبيا ينذر أهله فيخف عليك أعباء النبوة . لكن لم نشأ ذلك ، فلم نفعله . بل قصرنا الأمر عليك حسبما ينطق به قوله تعالى : ليكون للعالمين نذيرا إجلالا لك وتعظيما ، وتفضيلا لك على سائر الرسل .

وقال المهايمي : أي : لكن لم نشأ . لأنه يقتضي تفرق الأمم ، وتكثر الاختلافات .

فجعلنا الواحد نذيرا للكل ليطيعوه أو يقاتلهم . والكفار يريدون أن يطيعهم الرسل أو يتركوهم على ما هم عليه : فلا تطع الكافرين أي : فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق والتشدد والتصبر . ولا تطعهم فيما يريدونك عليه . وأراد بهذا النهي ، تهييجه وتهييج المؤمنين ، وتحريكهم . أي : إثارة غيرته وغيرتهم . وإلا فإطاعته لهم غير متصورة .

وقال أبو السعود : كأنه نهي له ، عليه الصلاة والسلام ، عن المداراة معهم ، والتلطف معهم . أي : لأن في ذلك إضعافا للحق وتغشية عليه . وطول أمد في سريانه . ولذا قال : وجاهدهم به أي : بالقرآن وما نزل إليك من الحق : جهادا كبيرا أي : لا يخالطه فتور ، بأن تلزمهم بالحجج والآيات ، وتدعوهم إلى النظر في سائر الآنات ، لتتزلزل عقائدهم ، وتسمج في أعينهم عوائدهم . وهذه الآية من أصرح الأدلة في وجوب مجادلة المبطلين ، ودعوتهم إلى الحق بقوة ، والتفنن في محاجتهم بأفانين الأدلة . فإن الحق يتضح بالأدلة . كما أن الشهور تشتهر بالأهلة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[53] وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا .

وهو الذي مرج البحرين أرسلهما متجاورين متلاصقين ، بحيث لا يتمازجان : هذا عذب فرات أي : شديد العذوبة قامع للظمأ : وهذا ملح أجاج أي : بليغ الملوحة : وجعل بينهما برزخا أي : حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر : وحجرا محجورا أي : منعا من وصول أثر أحدهما إلى الآخر ، وامتزاجه به ، حتى بعد دخول أحدهما في الآخر مسافة .

لطيفة :

تلطف هنا المهايمي في تأويل الآية ، بمعنى يصلها بالآية قبلها ، في أسلوب غريب .

قال رحمه الله في قوله تعالى : وجاهدهم به جهادا كبيرا يؤثر في بواطنهم فيكون : { كبيرا } يفوق ما يؤثر في الظواهر (و ) إن زعموا أنه كيف يجاهد بالدلائل من يورد شبهات تجاورها ؟ قيل : غاية أمرها أن يكونا كالبحرين المختلفين المتجاورين . وقد رفع الله الالتباس بينهما بعد ما جاور بينهما وهما محسوسان ، فكيف لا يرفع الالتباس بين البحرين المعقولين إذ : وهو الذي مرج أي : جاور : البحرين اللذين بينهما غاية الخلاف إذ : هذا عذب فرات أي : قاطع للعطش وهو مثل بحر الدلائل المفيدة للذوق ، القاطعة عطش الطلب : وهذا ملح أجاج أي : مبالغ في الملوحة . وهو مثل بحر الشبهات الموجبة للنفرة جدا لأهل الذوق وأما لأهل النظر فقد : وجعل بينهما برزخا أي : مانعا من الخلط . وهو النظر في مواد المقدمات وصورها ليعلم بذلك صحة الدلائل (و ) أما فساد الشبهات فيعلم بالاعتراضات التي لا جواب عنها ، كما أنه جعل بينهما : حجرا أي : منعا من وصول أثر أحدهما إلى الآخر : محجورا أي : ممنوعا أن يمنع . وإن زعموا أن كل فرقة ترى ممسكاته تفيده الذوق وتقطع عنه الطلب ويتنفر عن متمسكات صاحبه أشد من التنفر عن الملح الأجاج ، قيل : ليس هذا بالنظر إلى نفس الدلائل ، بل بواسطة التعصب من جهة الآباء والمشايخ والأصحاب . وقد أوجد الله لإزالة العذر عنه مثالا ، في قوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[54] وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا .

وهو الذي خلق من الماء بشرا أي : كما أخرج من المقدمات نتائج العلوم : فجعله أي : البشر : نسبا أي : أصلا أو فرعا أو حاشية لقوم : وصهرا أي : لآخرين يتعصب من أجل نسبه وصهره ، فيعتقد باطلهم حقا . كذلك أهل الشغب يتعصبون لآبائهم ومشايخهم : وكان ربك قديرا أي : وهو وإن صعب إزالته ، فإن ربك الذي أمرك بالجهاد الكبير ، قدير على إزالته . كما قدر في النسب والصهر . فلا يبالي المؤمنون لهما . انتهى كلام المهايمي رحمه الله .

وهو منزع في باب الإشارة غريب ، أثرناه عنه للطافته . وأما معنى الآية في عظيم اقتداره سبحانه ، حيث خلق البشر وقسمهم من نطفة واحدة قسمين ذوي نسب ، أي : ذكورا ينسب إليهم ، فيقال : فلان بن فلان وفلانة بنت فلان . وذوات صهر أي : إناثا يصاهر بهن ، فظاهر . ونظيره قوله تعالى : فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى
القول في تأويل قوله تعالى :

[55] ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا .

ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا أي : معينا للشيطان على عصيان ربه . والمراد بالكافر الجنس ، فهو إظهار في مقام الإضمار ، لنفي كفرهم عليهم ، ولرعاية الفواصل الكريمة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[56 - 57] وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا .

وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسألكم عليه أي : على تبليغ الرسالة المفهوم من : أرسلناك من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا أي : يتقرب إليه بالإيمان والطاعة . أي : إلى رحمته أو جنابه . فاتخاذ السبيل ، مراد به لازم معناه . لأن من سلك طريق شيء ، قرب إليه ، بل وصل .

قال الزمخشري : مثال : إلا من شاء والمراد : إلا فعل من شاء . واستثنائه عن .

الأجر قول ذي شفقة عليك ، قد سعى لك في تحصيل مال : (ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت ، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه ) . فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب . ولكن صوره هو بصورة الثواب وسماه باسمه ، فأفاد فائدتين : إحداهما : قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله . كأنه يقول لك : إن كان حفظك لمالك ثوابا ، فإني أطلب الثواب .

والثانية : إظهار الشفقة البالغة ، وأنك إن حفظت مالك اعتد بحفظك ثوابا ورضي به ، كما يرضى المثاب بالثواب .

ولعمري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه . انتهى .

والاستثناء على هذا متصل ادعاء .
القول في تأويل قوله تعالى :

[58] وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا .

وتوكل على الحي الذي لا يموت أي : في دفع شرهم ومكرهم : وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا أي : عليما لا يعزب عنه منها شيء ، فيجزيهم عليها .
القول في تأويل قوله تعالى :

[59] الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا .

الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام أي : من أيامه تعالى ، أو أيام الخلق ، قولان للسلف : ثم استوى على العرش أي : علا فوقه علوا يليق بجلاله المقدس . وتقدم تفسيره : الرحمن مرفوع على المدح . أي : هو الرحمن ، وهو في الحقيقة وصف آخر للحي ، كما قرئ بالجر . وقيل : الموصول مبتدأ والرحمن خبره . وقيل : الرحمن بدل من المستكن في : { استوى } وقوله تعالى : فاسأل به خبيرا فيه أوجه : منها (الباء ) في به صلة (اسأل ) ومنها أنها صلة (خبيرا ) و (خبيرا ) مفعول (اسأل ) أي : فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته . أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته . وعليه ففائدة سؤاله هو تصدقه وتأييده .

قال الشهاب : ويصح تنازعهما - أي : اسأل وخبيرا - في الباء . وفيه حينئذ نوع من البديع غريب يسمى المتجاذب . وهو كون لفظ واحد بين جملتين يصح جعله من الأولى والثانية . وقد ذكره السعد في أواخر (" شرح المفتاح " ) وهذا مما غفل عنه أصحاب البديعيات . انتهى . ومنها أن الباء للتجريد . كقولك رأيت به أسدا . أي : برؤيته . أي : اسأل بسؤاله خبيرا والمعنى : إن سألته وجدته خبيرا .

قال في (" الكشف " ) : وهو أوجه ، ليكون كالتتميم لقوله : الذي خلق إلخ فإنه لإثبات القدرة ، مدمجا فيه العلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[60] وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا .

وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أي : من المسمى به ؟ لأنهم ما كانوا يعرفونه تعالى بهذا الاسم ولا يطلقونه عليه . أو الاستفهام للتعجب والاستغراب ، تفننا في الإباء . أي : وما هذه الأسماء والأعلام التي تصدعنا بها ، وتقرع آذاننا بالإذعان لها أنسجد لما تأمرنا وزادهم أي : الأمر بالسجود ، المراد به الإذعان بالإيمان : نفورا أي : استكبارا عن الإيمان .
القول في تأويل قوله تعالى :

[61] تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا .

تبارك الذي جعل في السماء بروجا أي : نجوما أو هي البروج الاثنا عشر ، التي ترى صورها في الأشكال الحاصلة من اجتماع بعض الكواكب على نسب خاصة ، وتنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية وجعل فيها سراجا وهي الشمس : وقمرا منيرا أي : مضيئا بالليل .
القول في تأويل قوله تعالى :

[62] وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا .

وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة أي : ذوي عقبة يعقب كل منهما الآخر : لمن أراد أن يذكر أي : يتفكر فيستدل بذلك على عظم قدرته : أو أراد شكورا أي : يشكر على النعمة فيهما ، من السكون بالليل والتصرف بالنهار . ويكون فيهما بما يقتضيه ما خلقا له .
القول في تأويل قوله تعالى :

[63 - 64] وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما .

وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا أي : هينين . أو مشيا هينا . أي : بسكينة وتواضع . لا يضربون بأقدامهم ، ولا يخفقون تبعا لهم أشرا وبطرا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما أي : إذا خاطبهم السفهاء بالقول السيئ لم يقابلوهم بمثله ، بل قالوا كلاما فيه سلام من الإيذاء والإثم . سواء كان بصيغة السلام كقولهم : (سلام عليكم ) ، أو غيرها مما فيه لطف في القول أو عفو أو صفح . وكظم للغيظ . دفعا بالتي هي أحسن : والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما أي : يكون لهم في الليل فضل صلاة وإنابة ، كما قال تعالى : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وقوله : تتجافى جنوبهم عن المضاجع الآية ، وقوله : أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون و(البيتوتة ) لغة : الدخول في الليل . يقال : بات يفعل كذا يبيت ويبات ، إذا فعله ليلا . وقد تستعار البيتوتة للكينونة مطلقا . إلا أن الحقيقة أولى ، لكثرة ما ورد في معناها مما تلونا . ولذلك قال السلف : في الآية مدح قيام الليل والثناء على أهله . وفي قوله : لربهم إشارة إلى الإخلاص في أدائها وابتغاء وجهه الكريم . لما أن ذلك هو الذي يستتبع أثرها من العمل الصالح وفعل الخير وحفظ حدود الله : وقياما جمع قائم أو مصدر أجري مجراه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[65 - 66] والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما .

والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما أي : هلاكا دائما . والمراد من قولهم ذلك ، فزعهم منها ، ووجلهم الشديد المستتبع لتمسكهم بالتقوى ، واعتصامهم بالسبب الأقوى . لا مجرد قلقلة اللسان ، بلا تأثر من الجنان . فإنهم لم يبتهلوا إلى المولى ، ويتعوذوا به من سعيرها ، إلا لعلمهم بسوء حالها . ومقتضى العلم بالشيء إيفاؤه حقه والعمل بموجبه . ولذا قال تعالى : إنها ساءت مستقرا ومقاما أي : موضع استقرار وإقامة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[67] والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما .

والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما أي : لم يجاوزوا الحد في الإنفاق ، ولم يضيقوا على أنفسهم وأهليهم وما يعروهم بخلا ولؤما . بل كانوا في ذلك متوسطين ، وخير الأمور أوسطها .

قال الزمخشري : وصفهم الله بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير . وبمثله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من فقه الرجل رفقه في معيشته » وأخرج أيضا عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما عال من اقتصد » وروى البزار عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أحسن القصد في الغنى ، وما أحسن القصد في الفقر ، وما أحسن القصد في العبادة » .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 21-11-2024, 09:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4591 الى صـ 4600
الحلقة (477)





القول في تأويل قوله تعالى :

[68 - 70] والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا [ ص: 4591 ] إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما .

والذين لا يدعون مع الله إلها آخر أي : لا يشركون بعبادة ربهم أحدا ، فالدعاء بمعنى العبادة : ولا يقتلون النفس التي حرم الله أي : حرمها بمعنى حرم قتلها . ومنه الوأد وغيره : إلا بالحق أي : المزيل لحرمتها وعصمتها : ولا يزنون ومن يفعل ذلك أي : ما ذكر من هذه القبائح العظام : يلق أثاما أي : يجد في الآخرة جزاء إثمه : يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا أي : ذليلا محتقرا جامعا لعذابي الجسم والروح : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما أي : لمن تاب وآمن وعمل صالحا .

قال الحافظ ابن كثير : وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل . ولا تعارض بين هذه وآية النساء : ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية ، فإن هذه ، وإن كانت مدنية ، إلا أنها مطلقة . فتحمل على من لم يتب . لأن هذه مقيدة بالتوبة . ثم قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية ، وقد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل . كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته ، وغير ذلك من الأحاديث . ثم قال : وفي معنى قوله تعالى : يبدل الله سيئاتهم حسنات قولان :

أحدهما : أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، في هذه الآية : هم المؤمنون . كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن السيئات . فحولهم إلى الحسنات ، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات . وكذا قال سعيد بن جبير : أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن ، [ ص: 4592 ] وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين . وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات . وكذا قال الحسن : أبدلهم بالعمل السيئ العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصا ، وبالفجور إحصانا ، وبالكفر إسلاما .

القول الثاني : إن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح ، حسنات . وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى ، ندم واسترجع واستغفر . فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار . انتهى .

ولابن القيم رحمه الله تعالى في (" طريق الهجرتين " ) في هذا المقام بسط حسن وتناظر متقن ، لا بأس بإيراده ، لعظم فائدته .

قال رحمه الله (بعد شرحه لحديث فرح الله بتوبة عبده ما مثاله ) : وها هنا مسألة ، هذا الموضع أخص المواقع ببيانها . وهي أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحا ، فهل تمحى تلك السيئات وتذهب ، لا له ولا عليه ، أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة ؟ هذا مما اختلف الناس فيه ، من المفسرين وغيرهم ، قديما وحديثا . فقال الزجاج : ليس يجعل مكان السيئة الحسنة لكن يجعل مكان السيئة التوبة ، والحسنة مع التوبة . قال ابن عطية : يجعل أعمالهم ، بدل معاصيهم الأولى طاعة . فيكون ذلك سببا لرحمة الله إياهم ، قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن . ورد على من قال هو في يوم القيامة . قال : وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي ذر يقتضي أن الله سبحانه يوم القيامة ، يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين ، بدل سيئاته حسنات . وذكره الترمذي والطبري . وهذا تأويل سعيد بن المسيب في هذه الآية .

قال ابن عطية : وهو معنى كرم العفو . انتهى .

وسيأتي ذكر الحديث والكلام عليه .

وقال الثعلبي : قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد : يبدل الله سيئاتهم حسنات يبدلهم الله تقبيح أعمالهم في الشرك ، محاسن الأعمال في الإسلام . فيبدلهم بالشرك وبقتل المؤمنين ، قتل المشركين . وبالزنى ، عفة وإحصانا .

[ ص: 4593 ] وقال آخرون : يعني يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم ، حسنات يوم القيامة وأصل القولين ، أن هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة ؟ فمن قال إنه في الدنيا ، قال : هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها . وهي حسنات ، وهذا تبديل حقيقة . والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة تنقلب حسنة ، بل غايتها أن تمحى وتكفر ويذهب أثرها ، فأما أن تنقلب حسنة فلا . فإنها لم تكن طاعة ، وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب ، فكيف تنقلب محبوبة مرضية ؟

قالوا : وأيضا فالذي دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب ، كقوله : ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وقوله : ويعفو عن السيئات وقوله : إن الله يغفر الذنوب جميعا والقرآن مملوء من ذلك وفي الصحيح من حديث قتادة عن صفوان بن محرز قال : قال رجل لابن عمر : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ قال : سمعته يقول : « يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بذنوبه فيقول : هل تعرف ؟ فيقول : رب ! أعرف قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم . فيعطى صحيفة حسناته » .

وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على الله عز وجل .

فهذا الحديث المتفق عليه ، والذي تضمن العناية بهذا العبد ، إنما فيه ستر ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتها له يوم القيامة . ولم يقل له : وأعطيتك بكل سيئة منها حسنة . فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها .

[ ص: 4594 ] وقد قال الله في حق الصادقين : ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون فهؤلاء خيار الخلق . وقد أخبر عنهم أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم ويجزيهم بأحسن ما يعملون . وأحسن ما عملوا إنما هو الحسنات لا السيئات ، فدل على أن الجزاء بالحسنى إنما يكون على الحسنات وحدها . وأما السيئات ، أن تلغى ويبطل أثرها . قالوا : وأيضا ، فلو انقلبت السيئات أنفسها حسنات في حق التائب ، لكان أحسن حالا من الذي لم يرتكب منها شيئا . وأكثر حسنات منه ، لأنه إذا أساء شاركه في حسناته التي فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات ، ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه . وكيف يكون صاحب السيئات أرجح من لا سيئة له ؟ قالوا : وأيضا فكما أن العبد ، إذا فعل حسنات ثم أتى بما يحبطها ، فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها ، بل يبطل أثرها ويكون لا له ولا عليه ، وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها . فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها ، فإنها لا تنقلب حسنات فإن قلتم : وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته ، لم ننازعكم في هذا . وليس هذا معنى الحسنة فإن الحسنة تقتضي ثوابا وجوديا . واحتجت الطائفة الأخرى التي قالت : هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة ، بأن قالت : حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة . وهذا إنما يكون في السيئة المحققة . وهي التي قد فعلت ووقعت . فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأثبت مكانها حسنة . قالوا : ولهذا قال تعالى : سيئاتهم حسنات فأضاف السيئات إليهم ، لكونهم باشروها واكتسبوها . ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم ، لأنها من غير صنعهم وكسبهم ، بل هي مجرد فضل الله وكرمه قالوا : وأيضا ، فالتبديل في الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات ، ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم . فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها ، كما قال تعالى : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم وأما ما كان من غير الفاعل ، فإنه يجعله من تبديله هو ، كما قال تعالى : وبدلناهم بجنتيهم جنتين فلما أخبر سبحانه أنه هو الذي يبدل سيئاتهم حسنات ، دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم ، لا أنهم فعلوه من تلقاء [ ص: 4595 ] أنفسهم . وإن كان سببه منهم وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح .

قالوا : ويدل عليه ما رواه ( مسلم ) في صحيحه عن أبي ذر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة . وآخر أهل النار خروجا منها . رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها . فتعرض عليه صغار ذنوبه . فيقال : عملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا . وعملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا فيقول : نعم . لا يستطيع أن ينكر ، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له : فإن لك مكان كل سيئة حسنة » قالوا : وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة . فإنهم إنما سموا أبدالا لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة ، بالأعمال الحسنة ، فبدل الله سيئاتهم التي عملوا حسنات .

قالوا : وأيضا فالجزاء من جنس العمل . فكما بدلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة ، بدلها الله من صحف الحفظة ، حسنات جزاء وفاقا .

قالت الطائفة الأولى : كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبي ذر ، على صحة قولكم ، وهو صريح في أن هذا الذي قد بدلت سيئاته حسنات ، قد عذب عليها في النار ، حتى كان آخر أهلها خروجا منها فهذا قد عوقب على سيئاته . فزال أثرها بالعقوبة . فبدل مكان كل سيئة منها حسنة . وهذا حكم غير ما نحن فيه . فإن الكلام في التائب من السيئات ، لا فيمن مات مصرا عليها غير تائب . فأين أحدهما من الآخر ؟

قالوا : وأما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيئة ، فحق . وكذلك نقول : إن الحسنة المفعولة صارت في مكان السيئة ، التي لولا الحسنة لحلت محلها .

قالوا : وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم ، وذلك يقتضي أن تكون هي السيئات الواقعة وتنكير الحسنات وهو يقتضي أن تكون حسنات من فضل الله ، فهو حق بلا ريب . ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها ، مقارنا لكسبهم إياها بفضله ؟ .

قالوا : وأما قولكم إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم ، وذلك يقتضي أنه هو الذي بدلها من الصحف ، لأنهم هم الذين بدلوا الأعمال بأضدادها ، فهذا لا دليل لكم . فإن الله خالق [ ص: 4596 ] أفعال العباد . فهو المبدل للسيئات حسنات خلقا وتكوينا ، وهم المبدلون لها فعلا وكسبا .

قالوا : وأما احتجاجكم بأن الجزاء من جنس العمل ، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم أبدلها الله كذلك في صحف الأعمال . فهذا حق ، وبه نقول ، وإنه بدلت السيئات التي كانت مهيأة ومعدة أن تحل في الصحف ، بحسنات جعلت موضعها . فهذا منتهى إقدام الطائفتين ، ومحط نظر الفريقين . وإليك أيها المنصف الحكم بينهما . فقد أدلى كل منهما بحجته ، وأقام بينته . والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما . فأرشد الله من أعان على هدى ، فنال به درجة الداعين إلى الله ، القائمين ببيان حججه ودينه . أو عذر طالبا منفردا في طريق مطلبه ، قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق . فغاية أمنيته أن يخلى بينه وبين سيره ، وألا يقطع عليه طريقه . فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه ، فقد رضي بالدون . وحصل على صفقة المغبون . ومن شمر إليه ورام ألا يعارضه معارض ، ولا يتصدى له ممانع ، فقد منى نفسه المحال ، وإن صبر على لأوائها وشدتها ، فهو والله الفوز المبين ، والحظ الجزيل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .

فالصواب ، إن شاء الله في هذه المسألة ، أن يقال : لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة . والحسنة إنما هي أمر وجودي يقتضي ثوابا ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن موافقة المنهي . وذلك الكف والحبس أمر وجودي وهو متعلق الثواب . وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلا ، ولم يحدث به نفسه ، فهذا كيف يثاب على تركه ؟ ولو أثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب ، لكان مثابا على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى فإن الترك مستصحب معه ، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط ، فهل يثاب على ذلك كله ؟ وهذا مما لا يتوهم . وإذا كانت الحسنة لا بد أن تكون أمرا وجوديا ، فالتائب من الذنوب التي عملها ، قد قارن كل ذنب منها ، ندما عليه ، وكف نفسه عنه ، وعزم على ترك معاودته . وهذه حسنات بلا ريب . وقد محت التوبة أثر الذنب ، وخلفه هذا الندم والعزم ، وهو حسنة ، قد بدلت تلك السيئة حسنة . وهذا معنى قول بعض [ ص: 4597 ] المفسرين : يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة . فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها ، فتوبته منها حسنة حلت مكانها . فهذا معنى التبديل . لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة .

وقال بعض المفسرين في هذه الآية : يعطيهم بالندم على كل سيئة أساءوها حسنة . وعلى هذا ، فقد زال بحمد الله الإشكال . واتضح الصواب . وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة .

وأما حديث أبي ذر ، وإن كان التبديل فيه حق المصر الذي عذب على سيئاته ، فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته . فإن الذنوب التي عذب عليها المصر ، لما أزال أثرها بالعقوبة ، بقيت كأن لم تكن ، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة ، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها ، مع العقوبة ، لا يقتضي زوال أثره وتبديلها حسنات . فزوال أثرها بالتوبة النصوح ، أعظم من زوال أثرها بالعقوبة . فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة ، حسنات ، فلأن تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات ، أولى وأحرى . وتأثير التوبة في هذا المحو والتبديل أقوى من تأثير العقوبة . لأن التوبة فعل اختياري أتى به العبد طوعا ومحبة لله وفرقا منه ، وأما العقوبة ، فالتكفير بها من جنس التفكير بالمصائب التي تصيبه بغير اختياره ، بل يفعل الله . ولا ريب أن تأثير الأفعال الاختيارية التي يحبها الله ويرضاها في محو الذنوب ، أعظم من تأثير المصائب التي تناله بغير اختياره .

انتهى كلامه رحمه الله . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[71] ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا .

ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا أي : ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح ، فإنه بذلك تائب إلى الله متابا مرضيا عنده ، مكفرا للخطايا ، محصلا للثواب . قرره الزمخشري .

والآية صريحة في أن العمل الصالح والمثابرة عليه قولا وفعلا ، شرط في صحة التوبة وقبولها وأنه لا اعتداد بها بدون العمل الصالح . فليتفطن لمعنى هذا الآية من يتوهم أن التوبة استغفار بلسان ، أو تخشع بأركان ، ولا عمل صالح له يرضي الرحمن .
[ ص: 4598 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[72 - 73] والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا .

والذين لا يشهدون الزور أي : لا يحضرون الباطل . يقال : (شهد كذا ) أي : حضره . فـ(الزور ) : مفعول به بتقدير مضاف أي : محاله . و(يشهدون ) من الشهادة . فالزور منصوب على المصدر أو بنزع الخافض أي : شهادة الزور أو بالزور . وقد أشار الزمخشري للوجهين بقوله : يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين ، فلا يحضرونها ولا يقربونها ، تنزها عن مخالطة الشر وأهله وصيانة لدينهم عما يثلمه . لأن مشاهدة الباطل شركة فيه . ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة (هم شركاء فاعلية في الإثم ) لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به ، وسبب وجوده ، والزيادة فيه لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ، ورغبتهم في النظر إليه . ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور . انتهى وهي الكذب متعمدا على غيره .

قال المبرد في (" الكامل " ) : ويروى عن ابن عباس في هذه الآية : والذين لا يشهدون الزور قال : أعياد المشركين . وقال ابن مسعود : الزور الغناء . فقيل لابن عباس : أو ما هذا في الشهادة بالزور ؟ فقال : لا ، إنما آية شهادة الزور : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا وإذا مروا باللغو مروا كراما أي : اتفق مرورهم بأهل اللغو ، وهو كل ما ينبغي ويطرح ، مروا معرضين عنهم ، مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم كقوله تعالى : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ويدخل في ذلك الإغضاء عن الفواحش ، والصفح عن الذنوب ، والكناية عما يستهجن التصريح به وذلك لأن كراما : جمع كريم بمعنى مكرم لنفسه وغيره بالصفح ونحوه : والذين إذا ذكروا بآيات ربهم أي وعظوا بها وخوفوا : لم يخروا عليها صما وعميانا أي : بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية ، مجتلين لها [ ص: 4599 ] بعيون راعية . وإنما عبر بنفي الضد ، تعريضا لما يفعله الكفرة والمنافقون من شدة الإعراض والإباء والنفرة ، المستعار لها الخرور على تلك الحالة استعارة بديعة . لما فيهم من إسقاطهم من الإنسانية إلى البهيمية ، بل إلى أدنى منها ، لأنها تسمع وتبصر ، وقد نفينا عنهم .

وفي التنزيل الكريم من توصيف المؤمنين بوجل قلوبهم لذكره تعالى ، وزيادة إيمانهم إذا تلي عليهم الذكر الحكيم ، آيات عديدة . ولذا قال قتادة فيهم : هم قوم عقلوا عن الله ، وانتفعوا بما سمعوا من كتابه ويرحم الله الحسن البصري ، فقد قال : كم من رجل يقرؤها ، ويخر عليها أصم أعمى .
القول في تأويل قوله تعالى :

والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما [74] .

والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين أي : أولادا وحفدة ، تقر بهم العيون وتسر بمكانهم الأنفس ، لحيازتهم الفضائل واتصافهم بأحسن الشمائل . وقرة العين إما من القر وهو البرد . لأن دمعة السرور باردة ، لذا قيل في ضده : أسخن الله عينه أو من القرار لعدم النظر لغيره ، وجوز في من أن تكون ببيانه وعليه قول كثير من أن فيه الدعاء بصلاح الزوجات . وقوله تعالى : واجعلنا للمتقين إماما أي : أئمة . اكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ، مع رعاية الفواصل . أي : يقتدى بنا في الخير . أو هداة دعاة إلى الخير . فإن ذلك أكثر ثوابا وأحسن مآبا . قال في " الإكليل " : في الآية طلب الإمام في الخير . وفي " العجائب "للكرماني : قال القفال وغيره من المفسرين : في الآية دليل على أن طلب الرياسة في الدين واجب . انتهى .

وكذا قال الزمخشري ، عن بعضهم : إن فيه ما يدل على أن الرياسة في الدين ، يجب أن تطلب ويرغب فيها . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما [ ص: 4600 ] خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما [75 - 77] .

أولئك إشارة إلى المتصفين بما ذكر . خبر لعباد الرحمن أو مبتدأ خبره : يجزون الغرفة بما صبروا أي : على مشاق المجاهدات في الدعوة إلى الخيرات ، والدأب على الخيرات ، واجتناب المحظورات . والغرفة الدرجة العليا من المنازل في الجنة : ويلقون فيها تحية وسلاما أي : تحييهم الملائكة وتسلم عليهم . أو يحيي بعضهم بعضا ويسلم عليه . والقصد أنهم يلقون فيها التوقير والاحترام ، فلهم السلام وعليهم السلام : خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما لسلامة أهلها عن الآفات ، وخلودهم أبد الآباد .

قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم أي : لا يبالي بكم ولا يبقيكم إلا إذا عبدتموه وآمنتم به وحده . فالدعاء بمعنى العبادة ، كما مر .

ثم أشار إلى أنه كيف يمكن العبء بهم ، أو يتصور ، وقد وجد منهم ما ينافيه ، بقوله تعالى : فقد كذبتم أي : بما جاءكم من الحق . أي : وقد تلي عليكم سنة من كذب وأصر : فسوف يكون لزاما اللزام : مصدر مؤول باسم الفاعل أتى به للمبالغة . أي : فسوف يكون هذا النبأ أو الذكر الحكيم ، أو الأمر الجليل ، أمر الرسالة ، لازما وثابتا . يفتح من الحق رتاجا . وتدخل الناس في دين الله أفواجا . ولقد صدق الله وعده . ونصر عبده وأعز جنده . هزم الأحزاب وحده . نسأله تعالى خير ما عنده .

تم هذا الجزء بحمده تعالى ، ضحوة السبت في 8 صفر الخير ، في سدة جامع السنانية بدمشق عام 1325 بيد جامعه الفقير محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح ، القاسمي الدمشقي عفا عنه مولاه . آمين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

26- سُورَةُ الشُّعَرَاءِ


وهي مكية، إلا قوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون إلى آخرها. وقوله: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل فقد روي أنهما نزلتا بالمدينة، وكان شعراؤه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حسان وكعب بن مالك وابن رواحة، رضي الله عنهم.

وقال الداني : روي بسند صحيح أنها نزلت في شاعرين تهاجيا في الجاهلية، مع كل واحد منهم جماعة. فالسورة على هذا كلها مكية. انتهى.

وقال المهايمي: سميت هذه السورة بها، لاختصاصها بتمييز الرسل عن الشعراء، لأن الشاعر، إن كان كاذبا فهو رئيس الغواة لا يتصور منه الهداية، وإن كان صادقا لا يتصور منه الافتراء على الله تعالى، وهذا من أعظم مقاصد القرآن، انتهى.

يشير إلى أن ذكر الشعراء فيها، لبيان أنهم في معزل عن الرسالة وتبرئة مقام الرسول صلوات الله عليه. عما افتروا عليه من أنه شاعر، فالسورة على هذا كلها مكية، ردا لفريتهم.

ولما كان لفظ (الشعراء) عاما، جاز حمله على ما حكوه لشموله له، لا أنه نزل فيه خاصة دون غيره. وسيأتي، إن شاء الله تعالى، إيضاح ذلك وهي مائتان وسبع وعشرون آية. قال ابن كثير : وقع في تفسير مالك المروي عنه، تسميتها (الجامعة).

[ ص: 4605 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1] طسم .

"طسم" سبق في سورة البقرة الأقوال في هذه الفواتح، وأن الأكثر على أنها اسم للسورة، فمحله الرفع على أنه خبر لمحذوف، وهو أظهر من رفعه على الابتداء، أو النصب بتقدير: اقرأ ونحوه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[2] تلك آيات الكتاب المبين

تلك آيات الكتاب المبين الإشارة إلى السورة، وما فيها من معنى البعد للتفخيم، ومحله الرفع على الابتداء، خبره ما بعده أو بدل مما قبله. والمراد بـ(الكتاب) القرآن. و بـ(المبين) الظاهر إعجازه وآيته وبرهانه. ومن (أبان) بمعنى: بان - أو المبين للحق من الباطل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[3] لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين .

لعلك باخع أي: قاتل: نفسك ألا يكونوا مؤمنين أي: لعدم إيمانهم. و(لعل) للإشفاق. أي: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على عدم إيمانهم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 21-11-2024, 09:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْشعراء
المجلد الثالث عشر
صـ 4605 الى صـ 4620
الحلقة (478)



القول في تأويل قوله تعالى:

[4] إن نشأ ننـزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين

إن نشأ ننـزل عليهم من السماء آية أي: ملجئة لهم إلى الإيمان، قاسرة عليه: فظلت [ ص: 4606 ] أعناقهم لها خاضعين أي: منقادين، والجملة مستأنفة لتعليل ما يفهم من الكلام من النهي عن التحسر المذكور، ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به مشيئة الله تعالى حتما، فلا وجه للطمع فيه، والتألم من فواته. قاله أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى:

[5] وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين

وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين أي: مكذبين، استهزاء وإصرار على ما كانوا عليه من الكفر. وتقدم نظير الآية في أول سورة الأنبياء، وتحقيق معنى قوله تعالى: "محدث" فتذكر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[6] فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون

فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون أي: أحواله الباهرة وشؤونه القاهرة، وظهور أعلامه، وبقاء أيامه، وفيه وعيد لهم بحلول الذل بهم، ونزول الصغار وقتئذ بدارهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[7] أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم .

أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم أي: صنف مرضي كثير المنافع.
القول في تأويل قوله تعالى:

[8] إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين

[ ص: 4607 ] إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين لصرفهم اختيارهم إلى جانب الكفر، في هذه الآيات.
القول في تأويل قوله تعالى:

[9] وإن ربك لهو العزيز الرحيم

وإن ربك لهو العزيز الرحيم أي: فهو القادر على الانتقام منهم بلا ممانع، والرحيم بإمهاله وحلمه عنهم، فلينتبهوا قبل أن يحل بهم ما حل بفرعون وقومه، ولذا استأنف نبأ موسى عليه السلام معه، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[10 - 13] وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون

وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني أي: في أداء الرسالة، في بسطة من المقال: فأرسل إلى هارون أي: ليوازرني ويشد به عضدي. والمفعول محذوف، أي: ملكا أو جبريل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[14 - 15] ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون

[ ص: 4608 ] ولهم علي ذنب وهو قتل القبطي، المبسوط في غير هذه السورة: فأخاف أن يقتلون قال كلا أي: لا تخف إنك من الآمنين: فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون مزيد تسلية لهما، بكمال الحفظ والنصرة.

قال أبو السعود: مثل حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهم، ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم، مبالغة في الوعيد بالإعانة. انتهى.

ولو قيل هو كناية عن ذلك، كان أولى. لجواز بقاء المعنى الحقيقي معها، وهو هنا كذلك فهو تعالى مستمع لهما وحافظ وناصر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[16 - 17] فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل

فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل ليتحرروا من عبوديتك وعذابك المهين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[18 - 19] قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين .

قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت يعني قتل القبطي وأنت من الكافرين أي: بنعمتي.
القول في تأويل قوله تعالى:

[20] قال فعلتها إذا وأنا من الضالين

[ ص: 4609 ] قال فعلتها إذا وأنا من الضالين أي: الجاهلين بكون الوكزة مفضية إلى القتل. أو الذاهبين عن صواب الحلم والعفو والدفع بالأحسن.
القول في تأويل قوله تعالى:

[21] ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين

ففررت منكم لما خفتكم أي: تقتلوني على القتل الخطأ، فنجاني الله منكم، وزادني إنعاما: فوهب لي ربي حكما أي: حكمة أو نبوة: وجعلني من المرسلين أي: لإبطال دعواك الربوبية، واستئصال شبه ما عليه قومك من الوثنية. وطلب إرسال قومي إلى مواطنهم الأصلية، وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[22] وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل

وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل إبطال لمنته عليه في التربية، ببيان أنها في الحقيقة نقمة. لأنه كان اتخذ بني إسرائيل عبيدا مسخرين في شؤونه، مذللين لأموره، مقهورين لعسفه. وموسى عليه السلام، وإن لم ينله من ذلك ما نالهم، إلا أنه لما كان منهم، فكأنه وصل إليه، وحل به، كما قيل: (وظلم الجار إذلال المجير) أي: لا يفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسأت إلى مجموعهم، وما أنا إلا عضو منهم. وفي فحواها تقريعه بالكبرياء المتناهية، والقسوة البالغة، والسلطة الغالية التي من ورائها الفرج القريب، والمخرج العجيب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[23 - 25] قال فرعون وما رب العالمين [ ص: 4610 ] قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون

قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون أي: لهذا النبأ العجيب، وهو توحيد المعبود.

وإنما عده جديرا بأن يتعجبوا منه، لنهم، على ما حققه المؤرخون، غلوا في عبادة الأصنام وتعديد الآلهة غلوا أربوا على كل من سواهم في الضلال. فكانوا يسجدون للشمس والقمر، والنجوم، والأشخاص البشرية، والحيوانات، حتى الهوام، وأدنى حشرات الأرض.
القول في تأويل قوله تعالى:

[26 - 28] قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون

قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون أي: لكونه يدعو إلى خلاف ما عقل عن الآباء.

قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون أي: شيئا ما، أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته. وفيه إيذان بغاية وضوح الأمر، بحيث لا يشتبه على من له عقل في الجملة، وتلويح بأنهم بمعزل من دائرة العقل، وإنهم المتصفون بما رموه عليه السلام به من الجنون.

تنبيه:

ذهب بعض المفسرين إلى أن فرعون كان من المعطلة، لا يقر بخالق، ولا يعترف بمعبود [ ص: 4611 ] لظاهر قوله: ما علمت لكم من إله غيري وأن قومه كانوا لا يؤلهون سواه.

قال ابن كثير : ومن زعم من أهل المنطق أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط. فإنه لم يكن مقرا بالصانع، حتى يسأل عن الماهية، بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر. انتهى.

وقدمنا أنه حقق الاكتشاف الصحيح والتاريخ الوثيق، أنه كان من الوثنيين الغالين. وأن له ولقومه عدة معبودين علويين وسفليين.

وعليه فمعنى قوله: ما علمت لكم من إله غيري أي: مطاع عظيم، وكانوا لا يتحاشون من إطلاق الإله على الجبار المسيطر. فبقي سؤاله بما يحتمل أن يكون على نهج القاعدة المنطقية، من طلب الاكتناه، وتعجبه من جوابه، ثم رميه بالجنون، ثانيا، لعدوله عن الكنه إلى الأثر. ويحتمل أن يكون لتعرفه من جهة وحدته في ربوبيته التي ادعاها موسى، وأن تعجبه لما شاهد من الجد في الدعوة والثبات عليها، والصدع بما يؤلم عظمته، ويغمز جبروته; وهذا هو الذي أذهب إليه، فإن القوم بمعزل عن أن يعجبوا لكون الجواب كان بالرسم لا بالحد، إذ هو اصطلاح لفئة خاصة، ومع هذا فالنظم يحتمله ولا يأباه. وقد عول عليه كثير من أهل النظر، ولا بأس بأن نأثر شيئا من لطائفهم فيه.

قال الرازي: السؤال بـ(ما) طلب لتعريف حقيقة الشيء. وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة، أو بشيء من أجزائها، أو بأمر خارج عنها، أو بما يتركب من الداخل والخارج. أما تعريفها بنفسها فمحال; لأن المعرف معلوم قبل المعرف. فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوما قبل أن يكون معلوما، وهو محال. وأما تعريفها بالأمور الداخلية فيها، فهاهنا في حق واجب الوجود محال، لأن التعريف بالأمور الداخلة، لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركبا، وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركبا; لأن كل مركب، فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه. وكل واحد من أجزائه فهو غيره; فكل مركب محتاج إلى غيره. وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته. وكل مركب فهو ممكن، فما ليس بممكن يستحيل أن [ ص: 4612 ] يكون مركبا. فواجب الوجود ليس بمركب، وإذا لم يكن مركبا استحال تعريفه بأجزائه. ولما بطل هذان القسمان، ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود، إلا بلوازمه وآثاره.

ثم إن اللوازم قد تكون خفية، وقد تكون جلية. ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية، بل لا بد من تعريفها باللوازم الجلية. وأظهر آثار ذات واجب الوجود وهو هذا العالم المحسوس، وهو السماوات والأرض وما بينهما.

فقد ثبت أنه لا جواب البتة لقول فرعون: وما رب العالمين إلا ما قاله موسى عليه السلام، وهو أنه رب السماوات والأرض وما بينهما. فأما قوله: إن كنتم موقنين فمعناه إن كنتم موقنين باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته. لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته، وثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره. وثبت أن تلك الآثار لا بد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء، وما ذاك إلا السماوات والأرض وما بينهما. فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال، إلا هذا الجواب.

ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق، قال فرعون لمن حوله: ألا تستمعون وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى، يعني أنا أطلب منه الماهية، وخصوصية الحقيقة، وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية.

وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها، لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية، وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء أنه الذي يلزمه اللازم الفلاني، فهذا المذكور، إما أن يكون معرفا لمجرد كونه أمرا ما يلزمه ذلك اللازم. أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزومية والأول محال. لأن كونه أمرا يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفا. فلو كان المكشوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معرفا لنفسه، وهو محال. والثاني محال، لأن العلم بأنه أمر ما، يلزمه اللازم الفلاني، لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزمة، لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك [ ص: 4613 ] الماهيات المختلفة في لوازم متساوية. فثبت أن التعريف بالوصف الخارجي، لا يفيد معرفة نفس الحقيقة فلم يكن كونه ربا للسموات والأرض وما بينهما جوابا عن قوله: وما رب العالمين فأجاب موسى عليه السلام بأن قال: قال ربكم ورب آبائكم الأولين وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض، إلى التعريف بكونه تعالى خالقا لنا ولآبائنا. وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السماوات والأرضين، واجبة لذواتها، فهي غنية عن الخالق والمؤثر. ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده، كونهم واجبين لذواتهم. لما أن المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم، ثم عدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجبا لذاته. وما لم يكن واجبا لذاته، استحال وجوده إلا لمؤثر. فكان التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول، إليه. فقال فرعون: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون يعني المقصود من سؤال (ما) طلب الماهية، وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون، لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه.

فقال موسى عليه السلام: قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني، وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار، والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب، لا يتم إلا بتدبير مدبر، وأما قوله: إن كنتم تعقلون فكأنه عليه السلام قال: إن كنت من العقلاء، عرفت أنه لا جواب عن سؤالك، إلا ما ذكرت، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته بنفس حقيقته. وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته. فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته. وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته، فقد ثبت أن كل من كان عاقلا، يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته.

ثم قال الرازي: وقد بينا في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: وهو القاهر [ ص: 4614 ] فوق عباده أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي هي غير معقولة للبشر، انتهى.

وقال الإمام ابن حزم في (الملل والنحل) في الكلام في المائية: ذهب طوائف من المعتزلة إلى أن الله تعالى لا مائية له. وذهب أهل السنة وضرار بن عمرو ، إلى أن لله تعالى مائية. قال ضرار: لا يعلمها غيره. قال ابن حزم: والذي نقول به، وبالله تعالى التوفيق، أن له مائية هي إنيته نفسها، وإنه لا جواب لمن سأل: ما هو البارئ، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام; إذ سأله فرعون: وما رب العالمين ونقول إنه لا جواب هاهنا لا في علم الله تعالى ولا عندنا، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام. لأن الله تعالى حمد ذلك منه وصدق فيه. ولو لم يكن جوابا صحيحا تاما لا نقص فيه، لما حمده الله تعالى.

ثم قال: ههنا نقف ولا نعلم أكثر. ولا ههنا أيضا شيء غير هذا، إلا ما علمنا ربنا تعالى، من سائر أسمائه، كالعليم والقدير والمؤمن والمهيمن وسائر أسمائه.

قال تعالى: ولا يحيطون به علما إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفي عن الله عز وجل، وواجب في غيره، لوقوع العدد المحاط به في أعراض كل ما دونه تعالى، ولا يحاط بما لا حدود له ولا عدد له. فصح يقينا أننا نعلم الله عز وجل حقا، ولا نحيط به علما. انتهى ملخصا.

ولما سمع فرعون تلك المقالات المبنية على أساس الحكم البالغة، وشاهد شدة حزم موسى عليه السلام وقوة عزمه على دعوته، عدل عن خطة الإنصاف إلى الاعتساف، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[29 - 39] قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين [ ص: 4615 ] فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونـزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون

قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونـزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه قرئ بهمز وبدونه، وهما لغتان. يقال أرجأته وأرجيته إذا أخرته. والمعنى أخرهما ومناظرتهما لوقت اجتماع السحرة: وابعث في المدائن حاشرين أي: شرطا يحشرون السحرة، أي: يجمعونهم عندك: يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون أي: لرؤية ما يعارض معجزة موسى. وكان خامر فؤادهم عجب منها واندهاش. والاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال.
[ ص: 4616 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[40 - 46] لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين .

لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون أي: تبتلع ما موهوا به إفكا وزورا: فألقي السحرة ساجدين أي: على وجوههم منقادين له بالإيمان، لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر. وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لا حقيقة له، التبحر في كل فن نافع وإن لم يكن من العلوم الشرعية، فإن هؤلاء السحرة لتبحرهم في علم السحر، علموا حقيقة ما أتى به موسى عليه السلام، وأنه معجزة. فانتقلوا بزيادة علمهم الذي أداهم إلى الاعتراف بالحق والإيمان، لفرقهم بين المعجزة والسحر. قاله القاضي شهاب.
[ ص: 4617 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[47 - 51] قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين

قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر أي: فعلمكم شيئا دون شيء، ولذلك غلبكم. أو فواعدكم ذلك وتواطأتم عليه. أراد به التلبيس على قومه; كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق.

فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف أي: جانبين متخالفين: ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون أي: لا ضرر علينا في ذلك، بل لنا فيه أعظم النفع، لأنا بفعلك هذا وصبرنا عليه، شهادة على حقيته، إلى ثوابه ورحمته راجعون، فننقلب خير منقلب، شهداء سعداء: إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن أي: لأن: كنا أول المؤمنين أي: من أظهر الإيمان كفاحا، مجاهرة بالحق بلا تقية. ثم أشار تعالى إلى خروج موسى بقومه من مصر بإيحائه إليه. وكان إذن فرعون له بذلك بعد ما أراه الآيات البينات ثم ندم عليه، فأتاه الإذن الإلهي به، كما قال تعالى:
[ ص: 4618 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[52] وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون .

وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون أي: سر بهم ليلا، فإنه إذا وصل خبر سيركم إلى فرعون، لا بد أن يتبعكم بجنوده لإرجاعكم، إلا أنكم تتقدمونه ولا يدرككم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[53] فأرسل فرعون في المدائن حاشرين .

فأرسل فرعون أي: حين أخبر بسراهم: في المدائن حاشرين أي: جامعين لعسكره، قائلين ما يقلل به الأعداء في أعين الجنود:
القول في تأويل قوله تعالى:

[54 - 58] إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم .

إن هؤلاء أي: بني إسرائيل الخارجين: لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون أي: يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا من مخالفة أمرنا والخروج بغير إذن منا: وإنا لجميع حاذرون أي: من مكرهم وسعيهم بالفساد في الأرض: فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم يعني: المنازل الحسنة والمجالس البهية.
[ ص: 4619 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[59] كذلك وأورثناها بني إسرائيل

كذلك إشارة إلى مصدر، أي: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم، فهو في محل نصب صفة لمصدر مقدر، أو هو خبر محذوف، أي: كذلك.

قال الشهاب: وإذا قدر الأمر كذلك فالمراد تقريره وتحقيقه، والجملة معترضة حينئذ كالتي بعدها وأورثناها بني إسرائيل قال الشهاب: هو استعارة; أي: ملكناها لهم تمليك الإرث بعد زمان. وكأن العاقبة، لما كانت لهم، صاروا كأنهم ملكوها حين خروج أربابها منها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[60] فأتبعوهم مشرقين

فأتبعوهم مشرقين أي: لحقوهم وقت شروق الشمس.
القول في تأويل قوله تعالى:

[61 - 63] فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم

فلما تراءى الجمعان أي: تقاربا رأى واحد منهما الآخر: قال أصحاب موسى إنا لمدركون أي: لملحقون: قال كلا أي: لن يدركوكم فإن الله وعدكم بالخلاص منهم: إن معي ربي سيهدين أي: لطريق النجاة منهم فأوحينا إلى موسى أن [ ص: 4620 ] اضرب بعصاك البحر فانفلق أي: فضربه فانفلق: فكان كل فرق كالطود العظيم أي: كل جزء متفرق منه كالجبل الكبير.
القول في تأويل قوله تعالى:

[64 - 68] وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم .

وأزلفنا أي: قربنا: ثم أي: حيث انفلق البحر: الآخرين يعني فرعون، أي: قدمناهم إلى البحر حتى دخلوا على أثر بني إسرائيل: وأنجينا موسى ومن معه أجمعين أي: بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا ثم أغرقنا الآخرين أي: بإطباقه عليهم: إن في ذلك لآية أي: لعبرة: وما كان أكثرهم مؤمنين أي: مع مشاهدة هذه الآية العظمى التي توجب تصديقه بعدها في كل ما جاء به. منهم من بقي على كفره كبقية القبط. ومنهم من عصاه واقترح عليه ما اقترح كبعض بني إسرائيل. وفيه تسلية للنبي صلوات الله عليه. ووعد له ووعيد لمن عصاه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 21-11-2024, 09:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4621 الى صـ 4635
الحلقة (479)





القول في تأويل قوله تعالى:

[69 - 74] واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون .

واتل عليهم أي: على مشركي العرب: نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون أي: ما الذي تدعونه وتلجئون إليه. وكان عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام، ولكنه سألهم ليريهم، أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء: قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين أي: مقيمين على عبادتها لا نتخطاها إلى غيرها قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون أي: مثل عبادتنا، فقلدناهم.

قال أبو السعود: اعترفوا بأنها بمعزل مما ذكر من السمع والمنفعة والمضرة بالمرة. واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[75 - 81] قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين .

[ ص: 4622 ] قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي أي: أفأبصرتم، أو أتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدونه وسلفكم. فإنهم بغضائي: إلا رب العالمين أي: لكن رب العالمين ليس كذلك، فإنه ولي في الدنيا والآخرة، لا أعبد غيره ثم برهن على موجب قصر عبادته عليه تعالى بقوله: الذي خلقني فهو يهدين أي: إلى كل ما يهمني من أمور الدين والدنيا، فإنه تعالى وحده يهدي كلا لم خلق له. والموصول صفة لـ(رب) وجعله مبتدأ وما بعده خبرا - غير حقيق بجزالة التنزيل. قاله أبو السعود.

والذي هو يطعمني ويسقين أي: يرزقني بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المزن، وأنزل الماء وأحيى به الأرض وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد، وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه مما خلق أنعاما وأناسي كثيرا.

وإذا مرضت فهو يشفين أي: إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما قدره من الأسباب الموصلة إليه. وإنما نسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى، مع أنهما منه، لمراعاة حسن الأدب معه تعالى. بتخصيصه بنسبة الشفاء الذي هو نعمة ظاهرة إليه تعالى كما قال الخضر: فأردت أن أعيبها وقال: فأراد ربك أن يبلغا أشدهما وكقول الجن في آية: أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ولأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم.

والذي يميتني ثم يحيين فإنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، لا يقدر على ذلك أحد سواه. فإن قيل إن الموت قد يكون بتفريط الإنسان، وقد أضافه تعالى إلى نفسه، فما الفرق بين نسبة الموت ونسبة المرض في مقتضى الأدب؟ أجيب كما في (الانتصاف): بأن الموت قد علم به بأنه قضاء محتوم من الله تعالى على سائر البشر، وحكم عام لا يخص، ولا كذلك المرض فكم من معافى منه قد بغته الموت; فالتأسي بعموم الموت لعله يسقط أثر كونه بلاء، فيسوغ في الأدب نسبته إلى الله تعالى. وأما المرض، فلما كان مما يخص به بعض البشر دون بعض، كان بلاء محققا. فاقتضى العلو في الأدب مع الله تعالى، أن ينسبه الإنسان إلى نفسه، باعتبار ذلك السبب الذي لا يخلو منه. ويؤيد ذلك أن كل ما ذكره مع المرض، أخبر عن وقوعه بتا وجزما، لأنه أمر لا بد منه. وأما المرض، فلما يتفق وقد لا، أورده مقرونا بشرط إذا فقال: وإذا مرضت وكان ممكنا أن يقول والذي يمرضني فيشفيني، كما في غيره فما عدل عن المطابقة المجانسة المأثورة، إلا لذلك. انتهى.

قال أبو السعود: وأما الإماتة، فحيث كانت من معظم خصائصه تعالى كالإحياء، بدءا وإعادة، وقد نيطت أمور الآخرة جميعا بها وبما بعدها من البعث نظمها في سمط واحد في قوله تعالى: والذي يميتني ثم يحيين على أن الموت، لكونه ذريعة إلى نيله عليه الصلاة والسلام للحياة الأبدية، بمعزل من أن يكون غير مطموع عنده عليه الصلاة والسلام.
القول في تأويل قوله تعالى:

[82] والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين .

والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين أي: الجزاء. وخطيئته ما كان يراها هو صلوات الله عليه ويعدها بالنسبة لمقامه الكريم.

قال أبو السعود: ذكره عليه الصلاة والسلام هضما لنفسه وتعليما للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر وطلب مغفرة لما يفرط منهم وتلافيا لما عسى يندر منه عليه السلام من الصغائر، وتنبيها لأبيه وقومه على أن يتأملوا في أمرهم فيقفوا على أنهم من سوء الحال في درجة لا يقادر قدرها، فإن حاله عليه السلام، مع كونه في طاعة الله تعالى وعبادته، في الغاية القاصية، حيث كانت بتلك المثابة. فما ظنك بحال أولئك المغمورين في الكفر، وفنون المعاصي والخطايا؟.

وتعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، مع أنها إنما تغفر في الدنيا، لأن أثرها يومئذ يتبين، ولأن في ذلك تهويلا له وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه، إن لم تغفر، وبعد أن ذكر عنايته تعالى به من مبدأ خلقه إلى بعثه، حمله ذلك على مناجاته، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[83 - 84] رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين .

رب هب لي حكما أي: حكمة، أو حكما بين الناس بالحق، أو نبوة، لأن النبي ذو حكم وحكمة وألحقني بالصالحين أي: وفقني لأنتظم في سلكهم، لأكون من الذين جعلتهم سببا لصلاح العالم وكمال الخلق واجعل لي لسان صدق في الآخرين أي ذكرا جميلا بعدي، أذكر به ويقتدى بي في الخير كما قال تعالى: وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين

قال القتيبي: وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون به، وقد تكني العرب به عن الكلمة. وعليها حمل قول الأعشى:


إني أتتني لسان لا أسر بــهـــا من علو، لا عجب منها ولا سخر


وجوز أن يكون المعنى: واجعل لي صادقا من ذريتي، يجدد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد. وهو النبي صلى الله عليه وسلم. ولذا قال صلى الله عليه وسلم: « أنا دعوة [ ص: 4625 ] أبي إبراهيم » ، فالكلام بتقدير مضاف. أي: صاحب لسان صدق. أو مجاز بإطلاق الجزء على الكل، لأن الدعوة باللسان.
القول في تأويل قوله تعالى:

[85 - 86] واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين

واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي أي: بهدايته وتوفيقه للإيمان. كما يلوح به تعليله بقوله: إنه كان من الضالين أي: طريق الحق.

قال الحافظ ابن كثير . قوله: واغفر لأبي إلخ.. كقوله: ربنا اغفر لي ولوالدي وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه إلى قوله: إن إبراهيم لأواه حليم وقد قطع تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه، فقال تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إلى قوله: وما أملك لك من الله من شيء
القول في تأويل قوله تعالى:

[87 - 89] ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم

ولا تخزني يوم يبعثون أي: لا تلحق بي ذلا وهوانا يومئذ: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. ولا بنوه، وإن كانوا غاية في القوة. فإن الأمر ثمة ليس كما يعهدون [ ص: 4626 ] في الدنيا، بل لا ينفع إلا الموافاة بقلب سليم من مرض الكفر والنفاق والخصال المذمومة والملكات المشؤومة.

قال الزمخشري : وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم. ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع. وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة، فضلا أن يكون حجة. ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عز وعلا، فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وإنشائه، إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته. ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوابين. ثم وصله بذكر يوم القيامة، وثواب الله وعقابه، وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.

ثم بين سبحانه أن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء، ينظرون إليها ويغتبطون [ ص: 4627 ] بأنهم المحشورون إليها. والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم، يتحسرون على أنهم المسوقون إليها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[90 - 94] وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون .

وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين أي: الضالين عن طريق الحق الذي هو الإيمان والتقوى. وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره وقيل لهم توبيخا على شركهم: أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون أي: يدفعون العذاب عنكم، أو يدفعونه عن أنفسهم، لأنهم وآلهتهم وقود النار. وهو قوله تعالى: فكبكبوا فيها هم أي: الآلهة: والغاوون أي: وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم.

قال الزمخشري : والكبكبة تكرير الكب -وهو الإلقاء على الوجه- جعل التكرير في اللفظ على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[95 - 98] وجنود إبليس أجمعون [ ص: 4628 ] قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين .

وجنود إبليس أي: متبعوه من العصاة: أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين أي: في العبادة، مع أنكم أعجز مخلوقاته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[99] وما أضلنا إلا المجرمون

وما أضلنا إلا المجرمون أي: رؤساؤهم، كما في آية: ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا
القول في تأويل قوله تعالى:

[100 - 101] فما لنا من شافعين ولا صديق حميم

فما لنا من شافعين ولا صديق حميم أي: من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله. وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس. فما أغنوا عنهم شيئا. كما قال تعالى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين قال الزمخشري : و(الحميم) من الاحتمام وهو الاهتمام، وهو الذي يهمه ما يهمك. أو من (الحامة): بمعنى الخاصة. وهو الصديق الخاص. وفيه معنى الحدة والسخونة. كأنه يحتد [ ص: 4629 ] ويحمى، لحماية خليله ورعايته، والقيام بمهماته. وهذا هو الذي قيل: إنه أعز من بيض الأنوق وإنه اسم بلا مسمى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[102 - 104] فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم .

فلو أن لنا كرة أي: رجعة إلى رجعة إلى الدنيا: فنكون من المؤمنين إن في ذلك أي فيما ذكر من نبأ إبراهيم: لآية أي: لحجة وعظة أراد أن يستبصر بها ويعتبر. وتقدم ما قاله الزمخشري في بديع سياقها: وما كان أكثرهم أي: أكثر قوم إبراهيم: مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم أي: بإنزال الكتب وإرسال الرسل، لدعوة خلقه إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[105 - 111] كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون [ ص: 4630 ] قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون

كذبت قوم نوح المرسلين لأن تكذيب واحد كتكذيب الكل، لاتفاقهم في أصول الشرائع. وهو نفي الشريك وإثبات البارئ وتوحيده. أو لأن المراد بالجمع الواحد: إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون يعنون من كان وضيع النسب قليل النصيب من الدنيا. فإن الشرف لديهم بالمال والنشب، والحسب والنسب، لا بالأخلاق الفاضلة. والملكات الكاملة. التي تحمل على تعرف الحق والتوجه إليه. ثم اعتناقه والمحافظة عليه. وأكثر ما تكون الأخلاق في مثل المستضعفين. إذا قام عليهم ناصح أمين. إذ لا مال يطغيهم. ولا جاه يلهيهم. وذلك من العناية الربانية فيهم.

قال الزمخشري : وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما زالت أتباع الأنبياء كذلك، حتى صارت من سماتهم وأماراتهم. ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قال: (ضعفاء الناس)، قال: (ما زالت أتباع الأنبياء كذلك). وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[112] قال وما علمي بما كانوا يعملون

قال وما علمي بما كانوا يعملون جواب عما أشير إليه من قولهم إنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة. أي: وما علي إلا الظاهر والله يتولى السرائر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[113 - 118] إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون [ ص: 4631 ] وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين .

إن حسابهم إلا على ربي أي: ما حسابهم على أعمالهم، إلا على ربي المطلع على ضمائرهم: لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين أي: المشتومين أو المرميين بالحجارة: قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا أي: احكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا.

قال الزمخشري : الفتاحة: الحكومة. والفتاح: الحاكم . لأنه يفتح المستغلق. كما سمي فيصلا لأنه يفصل بين الخصومات. وفي (التهذيب): الفتح أن تحكم بين قوم يختصمون إليك. قال الأشعر الجعفي :


ألا من مبلغ عمرا رسولا فإني عن فتاحتكم غني


ونجني ومن معي من المؤمنين
القول في تأويل قوله تعالى:

[119 - 128] فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ ص: 4632 ] وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع آية تعبثون .

فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية أي: فيما فعلنا بهم لعبرة وعظة لمن بعدهم: وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت عاد وهم قوم هود عليه السلام: المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع أي: مكان مرتفع، بكسر الراء وفتحها: آية أي: علامة: تعبثون أي: ببنائها لا للحاجة إليها. بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة. ولهذا أنكر عليهم ذلك. لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة. واشتغال بما هم في غنى عنه. وبما في الشغف به انصراف عن الجد في العمل، وصرف للأموال في غير ما خلقت له، من النظر للنفس والأهل والدين.
القول في تأويل قوله تعالى:


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 21-11-2024, 10:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,340
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4634 الى صـ 4648
الحلقة (480)





[129] وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون .

وتتخذون مصانع أي: منازل وقصورا: لعلكم تخلدون أي: راجين الخلود في الدنيا إشارة إلى أن عملهم ذلك، لقصر نظرهم على الدنيا والإعجاب بالآثار، والتباهي بالمشيدات والغفلة عن أعمال المجدين البصيرين بالعواقب، الصالحين المصلحين.


[130] وإذا بطشتم بطشتم جبارين

وإذا بطشتم بطشتم جبارين أي: تأخذون بالعنف والشدة، كبرا وعتوا. يقال: بطش به أي: أخذه بالعنف والسطوة، وتناوله بشدة عند الصولة، يصفهم عليه السلام بالقسوة وعدم الرحمة والشفقة.


[131 - 134] فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون .

فاتقوا الله أي: فيما آمركم به من التوبة والإيمان: وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون أي: فاشكروا نعماءه وارعوا بتقواه آلاءه.


[135] إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم

إني أخاف عليكم أي: إن لم تقوموا بواجب شكرها: عذاب يوم عظيم أي: في الدنيا والآخرة.


[136] قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين

قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين أي: فإنا لن نرعوي عما نحن عليه.


[137] إن هذا إلا خلق الأولين

إن هذا أي: ما هذا الذي نحن عليه: إلا خلق الأولين أي: عادتهم. كانوا يدينون به ويعتقدونه. فنحن بهم مقتدون. أو ما هذا الذي جئتنا به إلا عادة الأولين. كانوا يلقفون مثله.


[138 - 146] وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتتركون في ما ها هنا آمنين

وما نحن بمعذبين أي: على ما نحن عليه من الأعمال: فكذبوه فأهلكناهم أي: بريح صرصر: إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتتركون في ما ها هنا آمنين أي: من الموت والزوال والعذاب.

قال الزمخشري : يجوز أن يكون إنكارا لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزالون عنه. وأن يكون تذكيرا بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات وغير ذلك، مع الأمن والدعة. وقوله تعالى: في ما ها هنا أي: في الذي استقر في هذا المكان من النعيم.

[147 - 153] في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا إنما أنت من المسحرين

في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم أي: لطيف لين: وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين أي: بطرين. وقرئ (فرهين) وهو أبلغ. وقيل: فاره من (فره) بالضم، بمعنى حذق. وفره صفة من (فره) كفرح، بمعنى أشر وبطر: فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا إنما أنت من المسحرين أي: الذين سحروا حتى غلب على عقولهم.


[154 - 166] ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ ص: 4637 ] أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون

ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب أي: نصيب من الماء: ولكم شرب يوم معلوم أي: فاقتنعوا بشربكم ولا تزاحموها على شربها: ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم أي: لعظم ما تسيئون.

قال الزمخشري : عظم اليوم لحلول العذاب فيه، ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب. لأن الوقت إذا عظم بسببه، كان موقعه من العظم أشد: فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب أي: الموعود، وهو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا، وجاءتهم صيحة عظيمة: إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون أي: مجاوزون حد الحكمة في ترك محل الحرث، الحافظ للنسل، الذي به حفظ النوع البشري، وإيثار ما لم يخلق لذلك، شرها في الشهوة الحيوانية، ومكافحة لتغيير الأوضاع الربانية.

ونقل السيوطي في (الإكليل) عن محمد بن كعب القرظي ، أن معنى الآية: تذرون مثله من المباح. فاستدل بذلك على إباحة وطء الزوجة من دبرها. انتهى.

وخالفه غيره. فاستدل بها على حظره. وبيانه كما في (الكشاف) و (حواشيه) أن (من) إما تبيين لما خلق، أو للتبعيض. ويراد به العضو المباح منهن، تعريضا بأنهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم. ومن الوجه الثاني يستدل على حظر إتيان المرأة في غير المأتى. وتقريره في (الانتصاف) أن (من) لو كانت بيانا لكان المعنى حينئذ على ذمهم بترك الأزواج. [ ص: 4638 ] ولا شك أن ترك الأزواج مضموم إلى إتيان الذكران. وحينئذ يكون المنكر عليهم الجمع بين ترك الأزواج وإتيان الذكران، لا أن ترك الأزواج وحده منكر. ولا كان الأمر كذلك، لكان النصب في الثاني متوجها على الجمع. وكان إما الأفصح أو المتعين. وقد اجتمعت العامة -عامة القراء- على القراءة به مرفوعا ولا يتفقون على ترك الأفصح إلى ما لا مدخل له في الفصاحة، أو في الجواز أصلا. فلما وضح ذلك تبين أن هذا المعنى غير مراد. فتعين حمل (من) على البعضية. فيكون المنكر عليهم أمرين. كل واحد منهما مستقل بالإنكار: أحدهما إتيان الذكران. والثاني مجانبة إتيان النساء في المأتى، رغبة في إتيانهن في غيره. وحينئذ يتوجه الرفع لفوات الجمع اللازم على الوجه الأول، واستقلال كل واحد من هاتين العظيمتين بالنكير. انتهى.

ومثله من دقيق الاستنباط الذي يوسع المدارك ويفتح للتفهم أبوابا، وإن أمكن أن يقال إن سياق الآية في الملام لهم، أعم مما ذكره ومن غيره. والله أعلم.


[167] قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين

قالوا لئن لم تنته يا لوط أي: عن تقبيح أمرنا: لتكونن من المخرجين أي: من قريتنا عنفا، إذ لا تجانسنا.


[168 - 169] قال إني لعملكم من القالين رب نجني وأهلي مما يعملون

قال إني لعملكم من القالين أي: المبغضين غاية البغض. أي: فأنا أرغب في الخروج عن دياركم، والراحة من مجاورتكم، لبغضي لعملكم، الآيل بكم إلى الدمار وخراب الديار. ولذا أتبعه بقوله: رب نجني وأهلي مما يعملون أي: من شؤمه وغائلته.


[170 - 172] فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين

فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا وهي امرأته. كما بينت في آيات: في الغابرين أي: مقدرا كونها من الباقين في العذاب. لأنها كانت راضية بعمل قومها.

لطيفة:

قال الناصر في (الانتصاف): كثيرا ما ورد في القرآن، خصوصا في هذه السورة، العدول عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالصفة المشتقة. ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع. كقول فرعون: لأجعلنك من المسجونين وقولهم: سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين وقولهم: لتكونن من المرجومين وقوله: إني لعملكم من القالين وقوله تعالى في غيرها: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وكذلك: ذرنا نكن مع القاعدين وأمثاله كثيرة، والسر في ذلك، والله أعلم، أن التعبير بالفعل، إنما يفهم وقوعه خاصة. وأما التعبير بالصفة، ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع، فإنه يفهم أمرا زائدا على وقوعه. وهو أن الصفة المذكورة، كالسمة للموصوف ثابتة العلوق به. كأنها لقب. وكأنه من طائفة صارت كالنوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة. واعتبر ذلك لو قلت: رضوا بأن يتخلفوا، لما كان في ذلك مزيد على الإخبار بوقوع التخلف منهم لا غير.وانظر إلى المساق وهو قوله: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف كيف ألحقهم لقبا رديئا، وصيرهم من نوع رذل مشهور بسمة التخلف، حتى صارت لقبا لاحقا به. وهذا الجواب عام في جميع ما يرد عليك من أمثال ذلك. فتأمله واقدره قدره: ثم دمرنا الآخرين أي: أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه.


[173 - 176] وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذب أصحاب الأيكة المرسلين

وأمطرنا عليهم مطرا أي: عظيما غير معهود، هلكوا به: فساء مطر المنذرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذب أصحاب الأيكة المرسلين وهم أهل مدين. ووهم من زعم أنهما أمتان أرسل إليهما شعيب عليه السلام: فإنهم أمة واحدة كانوا يقطنون (مدين) أضيفوا إليها تارة وأخرى إلى ما حوتها من الأيكة، وهي الأشجار الكثيرة الملتفة المجتمعة في مكان واحد.

قال الحافظ ابن كثير : والصحيح أنهم أمة واحدة. وصفوا في كل مقام بشيء. ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء. فدل ذلك على أنهما أمة واحدة.

تنبيه:

قال أبو عمرو : وكتب في جميع المصاحف (ليكة) في الشعراء و (ص)، بلام من غير ألف قبلها. وفي الحجر وق: (الأيكة) ولذا قرأ نافع وابن كثير وابن عامر بلام مفتوحة، من غير همز قبلها ولا بعدها. ونصب التاء غير منصرف. والباقون (الأيكة) بإسكان اللام وهمز [ ص: 4641 ] وصل قبله، وهمزة قطع مفتوحة بعده، وجر التاء. وحمزة وصلا ووقفا على أصله. وقراءة الأولين استشكلها أبو علي الفارسي وغيره، بأنه لا وجه للفتح. لأن نقل حركة الهمزة لا يقتضي تغيير الإعراب من الكسر إلى الفتح. أي: فإن العرب تقول في الأحمر (الحمر ولحمر) وإثبات الألف واللام في (الأيكة) في سائر القرآن يدل -كما قال الزجاج - على أن حذف الهمزة منها التي هي ألف الوصل، بمنزلة قولهم: (لحمر) وقرئ (ليكة) بالجر على الإضافة في غير السبع. لكن قال الزمخشري : هو الوجه. ومن قرأ بالنصب، وزعم أن ليكة، بوزن ليلة، اسم بلد، فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة (ص) بغير ألف. وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه. وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ. كما يكتب أصحاب النحو -لأن ولولي- على هذه الصورة، لبيان لفظ المخفف. وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل. والقصة واحدة. على أن (ليكة) اسم لا يعرف. انتهى.


[177 - 181] إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين

إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل أي: أتموه: ولا تكونوا من المخسرين أي: حقوق الناس بإعطائهم ناقصا.


[182 - 183] وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين

وزنوا بالقسطاس المستقيم أي: بالميزان السوي: ولا تبخسوا الناس أشياءهم أي: لا تنقصوهم حقوقهم. قال الزمخشري : وهو عام في كل حق ثبت لأحد، أن لا يهضم. وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه، ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه، إلا بإذنه تصرفا شرعيا ولا تعثوا في الأرض مفسدين أي: بالقتل والغارة وقطع الطريق والجور والظلم وأكل أموال الناس بالباطل.


[184 - 186] واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين

واتقوا الله: الذي خلقكم والجبلة الأولين أي: وذوي الجبلة الأولين، وهم من تقدمهم من الخلائق: قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين أي: فيما تدعيه من النبوة.


[187 - 188] فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون

فأسقط علينا كسفا من السماء قطعا منها. قرئ (كسفا) بسكون السين [ ص: 4643 ] وتحريكها. وكلاهما جمع (كسفة): إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون أي: من الكفر والمعاصي، وبما تستوجبون عليها من العذاب، بإسقاط كسف أو غيرها مما يشاؤه إذا جاء أجلكم، فإليه الحكم.


[189] فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم

فكذبوه أي: فاستمروا على تكذيبه ولم يتوبوا: فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم أي: لحلول العقاب فيهم، من جنس ما سألوه، من إسقاط السماء قطعا عليهم. فقد أظلتهم سحابة أطبقت عليهم، وأظلمت الجو فوقهم، وغشيهم العذاب وأحاط بهم. و(الظلة) بالضم لغة، الغاشية، وما أطبق وستر من فوق.

قال الحافظ ابن كثير : ذكر تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن. كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق. ففي الأعراف ذكر أنهم: فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وذلك لأنهم قالوا: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه: فأخذتهم الرجفة وفي سورة هود قال: وأخذت الذين ظلموا الصيحة ذلك لأنهم استهزؤوا بنبي الله في قولهم: أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء. فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم فقال: وأخذت الذين ظلموا الصيحة وههنا قالوا: فأسقط علينا كسفا من السماء الآية، على وجه التعنت والعناد. فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه: فأخذهم عذاب يوم الظلة انتهى.


[190 - 191] إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم .

إن في ذلك لآية أي: على أخذ العصاة بمقتضى أعمالهم: وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم أي: الغالب على تعذيب من شاء بما شاء، الرحيم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب، لئلا يكون للناس على الله حجة.

قال الزمخشري : فإن قلت: كيف كرر في هذه السورة، في أول كل قصة وآخرها، ما كرر؟ قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه. وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها. فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به. ولأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس، وتثبيتا لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها؟

وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب، وأرسخ في الفهم، وأثبت للذكر، وأبعد من النسيان. ولأن هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير. لعل ذلك يفتح أذنا، أو يفتق ذهنا، أو يصقل عقلا طال عهده بالصقل أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ. وقوله تعالى:


[192 - 195] وإنه لتنـزيل رب العالمين نـزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين

" وإنه أي: ما ذكر من الآيات الناطقة بالقصص المحكية، أو القرآن المتضمن لها: لتنـزيل رب العالمين أي: منزل منه حقا: نـزل به الروح الأمين أي: جبريل عليه السلام: على قلبك لتكون من المنذرين أي: منتظما في سلك أولئك المشهورين بتلك المزية الجليلة، والمنقبة الفاضلة. وهي الرسالة الإلهية بالإنذار، إزالة للأعذار: بلسان عربي مبين أي: واضح المعنى جلي المفهوم، ليكون قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا إلى المحجة. والجار متعلق بــ(نزل).


[196 - 197] وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل

وإنه لفي زبر الأولين أي: في كتبهم. مع أنه صلوات الله عليه لم يصحب أهلها ولم يدرسها. فكفى بذلك شهيدا على صدقه: أولم يكن لهم آية أي: علامة على تنزيله الحق: أن يعلمه علماء بني إسرائيل أي: فيجدون مصداقه في زبرهم التي يدرسونها، كما قال تعالى: وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين


[198 - 209] ولو نـزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم [ ص: 4646 ] فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين

ولو نـزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين أي: ولو نزلناه بنظمه البديع على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية، فقرأه عليهم قراءة فصيحة، انفتق لسانه بها، خرقا للعادة، لكفروا به كما كفروا. ولتمحلوا لجحودهم عذرا. ولسموه سحرا، لفرط عنادهم: كذلك سلكناه في قلوب المجرمين أي: مكنا هذا العناد والإباء عن الإيمان به، في قلوبهم وأنفسهم. وقررناه فيها: لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون أفبعذابنا يستعجلون أي: وهو ما هو، عياذا به منه: أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون أي: من طوال الأعمار وطيب المعايش: وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى أي: رسل ينذرونهم لأجل الموعظة والتذكرة: وما كنا ظالمين أي: فنبغتهم بالعذاب قبل الإنذار، فإن ذلك محال في حكمة الحكم العدل.


[210 - 213] وما تنـزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين

وما تنـزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون رد لما زعمه المشركون من أن التنزيل الكريم من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة، بعد تحقيق الحق ببيان أنه نزل به الروح الأمين. وقوله تعالى: إنهم عن السمع أي: الاستماع عن الملائكة: لمعزولون لانتفاء الاستعداد لقبول فيضان أنوار الحق عليهم، لخباثة نفوسهم بالذات، فهم مرجومون مبعدون عن الأنوار القدسية والبراهين السبوحية: فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين في الدارين، عذاب تعديد الوجهة، واضطراب الفكر، وضعف الشبهة، وتوهين العقل في الدنيا. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 541.81 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 535.96 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.08%)]