تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى - الصفحة 51 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         4 خطوات تقلل من شيب الشعر وتجعله صحيا وحيويا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          4 وصفات سموزي مناسبة للرجيم.. نكهات لذيذة لحر الصيف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          طريقة عمل الفراخ في المقلاة الهوائية بطعم حكاية.. السر في العسل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          وصفات طبيعية لتفتيح الأندر أرم.. تقشير آمن وترطيب للبشرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          4 أفكار مختلفة لتصميمات مطبخ عصري.. موضة 2025 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          خلصي بيتك من السموم في 5 خطوات.. أهمها تغيير أدوات الطهي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          7 خضراوات تحتوي على فيتامين سي أكثر من البرتقال.. هتنور وشك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          طريقة عمل حواوشى ميكس باللحم والدجاج من الشيف شربينى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          لو شعرك طويل وبيتشابك.. 5 طرق هتساعدك على فكه بدون ألم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          وصفات طبيعية لعلاج حب شباب فروة الرأس.. مشكلة مزعجة حلولها بسيطة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #501  
قديم 06-07-2025, 10:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,480
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ المؤمنون
من صــ 144 الى صــ 153
الحلقة (501)





قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} عرفهم كثرة نعمه وكمال قدرته. {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي ما تشكرون إلا شكرا قليلا. وقيل : أي لا تشكرون البتة.
الآية : 79 {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} أي أنشأكم وبثكم وخلقكم. "وإليه تحشرون" أي تجمعون للجزاء.
الآيات : 80 - 89 {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ، بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ، قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ، لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي جعلهما مختلفين ؛ كقولك : لك الأجر والصلة ؛ أي إنك تؤجر وتوصل ؛ قاله الفراء. وقيل : اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر. وقيل : اختلافهما في النور والظلمة. وقيل : تكررهما يوما بعد ليلة وليلة بعد يوم. ويحتمل خامسا : اختلاف ما مضى فيهما من سعادة وشقاء وضلال وهدى. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} كنه قدرته وربوبيته ووحدانيته ، وأنه لا يجوز أن يكون له شريك من خلقه ، وأنه قادر على البعث. ثم عيرهم بقولهم وأخبر عنهم
أنهم {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} هذا لا يكون ولا يتصور. {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} أي من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم ، فلم نر له حقيقة. {إِنْ هَذَا} أي ما هذا {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي أباطيلهم وترهاتهم ؛ وقد تقدم هذا كله. قال الله تعالى : {قُلْ} يا محمد جوابا لهم عما قالوه {لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يخبر بربوبيته ووحدانيته وملكه الذي لا يزول ، وقدرته التي لا تحول ؛ فـ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ولا بد لهم من ذلك. {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تتعظون وتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو على إحياء الموتى بعد موتهم قادر.
قوله تعالى : {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} يريد أفلا تخافون حيث تجعلون لي ما تكرهون ؛ زعمتم أن الملائكة بناتي ، وكرهتم لأنفسكم البنات. {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} بريد السموات وما فوقها وما بينهن ، والأرضين وما تحتهن وما بينهن ، وما لا يعلمه أحد إلا هو. وقال مجاهد : {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} خزائن كل شيء. الضحاك : ملك كل شيء. والملكوت من صفات المبالغة كالجبروت والرهبوت ؛ وقد مضى في "الأنعام" . {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي يمنع ولا يمنع منه. وقيل : {يُجِيرُ} يؤمن من شاء. {وَلا يُجَارُ} أي لا يؤمن من أخافه. ثم قيل : هذا في الدنيا ؛ أي من أراد الله إهلاكه وخوفه لم يمنعه منه مانع ، ومن أراد نصره وأمنه لم يدفعه من نصره وأمنه دافع. وقيل : هذا في الآخرة ، أي لا يمنعه من مستحق الثواب مانع ولا يدفعه عن مستوجبه العذاب دافع . {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي فكيف تخدعون وتصرفون عن طاعته وتوحيده. أو كيف يخيل إليكم أن تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع! والسحر هو التخييل. وكل هذا احتجاج على العرب المقرين بالصانع وقرأ أبو عمرو {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} في الموضعين الأخيرين ؛ وهي قراءة أهل العراق. الباقون {لِلَّهِ} ، ولا خلاف في الأول أنه {لِلَّهِ} ؛ لأنه جواب لـ {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} فلما تقدمت اللام في {لِمَنِ} رجعت في الجواب. ولا خلاف أنه
مكتوب في جميع المصاحف بغير ألف. وأما من قرأ {سَيَقُولُونَ الله} فن السؤال بغير لام فجاء الجواب على لفظه ، وجاء في الأول {لِلَّهِ} لما كان السؤال باللام. وأما من قرأ {لِلَّهِ} باللام في الأخيرين وليس في السؤال لام فن معنى {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} : قل لمن السموات السبع ورب العرش العظيم. فكان الجواب {لِلَّهِ} ؛ حين قدرت اللام في السؤال. وعلة الثالثة كعلة الثانية. وقال الشاعر :
إذا قيل من رب المزالف والقرى ... ورب الجياد الجرد قلت لخالد
أي لمن المزالف. ودلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار وإقامة الحجة عليهم. وقد تقدم في "البقرة" . ونبهت على أن من ابتدأ بالخلق والاختراع والإيجاد والإبداع هو المستحق للألوهية والعبادة.
الآية : 90 - 92 {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى : {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} أي بالقول الصدق ، لا ما تقوله الكفار من إثبات الشريك ونفي البعث. {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أن الملائكة بنات الله. فقال الله تعالى : {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} {مِنْ} صلة. {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} {مِنْ} زائدة ؛ والتقدير : ما اتخذ الله ولدا كما زعمتم ، ولا كان معه إله فيما خلق. وفي الكلام حذف ؛ والمعنى : لو كانت معه آلهة لانفرد كل إله بخلقه. {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي ولغالب وطلب القوي الضعيف كالعادة بين الملوك ، وكان الضعيف المغلوب لا يستحق الإلهية. وهذا الذي يدل على نفي الشريك يدل على نفي الولد أيضا ؛ لأن الولد ينازع الأب في الملك منازعة الشريك.
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} تنزيها له عن الولد والشريك. {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} تنزيه وتقديس. وقرأ نافا وأبو بكر وحمزة والكسائي {عالم} بالرفع على الاستئناف ؛ أي هو عالم الغيب. الباقون بالجر على الصفة لله. وروى رويس عن يعقوب {عالِم} إذا وصل خفضا. و {عالم} إذا ابتدأ رفعا.
الآيتان : 93 - 94 {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ، رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
علمه ما يدعو به ؛ أي قل رب ، أي يا رب إن أريتني ما يوعدون من العذاب. {فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي في نزول العذاب بهم ، بل أخرجني منهم. وقيل : النداء معترض ؛ و "ما" في "إمّا" زائدة. وقيل : إن أصل إما إن ما ؛ فـ {إن} شرط و {ما} شرط ، فجمع بين الشرطين توكيدا ، والجواب {فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ؛ أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني منهم. وكان عليه السلام يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب ، ومع هذا أمره الرب بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره وليكون في كل الأوقات ذاكرا لربه تعالى.
الآية : 95 {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}
نبه على أن خلاف المعلوم مقدور ، وقد أراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف ، ونجاه الله ومن آمن به من ذلك.
الآية : 96 {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}
قوله تعالى : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أمر بالصفح ومكارم الأخلاق ؛ فما كان منها لهذه الأمة فيما بينهم فهو محكم باق في الأمة أبدا. وما كان فيها من موادعة الكفار وترك التعرض لهم والصفح عن أمورهم فمنسوخ بالقتال. "نحن أعلم بما يصفون" أي من الشرك والتكذيب. وهذا يقتضي أنها آية موادعة ، والله تعالى أعلم
الآيتان : 97 - 98 {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}
فيه مسألتان : -
الأولى : - قوله تعالى : {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} "الهمزات" هي جمع همزة. والهمز في اللغة النخس والدفع ؛ يقال : همزة ولمزه ونخسه دفعه. قال الليث : الهمز كلام من وراء القفا ، واللمز مواجهة. والشيطان يوسوس فيهمس في وسواسه في صدر ابن آدم ؛ وهو قوله : {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} أي نزغات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى. وفي الحديث : كان يتعوذ من همز الشيطان ولمزه وهمسه. قال أبو الهيثم : إذا أسر الكلام وأخفاه فذلك الهمس من الكلام. وسمي الأسد هوسا ؛ لأنه يمشي بخفه لا يسمع صوت وطئه. وقد تقدم في {طه} .
الثاينة : أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتعوذ من الشيطان في همزاته ، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه ، كأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادة فلذلك اتصلت بهذه الآية. فالنزغات وسورات الغضب الواردة من الشيطان هي المتعوذ منها في الآية ؛ وقد تقدم في آخر "الأعراف" بيانه مستوفى ، وفي أول الكتاب أيضا. وروي عن علي بن حرب بن محمد الطائي حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد بن حبان أن خالدا كان يؤرق من الليل ؛ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يتعوذ بكلمات الله التامة من غضب الله وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون. وفي كتاب أبي داود قال عمر : وهمزه الموتة ؛ قال ابن ماجة : الموتة يعني الجنون. والتعوذ أيضا من الجنون وكيد. وفي قراءة أبي {رَبِّ عائذاً بك من همزات الشياطين ، وعائذاً بك أن يَحْضُرونِ} ؛ أي يكونوا معي في أموري ،
فإنهم إذ ا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز ، وإذا لم يكن حضور فلا همز. وفي صحيح مسلم عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة" .
الآيتان : 99 - 100 {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}
قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} عاد الكلام إلى ذكر المشركين ؛ أي قالوا {أَإِذَا مِتْنَا - إلى قوله - إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . ثم احتج عليهم وذكرهم قدرته على كل شيء ، ثم قال هم مصرون على ذلك حتى إذا جاء أحدهم الموت تيقن ضلالته وعاين الملائكة التي تقبض روحه ؛ كما قال تعالى : {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال : 50] . {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} تمنى الرجعة كي يعمل صالحا فيما ترك. وقد يكون القول في النفس ؛ قال الله عز وجل : {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة : 8] . فأما قوله : {ارْجِعُونِ} وهو مخاطب ربه عز وجل ولم يقل "ارجعني" جاء على تعظيم الذكر للمخاطب. وقيل : استغاثوا بالله عز وجل أولا ، فقال قائلهم : ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال : ارجعون إلى الدنيا ؛ قال ابن جريج. وقيل : إن معنى {ارْجِعُونِ} على جهة التكرير ؛ أي أرجعني أرجعني أرجعني وهكذا. قال المزني في قوله تعالى : {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق : 24] قال : معناه ألق ألق. قال الضحاك : المراد به أهل الشرك.
قلت : ليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر فقد يسألها المؤمن كما في آخر سورة المنافقين على ما يأتي. ودلت الآية على أن أحدا لا يموت حتى يعرف اضطرارا أهو من أولياء
الله أم من أعداء الله ، ولولا ذلك لما سأل الرجعة ، فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقه.
قوله تعالى : {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} قال ابن عباس : يريد أشهد أن لا إله إلا الله. {فِيمَا تَرَكْتُ} أي فيما ضيعت وتركت العمل به من الطاعات. وقيل {فِيمَا تَرَكْتُ} من المال فأتصدق. و {لَعَلّ} تتضمن ترددا ؛ وهذا الذي يسأل الرجعة قد استيقن العذاب ، وهو يوطن نفسه على العمل الصالح قطعا من غير تردد. فالتردد يرجع إما إلى رده إلى الدنيا ، وإما إلى التوفيق ؛ أي أعمل صالحا إن وفقتني ؛ إذ ليس على قطع من وجود القدرة والتوفيق لو رد إلى الدنيا . {كَلاََّ} هذه كلمة رد ؛ أي ليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا ، بل هو كلام يطيح في أدراج الريح. وقيل : لو أجيب إلى ما يطلب لما وفى بما يقول ؛ كما قال : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام : 28] . وقيل : {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ترجع إلى الله تعالى ؛ أي لا خلف في خبره ، وقد أخبر أنه لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ، وأخبر بأن هذا الكافر لا يؤمن. وقيل : {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} عند الموت ، ولكن لا تنفع. {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} أي ومن أمامهم وبين أيديهم. وقيل : من خلفهم. {بَرْزَخٌ} أي حاجز بين الموت والبعث ؛ قال الضحاك ومجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيض أن البرز هو الحاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا. وعن الضحاك : هو ما بين الدنيا والآخرة. ابن عباس. حجاب. السدي : أجل. قتادة : بقية الدنيا. وقيل : الإمهال إلى يوم القيامة ؛ حكاه ابن عيسى. الكلبي : هو الأجل ما بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة. وهذه الأقوال متقاربة. وكل حاجز بين شيئين فهو برزخ. قال الجوهري : البرزخ الحاجز بين الشيئين. والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث ؛ فمن مات فقد دخل في البرز. وقال رجل بحضرة الشعبي : رحم الله فلانا فقد صار من أهل الآخرة! فقال : لم يصر من أهل الآخرة ، ولكنه صار من أهل البرزخ ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة. وأضيف {يَوْمِ} إلى {يُبْعَثُونَ} لأنه ظرف زمان ، والمراد بالإضافة المصدر.
الآية : 101 {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}
قوله تعالى : {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} المراد بهذا النفخ النفخة الثانية. {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} قال ابن عباس : لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا ، ولا يتساءلون فيها كما يتساءلون في الدنيا ؛ من أي قبيلة أنت ولا من أي نسب ، ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم. وعن ابن عباس أن ذلك في النفخة الأولى حين يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وسأل رجل ابن عباس عن هذه الآية وقول : {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات : 50] فقال : لا يتساءلون في النفخة الأولى ؛ لأنه لا يبقى على الأرض حي ، فلا أنساب ولا تساؤل. أما قوله : {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فإنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا. وقال ابن مسعود : إنما عنى في هذه الآية النفخة الثانية. وقال أبو عمر زادان : دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخير واليمنة قد سبقوني إليه ، فناديت بأعلى صوت ، : يا عبد الله بن مسعود! من أجل أني رجل أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني! فقال : ادنه ؛ فدنوت ، حتى ما كان بيني وبينه جليس فسمعته يقول : يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد : هذا فلان بن فلان ، من كان له حق فليأت إلى حقه ؛ فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على أبيها أو على زوجها أو على أخيها أو على ابنها ؛ ثم قرأ ابن مسعود : {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} فيقول الرب سبحانه وتعالى : "آت هؤلاء حقوقهم" فيقول : يا رب قد فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم ؛ فيقول الرب للملائكة : "خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته" فإن كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل فيضاعفها الله تعالى حتى يدخله بها الجنة ، ثم قرأ ابن مسعود إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء : 40] . وإن كان شقيا قالت الملائكة : رب! فنيت حسناته وبقي طالبون ؛ فيقول الله تعالى : "خذوا من أعمالهم فأضيفوها إلى سيئاته وصكوا له صكا إلى جهنم" .
الآيتان : 102 - 105 {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}
تقدم الكلام فيهما.
الآيتان : 104 - 105 {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ، أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}
قوله تعالى : {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} ويقال "تنفح" بمعناه ؛ ومنه {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} [الأنبياء : 46] . إلا أن {تلفح} أبلغ بأسا ؛ يقال : لفحته النار والسموم بحرها أحرقته. ولفحته بالسيف لفحة إذا ضربته به [ضربة] خفيفة. {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال ابن عباس : عابسون. وقال هل اللغة : الكلوح تكشر في عبوس. والكالح : الذي قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه. قال الأعمش :
وله المقدم لا مثل له ... ساعة الشدق عن الناب كلح
وقد كلح الرجل كلوحا وكلاحا. وما أقبح كلحته ؛ يراد به الفم وما حواليه. ودهر كالح أي شديد. وعن ابن عباس أيضا {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} يريد كالذي كلح وتقلصت شفتاه وسال صديده. وقال ابن مسعود : ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار ، وقد بدت أسنانه وقلصت شفتاه. وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ - قال - تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبل وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته" قال : هذا حديث حسن صحيح غريب
الآيات : 106 - 108 {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ ، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ، قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}
قوله تعالى : {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم {شِقْوَتُنَا} وقرأ الكوفيون إلا عاصما {شَقَاوَتُنَا} . وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن. ويقال : شقاء وشقا ؛ بالمد والقصر. وأحسن ما قيل في معناه : غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا ؛ فسمى اللذات والأهواء شقوة ، لأنهما يؤديان إليها ، كما قال الله عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء : 10] ؛ لأن ذلك يؤديهم إلى النار. وقيل : ما سبق في علمك وكتب علينا في أم الكتاب من الشقاوة. وقيل : حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق. {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} أي كنا في فعلنا ضالين عن الهدى. وليس هذا اعتذار منهم إنما هو إقرار ، ويدل على ذلك قولهم : {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت. {فَإِنْ عُدْنَا} إلى الكفر {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} لأنفسنا بالعود إليه فيجابون بعد ألف سنة : {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} أي ابعدوا في جهنم ؛ كما يقال للكلب : اخسأ ؛ أي أبعد. خسأت الكلب خسئا طردته. وخسأ الكلب بنفسه خسوءا ، يتعدى ولا يتعدى. وانخسأ الكلب أيضا. وذكر ابن المبارك قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة يذكره عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال : إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ، ثم يرد عليهم : إنكم ماكثون. قال : هانت والله دعوتهم على مالك ورب مالك. قال : ثم يدعون ربهم فيقولون : {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} . قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين. قال : ثم يرد عليهم اخسؤوا فيها. قال : فوالله ما نَبَس القوم بعدها بكلمة ، وما هو إلا الزفير والشهيق من نار جهنم




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #502  
قديم 06-07-2025, 10:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,480
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 154 الى صــ 163
الحلقة (502)





فشبه أصواتهم بصوت الحمير ، أولها زفير وآخرها شهيق. خرجه الترمذي مرفوعا بمعناه من حيث أبي الدرداء. وقال قتادة : صوت الكفار في النار كصوت الحمار ، أوله زفير وآخره شهيق. وقال ابن عباس : يصير لهم نباح كنباح الكلاب. وقال محمد بن كعب القرظي : بلغني أو ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة... الخبر بطوله ، ذكره ابن المبارك ، وقد ذكرناه بكمال في التذكرة ، وفي آخره : ثم مكث عنهم ما شاء الله ، ثم ناداهم {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} قال : فلما سمعوا صوته قالوا الآن يرحمنا ربنا فقالوا عند ذلك : {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي الكتاب الذي كتب علينا {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فقال عند ذلك {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء ، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض ، وأطبقت عليهم.
الآيات : 109 - 111 {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ، فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ، إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا} الآية. قال مجاهد : هم بلال وخباب وصهيب ، وفلان وفلان من ضعفاء المسلمين ؛ كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم. {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} بالضم قراءة نافع وحمزة والكسائي ها هنا وفي {ص} . وكسر الباقون. قال النحاس : وفرق أبو عمرو بينهما ، فجعل المكسورة من جهة التهزؤ ، والمضمومة من جهة السخرة ، ولا يعرف هذا التفريق الخليل ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفراء. قال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد ؛ كما يقال : عصي وعصي ، ولجي ولجي. وحكى الثعلبي عن الكسائي والفراء الفرق الذي ذكره أبو عمرو ، وأن الكسر بمعنى الاستهزاء
والسخرية بالقول ، والضم بمعنى التسخير والاستبعاد بالفعل. وقال المبرد : إنما يؤخذ التفريق بين المعاني عن العرب ، وأما التأويل فلا يكون. والكسر في سخري في المعنيين جميعا ؛ لأن الضمة تستثقل في مثل هذا . {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي اشتغلتم بالاستهزاء بهم عن ذكرى. {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} استهزاء بهم ، وأضاف الإساء إلى المؤمنين لأنهم كانوا سببا لاشتغالهم عن ذكره ؛ وتعدي شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم . {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} على أذاكم ، وصبروا على طاعتي. {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على ابتداء المدح من الله تعالى لهم وفتح الباقون ؛ أي لأنهم هم الفائزون. ويجوز نصبه بوقوع الجزاء عليه ، تقديره : إني جزيتهم اليوم الفوز بالجنة. قلت : وينظر إلى معنى هذا قوله تعالى في آخر المطففين : {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين : 34] إلى آخر السورة ، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. ويستفاد من هذا : التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين والاحتقار لهم ، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يغني ، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل.
الآيات : 112 - 114 {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ ، قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} قيل : يعني في القبور. وقيل : هو سؤال لهم عن مدة حياتهم في الدنيا. وهذا السؤال للمشركين في عرصات القيامة أو في النار. {عَدَدَ سِنِينَ} بفتح النون على أنه جمع مسلم ، ومن العرب من يخفضها وينونها. {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أنساهم شدة العذاب مدة مكثهم في القبور. وقيل : لأن العذاب رفع عنهم بين النفختين فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم. قال ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى الثانية ؛ وذلك أنه ليس من أحد قتله نبي أو قتل نبيا
أو مات بحضرة نبي إلا عذب من ساعة يموت إلى النفخة الأولى ، ثم يمسك عنه العذاب فيكون كالماء حتى ينفخ الثانية. وقيل : استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي القبور ورأوه يسيرا بالنسبة إلى ما هم بصدده. {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} أي سل الحساب الذين يعرفون ذلك فإنا قد نسيناه ، أو فاسأل الملائكة الذين كانوا معنا في الدنيا ؛ الأول قول قتادة ، والثاني قول مجاهد ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ } على الأمر. ويحتمل ثلاثة معان : أحدها : قولوا كم لبثتم ؛ فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد الجماعة ؛ إذ كان المعنى مفهوما. الثاني : أن يكون أمرا للملك ليسألهم يوم البعث عن قدر مكثهم في الدنيا. أو أراد قل أيها الكافر كم لبثتم ، وهو الثالث. الباقون {قَالَ كَمْ} على الخبر ؛ أي قال الله تعالى لهم ، أو قالت الملائكة لهم كم لبثتم. وقرأ حمزة والكسائي أيضا {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} الباقون {قال} على الخبر ، على ما ذكر من التأويل الأول ؛ أي ما لبثتم في الأرض إلا قليلا ؛ وذلك أن مكثهم في القبور وإن طال كان متناهيا. وقيل : هو قليل بالنسبة إلى مكثهم في النار ؛ لأنه لا نهاية له. {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ذلك.
الآية : 115 {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}
قوله تعالى : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} أي مهملين كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها ؛ مثل قوله تعالى : {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة : 36] يريد كالبهائم مهملا لغير فائدة. قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي : إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه ، فيثيبهم على العبادة ويعاقبهم على تركها ، فإن عبد وه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رق الدنيا ، ملوك في دار الإسلام ؛ وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أباق سقاط لئام ، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران. و {عَبَثاً} نصب على الحال عند سيبويه وقطرب. وقال أبو عبيدة : هو نصب على المصدر أو لأنه مفعول له. "وأنكم إلينا لا ترجعون" فتجازون بأعمالكم. قرأ حمزة والكسائي {تَرْجِعون} بفتح التاء وكسر الجيم من الرجوع
الآية : 116 {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}
قوله تعالى : {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي تنزه وتقدس الله الملك الحق عن الأولاد والشركاء والأنداد ، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها ؛ لأنه الحكيم. {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} ليس في القرآن غيرها. وقرأ ابن محيصن وروي عن ابن كثير "الكريم" بالرفع نعتا لله.
الآيتان : 117 - 118 {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ، وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}
قوله تعالى : {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} أي لا حجة له عليه {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي هو يعاقبه ويحاسبه. {إِنَّهُ} الهاء ضمير الأمر والشأن. {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وقرأ الحسن وقتادة {لا يَفْلَح} - بالفتح - من كذب وجحد ما جئت به وكفر نعمتي. ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالاستغفار لتقتدي به الأمة. وقيل : أمره بالاستغفار لأمته. وأسند الثعلبي من حديث ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن حنش بن عبد الله الصنعاني عن عبد الله بن مسعود أنه مر بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} حتى ختم السورة فبرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ماذا قرأت في أذنه" ؟ فأخبره ، فقال : "والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال"
تفسير سورة النور
سورة النور
الآية : 1 {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة : "علموا نساءكم سورة النور" . وقالت عائشة رضي الله عنها : "لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور والغزل" . {وَفَرَضْنَاهَا} قرئ بتخفيف الراء ؛ أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام. وبالتشديد : أي أنزلنا فيها فرائض مختلفة. وقرأ أبو عمرو : {وَفَرَضْنَاهَا} بالتشديد أي قطعناها في الإنزال نجما نجما. والفرض القطع ، ومنه فرضة القوس. وفرائض الميراث وفرض النفقة. وعنه أيضا {فَرَضْنَاهَا} فصلناها وبيناها. وقيل : هو على التكثير ؛ لكثرة ما فيها من الفرائض. والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة ؛ ولذلك سميت السورة من القرآن سورة. قال زهير :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
وقد مضى في مقدمة الكتاب القول فيها. وقرئ {سُورَةٌ} بالرفع على أنها مبتدأ وخبرها {أَنْزَلْنَاهَا} ؛ قاله أبو عبيدة والأخفش. وقال الزجاج والفراء والمبرد : {سُورَةٌ} بالرفع لأنها خبر الابتداء ؛ لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع ، أي هذه سورة. ويحتمل أن يكون قوله {سُورَةٌ} ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك ، ويكون الخبر في قوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} . وقرئ "سورةً" بالنصب ، على تقدير أنزلنا سورة أنزلناها. وقال الشاعر
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أو تكون منصوبة بإضمار فعل أي اتل سورة. وقال الفراء : هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه.
الآية : 2 {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
فيه اثنان وعشرون مسألة : -
الأولى : قوله تعالى : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} كان الزنى في اللغة معروفا قبل الشرع ، مثل اسم السرقة والقتل. وهو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها. وإن شئت قلت : هو إدخال فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا ؛ فإذا كان ذلك وجب الحد. وقد مضى الكلام في حد الزنى وحقيقته وما للعلماء في ذلك. وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة "النساء" باتفاق.
الثانية : قوله تعالى : {مِائَةَ جَلْدَةٍ} هذا حد الزاني الحر البالغ البكر ، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرة. وثبت بالسنة تغريب عام ؛ على الخلاف في ذلك. وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة ؛ لقوله تعالى : {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء : 25] وهذا في الأمة ، ثم العبد في معناها. وأما المحصن من الأحرار فعليه الرجم دون الجلد. ومن العلماء من يقول : يجلد مائة ثم يرجم. وقد مضى هذا كله ممهدا في "النساء" فأغنى عن إعادته ، والحمد لله.
الثالثة : قرأ الجمهور {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} بالرفع. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي {الزَّانِيَةُ} بالنصب ، وهو أوجه عند سيبويه ؛ لأنه عنده كقولك : زيدا اضرب. ووجه الرفع عنده :
خبر ابتداء ، وتقديره : فيما يتلى عليكم [حكم] الزانية والزاني. وأجمع الناس على الرفع وإن كان القياس عند سيبويه النصب. وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه ، والخبر في قوله : {فَاجْلِدُوا} لأن المعنى : الزانية والزاني مجلودان بحكم الله وهو قول جيد وهو قول أكثر النحاة. وإن شئت قدرت الخبر : ينبغي أن يجلدا. وقرأ ابن مسعود {والزان} بغير ياء.
الرابعة : ذكر الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى ، والزاني كان يكفي منهما ؛ فقيل : ذكرهما للتأكيد كما قال تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة : 38] . ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظان أن الرجل لما كان هو الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حد فذكرها رفعا لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعي. فقالوا : لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان ؛ لأنه قال جامعت أهلي في نهار رمضان ؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "كفر" . فأمره بالكفارة ، والمرأة ليس بمجامعة ولا واطئة.
الخامسة : قدمت {الزَّانِيَةُ} في الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنى النساء فاش وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات ، وكن مجاهرات بذلك. وقيل : لأن الزنى في النساء أعر وهو لأجل الحبل أضر. وقيل : لأن الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب فصدرها تغليظا لتردع شهوتها وإن كان قد ركب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله. وأيضا فإن العار بالنساء ألحق إذ موضوعهن الحجب والصيانة فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما.
السادسة : الألف واللام في قول {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} للجنس ، وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة. ومن قال بالجلد مع الرجم قال : السنة جاءت بزيادة حكم فيقام مع الجلد. وهو قول إسحاق بن راهويه والحسن بن أبي الحسن ، وفعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه بشراحة وقد مضى في "النساء" بيانه. وقال الجمهور : هي خاصة في البكرين ، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج العبيد والإماء منها
السابعة : نص الله سبحانه وتعالى على ما يجب على الزانيين إذا شُهد بذلك عليهما على ما يأتي وأجمع العلماء على القول به. واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في ثوب واحد فقال إسحاق بن راهويه : يضرب كل واحد منهما مائة جلدة. وروي ذلك عن عمر وعلى وليس يثبت ذلك عنهما. وقال عطاء وسفيان الثوري : يؤدبان. وبه قال مالك وأحمد على قدر مذاهبهم في الأدب. قال ابن المنذر : والأكثر ممن رأيناه يرى على من وجد على هذه الحال الأدب. وقد مضى في "هود" اختيار ما في هذه المسألة ، والحمد لله وحده.
الثامنة : قوله تعالى : {فَاجْلِدُوا} دخلت الفاء لأنه موضع أمر والأمر مضارع للشرط. وقال المبرد : فيه معنى الجزاء ، أي إن زنى زان فافعلوا به كذا ، ولهذا دخلت الفاء ؛ وهكذا {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة : 38] .
التاسعة : لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه. وزاد مالك والشافعي : السادة في العبيد. قال الشافعي : في كل جلد وقطع. وقال مالك : في الجلد دون القطع. وقيل : الخطاب للمسلمين لأن إقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين ، ثم الإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود.
العاشرة : أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب. والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطا بين سوطين. لا شديدا ولا لينا. وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط ، فأتي بسوط مكسور ، فقال : "فوق هذا" فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال : "دون هذا" فأتي بسوط قد ركب به ولان. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد... "الحديث. قال أبو عمر : هكذا روى الحديث مرسلا جميع"
رواة الموطأ ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ بوجه من الوجوه ، وقد روى معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء. وقد تقدم في {المائدة} ضرب عمر قدامة في الخمر بسوط تام. يريد وسطا.
الحادية عشرة : اختلف العلماء في تجريد المجلود في الزنى ؛ فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما : يجرد ، ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب. وقال الأوزاعي : الإمام مخير إن شاء جرد وإن شاء ترك. وقال الشعبي والنخعي : لا يجرد ولكن يترك عليه قميص. قال ابن مسعود : لا يحل في الأمة تجريد ولا مد وبه فال الثوري.
الثانية عشرة : اختلف العلماء في كيفية ضرب الرجال والنساء ؛ فقال مالك : الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء لا يقام واحد منهما ؛ ولا يجزى عنده إلا في الظهر. وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف ، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال الليث وأبو حنيفة والشافعي : الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه. وحكاه المهدوي في التحصيل عن مالك. وينزع عنه الحشو والفرو. وقال الشافعي : إن كان مده صلاحا مد.
الثالثة عشرة : واختلفوا في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود ؛ فقال مالك : الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر ، وكذلك التعزير. وقال الشافعي وأصحابه : يتقى الوجه والفرج وتضرب سائر الأعضاء ؛ وروي عن علي. وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى. قال ابن عطية : والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل. واختلفوا في ضرب الرأس فقال الجمهور : يتقى الرأس. وقال أبو يوسف : يضرب الرأس. وروي عن عمر وابنه فقالا : يضرب الرأس. وضرب عمر رضي الله عنه صبيا في رأسه وكان تعزيرا لا حدا. ومن حجة مالك ما أدرك عليه الناس ، وقوله عليه السلام : "البينة وإلا حد في ظهرك" وسيأتي.
الرابعة عشرة : الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يبضع ، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه. وبه قال الجمهور ، وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما. وأتي عمر رضي الله عنه برجل في حد فأتي بسوط بين سوطين وقال للضارب : اضرب ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه. وأتي رضي الله عنه بشارب فقال : لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة فبعثه إلى مطيع بن الأسود العدوي فقال : إذا أصبحت الغد فاضربه الحد فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضربا شديدا فقال : قتلت الرجل كم ضربته ؟ فقال ستين ؛ فقال : أقص عنه بعشرين. قال أبو عبيدة : "أقص عنه بعشرين" يقول : اجعل شدة هذا الضرب الذي ضربته قصاصا بالعشرين التي بقيت ولا تضربه العشرين. وفي هذا الحديث من الفقه أن ضرب الشارب ضرب خفيف. وقد اختلف العلماء في أشد الحدود ضرباوهي :
الخامسة عشرة : فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد : الضرب في الحدود كلها سواء ضرب غير مبرح ؛ ضرب بين ضربين. هو قول الشافعي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة وأصحابه : التعزير أشد الضرب ؛ وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر ، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف. وقال الثوري : ضرب الزنى أشد من ضرب القذف ، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر. احتج مالك بورود التوقيف عل عدد الجلدات ، ولم يرد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عمن يجب التسليم له. احتج أبو حنيفة بفعل عمر ، فإنه ضرب في التعزير ضربا أشد منه في الزنى. احتج الثوري بأن الزنى لما كان أكثر عددا في الجلدات استحال أن يكون القذف أبلغ في النكاية. وكذلك الخمر ؛ لأنه لم يثبت الحد إلا بالاجتهاد ، وسبيل مسائل الاجتهاد لا يقوي قوة مسائل التوقيف.
السادسة عشرة : الحد الذي أوجب الله في الزنى والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن يقام بين أيدي الحكام ، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم يختارهم الإمام لذلك. وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شيء من ذلك ، رضي الله عنهم. وسبب ذلك أنه




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #503  
قديم 06-07-2025, 10:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,480
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 164 الى صــ 173
الحلقة (503)





قيام بقاعدة شرعية وقربة تعبدية ، تجب المحافظة على فعلها وقدرها ومحلها وحالها ، بحيث لا يتعدى شيء من شروطها ولا أحكامها ، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة ، فيجب مراعاته بكل ما أمكن. روى الصحيح عن حضين بن المنذر أبي ساسان قال : شهدت عثمان بن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال : أزيدكم ؟ فشهد عليه رجلان ، أحدهما حمران أنه شرب الخمر ، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ ؛ فقال عثمان : إنه لم يتقيأ حتى شربها ؛ فقال : يا علي قم فاجلده ، فقال علي : قم يا حسن فاجلده. فقال الحسن : ول حارها من تولى قارها - فكأنه وجد عليه - فقال : يا عبد الله بن جعفر ، قم فاجلده ، فجلده وعلي يعد... "الحديث. وقد تقدم في المائدة. فانظر قول عثمان للإمام علي : قم فاجلده."
السابعة عشرة : نص الله تعالى على عدد الجلد في الزنى والقذف ، وثبت التوقيف في الخمر على ثمانين من فعل عمر في جميع الصحابة - على ما تقدم في المائدة - فلا يجوز أن يتعدى الحد في ذلك كله. قال ابن العربي : وهذا ما لم يتابع الناس في الشر ولا احلولت لهم المعاصي ، حتى يتخذوها ضراوة ويعطفون عليها بالهوادة فلا يتناهوا عن منكر فعلوه ؛ فحينئذ تتعين الشدة ويزاد الحد لأجل زيادة الذنب. وقد أتي عمر بسكران في رمضان فضربه مائة ؛ ثمانين حد الخمر وعشرين لهتك حرمة الشهر. فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات. وقد لعب رجل بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغير ذلك مالك حين بلغه ، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي ، والتظاهر بالمناكر وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة ، لمات كمدا ولم يجالس أحدا ؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قلت : ولهذا المعنى - والله أعلم - زيد في حد الخمر حتى انتهى إلى ثمانين. وروى الدارقطني حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد ، فأتي بسكران ، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن عنده فضربوه بما في أيديهم. وقال : وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه التراب. قال : ثم أتي أبو بكر رضي الله عنه بسكران ، قال : فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ ؛ فضرب أربعين. قال الزهري : ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وبرة الكلبي قال : أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر ، قال فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير وهم معه متكئون في المسجد فقلت : إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول : إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه ؛ فقال عمر : هم هؤلاء عندك فسلهم. فقال علي : نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون ؛ قال فقال عمر : أبلغ صاحبك ما قال. قال : فجلد خالد ثمانين وعمر ثمانين. قال : وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الذلة ضربه أربعين ، قال : وجلد عثمان أيضا ثمانين وأربعين. ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : "لو تأخر الهلال لزدتكم" كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. في رواية "لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم" . وروى حامد بن يحيى عن سقيان عن مسعر عن عطاء بن أبي مروان أن عليا ضرب النجاشي في الخمر مائة جلدة ؛ ذكره أبو عمرو ولم يذكر سببا.
الثامنة عشرة : قوله تعالى : {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي لا تمتنعوا عن إقامة الحدود شفقة على المحدود ، ولا تخففوا الضرب من غير إيجاع ، وهذا قول جماعة أهل التفسير. وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير : {لا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} قالوا :
في الضرب والجلد. وقال أبو هريرة رضي الله عنه : إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة ؛ ثم قرأ هذه الآية. والرأفة أرق الرحمة. وقرئ {رَأْفَةٌ} بفتح الألف على وزن فعلة. وقرئ {رآفة} على وزن فعالة ؛ ثلاث لغات ، هي كلها مصادر ، أشهرها الأولى ؛ من رؤوف إذا رق ورحم. ويقال : رأفة ورآفة ؛ مثل كأبة وكآبة. وقد رأفت به ورؤفت به. والرؤوف من صفات الله تعالى : العطوف الرحيم.
التاسعة عشرة : {فِي دِينِ اللَّهِ} أي في حكم الله ؛ كما قال تعالى : {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف : 76] أي في حكمه. وقيل : {فِي دِينِ اللَّهِ} أي في طاعة الله وشرعه فيما أمركم به من إقامة الحدود. "إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر" قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله تعالى : {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . وهذا كما تقول لرجل تحضه : إن كنت رجلا فافعل كذا ، أي هذه أفعال الرجال.
الموفية عشرين : قوله تعالى : {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قيل : لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق التأديب. قال مجاهد : رجل فما فوقه إلى ألف. وقال ابن زيد : لا بد من حضور أربعة قياسا على الشهادة على الزنى ، وأن هذا باب منه ؛ وهو قول مالك والليث والشافعي. وقال عكرمة وعطاء : لا بد من اثنين ؛ وهذا مشهور قول مالك ، فرآها موضع شهادة. وقال الزهري : ثلاثة ، لأنه أقل الجمع. الحسن : واحد فصاعدا ، وعنه عشرة. الربيع : ما زاد على الثلاثة. وحجة مجاهد قوله تعالى : {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة : 122] ، وقوله : {وَإِنْ طَائِفَتَانِ} [الحجرات : 9] ، ونزلت في تقاتل رجلين ؛ فكذلك قوله تعالى : {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . والواحد يسمى طائفة إلى الألف ؛ وقاله ابن عباس وإبراهيم. وأمر أبو برزة الأسلمي بجارية له قد زنت وولدت فألقى عليها ثوبا ، وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربة غير مبرح ولا خفيف لكن مؤلم ، ودعا جماعة ثم تلا {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
الحادية والعشرون : اختلف في المراد بحضور الجماعة. هل المقصود بها الإغلاط على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس ، وأن ذلك يدع المحدود ، ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله ، ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده ، أو الدعاء لهما بالتوبة والرحمة ؛ قولان للعلماء.
الثانية والعشرون : روي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يا معاشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال ثلاثا في الدنيا وثلاثا في الآخرة فأما اللواتي الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما اللواتي في الآخرة فيوجب السخط وسوء الحساب والخلود في النار" . وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أعمال أمتي تعرض علي كل جمعة مرتين فاشتد غضب الله على الزناة" . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله على أمتي فغفر لكل مؤمن لا يشرك بالله شيئا إلا خمسة ساحرا أو كاهنا أو عاقا لوالديه أو مدمن خمر أو مصرا على الزنى" .
الآية : 3 {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}
فيه سبع مسائل : -
الأولى : اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل :
الأول : أن يكون مقصد الآية تشنيع الزنى وتبشيع أمره ، وأنه محرم على المؤمنين. واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ. ويريد بقوله : {لا يَنْكِحُ} أي لا يطأ ؛ فيكون النكاح بمعنى الجماع. وردد القصة مبالغة وأخذا كلا الطرفين ، ثم زاد تقسيم المشركة والمشرك من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنى ؛ فالمعنى : الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين ، أو من هي أحسن منها من المشركات. وقد روي عن ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء. وأنكر ذلك الزجاج وقال : لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا
بمعنى التزويج. وليس كما قال ؛ وفي القرآن {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة : 230] وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمعنى الوطء ، وقد تقدم في "البقرة" . وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة ، ولكن غير مخلص ولا مكمل. وحكاه الخطابي عن ابن عباس ، وأن معناه الوطء أي لا يكون زنى إلا بزانية ، ويفيد أنه زنى في الجهتين ؛ فهذا قول.
الثاني : ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى بمكة ، وكان بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقته ، قال : فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ؛ أنكح عناق ؟ قال : فسكت عني ؛ فنزلت {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} ؛ فدعاني فقرأها علي وقال : "لا تنكحها" . لفظ أبي داود ، وحديث الترمذي أكمل. قال الخطابي : هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة ، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.
الثالث : أنها مخصوصة في رجل من المسلمين أيضا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها أم مهزول وكانت من بغايا الزانيات ، وشرطت أن تنفق عليه ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ؛ قاله عمرو بن العاصي ومجاهد.
الرابع : أنها نزلت في أهل الصفة وكانوا قوما من المهاجرين ، ولم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا صفة المسجد وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل ، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور ، مخاصيب بالكسوة والطعام ؛ فهم أهل الصفة أن يتزوجوهن فيأووا إلى مساكنهن ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن ؛ فنزلت هذه الآية صيانة لهم عن ذلك ؛ قال ابن أبي صالح.
الخامس : ذكره الزجاج وغيره عن الحسن ، وذلك أنه قال : المراد الزاني المحدود والزانية المحدودة ، قال : وهذا حكم من الله فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة.
وقال إبراهيم النخعي نحوه. وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله" . وروى أن محدودا تزوج غير محدودة ففرق علي رضي الله عنه بينهما. قال ابن العربي : وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا ، وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال على نكاح من حد من النساء فبأي أثر يكون ذلك ، وعلى أي أصل يقاس من الشريعة.
قلت : وحكى هذا القول الكِيَا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين ، وأن الزاني إذا تزوج غير زانية فرق بينهما لظاهر الآية. قال الكيا : وإن هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه أن يجوز للزاني التزوج بالمشركة ، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك ؛ وهذا في غاية البعد ، وهو خروج عن الإسلام بالكلية ، وربما قال هؤلاء : إن الآية منسوخة في المشرك خاص دون الزانية.
السادس : أنها منسوخة ؛ روى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال : {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} قال : نسخت هذه الآية التي بعدها {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور : 32] ؛ وقاله ابن عمرو ، قال : دخلت الزانية في أيامى المسلمين. قال أبو جعفر النحاس : وهذا القول عليه أكثر العلماء. وأهل الفتيا يقولون : إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها. وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد وعطاء وطاوس ومالك بن أنس وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي : القول فيها كما قال سعيد بن المسيب ، إن شاء الله هي منسوخة. قال ابن عطية : وذكر الإشراك في هذه الآية يضعف هذه المناحي. قال ابن العربي : والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن يراد به الوطء كما قال ابن عباس أو العقد ؛ فإن أريد به الوطء فإن معناه : لا يكون زنى إلا بزانية ، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة زنى من الجهتين ؛ ويكون تقدير الآية : وطء الزانية لا يقع إلا من زان أو مشرك ؛ وهذا يؤثر عن ابن عباس ، وهو معنى صحيح.
فإن قيل : فإذا زنى بالغ بصبية ، أو عاقل بمجنونة ، أو مستيقظ بنائمة فإن ذلك من جهة الرجل زنى ؛ فهذا زان نكح غير زانية ، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم. قلنا : هو زنى من كل جهة ، إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والآخر ثبت فيه. وإن أريد به العقد كان معناه : أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها يكون بمنزلة الزاني ، إلا أنه لا حد عليه لاختلاف العلماء في ذلك. وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعا. وقيل : ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح قط إلا زانية إذ قد يتصور أن يتزوج غير زانية ، ولكن المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان ، فكأنه قال : لا ينكح الزانية إلا زان فقلب الكلام ، وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا وهو راض بزناها ، وإنما يرضى بذلك إذا كان هو أيضا يزني.
الثانية : في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح. وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته ؛ وهذا على أن الآية منسوخة. وقيل إنها محكمة. وسيأتي.
الثالثة : روي أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي بكر رضي الله عنه فجلدهما مائة جلدة ، ثم زوج أحدهما من الآخر مكانه ، ونفاهما سنة. وروي مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم. وقال ابن عباس : أوله سفاح وآخره نكاح. ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط ثمرة ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرة فما سرق حرام وما اشترى حلال. وبهذا أخذ الشافعي وأبو حنيفة ، ورأوا أن الماء لا حرمة له. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدا. وبهذا أخذ مالك رضي الله عنه ؛ فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد لأن النكاح له حرمة ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح ؛ فيختلط الحرام بالحلال ويمتزج ماء المهانة بماء العزة.
الرابعة : قال ابن خويز منداد : من كان معروفا بالزنى أو بغيره من الفسوق معلنا به فتزوج إلى أهل بيت ستر وغرهم من نفسه فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه ؛ وذلك كعيب من العيوب واحتج بقوله عليه السلام : "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله" . قال ابن خويز منداد. وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق ، وهو الذي يجب أن يفرق بينه وبين غيره ؛ فأما من لم يشتهر بالفسق فلا.
الخامسة : قال قوم من المتقدمين : الآية محكمة غير منسوخة ، وعند هؤلاء : من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته ، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها. وقال قوم من هؤلاء : لا ينفسخ النكاح بذلك ، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت ، ولو أمسكها أثم ، ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني ، بل لو ظهرت التوبة فحينئذ يجوز النكاح.
السادسة : قوله تعالى : {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي نكاح أولئك البغايا ؛ فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله تعالى على أمة محمد عليه السلام ، ومن أشهرهن عناق.
السابعة : حرم الله تعالى الزنى في كتابه ؛ فحيثما زنى الرجل فعليه الحد. وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور. وقال أصحاب الرأي في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرت بأمان وزنى هنالك ثم خرج لم يحد. قال ابن المنذر : دار الحرب ودار الإسلام سواء ، ومن زنى فعليه الحد على ظاهر قوله : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور : 2] .
الآيتان : 4 - 5 {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
فيه ست وعشرون مسألة : -
الأولى : هذه الآية نزلت في القاذفين. قال سعيد بن جبير : كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. وقيل : بل نزلت بسبب القذفة عاما لا في تلك النازلة. وقال ابن المنذر : لم نجد في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا يدل على تصريح القذف ، وظاهر كتاب الله تعالى مستغنى به دالا على القذف الذي يوجب الحد ، وأهل العلم على ذلك مجمعون.
الثانية : قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} يريد يسبون ، واستعير له اسم الرمي لأنه إذاية بالقول كما قال النابغة :
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال آخر :
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطوي رماني
ويسمى قذفا ومنه الحديث : إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء ؛ أي رماها.
الثالثة : ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن أهم ، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس. وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى ، وإجماع الأمة على ذلك. وهذا نحو نصه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه وغضاريفه ، ونحو ذلك بالمعنى والإجماع. وحكى الزهراوي أن المعنى : والأنفس المحصنات ؛ فهي بلفظها تعم الرجال والنساء ، ويدل على ذلك قوله : {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} . [النساء : 24] . وقال قوم : أراد بالمحصنات الفروج كما قال تعالى : {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء : 91] فيدخل فيه فروج الرجال والنساء. وقيل : إنما ذكر المرأة الأجنبية إذا قذفت ليعطف علها قذف الرجل زوجته ؛ والله أعلم. وقرأ الجمهور {المحصَناتُ} بفتح الصاد ، وكسرها يحيى بن وثاب. والمحصنات العفائف في هذا الموضع. وقد مضى في "النساء" ذكر الإحصان ومراتبه. والحمد لله.
الرابعة : للقذف شروط عند العلماء تسعة : شرطان في القاذف ، وهما العقل والبلوغ ؛ لأنهما أصلا التكليف ، إذ التكليف ساقط دونهما. وشرطان في الشيء المقذوف به وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد ، وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي. وخمسة من المقذوف وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها كان عفيفا من غيرها أم لا. وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف وإن لم يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الإذابة بالمضرة الداخلة على المقذوف ، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ ؛ إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى.
الخامسة : اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنى كان قذفا ورميا موجبا للحد فإن عرض ولم يصرح فقال مالك : هو قذف. وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يكون قذفا حتى يقول أردت به القذف. والدليل لما قال مالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف ، فإذا حصلت المعرة بالتعرض وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم وقد قال تعالى مخبرا عن شعيب : {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود : 87] أي السفيه الضال فعرضوا له بالسب بكلام ظاهر المدح في أحد التأويلات ، حسبما تقدم في "هود" . وقال تعالى في أبي جهل : {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان : 49] . وقال حكاية عن مريم : {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم : 28] ؛ فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء ، أي الزنى ، وعرضوا لمريم بذلك ؛ ولذلك قال تعالى : {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} [النساء : 156] ، وكفرهم معروف ، والبهتان العظيم هو التعريض لها ؛ أي ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ، أي أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد. وقال تعالى : {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ : 24] ؛ فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى ، وأن الله تعالى ورسوله على الهدى ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه. وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لما قال


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #504  
قديم 06-07-2025, 10:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,480
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 174 الى صــ 183
الحلقة (504)





دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون. ولما سمع قول النجاشي :
قبيلته لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
قال : ليت الخطاب كذلك ؛ وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة ؛ ومثله كثير.
السادسة : الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم. وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى : عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم. وفيه قول ثالث : وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد. قال ابن المنذر : وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول ، ولم أدرك أحدا ولا لقيته يخالف في ذلك. وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة ؛ لا أعلم في ذلك خلافا.
السابعة : والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين ؛ لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى. وروي عن ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة بن ذؤيب يجلد ثمانين. وجلد أبو بكر بن محمد عبد اً قذف حرا ثمانين ؛ وبه قال الأوزاعي. احتج الجمهور بقول الله تعالى : {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء : 25] . وقال الآخرون : فهمنا هناك أن حد الزنى لله تعالى ، وأنه ربما كان أخف فيمن قلّت نعم الله عليه ، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه. وأما حد القذف فحق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف والجناية لا تختلف بالرق والحرية. وربما قالوا : لو كان يختلف لذكر كما ذكر من الزنى. قال ابن المنذر : والذي عليه علماء الأمصار القول الأول ، وبه أقول.
الثامنة : وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما ولقوله عليه السلام : "من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال" خرجه البخاري ومسلم. وفي بعض طرقه : "من قذف عبد ه بزنى ثم لم يثبت أقيم"
عليه يوم القيامة الحد ثمانون "ذكره الدارقطني. قال العلماء : وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد ، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى ؛ ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة ، واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم. وإنما لم يتكافؤوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين من مكافأتهم لهم ، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة ، وتبطل فائدة التسخير ؛ حكمة من الحكيم العليم ، لا إله إلا هو."
التاسعة : قال مالك والشافعي : من قذف من يحسبه عبد ا فإذا هو حر فعليه الحد ؛ وقاله الحسن البصري واختاره ابن المنذر. قال مالك : ومن قذف أم الولد حد وروى عن ابن عمر وهو قياس قول الشافعي. وقال الحسن البصري : لا حد عليه.
العاشرة : واختلف العلماء فيمن قال لرجل : يا من وطئ بين الفخذين ؛ فقال ابن القاسم : عليه الحد لأنه تعريض. وقال أشهب : لا حد فيه لأنه نسبة إلى فعل لا يعد زنى إجماعا.
الحادية عشرة : إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور : ليس بقذف ؛ لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها ، ويعزر. قال ابن العربي : والمسألة محتملة مشكلة ، لكن مالك طلب حماية عرض المقذوف ، وغيره راعى حماية ظهر القاذف وحماية عرض المقذوف أولى ؛ لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد. قال ابن المنذر : وقال أحمد في الجارية بنت تسع : يجلد قاذفها ، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه. قال إسحاق : إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد ، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك. قال ابن المنذر : لا يحد من قذف من لم يبلغ ؛ لأن ذلك كذب ، ويعزر على الأذى. قال أبو عبيد : في حديث علي رضي الله عنه أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال : إن كنت صادق رجمناه وإن كنت كاذبة
جلدناك. فقالت : ردوني إلى أهلي غيرى نغرة. قال أبو عبيد : في هذا الحديث من الفقه أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد.
وفيه أيضا إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحد ؛ ألا تسمع قوله : وإن كنت كاذبة جلدناك. ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلا بما يأتي وبما يقول ، فإن كان جاهلا وادعى شبهة درئ عنه الحد في ذلك كله.
وفيه أيضا أن رجلا لو قذف رجلا بحضرة حاكم وليس المقذوف بحاضر أنه لا شيء على القاذف حتى يجيء فيطلب حده ؛ لأنه لا يدري لعله يصدقه ؛ ألا ترى أن عليا عليه السلام لم يعرض لها.
وفيه أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحد بسماعه ألا تراه يقول : وإن كنت كاذبة جلدناك وهذا لأنه من حقوق الناس.
قلت : اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين ؛ وسيأتي. قال أبو عبيد : قال الأصمعي سألني شعبة عن قول : "غَيْرَى نَغِرة" ؛ فقلت له : هو مأخوذ من نغر القدر ، وهو غليانها وفورها يقال منه : نغرت تنغر ، ونغرت تنغر إذا غلت. فمعناه أنها أرادت أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد. قال : ويقال منه رأيت فلانا يتنغر على فلان أي يغلي جوفه عليه غيظا.
الثانية عشرة : من قذف زوجة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حد حدين ؛ قاله مسروق. قاله ابن العربي : والصحيح أنه حد واحد ؛ لعموم قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية ، ولا يقتضي شرفهن زيادة في حد من قذفهن ؛ لأن شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود ، ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص والله أعلم. وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة رضي الله عنها ، هل يقتل أم لا.
الثالثة عشرة : قوله تعالى : {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنى ؛ رحمة بعباده وسترا لهم. وقد تقدم في سورة "النساء"
الرابعة عشرة : من شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك رحمه الله أن يكون ذلك في مجلس واحد فإن افترقت لم تكن شهادة. وقال عبد الملك : تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين. فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد ؛ وبه قال ابن الحسن. ورأى عبد الملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها وقد حصل ؛ وهو قول عثمان البتي وأبي ثور واختاره ابن المنذر لقوله تعالى : {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وقوله : {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} [النور : 13] ولم يذكر مفترقين ولا مجتمعين.
الخامسة عشرة : فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا ؛ فكان الحسن البصري والشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود ؛ وبه قال أحمد والنعمان ومحمد بن الحسن. وقال مالك : إذا شهد عليه أربعة بالزنى فإن كان أحدهم مسقوطا عليه أو عبد ا يجلدون جميعا. وقال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى : يضربون.
السادسة عشرة : فإن رجع أحد الشهود وقد رجم المشهود عليه في الزنى ؛ فقالت طائفة : يغرم ربع الدية ولا شيء على الآخرين. وكذلك قال قتادة وحماد وعكرمة وأبو هاشم ومالك وأحمد وأصحاب الرأي. وقال الشافعي : إن قال عمدت ليقتل ؛ فالأولياء بالخيار إن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا عفوا وأخذوا ربع الدية ، وعليه الحد. وقال الحسن البصري : يقتل ، وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية. وقال ابن سيرين : إذا قال أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة ، وإن قال تعمدت قتل وبه قال ابن شبرمة.
السابعة عشرة : واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما ؛ الأول - قول أبي حنيفة. والثاني : قول مالك والشافعي. والثالث : قاله بعض المتأخرين. وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا له تعالى وبلغ الإمام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى ، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنى. وإن كان حقا للآدمي فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف ، ويسقط بعفوه ، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف.
الثامنة عشرة : قوله تعالى : {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} قراءة الجمهور على إضافة الأربعة إلى الشهداء. وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بن جرير {بِأَرْبَعَةٍ} التنوين {شُهَدَاء} . وفيه أربعة أوجه : يكون في موضع جر على النعت لأربعة ، أو بدلا. ويجوز أن يكون حالا من نكرة أو تمييزا ؛ وفي الحال والتمييز نظر ؛ إذ الحال من نكرة ، والتمييز مجموع. وسيبويه يرى أنه تنوين العدد ، وترك إضافته إنما يجوز في الشعر. وقد حسن أبو الفتح عثمان بن جني هذه القراءة وحبب على قراءة الجمهور. قال النحاس : ويجوز أن يكون {شهداء} في موضع نصب بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء.
التاسعة عشرة : حكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة يرون ذلك كالمرود في المكحلة على ما تقدم في "النساء" في نص الحديث. وأن تكون في موطن واحد ؛ على قول مالك. وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة ؛ كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة ؛ وذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع ؛ وقال الزهراوي : عبد الله بن الحارث ، وزياد أخوهما لأم وهو مستلحق معاوية ، وشبل بن معبد البجلي ، فلما جاؤوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها ، جلد عمر الثلاثة المذكورين.
الموفية عشرين : قوله تعالى : {فَاجْلِدُوهُمْ} الجلد الضرب. والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود ؛ ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره. ومنه قول قيس بن الخطيم :
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا ... كأن يدي بالسيف محراق لاعب
{ثَمَانِينَ} نصب على المصدر. {جَلْدَةً} تمييز. {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} هذا يقتضي مدة أعمارهم ، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون ؛ أي خارجون عن طاعة الله عز وجل.
الحادية والعشرون : قوله تعالى : {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} في موضع نصب على الاستثناء. ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل. المعنى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وأصلحوا من بعد القذف {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف :

جلده ، ورد شهادته أبدا ، وفسقه. فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع ؛ إلا ما روي الشعبي على ما يأتي. وعامل في فسقه بإجماع. واختلف الناس في عمله في رد الشهادة ؛ فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسفيان الثوري وأبو حنيفة : لا يعمل الاستثناء في رد شهادته ، وإنما يزول فسقه عند الله تعالى. وأما شهادة القاذف فلا تقبل البتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال. وقال الجمهور : الاستثناء عامل في رد الشهادة ، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ؛ وإنما كان ردها لعلة الفسق فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده ، وهو قول عامة الفقهاء. ثم اختلفوا في صورة توبته ؛ فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره ، أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه. وهكذا فعل عمر ؛ فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة : من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل ، ومن لم يفعل لم أجز شهادته ؛ فأكذب الشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا ، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا يقبل شهادته. وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة. وقالت فرقة - منها مالك رحمه الله تعالى وغيره - : توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله ؛ وهو قول ابن جرير. ويروى عن الشعبي أنه قال : الاستثناء من الأحكام الثلاثة ، إذا تاب وظهرت توبته لم يحد وقبلت شهادته وزال عنه التفسيق ؛ لأنه قد صار ممن يرضى من الشهداء ؛ وقد قال الله عز وجل : {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه : 82] الآية.
الثانية والعشرون : اختلف علماؤنا رحمهم الله تعالى متى تسقط شهادة القاذف ؛ فقال ابن الماجشون : بنفس قذفه. وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون : لا تسقط حتى يجلد ، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته. وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي : شهادته في مدة الأجل موقوفة ؛ ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف ، وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على عدالته.
الثالثة والعشرون : واختلفوا أيضا على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شيء تجوز ؛ فقال مالك رحمه الله تعالى : تجوز في كل شيء مطلقا ؛ وكذلك كل من حد في شيء من الأشياء ؛ رواه نافع وابن عبد الحكم عن مالك ، وهو قول ابن كنانة. وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة ، وتقبل فيما سوى ذلك ؛ وهو قول مطرف وابن الماجشون. وروى العتبي عن أصبغ وسحنون مثله. قال سحنون : من حد في شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه. وقال مطرف وابن الماجشون : من حد في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى ، ولا في قذف ولا لعان وإن كان عدلا ؛ وروياه عن مالك. واتفقوا على ولد الزنى أن شهادته لا تجوز في الزنى.
الرابعة والعشرون : الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك والشافعي وأصحابهما. وعند أبي حنيفة وجل أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور وهو الفسق ؛ ولهذا لا تقبل شهادته ، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة.
وسبب الخلاف في هذا الأصل سببان : أحدهما : هل هذه الجمل في حكم الجملة الواحدة للعطف الذي فيها ، أو لكل جملة حكم نفسها في الاستقلال وحرف العطف محسن لا مشرك ، وهو الصحيح في عطف الجمل ؛ لجواز عطف الجمل المختلفة بعضها على بعض ، على ما يعرف من النحو.
السبب الثاني : يشبه الاستثناء بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة ، فإنه يعود إلى جميعها عند الفقهاء ، أو لا يشبه به ، لأنه من باب القياس في اللغة وهو فاسد على ما يعرف في أصول الفقه. والأصل أن كل ذلك محتمل ولا ترجيح ، فتعين ما قال القاضي من الوقف. ويتأيد الإشكال بأنه قد جاء في كتاب الله عز وجل كلا الأمرين ؛ فإن آية المحاربة فيها عود الضمير إلى الجميع باتفاق ، وآية قتل المؤمن خطأ فيها رد الاستثناء إلى الأخيرة باتفاق ، وآية القذف محتملة للوجهين ، فتعين الوقف من غير مين. قال علماؤنا : وهذا نظر
كلي أصولي. ويترجح قول مالك والشافعي رحمهما الله من جهة نظر الفقه الجزئي بأن يقال : الاستثناء راجع إلى الفسق والنهي عن قبول الشهادة جميعا إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له. وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الكفر ، فيجب أن يكون ما دون ذلك أولى ؛ والله أعلم. قال أبو عبيد : الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة ؛ قال : وليس من نسب إلى الزنى بأعظم جرما من مرتكب الزنى ، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته ؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى ؛ مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن ؛ منها قوله تعالى : {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة : 33] إلى قوله {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة : 34] . ولا شك أن هذا الاستثناء إلى الجميع ؛ وقال الزجاج : وليس القاذف بأشد جرما من الكافر ، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته. قال : وقوله : {أَبَداً} أي ما دام قاذفا ؛ كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبدا ؛ فإن معناه ما دام كافرا. وقال الشعبي للمخالف في هذه المسألة : يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته! ثم إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام من الأصوليين فقوله : "وأولئك هم الفاسقون" تعليل لا جملة مستقلة بنفسها ؛ أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم ، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم. ثم توبة القاذف إكذابه نفسه ، كما قال عمر لقذفة المغيرة بحضرة الصحابة من غير نكير ، مع إشاعة القضية وشهرتها من البصرة إلى الحجاز وغير ذلك من الأقطار. ولو كان تأويل الآية ما تأوله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة ، ولقالوا لعمر : لا يجوز قبول توبة القاذف أبدا ، ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب ؛ فسقط قولهم ، والله المستعان.
الخامسة والعشرون : قال القشيري : ولا خلاف أنه إذا لم يجلد القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد ، أو لم يرفع إلى السلطان ، أو عفا المقذوف ، فالشهادة مقبولة ؛ لأن عند الخصم في المسألة النهي عن قبول الشهادة معطوف على الجلد ؛ قال الله تعالى :
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} . وعند هذا قال الشافعي : هو قبل أن يحد شر منه حين حد ؛ لأن الحدود كفارات فكيف ترد شهادته في أحسن حاليه دون أخسهما.
قلت : هكذا قال ولا خلاف. وقد تقدم عن ابن الماجشون أنه بنفس القذف ترد شهادته. وهو قول الليث والأوزاعي والشافعي : ترد شهادته وإن لم يحد ؛ لأنه بالقذف يفسق ، لأنه من الكبائر فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه.
السادسة والعشرون : قوله تعالى : {وَأَصْلَحُوا} يريد إظهار التوبة. وقيل : وأصلحوا العمل. {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حيث تابوا وقبل توبتهم.
الآيات : 6 - 10 {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}
فيه ثلاثون مسألة : -
الأولى : قوله تعالى : {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} {أَنْفُسُهُمْ} بالرفع على البدل. ويجوز النصب على الاستثناء ، وعلى خبر {يَكُنْ} . {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} بالرفع قراءة الكوفيين على الابتداء والخبر ؛ أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حد القذف أربع شهادات. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو {أربعَ} بالنصب ؛ لأن معنى {فَشَهَادَةُ} أن يشهد ؛ والتقدير : فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات ، أو فالأمر أن يشهد أحدهم أربع شهادات ؛ ولا خلاف في الثاني أنه منصوب بالشهادة. {وَالْخَامِسَةُ} رفع بالابتداء.
والخبر {أنّ} وصلتها ؛ ومعنى المخففة كمعنى المثقلة لأن معناها أنه. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة وعاصم في رواية حفص {وَالْخَامِسَةَ} بالنصب ، بمعنى وتشهد الشهادة الخامسة. الباقون بالرفع على الابتداء ، والخبر في {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ} ؛ أي والشهادة الخامسة قول لعنة الله عليه.
الثانية : في سبب نزولها ، وهو ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "البينة أو حد في ظهرك" قال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "البينة وإلا حد في ظهرك" فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد ؛ فنزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} فقرأ حتى بلغ {مِنَ الصَّادِقِينَ} الحديث بكماله. وقيل : لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ : يا رسول الله ، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة والله لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني" . وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة ، هذا نحو معناها. ثم جاء من بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك بن سحماء البلوي على ما ذكرنا ، وعزم النبي صلى الله عليه وسلم على ضربه حد القذف ؛ فنزلت هذه الآية عند ذلك ، فجمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وتلاعنا ، فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت وقيل إنها موجبة ؛ ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ؛ فالتعنت وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وولدت غلاما كأنه جمل أورق - على النعت المكروه - ثم كان الغلام بعد ذلك أميرا بمصر ، وهو لا يعرف لنفسه أبا. وجاء أيضا عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن. والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل ، وأنها سبب الآية. وقيل : نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل ؛ وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #505  
قديم 06-07-2025, 10:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,480
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 184 الى صــ 193
الحلقة (505)





قال أبو عبد الله بن أبي صفرة : الصحيح أن القاذف لزوجه عويمر ، وهلال بن أمية خطأ. قال الطبري يستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية : وإنما القاذف عويمر بن زيد بن الجد بن العجلاني ، شهد أحدا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، رماها بشريك بن السحماء ، والسحماء أمه ؛ قيل لها ذلك لسوادها ، وهو ابن عبد ة بن الجد بن العجلاني ؛ كذلك كان يقول أهل الأخبار. وقيل : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الناس في الخطبة يوم الجمعة {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فقال عاصم بن عدي الأنصاري : جعلني الله فداك لو أن رجلا منا وجد على بطن امرأته رجلا ؛ فتكلم فأخبر بما جرى جلد ثمانين ، وسماه المسلمون فاسقا فلا تقبل شهادته ؛ فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء ، وإلى أن يلتمس أربعة شهود فقد فرغ الرجل من حاجته فقال عليه السلام : "كذلك أنزلت يا عاصم بن عدي" . فخرج عاصم سامعا مطيعا ؛ فاستقبله هلال بن أمية يسترجع ؛ فقال : ما وراءك ؟ فقال : شر وجدت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة يزني بها ؛ وخولة هذه بنت عاصم بن عدي ، كذا في هذا الطريق أن الذي وجد مع امرأته شريكا هو هلال بن أمية ، والصحيح خلافه حسبما تقدم بيانه. قال الكلبي : والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني ؛ لكثرة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته. واتفقوا على أن هذا الزاني هو شريك بن عبد ة وأمه السحماء ، وكان عويمر وخولة بنت قيس وشريك بني عم عاصم ، وكانت هذه القصة في شعبان سنة تسع من الهجرة ، منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة ؛ قال الطبري. وروى الدارقطني عن عبد الله بن جعفر قال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته ، مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ، وأنكر حملها الذي في بطنها وقال هو لابن السحماء ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هات امرأتك فقد نزل القرآن فيكما" ؛ فلاعن بينهما بعد العصر عند المنبر على خمل. في طريقه الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن عمران بن أبي أنس قال : سمعت عبد الله بن جعفر يقول فذكره.
الثالثة : قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} عام في كل رمي ، سواء قال : زنيت أو يا زانية أو رأيتها تزني ، أو هذا الولد ليس مني ؛ فإن الآية مشتملة عليه. ويجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء ؛ وهذا قول جمهور العلماء وعامة الفقهاء وجماعة أهل الحديث. وقد روي عن مالك مثل ذلك. وكان مالك يقول : لا يلاعن إلا أن يقول : رأيتك تزني ؛ أو ينفي حملا أو ولدا منها. وقول أبي الزناد ويحيى بن سعيد والبتي مثل قول مالك : إن الملاعنة لا تجب بالقذف وإنما تجب بالرؤية أو نفي الحمل مع دعوى الاستبراء ؛ هذا هو المشهور عند مالك ، وقاله ابن القاسم. والصحيح. الأول لعموم قوله : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} . قال ابن العربي : وظاهر القرآن يكفي لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية ؛ فلتعولوا عليه ، لا سيما وفي الحديث الصحيح : أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "فاذهب فأت بها" ولم يكلفه ذكر الرؤية. وأجمعوا أن الأعمى يلاعن إذا قذف امرأته. ولو كانت الرؤية من شرط اللعان ما لاعن الأعمى ؛ قاله ابن عمر رضي الله عنهم. وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول : لمست فرجه في فرجها. والحجة لمالك ومن اتبعه ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم ، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا ، فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يهجه حتى أصبح ، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلا ، فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه ؛ فنزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآية ؛ وذكر الحديث. وهو نص على أن الملاعنة التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت في الرؤية ، فلا يجب أن يتعدى ذلك. ومن قذف امرأته ولم يذكر رؤية حد ؛ لعموم قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} .
الرابعة : إذا نفى الحمل فإنه يلتعن ؛ لأنه أقوى من الرؤية ولا بد من ذكر عدم الوطء والاستبراء بعده. واختلف علماؤنا في الاستبراء ؛ فقال المغيرة ومالك أحد قوليهما :
يجزى في ذلك حيضة. وقال مالك أيضا : لا ينفيه إلا بثلاث حيض. والصحيح الأول ؛ لأن براءة الرحم من الشغل يقع بها كما في استبراء الأمة ، وإنما راعينا الثلاث حيض في العدد لحكم آخر يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى. وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة : لا يُنفى الولد بالاستبراء ؛ لأن الحيض يأتي على الحمل. وبه قال أشهب في كتاب ابن المواز ، وقاله المغيرة. وقال : لا ينفى الولد إلا بخمس سنين لأنه أكثر مدة الحمل على ما تقدم.
الخامسة : اللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبد ين ، مؤمنين أو كافرين ، فاسقين أو عدلين. وبه قال الشافعي. ولا لعان بين الرجل وأمته ، ولا بينه وبين أم ولده. وقيل : لا ينتفي ولد الأمة عنه إلا بيمين واحدة ؛ بخلاف اللعان. وقد قيل : إنه إذا نفى ولد أم الولد لاعن. والأول تحصيل مذهب مالك وهو الصواب. وقال أبو حنيفة : لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين ؛ وذلك لأن اللعان عنده شهادة ، وعندنا وعند الشافعي يمين ، فكل من صحت يمينه صح قذفه ولعانه. واتفقوا على أنه لا بد أن يكونا مكلفين. وفي قوله : "وجد مع امرأته رجلا" . دليل على أن الملاعنة تجب على كل زوجين ؛ لأنه لم يخص رجلا من رجل ولا امرأه من امرأة ، ونزلت آية اللعان على هذا الجواب فقال : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ولم يخص زوجا من زوج. وإلى هذا ذهب مالك وأهل المدينة ؛ وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور. وأيضا فإن اللعان يوجب فسخ النكاح فأشبه الطلاق ؛ فكل من يجوز طلاقه يجوز لعانه. واللعان أيمان لا شهادات ؛ قال الله تعالى وهو أصدق القائلين : {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة : 107] أي أيماننا. وقال تعالى : {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون : 1] . ثم قال تعالى : {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} [المجادلة : 16] .
وقال عليه السلام : "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" . وأما ما احتج به الثوري وأبو حنيفة فهي حجج لا تقوم على ساق ؛ منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر والأمة لعان وليس بين الحرة والعبد لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية لعان" . أخرجه الدارقطني من طرق ضعفها كلها. وروي عن الأوزاعي وابن جريج وهما إمامان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قوله ، ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. واحتجوا من جهة النظر أن الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقول : {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} وجب ألا يلاعن إلا من تجوز شهادته. وأيضا فلو كانت يمينا ما رددت ، والحكمة في ترديدها قيامها في الأعداد مقام الشهود في الزنى. قلنا : هذا يبطل بيمين القسامة فإنها تكرر وليست بشهادة إجماعا ؛ والحكمة في تكرارها التغليظ في الفروج والدماء. قال ابن العربي : والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب ، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر.
السادسة : واختلف العلماء في ملاعنة الأخرس ؛ فقال مالك والشافعي : يلاعن ؛ لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه ، إذا فهم ذلك عنه. وقال أبو حنيفة : لا يلاعن ؛ لأنه ليس من أهل الشهادة ، ولأنه قد ينطق بلسانه فينكر السابعة : قال ابن العربي : رأى أبو حنيفة عموم الآية فقال : إن الرجل إذا قذف زوجته بالزنى قبل أن يتزوجها فإنه يلاعن ؛ ونسي أن ذلك قد تضمنه قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وهذا رماها محصنة غير زوجة ؛ وإنما يكون اللعان في قذف يلحق فيه النسب ، وهذا قذف لا يلحق فيه نسب فلا يوجب لعانا ، كما لو قذف أجنبية.
الثامنة : إذا قذفها بعد الطلاق نظرت ؛ فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل يتبرأ منه لاعن وإلا لم يلاعن. وقال عثمان البتي : لا يلاعن بحال لأنها ليست بزوجة. وقال أبو حنيفة : لا يلاعن في الوجهين ؛ لأنها ليست بزوج. وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفا ، بل هذا أولى ؛ لأن النكاح قد تقدم وهو يري الانتفاء من النسب وتبرئته من ولد يلحق به فلا بد من اللعان. وإذا لم يكن هنالك حمل يرجى ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به وكان قذفا مطلقا داخلا تحت عموم قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية ، فوجب عليه الحد وبطل ما قال البتي لظهور فساده.
التاسعة : لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة ، وهي أن يكون الرجل غائبا فتأتي امرأته بولد في مغيبه وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها ، ثم يقدم فينفيه فله أن يلاعنها ها هنا بعد العدة. وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفي الولد لاعن لنفسه وهي ميتة بعد مدة من العدة ، ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما.
العاشرة : إذا انتفى من الحمل ووقع ذلك بشرطه لاعن قبل الوضع ؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة : لا يلاعن إلا بعد أن تضع ، لأنه يحتمل أن يكون ريحا أو داء من الأدواء. ودليلنا النص الصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن قبل الوضع ، وقال : "إن جاءت به كذا فهو لأبيه وإن جاءت به كذا فهو لفلان" فجاءت به على النعت المكروه.
الحادية عشرة : إذا قذف بالوطء في الدبر [لزوجه] لاعن. وقال أبو حنيفة : لا يلاعن ؛ وبناه على أصله في أن اللواط لا يوجب الحد. وهذا فاسد ؛ لأن الرمي به فيه معرة وقد دخل تحت عموم قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وقد تقدم في "الأعراف والمؤمنون] أنه يجب به الحد."
الثانية عشرة : قال ابن العربي : من غريب أمر هذا الرجل أنه قال إذا قذف زوجته وأمها بالزنى : إنه إن حد للأم سقط حد البنت ، وإن لاعن للبنت لم يسقط حد الأم ؛ وهذا لا وجه له ، وما رأيت لهم فيه شيئا يحكى ، وهذا باطل جدا ؛ فإنه خص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه.
الثالثة عشرة : إذا قذف زوجته ثم زنت قبل التعانه فلا حد ولا لعان. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال الثوري والمزني : لا يسقط الحد عن القاذف ، وزنى المقذوف بعد أن قذف لا يقدح في حصانته المتقدمة ولا يرفعها ؛ لأن الاعتبار الحصانة والعفة في حال القذف لا بعده. كما لو قذف مسلما فارتد المقذوف بعد القذف وقبل أن يحد القاذف لم يسقط الحد عنه. وأيضا فإن الحدود كلها معتبرة بوقت الوجوب لا وقت الإقامة. ودليلنا هو أنه قد ظهر قبل استيفاء اللعان والحد معنى لو كان موجودا في الابتداء منع صحة اللعان ووجوب الحد فكذلك إذا طرأ في الثاني ؛ كما إذا شهد شاهدان ظاهرهما العدالة فلم يحكم الحاكم بشهادتهما حتى ظهر فسقهما بأن زنيا أو شربا خمرا فلم يجز للحاكم أن يحكم بشهادتهما تلك. وأيضا فإن الحكم بالعفة والإحصان يؤخذ من طريق الظاهر لا من حيت القطع واليقين ، وقد قال عليه السلام : "ظهر المؤمن حمى" ؛ فلا يحد القاذف إلا بدليل قاطع ، وبالله التوفيق.
الرابعة عشرة : من قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا ؛ هو لدفع الحد ، وهي لدرء العذاب. فإن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدفع الحد ولم تلاعن هي لأنها لو أقرت لم يلزمها شيء. وقال ابن الماجشون : لا حد على قاذف من لم تبلغ. قال اللخمي : فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل.
الخامسة عشرة : إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى أحدهم زوجها فإن الزوج يلاعن وتحد الشهود الثلاثة ؛ وهو أحد قولي الشافعي. والقول الثاني أنهم لا يحدون. وقال أبو حنيفة : إذا شهد الزوج والثلاثة ابتداء قبلت شهادتهم وحدت المرأة. ودليلنا قوله
تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية. فأخبر أن من قذف محصنا ولم يأت بأربعة شهداء حد ؛ فظاهره يقتضي أن يأتي بأربعة شهداء سوى الرامي ، والزوج رام لزوجته فخرج عن أن يكون أحد الشهود ، والله أعلم.
السادسة عشرة : إذا ظهر بامرأته حمل فترك أن ينفيه لم يكن له نفيه بعد سكوته. وقال شريح ومجاهد : له أن ينفيه أبدا. وهذا خطأ ؛ لأن سكوته بعد العلم به رضى به ؛ كما لو أقر به ثم ينفيه فإنه لا يقبل منه ، والله أعلم.
السابعة عشرة : فإن أخر ذلك إلى أن وضعت وقال : رجوت أن يكون ريحا يفش أو تسقطه فأستريح من القذف ؛ فهل لنفيه بعد وضعه مدة ما فإذا تجاوزها لم يكن له ذلك ؛ فقد اختلف في ذلك ، فنحن نقول : إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام فهو راض به ليس له نفيه ؛ وبهذا قال الشافعي. وقال أيضا : متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة تمكنه من الحاكم فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك. وقال أبو حنيفة : لا أعتبر مدة. وقال أبو يوسف ومحمد : يعتبر فيه أربعون يوما ، مدة النفاس. قال ابن القصار : والدليل لقولنا هو أن نفي ولده محرم عليه ، واستلحاق ولد ليس منه محرم عليه ، فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه ويفكر ، هل يجوز له نفيه أو لا. وإنما جعلنا الحد ثلاثة لأنه أول حد الكثرة وآخر حد القلة ، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر بها حال المصراة ؛ فكذلك ينبغي أن يكون هنا. وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهم بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع ؛ إذ لا شاهد لهم في الشريعة ، وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة المصراة.
الثامنة عشرة : قال ابن القصار : إذا قالت امرأة لزوجها أو لأجنبي يا زانيه - بالهاء - وكذلك الأجنبي لأجنبي ، فلست أعرف فيه نصا لأصحابنا ، ولكنه عندي يكون قذفا وعلى قائله الحد ، وقد زاد حرفا ، وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف :
لا يكون قذفا. واتفقوا أنه إذا قال لامرأته يا زان أنه قذف. والدليل على أنه يكون في الرجل قذفا هو أن الخطاب إذا فهم منه معناه ثبت حكمه ، سواء كان بلفظ أعجمي أو عربي. ألا ترى أنه إذا قال للمرأة زنيت "بفتح التاء" كان قذفا ؛ لأن معناه يفهم منه ، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أنه لما جاز أن يخاطب المؤنث بخطاب المذكر لقوله تعالى : {وَقَالَ نِسْوَةٌ} صلح أن يكون قول يا زان للمؤنث قذفا. ولما لم يجز أن يؤنث فعل المذكر إذا تقدم عليه لم يكن لخطابه بالمؤنث حكم ، والله أعلم.
التاسعة عشرة : يلاعن في النكاح الفاسد زوجته لأنها صارت فراشا ويلحق النسب فيه فجرى اللعان عليه.
الموفية عشرين : اختلفوا في الزوج إذا أبى من الالتعان ؛ فقال أبو حنيفة : لا حد عليه ؛ لأن الله تعالى جعل على الأجنبي الحد وعلى الزوج اللعان ، فلما لم ينتقل اللعان إلى الأجنبي لم ينتقل الحد إلى الزوج ، ويسجن أبدا حتى يلاعن لأن الحدود لا تؤخر قياسا. وقال مالك والشافعي وجمهور الفقهاء : إن لم يلتعن الزوج حد ؛ لأن اللعان له براءة كالشهود للأجنبي ، فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهداء حد ، فكذلك الزوج إن لم يلتعن. وفي حديث العجلاني ما يدل على هذا ؛ لقوله : إن سكت سكت على غيظ وإن قتلتُ قُتلت وإن نطقتُ جُلدت.
الحادية والعشرون : واختلفوا أيضا هل للزوج أن يلاعن مع شهوده ؛ فقال مالك والشافعي : يلاعن كان له شهود أو لم يكن ؛ لأن الشهود ليس لهم عمل في غير درء الحد ، وأما رفع الفراش ونفي الولد فلا بد فيه من اللعان. وقال أبو حنيفة وأصحابه : إنما جعل اللعان للزوج إذا لم يكن له شهود غير نفسه ؛ لقوله تعالى : {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} .
الثانية والعشرون : البداءة في اللعان بما بدأ الله به ، وهو الزوج ؛ وفائدته درء الحد عنه ونفي النسب منه ؛ لقوله عليه السلام : "البينة وإلا حد في ظهرك" . ولو بدئ بالمرأة قبله لم يجز لأنه عكس ما رتبه الله تعالى. وقال أبو حنيفة : يجزى. وهذا باطل ؛ لأنه
خلاف القرآن ، وليس له أصل يرده إليه ولا معنى يقوى به ، بل المعنى لنا ؛ لأن المرأة إذا بدأت باللعان فتنفي ما لم يثبت وهذا لا وجه له.
الثالثة والعشرون : وكيفية اللعان أن يقول الحاكم للملاعن : قل أشهد بالله لرأيتها تزني ورأيت فرج الزاني في فرجها كالمرود في المكحلة وما وطئتها بعد رؤيتي. وإن شئت فلت : لقد زنت وما وطئتها بعد زناها. يردد ما شاء من هذين اللفظين أربع مرات ، فإن نكل عن هذه الأيمان أو عن شيء منها حد. وإذا نفى حملا قال : أشهد بالله لقد استبرأتها وما وطئتها بعد ، وما هذا الحمل مني ، ويشير إليه ؛ فيحلف بذلك أربع مرات ويقول في كل يمين منها : وإني لمن الصادقين في قولي هذا عليها. ثم يقول في الخامسة : علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين ، وإن شاء قال : إن كنت كاذبا فيما ذكرت عنها. فإذا قال ذلك سقط عنه الحد وانتفى عنه الولد. فإذا فرغ الرجل من التعانه قامت المرأة بعده فحلفت بالله أربعة أيمان ، تقول فيها : أشهد بالله إنه لكاذب أو إنه لمن الكاذبين فيما ادعاه علي وذكر عني. وإن كانت حاملا قالت : وإن حملي هذا منه. ثم تقول في الخامسة : وعلي غضب الله إن كان صادقا ، أو إن كان من الصادقين في قول ذلك. ومن أوجب اللعان بالقذف يقول في كل شهادة من الأربع : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة من الزنى. ويقول في الخامسة : علي لعنة الله إن كنت كاذبا فيما رميت به من الزنى. وتقول هي : أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنى. وتقول في الخامسة : علي غضب الله إن كان صادقا فيما رماني به من الزنى. وقال الشافعي : يقول الملاعن أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجي فلانة بنت فلان ، ويشير إليها إن كانت حاضرة ، يقول ذلك أربع مرات ، ثم يوعظه الإمام ويذكره الله تعالى ويقول : إني أخاف إن لم تكن صدقت أن تبوء بلعنة الله ؛ فإن رآه يريد أن يمضي على ذلك أمر من يضع يده على فيه ، ويقول : إن قولك وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين موجبا ؛ فإن أبى تركه يقول ذلك : لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنى. احتج بما رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا حيث أمر المتلاعنين أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول : إنها موجبة.
الرابعة والعشرون : اختلف العلماء في حكم من قذف امرأته برجل سماه ، هل يحد أم لا ؛ فقال مالك : عليه اللعان لزوجته ، وحد للمرمي. وبه قال أبو حنيفة ؛ لأنه قاذف لمن لم يكن له ضرورة إلى قذفه. وقال الشافعي : لا حد عليه ؛ لأن الله عز وجل لم يجعل على من رمى زوجته بالزنى إلا حدا واحدا بقوله : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ، ولم يفرق بين من ذكر رجلا بعينه وبين من لم يذكر ؛ وقد رمى العجلاني زوجته بشريك وكذلك هلال بن أمية ؛ فلم يحد واحد منهما. قال ابن العربي : وظاهر القرآن لنا ؛ لأن الله تعالى وضع الحد في قذف الأجنبي والزوجة مطلقين ، ثم خص حد الزوجة بالخلاص باللعان وبقي الأجنبي على مطلق الآية. وإنما لم يحد العجلاني لشريك ولا هلال لأنه لم يطلبه ؛ وحد القذف لا يقيمه الإمام إلا بعد المطالبة إجماعا منا ومنه.
الخامسة والعشرون : إذا فرغ المتلاعنان من تلاعنهما جميعا تفرقا وخرج كل واحد منهما على باب من المسجد الجامع غير الباب الذي يخرج منه صاحبه ، ولو خرجا من باب واحد لم يضر ذلك لعانهما. ولا خلاف في أنه لا يكن اللعان إلا في مسجد جامع تجمع فيه الجمعة بحضرة السلطان أو من يقوم مقامه من الحكام. وقد استحب جماعة من أهل العلم أن يكون اللعان في الجامع بعد العصر. وتلتعن النصرانية من زوجها المسلم في الموضع الذي تعظمه من كنيستها مثل ما تلتعن به المسلمة.
السادسة والعشرون : قال مالك أصحابه : وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين ، فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان ، ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل زوج ولا بعده ؛ وهو قول الليث بن سعد وزفر بن الهذيل والأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن : لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما ؛ وهو قول الثوري ؛ لقول ابن عمر : فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين ؛ فأضاف الفرقة إليه ، ولقوله عليه السلام : "لا سبيل لك عليها" . وقال الشافعي : إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته ، التعنت أو لم تلتعن. قال : وأما التعان المرأة فإنما هو لدرء الحد عنها لا غير ؛ وليس لالتعانها في زوال الفراش معنى. ولما كان لعان الزوج ينفي



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #506  
قديم 06-07-2025, 10:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,480
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 194 الى صــ 203
الحلقة (506)





الولد ويسقط الحد رفع الفراش. وكان عثمان البتي لا يرى التلاعن ينقص شيئا من عصمة الزوجين حتى يطلق. وهذا قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة ؛ على أن البتي قد استحب للملاعن أن يطلق بعد اللعان ، ولم يستحسنه قبل ذلك ؛ فدل على أن اللعان عنده قد أحدث حكما. وبقول عثمان قال جابر بن زيد فيما ذكره الطبري ، وحكاه اللخمي عن محمد بن أبي صفرة. ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة. واحتج أهل هذه المقالة بأنه ليس في كتاب الله تعالى إذا لاعن أو لاعنت يجب وقوع الفرقة ، وبقول عويمر : كذبت عليها إن أمسكتها ؛ فطلقها ثلاثا ، قال : ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه ولم يقل له لم قلت هذا ، وأنت لا تحتاج إليه ؛ لأن باللعان قد طلقت. والحجة لمالك في المشهور ومن وافقه قوله عليه السلام : "لا سبيل لك عليها" . وهذا إعلام منه أن تمام اللعان رفع سبيله عنها وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم وإنما كان تنفيذا لما أوجب الله تعالى بينهما من المباعدة ، وهو معنى اللعان في اللغة.
السابعة والعشرون : ذهب الجمهور من العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا ، فإن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد ، ولم ترجع إليه أبدا. وعلى هذا السنة التي لا شك فيها ولا اختلاف. وذكر ابن المنذر عن عطاء أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد ، وقال : قد تفرقا بلعنة من الله. وقال أبو حنيفة ومحمد : إذا أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد ، وكان خاطبا من الخطاب إن شاء ؛ وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وسعيد بن جبير وعبدالعزيز بن أبي سلمة ، وقالوا : يعود النكاح حلالا كما لحق به الولد ؛ لأنه لا فرق بين شيء من ذلك. وحجة الجماعة قوله عليه السلام : "لا سبيل لك عليها" ؛ ولم يقل إلا أن تكذب نفسك. وروى ابن إسحاق وجماعة عن الزهري قال : فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبدا. ورواه الدارقطني ، ورواه مرفوعا من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان أبدا" . وروي عن علي وعبد قالا : مضت السنة ألا يجتمع المتلاعنان. عن علي : أبدا.
الثامنة والعشرون : اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء :
عدد الألفاظ : وهو أربع شهادات على ما تقدم.
والمكان : وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان ، إن كان بمكة فعند الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة ، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها ، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه ، إن كانا يهوديين فالكنيسة ، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار ، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه.
والوقت : وذلك بعد صلاة العصر.
وجمع الناس : وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا ؛ فاللفظ وجمع الناس مشروطان ، والزمان والمكان مستحبان.
التاسعة والعشرون : من قال : إن الفراق لا يقع إلا بتمام التعانهما ، فعليه لو مات أحدهما قبل تمامه ورثه الآخر. ومن قال : لا يقع إلا بتفريق الإمام فمات أحدهما قبل ذلك وتمام اللعان ورثه الآخر. وعلى قول الشافعي : إن مات أحدهما قبل أن تلتعن المرأة لم يتوارثا.
الموفية ثلاثين : قال ابن القصار : تفريق اللعان عندنا ليس بفسخ ؛ وهو مذهب المدونة : فإن اللعان حكم تفريق الطلاق ، ويعطى لغير المدخول بها نصف الصداق. وفي مختصر ابن الجلاب : لا شيء لها ؛ وهذا على أن تفريق اللعان فسخ.
الآيات : 11 - 22 إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ،
لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
فيه ثمان وعشرون مسألة : -
الأولى : قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} {عُصْبَةٌ } خبر {إِنَّ} . ويجوز نصبها على الحال ، ويكون الخبر {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ} . وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة رضوان الله عليها ، وهو خبر صحيح مشهور ، أغنى اشتهاره عن ذكره ، وسيأتي مختصرا. وأخرجه البخاري تعليقا ، وحديثه أتم. قال : وقال أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، وأخرجه أيضا عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان من حديث مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت : لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها. وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال : حدثني مسروق بن الأجدع قال حدثتني أم رومان وهي أم عائشة قالت : بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بفلان وفعل بفلان فقالت أم رومان : وما ذاك ؟ قالت ابني فيمن حدّث الحديث قالت : وما ذاك ؟ قالت كذا وكذا. قالت عائشة : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت نعم. قالت : وأبو بكر ؟ قالت نعم فخرت مغشيا عليها فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "ما شأن هذه ؟" فقلت : يا رسول الله ، أخذتها الحمى بنافض. قال : "فلعل في حديث تُحُدث به" قالت نعم. فقعدت عائشة فقالت : والله ، لئن حلفت لا تصدقوني ولئن قلت لا تعذروني مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه والله المستعان على ما تصفون. قالت : وانصرف ولم يقل شيئا فأنزل الله عذرها. قالت : بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك. قال أبو عبد الله الحميدي : كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين يقول الإرسال في هذا الحديث أبين واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسروق لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف. وللبخاري من حديث عبيدالله بن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة كانت تقرأ إذ تَلِقُونَه
بِألسنَتِكُمْ وتقول : الولق الكذب. قال ابن أبي مليكة : وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها. قال البخاري : وقال معمر بن راشد عن الزهري : كان حديث الإفك في غزوة المريسيع. قال ابن إسحاق : وذلك سنة ست. وقال موسى بن عقبة : سنة أربع. وأخرج البخاري من حديث معمر عن الزهري قال : قال لي الوليد بن عبد الملك : أبلغك أن عليا كان فيمن قذف ؟ قال : قلت لا ، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما : كان عليٌّ مُسَلًّما في شأنها. وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر من حديث معمر عن الزهري ، وفيه : قال كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال : الذي تولى كبره منهم علي بن أبي طالب ؟ فقلت لا ، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيدالله بن عبد الله بن عتبة كلهم يقول سمعت عائشة تقول : والذي تولى كبره عبد الله بن أبي. وأخرج البخاري أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة : والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي.
الثانية : قوله تعالى : {بِالْأِفْكِ} الإفك الكذب. والعصبة ثلاثة رجال ؛ قال ابن عباس. وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة. ابن عيينة : أربعون رجلا. مجاهد : من عشرة إلى خمسة عشر. وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض. والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره. والشر ما زاد ضره على نفعه. وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة. وشرا لا خير فيه هو جهنم. فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير ؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا ، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى. فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان ، إذ الخطاب لهم في قوله {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ؛ لرجحان النفع والخير على جانب الشر.
الثالثة : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع ، وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل
فمشت حتى جاوزت الجيش ، فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه ، فوجدته وانصرفت فلما لم تجد أحدا ، وكانت شابة قليلة اللحم ، فرفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه ؛ فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها ، فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل : إنا لله وإنا إليه راجعون ؛ وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة. وقيل : إنها استيقظت لاسترجاعه ، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة ، وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة ؛ فوقع أهل الإفك في مقالتهم ، وكان الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه ويشعله عبد الله بن أبي بن سلول المنافق ، وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل. وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. هذا اختصار الحديث ، وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم ، وهو في مسلم أكمل. ولما بلغ صفوان قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال :
تلق ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذا هوجيت ليس بشاعر
فأخذ جماعة حسان ولببوه وجاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح حسان واستوهبه إياه. وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر ؛ على ما يأتي والله أعلم. وكان صفوان هذا صاحبَ ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته ، وكان من خيار الصحابة. وقيل : كان حصورا لا يأتي النساء ؛ ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة. وقيل : كان له ابنان ؛ يدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ابنيه : "لهما أشبه به من الغراب بالغراب" . وقوله في الحديث : والله ما كشف كنف أنثى قط ؛ يريد بزنى. وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر ، وقيل : ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية.
الرابعة : قوله تعالى : {لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ} يعني ممن تكلم بالإفك. ولم يسم من أهل الإفك إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد ؛ وجهل الغير ؛ قال عروة بن الزبير ، وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان ، وقال : إلا أنهم كانوا عصبة ؛ كما قال الله تعالى. وفي مصحف حفصة {عصبة أربعة} .
الخامسة : قوله تعالى : {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} وقرأ حميد الأعرج ويعقوب {كُبْرَه} بضم الكاف. قال الفراء : وهو وجه جيد ؛ لأن العرب تقول : فلان تولى عظم كذا وكذا ؛ أي أكبره. روي عن عائشة أنه حسان ، وأنها قالت حين عمي : لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره ؛ رواه عنها مسروق. وروي عنها أنه عبد الله بن أبي ؛ وهو الصحيح ، وقال ابن عباس. وحكى أبو عمر بن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية ، وقالت : إنه لم يقل شيئا. وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئا من ذلك في قوله :
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينا ومنصب ... نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما بلغت أني قلته ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
فكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها ... تقاصر عنها سورة المتطاول
وقد روي أنه لما أنشدها : حصان رزان ؛ قالت له : لست كذلك ؛ تريد أنك وقعت في الغوافل. وهذا تعارض ، ويمكن الجمع بأن يقال : إن حسانا لم يقل ذلك نصا وتصريحا ، ويكون عرض بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه ؛ والله أعلم.
وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا ، وهل جلد الحد أم لا ؛ فالله أعلم أي ذلك كان : وهي المسألة :
السادسة : فروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة : مسطحا وحسان وحمنة ، وذكره الترمذي وذكر القشيري عن ابن عباس قال : جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي ثمانين جلدة ، وله في الآخرة عذاب النار. قال القشيري : والذي ثبت في الأخبار أنه ضرب ابن أبي وضرب حسان وحمنة ، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح ، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح. قال الماوردي وغيره : اختلفوا هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإفك ؛ على قولين : أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة ، ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها ؛ كما لم يتعبده بقتل المنافقين ، وقد أخبره بكفرهم.
قلت : وهذا فاسد مخالف لنص القرآن ؛ فإن الله عز وجل يقول : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي على صدق قولهم : {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} . والقول الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم حد أهل الإفك عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ؛ وفي ذلك قال شاعر من المسلمين :
لقد ذاق حسان الذي كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
وابن سلول ذاق في الحد خزية ... كما خاض في إفك من القول يفصح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ... وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا
وآذوا رسول الله فيها فجلدوا ... مخازي تبقى عمموها وفضحوا
فصب عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح
قلت : المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة ، ولم يسمع بحد لعبد بن أبي. روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك ، وتلا القرآن ؛ فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين
والمرأة فضربوا حدهم ، وسماهم : حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وفي كتاب الطحاوي "ثمانين ثمانين" . قال علماؤنا. وإنما لم يحد عبد الله بن أبي لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما ؛ فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها ؛ فقد حصلت فائدة الحد ، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف ؛ كما قال الله تعالى : {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود "إنها كفارة لمن أقيمت عليه" ؛ كما في حديث عبادة بن الصامت. ويحتمل أن يقال : إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه واحتراما لابنه ، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك ، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه ؛ كما في صحيح مسلم. والله أعلم.
السابعة : قوله تعالى : {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا. قال ابن زيد : ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه ؛ قال المهدوي. و {لَوْلاَ} بمعنى هلا. وقيل : المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم ؛ فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد. وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته ؛ وذلك أنه دخل عليها فقالت له : يا أبا أيوب أسمعت ما قيل فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك قالت : لا والله قال : فعائشة والله أفضل منك ؛ قالت أم أيوب نعم. فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم.
الثامنة : قوله تعالى : {بِأَنْفُسِهِمْ} قال النحاس : معنى {بِأَنْفُسِهِمْ} بإخوانهم. فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.
قلت : ولأجل هذا قال العلماء : إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ؛ ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن ، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا.
التاسعة : قوله تعالى : {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} هذا توبيخ لأهل الإفك. و {لَوْلاَ} بمعنى هلا ؛ أي هلا جاؤوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. وهذا رد على الحكم الأول وإحالة على الآية السابقة في آية القذف.
العاشرة : قوله تعالى : {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي هم في حكم الله كاذبون. وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه ، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب لا في علم الله تعالى ؛ وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه ، فإنما يبني على ذلك حكم الآخرة.
قلت : ومما يقوي هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه ؛ وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه ، وإن قال إن سريرته حسنة. وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر ، وأن السرائر إلى الله عز وجل.
الحادية عشرة : قوله تعالى : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} {فَضْلُ} رفع بالابتداء عند سيبويه ، والخبر محذوف لا تظهره العرب. وحذف جواب {لَوْلاَ} لأنه قد ذكر مثله بعد ؛ قال الله عز وجل {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} {لَمَسَّكُمْ} أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. وهذا عتاب من الله تعالى بليغ ، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا والإفاضة : الأخذ في الحديث ؛ وهو الذي وقع عليه العتاب ؛ يقال : أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #507  
قديم 06-07-2025, 10:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,480
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 204 الى صــ 213
الحلقة (507)





الثانية عشرة : قوله تعالى : {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} قراءة محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف ؛ من الإلقاء ، وهذه قراءة بينة. وقرأ أبي وابن مسعود {إذ تتلقونه} من التلقي ، بتاءين. وقرأ جمهور السبعة بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام ؛ وهذا أيضا من التلقي. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الذال في التاء. وقرأ ابن كثير بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء ؛ وهذه قراءة قلقة ؛ لأنها تقتضي اجتماع ساكنين ، وليست كالإدغام في قراءة من قرأ {فَلاَ تَنَاجُوْا. وَلاَ تَنَابَزُوا} لأن دونه الألف الساكنة ، وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال. وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنهما - وهم أعلم الناس بهذا الأمر - {إِذْ تَلِقُونه} بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف ؛ ومعنى هذه القراءة من قول العرب : ولق الرجل يلق ولقا إذا كذب واستمر عليه ؛ فجاؤوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي. قال ابن عطية : وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه ؛ فحذف حرف الجر فاتصل الضمير. وقال الخليل وأبو عمرو : أصل الولق الإسراع ؛ يقال : جاءت الإبل تلق ؛ أي تسرع. قال :
لما رأوا جيشا عليهم قد طرق ... جاؤوا بأسراب من الشأم ولق
إن الحصين زلق وزملق ... جاءت به عنس من الشأم تلق
يقال : رجل زلق وزملق ؛ مثال هُدَبِد ، وزمالق وزملق "بتشديد الميم" وهو الذي ينزل قبل أن يجامع ؛ قال الراجز :
إن الحصين زلق وزملق
والولق أيضا أخف الطعن. وقد ولقه يلقه ولقا. يقال : ولقه بالسيف ولقات ، أي ضربات ؛ فهو مشترك.
الثالثة عشرة : قوله تعالى : {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا} مبالغة وإلزام وتأكيد. والضمير في {تَحْسَبُونَهُ} عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له. و {هَيِّناً} أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم. {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ} في الوزر {عَظِيمٌ} . وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث القبرين : "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير" أي بالنسبة إليكم.
الرابعة عشرة : قوله تعالى : {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل ، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام. وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان ؛ وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه ، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه. وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة. و {أنْ} مفعول من أجله ، بتقدير : كراهية أن ونحوه.
الخامسة عشرة : {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} توقيف وتوكيد ؛ كما تقول : ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا.
السادسة عشرة : قوله تعالى : {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} يعني في عائشة ؛ لأن مثله لا يكون إلا نظير القول المقول عنه بعينه ، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لما في ذلك من إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله ؛ وذلك كفر من فاعله.
السابعة عشرة : قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول : من سب أبا بكر وعمر أدب ، ومن سب عائشة قتل لأن الله تعالى يقول : {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فمن سب عائشة فقد خالف القرآن ، ومن خالف القرآن قتل. قال ابن العربي : قال أصحاب الشافعي من سب عائشة رضي الله عنها أدب كما في سائر المؤمنين ، وليس قوله : {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} في عائشة لأن ذلك كفر ، وإنما هو كما قال عليه السلام : "لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه" . ولو كان سلب الإيمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله : "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" حقيقة. قلنا : ليس كما زعمتم ؛ فإن
أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله منه مكذب لله ، ومن كذب الله فهو كافر ؛ فهذا طريق قول مالك ، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر. ولو أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب.
الثامنة عشرة : قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أي تفشو ؛ يقال : شاع الشيء شيوعا وشيعا وشيعانا وشيوعه ؛ أي ظهر وتفرق. {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أي في المحصنين والمحصنات. والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان رضي الله عنهما. والفاحشة : الفعل القبيح المفرط القبح. وقيل : الفاحشة في هذه الآية القول السيء. {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} أي الحد. وفي الآخرة عذاب النار ؛ أي للمنافقين ، فهو مخصوص. وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة. وقال الطبري : معناه إن مات مصرا غير تائب.
التاسعة عشرة : قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه ويعلم كل شيء. {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} روي من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها. وأيما رجل قال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقا وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة. وأيما رجل أشاع عل رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله تعالى أن يرميه بها في النار - ثم تلا مصداقه من كتاب الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} " الآية.
الموفية عشرين : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يعني مسالكه ومذاهبه ؛ المعنى : لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليها الشيطان. وواحد الخطوات خطوة هو ما بين القدمين. والخطوة "بالفتح" المصدر ؛ يقال : خطوت خطوة ، وجمعها خطوات. وتخطى إلينا فلان ؛ ومنه الحديث أنه رأى رجلا يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة.
وقرأ الجمهور {خُطُوات} بضم الطاء. وسكنها عاصم والأعمش. وقرأ الجمهور {مَا زَكَى} بتخفيف الكاف ؛ أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف رشدا. وقيل : {ما زكى} أي ما صلح ؛ يقال : زكا يزكو زكاء ؛ أي صلح. وشددها الحسن وأبو حيوة ؛ أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم. وقال الكسائي : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} معترض ، وقوله : {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} جواب لقوله أولا وثانيا : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} الآية. المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة. وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين. وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف. وقيل : اسمه عوف ، ومسطح لقب. وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته ؛ فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال ، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا ، فجاء مسطح فاعتذر وقال : إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول. فقال له أبو بكر : لقد ضحكت وشاركت فيما قيل ؛ ومر على يمينه ، فنزلت الآية. وقال الضحاك وابن عباس : إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا : والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة ؛ فنزلت الآية في جميعهم. والأول أصح ؛ غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع في هذه صفته غابر الدهر. روي في الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل : {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} العشر آيات ، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ؛ فأنزل الله تعالى : {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله : {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} . قال عبد الله بن المبارك : هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى ؛ فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ؛ فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : لا أنزعها منه أبدا.
الثانية والعشرون : في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال ؛ لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان ؛ وكذلك سائر الكبائر ؛ ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله ، قال الله تعالى : {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65] .
الثالثة والعشرون : من حلف على شيء لا يفعله فرأى فعله أولى منه أتاه وكفر عن يمينه ، أو كفر عن يمينه وأتاه ؛ كما تقدم في "المائدة]. ورأى الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبّد ذلك أنها جُرحة في شهادته ؛ ذكره الباجي في المنتقى."
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ} {وَلا يَأْتَلِ} معناه يحلف ؛ وزنها يفتعل ، من الألية وهي اليمين ؛ ومنه قوله تعالى : {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وقد تقدم في "البقرة" . وقالت فرقة : معناه يقصر ؛ من قولك : ألوت في كذا إذا قصرت فيه ؛ ومنه قوله تعالى : {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران : 118] .
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم ؛ وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام : "من لا يرحم لا يرحم" .
السادسة والعشرون : قال بعض العلماء : هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى ، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ. وقيل. أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى : {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب : 47] . وقد قال تعالى في آية أخرى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى : 22] ؛ فشرح الفضل الكبير في هذه الآية ، وبشر به المؤمنين في تلك. ومن آيات الرجاء قوله تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر : 53] . وقوله تعالى : اللَّهُ لَطِيفٌ
بِعِبَادِهِ [الشورى : 19] . وقال بعضهم : أرجى آية في كتاب الله عز وجل : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى : 5] ؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار.
قوله تعالى : {أن يُؤْتُوا} أي ألا يؤتوا ، فحذف {لا} ؛ كقول القائل :
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
ذكره الزجاج. وعلى قول أبي عبيدة لا حاجة إلى إضمار {لا} . {وَلْيَعْفُو} من عفا الربع أي درس فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع.
الآية : 23 {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {الْمُحْصَنَاتِ} تقدم في "النساء" . وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا ، وقد بيناه أول السورة والحمد لله. واختلف فيمن المراد بهذه الآية ؛ فقال سعيد بن جبير : هي في رماة عائشة رضوان الله عليها خاصة. وقال قوم : هي في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قاله ابن عباس والضحاك وغيرهما. ولا تنفع التوبة. ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل الله له توبة ؛ لأنه قال : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ - إلى قوله - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فجعل الله لهؤلاء توبة ، ولم يجعل لأولئك توبة ؛ قاله الضحاك. وقيل هذا الوعيد لمن أصر على القذف ولم يتب. وقيل : نزلت في عائشة ، إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة. وقيل : إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى ؛ ويكون التقدير : إن الذين يرمون الأنفس المحصنات ؛ فدخل في هذا المذكر والمؤنث ؛ واختاره النحاس. وقيل : نزلت في مشركي مكة ؛ لأنهم يقولون للمرأة إذا هاجرت إنما خرجت لتفجر.
الثانية : قوله تعالى : {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} قال العلماء : إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم لهم ، وزوالهم عن رتبه العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين. وعلى قول من قال : هي خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أبيّ وأشباهه. وعلى قول من قال : نزلت في مشركي مكة فلا كلام ، فإنهم مبعدون ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ؛ ومن أسلم فالإسلام يجب ما قبله. وقال أبو جعفر النحاس : من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى ؛ ويكون التقدير : إن الذين يرمون الأنفس المحصنات ، فدخل في هذا المذكر والمؤنث ، وكذا في الذين يرمون ؛ إلا أنه غلب المذكر على المؤنث.
الآية : 24 {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
قراءة العامة بالتاء ، واختاره أبو حاتم. وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف {يَشْهَد} بالياء ، واختاره أبو عبيد ؛ لأن الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل ، والمعنى : يوم تشهد ألسنة بعضهم على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان. وقيل : تشهد عليهم ألسنتهم ذلك اليوم بما تكلموا به. {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} أي وتتكلم الجوارح بما عملوا في الدنيا.
الآية : 25 {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}
أي حسابهم وجزاؤهم. وقرأ مجاهد {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقُّ} برفع {الحق} على أنه نعت لله عز وجل. قال أبو عبيد : ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع ؛ ليكون نعتا لله عز وجل ، وتكون موافقة لقراءة أبيّ ، وذلك أن جرير بن حازم قال : رأيت في مصحف أبيّ {يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ الحَقُّ دِينَهُمْ} . قال النحاس : وهذا الكلام من أبي عبيد غير
مرضي ؛ لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم. ولا حجة أيضا فيه لأنه لو صح هذا أنه في مصحف أبيّ كذا جاز أن تكون القراءة : يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم ، يكون "دينهم" بدلا من الحق. وعلى قراءة {دِينَهُمُ الْحَقَّ} يكون "الحقّ" نعتا لدينهم ، والمعنى حسن ؛ لأن الله عز وجل ذكر المسيئين وأعلم أنه يجازيهم بالحق ؛ كما قال عز وجل : {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ : 17] ؛ لأن مجازاة الله عز وجل للكافر والمسيء بالحق والعدل ، ومجازاته للمحسن بالإحسان والفضل. {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} اسمان من أسمائه سبحانه. وقد ذكرناهما في غير موضع ، وخاصة في الكتاب الأسنى.
الآية : 26 {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}
قال ابن زيد : المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، وكذا الخبيثون للخبيثات ، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين : المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال ، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول ، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من القول. قال النحاس في كتاب معاني القرآن : وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية. ودل على صحة هذا القول {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي عائشة وصفوان مما يقول الخبيثون والخبيثات. وقيل : إن هذه الآية مبنية على قوله : {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور : 3] الآية ؛ فالخبيثات الزواني ، والطيبات العفائف ، وكذا الطيبون والطيبات. واختار هذا القول النحاس أيضا ، وهو معنى قول ابن زيد. {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} يعني به الجنس. وقيل : عائشة وصفوان فجمع كما قال : {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء : 11] والمراد أخوان ؛ قاله الفراء.
و {مُبَرَّأُونَ} يعني منزهين مما رموا به. قال بعض أهل التحقيق : إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد ، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه ، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن ؛ فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان. وروي عن علي بن زيد بن جدعان عن جدته عن عائشة رضي الله عنها قالت : "لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة : لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري ، ولقد توفي صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري ، ولقد قبر في بيتي ، ولقد حفت الملائكة بيتي ، وإن كان الوحي لينزل عليه وهو في أهله فينصرفون عنه ، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه فما يبينني عن جسده ، وإني لابنة خليفته وصديقه ، ولقد نزل عذري من السماء ، ولقد خلقت طيبة وعند طيب ، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما ؛ تعني قوله تعالى : {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهو الجنة."
الآية : 27 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
فيه سبع عشرة مسألة : -
الأولى : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً} لما خصص الله سبحانه ابن آدم الذي كرمه وفضله بالمنازل وسترهم فيها عن الأبصار ، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد ، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج أو يلجوها من غير إذن أربابها ، أدبهم بما يرجع إلى الستر عليهم لئلا يطلع أحد منهم على عورة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقؤوا عينه" . وقد اختلف في تأويله فقال بعض العلماء : ليس هذا على ظاهره ،
فإن فقأ فعليه الضمان ، والخبر منسوخ ، وكان قبل نزول قوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} [النحل : 126] ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد لا على وجه الحتم ، والخبر إذا كان مخالفا لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر وهو يريد شيئا آخر ؛ كما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال : "قم فاقطع لسانه" وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا ، ولم يرد به القطع في الحقيقة. وكذلك هذا يحتمل أن يكون ذكر فقء العين والمراد أن يعمل به عمل حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره. وقال بعضهم : لا ضمان عليه ولا قصاص ؛ وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لحديث أنس على ما يأتي.
الثانية : سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله ، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد ، لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل عليّ وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال ، فكيف أصنع ؟ فنزلت الآية. فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن ؛ فأنزل الله تعالى : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [ النور : 29] .
الثالثة : مد الله سبحانه وتعالى التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس ، وهو الاستئذان. قال ابن وهب قال مالك : الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان ؛ وكذا في قراءة أبيّ وابن عباس وسعيد بن جبير {حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلَّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} . وقيل : إن معنى {تَسْتَأْنِسُوا} تستعلموا ؛ أي تستعلموا من في البيت. قال مجاهد : بالتنحنح أو بأي وجه أمكن ، ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به ، ويدخل إثر ذلك. وقال معناه الطبري ؛ ومنه قوله تعالى : {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء : 6] أي علمتم. وقال الشاعر :
آنست نبأة وأفزعها القناص ... عصرا وقد دنا الإمساء




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #508  
قديم 06-07-2025, 10:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,480
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى





تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 214 الى صــ 223
الحلقة (508)



قلت : وفي سنن ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي سورة عن أبي أيوب الأنصاري قال قلنا : يا رسول الله ، هذا السلام ، فما الاستئذان ؟ قال : "يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح ويؤذن أهل البيت" .
قلت : وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان ؛ كما قال مجاهد ومن وافقه.
الرابعة : وروي عن ابن عباس وبعض الناس يقول عن سعيد بن جبير {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} خطأ أو وهم من الكاتب ، إنما هو {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} . وهذا غير صحيح عن ابن عباس وغيره ؛ فإن مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} ، وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان ، فهي التي لا يجوز خلافها. وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس ؛ وقد قال عز وجل : {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت : 42] ، وقال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9] . وقد روي عن ابن عباس أن في الكلام تقديما وتأخيرا ؛ والمعنى : حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا حكاه أبو حاتم. قال ابن عطية. ومما ينفي هذا القول عن ابن عباس وغيره أن {تَسْتَأْنِسُوا} متمكنة في المعنى ، بينة الوجه في كلام العرب. وقد قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم : أستأنس يا رسول الله ؛ وعمر واقف على باب الغرفة ، الحديث المشهور. وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم ، فكيف يخطّئ ابن عباس أصحاب الرسول في مثل هذا.
قلت : قد ذكرنا من حديث أبي أيوب أن الاستئناس إنما يكون قبل السلام ، وتكون الآية على بابها لا تقديم فيها ولا تأخير ، وأنه إذا دخل سلم. والله أعلم.
الخامسة : السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها. قال ابن وهب قال مالك : الاستئذان ثلاث ، لا أحب أن يزيد أحد عليها ، إلا من علم أنه لم يسمع ، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع. وصورة الاستئذان أن يقول الرجل : السلام عليكم أأدخل ؛ فإن أذن له دخل ، وإن أمر بالرجوع انصرف ، وإن سكت عنه استأذن
ثلاثا ؛ ثم ينصرف من بعد الثلاث. وإنما قلنا : إن السنة الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها لحديث أبي موسى الأشعري ، الذي استعمله مع عمر بن الخطاب وشهد به لأبي موسى أبو سعيد الخدري ، ثم أبيّ بن كعب. وهو حديث مشهور أخرجه الصحيح ، وهو نص صريح ؛ فإن فيه : فقال - يعني عمر - ما منعك أن تأتينا ؟ فقلت : أتيت فسلمت على بابك ثلاث مرات فلم ترد علي فرجعت ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع" . وأما ما ذكرناه من صورة الاستئذان فما رواه أبو داود عن ربعي قال : حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت ، فقال : ألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه : "أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان - فقال له - قل السلام عليكم أأدخل" فسمعه الرجل فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل. وذكره الطبري وقال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة : "قولي لهذا يقول السلام عليكم أدخل ؟ ..." الحديث. وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يوما فأتى فسطاطا لامرأة من قريش فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فقالت المرأة : ادخل بسلام ؛ فأعاد فأعادت ، فقال لها : قولي أدخل. فقالت ذلك فدخل ؛ فتوقف لما قالت : بسلام ؛ لاحتمال اللفظ أن تريد بسلامك لا بشخصك.
السادسة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إنما خص الاستئذان بثلاث لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا سمع وفهم ؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه ، وإذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا. وإذا كان الغالب هذا ؛ فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن ، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه ؛ فينبغي للمستأذن أن ينصرف ؛ لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل ، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب حين استأذن عليه فخرج مستعجلا فقال : "لعلنا أعجلناك..." الحديث. وروى عقيل عن ابن شهاب قال : أما سنة التسليمات الثلاث فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سعد
بن عبادة فقال : "السلام عليكم" فلم يردوا ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "السلام عليكم" فلم يردوا ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما فقد سعد تسليمه عرف أنه قد انصرف ؛ فخرج سعد في أثره حتى أدركه ، فقال : وعليك السلام يا رسول الله ، إنما أردنا أن نستكثر من تسليمك ، وقد والله سمعنا ؛ فأنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سعد حتى دخل بيته. قال ابن شهاب : فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك ؛ رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال : سمعت يحيى بن أبي كثير يقول حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن قيس بن سعد قال : زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال : "السلام عليكم ورحمة الله" قال فرد سعد ردا خفيا ، قال قيس : فقلت ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ذره يكثر علينا من السلام... الحديث ، أخرجه أبو داود وليس فيه قال ابن شهاب فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك. قال أبو داود : ورواه عمر بن عبد الواحد وابن سماعة عن الأوزاعي مرسلا لم يذكرا قيس بن سعد.
السابعة : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الاستئذان ترك العمل به الناس. قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وذلك لاتخاذ الناس الأبواب وقرعها ؛ والله أعلم. روى أبو داود عن عبد الله بن بسر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول : "السلام عليكم السلام عليكم" وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور.
الثامنة : فإن كان الباب مردودا فله أن يقف حيث شاء منه ويستأذن ، وإن شاء دق الباب ؛ لما رواه أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حائط بالمدينة على قُف البئر فمد رجليه في البئر فدق الباب أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إيذن له وبشره بالجنة" . هكذا رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد وتابعه صالح بن كيسان ويونس بن يزيد ؛ فرووه جميعا عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن نافع
عن أبي موسى. وخالفهم محمد بن عمرو الليثي فرواه عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن نافع بن عبد الحارث عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ؛ وإسناده الأول أصح ، والله اعلم.
التاسعة : وصفة الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع ، ولا يعنف في ذلك ؛ فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافير ؛ ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في جامعه.
روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "من هذا" ؟ فقلت أنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أنا أنا" ! كأنه كره ذلك. قال علماؤنا : إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن قوله أنا لا يحصل بها تعريف ، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو موسى ؛ لأن في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب. ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليكم أيدخل عمر ؟ وفي صحيح مسلم أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب فقال : السلام عليكم ، هذا أبو موسى ، السلام عليكم ، هذا الأشعري... الحديث.
الحادية عشرة : ذكر الخطيب في جامعه عن علي بن عاصم الواسطي قال : قدمت البصرة فأتيت منزل شعبة فدققت عليه الباب فقال : من هذا ؟ قلت أنا ؛ فقال : يا هذا ما لي صديق يقال له أنا ثم خرج إليّ فقال : حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لي فطرقت عليه الباب فقال : "من هذا" ؟ فقلت أنا ؛ فقال : "أنا أنا" كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره قولي هذا ، أو قوله هذا. وذكر عن عمر بن شبة حدثنا محمد بن سلام عن أبيه قال : دققت على عمرو بن عبيد الباب فقال لي : من هذا ؟ فقلت أنا ؛ فقال : لا يعلم الغيب إلا الله. قال الخطيب : سمعت علي بن المحسن القاضي يحكي عن بعض الشيوخ أنه كان إذا دق بابه فقال من ذا ؟ فقال الذي على الباب أنا ، يقول الشيخ : أنا هم دق.
الثانية عشرة : ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة ؛ كما رواه أبو بكر الخطيب مسندا عن أبي عبد الملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال : أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي ، فلما قام بالباب قال : أندر ؟ قالت أندرون. وترجم عليه باب الاستئذان بالفارسية. وذكر عن أحمد بن صالح قال : كان الدراوردي من أهل أصبهان نزل المدينة ، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل : أندرون ، فلقبه أهل المدينة الدراوردي.
الثالثة عشرة : روى أبو داود عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة ، فدخلت ولم أسلم فقال : "ارجع فقل السلام عليكم" وذلك بعدما أسلم صفوان بن أمية. وروى أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له" . وذكر ابن جريج أخبرني عطاء قال : سمعت أبا هريرة يقول : إذا قال الرجل أدخل ؟ ولم يسلم فقل لا حتى تأتي بالمفتاح ؛ فقلت السلام عليكم ؟ قال نعم. وروي أن حذيفة جاءه رجل فنظر إلى ما في البيت فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فقال حذيفة : أما بعينك فقد دخلت وأما باستك فلم تدخل.
الرابعة عشرة : ومما يدخل في هذا الباب ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "رسول الرجل إلى الرجل إذنه" ؛ أي إذا أرسل إليه فقد أذن له في الدخول ، يبينه قوله عليه السلام : "إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن" . أخرجه أبو داود أيضا عن أبي هريرة.
الخامسة عشرة : فإن وقعت العين على العين فالسلام قد تعين ، ولا تعد رؤيته إذنا لك في دخولك عليه ، فإذا قضيت حق السلام لأنك الوارد عليه تقول : أدخل ؟ فإن أذن لك وإلا رجعت.
السادسة عشرة : هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك ، فأما بيتك الذي تسكنه فإن كان فيه أهلك فلا إذن عليها ، إلا أنك تسلم إذا دخلت. قال قتادة : إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك ، فهم أحق من سلمت عليهم. فإن كان فيه معك أمك أو أختك فقالوا : تنحنح واضرب برجلك حتى ينتبها لدخولك ؛ لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها. وأما الأم والأخت فقد يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها. قال ابن القاسم قال مالك : ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما. وقد روى عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أستأذن على أمي ؟ قال "نعم" قال : إني أخدمها ؟ قال : "استأذن عليها" فعاوده ثلاثا ؛ قال "أتحب أن تراها عريانة" ؟ قال لا ؛ قال : "فاستأذن عليها" ذكره الطبري.
السابعة عشرة : فإن دخل بيت نفسه وليس فيه أحد ؛ فقال علماؤنا : يقول السلام علينا من ربنا التحيات الطيبات المباركات ، لله السلام. رواه ابن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وسنده ضعيف. وقال قتادة : إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ؛ فإنه يؤمر بذلك. قال : وذكر لنا أن الملائكة ترد عليهم. قال ابن العربي : والصحيح ترك السلام والاستئذان ، والله أعلم.
قلت : قول قتادة حسن.
الآية : 28 {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
فيه أربع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً} الضمير في {تَجِدُوا فِيهَا} للبيوت التي هي بيوت الغير. وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال : معنى قوله : {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً} أي لم يكن لكم فيها متاع. وضعف الطبري هذا التأويل ، وكذلك هو في غاية الضعف ؛ وكأن مجاهدا رأى أن البيوت غير المسكونة إنما تدخل دون إذن إذا كان للداخل فيها متاع.
ورأى لفظة {المتاع} متاع البيت ، الذي هو البسط والثياب ؛ وهذا كله ضعيف. والصحيح أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها والأحاديث ؛ التقدير : يا أيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا ، فإن أذن لكم فادخلوا وإلا فارجعوا ؛ كما فعل عليه السلام مع سعد ، وأبو موسى مع عمر رضي الله عنهما. فإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوها حتى تجدوا إذنا. وأسند الطبري عن قتادة قال : قال رجل من المهاجرين : لقد طلبت عمري هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فارجع وأنا مغتبط ؛ لقوله تعالى : {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} .
الثانية : سواء كان الباب مغلقا أو مفتوحا ؛ لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه الإذن من ربه ، بل يجب عليه أن يأتي الباب ويحاول الإذن على صفة لا يطلع منه على البيت لا في إقباله ولا في انقلابه. فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال : "من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق" وروي في الصحيح عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يرجل به رأسه ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الله الإذن من أجل البصر" . وروي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح" .
الثالثة : إذا ثبت أن الإذن شرط في دخول المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير. وقد كان أنس بن مالك دون البلوغ يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي الله عنهم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
الرابعة : قوله تعالى : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز ، ولغيرهم ممن يقع في محظور.
الآية : 29 {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}
فيه مسألتان : -
الأولى : روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الأمر ، فكان لا يأتي موضعا خربا ولا مسكونا إلا سلم واستأذن ؛ فنزلت هذه الآية ، أباح الله تعالى فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد لأن العلة في الاستئذان إنما هي لأجل خوف الكشفة على الحرمات فإذا زالت العلة زال الحكم.
الثانية : اختلف العلماء في المراد بهذه البيوت ؛ فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد : هي الفنادق التي في طرق السابلة. قال مجاهد : لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل ، وفيها متاع لهم ؛ أي استمتاع بمنفعتها. وعن محمد بن الحنفية أيضا أن المراد بها دور مكة ويبينه قول مالك. وهذا على القول بأنها غير متملكة ، وأن الناس شركاء فيها وأن مكة أخذت عنوة. وقال ابن زيد والشعبي : هي حوانيت القيساريات. قال الشعبي : لأنهم جاؤوا بيوعهم فجعلوها فيها ، وقالوا للناس هلم. وقال عطاء : المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط ؛ ففي هذا أيضا متاع. وقال جابر بن زيد : ليس يعني بالمتاع الجهاز ، ولكن ما سواه من الحاجة ؛ أما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار ، أو خربة يدخلها لقضاء حاجة ، أو دار ينظر إليها فهذا متاع وكل منافع الدنيا متاع. قال أبو جعفر النحاس : وهذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين ، وهو موافق للغة. والمتاع في كلام العرب : المنفعة ؛ ومنه أمتع الله بك. ومنه {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب : 49] .
قلت : واختاره أيضا القاضي أبو بكر بن العربي وقال : أما من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل وجاء بالفيصل ، وبين أن الداخل فيها إنما هو لما له من الانتفاع فالطالب يدخل في الخانكات وهي المدارس لطلب العلم ، والساكن يدخل الخانات
وهي الفناتق ، أي الفنادق ، والزبون يدخل الدكان للابتياع ، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة ؛ وكل يؤتي على وجهه من بابه. وأما قول ابن زيد والشعبي فقول وذلك أن بيوت القيساريات محظورة بأموال الناس ، غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع ، ولا يدخلها إلا من أذن له ربها ، بل أربابها موكلون بدفع الناس.
الآية : 30 {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}
فيه سبع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وصل تعالى بذكر الستر ما يتعلق به من أمر النظر ؛ يقال : غض بصره يغضه غضا ؛ قال الشاعر :
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وقال عنترة :
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه ويحفظ الفرج ، غير أن ذلك معلوم بالعادة ، وأن المراد منه المحرم دون المحلل. وفي البخاري : وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن ؟ قال : اصرف بصرك ؛ يقول الله تعالى : {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وقال قتادة : عما لا يحل لهم ؛ {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور : 31] خائنة الأعين من النظر إلى ما نهي عنه.
الثانية : قوله تعالى : {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} {مِنْ} زائدة ؛ كقوله : {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة : 47] . وقيل : {مِنْ} للتبعيض ؛ لأن من النظر ما يباح. وقيل : الغض النقصان ؛ يقال : غض فلان من فلان أي وضع منه ؛ فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو موضوع منه ومنقوص. فـ {مِنْ} صلة للغض ، وليست للتبعيض ولا للزيادة.
الثالثة : البصر هو الباب الأكبر إلى القلب ، وأعمر طرق الحواس إليه ، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته. ووجب التحذير منه ، وغضه واجب عن جميع المحرمات ، وكل ما يخشى الفتنة من أجله ؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم : "إياكم والجلوسَ على الطرقات" فقالوا : يا رسول الله ، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. فقال : "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه" قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال : "غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" . رواه أبو سعيد الخدري ، خرجه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم لعلي : "لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية" . وروى الأوزاعي قال : حدثني هارون بن رئاب أن غزوان وأبا موسى الأشعري كانا في بعض مغازيهم ، فكشفت جارية فنظر إليها غزوان ، فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت ، فقال : إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك ؛ فلقي أبا موسى فسأله فقال : ظلمت عينك ، فاستغفر الله وتب ، فإن لها أول نظرة وعليها ما كان بعد ذلك. قال الأوزاعي : وكان غزوان ملك نفسه فلم يضحك حتى مات رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة ؛ فأمرني أن أصرف بصري. وهذا يقوي قول من يقول : إن "من" للتبعيض ؛ لأن النظرة الأولى لا تملك فلا تدخل تحت خطاب تكليف ، إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودا ، فلا تكون مكتسبة فلا يكون مكلفا بها ؛ فوجب التبعيض لذلك ، ولم يقل ذلك في الفرج ؛ لأنها تملك. ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته ؛ وزمانه خير من زماننا هذا وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرمة نظر شهوة يرددها.
الرابعة : قوله تعالى : {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي يستروها عن أن يراها من لا يحل. وقيل : {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي عن الزنى ؛ وعلى هذا القول لو قال : "من فروجهم" لجاز. والصحيح أن الجميع مراد واللفظ عام. وروى بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال : قلت يا رسول الله ، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : "احفظ"




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #509  
قديم 06-07-2025, 10:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,480
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 224 الى صــ 233
الحلقة (509)





عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ". قال : الرجل يكون مع الرجل ؟ قال :" إن استطعت ألا يراها فافعل ". قلت : فالرجل يكون خاليا ؟ فقال :" الله أحق أن يستحيا منه من الناس ". وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالها معه فقالت : ما رأيت ذلك منه ، ولا رأى ذلك مني."
الخامسة : بهذه الآية حرم العلماء نصا دخول الحمام بغير مئزر. وقد روي عن ابن عمر أنه قال : أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمام في خلوة. وصح عن ابن عباس أنه دخل الحمام وهو محرم بالجحفة. فدخوله جائز للرجال بالمآزر ، وكذلك النساء للضرورة كغسلهن من الحيض أو النفاس أو مرض يلحقهن ؛ والأولى بهن والأفضل لهن غسلهن إن أمكن ذلك في بيوتهن ، فقد روى أحمد بن منيع حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان عن سهل بن معاذ عن أبيه عن أم الدرداء أنه سمعها تقول : لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرجت من الحمام فقال : "من أين يا أم الدرداء" ؟ فقالت من الحمام ؛ فقال : "والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل" . وخرج أبو بكر البزار عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "احذروا بيتا يقال له الحمام" . قالوا : يا رسول الله ، ينقي الوسخ ؟ قال : "فاستتروا" . قال أبو محمد عبد الحق : هذا أصح إسناد حديث في هذا الباب ؛ على أن الناس يرسلونه عن طاوس ، وأما ما خرجه أبو داود في هذا من الحظر والإباحة فلا يصح منه شيء لضعف الأسانيد ، وكذلك ما خرجه الترمذي.
قلت : أما دخول الحمام في هذه الأزمان فحرام على أهل الفضل والدين ؛ لغلبة الجهل على الناس واستسهالهم إذا توسطوا الحمام رمي مآزرهم ، حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائما منتصبا وسط الحمام وخارجه باديا عن عورته ضاما بين فخذيه ولا أحد يغير عليه. هذا أمر بين الرجال فكيف من النساء لا سيما بالديار المصرية إذ حماماتهم خالية عن المظاهر التي هي من أعين الناس سواتر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
السادسة : قال العلماء : فإن استتر فليدخل بعشرة شروط :
الأول : ألا يدخل إلا بنية التداوي أو بنية التطهير عن الرحضاء.
الثاني : أن يعتمد أوقات الخلوة أو قلة الناس.
الثالث : أن يستر عورته بإزار صفيق.
الرابع : أن يكون نظره إلى الأرض أو يستقبل الحائط لئلا يقع بصره على محظور.
الخامس : أن يغير ما يرى من منكر برفق ، يقول : استتر سترك الله
السادس : إن دلكه أحد لا يمكنه من عورته ، من سرته إلى ركبته إلا امرأته أو جاريته. وقد اختلف في الفخذين هل هما عورة أم لا.
السابع : أن يدخله بأجرة معلومة بشرط أو بعادة الناس.
الثامن : أن يصب الماء على قدر الحاجة.
التاسع : إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم على كرائه.
العاشر : أن يتذكر به جهنم. فإن لم يمكنه ذلك كله فليستتر وليجتهد في غض البصر. ذكر الترمذي أبو عبد الله في نوادر الأصول من حديث طاوس عن عبد الله بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اتقوا بيتا يقال له الحمام" . قيل : يا رسول الله ، إنه يذهب به الوسخ ويذكّر النار فقال : "إن كنتم لا بد فاعلين فادخلوه مستترين" . وخرج من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم البيت يدخله الرجل المسلم بيت الحمام - وذلك لأنه إذا دخله سأل الله الجنة واستعاذ به من النار - وبئس البيت يدخله الرجل بيت العروس" . وذلك لأنه يرغبه في الدنيا وينسيه الآخرة. قال أبو عبد الله : فهذا لأهل الغفلة ، صير الله هذه الدنيا بما فيها سببا للذكر لأهل الغفلة ليذكروا بها آخرتهم ؛ فأما أهل اليقين فقد صارت الآخرة نصب أعينهم فلا بيت حمام يزعجه ولا بيت عروس
يستفزه ، لقد دقت الدنيا بما فيها من الصنفين والضربين في جنب الآخرة ، حتى إن جميع نعيم الدنيا في أعينهم كنثارة الطعام من مائدة عظيمة ، وجميع شدائد الدنيا في أعينهم كتفلة عوقب بها مجرم أو مسيء قد كان استوجب القتل أو الصلب من جميع عقوبات أهل الدنيا.
السابعة : قوله تعالى : {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر في الدين وأبعد من دنس الأنام. {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ} أي عالم. {بِمَا يَصْنَعُونَ} تهديد ووعيد.
الآية : 31 {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
قوله تعالى : {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} إلى قوله تعالى : {مِنْ زِينَتِهِنَّ}
فيه ثلاث وعشرون مسألة : -
الأولى : قوله تعالى : {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ} خص الله سبحانه وتعالى الإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد ؛ فإن قوله : {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} يكفي ؛ لأنه قول عام يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين ، حسب كل خطاب عام في القرآن. وظهر التضعيف في {يَغْضُضْنَ} ولم يظهر في {يَغُضُّوا} لأن لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأول متحركة ، وهما في موضع
جزم جوابا. وبدأ بالغض قبل الفرج لأن البصر رائد للقلب ؛ كما أن الحُمى رائد الموت. وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال :
ألم تر أن العين للقلب رائد ... فما تألف العينان فالقلب آلف
وفي الخبر "النظر سهم من سهام إبليس مسموم فمن غض بصره أورثه الله الحلاوة في قلبه" . وقال مجاهد : إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزينها لمن ينظر ؛ فإذا أدبرت جلس على عجزها فزينها لمن ينظر. وعن خالد بن أبي عمران قال : لا تتبعن النظرة النظرة فربما نظر العبد نظرة نغل منها قلبه كما ينغل الأديم فلا ينتفع به. فأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار عما لا يحل ؛ فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا المرأة إلى الرجل ؛ فإن علاقتها به كعلاقته بها ؛ وقصدها منه كقصده منها. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر..." الحديث. وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء : لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليهن وإن كانت صغيرة. وكره عطاء النظر إلى الجواري اللاتي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري. وفي الصحيحين عنه عليه السلام أنه صرف وجه الفضل عن الخثعمية حين سألته ، وطفق الفضل ينظر إليها. وقال عليه السلام : "الغيرة من الإيمان والمذاء من النفاق" . والمذاء هو أن يجمع الرجل بين النساء والرجال ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضا ؛ مأخوذ من المذي. وقيل : هو إرسال الرجال إلى النساء ؛ من قولهم : مذيت الفرس إذا أرسلتها ترعى. وكل ذكر يمذي ، وكل أنثى تقذي ؛ فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحل له ؛ أو لمن هي محرمة عليه على التأبيد ؛ فهو آمن أن يتحرك طبعه إليها لوقوع اليأس له منها.
الثانية : روى الترمذي عن نبهان مولى أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ولميمونة وقد دخل عليها ابن أم مكتوم : "احتجبا" فقالتا : إنه أعمى ، قال : "أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه" . فإن قيل : هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل لأن راويه عن أم سلمة نبهان مولاها وهو ممن لا يحتج بحديثه. وعلى تقدير صحته فإن ذلك منه عليه السلام تغليظ على أزواجه لحرمتهن كما غلظ عليهن أمر الحجاب ؛ كما أشار إليه أبو داود وغيره من الأئمة. ويبقى معنى الحديث الصحيح الثابت وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك ؛ ثم قال : "تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ولا يراك" . قلنا : قد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن المرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع من المرأة كالرأس ومعلق القرط ؛ وأما العورة فلا. فعلى هذا يكون مخصصا لعموم قوله تعالى : {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} ، وتكون {مِنْ} للتبعيض كما هي في الآية قبلها. قال ابن العربي : وإنما أمرها بالانتقال من بيت أم شريك إلى ببت ابن أم مكتوم لأن ذلك أولى بها من بقائها في بيت أمر شريك ؛ إذ كانت أم شريك مؤثرة بكثرة الداخل إليها ، فيكثر الرائي لها ، وفي بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد ؛ فكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى ، فرخص لها في ذلك ، والله أعلم.
الثالثة : أمر الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين ، إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية حذارا من الافتتان ، ثم استثنى ، ما يظهر من الزينة ؛ واختلف الناس في قدر ذلك ؛ فقال ابن مسعود : ظاهر الزينة هو الثياب. وزاد ابن جبير الوجه. وقال سعيد بن جبير أيضا وعطاء والأوزاعي : الوجه والكفان والثياب. وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة : ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ ؛ ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس. وذكر الطبري عن
قتادة في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر آخر عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى ها هنا" وقبض على نصف الذراع. قال ابن عطية : ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه ، أو إصلاح شأن ونحو ذلك. فـ {مَا ظَهَرَ} على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه.
قلت : هذا قول حسن ، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج ، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما. يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها : "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا" وأشار إلى وجهه وكفيه. فهذا أقوى من جانب الاحتياط ؛ ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها ، والله الموفق لا رب سواه. وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا : إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك ؛ وإن كانت عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها.
الرابعة : الزينة على قسمين : خلقية ومكتسبة ؛ فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية ؛ لما فيه من المنافع وطرق العلوم. وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها ؛ كالثياب والحلي والكحل والخضاب ؛ ومنه قوله تعالى : {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف : 31] . وقال الشاعر :
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى ... وإذا عطلن فهن خير عواطل
الخامسة : من الزينة ظاهر وباطن ؛ فما ظهر فمباح أبدا لكل الناس من المحارم والأجانب ؛ وقد ذكرنا ما للعلماء فيه. وأما ما بطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سماهم الله تعالى في هذه
الآية ، أو حل محلهم. واختلف في السوار ؛ فقالت عائشة : هي من الزينة الظاهرة لأنها في اليدين. وقال مجاهد : هي من الزينة الباطنة ، لأنها خارج عن الكفين وإنما تكون في الذراع. قال ابن العربي : وأما الخضاب فهو من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.
السادسة : قوله تعالى : {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} قرأ الجمهور بسكون اللام التي هي للأمر. وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس بكسرها على الأصل ؛ لأن الأصل في لام الأمر الكسر ، وحذفت الكسرة لثقلها ، وإنما تسكينها لتسكين عضد وفخذ. و "يضربن" في موضع جزم بالأمر ، إلا أنه بني على حالة واحدة إتباعا للماضي عند سيبويه. وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر. قال النقاش : كما يصنع النبط ؛ فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك ؛ فأمر الله تعالى بليّ الخمار على الجيوب ، وهيئة ذلك أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها لتستر صدرها. روى البخاري عن عائشة أنها قالت : رحم الله نساء المهاجرات الأول ؛ لما نزل : {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن أزرهن فاختمرن بها. ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن رضي الله عنهم وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها وما هنالك ؛ فشقته عليها وقالت : إنما يضرب بالكثيف الذي يستر.
السابعة : الخمر : جمع الخمار ، وهو ما تغطي به رأسها ؛ ومنه اختمرت المرأة وتخمرت ، وهي حسنة الخِمرة. والجيوب : جمع الجيب ، وهو موضع القطع من الدرع والقميص ؛ وهو من الجوب وهو القطع. ومشهور القراءة ضم الجيم من "جيوبهن" . وقرأ بعض الكوفيين بكسرها بسبب الياء ؛ كقراءتهم ذلك في : بيوت وشيوخ. والنحويون القدماء لا يجيزون هذه القراءة ويقولون : بيت وبيوت كفلس وفلوس. وقال الزجاج : يجوز على أن تبدل من الضمة كسرة ؛ فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضم والكسر فمحال ، لا يقدر أحد أن ينطق به إلا على الإيماء إلى ما لا يجوز. وقال مقاتل : {عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أي على صدورهن ؛ يعني على مواضع جيوبهن.
الثامنة : في هذه الآية دليل على أن الجيب إنما يكون في الثوب موضع الصدر. وكذلك كانت الجيوب في ثياب السلف رضوان الله عليهم ؛ على ما يصنعه النساء عندنا بالأندلس وأهل الديار المصرية من الرجال والصبيان وغيرهم. وقد ترجم البخاري رحمة الله تعالى عليه "باب جيب القميص من عند الصدر وغيره" وساق حديث أبي هريرة قال : ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثُديّهما وتراقيهما... "الحديث ، وقد تقدم بكماله ، وفيه : قال أبو هريرة : فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعيه هكذا في جيبه ؛ فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع. فهذا يبين لك أن جيبه عليه السلام كان في صدره ؛ لأنه لو كان في منكبه لم تكن يداه مضطرة إلى ثدييه وتراقيه. وهذا استدلال حسن."
التاسعة : قوله تعالى : {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} والبعل هو الزوج والسيد في كلام العرب ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في جبريل : "إذا ولدت الأمة بعلها" يعني سيدها ؛ إشارة إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات ، فيأتي الأولاد من الإماء فتعتق كل أم بولدها وكأنه سيدها الذي من عليها بالعتق إذ كان العتق حاصلا لها من سببه ؛ قاله ابن العربي.
قلت : ومنه قوله عليه السلام في مارية : "أعتقها ولدها" فنسب العتق إليه. وهذا من أحسن تأويلات هذا الحديث. والله أعلم.
مسألة : فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محل من بدنها حلال له لذة ونظرا. ولهذا المعنى بدأ بالبعولة ؛ لأن اطلاعهم يقع على أعظم من هذا ، قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون : 5 - 6] .
العاشرة : اختلف الناس في جواز نظر الرجل إلى فرج المرأة ؛ على قولين : أحدهما : يجوز ؛ لأنه إذا جاز له التلذذ به فالنظر أولى. وقيل : لا يجوز ؛ لقول عائشة
رضي الله عنها في ذكر حالها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما رأيت ذلك منه ولا رأى ذلك مني" والأول أصح ، وهذا محمول على الأدب ؛ قال ابن العربي. وقد قال أصبغ من علمائنا : يجوز له أن يلحسه بلسانه. وقال ابن خويز منداد : أما الزوج والسيد فيجوز له أن ينظر إلى سائر الجسد وظاهر الفرج دون باطنه. وكذلك المرأة يجوز أن تنظر إلى عورة زوجها ، والأمة إلى عورة سيدها.
قلت : وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "النظر إلى الفرج يورث الطمس" أي العمى ، أي في الناظر. وقيل : إن الولد بينهما يولد أعمى. والله أعلم.
الحادية عشرة : لما ذكر الله تعالى الأزواج وبدأ بهم ثنى بذوي المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ، ولكن تختلف مراتبهم بحسب ما في نفوس البشر. فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها. وتختلف مراتب ما يبدى لهم ؛ فيبدى للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج. وقد ذكر القاضي إسماعيل عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس : إن رؤيتهما لهن تحل. قال إسماعيل : أحسب أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي قوله تعالى : {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} [الأحزاب : 55] . وقال في سورة النور : {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية. فذهب ابن عباس إلى هذه الآية ، وذهب الحسن والحسين إلى الآية أخرى.
الثانية عشرة : قوله تعالى : {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} يريد ذكور أولاد الأزواج ، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن سفلوا ، من ذكران كانوا أو إناث ؛ كبني البنين وبني البنات. وكذلك آباء البعولة والأجداد وإن علوا من جهة الذكران لآباء الآباء وآباء الأمهات ، وكذلك أبناؤهن وإن سفلوا. وكذلك أبناء البنات وإن سفلن ؛ فيستوي فيه أولاد البنين وأولاد البنات. وكذلك أخواتهن ، وهم من ولد الآباء والأمهات أو أحد الصنفين. وكذلك بنو الأخوة
وبنو الأخوات وإن سفلوا من ذكران كانوا أو إناث كبني بني الأخوات وبني بنات الأخوات. وهذا كله في معنى ما حرم من المناكح فإن ذلك على المعاني في الولادات وهؤلاء محارم ، وقد تقدم في "النساء" . والجمهور على أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر لهما إلى ما يجوز لهم. وليس في الآية ذكر الرضاع ، وهو كالنسب على ما تقدم. وعند الشعبي وعكرمة ليس العم والخال من المحارم. وقال عكرمة : لم يذكرهما في الآية لأنهما تبعان لأبنائهما.
الثالثة عشرة : قوله تعالى : {أَوْ نِسَائِهِنَّ} يعني المسلمات ، ويدخل في هذا الإماء المؤمنات ، ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم ؛ فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئا من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها ؛ فذلك قوله تعالى : {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} . وكان ابن جريج وعبادة بن نسي وهشام القارئ يكرهون أن تقبل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها ؛ ويتأولون "أو نسائهن" . وقال عبادة بن نسي : وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح : أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين ؛ فامنع من ذلك ، وحل دونه ؛ فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة. قال : فعند ذلك قام أبو عبيدة وابتهل وقال : أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية ؛ لئلا تصفها لزوجها. وفي هذه المسألة خلاف للفقهاء. فإن كانت الكافرة أمة لمسلمة جاز أن تنظر إلى سيدتها ؛ وأما غيرها فلا ، لانقطاع الولاية بين أهل الإسلام وأهل الكفر ، ولما ذكرناه. والله أعلم.
الرابعة عشرة : قوله تعالى : {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء المسلمات والكتابيات. وهو قول جماعة من أهل العلم ، وهو الظاهر من مذهب عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما. وقال ابن عباس : لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته. وقال أشهب : سئل مالك أتلقي المرأة خمارها بين يدي الخصي ؟ فقال




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #510  
قديم 06-07-2025, 10:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,480
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 234 الى صــ 243
الحلقة (510)





نعم ، إذا كان مملوكا لها أو لغيرها ؛ وأما الحر فلا. وإن كان فحلا كبيرا وَغْداً تملكه ، لا هيئة له ولا منظر فلينظر إلى شعرها. قال أشهب قال مالك : ليس بواسع أن تدخل جارية الولد أو الزوجة على الرجل المرحاض ؛ قال الله تعالى : {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . وقال أشهب عن مالك : ينظر الغلام الوغد إلى شعر سيدته ، ولا أحبه لغلام الزوج. وقال سعيد بن المسيب : لا تغرنكم هذه الآية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} إنما عني بها الإماء ولم يعن بها العبيد. وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته. وهو قول مجاهد وعطاء. وروى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، قال : وعلى فاطمة ثوب إذا غطت به رأسها لم يبلغ إلى رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ إلى رأسها ؛ فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى من ذلك قال : "إنه لا بأس عليك إنما هو أبوك وغلامك" .
الخامسة عشرة : قوله تعالى : {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} أي غير أولي الحاجة والإربة الحاجة ، يقال : أربت كذا آرب أربا. والإرب والإربة والمأربة والأرب : الحاجة ؛ والجمع مأرب ؛ أي حوائج. ومنه قوله تعالى : {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه : 18] وقد تقدم وقال طرفة :
إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا ... تقدم يوما ثم ضاعت مآربه
واختلف الناس في معنى قوله : {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ} فقيل : هو الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء. وقيل الأبله. وقيل : الرجل يتبع القوم فيأكل معهم ويرتفق بهم ؛ وهو ضعيف لا يكترث للنساء ولا يشتهيهن. وقيل العنين. وقيل الخصي. وقيل المخنث. وقيل الشيخ الكبير ، والصبي الذي لم يدرك. وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى ، ويجتمع فيمن لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء. وبهذه الصفة كان هيت المخنث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما سمع منه ما سمع من وصف محاسن المرأة : بادية ابنة غيلان ، أمر بالاحتجاب منه. أخرج حديثه مسلم وأبو داود ومالك في الموطأ وغيرهم عن
هشام بن عروة عن عروة عن عائشة. قال أبو عمر : ذكر عبد الملك بن حبيب عن حبيب كاتب مالك قال قلت لمالك : إن سفيان زاد في حديث ابنة غيلان : "أن مخنثا يقال له هيت" وليس في كتابك هيت ؟ فقال مالك : صدق ، هو كذلك وغربه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحمى وهو موضع من ذي الحليفة ذات الشمال من مسجدها. قال حبيب وقلت لمالك : وقال سفيان في الحديث : إذا قعدت تبنت ، وإذا تكلمت تغنت. قال مالك : صدق ، هو كذلك. قال أبو عمر : ما ذكره حبيب كاتب مالك عن سفيان أنه قال في الحديث يعني حديث هشام بن عروة "أن مخنثا يدعى هيتا" فغير معروف عند أحد من رواته عن هشام ، لا ابن عيينة ولا غيره ، ولم يقل في نسق الحديث "إن مخنثا يدعى هيتا" وإنما ذكره عن ابن جريج بعد تمام الحديث ، وكذلك قوله عن سفيان أنه يقول في الحديث : إذا قعدت تبنت وإذا تكلمت تغنت ، هذا ما لم يقله سفيان ولا غيره في حديث هشام بن عروة ، وهذا اللفظ لا يوجد إلا من رواية الواقدي ، والعجب أنه يحكيه عن سفيان ويحكي عن مالك أنه كذلك ، فصارت رواية عن مالك ، ولم يروه عن مالك غير حبيب ولا ذكره عن سفيان غيره أيضا ، والله أعلم. وحبيب كاتب مالك متروك الحديث ضعيف عند جميعهم ، لا يكتب حديثه ولا يلتفت إلى ما يجيء به. ذكر الواقدي والكلبي أن هيتا المخنث قال لعبد بن أمية المخزومي وهو أخو أم سلمة لأبيها وأمه عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له وهو في بيت أخته أم سلمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع : إن فتح الله عليكم الطائف فعليك ببادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، مع ثغر كالأقحوان ، إن جلست تبنت وإن تكلمت تغنت ، بين رجليها كالإناء المكفوء ، وهي كما قال قيس بن الخطيم :
تغترق الطرف وهي لاهية ... كأنما شف وجهها نزف
بين شكول النساء خلقتها ... قصد فلا جبلة ولا قضف
تنام عن كبر شأنها فإذا ... قامت رويدا تكاد تنقصف
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله" . ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى. قال : فلما افتتحت الطائف تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له منه بريهة ؛ في قول الكلبي. ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما ولي أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده ، فلما ولي عمر كلم فيه فأبى ، ثم كلم فيه عثمان بعد. وقيل : إنه قد كبر وضعف واحتاج ، فأذن له أن يدخل كل جمعة فيسأل ويرجع إلى مكانه. قال : وكان هيت مولى لعبد بن أبي أمية المخزومي ، وكان له طُوَيس أيضا ، فمن ثم قبل الخنث. قال أبو عمر : يقال بادية بالياء وبادنة بالنون ، والصواب فيه عندهم بالياء ، وهو قول أكثرهم ، وكذلك ذكره الزبيري بالياء.
السادسة عشرة : وصف التابعين بـ {غَيْرِ} لأن التابعين غير مقصودين بأعيانهم ، فصار اللفظ كالنكرة. و {غَيْرِ} لا يتمحض نكرة فجاز أن يجري وصفا على المعرفة. وإن شئت قلت هو بدل. والقول فيها كالقول في "غير المغضوب عليهم [الفاتحة : 7] . وقرأ عاصم وابن عامر {غَيْرِ} بالنصب فيكون استثناء ؛ أي يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم. ويجوز أن يكون حالا ؛ أي والذين يتبعونهن عاجزين عنهن ؛ قاله أبو حاتم. وذو الحال ما في {التَّابِعِينَ} من الذكر."
السابعة عشرة : قوله تعالى : {أَوِ الطِّفْلِ} اسم جنس بمعنى الجمع ، والدليل على ذلك نعته بـ {الَّذِينَ} . وفي مصحف حفصة {أو الأطفال} على الجمع. ويقال : طفل ما لم يراهق الحلم. و {يَظْهَرُوا} معناه يطلعوا بالوطء ؛ أي لم يكشفوا عن عوراتهن للجماع لصغرهن. وقيل : لم يبلغوا أن يطيقوا النساء ؛ يقال : ظهرت على كذا أي علمته ، وظهرت
على كذا أي قهرته. والجمهور على سكون الواو من {عَوْرَاتِ} لاستثقال الحركة على الواو. وروي عن ابن عباس فتح الواو ؛ مثل جفنة وجفنات. وحكى الفراء أنها لغة قيس {عَوَرَاتِ} بفتح الواو. النحاس : وهذا هو القياس ؛ لأنه ليس بنعت ، كما تقول : جفنة وجفنات ؛ إلا أن التسكين أجود في {عورات} وأشباهه ، لأن الواو إذا تحركت وتحرك ما قبلها قلبت ألفا ؛ فلو قيل هذا لذهب المعنى.
الثامنة عشرة : اختلف العلماء في وجوب ستر ما سوى الوجه والكفين منه على قولين : أحدهما : لا يلزم ؛ لأنه لا تكليف عليه ، وهو الصحيح. والآخر يلزمه ؛ لأنه قد يشتهي وقد تشتهي أيضا هي فإن راهق فحكمه حكم البالغ في وجوب الستر. ومثله الشيخ الذي سقطت شهوته اختلف فيه أيضا على قولين كما في الصبي ، والصحيح بقاء الحرمة ؛ قاله ابن العربي.
التاسعة عشرة : أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل والمرأة ، وأن المرأة كلها عورة ، إلا وجهها ويديها فإنهم اختلفوا فيهما. وقال أكثر العلماء في الرجل : من سرته إلى ركبته عورة ؛ لا يجوز أن ترى. وقد مضى في "الأعراف" القول في هذا مستوفى.
الموفية عشرين : قال أصحاب الرأي : عورة المرأة مع عبد ها من السرة إلى الركبة. ابن العربي : وكأنهم ظنوها رجلا أو ظنوه امرأة ، والله تعالى قد حرم المرأة على الإطلاق لنظر أو لذة ، ثم استثنى اللذة للأزواج وملك اليمين ، ثم استثنى الزينة لاثني عشر شخصا العبد منهم ، فما لنا ولذلك هذا نظر فاسد واجتهاد عن السداد متباعد. وقد تأول بعض الناس قوله : {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} على الإماء دون العبيد ؛ منهم سعيد بن المسيب ، فكيف يحملون على العبيد ثم يلحقون بالنساء هذا بعيد جدا وقد قيل : إن التقدير أو ما ملكت أيمانهن من غير أولي الإربة أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ؛ حكاه المهدوي.
الحادية والعشرون : قوله تعالى : {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت لتسمع صوت خلخالها ؛ فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة وأشد ،
والغرض التستر. أسند الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال : زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين من فضة واتخذت جزعا فجعلت في ساقها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت ؛ فنزلت هذه الآية. وسماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها ؛ قاله الزجاج.
الثانية والعشرون : من فعل ذلك منهن فرحا بحليهن فهو مكروه. ومن فعل ذلك منهن تبرجا وتعرضا للرجال فهو حرام مذموم. وكذلك من ضرب بنعله من الرجال ، إن فعل ذلك تعجبا حرم فإن العجب كبيرة. وإن فعل ذلك تبرجا لم يجز.
الثالثة والعشرون : قال مكي رحمه الله تعالى : ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر من هذه جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع.
قوله تعالى : {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {وَتُوبُوا} أمر. ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة ، وأنها فرض متعين وقد مضى الكلام فيها في "النساء" وغيرها فلا معنى لإعادة ذلك. والمعنى : وتوبوا إلى الله فإنكم لا تخلون من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى ، فلا تتركوا التوبة في كل حال.
قرأ الجمهور {أَيُّهَ} بفتح الهاء. وقرأ ابن عامر بضمها ؛ ووجهه أن تجعل الهاء من نفس الكلمة ، فيكون إعراب المنادى فيها. وضعف أبو علي ذلك جدا وقال : آخر الاسم هو الياء الثانية من أي ، فالمضموم ينبغي أن يكون آخر الاسم ، ولو جاز ضم الهاء ها هنا لاقترانها بالكلمة لجاز ضم الميم في "اللهم" لاقترانها بالكلمة في كلام طويل. والصحيح أنه إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة فليس إلا اعتقاد الصحة في اللغة ، فإن القرآن هو الحجة. وأنشد الفراء :
يا أيه القلب اللجوج النفس ... أفق عن البيض الحسان اللعس
اللعس : لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا ، وذلك يستملح ؛ يقال : شفة لعساء ، وفتية ونسوة لعس. وبعضهم يقف {أيُّهَ} . وبعضهم يقف {أَيُّهَا} بالألف ؛ لأن علة حذفها في الوصل إنما هي سكونها وسكون اللام ، فإذا كان الوقف ذهبت العلة فرجعت الألف كما ترجع الياء إذا وقفت على {مُحِلِّي} من قوله تعالى : {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة : 1] . وهذا الاختلاف الذي ذكرناه كذلك هو في {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} . و {أيُّهَ الثَّقَلانِ} .
الآية : 32 {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
فيه سبع مسائل : -
الأولى : هذه المخاطبة تدخل في باب الستر والصلاح ؛ أي زوجوا من لا زوج له منكم فإنه طريق التعفف ؛ والخطاب للأولياء. وقيل للأزواج. والصحيح الأول ؛ إذ لو أراد الأزواج لقال {وانكحوا} بغير همز ، وكانت الألف للوصل. وفي هذا دليل على أن المرأة ليس لها أن تنكح نفسها بغير ولي ؛ وهو قول أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة : إذا زوجت الثيب أو البكر نفسها بغير ولي كفء لها جاز. وقد مضى هذا في "البقرة" مستوفى.
الثانية : اختلف العلماء في هذا الأمر على ثلاثة أقوال ؛ فقال علماؤنا : يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت ، ومن عدم صبره ، ومن قوته على الصبر وزوال خشية العنت عنه. وإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا أو فيهما فالنكاح حتم. وإن لم يخش شيئا وكانت الحال مطلقة فقال الشافعي : النكاح مباح. وقال مالك وأبو حنيفة : هو مستحب. تعلق الشافعي بأنه قضاء لذة فكان مباحا كالأكل والشرب.
وتعلق علماؤنا بالحديث الصحيح : "من رغب عن سنتي فليس مني" .
الثالثة : قوله تعالى : {الْأَيَامَى مِنْكُمْ} أي الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء ؛ واحدهم أيم. قال أبو عمرو : أيامى مقلوب أيايم. واتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل
هي المرأة التي لا زوج لها ، بكرا كانت أو ثيبا ؛ حكى ذلك أبو عمرو والكسائي وغيرهما. تقول العرب : تأيمت المرأة إذا أقامت لا تتزوج. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم : "أنا وامرأة سفعاء الخدين تأيمت على ولدها الصغار حتى يبلغوا أو يغنيهم الله من فضله كهاتين في الجنة" . وقال الشاعر :
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم
ويقال : أيم بين الأيمة. وقد آمت هي ، وإمت أنا. قال الشاعر :
لقد إمت حتى لامني كل صاحب ... رجاء بسلمي أن تئيم كما إمت
قال أبو عبيد : يقال رجل أيم وامرأة أيم ؛ وأكثر ما يكون ذلك في النساء ، وهو كالمستعار في الرجال. وقال أمية بن أبي الصلت :
لله در بني علـ ... ـي أيم منهم وناكح
وقال قوم : هذه الآية ناسخة لحكم قوله تعالى : {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور : 3] . وقد بيناه في أول السورة والحمد لله.
الرابعة : المقصود من قوله تعالى : {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الحرائر والأحرار ؛ ثم بين حكم المماليك فقال : {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} . وقرأ الحسن {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عَبِيدِكُمْ} ، وعبيد اسم للجمع. قال الفراء : ويجوز {وَإِمَاءَكُمْ} بالنصب ، يرده على {الصَّالِحِينَ} يعني الذكور والإناث ؛ والصلاح الإيمان. وقيل : المعنى ينبغي أن تكون الرغبة في تزويج الإماء والعبيد إذا كانوا صالحين فيجوز تزويجهم ، ولكن لا ترغيب فيه ولا استحباب ؛ كما قال {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور : 33] . ثم قد تجوز الكتابة وإن لم يعلم أن في العبد خيرا ، ولكن الخطاب ورد في الترغيب واستحباب ، وإنما يستحب كتابة من فيه خير.
الخامسة : أكثر العلماء على أن للسيد أن يكره عبد ه وأمته على النكاح ؛ وهو قول مالك وأبي حنيفة وغيرهما. قال مالك : ولا يجوز ذلك إذا كان ضررا. وروي نحوه عن
الشافعي ، ثم قال : ليس للسيد أن يكره العبد على النكاح. وقال النخعي : كانوا يكرهون المماليك على النكاح ويغلقون عليهم الأبواب. تمسك أصحاب الشافعي فقالوا : العبد مكلف فلا يجبر على النكاح ؛ لأن التكليف يدل على أن العبد كامل من جهة الآدمية ، وإنما تتعلق به المملوكية فيما كان حظا للسيد من ملك الرقبة والمنفعة ، بخلاف الأمة فإنه له حق المملوكية في بضعها ليستوفيه ؛ فأما بضع العبد فلا حق له فيه ، ولأجل ذلك لا تباح السيدة لعبدها. هذه عمدة أهل خراسان والعراق ، وعمدتهم أيضا الطلاق ، فإنه يملكه العبد بتملك عقده. ولعلمائنا النكتة العظمى في أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد ؛ ولذلك لا يتزوج إلا بإذنه بإجماع. والنكاح وبابه إنما هو من المصالح ، ومصلحة العبد موكولة إلى السيد ، هو يراها ويقيمها للعبد.
السادسة : قوله تعالى : {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} رجع الكلام إلى الأحرار ؛ أي لا تمتنعوا عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة ؛ {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضا الله واعتصاما من معاصيه. وقال ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح ؛ وتلا هذه الآية. وقال عمر رضي الله عنه : عجبي ممن لا يطلب الغني في النكاح ، وقد قال الله تعالى : {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا. ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ثلاثة كلهم حق على الله عونه المجاهد في سبيل الله والناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء" . أخرجه ابن ماجه في سننه. فإن قيل : فقد نجد الناكح لا يستغني ؛ قلنا : لا يلزم أن يكون هذا على الدوام ، بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد. وقد قيل : يغنيه ؛ أي يغني النفس. وفي الصحيح "ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس" . وقد قيل : ليس وعد لا يقع فيه خلف ، بل المعنى أن المال غاد ورائح ، فارجوا الغنى. وقيل : المعنى يغنهم الله من فضله إن شاء ؛ كقوله تعالى :
{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام : 41] ، وقال تعالى : {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [الشورى : 12] . وقيل : المعنى إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بالحلال ليتعففوا عن الزنى.
السابعة : هذه الآية دليل على تزويج الفقير ، ولا يقول كيف أتزوج وليس لي مال ؛ فإن رزقه على الله. وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي أتته تهب له نفسها لمن ليس له إلا إزار واحد ، وليس لها بعد ذلك فسخ النكاح بالإعسار لأنها دخلت عليه ؛ وإنما يكون ذلك إذا دخلت على اليسار فخرج معسرا ، أو طرأ الإعسار بعد ذلك لأن الجوع لا صبر عليه ؛ قال علماؤنا. وقال النقاش : هذه الآية حجة على من قال : إن القاضي يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيرا لا يقدر على النفقة ؛ لأن الله تعالى قال : {يُغْنِهِمُ اللَّهُ} ولم يقل يفرق. وهذا انتزاع ضعيف ، وليس هذه الآية حكما فيمن عجز عن النفقة ، وإنما هي وعد بالإغناء لمن تزوج فقيرا. فأما من تزوج موسرا وأعسر بالنفقة فإنه يفرق بينهما ؛ قال الله تعالى : {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} [النساء : 130] . ونفحات الله تعالى مأمولة في كل حال موعود بها.
الآيتان : 33 - 34 {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ} الخطاب لمن يملك أمر نفسه ، لا لمن زمامه بيد غيره فإنه يقوده إلى ما يراه ؛ كالمحجور - قولا واحدا - والأمة والعبد ؛ على أحد قولي العلماء.
الثانية : {واستعفف} وزنه استفعل ؛ ومعناه طلب أن يكون عفيفا ؛ فأمر الله تعالى بهذه الآية كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعفف. ثم لما كان أغلب الموانع على النكاح عدم المال وعد بالإغناء من فضله ؛ فيرزقه ما يتزوج به ، أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق ، أو تزول عنه شهوة النساء. وروى النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ثلاثة كلهم حق على الله عز وجل عونهم المجاهد في سبيل الله والناكح الذي يريد العفاف والمكاتب الذي يريد الأداء" .
الثالثة : قوله تعالى : {لا يَجِدُونَ نِكَاحاً} أي طول نكاح ؛ فحذف المضاف. وقيل : النكاح ها هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة ؛ كاللحاف اسم لما يلتحف به. واللباس اسم لما يلبس فعلى هذا لا حذف في الآية ، قاله جماعة من المفسرين ؛ وحملهم على هذا قوله تعالى : {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فظنوا أن المأمور بالاستعفاف إنما هو من عدم المال الذي يتزوج به. وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف ؛ وذلك ضعيف ، بل الأمر بالاستعفاف متوجه لكل من تعذر عليه النكاح بأي وجه تعذر ، كما قدمناه ، والله تعالى أعلم.
الرابعة : من تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطول فالمستحب له أن يتزوج ، وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف ما أمكن ولو بالصوم فإن الصوم له وجاء ؛ كما جاء في الخبر الصحيح. ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى. وفي الخبر "خيركم الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد" . وقد تقدم جواز نكاح الإماء عند عدم الطول للحرة في "النساء" والحمد لله. ولما لم يجعل الله له من العفة والنكاح درجة دل على أن ما عداهما




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 7 ( الأعضاء 0 والزوار 7)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 366.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 360.19 كيلو بايت... تم توفير 5.81 كيلو بايت...بمعدل (1.59%)]