شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 6 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         قصَّة موسى في القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 28 - عددالزوار : 239 )           »          عابدة متعبدة ميمونة السوداء* (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          أرجوحة الصبر.... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          لحظات من رحمة المرض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          قبلة الجبين..عرفان ووقار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          أدب التعليق وأصول التعقيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الصوم ... والتأهيل الحضاري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 18 )           »          أخطاءٌ لغويَّـة في ضَبط ألفاظ السنَّة النبويَّـة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          حكم المبيت بالمخيمات بعد طواف الوداع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4876 - عددالزوار : 1869887 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #51  
قديم 19-08-2020, 01:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

قال رحمه الله: [لا حائضاً ونفساء].
أي:
لا تجب الصلاة على حائض ولا على نفساء،
وقد يقال:
إنها واجبة على كل مسلمٍ بالغٍ عاقل إلا أن يكون حائضاً أو نفساء.
والمراد بالحائض والنفساء: من كانت متلبسةً بالحيض أو بالنفاس، وليس المراد به الوصف؛ لأن المرأة قد توصف بكونها حائضاً،
كما تقول:
تجب الصلاة على كل حائض،
أي:
على كل امرأة بلغت المحيض، أو يجب الستر على المرأة الحائض،
والمراد:
التي بلغت سن المحيض، والعرب تسمي الشيء بما يقارنه.
فالمقصود أن قوله: (لا حائضاً) أي أن الحائض لا تجب عليها الصلاة أثناء الحيض،
وللعلماء في هذه المسألة قولان:
فبعض الأصوليين يقول: الخطاب متوجب على الحائض والنفساء، وسقط عنهما الفعل لمكان العذر في الصوم والصلاة، ثم إذا طهرتا فإنهما تقضيان صومهما، ولا تعتبران موديتين له.
وبعضهم يقول:
لا يتوجه عليهما الخطاب أصلاً إلا بعد طُهرهما، فيتوجه عليهما الخطاب بفعل الصوم دون فعل الصلاة، والفرق بين القولين في الأداء والقضاء،
فإنك إذا قلت:
إن الحائض والنفساء أثناء الحيض والنفاس يتوجه عليهما الخطاب فإنك تقول: تكلف الحائض والنفساء بالصلاة وسقطت عنهما بعذر، فالتكليف باقٍ أصلاً.
إذا ثبت هذا فيصبح قوله: (لا حائض ونفساء) أي أنه لا يتوجه عليهما الخطاب، فهذا اختيار صاحب الزاد، وهو أيضاً اختيار صاحب المقنع نفسه الإمام ابن قدامة رحمة الله تعالى عليهما،
وقد تكلم على هذه المسألة وبيّنها في كتابه النفيس:
(روضة الناظر)، وأشار إلى مذاهب العلماء فيها من ناحية توجه الخطاب على الحائض والنفساء أو عدم توجهه عليهما.
فإن قلنا: إنه لا يتوجه عليهما، ففي هذه الحالة بعد انتهاء أمد الحيض والنفاس يتوجه الخطاب بالصوم دون الصلاة،
وهذا يعارضه حديث عائشة أنها قالت:
(كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر قضاء الصلاة).فقول
من يجب عليهم قضاء الصلاة لعذر
[من زال عقله بنوم]
قال رحمه الله تعالى: [ويقضي من زال عقله بنوم].
قوله هذا دلّ على أن النائم مكلف أثناء نومه، أي أن الخطاب متوجهٌ عليه أثناء النوم،
واختلف العلماء:
هل النائم والناسي والساهي والسكران مكلفون أثناء السكر والنسيان والنوم، ثم يطالبون بالفعل بعد الإفاقة، كالحال في مسألة الحائض والنفساء؟
فقال بعض العلماء:
النائم والناسي والساهي مكلفون، ولكن لا يؤاخذون وقت العذر، فإذا زال عنهم العذر فإنهم يطالبون بالفعل،
وبناءً على هذا يقال:
يؤمرون بالقضاء ويثبت عليهم؛ لأنه إذا تعذّر عليهم الأداء لعذرٍ فالقضاء مفرعٌ على وجود الأداء،
وقالوا:
إن النائم يؤمر بقضاء الصلاةِ، وهذا بالإجماع؛
لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة له إلا ذلك)، فدل على أنه مطالبٌ بالقضاء، ودل على أن نومه وخروج الوقت عليه وهو نائم لا يوجب سقوط التكليف عنه، ولذلك يؤمر بقضاء هذه العبادة،
والأصل:
أن ذمته مشغولةٌ بفعل هذه العبادة حتى يدل الدليل على سقوطها، ولا دليل، فيبقى مطالباً بفعل الصلاة، فيؤمر بها بعد استيقاظه من النوم.
لكن هنا مسألة: فقد قال بعض العلماء: من نام عن الصلاة وخرج وقتها، فإنه يؤمر بالفعل مباشرةً، وإن تأخر أثم؟
وقال بعض العلماء:
يؤمر بفعلها ما لم يدخل وقت الثانية التي بعدها، ويخرج وقت الصلاة التي هو فيها، وقالوا: يجوز له أن يؤخر.
وتوضيح هذه المسألة ما جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما الثابت في الصحيح أنه قال:
(عرّس النبي صلى الله عليه وسلم وسار إلى آخر الليل،
قال: فوقعنا وقعةً ألذ ما تكون على المسافر -لأنهم كانوا يسيرون في الليل في مقدمهم من غزوة تبوك رضي الله عنهم وأرضاهم- فلما صار إلى آخر الليل وقرب وقت الفجر أعياهم المسير،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: اكلأ لنا الليلة -
أي: يا بلال! ارقب لنا الفجر وانتبه له، حتى إذا تبين الصبح فأيقظنا للصلاة- فنام بلال، ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يستيقظوا إلا بحرِّ الشمس، فاستيقظ عمر وصاح في الناس، وصار يكبر، ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما نظر إلى القوم قال عليه الصلاة والسلام:
يا بلال: ما شأنك؟
-أي: ما الذي دعاك أن تضيع علينا الصلاة؟
- فقال: يا رسول الله: أخذ بعيني الذي أخذ بعينك)
أي: أنت متعب وأنا متعب، فكما نمتَ نمتُ، وهذا من لطف الصحابة رضي الله عنهم وحسن أدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال:
(ارتحلوا إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان.
فارتحلوا عن الوادي، ثم توضأ عليه الصلاة والسلام، وتوضأ أصحابه فصلّى راتبة الفجر -كما في الصحيح في رواية أنس -، ثم أمر بلالاً فأقام فصلى الفجر).
فالمسافة ما بين انتقاله من الوادي إلى الوادي فيها تأخيرٌ للصلاة،
ولذلك قالوا:
دلّ هذا على أنه إذا استيقظ لا يؤمر بالفعل مباشرة، وأنه لو أخّر ليسير الوقت فلا حرج،
وقالوا: إنَّ له أن يؤخر إلى قرب الظهر،
فهذا مذهب من يقول:
إنه لا يطالب بالفعل مباشرةً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخّر الصلاة فانتقل من الوادي الذي هو فيه إلى واد آخر.وأجاب الأولون بأن فعله صلى الله عليه وسلم عذرٌ خاصٌ بهذه الصورة أو ما في حكمها، ويبقى الأصل بتوجه الخطاب عليه بالفعل؛
لقوله عليه الصلاة والسلام:
(من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصليها إذا ذكرها).
فجعل الأمر عند الذكر، فدل على أنه مطالبٌ بالفعل فوراً،
خاصةً على مذهب من يقول:
إن الأمر يقتضي الفور، فهذا حاصل ما ذكره العلماء.والحقيقة أنَّ الأحوط أن الإنسان يبادر، ويفعل الصلاة بمجرد الاستيقاظ ما أمكنه.
[من زال عقله بإغماء]
قال رحمه الله:
[أو إغماء].
المغمى عليه إما مغمىً عليه باختياره كأن يتعاطى أمراً يفضي به إلى الإغماء، أو مغمى عليه بغير اختياره كمن به صرع أو نحو ذلك، فهذه أحوال المغمى عليه،
فعمم المصنف فقال:
(أو إغماء).
فكل من أغمي عليه داخل في هذا العموم،
والمغمى عليه للعلماء فيه قولان:

قال بعض العلماء: كل من أغمي عليه فهو مكلف، ويبقى إلى أن يفيق فيطالب بقضاء الصلوات وقضاء الأيام التي فرض الله عليه فيها الصيام.والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه،
وقال به بعض السلف رحمة الله عليهم:
أنَّ المغمى عليه ليس بمكلف، وإذا زال إغماؤه لا يطالب بقضاءٍ ولا بأداء.
وفائدة الخلاف:
أن من أغمي عليه حتى فاتته الصلوات، أو أغمي عليه وفاته مع الصلاة الصيام، فعلى القول بأنه مكلف يطالب بالقضاء ولو طالت المدة، وعلى القول بأنه غير مكلف لا يطالب بالقضاء،
ويقولون: إنه كالمجنون.
والحقيقة أنّ المغمى عليه فيه شبه بالمجنون، وفيه شبهٌ بالنائم، ففيه شبهٌ بالمجنون من جهة أنه إذا أوقظ لا يستيقظ، وفيه شبهٌ بالنائم من جهة أن الأصل فيه أنه مكلف، وأن الذي يعتريه من الإغماء إنما هو أشبه بالغطاء على عقله كالغطاء الذي على النائم فليس فيه زوال العقل بالكلية،
ولذلك قال بعض العلماء:
هو كالنائم،
وقال بعضهم: هو كالمجنون،
فمن يقول:
إن المغمى عليه كالمجنون لا يطالبه بقضاء الصلوات،
ويقول:
هو كمن جنّ وأفاق،
ومن يقول:
إنه كالنائم يطالبه بالقضاء، وهذه المسألة يتفرع عليها ما يسمّى بالموت السريري عند الأطباء -أعاذنا الله وإياكم منه ولطف بنا وبكم في كل حال-، فهذا الموت السريري الذي يكون الإنسان فيه عديم الحركة حتى يشاء الله عز وجل بزوال المانع عنه، إما بجلطة أو بسبب آخر يؤدي إلى تعطله، فيصبح كالنائم في سبات، فإذا كلمه الإنسان لا يعي ولا يجيب، حتى يشاء الله له الإفاقة فيستيقظ بعد شهور، وقد يستمر الإغماء إلى سنوات.فعلى القول بأن المغمى عليه مكلف يصبح في هذه الحالة يطالب مثل هذا بالقضاء،
وعلى القول:
بأنه غير مكلف لا يطالب بالقضاء.
وعند النظر في المسألة من جهة الأصول يترجح القول الذي يقول:
إنه كالنائم، والشبه فيه بالنائم أقوى من الشبه بالمجنون؛ فإن الإغماء لا يؤثر في عقل الإنسان من جهة الزوال، ولكنه أشبه بالنائم من جهة السبات والخدر، والنائم حقيقته أنه مخدر،
أي: لا يستطيع أن يتكلم ولا يفهم الكلام، فالمغمى عليه أقرب إلى النائم منه إلى المجنون،
والقاعدة عندنا في الأصول:
(إذا تعارض القولان ينظر إلى أقربهما شبهاً بالأصل).
فنحن نسلّم أن المغمى عليه فيه وجه شبه بالمجنون، وفيه وجه شبه بالنائم، فانظر رحمك الله أيهما أقرب إلى الأصل، فإذا نظرت إلى أن الأصل وجوب الصلاة عليه وتكليفه احتطت للشارع،
وقلت:
هو مكلف وأنا أشك في عذره هل يسقط التكليف أو لا، فيبقى على الأصل من كونه مكلفاً، وإن جئت تنظر إلى الأصل الآخر الذي يغلب فيه جانب الجنون فالأصل براءة الذمة.
وعند النظر إلى الأصلين نجد أن أصل التكليف ألصق من أصل براءة الذمة؛ لأن توجه الخطاب عليه في الأصل قد ثبت، وأصل براءة الذمة إنما يقوى في المسائل التي لم يتوجه فيها خطاب،
أي:
لم يوجد فيها أصل يوجب توجه الخطاب،
ولذلك يقوى قول من يقول: إنه يطالب بالقضاء.
لكن السؤال هنا:
لو قلنا: إنه يطالب بالقضاء فأغمي عليه شهرين أو ثلاثة أو أربعة، فكيف يقضي؟ قالوا: إن طالت المدة رتب الصلوات، فكل صلاةٍ مع فرضها، فلو كانت أربعة أشهر فإنه يبدأ من حين إفاقته، ويصلي كل فرض مع فرضه، ويبدأ بالمقضي أولاً ثم بالمؤداة، حتى تتم له أربعة أشهر بهذه الحالة.أما لو أغمي عليه ثلاثة أيام أو أربعة أيام أو خمسة أيام فإن هذا يطالب بالقضاء مباشرةً.
وإسقاط التكليف عنه لمكان المشقة -كما يقوله بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه ليس بصحيح،
فإنهم يسلمون أنه يطالب بالقضاء ثم يقولون:
إن طالت المدة سقطت عنه.وهذا غير صحيح؛ لأن مشقة القضاء يمكن اغتفارها بمطالبته بتسلسل الأوقات بالفرض مع نظيره، وهذا أقوى، واعتبار الأصل فيه أبلغ من اعتبار براءة الذمة الذي سبقت الإشارة إليه.
[من زال عقله بسكر]
قال رحمه الله تعالى: [أو سكرٍ أو نحوه].
السكر قد يكون بسببٍ مباح أو بسبب غير مباح، فالسكر بسبب مباح كأن يشرب خمراً يظنها ماءً، فهذا معذور، أو أكره على شرب الخمر عند من يرى أن الإكراه مسقط للتكليف، فهذا معذور، أو أعطي (البنج) لإجراء عملية جراحية فزال عقله، فهذا السكر يعذر العلماء صاحبه، ويخصونه بأحكام في مسائل العبادات والمعاملات.
وأما السكر المحرم فالمراد به ما يزيل العقل سواءٌ أكان شراباً أم كان جامداً، وسواءٌ كان قديماً أم حديثاً، كما يوجد الآن في بعض المركبات كالمخدرات ونحوها، فكل ذلك يأخذ حكم السكر في باب الفقه.فإذا ثبت أن السكر يؤثر فإن السكران غير مكلف بالصلاة أثناء سكره، ويطالب بقضائها بعد الإفاقة؛
لأن الله عز وجل قال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، فدل على أنه أثناء السكر لا يطالب بالصلاة، وبناءً على ذلك فإذا أفاق فإنه يخاطب بفعلها، ويكون فعله لها قضاءً لا أداءً.
وقوله:
[أو نحوه].أو نحو السكر، كمثل ما يقع في بعض المخدرات والمركبات التي تكون في حكم السكر.
[من تصح منه الصلاة ومن لا تصح منه]
قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح من مجنون ولا كافر].
أي: ولا تصح الصلاة من مجنونٍ؛
لقوله عليه الصلاة والسلام:
(رفع القلم عن ثلاثة)، والصحة تستلزم وجود أو ثبوت الثواب، إلا على القول في الصبي في حده وصلاته.
وقوله: [ولا كافر].
أي: ولا تصح الصلاة من كافر؛ لأنه مخاطبٌ بالأصل، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يؤمر بالصلاة وتصح منه بعد الشهادتين، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يرتب الصلاة على وجود الشهادتين يدل على أن الكافر لا تصح منه الصلاة قبل الشهادتين؛
لأنه قال عليه الصلاة والسلام:
(فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم ... ) الحديث، فدل على أن توجه الخطاب عليهم بالصلاة وصحتها منهم متوقفٌ على تحصيل الأصل وهو الشهادتان،
فقد قال تعالى في الكفار:
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فدل على أن الكافر لا تصح منه قربةٌ ولا طاعة،
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
(إن الله يعجل للكافر دنياه بحسناته، حتى إذا وافى الله يوم القيامة وافاه وليست له حسنة واحدة)، فلذلك لا تصح منه صلاته ولا تقبل منه عبادته.
قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى فمسلم حكماً].
قوله: (فإن صلى) أي: هذا الكافر في الظاهر،
وقوله:
(فمسلم حكماً) يشير به إلى أنَّ عند العلماء ما يسمونه القضاء وما يسمونه الديانة،
والقضاء يعبرون عنه أحياناً بقولهم:
(حكماً)؛ لأنه يتصل بحكم الحاكم وهو القاضي، وهذا ينبغي أن يتنبه له طلاب العلم، فالشريعة رتبت الأحكام على الظاهر، ولم ترتبها على السرائر في حكم القضاء،
والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:
(إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أكلْ سرائرهم إلى الله)، والسبب في ذلك أنه لا يستطيع الإنسان أن يعرف حقيقة الشيء من الإنسان سواءٌ أكان في عبادةٍ أم معاملة، فلا يستطيع أن يعلم قصده ولا نيته،
ولذلك أُمِر من زكى إنساناً أن يقول: أحسبه والله حسيبه.
ولا يمكن أن تنكشف حقيقة الإنسان أو ينجلي صلاحه من عدمه إلا في يومٍ يبعثر فيه ما في القبور، ويحصل فيه ما في الصدور، وهذا هو الفصل في معرفة حقائق الناس، فلما كانت معرفة حقائق الناس متعذرة بالاطلاع على قلوبهم أخذ بالظاهر، فأحكام الشريعة مبنية على الظاهر، فلو أن إنساناً جاء وصلى مع الناس، وفعل الصلاة في الظاهر،
فليس لأحدٍ أن يقول:
هذا منافق؛ لأنه يحتاج إلى أن يطلع إلى حقيقة قلبه، ما لم تظهر منه أفعال المنافقين التي تدل على نفاقه، والأصل فيها أنه يحكم على ظاهره، وتوكل سريرته إلى الله عز وجل.فمن دخل المسجد وصلى مع المسلمين، واستقبل قبلتهم، وصلّى صلاتهم، وتأثر بكلامهم في ظاهره فهذا من المسلمين، وحكمه حكم المسلمين، والحقيقة ترد إلى الله سبحانه وتعالى.فعندنا شيء في الظاهر، وعندنا شيء في الباطن،
فإن قالوا:
(مسلمٌ حكماً) أي: في الظاهر، وأما حقيقته فأمرها إلى الله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي معه المنافقون وهو يعلم أنهم منافقون، والقرآن ينزل عليه، وسمى المنافقين لـ حذيفة بن اليمان، وقال عمر لـ حذيفة: (أناشدك الله: أكنتُ فيمن سمى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، ولا أزكي بعدك أحداً)، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يعرفون المنافق من المسلم إذا رأوا حذيفة يصلي على الرجل، فإذا رأوا حذيفة يصلي على الرجل علموا أنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رأوا حذيفة اعتزل جنازة علموا أنه منافق وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه من خبره شيئاً.
فالذي ينبغي على الحاكم أن يحكم على الظاهر، وهذا هو الأصل، لظاهر حديث مسلم الذي ذكرنا: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، وأما النيات والمقاصد فأمرها إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن قد توجد قرائن تدل على المقصد فيغلب على الظن، فهذا أمر آخر يحكم به في مسائل في القضاء.
ومن أمثلة الديانة والحكم أو القضاء: لو أن إنساناً قال لامرأته: أنتِ طالق، ولم يدر في خلده أن يطلقها، وإنما كان قصده: أنت طالق من الوثاق،
أي:
أنك غير مربوطة، فإذا رفع إلى القضاء حكم بكونه مطلقاً زوجته، ولكن بينه وبين الله لا تطلق عليه زوجته؛
لأن لفظ الطلاق في قوله:
(أنت طالق) لا يقع ديانةً؛ لأنه لم يقصد الطلاق فيه أصلاً،
وبناءً على ذلك قالوا:
ينفذ الطلاق حكماً
-أي: في ظاهر الأحكام- لا ديانةً.
ولها نظائر أيضاً في المعاملات، فإن الإنسان قد يتلفظ بلفظٍ يكون فيه احتمال غالب يؤخذ بظاهره، وإن كان قصده أمراً آخر.لكن لو كان الأمر محتملاً لمعنيين على السواء فلا بد فيه من سؤاله عن قصده ونيته،
فتجد الفقهاء يقولون: (ينوّى) أي: يسأل عن نيته، فلو قال لفظاً يحتمل الطلاق، ثم رفع إلى القاضي،
فقال له القاضي: ما الذي نويت في هذا اللفظ المتردد بين المعنيين؟
قال:
نويت المعنى الذي لا طلاق فيه، وحلّفه القاضي فحلف، فحينئذٍ يحكم بكون الطلقة غير واقعة قضاءً، ولكن ديانةً بينه وبين الله قد طلقت عليه زوجته.ولو أن إنساناً ادعى مال إنسان أو اغتصب أرضه، وليس عند الشخص الذي أخذت منه الأرض الدليل، فإنه إذا حكم القاضي بكون الأرض للغاصب دون المغصوب منه بناءً على اليد ففي الباطن لا يحل له من ذلك المال شيءً، فالمال ماله قضاءً لا ديانةً.
فهنا يقول المصنف رحمه الله:
(فإن صلى) أي: هذا الكافر الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فدخل المسجد وصلى مع المسلمين (فمسلمٌ حكماً) أي: أعطه حكم المسلمين بناءً على ظاهره، وأما سريرته فتوكل إلى الله عز وجل.
[متى يؤمر الصبي بالصلاة ويضرب عليها]
قال رحمه الله تعالى: [ويؤمر بها صغير لسبع، ويضرب عليها لعشر].
هذا هو ظاهر السنة للحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح:
(مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) فاشتمل هذا الحديث على ثلاثة أحكام: أولها: أمرهم بالصلاة لسبع، ولا يضربون إذا تركوها ولم يصلوا،
والثاني:
إذا بلغوا العاشرة يؤمرون بالصلاة ويضربون عليها إن لم يصلوا.
والثالث: التفريق بين الذكر والأنثى في المضجع، وكلام المصنف موافق لظاهر السنة.
وقوله عليه الصلاة والسلام:
(مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) للعلماء وجهان في قوله: (لسبع) وقوله: (لعشر): قال بعض العلماء: يؤمر في السبع عند ابتدائها، ويؤمر بالضرب إن عصى في العشر عند ابتدائها.
وقال بعضهم: يؤمر في السبع عند تمامها، ويؤمر ويضرب إن عصى في العشر عند تمامها.
والفرق بين القولين أنه على القول بأنه يؤمر بالسبع عند ابتدائها يؤمر بعد السادسة ودخوله في أول السابعة، فلو بلغ ست سنوات يؤمر في اليوم الذي هو زائدٌ على الست؛ لأنه بهذا اليوم قد دخل في السابعة، وهكذا في العشر تضربه إذا بلغ تسعاً وزاد يوماً واحداً، فبدخوله اليوم الواحد يدخل في العشر.وعلى القول الثاني إنما يؤمر بعد تمام السبع أو يؤمر ويضرب إن عصى بعد تمام العشر، وهذا أقوى؛ لأن الأصل عدم أمره وعدم ضربه؛ لأنه غير مكلف في الأصل،
فإذا شككنا فهذا ينبني على مسألة أصولية عند العلماء أو قاعدة فقهية لطيفة وهي:
(هل العبرة بالابتداء، أو بالتمام والكمال)؟
فإن قلت:
العبرة بالابتداء تقول: لأول يومٍ من السبع ولأول يومٍ من العشر،
وإن قلت:
العبرة بالتمام والكمال تقول: إذا تمت له السبع أو تمت له العشر.
قال رحمه الله تعالى: [فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في وقتها أعاد].
أي: إذا بلغ الصبي أثناء فعله للصلاة، كما لو أن صبياً دخل في الصلاة وأحرم بها الصلاة وهو غير بالغ، ثم بلغ وهو في أثناء وقت الصلاة، زالت الشمس وليست عليه أمارة بلوغه، ثم لما مضت ساعة أو ساعتان احتلم، فباحتلامه دخل في التكليف، فيؤمر بفعل الصلاة وإن كان عند دخول الوقت غير مكلف بها، وهكذا بالنسبة للمرأة الحائض والنفساء، فإنها لو طهرت قبل انتهاء الوقت ولو بركعة واحدة فإنها تؤمر بفعل الصلاة،
وهذا مبنيٌ على حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) فدل على أن إدراك الوقت ولو بركعة واحدة يوجب الحكم والمطالبة بالفعل.فلو أن هذا الصبي صلى صلاة الظهر وهو صبي، ثم نام واحتلم قبل دخول وقت العصر، فحينئذٍ تأكدنا بلوغه بعد الاحتلام، فتكون صلاته الأولى غير مجزية، ويطالب بأداء الصلاة في وقتها؛ لأن الخطاب توجه عليه بعد البلوغ والاحتلام.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #52  
قديم 19-08-2020, 01:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (51)

صـــــ(12) إلى صــ(5)


[حرمة تأخير الصلاة عن وقتها لغير عذر]
قال رحمه الله تعالى: [ويحرم تأخيرها عن وقتها].
قوله: (ويحرم) أي: يأثم من فعل ذلك، أعني التأخير عن وقتها، ووقت الصلاة سيأتي إن شاء الله في باب المواقيت، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يخصون المواقيت في باب مستقل، ويذكرون فيه مواقيت الصلوات الخمس.وإذا أخّر المكلف الصلاة عن وقتها فإما أن يكون معذوراً أو غير معذور،
فالمصنف رحمه الله يقول:
(ويحرم تأخيرها عن وقتها) أي: لا يجوز للإنسان أن يؤخرها عن وقتها، فإن كان هناك عذرٌ يسقط التكليف عنه -كما تقدم في النائم والمغمى عليه- فهذا لا إشكال فيه، وإن كان بعناء ومشقة لا يعذر بها كالقتال ونحوه، فإنه يطالب ولو كان على حال المقاتل، ودليل ذلك آية النساء،
أعني آية المسايفة في قوله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239]، فأمر الله عز وجل بالصلاة ولو حال القتال، فدل على أن الصلاة لا تسقط بحال، وإن كان بعض الفقهاء رحمة الله عليهم -وهو مذهب بعض السلف- يجوز للإنسان إذا عظم عليه الخوف أن يؤخر الصلاة، واستدل بذلك لبعض الآثار عن الصحابة.والصحيح والأقوى أنه يصلي على حاله؛
لأن الله قال:
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239] وعمم في الخوف، فدلّ على أن الأصل مطالبته بالفعل، ولذلك يبقى مكلفاً ولو دفن؛ لأن الله لا يكلف الإنسان إلا ما في وسعه، فيقاتل ولو كان راكباً ولو كان ماشياً، كما يقع الآن في الحالات الشديدة التي تقع في القتال فإنه يصلي على حاله، ولو كان على جهاز، ولو كان على آلة أو على دبابة فليصل على حاله، وهذا من سماحة الإسلام، ومن عظم شأن الصلاة؛ لأنه لا يأمن الإنسان أن يقتل أو تزهق روحه، ولذلك يبرئ ذمته ويصلي على قدر استطاعته فيلقى الله عز وجل وقد أدى هذه الصلاة، ولا تسقط في شدة الخوف ولا بشدة ذهول، بناءً على الأصل من كونه مطالباً بفعلها مأموراً بأدائها.
حالات جواز تأخير الصلاة عن وقتها
[من نوى الجمع في السفر]
قال رحمه الله تعالى:
[إلا لناوي الجمع].
هذا استثناء، والاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فلما ذكر أن الأصل أنه مطالب استثني من ذلك من نوى الجمع،
وصورة ذلك:
لو أذّن عليك أذان الظهر وأنت في السفر فقلت: أؤخر الظهر إلى وقت العصر، جاز لك أن يخرج عليك وقت الظهر وأنت لم تصلها؛ لكونك معذوراً بنية الجمع، وهكذا لو أذن عليك أذان المغرب وأردت أن تجمع مع العشاء فلا حرج عليك، وبناءً على ذلك يعتبر هذا مستثنىً مما ذكرناه؛ لأن الجمع بين الصلاتين رخصة من رخص السفر فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هديه في ذلك ثابتاً عنه عليه الصلاة والسلام.
[من اشتغل بشرط الصلاة عنها]
قال رحمه الله تعالى: [ولمشتغل بشرطها الذي يحصله قريباً].
مثال ذلك: شخص قام قبل طلوع الشمس بوقت يسير يريد أن يتوضأ فيه أو يغتسل من الجنابة،
فقد قال بعض العلماء: يتيمم ويصلي،
وقال بعضهم:
يغتسل ويتوضأ ولو خرج الوقت، وعلى هذا القول الثاني درج المصنف، فهذه الحالة تستثنى من المنع من تأخير الصلاة إلى خروج الوقت،
قالوا: يرخص لشخصين: أحدهما: من نوى الجمع،
والثاني:
من اشتغل بتحصيل شرط الصلاة، فإن الطهارة من الحدث من شروط صحة الصلاة، فلو أراد أن يسخن الماء، أو أراد أن يغتسل وليس عنده إلا قدر ما يصلي، فإنه يغتسل ولو خرج الوقت، وهو في حكم المصلي لاشتغاله بشرط صحة صلاته.
حكم جاحد وجوب الصلاة وتاركها تهاوناً
قال رحمه الله تعالى:
[ومن جحد وجوبها كفر].
من جحد وجوب الصلاة كفر إجماعاً؛ لأن الله أمر بها في كتابه،
وإذا قال هو:
ليست بواجبة: فإنه يكفر،
ودليل كفره:
أنه كذّب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كذّب الله ورسوله فقد كفر،
فالله عز وجل يقول:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]،
وهو يقول:
لا تقيموا الصلاة، وليست بواجبة.لأن قول الله: (أقيموا) أمرٌ تضمن الوجوب والإلزام،
وهو يكذّب الله فيقول:
ليست بواجبة -والعياذ بالله-،
ولذلك قال العلماء:
من استحل ما حرم الله في كتابه وعلم بتحريمه سبحانه لذلك فإنه يكفر،
فلو قال:
الزنا حلال لا شيء فيه،
أو:
شُرْبُ الخمر حلال لا شيء فيه -والعياذ بالله- كفر؛ لأنه يستحل ما حرم الله، ويكون مكذّباً لله عز وجل بالاستحلال.وكذلك رد الواجبات، بشرط أن يكون على علمٍ بوجوبها،
أي:
أن تقام عليه الحجة، ومفهوم هذا الشرط أن يكون جاهلاً، فلو أن إنساناً -كما مثل العلماء-
في بادية ولا يعلم بشرائع الإسلام قيل له:
أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله،
فلما أسلم جاءه رجل وقال له:
صلّ،
قال:
ليس هناك صلاة! لكونه جاهلاً لا يعلم، فهذا لا يكفّر، وهي من المسائل التي يعذر فيها بالجهل الذي يدل على عدم وجود التكذيب؛ لأن الأصل في الحكم بكفره تكذيبه لله،
ولذلك قالوا:
شرطه أن يكون عالماً حتى يوجد فيه السبب الموجب للكفر، وقد تكلم في هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام عند كلامه على مرتكب الكبيرة عند اعتقاده لكونها كبيرة أو عدم اعتقاده لكونها كبيرة، فليرجع إليه.
قال رحمه الله تعالى: [وكذا تاركها تهاوناً].من ترك الصلاة تهاوناً كفر،
ولكن للعلماء تفصيلٌ في كفره:
فمنهم من يقول: يكفر مطلقاً.
ومنهم من يقول: يكفر إذا لم يصل أبداً، بمعنىً أنه يترك الصلاة بالكلية، وهذا ظاهر النص،
واختاره شيخ الإسلام رحمة الله عليه جمعاً بينه وبين حديث عبادة رضي الله عنه:
(خمس صلواتٍ كتبهن الله في اليوم والليلة، فمن حفظهن وحافظ عليهن كان له عند الله عهدٌ أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له)، فإن تركها كليةً كفر، وإن صلى أحياناً وترك أحياناً لا يحكم بكفره جمعاً بين النصين،
ولأن قوله:
(فمن تركها) أي: ترك الصلاة، أي أنه لم يصل بالكلية،
وفرقٌ بين قولك: ترك الصلاة،
وبين قولك:
ترك صلاةً، ولذلك اختار رحمه الله هذا، ولا شك أنه يوفق بين النصوص ويجمع بينها.
قال رحمه الله تعالى: [وكذا تاركها تهاوناً، ودعاه إمامه أو نائبه فأصر].
هذا شرط عند من يقول: إن تارك الصلاة تهاوناً يكفّر.
قالوا: بشرط أن يدعوه الإمام، وظاهر النصوص ليس فيها هذا الشرط، ولذلك اختار جمعٌ من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه عدم اشتراط دعوة الإمام، وقال الذين قالوا باشتراطها: إن ذلك أبلغ في وجود العذر حتى يحكم بكونه كافراً.
قال رحمه الله تعالى: [وضاق وقت الثانية عنها].
أي:
أن يضيق وقت الثانية عن فعلها.
قال رحمه الله تعالى: [ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً فيهما].
أي: أننا إذا حكمنا بكونه كافراً بترك الصلاة فإنه لا ينفذ عليه حد القتل إلا إذا استتيب ثلاثاً،
فجمهور العلماء: المالكية والشافعية والحنابلة على أن تارك الصلاة يُدعى إليها ثلاثاً ثم يقتل إذا أبى، وقرر شيخ الإسلام رحمه الله أنه إذا دُعي إليها ثلاثة أيام وهو يصر على تركها أنه كافرٌ بإجماع المسلمين؛
لأنه إذا قيل له:
صلّ،
وهو يقول:
لا أصلي.ثلاثة أيامٍ، فإنه في هذه الحالة لا يحكم بكونه مسلماً،
وقال:
إنه في حكم من جحد، ويحكي الإجماع على ذلك في غير ما موضع من المجموع.فبعض العلماء على أنه يستتاب ثلاثاً، وهذا مبني على مسألة استتابة المرتد،
واستتابة المرتد فيها قولان للعلماء رحمة الله عليهم:
فمنهم من يوجب الاستتابة لأثر عمر رضي الله عنه، ولا مخالف له، وقد أمرنا بالأخذ بسنن الخلفاء الراشدين،
وأثر عمر:
هو (أن أبا موسى رضي الله عنه قدم عليه فقال له عمر: هل من مغربة خبر؟ -أي: هل هناك خبرٌ غريب
- قال: نعم يا أمير المؤمنين! رجلٌ ترك دين الإسلام ورجع إلى النصرانية أو اليهودية، فتهود أو تنصر فقتلناه،
فقال عمر رضي الله عنه:
هلا أطعمتموه وسقيتموه ثلاثاً؟!! اللهم إني أبرأ إليك لم أشهد ولم آمر، اللهم إني أبرأ إليك لم أشهد ولم آمر)
، فبرئ رضي الله عنه من فعلهم،
قالوا:
ولا يبرأ إلا بضياع واجب أو ارتكاب محرم.
فقوله:
(هلا أطعمتموه وسقيتموه ثلاثاً) دل عند من يقول بوجوب الاستتابة ثلاثاً على وجوبها.
والذين يقولون بعدم الوجوب استدلوا بما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة وجدت مقتولةً ليلاً،
فقال صلى الله عليه وسلم:
أحرّج على رجل يعلم من خبر هذه إلا أخبرنا،
فقام زوجها وهو أعمى وقال:
يا رسول الله! إنها كانت تسبك وتشتمك وتسمعني فيك ما أكره، فما هو إلا أن عديت عليها البارحة بمعولي فقتلتها،
فقال صلى الله عليه وسلم:
ألا اشهدوا أن دمها هدر)
قالوا: هذا يدل على عدم وجوب الاستتابة، فإن الرجل قتلها مباشرة دون أن يستتيبها.
واستدلوا بحديث ابن عباس الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)، فأمر بالقتل بوجود الشرط وهو تبديل الدين، فدل على عدم وجود وصفٍ زائد وهو الاستتابة.وبعض العلماء -وهو رواية عن الإمام أحمد
- يجمع بين القولين فيقول: إن الكفر والارتداد يكون على أحوال: فتارة يحكم فيها بالكفر مطلقاً ويتفق فيها دلالة الظاهر والباطن كمن يستهزئ بالإسلام والدين، فهذا كفره لا شبهة فيه، بخلاف من يكون كفره دون ذلك أو ارتداده دون ذلك لشبهة أو نحوها فإنه يستتاب حتى يعذر إليه، وهذا جمعٌ لطيف لا شك أن فيه جمعاً بين الأخبار والنصوص، وسنفصل هذه المسألة أكثر إن شاء الله في باب الردة وأحكامها.وعند الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه وأصحابه أن من ترك الصلاة يسجن إلى أن يموت أو يصلي.والجمهور على أنه يستتاب ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل.
شرح زاد المستقنع - باب الأذان والإقامة [1]
الأذان شعيرة من شعائر الإسلام العظيمة، وهو مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، والغاية منه تعظيم الله، وتنبيه الناس بأوقات الصلاة، وللعلماء في شعيرة الأذان أقوال وتفاصيل في صفته وصيغته، وحكمه، ومن يقوم به، وشروط صحته، ومبطلاته، وحكم أخذ الأجرة عليه، وغير ذلك من الأحكام والمسائل المتعلقة به.
أحكام الأذان والإقامة
[تعريف الأذان والإقامة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،
سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين:
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الأذان والإقامة].
الأذان في اللغة:
الإعلام،
ومنه قولهم:
آذنه.إذا أعلمه،
قال تعالى:
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27]، والمراد بذلك أعلِمهم به.
وقال الشاعر: آذنتنا ببينها أسماءُ رب ثاوٍ يمل منه الثواء أي: أعلمتنا وأخبرتنا.
فأصل الأذان:
الإعلام،
وأما في الاصطلاح:
فهو الإعلام بدخول وقت الصلاة بلفظٍ مخصوص.
فقولهم: (الإعلام بدخول وقت الصلاة) المراد به: الصلاة المفروضة،
وقولهم:
(بلفظٍ مخصوص): هو اللفظ الذي حدّده الشرع لهذه العباده وعيّنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقرّه كما في قصة عمر وعبد الله بن زيد رضي الله عن الجميع.والأذان مشروعٌ بالكتاب والسنة وإجماع الأمة،
شرعه الله في كتابه بقوله:
{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:58]،
أي:
أذَّنتم بها وأعلنتم بها، وكذلك شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما أراد مالك بن الحويرث وصاحبه أن يسافرا إلى قومهما،
وقال عليه الصلاة والسلام:
(إذا حضرت الصلاة فأذِّنا)،
ووجه الدلالة في قوله:
(فأذِّنا)؛ حيث دل على مشروعية الأذان بالسنة القولية، وكذلك أجمعت الأمة على مشروعية الأذان.
والحكمة من مشروعية الأذان: تنبيه الناس وإعلامهم بفريضة الله عز وجل.ويكون بعد دخول الوقت، ولا يصح الأذان قبل دخول الوقت إلا أذان الصبح الذي يكون في السدس الأخير من الليل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من هذا الأذان؛ إذ إن المقصود به أن يرد القائم وينبه النائم،
كما قال عليه الصلاة والسلام:
(إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم)، وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن أذان بلال بالسحر،
وهو الأذان الأول يُقصد منه أن يرد القائم أي: أن الإنسان إذا كان في قيام الليل قد لا ينتبه لدخول الفجر، فربما استمر في قيامه وصلاته بالليل حتى يفاجأ بأذان الفجر وهو لم يوتر بعد، ولذلك شرع الله عز وجل هذا الأذان كما في الحديث السابق عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لما وصف وقت الأذان الأول بكونه في ليل دلَّ على أنه قبل وقت الصبح، فهذه هي الحالة التي يُشرع فيها أن يكون الأذان قبل دخول الوقت، وهي حالةٌ مخصوصة، ومن أهل العلم من قصره على رمضان بناءً على ورود الأخبار فيه من أجل الصيام.والمقصود أن حكمة مشروعية الأذان تنبيه الناس، كما أن فيه إعلاءً لذكر الله عز وجل،
ولذلك قال بعض السلف في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]،
قال:
المراد بهذا المؤذن، فإنه يدعو إلى الله، ويعمل صالحاً بدعوته إلى الصلاة،
ويقول: إنه من المسلمين؛
لأنه يقول:
أشهد أن لا إله إلا الله،
ويقول:
أشهد أن محمداً رسول الله، فهذا خيرٌ كثير للقائل، وخيرٌ للناس لما فيه من إعلاء كلمة الله عز وجل.
فقال العلماء:
إن من حكمة مشروعية الأذان، إعلاء ذكر الله عز وجل،
ووجود الشهادة لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة) أي: حينما تقول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) فإن الله يُشهِد الحيوان والجامد على شهادتك تلك، وتكون خيراً للعبد بين يدي الله عز وجل.
والإقامة: مصدر: أقام الشيء يقيمه، وإقامة الشيء المراد بها أن يؤدِّيه الإنسان على وجهه المعتبر، ولذلك أمر الله بإقام الصلاة، بمعنى أن يُؤديها المكلف على أتم وجوهها وأكمل صفاتها.
والإقامة المراد بها:
الإعلام بالقيام إلى الصلاة بلفظٍ مخصوص، وهو اللفظ الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة كما سيأتي إن شاء الله بيانه في موضعه.
فكأن المصنف رحمه الله يقول:
في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بالأذان والإقامة، ومناسبة هذا الباب لما قبله أنه بعد أن فرغ من بيان حكم الصلاة شَرَع في بيان مشروعية الأذان، والسبب في هذا أن الفقهاء رحمهم الله، يبتدئون في كتاب الصلاة ببيان حكم الشرع في الصلاة، وعلى من تجب، ومن المخاطب بها.فبعد أن بين لك من الذي يخاطب بالصلاة، ومن الذي يؤمر بها، ومتى يؤمر، شرع في بيان ما ينبغي أن يكون قبل الصلاة من النداء لها، والإعلام بدخول وقتها،
فقال رحمه الله:
(باب الأذان والإقامة).
[حكم الأذان والإقامة، ومن تلزمان ومحلهما من الصلاة]
قال رحمه الله تعالى:
[هما فرضا كفاية] قوله: (هما): أي: الأذان والإقامة فرض كفاية.فأول ما يعتني به الفقهاء -رحمهم الله- في الأبواب الفقهية أن يبينوا موقف الشارع من هذه العبادة،
فيقولون:
هل هذا الشيء شرعه الله أو لم يشرعه؟ ثم إذا شرعه فهل شرعه على سيبل اللزوم، أو على سبيل الاختيار، أو على سبيل الندب والاستحباب؟ وحكم الأذان والإقامة مسألة خلافية بين العلماء،
قال بعضهم:
الأذان واجب والإقامة واجبة، وهذا القول قال به فقهاء الظاهرية رحمة الله عليهم.
والقول الثاني يقول: الأذان والإقامة فرض كفايةٍ إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وهذا مذهب الحنابلة ويميل إليه بعض الحنفية وبعض الشافعية رحمة الله على الجميع.والقول الثالث -وينسب للجمهور- أن الأذان والإقامة كل منهما سنةٌ مؤكدة.وهناك قول رابع لبعض السلف وهو وجوب الأذان دون الإقامة.وقول خامس وهو وجوب الإقامة دون الأذان.وأقوى هذه الأقوال وأولاها بالصواب -والعلم عند الله- الوجوب، والدليل على ذلك أحاديث،
منها: حديث مالك بن الحويرث، وهو حديث صحيح، وكان مالك بن الحويرث قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة الوفود، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، ومكث عنده سبع عشرة ليلة، أو تسع عشرة ليلة،
قال رضي الله عنه وأرضاه:
(أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبيبة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلينا فسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقاً فقال:
ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكبركم)
وفي رواية: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وصلوا كما تروني أصلي).
فالشاهد في قوله: (إذا حضرت الصلاة فأذِّنا وليؤمكما أكبركم)، ووجه الدلالة أنه أمر، والأصل في الأمر أنه يدل على الوجوب حتى يقوم الدليل على ما دونه،
ولذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أمر إلزام، وبناءً على هذا نبقى على هذا الأصل الذي دل عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول بوجوب الأذان.
وأكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام:
(إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت).
وأما الفرق بين قولنا: إنه واجب وقولنا: إنه فرض كفاية فهو أن القول بالوجوب يجعل كل جماعة يلزمها التأذين إلا في المساجد العامة، وأما على القول بالفرضية على الكفاية فيسقط هذا الوجوب عند قيام بعض المصلين بهذا المأمور به، فهذا الفرق بين القول بالوجوب والقول بالكفاية، والقول بالوجوب أقوى لما ذكرناه من دلالة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.وفرض الكفاية عند العلماء رحمة الله عليهم معناه أنه إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، كأن يقصد الشرع وجود هذا الشيء ولو من بعض الناس، كصلاة الجنازة، فإذا صلى على الجنازة من تحصل به الكفاية سقط الإثم عن الباقين، وكذا تغسيل الميت وتكفينه، وتعليم العلم، وغيره من الأمور التي تعتبر من أصول الشرع ولا تصل إلى حظ فرض العين، فتُعتبر من فروض الكفايات، فإذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين.
قال رحمه الله تعالى: [على الرجال المقيمين].بعد أن بيَّن أن الأذان والإقامة كلٌ منهما فرض كفاية، يردq من الذي يُفرض عليه الأذان، وتُفرض عليه الإقامة؟
فقال رحمه الله: (على الرجال).فأخرج النساء، والنساء لا يجب عليهن أذان ولا إقامة، ولا تجب عليهن جمعة ولا جماعة، فإذا سقطت الجماعة سقط الأذان والنداء الموجب للجماعة.وأما لو أن نساءً اجتمعن وأراد رجلٌ أن يؤذن لجماعة النساء، ويصلي النساء جماعة فلا حرج، والدليل على ذلك حديث أم ورقة الثابت في سنن أبي داود، وكانت امرأة صالحة من نساء الأنصار رضي الله عنها وأرضاها، وهذه المرأة الصالحة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته أن يدعو الله أن تكون شهيدة، فبشَّرها بالشهادة، فشاء الله عز وجل أنها مكثت إلى خلافة عثمان فأتاها عبدان كانا عندها، فمكرا بها وغطاها بقطيفةٍ حتى ماتت، فصدقت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تسمى أم ورقة الشهيدة، وتوصف بهذا الاسم قبل وفاتها رضي الله عنها وأرضاها.فهذه المرأة الصالحة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته أن تقيم الجماعة لأهل دارها،
قال الراوي:
فأذِن لها أن يؤذَّن لها وأن تصلي بهم.قال: فلقد رأيت مؤذنها قد سقط حاجباه من الكبر
-أي: رجلٌ كبير كان يؤذِّن لها، فتجمع النساء وتصلي بهن في بيتها.
فدل هذا الحديث على مسائل: منها: أولاً: مشروعية الأذان لجماعة النساء، لكن من الرجال لا من النساء.
ثانياً:
مشروعية الجماعة للنساء، أي أن تصلي النساء جماعة، وهو قول الحنابلة والشافعية، خلافاً للمالكية والحنفية رحمة الله على الجميع، حيث دلّ هذا على مشروعية الجماعة للنساء، ومَنَع منه من ذكرنا، والصحيح مشروعيته على ظاهر هذه السنة.
ويؤخذ من مفهوم قول المصنف: (على الرجال) أن النساء لا يلزمهن الأذان، لكن لو أذن رجلٌ للنساء صح ذلك.وهل تؤذن المرأة؟a لا؛ لأن صوت المرأة عورة، وهذا أمر قد يُدرك دليله بالشرع، وقد يُدرك بالحس، فقد أُمِرَ النساء أن لا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، فدل على وجود الفتنة في صوت المرأة، وأيضاً دليل الحس، فإن من الرجال من يتأثر بسماع صوت المرأة ولو لم تخضع بالقول، ولا مكابرة في دليل الحس، وقد يُستند حكم الشرع إلى دليل الحس إذا وجدت مفسدة يَنهى عنها الشرع، فالنساء لا يؤذِّنّ، ولا يُشرع لهن أذان بناءً على ما يكون من المفسدة المترتبة على ندائهن، ولأن النداء إنما شرع للجماعة ولا جماعة تلزمهن.
وقوله: (المقيمين) مفهوم ذلك أنهم إذا كانوا في سفر فلا يجب عليهم الأذان، ولذلك رتبوا الفرضية على الأمصار دون حالة الأسفار،
فقالوا:
إذا سافر القوم لا يلزمهم أن يؤذنوا، وما ذكرناه من ظاهر النصوص يدل على أن الإنسان يؤذن ولو نزل في برية، وذلك أن مالك بن الحويرث وصاحبه أمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤِّذنا،
فقال:
(إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما)، وهذا إنما يكون في السفر؛
لأنه لو كان المراد قدومهم على قومهم لقال لهم عليه الصلاة والسلام:
إذا حضرت الصلاة فأذنوا بأهليكم.
ولكن قال: (فليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبر كما)، فدل على أنهما في السفر، وهذا يؤكِّد على أن الوجوب على الإطلاق سواءٌ في السفر أم الحضر.
قال رحمه الله تعالى:
[للصلوات الخمس المكتوبة].
قوله: (للصلوات) اللام للاختصاص، أي أن الوجوب واللزوم والفرضية على الرجال المقيمين مختصة بالصلوات،
فخصَّص المصنف رحمه الله الحكم بفرضية الكفاية على المكلَّفين فقال: (على الرجال المقيمين)،
وخصه بالصلوات فقال:
(للصلوات الخمس المكتوبة).وهذا هو الأصل المعروف، فالنداء بالأذان يختص بالصلوات الخمس، وهي التي يُشرع التجمع لها،
وأما ما عداها من الصلوات فقد يُشرع النداء لها بلفظ مخصوص كقولهم: (الصلاة جامعة) في صلاة الخسوف ونحوها، وقد لا يشرع لها لا أذان ولا إقامة، كصلاة العيدين، فإن صلاة العيدين لا يشرع أن يؤذن ولا أن يُقام لهما.
قال رحمه الله تعالى: [يقاتل أهل بلد تركوهما] أي: يُقاتل أهل بلدٍ تركوا الأذان والإقامة؛ لأن الأذان شعيرة من شعائر الإسلام،
ولذلك قال بعض العلماء:
يُحكم على البلد بالإسلام إذا وُجِد فيه الأذان، وهذا يسمونه الحكم بالظاهر،
والدليل على أنه من شعائر الإسلام وأن البلد الذي يُقام فيه الأذان لا يُقَاتل أهله ما ثبت في الحديث الصحيح:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم).
وكما جاء في حديث أنس في الموطأ:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على أهل خيبر، وكان ذلك عند الفجر، انتظر عليه الصلاة والسلام إلى وقت الصلاة،
وصبّح يهود وهم خارجون إلى الحرث والزراعة فصاحوا:
محمدٌ والخميس.
محمدٌ والخميس
-أي: محمدٌ والجيش،
والخميس:
هو الجيش، فأصابهم الرعب
- فقال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).، فقاتلهم صلوات الله وسلامه عليه.والشاهد أن من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا حضر وقت الصلاة انتظر، فإذا سمع النداء كف، وإن لم يسمعه قاتل أهل البلد.
[حكم أخذ الأجرة على الأذان]
قال رحمه الله تعالى:
[وتحرم أجرتهما] أي: تحرم أُجرة الأذان والإقامة،
وللعلماء في هذه المسألة قولان:
قال بعض أهل العلم: لا يجوز للمؤذن أن يأخذ أُجرة على الأذان أو الإقامة، واستدلوا بحديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى الطائف أميراً على الطائف،
قال: فكان آخر ما أوصاني به أن قال لي: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)، وكذا استدلوا بهدي السلف الصالح رحمةُ الله عليهم،
فإن ابن عمر رضي الله عنه لما قال له المؤذن:
إني أحبك في الله.
قال له أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر:
وإني أبغضك في الله.قال: ولم؟
قال: إنك تأخذ على أذانك أجراً.فهذه أدلة من قال بعدم جواز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة.وأما الذين قالوا بجواز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة فاستدلوا بما جاء في حديث أبي محذورة -وهو حديث حسن بمجموع طرقه
- وفيه أنه قال: (ألقَى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفاظ الأذان ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة).ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم كافأه على الأذان، فدل على مشروعية أخذ الأجرة على الأذان.والقول بالتحريم قول الحنفية والحنابلة، والقول بالجواز قول المالكية والشافعية، وأصح هذين القولين -والعلم عند الله
- التفصيل: فإذا كانت الأجرة من بيت مال المسلمين فإنه لا حرج؛ لأن أبا محذورة أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت مال المسلمين، وأما نهيه عليه الصلاة والسلام لـ عثمان، فالمراد به أن يستشرف الإنسان،
كأن يقول: أنا لا أؤذن حتى تعطوني الأجرة، فأصبح أذانه للمال لا لله، وهكذا الإمامة، فلو كان الإمام يأخذ من بيت مال المسلمين فلا حرج ولا حرمة عليه،
ولكن إذا قال: أنا لا أصلي ولا أؤم حتى تعطوني الأجرة فهذا هو المحرم،
ولذلك لما سئل الإمام أحمد رحمة الله عليه عن رجل يقول لقومه: لا أصلي بكم صلاة التراويح حتى تعطوني كذا وكذا.قال: أعوذ بالله.مَن يصلي وراء هذا؟!
أي:
من يصلي وراء إنسانٍ يستشرف لأجر الدنيا دون أجر الآخرة؟! نسأل الله السلامة والعافية.فأصح القولين -والعلم عند الله- أن نجمع بين النصوص،
فنحمل حديث عثمان بن أبي العاص: (اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)، على مَن يطلب،
وأما حديث:
(أعطاني صرة فيها شيء من فضة)؛ فإن أبا محذورة أذن، فلما أذن وفرغ أعطاه، فكان أشبه ما يكون بالرضخ، والرضخ والعطايا من بيت مال المسلمين، وهذا هو أنسب الأوجه.
قال رحمه الله تعالى: [لا رزق من بيت المال لِعَدَمِ متطوع] استثنى المصنف رحمه الله الأجرة إذا كانت من بيت المال، وهو الذي ذكرناه،
ولكنه اشترط أيضاً وقال:
(لعدم متطوع)، فهناك شيء يسمى المذهب، وهناك شيء يسمى الفتوى المختلفة باختلاف العصر والزمان، فأما المذهب فحرمة الأجرة، وأما الفتوى بالجواز لاختلاف الزمان والمكان فهي مقيدة بالحاجة، ولهذا أمثلة،
فهم في الأصل يقولون:
يحرم أن يأخذ الأجرة، لكن لما قل المحتسبون، وقل من يوجد من يقوم بالأذان حسبة لخفة الدين عند كثير من الناس، خاصة في آخر الزمان -نسأل الله السلامة والعافية
- قالوا: يجوز؛ لأننا لو لم نقل بهذا ما وجدنا أحداً يُقيم للناس أذاناً، ولذلك وجود المصالح العظيمة على إعطاء الأجرة بمثل هذا تخفف معها مفسدة ارتكاب المحظور باتخاذ المؤذن الذي يأخذ على أذانه الأجر.ومن هذا أيضاً أنك تجد فقهاء الحنفية والحنابلة يقولون بعدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لما ثبت في الحديث الصحيح أن أبياً حينما أهدى له الأنصاري قوساً وكان يعلمه القرآن،
فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام: (إن أردت أن يقلدك الله قوساً من نارٍ فخذها)،
فقالوا:
هذا يدل على التحريم، فمنع فقهاء الحنفية والحنابلة أخذ الأجرة على تعليم القرآن،
قالوا:
ولما فسد الزمان وخُشي على القرآن أن لا يُحفظ، وأن أبناء المسلمين سيضيعون القرآن، ولا يجدون من يحفظهم أفتوا بالجواز في العصور المتاخرة،
وهذا يسمونه: (الاختلاف بالزمان لا بالحجة والبرهان)، فتجد صاحب القول المخالف يعدل عن قوله إلى قول من خالفه لا بأصل المسألة وهي الحجة والبرهان، ولكن باختلاف الزمان لوجود المفاسد، ولها نظائر في الفقه، وهذه المسألة معروفة؛ لكنها مقيدة بضوابط، وتحتاج إلى أصلٍ يُبنى عليه هذا،
كما ذكرنا أنهم قالوا:
إننا لو تركنا المساجد وليس لها مؤذنون يحفظون الأذان في الأوقات المعتبرة لضاع على الناس صيامهم، وضاعت عليهم صلاتهم،
ولذلك قالوا:
نُفتي بالجواز لعظيم المفسدة المترتبة على القول بالتحريم.
ويُلاحظ قوله:
(لا زرق من بيت المال)،
أي:
فإن لم يوجد المحتسب،
فكأن المصنف يقول:
نُجيز للمؤذن أن يأخذ الأجرة من بيت المال بشرط عدم وجود المحتسب، أما لو وُجد المحتسب فإنه لا يجوز أخذ الأجرة؛
لأن القاعدة في الفقه تقول:
(ما شرع لحاجة يبطل بزوالها)، فلما كان حكمهم بجواز الرَّزق من بيت المال مبنياً على وجود الحاجة، وهي عدم وجود المحتسب بطل بزوالها إذا وجد.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #53  
قديم 19-08-2020, 01:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (52)

صـــــ(6) إلى صــ(5)

صفات المؤذن
أن يكون صيتاً
قال رحمه الله تعالى:
[ويكون المؤذن صيتا أمينا].
بعد أن فرغ رحمه الله من حكم الأذان، والذي يؤذن وهو المحتسب، وأن لا يكون صاحب أجرة شرع رحمه الله في الأوصاف التي ينبغي توفرها في المؤذن.
فقال رحمه الله: (ويكون المؤذن صيتاً أميناً).
قوله: (صيتاً) أي: قوي الصوت؛ لأن المقصود من الأذان الإعلام،
والقاعدة في الشريعة:
(الولايات العامة والخاصة يرشح لها المكلفون بحسب وجود مصالح الولاية).فإذا كانت الولاية تعليم الناس فإنه يرشح لها العالِم الفطن، وإذا كانت قضاءً يُرشح لها العالم -لأن القضاء يحتاج إلى علم- الحازم الذكي الذي يعرف ملابسات القضايا وكذب الخصوم وغشهم وتدليسهم، الداهية الذي يعرف الأمور بدلائلها، أو يتفرس في الخصمين بأقوالهما.فقد قرر العلماء رحمة الله عليهم، ومنهم الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية، وكذا شيخ الإسلام في غير ما موضع من المجموع أن كل ولاية شرعية يُنظر فيها إلى الصفات التي يتحقق بها مقصود الشرع،
فلما كان المقصود من الأذان شرعاً إعلام الناس وحصول الإعلام قال المصنف:
(ويكون المؤذن صيتاً)، فابتدأ بالصوت؛ لأنه هو المعول في إعلام الناس،
فلم يقل:
ذا صوت وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أي أنه أرفع صوتاً من غيره، والشخص يكون ذا صوت على أحوال، فأعلاها وأسماها وأسناها رفعة الصوت مع النداوة والطراوة، وهو الذي يسمونه ندي الصوت؛ فإنه قد يكون صوته عالياً لكنه مؤذٍ، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، فإن كان صيتاً، مؤذياً بصوته فيُعدل عنه إلى من هو أندى صوتاً ولو كان أضعف صوتاً منه.والسبب في هذا أن المؤذن يؤذِّن والناس في ضجعتهم وفي نومهم وفي راحتهم، فإن كان مزعج الصوت آذاهم بهذا الأذان، وربما أزعج الضعفاء من الأطفال والصبية، فحينما يكون ندي الصوت يكون ذلك أدعى لذهاب هذه المفسدة، ويدل على هذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم،
فإن عمر لما أُرِي الأذان قال له عليه الصلاة والسلام:
(فألق على بلال ما رأيت فليؤذن فإنه أندى صوتاً)،
أي:
ألق ألفاظ الأذان على بلال، (فإنه أندى صوتاً)، والجملة تعليلية،
أي:
أمرتك بهذا لعلةٍ وهي كونه أندى صوتاً.فطراوة الصوت ونداوته مطلوبةٌ في الأذان؛ لأنه أرفق بالناس، خاصةً في أذان الفجر والعصر،
فلذلك قالوا:
يُشرع أن يكون صيتاً وفي صوته نداوة.
وننبه على أمور: فلو كان المؤذن صوته ضعيفاً فوَّت مقصود الشرع؛ لأنه بضعف صوته لا يبلغ أذانه المبلغ، ولذلك ينبغي أن يعدل إلى من هو أقوى منه صوتاً، وقد يكون صوته رقيقاً مبالغاً في النداوة حتى يصل إلى رقة النساء، فيصرف عنه الأذان إلى غيره إجلالاً لهذا المنصب ورعايةً له؛ لأن الناس تجل هذه المناصب الشرعية بحسب أشخاصها، فإذا وضع في الأذان من هو أهل عظم الناس الأذان، والعكس بالعكس، ولذلك ينبغي أن يكون صوته بعيداً عن طراوة النساء ونداوتهن، وكذا بعيداً عن الخشونة المؤذية.
أن يكون أميناً
قوله:
[أميناً].مأخوذ من الأمانة وهي الحفظ.
والدليل على اشتراط أن يكون المؤذن أميناً ما ثبت في حديث أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)،
فقوله:
(المؤذن مؤتمن) خبرٌ بمعنى الإنشاء،
أي:
ينبغي أن يكون المؤذن أميناً.قال العلماء: وصف النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن بكونه أميناً لأمور،
منها: أنه يؤتمن على ركن من أركان الإسلام وهو الصلاة، وهو أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فإن المؤذن مؤتمن على دخول الوقت، فينبغي أن يكون أميناً حتى لا يغش ولا يكذب في أذانه، فإذا كان متساهلاً أو فاسقاً غير عدلٍ فإنك لا تأمن منه أن يبتدر بالأذان قبل الوقت فيفوت على الناس صلاتهم.كذلك المؤذن مؤتمن على ركنٍ ثانٍ وهو الصوم؛ لأن تأذينه في الفجر إعلامٌ بدخول وقت الإمساك، وتأذينه في المغرب إعلام بانتهاء الصيام، فلو كان إنساناً لا أمانة عنده، أو يتساهل ولا يحفظ هذا الأمر العظيم فإن ذلك يؤدي إلى ضياع صيام الناس، وهذا هو الواقع والحال، فإنك إذا وجدت المؤذن لا يتقي الله عز وجل فإنه يضيع على الناس صيامهم، فتجده يقوم في صلاة الفجر متأخراً، ويؤذن بعد دخول الوقت بوقت، ولربما أمسك على أذانه الناسُ، فيضيِّع عليهم صيامهم، ويحمل بين يدي الله وزرهم؛ لأن الناس تأتمنه، ولذلك في يوم الإثنين والخميس الواجب أن يكون أذانه عند أول بزوغ الفجر حتى يحفظ للناس صيامهم، وكذا في الأيام البيض، وينبغي أن يُنصح المؤذنون بهذا، وأن يُنبه ويُؤكد عليهم،
بل قال بعض العلماء:
الأصل في أذان الفجر أن يكون عند أول الوقت.كل ذلك حفظاً لفريضة الصيام؛ لأنه قد تكون هناك امرأةٌ تريد أن تقضي صيامها، وقد يكون هناك رجل يريد أن يقضي صيامه، فليس له من أمارة أو دليل أو علامة إلا أذان المؤذن، بل لو وُجِدت عنده الساعة فقد لا يعرف متى يكون الإمساك، فلذلك يبني على أذان المؤذن، فاشتراط المصنف رحمه الله للأمانة مبني على السنة،
ولما ذكرناه من كون المؤذن مؤتمناً على ركنين من أركان الإسلام:
الصلاة والصيام.
قال بعض العلماء:
اشتُرِطت الأمانة أيضاً في المؤذن لأنهم كانوا في القديم يؤذنون على ظهور المساجد، وربما بنوا المنائر فكان المؤذن يؤذن على المنارة،
ولذلك قال بعض أئمة السلف لأحد المؤذنين:
(يا بني: إنك ترقى على المسجد، فإذا رقيته فاتق الله في بصرك)؛ لأنه سيرقى على السطح فلربما اطلع على عورات المسلمين، ولربما رأى أموراً من عورات المسلمين،
فقال له:
احفظ بصرك.
فقالوا: هذا من الأمانة،
ولذلك قالوا:
ينبغي أن لا يُختار لهذا الأمر إلا من كان معروفاً بالعدالة والاستقامة، ولذلك اختلفوا في أذان الفاسق وصحته واعتباره.
أن يكون عالماً بالوقت
قال رحمه الله:
[عالماً بالوقت].ذلك لأن كل ولاية -كما قلنا- يشترط لها ما يحقق مقصودها، فلما كان الأذان إعلاماً بالوقت وجَب أن يكون المؤذن عالماً بالوقت، فيعرف وقت الزوال، ويعرف دلائل غروب الشمس، ويعرف متى يصير ظل كل شيء مثله، ومتى يصير ظل كل شيءٍ مثليه، وكيف يضبط ذلك، ويعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، حتى يكون ضابطاً لوقت الفجر، وقس على هذا بقية أوقات الصلاة.
[تقديم الفاضل على المفضول في الأذان]
قال رحمه الله تعالى: [فإن تشاحَّ فيه اثنان قدم أفضلهما فيه].بعد أن بين لك من الذي يؤذن،
وما هي الأوصاف التي ينبغي أن تكون في المؤذن قال:
(فإن تشاحَّ فيه اثنان قدم أفضلهما)، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يذكرون الأوصاف المعتبرة للشيء،
ثم يذكرون ازدحام الناس فيه كأن يقولوا:
من صفة القاضي كذا وكذا، فإن تشاح في ذلك اثنان كل منهما أهل للقضاء (قُدِّم أفضلهما)،
والفضل في اللغة:
الزيادة،
والمراد به في الشرع: الزيادة في الطاعة والخير، ويُعرف فضل الإنسان باستمساكه بالأصل،
أي:
حفظه للواجبات وبعده عن المحرمات، فإذا حصلت منه المحافظة على فرائض الله، والتقوى عن محارم الله عز وجل كان له أصل الفضل، فإذا أرادت أن تصفه بزيادة الفضل وصفته بالمحافظة على الطاعات.فكذلك الأذان إن تشاحَّ فيه اثنان قُدِّم أفضلهما، فلو حفظ عن أحدهما أنه محافظ على التبكير للمسجد والثاني يتأخر قُدِّم الذي يبكر.ولو عُرِف أن أحدهما طالب علم والثاني مؤذن يعرف الأوقات وفيه أوصاف المؤذن، لكنه ليس بطالب علم، ولا يحرص على طلب العلم، يقدم طالب العلم؛ لأن طلب العلم زيادة فضلٍ ونبل في الإنسان تؤهله لشرف المرتبة، فيُقَدَّم على من هو دونه، ولا يُقدَّم من هو دونه عليه.وكذلك يكون الفضل بالمحافظة على الطاعات، كأن يُعرف أحدهما بصيام النوافل كصيام الإثنين والخميس، والثاني لا يصوم، فيقدم الذي يصوم على الذي لا يصوم، ويُنظر إلى الأوصاف الشرعية التي تدل على زيادة الخير في أحدهما؛ لأنهما إذا استويا في الأوصاف المعتبرة رُشِّح أحدهما على الآخر بزيادة الخير، فإن زيادة الخير تزيد في قدر الإنسان؛ والعكس بالعكس،
كما قال الله تعالى:
{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام:124]، فدل على أن أهل المعاصي في صغار.ومفهوم الآية أنه إذا كان أهل المعاصي يصيبهم الصغار، فأهل الطاعة يصيبهم العلو والفضل،
كما قال تعالى:
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].
قال رحمه الله تعالى:
[ثم أفضلهما في دينه وعقله].
أي: أفضلهما من ناحية السمت والوقار، وأفضلهما من جهة الدين.فلو كانا طالبي علم، حافظين لكتاب الله، وكل واحد منهما محافظ على طاعته، وكلاهما على مرتبة واحدة في الدين، ولا يستطاع اختيار أحدهما ينظر إلى العقل، فإن من الناس من علمه أَكبر من عقله، ومنهم من عقله أكبر من علمه، ومنهم من علمه وعقله على كبر، فقد تجد العالم لكنه لا يتعقَّل في الأمور، ومنهم من عنده عقل وليس عنده علم، فتجد عقله أكبر من علمه، فإذا نزلت به النوازل، أو أحاطت به الكروب أحسن إدارتها، وأحسن التخلص منها، ومنهم من جمع الله له بين العقل والعلم، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.ولذلك قالوا: من جُمِع له بين العقل والدين فقد أعطي النورين،
كما قال تعالى:
{نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35].فالعقل نورٌ داخلي، والوحي نور خارجي، والإنسان يرى بنور داخلي ونور خارجي، فإذا كان الاثنان من ناحية الدين على مرتبة واحدة، ولكن أحدهما أعقل يتريث في الأمور ولا يتعجل، ويُعرف بسداد رأيه وصواب رشده، وأنه إنسان لا تستجره العواطف قُدّم؛ لأن العقل زيادة فضل، ويدل على حب الله للعبد، فإذا كمل عقله مع دينه فهذا نعمة من الله عز وجل تدل على إرادته الخير بهذا العبد، فيُقدَّم العاقل.
قال رحمه الله تعالى:
[ثم من يختاره الجيران].إذا كان كلاهما على دين وعقل، ولا تستطيع أن تفضل أحدهما من جهة الدين ولا من جهة العقل، فتقدم من يختاره الجيران؛ لأن الإنسان إذا كان محبوباً بين الناس في علمه أو أذانه أو ولايته الشرعية كان أدعى لقبول ذلك منه، فإذا كان الناس يحبونه ويختارونه ويرتاحون له، فهذه تزكية له،
فلو قالوا:
نحب فلاناً،
فهذه تزكية خير كما في الحديث:
(يا رسول الله! كيف أعلم أني محسن؟
قال:
سل جيرانك،
فإن قالوا:
إنك محسن فأنت محسن،
وإن قالوا:
إنك مسيء فأنت مسيء)
.فالناس شهداء لله عز وجل في الأرض كما ثبت في حديث عمر في الصحيح،
فإذا قال الجيران:
نحب فلاناً ورشحوه قُدم، وتكون هذا تزكية زائدة على فضله ودينه وعقله.
قال رحمه الله تعالى:
[ثم قرعة].وهذا فعله بعض السلف من الصحابة رضوان الله عليهم، كما حكى بعض أهل العلم أن سعد بن أبي وقاص لما فتح إيوان كسرى تشاحّ الناس في الأذان كلٌ منهم يريد أن يؤذن، فأقرع بينهم سعد رضي الله عنهم وأرضاهم، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا محبين للخير، فكادوا أن يقتتلوا؛ إذ كلٌ منهم يريد أن يؤذن في ذلك المكان الذي أعز الله فيه الإسلام، فأحيا فيه الحنيفية وطمس فيه معالم الجاهلية، فتشاحّ الناس حتى كادوا أن يقتتلوا، فهدأهم سعد، ثم أقرع بينهم وأعطى الأذان لمن خرجت له القرعة.والقرعة حلٌ شرعي يصار إليه عند تعذر الترشيح، فلو اجتمعت الأوصاف في الأشخاص لإمامة أو قضاء أو فتوى أو تعليم، واستووا في الفضل والصفات الشرعية يُقرع بينهم.قالوا: والأصل في القرعة أنها اختيار من الله عز وجل، فلو كانوا كلُّهم في مرتبة واحدة وأُقرِع بينهم، فكأن الله اختار هذا الشخص؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى شاء أن يكون هذا الشخص دون غيره، مع أنهم كلهم في الفضل على سواء، فلا يضرنا أن تخرج القرعة على واحد منهم.
ثم قالوا أيضاً: إن القرعة ثبت اعتبارها في أصل الشرع، كما في قصة يونس بن متى {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] فهو لما كان في الفلك مع القوم، ولم تكن نجاتهم إلا بإلقاء واحدٍ منهم، فاقترعوا فخرجت على يونس من الله سبحانه وتعالى ابتلاءً ليونس، فدل على أن الله يختار، فوقع الخيار على يونس بالقرعة، ولذلك اعتبر العلماء القرعة من وسائل الإثبات في بعض المسائل، خاصة عند الازدحام، قد فعلها بعض السلف في الأذان فيُعتبر هذا أصلاً للفقهاء في التقديم بالقرعة، والقرعة تكون بوضع أوراق فيها أسماء هؤلاء المرشحين، ثم يختار الإمام أو يختار واحد من الحي ورقةً منها، فيخرج فيها اسم واحد منهم، فيقدم دون من شاحَّه من بقية المؤذنين.
شرح زاد المستقنع - باب الأذان والإقامة [2]
لقد وردت ألفاظ الأذان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يزاد عليها أو ينقص منها أبداً، وهي خمس عشرة جملة، ويستحب أن يكون المؤذن متطهراً مستقبل القبلة، وأن يلتفت عند الحيعلتين،
وأن يقول في أذان الصبح:
(الصلاة خير من النوم).والفاظ الإقامة إحدى عشرة جملة، ويستحب أن يقيم من المكان الذي أذن فيه، وللأذان شروط لابد على المؤذن أن يعلمها، ويسن متابعة المؤذن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة له بعد الأذان.
[ألفاظ الأذان وأقوال أهل العلم فيها]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،
سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين:
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وهو خمس عشرة جملة] أي: الأذان خمس عشرة جملة.
قال رحمه الله تعالى:
[يرتلها على علو] هذا أحد أقوال العلماء رحمة الله عليهم، وألفاظ الأذان فيها أقوال لأهل العلم،
فمن العلماء من قال: الأذان أن يثنِّي التكبير ويربع الشهادتين، ويثني ما بعده إلا التهليل الذي هو الخاتمة فيفرد، وهذا القول هو قول فقهاء أهل المدينة رحمة الله عليهم، وعليه درج إمام دار الهجرة مالك بن أنس عليه رحمة الله، واختار أصحابه المتأخرون الترجيع في الأذان،
والترجيع صفته أنه بعد أن يقول:
(أشهد أن لا إله إلا الله) يرجع ويقول بصوت خافت: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فيذكر الشهادتين سراً ثم يرجع إليهما جهراً، وهذا يسمى الترجيع.
فهذا القول الأول في المسألة، وله أصل من حديث أبي محذورة (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان بمكة فرجّع في أذانه) أي: أمره أن يقول الشهادة سراً يُسمع نفسه، ثم يرجع ويُعلي بها صوته، وهذا هو الذي يسميه العلماء الترجيع في الأذان.
القول الثاني: يربع التكبير الذي في أول الأذان، ويربع الشهادتين، ويثنى ما بعد ويفرد التهليل، وهذا مذهب أهل مكة من السلف رحمة الله عليهم، وبه قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، ويرى أنه يرجِّع في الأذان، والفرق بين الأول والثاني، أن القول الأول يثني في التكبير،
فيبدأ المالكي ويقول:
الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله (بصوت منخفض) ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله (بصوت مرتفع) إلى آخره.
القول الثاني: يربع في التكبير (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر)، ثم يرجِّع في الشهادتين، فيجمع بين التربيع للأول وللشهادتين.ولهذا القول أيضاً أصل من أذان أبي محذورة في مكة مثل ما ذكره المالكية، وهي رواية المالكية لكن فيه زيادة تكلم عليها بعض العلماء كما أشار إليها الحافظ ابن عبد البر رحمة الله عليه.
القول الثالث:
أنه يربِّع في التكبير، ويثني في كل شهادة ولا يرجِّع، على الأذان المعروف الموجود، وهذا قال به أهل الكوفة، وهو مذهب الحنفية والحنابلة رحمة الله على الجميع، وهو أذان بلال رضي الله عنه، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية.وهناك قول رابع لبعض السلف تختلف صورته يرى أنه يربع التبكير،
ثم يثني الشهادتين حتى يبلغ:
(حي على الصلاة، حي على الفلاح)، فإذا انتهى من الحيعلتين رجع ثانيةً إلى الشهادتين، وهو قول الحسن البصري ومحمد بن سيرين من أئمة السلف، وفيه حديث ضعيف تكلَّم عليه العلماء، وأشار إلى ضعفه الحافظ ابن عبد البر رحمة الله عليه.والذي يظهر والله أعلم أنه لا معارضة بين القول الأول والثاني والثالث، فلا حرج أن تؤذن بأذان الترجيع، ولا حرج أن تؤذن بأذان لا ترجيع فيه، فأذان الترجيع الذي لقَّنه النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة، والذي اعتمده العلماء نوع، وأذان بلال وعبد الله بن زيد هو الأصل،
ولذلك بعض العلماء يقولون:
أذان أبي محذورة ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم على أبي محذورة في مكة حينما فُتِحت، فيحتمل لقرب أبي محذورة من الجاهلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتشهد حتى لا يسبق لسانه إلى ما اعتاده في الجاهلية.وهذا الجواب ضعيف، والأفضل والأولى كما اختاره بعض المحققين وأشار إليه شيخ الإسلام في القواعد النورانية، وارتضاه الحافظ ابن عبد البر.أنه اختلاف تنوع، وليس باختلاف تضاد، فهذا نوعٌ من الأذان، وهذا نوعٌ من الأذان، ولا حرج أن تؤذن بهذا أو ذاك، ولا إنكار على من أذن بالترجيع، ولا إنكار على من أذن بغير ترجيع، وكلٌ على سنة وخير.
[حكم التطهر واستقبال القبلة للمؤذن]
قال رحمه الله تعالى: [متطهراً مستقبل القبلة] قوله: (متطهراً) هذا على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض،
وقوله:
(مستقبل القبلة)؛ لأن هذا هو المحفوظ من أذان بلال رضي الله عنه، ولم يحفظ أنه كان مستدبر القبلة أو منحرفاً عن القبلة، ولذلك يبقى هذا على الأصل، ولأنها أشرف الجهات في الطاعات.
قال رحمه الله تعالى:
[جاعلاً إصبعيه في أذنيه] لأنه أبلغ في قوة الصوت، وجاء فيه الحديث.
[حكم الاستدارة والالتفات في الحيعلتين]
قال رحمه الله تعالى:
[غير مستدير ملتفتا في الحيعلة يميناً وشمالاً].
أي: أنه لا يستدير بجذعه، ولكن يحرف وجهه يمنةً ويسرةً ولا حرج في ذلك، والدليل على أنه في الحيعلتين يلتفت يميناً وشمالاً ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه،
قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم،
فخرج بلال بوضوئه فمن نائل وناضح قال:
وأذن بلال فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يقول يميناً وشمالاً حي على الصلاة حي على الفلاح)
.وفي هذا الالتفات وجوه،
قال بعض العلماء:
يلتفت عند بداية الحيعلة، ويختم الالتفات عند ختم الحيعلة يمنةً،
مثال ذلك:
أن يقول: (حي على الصلآة)، فينتهي من آخر اللفظ عند بلوغ كتفه ملتفتاً.فهذا وجه.
والوجه الثاني: أن يقول: (حي على الصلاة) ويرجع إلى الاستقامة.والفرق يين القول الأول والثاني زيادة الثاني بالرجوع إلى القبلة عند انتهاء الحيعلة.
وأما في الالتفات فقال بعض العلماء: ينادي (حي على الصلاة) يميناً (حي على الصلاة) شمالاً، (حي على الفلاح) يميناً، (حي على الفلاح) شمالاً.وهذا اختيار بعض العلماء رحمة الله عليهم، وهناك قول ثانٍ أنه يحيعل على الصلاة يميناً، وعلى الفلاح شمالاً، وكلٌ منهما له وجه؛ لأن الحديث أطلق، وكلٌ على سنة سواءً، أفعل هذا أم هذا، ولكن الأقوى أن يجمع بين الاثنين؛ لأن المراد الإعلان.وشرع الالتفات مع الحيعلة ولو وجد المكبر؛ لأنها عبادة، والعبادة توقيفية لا يُنظر إلى إسقاطها عند اختلال المعنى، فلا يستطيع الإنسان أن يجزم أن المراد بذلك علة معينة، فيبقى على الأصل من كونه عبادة، فإذا كانت عبادة استوى في ذلك وجود مكبر الصوت وعدم وجود مكبر الصوت، فيلتفت على كل حال.
قال رحمه الله تعالى:
[قائلاً بعدهما في أذان الصبح: (الصلاة خير من النوم) مرتين] بعد الحيعلتين في أذان صلاة الصبح يقول: (الصلاة خيرٌ من النوم) وهو توجيه وإرشاد، وكلمةٌ عظيمة تشحذ الهمم تناسب الحال، فهي من المقال المناسب للحال؛ فإن الإنسان تعلوه سكرة النوم، فإذا سمع نداء الله عز وجل أن الصلاة خيرٌ من النوم تلهَّفت نفسه، واشتاقت لإيثار مرضاة الله عز وجل على هوى النفس، وقد جاء في مشروعيتها حديث سعيد بن المسيب في روايته عن بلال رضي الله عنه، وتكون بعد الحيعلتين.
[أقوال العلماء في ألفاظ الإقامة]
قال رحمه الله تعالى: [وهي إحدى عشرة يحدرها].
كان المفروض أن يقول: (والإقامة إحدى عشرة)،
ولكن لا مانع لأنَّه قال:
(وهو) في الأول إشارة إلى المذكر منهما،
فقوله:
(وهي) إشارة إلى المؤنث، وهي مفهومة من السياق،
إلا أنَّ الأولى التصريح: (والإقامة إحدى عشرة كلمة يحدُرها).وللعلماء في الإقامة عدة أوجه،
قال بعض العلماء:
تُشفَع ويوتر قوله: (قد قامت)، كما هو مذهب المالكية والحنفية.
فيقول:
(الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله).
القول الثاني: أنه يوتِر الألفاظ الأول فالتربيع يجعله مثنى، والمثنى يجعله واحدة، ويُشفَع قد قامت، كما ورد في الحديث،
وعلى هذا تكون الإقامة المعروفة:
(الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)، وكلٌ على سنة، سواءٌ أوتَر أم شفَع، ولكن الأقوى من جهة النص الإيتار،
والسبب في الخلاف قوله:
(أُمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة)،
فقوله:
(يوتر الإقامة)، فَهِم بعضهم عنه أنه يوتِر كلمة (قد قامت) ويبقى النداء على الأصل على نداء بلال وعبد الله الذي ذكرناه.
ومنهم من يقول:
(ويوتر الإقامة)،
أي:
في الألفاظ، فيكون الإيتار في الجميع،
ويكون قوله:
(قد قامت) باقٍ على المثنى كما في الرواية.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #54  
قديم 19-08-2020, 01:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (53)

صـــــ(6) إلى صــ(15)

[استحباب الإقامة في المكان المؤذن فيه]
قال رحمه الله تعالى: [ويُقِيم من أذن في مكانه إن سَهُل].كانوا في القديم يؤذنون خارج المسجد، وقد فعل ذلك بلال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أذَّن على سطح بيت الأنصارية، كما جاء في رواية السنن أنه كان يؤذن الفجر على بيت الأنصارية،
وكان يؤذن على باب المسجد كما يدل عليه حديث:
(لا تسبقني بآمين)،
فقد قال بلال للنبي صلى الله عليه وسلم:
(لا تسبقني بآمين)،
قالوا: لأنه كان يؤذن ويقيم خارج المسجد، فإذا أذن وأقام داخل المسجد لم يُسمع أذانه ولم تُسمع إقامته،
ولذلك قال: ويقيم من أذن في مكانه إن سهل).لكن إن عسُر عليه أن يُقيم في مكان الأذان أقام داخل المسجد، ولكن السنة أن يقيم في مكان الأذان كما ذكرنا في حديث بلال،
ووجه دلالة حديث:
(لا تسبقني بآمين) أنه كان يقيم خارج المسجد، فيكبر النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، فلا يستطيع أن يدرك آمين في بعض الأحيان، وذلك للمكان الفاصل،
خاصةً على القول أنه عليه الصلاة والسلام كان يكبر عند قوله:
(قد قامت)، فلربما بلغ آخر الإقامة مع مشيه من موضع الإقامة إلى داخل المسجد وقد فاتته الفاتحة، وقد كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم مرتلة،
ولذلك قال له:
(لا تسبقني بآمين)، فإنه ربما فاته التأمين لفاصل المكان.ومن أذن فيقيم،
قال بعض العلماء: لا يقيم إلا من أذَّن كما هو موجود في مذهب الحنابلة ودرج عليه المصنف،
وقال بعضهم:
يجوز أن يقيم غير المؤذن،
وفي هذا حديث ابن ماجة:
(أن أخا صداء قد أذن ومن أذن فهو يقيم)، وهو حديث ضعيف؛ لأن فيه عبد الرحمن بن أبي زياد الأفريقي.
وقال بعض العلماء:
إن الأمر واسع لو أراد أن يُقيم أحد غير المؤذن.وهذا فيه نظرٌ، فإن كان الذي أذَّن موجوداً فإنه أحق بالإقامة؛ لأنه تولى الأمر من بدايته، فليس من حق أحد أن يدخل عليه لكنهم استثنوا المؤذن الراتب إذا تأخر عن الأذان وحضر عند الإقامة بقي حقه في الإقامة، وإن كان قد سقط حقه في التأذين بسبب التأخير فيقيم، فهو أحق بالإقامة.
شروط صحة الأذان
[الترتيب والتوالي]
قال رحمه الله تعالى:
[ولا يصح إلا مرتباً متواليا].شرع رحمه الله في شروط صحة الأذان.
قوله: (ولا يصح) أي: الأذان.(إلا مرتباً) أي: مرتباً بترتيب الشرع؛ لأن القاعدة في الأذكار والألفاظ الشرعية أنه يُتقَيد فيها بالوارد، فكما أنها جاءت واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الترتيب يُرتبها على هذا الوجه.
وقوله: (متوالياً) أي: دون وجود فاصل مؤثر، فلو فصل بينهما بفاصل مؤثر فإنه يستأنف الأذان، ولا يَبني على ما كان عليه.
[العدالة في المؤذن]
قال رحمه الله تعالى: [من عدلٍ ولو ملحنا أو ملحونا].
قوله:
(من عدلٍ) أي: من إنسان عدل، فهذا الأذان لا يصح إلا من عدل،
قالوا:
لأنه خبر وإعلام بدخول الوقت، ولا يُقبل خبر الفاسق؛ لأن الفاسق إذا أَخبر بدخول الوقت لا يُوثق بخبره،
وقد قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]،
فقالوا:
لا يصح أذان الفاسق والحنابلة رحمهم الله شددوا في الأذان وفي الإمامة فقالوا: لا يصح الأذان من فاسقٍ، ولا تصح إمامة الفاسق، ولذلك يرون إعادة الصلاة إذا صُلِّي وراء الفاسق، وإن كان الصحيح صحة إمامة الفاسق لدلالة السنة على ذلك كما سيأتي.
وأما الأذان فقالوا: إنه خبر وقد أمر الله بالتثبت في أخبار الفساق، فكيف نقبل خبر هذا بدخول وقت الصلاة، وكيف نقبل خبره في انتهاء وقت الصيام، أو دخول وقت الصيام، فمثل هذا لا تقبل شهادته، فمن باب أولى في أمور الصلاة والعبادة أن لا يُقبل خبره.
[حكم اللحن في الأذان]
قال رحمه الله تعالى: [ولو ملحّنا أو ملحونا].
اللحن: أن يكون الصوت فيه نداوة وطراوة، وإذا كان اللحن على وجه التغني الذي لا يخرج الألفاظ عن حقائقها فالأذان صحيح، أما لو كان يخرج الكلمات عن معانيها والألفاظ عن دلائلها فإنه يُبطل الأذان، واللحن في القراءة والأذان للعلماء فيه ضابط التأثير،
فقالوا: إن أثَّر فأخرج اللفظ عن مدلوله فحينئذٍ يحكم بعدم اعتباره، وأما إذا لم يُخرج عن مدلوله فإنه لا يؤثر.وسُئِل الإمام أحمد رحمه الله عن رجلٍ يتغنى في الأذان،
فقال للسائل:
ما اسمك؟ قال: محمد.قال: أترضى أن يُقال لك: (يا موحامد)؟
قال:
لا.
قال: كيف ترضاه لنبيك؟ -صلوات الله وسلامه عليه-.فالمقصود أنه لا يصح الأذان إلا على هذا الوجه، وهو أن يؤدى بألفاظٍ صحيحة بعيدةٍِ عن الألحان المخرجة للألفاظ عن دلائلها.ومن اللحن المبالغة في المدود، فعلى الإنسان أن يكبر ويتشهد بعيداً عن التكلف؛ لأن الإسلام لا تكلف فيه، والتطريب والتمطيط في الأذان ليس من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم، ولذلك نص العلماء رحمة الله عليهم على اختلاف المذاهب على أنه بدعةٌ في الأذان، وإنما يؤذن الإنسان أذاناً لا يُخرِج ألفاظ الأذان عن مدلولاتها، بعيداً عن التكلف وإطالة المدود والترانيم ونحوها، فكل ذلك مما لا أصل له، فاللحن والصوت الجميل والتغني بالأذان والقراءة شرطه أن لا يخرج الألفاظ عن مدلولاتها،
كما قيل:
اقرأ بلحن العُرب إن تجوّد وأجز الألحان إن لم تعتد فمعنى: (أجز الألحان إن لم تعتدِ) أنه لا مانع أن يكون هناك لحن في الأذان أو في القراءة، لكن بشرط أن لا يعتدي القارئ أو المؤذن فيخرج الألفاظ عن مدلولاتها،
فلا يجوز أن يقول:
(أشهد أن موحامداً) فيمطها حتى يخرج اللفظ عن مدلوله،
فإن قال:
(موحامداً) أخرج لفظ الاسم الذي هو (محمد) عن وضعه في أصل اللغة، فإنه ليس بين الميم والحاء مد، وليس بين الميم والدال مد، ولأنه إذا مد أصبح اسماً آخر غير الاسم الذي شهد أنه نبي الله صلوات الله وسلامه عليه.
وكذلك إذا كان اللحن بالإخلال بالحركات كأن يقول:
أشهد أن (محمداً رسولَ الله) بفتح رسول، وهذا كثير وشائع في هذا الزمان، بل قال بعض العلماء ببطلان أذانه.ولذلك ينبغي أن يُنبَّه على ذلك بعض الجهال الذين لا يفرقون بين الضم والفتح في مثل هذا،
فينبَّهون على أنه:
(أشهد أن محمداً رسولُ الله) -بالضم-،
ولا يجوز أن يقول: (أشهد أن محمداً رسولَ الله)؛ لأنه إخراج للشهادة عن مدلولها.فينبه على مثل هذا ونحوه من الألحان التي تخرج الألفاظ عن دلائلها، أو تفسد المعنى في التركيب اللغوي.
[حكم أذان الصبي المميز]
قال رحمه الله تعالى:
[ويجزئ من مميز] أي: يجزئ الأذان من صبيّ مميز.قالوا: كما صحّت صلاته صح أذانه، ولذلك إذا أذن الصبي المميز صح أذانه.
وقال بعض العلماء:
لا يصح أذان الصبي ولو كان مميزاً،
وقالوا:
لأنه خبر، والخبر شهادة ولا تصح من الصبي؛
لقوله تعالى:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، فالشهادة لا تكون إلا من البالغ العاقل، والصبي ليس ببالغ ولا بعاقل، فلا يوثق بأذانه ولا يوثق بخبره.
مبطلات الأذان والإقامة
الفاصل الكبير والكلام المحرم وإن كان يسيراً
قال رحمه الله تعالى: [ويبطلهما فصلٌ كثير ويسير محرم] أي: يبطل الأذان والإقامة فصلٌ كثيرٌ وكلامٌ محرَّم،
كأن يشرع في الأذان فيقول: (اللهُ أكبر)، ثم يجلس وقتاً طويلاً، كما يحدث بعض الأحيان حين ينقطع جهاز الصوت فيحاول إصلاحه، وربما يأخذ منه خمس دقائق أو عشر دقائق، فهذا فاصل مؤثر، وحينئذٍ يستأنف ولا يبني لكن لو أنه كبر ثم انشغل يسيراً ثم رجع إلى أذانه فإنه يبني ولا يستأنف، فيصح أن يبني على الألفاظ الأُوَل إذا كان الفاصل غير كثير.وكذلك الكلام المحرم، كأن يؤذن ويتشهد ثم يسب رجلاً،
فقالوا:
يبطل أذانه؛ لأن السب ليس من الأذان، فحينئذٍ يُحكم ببطلان أذانه ويبتدئ من جديد.
أما لو كان كلاماً مباحاً فقال بعض العلماء: لا يبطل، والاحتياط أن يعيد ويستأنف؛ لأنه أدخل في ألفاظ الأذان ما ليس منها.
فقوله: (ويسير محرم) أي: وكلامٍ يسير محرم.
[الأذان قبل دخول الوقت]
قال رحمه الله تعالى:
[ولا يجزئ قبل الوقت إلا الفجر بعد نصف الليل] أي: ولا يجزئ الأذان قبل الوقت، إلا الفجر فيجوز أن يؤذن له قبل دخول الوقت لثبوت السنة بذلك، فيؤذن قبل دخول الوقت ولا حرج، ثم اختلف العلماء،
فقال بعض العلماء:
الأذان الأول لا يجاوز السدس الأخير من الليل، وهو ما يقارب ساعة ويختلف بالصيف والشتاء، فيؤذن الأذان الأول قبل الفجر بحدود ساعة أو تزيد، بحسب الصيف والشتاء، وبحسب طول الليل وقصره.
وقال بعضهم:
إنما يؤذن الأذان الأول بفاصلٍ يسير بينه وبين الأذان الثاني، بحيث أنه بمجرد ما ينتهي من الأذان الأول يدخل وقت الفجر فيؤذن الأذان الثاني،
وهذا ارتضاه بعض فقهاء الظاهرية رحمة الله عليهم بناءً على حديث:
(ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا)، ولكن هذه اللفظة عند بعض العلماء فيها نظر؛ لأن بلالاً كان عندما يؤذن يمتطي على ظهر بيت الأنصارية، حتى إذا قرب بزوغ الفجر صعد ابن أم مكتوم وأذن، وليس المراد به أنه ينزل ويطلع مباشرة، كما أفاده بعض العلماء رحمة الله عليهم.والمصنف أخذ بالقول الثالث، وهو أن يؤذن الأذان الأول من بعد نصف الليل، وهذا في الحقيقة محل نظر، والأقوى أن يؤذن في السدس الأخير،
ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم)، فلما تُوقِظ النائم في نصف الليل فليس هناك مصلحة، وما دام أن الحديث جاءنا بعلة الأمر فنتقيد بالعلة الواردة؛ لأن العلل المنصوص عليها محكومٌ بها، فلما جاءنا الحديث أن العلة في الأذان الأول رد القائم وتنبيه النائم، فذلك أنسب ما يكون في حدود السدس الأخير، كما هو وجهٌ عند الشافعية وبعض العلماء رحمة الله عليهم.
[استحباب صلاة ركعتين بعد أذان المغرب]
قال رحمه الله تعالى: [ويسن جلوسه بعد أذان المغرب يسيرا] يسن ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا قبل المغرب ركعتين)،
وفي رواية:
(صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب،
ثم قال عند الثالثة:
لمن شاء)
،
قال أنس رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح: (فلقد رأيت كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري حتى إن الرجل لو دخل ظن أن الصلاة قد أقيمت) أي أنه إذا أذن وانتهى يصلون هذه الركعتين، ويبتدرون السواري يجعلونها سُتراً، وهذا يدل على حرصهم على هذه السنة.ووجه الشاهد أن كون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بصلاة الركعتين بين الأذان والإقامة يدل على أن مِن السنة الفصل بين الأذان والإقامة، خلافاً لمن قال بالتعجيل، وهو موجود في بعض المذاهب، كما هو موجود في مذهب المالكية رحمة الله عليهم، فهم يرون سنية التعجيل؛ لأنهم لا يرون التنفل بين الأذان والإقامة، وهو وجهٌ أيضاً عند بعض الحنفية، والصحيح ما ذكرناه بدلالة السنة من حديث مسلم في صحيحه.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #55  
قديم 19-08-2020, 01:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (54)

صـــــ(16) إلى صــ(5)

[حكم الأذان في الجمع أو قضاء الفوائت]

قال رحمه الله تعالى:
[ومن جمع أو قضى فوائت أذّن للأولى ثم أقام لكل فريضة] هذا على حديث المزدلفة أنه عليه الصلاة والسلام أذن للأولى وأقام إقامتين: إقامة للأولى، وإقامة للثانية، فأصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم أن يؤذِّن الذي جَمَع جَمْع تقديم أو تأخير أذاناً واحداً ويقيم إقامتين.
[استحباب متابعة المؤذن]
قال رحمه الله تعالى:
[ويسن لسامعه متابعته سراً] من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمن سمع النداء أن يُتابع المؤذن سراً،
أي:
لا يرفع صوته، بل سراً بقدر ما يُسمع نفسه، وإن كان هناك عوام ويريد تعليمهم إن كان من العلماء والقضاة ونحوهم ممن يقتدى بهم فله أن يرفع صوته قليلاً حتى يتعلم الناس، فقد رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه الصحابة كما في حديث معاوية، فيشرع الرفع قليلاً من باب التنبيه للناس والتعليم لهم، ولا حرج في ذلك.
[الحوقلة في الحيعلتين]
قال رحمه الله تعالى: [وحوقلته في الحيعلة] أي: يُسن لك إذا سمعت المؤذن يقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) أن تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وللعلماء في ذلك أوجه:
فمنهم من قال: تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله،
ثم تقول:
(حي على الصلاة).
وتقول:
(حي على الفلاح)،
ثم تقول:
(لا حول ولا قوة إلا بالله).
ومنهم من قال:
تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ومنهم من قال: تقول مثل ما يقول المؤذن ولا تقول الحوقلة، فهذه ثلاثة أوجه للعلماء في المسألة.
فمن قال: تقول الحوقلة ولا تحيعل اعتمد حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ الحيعلتين حوقل ولم يحيعل صلوات الله وسلامه عليه.
والذين قالوا:
يحيعل استدلوا بحديث أبي موسى في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)،
فقول:
(فقولوا) أمر، فيشمل جميع أفراد الأذان،
فيحيعل إذا قال:
(حي على الصلاة)؛ لأنها مثل قول المؤذن، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم الحيعلتين بذكر، فتبقى على هذا العموم.
والقول الثالث جمع بين القولين فقال: يقول: (حي على الصلاة) لحديث: (قولوا مثل ما يقول)، ويحوقل لحديث معاوية،
وأصح القولين والعلم عند الله:
أنه يقتصر على الحوقلة؛
لأن قوله:
(فقولوا مثل ما يقول) مجمل وحديث معاوية مبيِّن مفصِّل، والقاعدة أنه إذا تعارض المجمَل والمفسِّر المبيِّن، يُقدَّم المفسِّر المبيِّن، فإن معاوية حكى ترديد النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً لفظاً،
فيكون قوله عليه الصلاة والسلام:
(قولوا مثل ما يقول) أي: في غالب ألفاظ الأذان،
فلما بلغ الحيعلة قال:
(لا حول ولا قوة إلا بالله)، فأصح الأقوال أنه يُحوقِل ولا يُحيعِل.
وأما مذهب من قال: يَجمع بينهما.فهو مبني على التعارض على النصين، وشرط التعارض قوة الدلالة منهما، وليست الدلالة منهما قوية، لِما ذكرنا من وجود الإجمال والبيان.وأما مناسبة قول لا حول ولا قوة إلا بالله عند الحيعلة،
فقالوا:
لأنه إذا قال: (حي على الصلاة) فإنهما تختص بالمؤذن.وهذا صحيح من جهة النظر؛ فإن المؤذن ينادي الناس،
فأنت لا وجه لك أن تقول:
(حي على الصلاة، حي على الفلاح)؛ لأنه ليس ثم إنسان تدعوه إلى الصلاة، فاختُصَّ المؤذن بالحيعلة، فبقيت أنت مستيعناً بالله،
فقلت:
لا حول ولا قوة إلا بالله، لأنه يُطْلَب منك الإجابة، ولا يُطْلَب منك المماثلة،
فلذلك ناسب أن تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛
قال بعض العلماء:
لا حول في طلب خير، ولا قوة في دفع شر إلا بالله.وزيادة (العلي العظيم) لا ينبغي أن تُزاد؛ لأن السنة التقيد بالوارد، والألفاظ الواردة لا يزاد فيها.
[استحباب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة بعد الأذان]
قال رحمه الله تعالى:
[وقوله بعد فراغه: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محموداً الذي وعدته] هذه هي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ) على أن كثيراً من الناس ترك هذه السنة، وهي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان،
فتجده مباشرة إذا قال المؤذن:
(لا إله إلا الله)، يقول: (لا إله إلا الله، اللهم رب هذه الدعوة ... )، وهذا خلاف السنة.
والسنة أنه إذا قال: (لا إله إلا الله)، أن يصلي بعدها على النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة الإبراهيمية، ثم بعد ذلك يقول: (اللهم رب هذه الدعوة التامة ... ).
قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة عليه بعد الأذان لذكره في الأذان،
ومنهم من قال:
إنه أمر بالصلاة عليه لوجود الدعوة؛ لأنه يُسن أن يُبتدئ الدعاء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن فضائله -كما في أحاديث الترغيب- أن يكون في الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول بعد انتهائه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب هذه الدعوة التامة ... )، فهي دعوة تامة كاملة؛
لأنها اشتملت على أمرين:
أحدهما تعظيم الله، وثانيهما توحيده، ولذلك وصف الله صاحبها بأنه أحسن الناس قولاً،
فقال تعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]؛ لأن المؤذن يصلي، وعمل صالحاً بدعوة الناس إلى الصلاة،
فلذلك قالوا:
هي دعوةٌ تامة، دعا إلى توحيد الله عز وجل بشهادته ثم دعا إلى إقام الصلاة التي هي من تعظيم الله عز وجل.(والصلاة القائمة) أي: التي ستقام، فيوصف الشيء باعتبار ما يؤول إليه، وهذا من بلاغة العرب، حيث يصفون الشيء بما كان عليه، ويصفونه بما يؤول إليه، ويصفونه بحاله،
فيقولون:
فلان يتيم بناءً على ما كان عليه،
كما قالوا:
محمد يتيم أبي طالب، باعتبار ما كان عليه،
ومنه قوله تعالى:
{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] نهى عن إعطاء اليتيم ماله،
لكن:
آتوا اليتامى الذين بلغوا راشدين أموالهم، فوصفهم بكونهم يتامى بما كانوا عليه، وكذلك تصف العرب الشيء بما يؤول إليه،
فيقولون:
(فلانٌ مصلٍ).
أي: سيصلي، ونحن مصلون،
أي: سنصلي،
فكذلك قوله هنا:
الصلاة القائمة،
أي:
التي ستقام.
والوسيلة هي كما فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم: (درجةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، قال: وأرجوا أن أكون أنا هو).ومن سأل للنبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة حلّت له الشفاعة يوم القيامة، فنسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يبلغه الوسيلة، وأن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.ثم ختمها بقوله عليه الصلاة والسلام (والفضيلة، والمقام المحمود الذي وعدته)،
والفضيلة:
من الفضل، والفضل: الزيادة.أي: الفضائل، وهي أعلى الدرجات، وإذا تفضَّل الله على العبد فقد بلَّغه أعالى المراتب وأكملها،
كما قال تعالى في الخير:
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]،
فالفضل:
الخير العظيم،
وقال تعالى:
{وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105]، وزيادة (الدرجة العالية الرفيعة في الجنة) ضعيفة كما نبَّه عليها السخاوي في (المقاصد الحسنة)، وهي زيادة ضعيفة لا أصل لها.ومعنى (وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) هو المقام الذي يحمِده عليه الأولون والآخرون، وهو مقام الشفاعة،
قال تعالى:
{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وعسى في القرآن للحقيقة، وهو مقام الشفاعة.
وزيادة: (إنك لا تخلف الميعاد) فيها خلاف، وهي من رواية البيهقي، ومن العلماء من أثبتها، ومنهم من قال بعدم ثبوتها للشذوذ، ومن شرط الصحة عدم الشذوذ، ومن قالها فيتأول الصحة ولا حرج، ومن لم يقلها لا حرج عليه.سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك.
شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [1]
للصلاة شروط مذكورة في الكتاب والسنة،
وهي تنقسم إلى:
شروط صحة، وشروط وجوب،
ومنها:
الطهارة من الحدث والخبث والنجس، ودخول الوقت، وينبني على ذلك معرفة وقت كل صلاة ابتداءً وانتهاءً، وأن الأفضل الصلاة في أول الوقت، ولا يجوز تأخيرها إلا لعذر شرعي.
[شروط الصلاة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [باب شروط الصلاة].هذا الباب المراد به بيان العلامات والأمارات التي نصّبها الشارع للحكم بوجوب الصلاة وصحتها من المكلف.وتنقسم الشروط عند العلماء رحمهم الله إلى شروط صحةٍ، وشروط وجوب، وأصل الشروط مبحث من مباحث الحكم الوضعي، بمعنى أن الشروط علامات وأماراتٌ من الشارع سبحانه وتعالى نصَّبها لكي تحكم بوجوب العبادة على المكلف، أو تحكم بصحتها، أو عدم صحتها إذا لم تكن مستوفيةً لهذه الشروط.إذاً لا بد في العبادة من النظر إلى هذه العلامات،
وبواسطتها يستطيع طالب العلم أن يقول للمكلَّف:
برئت ذمتك وأجزأتك الصلاة، إذا توفرت هذه الشروط المعتبرة لصحة الصلاة،
ويستطيع أن يقول للمكلف:
عليك إعادة الصلاة؛ لأن العلامة والأمارة التي نصَّبها الشارع للحكم بصحة صلاتك غير متوفرة.فلو أن إنساناً توضأ بعد دخول الوقت، وستر عورته، واستقبل القبلة، وفعل الصلاة بأركانها، فصلاته صحيحةٌ معتبرة.لكن لو أنه صلى قبل دخول الوقت صلاة الظهر، أو صلاة العصر، أو صلَّى ولم يستقبل القبلة عالماً بجهتها مخالفاً لناحيتها، أو صلَّى ولم يستر عورته مع القدرة،
فحينئذٍ تقول له:
صلاتك باطلةٌ، وتلزمك الإعادة؛ لأن الشارع جعل دخول الوقت علامةً على وجوبه، ولا تصح الصلاة قبل دخول الوقت.وجعل ستر العورة علامةً على صحة الصلاة واعتبارها، فما دمت لم تستر العورة أثناء صلاتك فصلاتك باطلة.فمبحث شروط الصلاة يحتاجه طالب العلم لكي ينظر إلى الأمارات التي نصَّبها الشارع سبحانه وتعالى،
لكي يقول:
هذه العبادة معتبرة، وبرئت ذمتك أيها المكلف، فلا تُطَالَب بالإعادة،
أو يقول:
هذه العبادة باطلةٌ ويلزمك إعادة الصلاة؛ لأن شروط الصحة والاعتبار غير متوفرة.
والشروط: جمع شرط،
والشرط في اللغة:
العلامة، ومنه سميت الشَّرْطَة.وأما في الاصطلاح فهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.فالطهارة يلزم من عدمها عدم الصلاة، ودخول الوقت يلزم من عدمه عدم وجوب الصلاة.ولا يلزم من وجوده الوجود، فالإنسان قد يتوضأ، ويكون متطهراً، والشرط محققٌ فيه، ولكنه لا يصلي، فيلزم من عدم الشرط عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط.
فقول العلماء:
(باب شروط الصلاة) أي: العلامات والأمارات التي نصَّبها الشارع للحكم بوجوب الصلاة على المكلفين، أو العلامات والأمارات التي نصَّبَها الشارع للحكم بصحة صلاة المكلفين واعتبارها، فإن كانت الشروط شروط صحةٍ حكَمْتَ بالصحة أو بعدمها، وإن كانت الشروط شروطَ وجوبٍ حَكَمْتَ بوجوب العبادة أو عدم وجوبها.فشروط الصلاة تنقسم إلى شروط صحةٍ، وشروط وجوب.فشروط الوجوب منها الوقت، ولا تجب الصلاة قبل دخول الوقت، ومنها البلوغ، فلا تجب الصلاة على الصبي قبل بلوغه، ومنها العقل، فلا تجب الصلاة على المجنون حتى يفيق.
وأما شروط الصحة فهي: الطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة.فلا تصح صلاة غير المتطهر، ولا تصح صلاة من لم يستر عورته اختياراً، بمعنى أنه قادرٌ على سترها، أما إذا كان غير قادرٍ فسيأتي إن شاء الله الكلام عليه.ولا تصح صلاة من لم يستقبل القبلة اختياراً، أما إذا كان في حال الاضطرار -كما في السفر- ففيه تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقوله: (باب شروط الصلاة) مناسبة هذا الباب أنه بعد أن بين لك حكم الصلاة، وعلى مَن تجب، وتكلَّم على مباحث الأذان والإقامة، ناسَبَ أن يتكلم عن الشروط؛ لأن من شروط الصلاة دخول الوقت، والأذان متعلق بالوقت، فلما ذكر الأذان ووجوبه ولزومه وصفته، يردq متى يؤذِّن المؤذن؟ وما هو الوقت المعتبر للصلاة؟ ولما كان مبحث الوقت متعلقاً بمبحث الشروط ناسب أن يذكر الشروط معه، فهذا وجه المناسبة.
وهناك وجهٌ ثانٍ وهو أن تقول: بعد أن فرغ المصنِّف رحمه الله من بيان حكم الصلاة، والدعوة إليها بالأذان والإقامة ناسب أن يبين العلامات المعتبرة للإلزام بالصلاة، وهي الشروط، فأتبع ذلك شروط الصحة كما قلنا.
[الشرط الأول: دخول الوقت]
قال المصنف رحمه الله:
[شروطها قبلها، منها الوقت].
قوله: (شروطها قبلها) أي: قبل الصلاة،
وقوله:
(منها الوقت) (مِنْ) للتبعيض، والضمير في (منها) بمعنى: من شروط الصلاة، وهذا للتبعيض؛ لأن هناك شرط البلوغ والعقل لم يذكره المصنف، وترك لظهور العلم به؛ لأنه لا يقرأ قارئ ولا يبحث باحث في أبواب الفقه إلا وهو عالم أن أهلية التكليف تقوم على البلوغ والعقل.فلذلك تَرْكُ المعلوم بداهةً مألوفٌ عند العلماء رحمة الله عليهم.
قوله:
(منها الوقت) يقال: وقَّتَ الشيء يؤقته تأقيتاً.إذا حدده، ويكون ذلك بالزمان، ويكون بالمكان،
فيقال: (وقَّتَ له ساعة مجيئه) للزمان، و (وقت له مكان لقائه) للمكان.
فجاء التعبير بالتوقيت في الزمان في قوله تعالى:
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]،
أي:
بالزمان.وجاء التأقيت بالمكان،
ومنه حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين:
(وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة)، وهو ميقات المكان لنسك الحج.والوقت معتبرٌ للصلاة،
والأصل في هذا الشرط قول الحق تبارك وتعالى:
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: مؤقتاً ومحدداً بزمانٍ معين، وقد بينت السنة إجمال القرآن، وقد جمع الله تبارك وتعالى هذا التأقيت للصلاة في آيةٍ واحدة،
وذلك في قوله تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، فهذه الآية جمعت مواقيت الصلاة كما ذكر غير واحدٍ من المفسرين، وهذا من بلاغة القرآن وحسن اختصاره،
فإن قوله تعالى:
(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي لزوالها (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) فشمل الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فيكون (غسق الليل) على أنه نصف الليل هو الأمد الذي هو آخر وقت العشاء الاختياري،
ثم لما انفصل الفجر قال:
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} فأغنى باسم الفجر عن ذكر وقته؛ لأن الفجر من الانفجار والوضوح، ونظراً إلى أن اسمه يدل على وقته؛ لأنه عند انفجار الضوء وانتشاره أغنى التعبير باسمه عن التصريح بوقته، فهذه خمسة فروض وخمسة مواقيت، وكلتا الآيتين أصل في باب المواقيت عند العلماء رحمة الله عليهم.أما السنة فجاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تصف وقت الصلاة، والأصل في هذا أن الله لما فرض على نبيه عليه الصلاة والسلام الصلوات الخمس اختار الله فريضتها أن تكون مباشرةً منه سبحانه وتعالى فوق السماوات العلا، ولذلك كان من دلائل فضل الصلاة وعظيم شأنها أن الله عز وجل لم يوح وجوبها إلى نبيه بواسطة، وإنما باشره بوجوبها والأمر بها تعظيماً لشأنها ودلالةً على عظيم مكانتها، فلما أوجب الله على نبيه الصلوات الخمس، وانتهى الأمر إلى الخمس، وكان يراجع ربه حتى استقرت إلى الخمس نزل عليه الصلاة والسلام، ولما أصبح صبيحة الإسراء وزالت الشمس لم يُفاجأ إلا بجبريل قد نزل عليه فأمَّه عند الكعبة، ولذلك كانت بداية المواقيت بحديث جبريل بمكة.فالأصل في السنة هذا الحديث، وهو أول المواقيت السنية، ولذلك يعتبره العلماء رحمة الله عليهم أصلاً، إلا ما دل الدليل على نسخه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.فأَمَّ جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يومين، صلَّى به اليوم الأول كل صلاةٍ عند أول وقتها، وصلى به اليوم الثاني كل صلاة في آخر وقتها،
ثم قال له:
(ما بين هذين وقت)، فحدَّد مواقيت الصلاة وبينها.ثم جاءت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وبقوله، فتارةً بالفعل يُبيِّن المواقيت، وتارةً بالقول يدل عليها صلوات الله وسلامه عليه.فشرط الوقت لا يُحكم بلزوم الصلاة على المكلف إلا بدخوله، فلا يطالب الرجل ولا المرأة بالصلاة إلا بعد دخول الوقت، ويتفرع على ذلك أنه إذا مات قبل دخول الوقت ولو بلحظة فهو غير آثمٍ ولا ملزمٍ بها، وكذلك لو جُنَّ أو حاضت المرأة قبل دخول الوقت ولو بلحظة فإنها لا تُطَالَب بها.فلا يتوجه الخطاب بالصلاة إلا بعد وجود هذه العلامة، فلما كان الوقت له هذه المنزلة وهي أنه لا يتوجه الخطاب من الشرع للمكلف أن يفعل العبادة إلا بعد وجود هذه العلامة.
قيل:
إنه شرط من هذا الوجه.
[الشرط الثاني: الطهارة من الحدث والنجس]
قال المصنف رحمه الله:
[والطهارة من الحدث والنجس].
قوله:
(والطهارة من الحدث) تقدَّم تعريف الطهارة،
وقلنا:
إنها صفةٌ حكميةٌ توجب لموصوفها استباحة الصلاة، والطواف بالبيت، ونحوه مما تشترط له الطهارة.وأما الطهارة من النجس أو الخبث كما يُعبِّر العلماء فيشترط كذلك؛ لأن الطهارة طهارةٌ من الحدث بالوضوء أو الغسل أو التيمم بدلاً عنهما، وطهارةٌ من الخبث بإزالة النجاسة عن البدن والثوب والمكان.
فأما طهارة الحدث فدليل وجوبها قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6]،
ثم قال:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6]، فأوجب وأمر وألزَمَ المكلف بهذه الطهارة، ثم حكم بعدم صحة الصلاة بالفقد،
فقال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين كما في حديث أبي هريرة واللفظ لـ مسلم:
(لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، فهذه طهارة الحدث ودليل اشتراطها لصحة الصلاة من الكتاب والسنة، لكن دليل السنة في الاشتراط أقوى من دليل الكتاب؛ لأن دليل الكتاب دلّ على الوجوب، وأما دليل السنة فقد دل على عدم الصحة والاعتبار إلا بعد وجود الطهارة، وهو أبلغ في الدلالة على الشرطية؛ لأن كون الشيء واجباً لا يدل على كونه شرطاً لصحة الشيء كما هو معلوم.وأما الطهارة من الخبث، وهي طهارة البدن والثوب والمكان من أجل الصلاة،
كونها شرطاً لصحة الصلاة فيدل عليها: أولاً: إلزام المكلف بطهارة البدن،
أصله قوله عليه الصلاة والسلام:
(اغسلي عنك الدم ثم صلي)، وقوله: (دعي الصلاة أيام قروئك)،
وفي الحديث الآخر: (لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا بلغت ذلك فلتغتسل ثم تستذفر بثوب ثم تصلي)، فأمرها بطهارة البدن.
ثانياً: طهارة الثوب،
والأصل فيها قوله تعالى يخاطب نبيه:
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:3 - 5]،
فكبر:
أي للصلاة، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، وليس المقصود الترتيب، وإنما المقصود مجموع هذه الأمور،
والمراد بقوله:
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]: أي طهارتها من النجس والقذر، فلا تصح الصلاة إلا بعد وجود طهارة الثوب.
ثالثاً:
طهارة المكان، فلا تصح الصلاة إلا بعد أن يكون مكان المصلِّي طاهراً،
والأصل في ذلك حديثان:
أحدهما حديث الأعرابي لما بال في المسجد،
فقال عليه الصلاة والسلام:
(أهريقوا على بوله سجلاً من ماء)، فأمر بتطهير المسجد،
وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام من دخل المسجد بنعليه إن وجد فيهما أذى بقوله:
(ليدلكهما في الأرض)، فجعل دلك الأرض طهارةً لها.والدليل الثاني حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس، ثم خلع نعليه، فخلع الصحابة نعالهم،
فلما سلَّم عليه الصلاة والسلام قال: (ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيهما قذراً،
أو قال:
أذى).ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع النعلين بعد العلم بنجاستهما؛ لأنهما ليستا بطاهرتين، فلما خلعهما بعد العلم بالنجاسة دل على أن المصلي لا يقف على موضعٍ نجس، ولذلك اعتُبِر حديث النعلين في خلعه عليه الصلاة والسلام لهما أصلاً في طهارة موضع المصلي الذي يصلي عليه.فمجموع هذه النصوص في الكتاب والسنة دلَّ على أنه ينبغي للمصلي أن يطهِّر ثوبه وبدنه ومكانه من أجل صلاته.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #56  
قديم 01-09-2020, 04:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (55)

صـــــ(6) إلى صــ(10)

أوقات الصلاة
[وقت صلاة الظهر]
قال المصنف رحمه الله:
[فوقت الظهر من الزوال إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال] الفاء للتفريع،
أي: إذا علمت أن الوقت شرطٌ لصحة الصلاة فاعلم أن وقت الظهر ما سيأتي.
والظهر: هي الصلاة الأولى تسمى بالظهر، وهذا اسمها الغالب، وللعلماء في سبب تسميتها بالظهر خلاف،
قال بعضهم: سُمِّيت بالظهر من الظهيرة، لوجود قائم الظهيرة فيها؛ لأن الشمس تقوم فيها، وهي تقع بعد زوال الشمس مباشرة، فنسبت إلى أقرب موصوفٍ لها.والظُّهر تسمى الأُوْلَى، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي برزة الأسلمي أنه دخل عليه أبو المنهال سيار بن سلامة رحمه الله،
فقال:
دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي،
فقال له أبي:
(كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة؟
قال:
كان يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى)
، فوُصِفت بكونها هجيراً، وبكونها أُوْلى، وبكونها ظهراً، أما كونها هجيراً فلأنها تكون بالهاجرة، وهذا الوقت الذي تقع فيه صلاة الظهر، حيث تكون الشمس فيه شديدة الحرارة، ولذلك أمر بالإبراد عن أول الوقت في شدة الحر، فإذا اشتدت الحرارة هجر الناس الشمس، وصاروا إلى الظل، وهجروا أعمالهم من أجل شدة الحر والمئونة والمشقة، فسمِّيت الهجير من هذا، وسميت الظهر لما ذكرناه، وسميت الأولى لأنها أول صلاة تصلى.وهذا أصح أقوال العلماء أن الظهر هي أول الصلوات، والدليل على ذلك عدة أدلة،
منها:
أنه لما أراد الله أن يبين لنبيه عليه الصلاة والسلام مواقيت الصلاة نزل جبريل في وقت الظهر، فكان أول ما أعلمه بوقته هو الظهر، وكذلك الحال في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للصلوات المكتوبة وأوقاتها كلهم كان يبدأ بصلاة الظهر، وذلك مراعاة لأصل الشرع.
وقال بعض العلماء:
الأولى هي الفجر والثانية هي الظهر لأجل أن يقوى مذهبهم بأن العصر هي الصلاة الوسطى، وهذا مذهبٌ مرجوح،
ويُجاب عنه من وجهين:
أولاً مخالفته لظاهر السنة ولهدي الصحابة في قولهم: (كان يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى ... )، فدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمونها الأولى، وأما اعتذارهم بأن العصر لا تكون وسطى إلا إذا اعتبرنا الفجر الأولى فمحل نظر؛ لأنهم قالوا إن الفجر والظهر يجتمعان في كونهما صلاة نهارية، والمغرب والعشاء يجتمعان في كونهما صلاة ليلية، فيقع العصر بينهما، فتكون صلاةً وسطى من هذا الوجه.والجواب عن هذا يسير،
وهو أن يُقال:
إن الوصف بكونها وسطى -أعني العصر- إنما هو لانتصافها بين نهاريةٍ وليلية، لا بين نهاريتين وليليتين، وهم يراعون عدد الصلوات، ويمكن أن تراعى دلالة الحال، فإن صلاة العصر بين نهاريةٍ وهي الظهر، وليليةٍ وهي المغرب، وعلى هذا لا يرد ما ذكروه.
فلصلاة الظهر وقتان:
أول وآخر، فأما أول وقت صلاة الظهر فهو من الزوال إذا زالت الشمس، وأما آخر وقت الظهر فكما ذكر المصنف حين يصير ظل كل شيءٍ مثله، أي على قدر ظل الرجل إذا قام.أما بالنسبة لاعتبار الزوال أول وقت الظهر فدليله الكتاب والسنة،
أما الكتاب فقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]،
ودلوكها:
زوالها.أما السنة ففي الأحاديث الصحيحة، منها حديث ابن عمر في صلاة جبريل وإمامته بالنبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء.
ومنها: حديث جابر بن عبد الله في الصحيحين (كان يصلي الظهر إذا دحضت الشمس)، أي: زالت.
ومنها: حديث أبي برزة: (كان يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس).وكذلك أيضاً حديث مسلم في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص.فهذه خمسة أحاديث كلها دلت على أن وقت صلاة الظهر يكون بدايته من زوال الشمس، وحُكِيَ الإجماع على أن وقت صلاة الظهر يبتدئ من الزوال، وهذا الإجماع مخالَف بما حُكِيَ عن ابن عباس أنه كان يجيز إيقاع صلاة الظهر قبل الزوال باليسير، وهو قولٌ محكيٌ عن مالك رحمة الله عليه إمام دار الهجرة، وقولٌ مرجوح لمخالفته لظاهر السنة، فحكاية الإجماع يُشكِل عليها ما أُثِر عن ابن عباس وعن مالك رحمة الله عليه.وإذا علمنا أن النصوص دلت على أن أول وقت الظهر الزوال، فما هو الزوال؟
الزوال:
مأخوذٌ من زال الشيء إذا تحرَّك، والمراد بالزوال زوال الشمس، والسبب في ذلك أن الشمس إذا طلعت يكون الظل في جهة المغرب، ثم تسير وينقبض ظلها حتى تنتصف في كبد السماء، فتقف عن مسيرها، وبالمناسبة في سير الشمس ينبغي إثباته، والقول بأن الشمس ثابتة باطل مخالفٌ لنص القرآن،
ولذلك قال بعض العلماء: لا يجوز أن يعتقد المسلم أن الشمس ثابتة،
وذلك لقوله تعالى:
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، فنص سبحانه على أنها تجري،
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ أبي ذر:
(يا أبا ذر! هل تدري أين تذهب هذه؟)، فنسب لها الذهاب والمجيء، وهذا يدل على الحركة بخلاف الثبوت، ولذلك يُعتقد جريانها،
وقول بعض الفلاسفة: إنها ثابتة مخالفٌ لهذا النص الذي أنبأك به الخبير العليم سبحانه وتعالى خالق الشمس وخالق الكون وهو أعلم بما خلق.فالشمس تطلع من مشرقها فيكون الظل في جهة المغرب، على أقصى ما يكون عند ارتفاع شعاعها، ثم ترتفع قليلاً قليلاً فينقبض الظل من جهة المغرب قليلاً قليلاً حتى تنتصف في كبد السماء، فإذا انتصفت في كبد السماء وقف الظل عن الحركة فلا يزيد ولا ينقص،
وهذا الانتصاف قال بعض الخبراء من أهل الفلك:
إنه لحظة يسيرة،
أي:
قد يكون إلى دقائق معدودة جداً، وفي هذا الوقت وهو وقت انتصافها في كبد السماء تسجر جهنم -والعياذ بالله-، ولذلك نُهِي عن الصلاة فيه؛ لأنه لحظة عذاب، وليست بساعة رحمة،
كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا اعتدلت على رأسك فإن تلك الساعة تسجر فيها جهنم).
وثبت عن عقبة بن عامر أنه قال:
(ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب)،
فإذا قال العلماء:
(قام قائم الظهيرة)،
أو قالوا:
(وقف الظل)، فمرادهم هذه الساعة، ولذلك تقف الشمس في كبد السماء فلا تتحرك، فإذا وقفت وقف الظل، وأحياناً يقف الشاخِص بدون ظل، وهذا في الأماكن التي تكون معادلة لمنتصف السماء،
ولذلك يقولون:
إنه في مكة في اليوم السابع من حزيران تكون الشمس لا ظل لها، بمعنى أنها في منتصف السماء، أو في كبد السماء كما ورد في الخبر، فإذا أخذت في هذه اللحظة التي هي لحظة الإمساك تبدأ بعد ذلك في الحركة إلى جهة المغرب، فإذا ابتدأت حركتها إلى جهة المغرب تحرّك الظل إلى جهة المشرق، على عكس ما كان عليه عند غروبها.وهذه اللحظة هي لحظة انتصاف النهار، وتكون في منتصف الوقت ما بين طلوع الشمس وغروبها بإذن الله عز وجل، فإذا انتصفت في كبد السماء وابتدأت بالمسير فحينئذٍ يبدأ وقت الظهر، فقبل مسيرها، وهي لحظة وقوف الظل لا يجوز إيقاع الصلاة -كما قلنا- في قول الجماهير، وانعقد عليه الإجماع، إلا ما جاء عن ابن عباس ومالك رحمه الله تعالى.
فلذلك قالوا: يبدأ وقت الظهر من الزوال،
أي:
من حركة الشمس، فالسبب في تسمية هذا الوقت بالزوال أنّ الشمس تتحرك، فكأنها زالت عن مكانها الذي ثبتت فيه في كبد السماء، وهذا الوقت هو أول وقت الظهر.ثم كيفية معرفة هذا الوقت تختلف باختلاف الفصول، وباختلاف البلدان، ولكن الطريقة التي يمكن للإنسان أن يضبط بها المواقيت.أن يثبت شاخصاً على مكانٍ مستوٍ، ويعرف طول هذا الشاخص، ثم بعد ذلك ينظر في ظل الشاخص، فتبدأ الشمس طالعة من مشرقها فيراقب الظل في جهة المغرب، فكلما تقاصر الظل، خاصةً عند منتصف النهار يضع العلامة، خاصة إذا كان الشاخص على ورقة أو نحوها، فيضع علامة على الظل، حتى يقف الظل فيعلم أن هذه اللحظة التي وقف فيها الظل هي الساعة التي انتصف فيها النهار، بمعنى أنه بمجرد ما يبتدئ الظل بالزيادة والانحسار إلى جهة المشرق فاعلم أنها ساعة الزوال، وأن ما قبلها ساعة انتصاف النهار.و (من) في قوله: (من الزوال) ابتدائية،
أي:
يبتدئُ بزوال الشمس.
وقوله:
(إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال) الفيء: الرجوع،
ومنه قوله تعالى:
{فَإِنْ فَاءَتْ} [الحجرات:9] أي: رجعت،
قالوا: سمي بذلك لأن الظل يَفِيء،
بمعنى:
يرجع، فبعد أن كان في جهة الغرب إذا به إلى جهة المشرق، وبتقاصُر الظل يكون الفيء، فالظل الذي تقف عليه الشمس عند انتصافها في كبد السماء لا يُحسب، وببداية تحركها إلى جهة المغرب، وزيادة قدر الظل في جهة المشرق يبدأ وقت الظهر كما قلنا، فيضع من هذه البداية علامة على الورقة، ثم بعد مسيرها ينظر إلى طول الظل حتى يساوي العود أو الشاخص الموضوع.والسبب في ذلك أن الزوال أحياناً يقف على قدر من الظل، بمعنى أنه يكون للشاخص ظل، فلو فُرِض أن ظله يختلف بالصيف والشتاء على حسب قرب الشمس من مسيرها الذي هو في منتصف القطب أو انحرافها في فصل الشتاء، فإذا كان الظل الذي وقفت عليه الشمس يعادل شبراً ونصف لشاخص طوله متر، فحينئذٍ يحسب من هذا الشبر والنصف أو القدم -كما يقولون-، ويُعتبر وصول الظل إلى القدم هو بداية وقت الظهر عند الزيادة، فتضع علامة على هذا القدر.وبعد زيادة الظل في جهة المشرق بقدر الشاخص الذي هو المتر، يكون وقت الظهر قد انتهى،
وهذا هو معنى:
إلى أن يصير فيء كل شيءٍ مثله بعد فيء الزوال.فلا بد في غالب الأحوال أن يكون للزوال ظل، ولذلك تجد في بعض التقاويمات أنَّ ظل الزوال قدم.بمعنى أن الشمس تنتصف
[وقت صلاة العصر]
قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت العصر].
قوله: (ويليه) أي: يقع بعد وقت الظهر وقت العصر، والولاء بمعنى أنه بعد انتهاء وقت الظهر يدخل وقت العصر.
وقال بعض العلماء: إن هناك وقتاً مشتركاً بين الظهر والعصر، وهو الأمد الفاصل بين الوقتين، وظاهر السنة ما ذكره ودرج عليه المصنف رحمه الله لظاهر حديث إمامة جبريل، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الوقتين في صحيح مسلم.والعصر في لغة العرب يُطلق بمعانٍ، فالعصر الدهر،
وحملوا عليه قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1]، فأقسم الله عز وجل بالزمان كله.
والعصر:
اليوم والليلة،
ومنه قول الشاعر:
ولن يلبث العصران يومٌ وليلة.وكذلك يطلق على الوقت المحدد المعروف الذي يكون في عشي النهار، أي: في آخر النهار.
قالوا:
سُمِّي العصر عصراً لأن الإنسان إذا عصر الشيءَ لم يبق إلا آخره، بمعنى أن النهار ولَّى ولم يبق إلا آخره، وكان بمثابة العصارة الأخيرة في الشيء، فسُمي العصر عصراً من هذا.والعصر هو الوقت الثاني كما ذكرناه، وهو أفضل الصلوات؛
لقوله تعالى:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فإن الله عز وجل خصها بالذكر، وعطف الخاص على العام يقتضي تشريف الخاص وتميُّزه على العام بفضيلة،
كما في قوله تعالى:
{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر:4]،
وقوله:
{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]، فذكر جبريل وميكال من باب التخصيص والتشريف، فالعرب تعطف الخاص على العام للدلالة على شرفه،
فلما قال تعالى:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] دل على فضل صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى.
وأما الدليل على كونها صلاةً وسطى فما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام:
(شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر،
ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً أو قال:
حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً)
، وهذا في الصحيح، وهو نص على أن الصلاة الوسطى هي العصر، ووصِفت بكونها وسطى؛ لأنها تقع بين صلاة نهارية وهي الظهر، وصلاة ليلية وهي المغرب،
ومما يدل على أنها هي المختصة بالفضل اختصاصها بالوعيد في قوله عليه الصلاة والسلام:
(من فاتته صلاة العصرِ فكأنما وتر أهله)، بمعنى -والعياذ بالله- فقد أهله.فهذا يدل على عظيم شأنها، وأنها تتميز من بين الصلوات بهذا الفضل العظيم.
قال بعض العلماء: خُصَّت العصر بهذه المزية لأنها تقع عند التجار في أوقات التجارة، فالناس الغالب أنهم في العصر يتبايعون ويشترون، فتكون ساعة غفلة، ولذلك خُصَّت بهذا الفضل.وكذلك الحال بالنسبة لأول النهار،
فلما قال تعالى:
{فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25] قال عليه الصلاة والسلام: (صلاة الأوابين حين ترمض الفِصال) قالوا: خصَّ صلاة الضحى بهذا الوقت لأنها ساعة اشتغال الناس بالتجارة، فهذه في النافلة في أول النهار، والعصر فريضةٌ في آخر النهار، وجُعِلت فضيلتها في آخر النهار لأنه وقت الكلال والتعب والسآمة.
ولذلك قالوا:
إنها هي الوسطى، وهي أفضل الصلوات، ووقتها من صيرورة ظل كل شيءٍ مثله على ظاهر حديث جبريل وحديث ابن عمر في الصحيح، إلى أن يصير ظل كل شيءٍ مثليه، فهذا القول الأول.والقول الثاني أن وقت العصر ينتهي إلى اصفرار الشمس، وكلا القولين في وقت الاختيار.وأما وقت الاضطرار فيستمر من ظل كل شيءٍ مثليه إلى غروب الشمس، أو من صُفرة الشمس إلى غروب الشمس.
فأما القول الأول الذي يقول: وقت العصر إلى أن يصير ظل كل شيءٍ مثليه، فتحسب ظل كل شيءٍ مثله، ثم بعد ذلك تحسب صيرورته إلى الضعف، فإذا بلغ الضعف من بعد ظل الزوال فقد انتهى وقت العصر الاختياري، فلا يحل تأخير الصلاة لقادرٍ على فعلها عن هذا الوقت، وهذا على القول الأول، ثم يبدأ الوقت الاضطراري، والوقت الاضطراري للحائض والنفساء إذا طَهُرت من حيضها ونفاسها، فلو أن امرأةً طهُرت من حيضها أو نفاسها في هذا الوقت الذي هو بعد أن صار ظل كل شيءٍ مثليه فحينئذٍ يُحكم بوجوب صلاة العصر عليها إذا طهرت قبل غروب الشمس بركعة، فإن طهرت قبل غروب الشمس بثلاث ركعات وهي مسافرة، أو بخمس ركعات وهي مقيمة، طُولِبت بصلاة الظهر والعصر لما بينهما من الاشتراك بدلالة الشرع، وسنبين هذا إن شاء الله في موضعه.
وأما قول من قال: إن وقت العصر إلى أن تصفر الشمس فهو أقوى الأقوال؛
وذلك لأن حديث مسلم في قوله عليه الصلاة والسلام:
(وقت العصر ما لم تصفر الشمس) ثبت بالسنة المدنية؛ لأنه كان بالمدينة.وحديث إِمَامَة جبريل -وهو حديث ابن عمر - للنبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة، والقاعدة أن المتأخر ينسخ المتقدم، ولذلك لا تعارُض بين الحديثين، فيُعتبر حديث (وقت العصر ما لم تصفر الشمس) نصاً في أن وقتها ينتهي عند اصفرار الشمس، والشمس إذا قربت من المغيب ذهب ضياؤها واصفرت، ثم بعد ذلك يبدأ عند الاصفرار وقت الاضطرار كما ذكرنا، ولا يجوز التأخير إليه إلا لمعذور.وإذا غابت الشمس انقطع وقت الاختيار ووقت الاضطرار.
قوله: [إلى مصير الفيء مثليه بعد فيء الزوال].هذا كما قلنا أحد قولي العلماء، والصحيح القول الثاني أن وقتها ينتهي عند اصفرار الشمس.وأما أول وقت العصر فعند الحنفية أوله إذا صار ظل كل شيءٍ مثليه، وقد بيّنا أن الصحيح أنه إذا صار ظل كل شيءٍ مثله، والدليل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبتدئ وقت العصر إذا صار ظل كل شيءٍ مثله، فالأحاديث الصحيحة التي من تأمَّلها نظر إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع العصر عند صيرورة ظل كل شيءٍ مثله.فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي المنهال حيث حدث يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال:
(ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية)، ومعنى ذلك أنه كان يوقعها وقد صار ظل كل شيءٍ مثله، ولا يتأتى أن يُصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن صار ظل كل شيءٍ مثليه، ثم يرجع الرجل إلى رحله والشمس حية، فهذا معروف، وغالباً من يعرف وقت المدينة يرى أن هذا بعيد، والغالب أنه صلَّى عند صيرورة ظل كل شيءٍ مثله، وانتهى وقت صلاته على ظاهر السنة ما لم تصفَر الشمس، واصفرارها -كما قلنا-: انطفاء نورها، بمعنى أنك تستطيع أن تنظر فيها، فإذا بها تصبح صفراء فتقوى على النظر إليها، ولكنها إذا كانت قريبة من الزوال يكون من الصعوبة أن تنظر إليها.
قوله: [والضرورة إلى غروبها].أي: وقت الضرورة، إلى غروبها،
فإن قال قائل:
ما الدليل على تقسيم الضرورة والاختيار؟
قلنا:
أما دليلنا على الوقت المختار فقوله عليه الصلاة والسلام: (وقت العصر ما لم تصفر الشمس).وأما الدليل على وقت الاضطرار الذي لا يجوز إلا لمعذور،
فقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:
(من أدرك ركعةً قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، فدل هذا على أن من صلَّى في هذا الوقت، فقد أدرك العصر.
وفي الحديث الآخر: (وقت العصر ما لم يغب الشفق)، فعلمنا أن هناك وقت اختيار وهناك وقت اضطرار، وأن وقت الاختيار ينتهي عند انطفاء الشمس وصيرورتها إلى الصفرة، ووقت الاضطرار من الصفرة إلى غروب الشمس.
قوله:
[ويسن تعجيلها] أي الأفضل والأكمل والأعظم أجر التعجيل بالعصر، لظاهر الحديث الذي ذكرناه في الظهر.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #57  
قديم 01-09-2020, 04:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

[وقت صلاة المغرب]
قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت المغرب إلى مغيب الحمرة].
أي: ويلي وقت العصر المغرب، والمغرب هي الصلاة الثالثة، وتكون بعد غروب الشمس؛
لما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أنه لما ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم المكتوبة قال:
(والمغرب إذا وجبت)،
ومعنى:
(وجبت): سقط قرص الشمس وغاب،
فإن العرب تقول:
وجب الشيء إذا سقط،
ومنه قوله تعالى:
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36]،
أي:
سقطت الإبل واستقرت على الأرض.
فقول جابر: (والمغرب إذا وجبت) أي: كان عليه الصلاة والسلام يصلي المغرب إذا وجبت الشمس، بمعنى غابت وذهب ضياؤها.
وقوله:
[إلى مغيب الحمرة] أجمع العلماء على أن وقت المغرب يبتدئ عند غروب الشمس، فهذا أول الوقت،
إلا خلافاً لبعض أهل الأهواء الذين لا يُعتد بخلافهم الذين يقولون:
إن المغرب يكون عند اشتباك النجوم، وكان قولاً لبعض السلف المتقدمين، ولكنه قولٌ لا يُعتد به؛ لمخالفته للسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يردq هل المغرب له وقت واحد أو وقتان؟
قال بعض العلماء:
المغرب وقتها بقدر ما تفعل، واستدلوا بحديث متكلَّمٍ على سنده.والقول الثاني أن المغرب لها وقتان، بمعنى أنه يبتدئ وقتها بعد غروب الشمس، وينتهي في وقتٍ غيره.
فالأولون يقولون:
المغرب لها وقتٌ واحد وهو قدر ما تؤديها بعد غروب الشمس، فلا يجوز التأخير فيها، وهذا أضيق المذاهب كما هو موجود في مذهب المالكية والشافعية.
والقول الثاني وهو الصحيح أن للمغرب وقتين:
الوقت الأول لبدايتها، والثاني لنهايتها، فأما بدايتها فبعد الغروب، وأما نهاية وقتها فيكون عند مغيب الشفق، فإذا غاب الشفق انتهى وقت المغرب،
والشفق شفقان:
شفقٌ أحمر وشفقٌ أبيض، فأجمع العلماء على أن الشفق إذا غاب انتهى وقت المغرب، ولكنهم اختلفوا في حد هذا الشفق.
فقال بعض العلماء: العبرة بالشفق الأحمر،
وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام:
(وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق)، فنص عليه الصلاة والسلام على أن وقت المغرب ينتهي عند مغيب الشفق، وسكت عليه الصلاة والسلام، فلم يقل شفقاً أحمر ولا شفقاً أبيض، فإذا غابت الشمس يأتي الشفق الأحمر وينتشر من جهة المغرب، فينتحي ناحية الشمس اليمنى وناحيتها اليسرى ويمتد في الأفق، وهذا يختلف باختلاف أزمنة الصيف والشتاء.وهذه الحمرة تستمر قرابة ساعة زمانية، وقل أن تزيد على ساعة.وبعد هذه الحمرة يأتي بياض في الأفق ليس بليلٍ ولا بنهار، وهذا البياض قدره ثلاث درجات فلكية، وكل درجة لها أربع دقائق،
أي:
اثنتا عشر دقيقة إلى ربع ساعة، فهذه الاثنتا عشرة دقيقة هي محل الخلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، فإذا قدَّرت بعد غروب الشمس ساعةً كاملة فيغيب فيها الشفق غالباً.
وبعد هذه الساعة الكاملة يبدأ الخلاف بين العلماء: هل انتهى وقت المغرب أو لم ينته؟ فمذهب بعض العلماء أنه ينتهي وقت المغرب بمجرد مغيب الشفق الأحمر، وهو أصح أقوال العلماء، والدليل على ذلك أن الشفق إذا أطلق فالمراد به الشفق الأحمر.وأيضاً فإنه إذا أُطلق فالعبرة في الاسم بمبتدئه؛ لأنه أقل ما يصدق عليه الوصف، ولذلك يعتبر مبتدؤه احتياطاً لأمر الصلاة، وتبقى قد ربع ساعة كما قلنا لا يجوز تأخير المغرب إليها.وبناءً على ذلك إذا غاب الشفق الأحمر يبدأ البياض الذي تدخل به ظلمة الليل، أو ما يسمى في لغة العرب (العتمة)، وسميت بذلك لأن العرب يُعتِمون بالإبل، والسبب في ذلك أنهم كانوا يأتون بالإبل من الرعي، فمن كرمهم وجودهم لا يبادرون الإبل بالحلب خوف الضيف أن يأتي، ويتأخرون إلى قدر العتمة، فترجع إلى ديارهم ومنازلهم وإلى مراحها عند الغروب، فإذا غربت الشمس تركوها، أو تأتي بعد الغروب قليلاً فيتركونها، وإن كان ألذ وأطيب ما يكون عندهم أن يحتلبوها ساعة رجوعها، ولكنهم يؤخرونها خوف الضيف، فيتأخرون إلى (العتمة)، فلذلك يقولون لها العتمة،
وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى:
(لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل)، فمعنى (اعتموا بالإبل) أي: أدخلوها إلى العتمة، بمعنى أخَّروا حلبها إلى عتمة الليل، وهي الظلمة التي تكون بعد الشفق الأبيض.
قوله:
[ويسن تعجيلها].
أي:
ويسن تعجيل المغرب، ويكون التعجيل نسبياً، فيترك قدر ما يُصلَّى ركعتين خلافاً للحنفية والمالكية رحمة الله عليهم، فتؤخر قدر صلاة ركعتين ثم يقيم، وهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم،
فقد ثبت في حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب لمن شاء).
وفي حديث أنس في الصحيح قال: (فلقد رأيت كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري -أي: يجعلونها سترة- حتى إن الرجل لو دخل ظن أن الصلاة قد أقيمت).فدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك قدراً بين الأذان والإقامة،
خلافاً لمن قال من العلماء: إنه يؤذن ويقيم مباشرة، فهذا خلاف السنة، وليس المراد بالتعجيل هذا.فالأفضل في المساجد أن يُترك قدر ما تصلى به السنة، وهي ليست براتبة ولكنها مستحبة لمكان الندب إليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: [إلا ليلة جمعٍ لمن قصدها محرماً].
ليلة جمع المراد بها: مزدلفة، وسميت جمعاً لاجتماع الناس فيها، والمراد بهذا ليلة النحر للحاج، فإن الحاج إذا دَفَع من عرفات لا يصلي المغرب في عرفات، وإن كان دَفْعُه بعد غروب الشمس، فاحتاط المصنف، والدليل على ذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.ولو صلَّى الحاج بعد غروب الشمس بعرفة صحت صلاته ولكنها خلاف السنة، والأفضل أن يؤخر صلاة المغرب ليلة النحر إلى وصوله إلى مزدلفة، ولا يصلي حتى في الطريق،
بل قال بعض العلماء:
حتى ولو خرج وقت المغرب، فقد اشترك المغرب والعشاء اشتراك جمع، فيؤخرها ولو وصل قرب الفجر؛ لأنه يرى أن وقت الاضطرار يستمر إلى الفجر.واحتج الإمام أبو حنيفة على هذا القول -مع أنه يُضيق في التمسك بظاهر السنة
- فإن أسامة لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة! قال عليه الصلاة والسلام: (الصلاة أمامك) قال الإمام أبو حنيفة: قوله: (الصلاة أمامك) تحديدٌ من النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى: ألاَّ تصلي إلا أمامك، يعني جَمْعَاً،
ولذلك قال:
لا تُصلَّى إلا في جمع، ولو وصلها بعد نصف الليل، وهذا من شدة تمسكه رحمة الله عليه بالسنة،
وفي هذا رد على من يقول:
إن الإمام أبا حنيفة يرد السنة ولا يقبلها، ولا يجوز اتهام هذا الإمام الجليل والعلم الفاضل من أئمة السلف رحمة الله عليه، بل هو غيورٌ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وإنما كان يخالف الأحاديث بسبب عدم علمه بها، ولكثرة الوضع بالبلد الذي كان بها
-أي: العراق-، فقد كان الوضع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم منتشراً في زمانه، فكان يحتاط في الأحاديث، ولذلك قلَّت عنده السنن.فالمقصود أن الحديث يدل على أن السنة للحاج أن يؤخِّر المغرب إلى بلوغه مزدلفة، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.لكن هنا مسألة وهي أن المعروف في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أنك لو ركبت الدابة أو البعير كما فعل عليه الصلاة والسلام، ودَفَعْت من عرفات إلى مزدلفة، فإنك ستقطع قرابة الساعة أو تزيد قليلاً، ومعنى ذلك دخول وقت العشاء،
فقالوا:
إن جمعه وقع جمع تأخير.فلو أن إنساناً بادر كما هو موجود الآن في السيارات، ودفع أول ما دفع الناس، فوصل في وقت المغرب، فهل يصليها في أول الوقت أو يتأخر؟ والذي يظهر أنه يصليها وقت بلوغه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علَّق ذلك بالمكان لا بالزمان.
[وقت صلاة العشاء]
قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت العشاء].أي يلي وقت المغرب وقت العشاء، ووقت العشاء بعد مغيب الشفق، واختلف العلماء في آخره.
قال رحمه الله تعالى: [إلى الفجر الثاني].
وقت العشاء وقتان:
الوقت الأول ينتهي عند منتصف الليل؛
لقوله تعالى: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، وهو منتصفه، والمراد الإشارة إلى اختياره.وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام تأخير الصلاة إلى نصف الليل، كما في رواية.
وقال بعض العلماء: ينتهي وقت العشاء عند الثلث.والأقوى في دلالة الكتاب والسنة ما ورد من كونه منتهياً عند منتصف الليل، أعني الاختياري، ثم يبقى الاضطراري، فإنه ينتهي بطلوع الفجر الصادق.
قوله: [وهو البياض المعترض].
الفجر فجران: الفجر الكاذب، وهو الذي يكون كذنب السرحان، بياضٌ طويلٌ في أعلى الأفق، ولا يعترض،
أي:
لا ينتشر.
قال عليه الصلاة والسلام: (الفجر أن يقول هكذا)،
وقال: (ولا يهيدنكم الساطع المصَعَّد)، (ولكن الفجر أن يقول هكذا)،
بمعنى:
لا يروِّعكم، ولا يمنعكم من الأكل والشرب وجود ضياء الساطع المصَعَّد -الفجر الكاذب-، والفجر الكاذب يكون في السدس الأخير من الليل، وسرعان ما يتلاشى هذا الضياء، بمعنى أنه لا يثبت الضياء فيه.وأما الفجر الصادق فإنه ينتشر فيه الضياء، ولا يزال الإنسان يدخل في الوضوح والإصباح حتى تطلع الشمس، والمراد بهذا أن وقت الفجر المعتبر يكون بطلوع الفجر الصادق، فإذا طلع الفجر الصادق انتهى وقت العشاء الاضطراري.
قال رحمه الله تعالى: [وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل إن سَهُل].هذا لما ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه،
أنه قال:
(أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعِشاء فخرج عمر فقال: الصلاة يا رسول الله، رقد النساء والصبيان.
فخرج ورأسه يقطر يقول:
لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة)، فدل على فضل تأخير العشاء.والسنة التفصيل، فإذا كان المسجد مسجد جماعة فإنه يُسنُّ للإمام أن ينظر إلى حال المأمومين، فإن كان المأمومون مجتمعين وكثيرين، فحينئذٍ يقيم الصلاة ويُبكر، وإن كانوا متأخرين يؤخر في العشاء إصابةً للسنة.
والدليل على هذا التفصيل ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر أنه قال: (والعشاء أحياناً وأحياناً، فإذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطأوا أخر)، فدل على أن أمر مساجد الجماعة يُنظَر فيه إلى حال الناس.وأما بالنسبة للمنفرد والمرأة والرجل المعذور فإن الأفضل له أن يؤخِّر العِشاء؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي)، فدل هذا على فضل تأخير العشاء.
وقال العلماء: السبب في ذلك أنه لا يزال في صلاةٍ ما انتظر الصلاة، ولأن الناس بعد العشاء يضطجعون، خاصة في القديم، والغالب فيهم أنهم بعد العشاء يرتاحون، فكون الإنسان لا يبادر إلى راحته ولا إلى نومه مع أنه قد تعب النهار، وينتظر تأخيرها أبلغ في طاعته لله، حتى يأتي عليه الوقت المتأخر للعشاء، وقل أن تجد أحداً يصلي معه، فيصيب فضلاً لا يصيبه غيره،
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
(أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها)، (لم يصلها أحد ممن كان قبلكم)، فدل هذا على فضل التأخير من هذا الوجه؛ لأن الناس تغفل وتنام لمكان المشقة وعناء النهار، فلذلك فُضِّل تأخيرها من هذا الوجه، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النوم قبلها، لمكان تعب الناس، ولما فيه من غالب عنائهم بتحصيل مصالحهم في النهار.وأما كيف يعرف المكلف نصف الليل فإنه يحسب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، ثم يقسم ذلك على اثنين، ثم يضيف النصف الذي خرج من هذه القسمة إلى وقت الغروب، فلو كان غروب الشمس الساعة السادسة، وأذان الفجر الصادق الساعة الخامسة، فمعنى ذلك أن الليل يستمر من الساعة السادسة إلى الخامسة بمقدار إحدى عشرة ساعة، ونصفها خمس ساعات ونصف، فيضيفها إلى الساعة السادسة التي هي وقت الغروب، فتصبح الساعة الحادية عشرة والنصف هي منتصف الليل.وبناءً على ذلك لا بد أن يعلم ساعة الغروب وساعة طلوع الفجر الصادق، ثم يفعل ما ذكرنا.
وقال بعض العلماء: إنه يَقْسِم ما بين طلوع الشمس وغروبها.وهذا مرجوح.
[وقت صلاة الفجر]
قال المصنف رحمه الله: [ويليه وقت الفجر إلى طلوع الشمس].
أي:
يلي وقت العشاء الفجرُ، وسُمي فجراً لانفجارِ الضوء فيه وانتشاره، وهذه الصلاة هي الصلاة الخامسة، وقد أثنى الله عز وجل عليها، ووصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أثقل صلاة على المنافقين؛ لأن الإنسان يكون في نومه، ولا يقوم إلا بوازعٍ من الإيمان وخوفٍ من الله عز وجل،
ولذلك أثنى الله على هذه الصلاة وخصها بالذكر وقال:
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78].
قال بعض العلماء: {قُرْآنَ الْفَجْرِ} أي: صلاة الفجر، وهذا قول جمعٍ من المفسرين،
وقوله تعالى:
{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قالوا: يستمر نزول الله جل وعلا في الثلث الأخير من الليل إلى أن تنتهي صلاة الفجر،
ولذلك قالوا:
مشهوداً بالخير بهذا الفضل العظيم،
فلا تزال ساعة الإجابة مرجوة لقوله عز وجل:
(هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟)، فدل على فضل هذه الصلاة من هذا الوجه،
وقيل:
(كَانَ مَشْهُودًا)؛ لأنه تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار؛
لقوله عليه الصلاة والسلام:
(يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار)، فملائكة الليل من صلاة العصر إلى صلاة الفجر، وملائكة النهار من صلاة الفجر إلى صلاة العصر.وإذا نظرت فقلَّ أن تجد وقت العصر يفارق وقت الفجر، فتجدهما متقاربين كأنهما النصف، فتجد بين العصر وبين الفجر توافقاً غالباً، ويكون الفرق بينهما أحياناً إلى نصف ساعة، وأحياناً إلى ساعة أو ساعتين، لكن الغالب أن يكون هناك توافق بين العصر وبين الفجر؛ لأنه في بعض الأحيان يُؤخَّر العصر عن وقته.فالمقصود أن هذه الصلاة مفضَّلة من هذا الوجه،
وقال بعض السلف: إنها هي الصلاة الوسطى، والصحيح أن الوسطى العصر كما ذكرنا، ولكن لهذه الصلاة فضل،
فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه:
(من صلى العشاء في جماعةٍ فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعةٍ فكأنما قام الليل كله)، وأن (من صلى هذه الصلاة حيث ينادى لها مع الجماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي).ثم قال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح-: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)،
أي: لا تتعرض لمسلم، فإذا تعرضت لإنسانٍ من أهل الفجر بأذية، فإنه في ذمة الله جل وعلا، ومن آذاه وتعرض لذمَّة الله أوشك أن يكبه الله على وجهه في النار -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك خُصَّت هذه الصلاة بهذه الفضائل.وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الفجر يجب أداؤها بعد تبيُّن الفجر الصادق، وأنها إذا وقعت قبل الفجر الصادق، فليست بصحيحةٍ ولا معتبرة، وعلى المكلف قضاؤها.وأما بالنسبة لانتهاء وقت الفجر فإنه ينتهي بطلوع الشمس،
وقال حبر الأمة وترجمان القرآن:
إنه ينتهي وقتها بصلاة الظهر، وهو قولٌ شاذٌ قال به بعض الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة، ويُحكى عن ابن القاسم من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع، والصحيح أنه إذا طلعت الشمس فقد انتهى وقت الفجر،
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(من أدرك ركعةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح)، ومفهومه أن من لم يدرك الركعة قبل طلوع الشمس، فصلاته صلاة قضاءٍ وليست بصلاة أداء.ولذلك ذهب جماهير السلف والخلف إلى أنه لا يجوز الفجر بعد طلوع الشمس، وإذا طلعت الشمس فقد انتهى وقتها على ما ذكرناه.
قال رحمه الله تعالى: [وتعجيلها أفضل] أي: السنة تعجيل الفجر.
وللعلماء في هذه المسألة قولان: قال بعض السلف رحمهم الله: السنة أن تبتدئ الفجر في أول وقتها، وهو الذي اصطلح العلماء على تسميته بوقت الغَلَس، وذلك لما ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه كان يصليها بغَلَس.
فقد قال جابر رضي الله عنه كما في الصحيح: (والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس).والغَلَس يكون في أول الفجر الصادق؛ لأنه مع تبيُّن الضوء في أعلى السماء، فإنه لا تزال ظلمة الليل بين الناس، أعني على البسيطة والأرض، فلا تزال هذه الظلمة تنكشف بحسب قوة الضياء، فالسنة في فعل هذه الصلاة أن تقع عند الغلس أو في الغلس.وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله -مخالفاً للجمهور- إلى أن السنة والأفضل في الفجر أن يُسْفر بها،
وذلك لما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
(أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)، والصحيح مذهب الجمهور أنّ الأفضل في صلاة الفجر أن تؤديها في أول وقتها، وذلك لما ثبت من حديث جابر في الصحيحين،
ولما ثبت أيضاً في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
(كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس).
ولا يعارض هذا قول أبي برزة:
(وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه)، فهذا بالنسبة للقرب، فمعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم يُوقِعها في الغلس، ولكن إذا سلّم من الصلاة عرف الإنسان جليسه، وذلك لمكان القرب وتأثير الضياء، أعني دخول الضياء على البسيطة فأقوى الأقوال أن الأفضل إيقاعها في أول الوقت،
وأما دليل الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه:
(أسفروا بالفجر).فللعلماء في هذا الحديث أوجه،
فمنهم من قال:
إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)، التبيُّن والتثبت حتى يكون الإنسان موقعاً الصلاة في وقتها؛ لأن الفجر مشكلته أنه يعترض خاصةً في الأزمنة الماضية لم تكن فيها الساعات موجودة، وكان الناس يجدون مشقةً وعناء، خاصةً في الليالي البيض، فإن الليالي البيض يكون -كما هو معلوم- القمر فيها شديد الضياء، ولذلك يلتبس ضياء السماء مع ضياء الفجر، وتجد الناس ربما صلوا الفجر ثلاث مرات، أو أربع، يظنون أن الصبح قد طلع، والواقع أنه لم يطلع،
قالوا:
فقصَد النبي صلى الله عليه وسلم التبين والتحري.وقال بعض العلماء -والنفس تطمئن إليه-: إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالإسفار بالفجر أن تبتدئ بها بغلس وتطيل القراءة فيها، حتى إذا سلَّمت أصبت الإسفار،
وهذا في الحقيقة هو الأقوى لأمرين:

الأمر الأول: أن فيه معنىً يؤكد زيادة الأجر، ووجه ذلك أنك إذا أطلت القراءة، فإنه يوجد موجب للحكم بزيادة الأجر.
الأمر الثاني: تأكد هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يقرأُ فيها من الستين إلى المائة آية -صلوات الله وسلامه عليه-، مع ما فيه من الترتيل والتحبير في قراءته صلوات الله وسلامه عليه، فإذا كان يُوقِع الصلاة في غَلَس، ويخرج منها حين يتبين الرجل جليسه، فلا شك أن هذا نوعٌ من الإسفار، فقُصِد من الإسفار أن الإنسان يطيل القراءة، بشرط ألا يشق على من وراءه، فهذا هو أعدل الأقوال، فالحديث لا يعارض الأصل، ونضيف إلى ذلك أن المعهود في الشريعة أن مواقيت الصلاة الأفضل فيها الإيقاع في أول الوقت،
كما جاء في حديث ابن مسعود:
أنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله،
قال:
(الصلاة على وقتها)،
وفي رواية ابن حبان وغيره:
(على أول وقتها)،
ولذلك يقوى القول بأن المراد من قوله عليه الصلاة والسلام:
(أسفروا بالفجر) التعجيل، وليس المراد به تأخر وقت الصبح إلى الإسفار.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #58  
قديم 01-09-2020, 04:18 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (56)

صـــــ(1) إلى صــ(6)

شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [2]
من شروط الصلاة: دخول الوقت،
ومن المسائل المتعلقة بهذا الشرط: كيفية إدراك الصلاة في وقتها، وحكم أداء الصلاة قبل دخول الوقت، وما هو المعتبر في دخول الوقت، وحكم إذا أدرك المكلف وقت الصلاة ثم زال تكليفه ثم كلف وغيرها من المسائل.
[كيفية إدراك الصلاة في وقتها]
قال المصنف رحمه الله: [وتدرك الصلاة بتكبيرة الإحرام في وقتها] كأن المصنف يقول: إن المكلف إذا علم أوقات الصلاة، فعلمتَ وقت الفجر، ووقت الظهر، ووقت العصر والمغرب والعشاء، فحينئذٍ ينبغي أن تعلم أنك إن أوقعت الصلاة في هذه المواقيت التي وقَّتها الشرع وحددها لهذه الصلوات فإن صلاتك معتبرةٌ مجزئه.واصطلح العلماء رحمهم الله على أنك إذا أوقعت الصلاة في وقتها أنها صلاةٌ مؤدّاة، بمعنى أنها قد أُدِّيت في الوقت المعتبر، ثم إذا علمت أن الصلاة ينتهي وقتها بذهاب ذلك الزمن المحدد الذي سبقت الإشارة إليه فاعلم أنك إن خرجت عن هذا الوقت أنك قاضٍ ولست بمؤدٍ، ولو كنت معذوراً.فلو أن إنساناً نام عن صلاة الصبح حتى طلُعت الشمس فإنه بالإجماع إذا أراد أن يصلي عليه أن ينوي القضاء ولا ينوي الأداء؛ لأن الوقت الذي يُوقِع الصلاة فيه -بعد طلوع الشمس مثلاً- إنما هو وقت قضاءٍ وليس بوقت أداء.فثبت عندنا أن للصلاة وقتاً، وأنك إن أوقعت الصلاة خارج الوقت تكون قاضياً، وإن أوقعتها داخل الوقت تكون مؤدياً.لكن لو أن إنساناً أوقع جزءاً من الصلاة في الوقت المعتبر، وجزءاً منها في الوقت الخارج عن ذلك الوقت المحدد، فهل يوصف الكل بالقضاء؟ أو يوصف الكل بالأداء؟ أو يوصف بحسب الأَجزاء؟ فهذا يتردد من جهة النظر.و a قال رحمه الله: (وتدرك الصلاة بتكبيرة الإحرام في وقتها)،
فقوله: (وتدرك الصلاة) أي: أداؤك لها (بتكبيرة الإحرام في وقتها) هذا أحد أقوال العلماء، وهو أن من كبر تكبيرة الإحرام قبل أن ينتهي وقت الصلاة فإنه مؤدٍ لها لا قاضٍ.
مثال ذلك:
لو أن إنساناً كبر تكبيرة الإحرام قبل أن تغرب الشمس، فإنه يعتبر مؤدياً لصلاة العصر لا قاضياً لها، ولو أنه كبر تكبيرة الإحرام قبل أن يغيب الشفق الأحمر فإنه يعتبر مؤدياً لصلاة المغرب لا قاضياً لها، وقس على هذا.فالعبرة في إدراك الصلوات الخمس على هذا القول إدراك تكبيرة الإحرام قبل انتهاء الأمد والزمان.وذهب طائفةٌ من العلماء وهو مذهب الجمهور إلى أن إدراك الصلاة إنما يكون بالركعة الواحدة فأكثر، فإن ركعت قبل أن يخرج وقت الفريضة فأنت مؤدٍ ولست بقاضٍ.
مثال ذلك: لو أن إنساناً كبَّر لصلاة العصر، ثم قرأ، ثم ركع ووقع تكبيره للركوع قبل أن تغرب الشمس، فلما ركع ورفع من ركوعه غابت الشمس، أو لما ركع وقبل أن يرفع من الركوع غابت الشمس، فكل ذلك يُوصَف فيه بكونه مؤدياً للصلاة مدركاً لها، وهذا أصح القولين، فالعبرة في إدراك الفرائض إنما هو بالركعة الكاملة، فمن أدرك وقتاً يستطيع في مثله أن يؤدي ركعةً من الصلاة يُعتبر مؤدياً لها، لا قاضياً لها.
ودليله ما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر).
ووجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم علّق إدراك الصلاتين -أعني الفجر والعصر- على كونه أوقع الركعة قبل أن ينتهي أمد الصلاة المعتبر.فإذاً أصح الأقوال أن العبرة بإدراك الركوع؛ لأن الركعة تدرك بالركوع، وهذا القول لا شك أنه أعدل لدلالة السنة عليه.
ويتفرَّع على هذا فوائد:
فلو قلت: إن العبرة بتكبيرة الإحرام، فلو أن المرأة أدركت لحظة في مثلها يمكن أن تكبر تكبيرة الإحرام، فطهُرت من حيضها، أو طهُرت من نفاسها وجب عليها قضاء العصر.
وعلى القول الثاني: إن كانت قد أدركت هذا القدر الذي لا يمكن إدراك الركعة فيه فإنه لا يجب عليها قضاء صلاة العصر.فبناءً على هذا تنظر إلى قدر الزمان، فتكبيرة الإحرام لا تأخذ وقتاً كبيراً، فمن أدرك هذه اللحظات -عند أصحاب القول الأول- يجب عليه قضاء الصلاة، فلو أن مجنوناً أفاق من جنونه قبل أن تطلُع الشمس بمقدار تكبيرة الإحرام،
نقول:
يلزمك أن تقضي صلاة الفجر،
ولو أن حائضاً أو نفساء طهُرت نقول:
يلزمكِ قضاء هذه الصلاة؛ لأنها قد طهرت في أمدٍ يمكنها أن تكبر فيه تكبيرة الإحرام، والصلاة مدركة بهذا الأمر.
أما لو قلتَ: العبرة بالركعة فقَدِّر للركعة زماناً، فلو قلنا إن الركعة أقل ما يجزئ فيها أن يقرأ الفاتحة، ثم يركع، فيمكنه ذلك في حدود الدقيقتين أو ثلاث دقائق،
فحينئذٍ تقول: هذا الأمد -أعني الثلاث الدقائق- إذا أدركه الإنسان قبل غروب الشمس، أو قبل طلوع الشمس فإني أحكُم بكونه مدركاً للفريضة على التفصيل الذي ذكرناه، ولكن لو أدرك دقيقةً فإنه على هذا القول لا يجب عليه القضاء، ولو أوقع الصلاة فيها فإنه قاضٍ وليس بمؤدٍ.
[حكم أداء الصلاة قبل دخول الوقت]
قال رحمه الله: [ولا يصلي قبل غلبة ظنه بدخول وقتها] بعد أن بين لك رحمه الله أن للصلاة بدايةً، وللصلاة نهاية شرع في بيان الأحكام المترتبة على البداية والنهاية، فبيَّن لك أحكام النهاية، وشرع الآن في بيان أحكام البداية.فإذا علمت هذه المواقيت فإن أحكام بدايتها أنه لا يجوز للمكلف أن يُوقِع أي صلاةٍ قبل وقتها، إلا ما استثناه الشرع، كجمع التقديم في صلاة العصر مع الظهر، وجمع التقديم في صلاة العشاء مع المغرب، فإنك إذا نظرت إلى إيقاع صلاة العصر فقد وقعت في جمع التقديم قبل وقتها، وكذلك أيضاً إذا نظرت في صورة الجمع إلى صلاة العشاء مع المغرب فإنها قد وقعت صلاة العشاء قبل وقتها، لكن باستثناءٍ من الشرع، وبأصلٍ ودليلٍ دل على ذلك، وأنه لا حرج على المكلف في فعله.أما لو أن إنساناً ليس عنده عذر الجمع، فجاء فجمع أو أوقع الصلاة قبل وقتها لم تصح صلاته،
مثال ذلك:
لو أن إنساناً توضأ لصلاة الظهر، ثم صلى الظهر قبل أن تزول الشمس، فإنه بالإجماع تبطل صلاته ولا تصح منه ويُلزَم بالقضاء؛ لأن الله عز وجل أمره بالصلاة بعد زوال الشمس، فحدد الأمر بها، ووقَّت الزمان للإلزام بها بزوال الشمس، فالصلاة إذا أوقعها قبل زوال الشمس فهي صلاةٌ غير الصلاة التي أمره الله بها.فإذا زالت الشمس، فبعد انتهائه من الصلاة توجه عليه خطابٌ جديد يطالبه بفعل الصلاة؛ لأنه أثناء فعله لم يكن هناك خطابٌ شرعي بالفعل.
ولذلك يقول العلماء:
من أوقع الصلاة قبل وقتها غير معذور فإنه تلزمه إعادة تلك الصلاة، وصلاته السابقة صلاة نفل، سواءٌ أكان ذلك على سبيل الخطأ منه، أم كان على سبيل التعمد والعلم.
فقوله: (ولا يصلي قبل غلبة ظنه)،
فيه:
أولاً: لا تجوز الصلاة قبل وقتها، وبيّنا هذا ودليله.
ثانياً: يستفاد من هذه العبارة أنه إذا غلب على ظنك أن وقت الصلاة قد دخل جاز لك أن تصلي، فمن باب أولى إذا تيقَّنْتَ،
وقد تقدَّم معنا أن مراتب العلم تنقسم إلى أربع مراتب:
الوهم، والشك، والظن أو ما يُعبِّر عنه العلماء بغالب الظن، واليقين.
فالمرتبة الأولى:
الوهم، وهو أقل العلم وأضعفه، وتقديره من (1%) إلى (49%)، فما كان على هذه الأعداد يعتبر وهماً.
والمرتبة الثانية:
الشك، وتكون (50%)، فبعد الوهم الشك، فالوهم لا يُكلَّف به،
أي:
ما يرد بالظنون الفاسدة،
وقد قرَّر ذلك الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس:
قواعد الأحكام،
فقال: إن الشريعة لا تعتبر الظنون الفاسدة.
والمراد بالظنون الفاسدة:
الضعيفة المرجوحة؛ لأن وجودها وعدمها على حدٍ سواء، ثم بعد ذلك الشك، وهو أن يستوي عندك الأمران، فأنت لا تدري أهو موجود أو غير موجود؟
تقول:
يحتمل أن يكون موجوداً، ويحتمل أن يكون غير موجود، وكلا الاحتمالين على مرتبة واحدة، فهذا تسميه شكاً.
والمرتبة الثالثة: غالب الظن، أو الظن الراجح، وهذا يكون من (51%) إلى (99%)، بمعنى أن عندك احتمالين أحدهما أقوى من الآخر،
فحينئذٍ تقول:
أغلب ظني.فإذا كان غالب ظنك أن الوقت قد دخل فإنه يجوز لك أن تصلي الصلاة وتفعلها.
والمرتبة الرابعة:
اليقين، وتكون (100%)، كأن تتيقن أن الشمس زالت، وتعرف زوالها بالأمارة، أو ترى الشمس قد غابت، وتعرف مغيبها بالأمارة، فإذا رأيت الشمس غابت أمام عينيك، فأنت قد جزمت، وهنا تفعل الصلاة لوجود هذا اليقين.لكن لو أن إنساناً قدَّر مغيبها، ومن عادته أن ما بين العصر والمغرب يفعل فيه أشياء، وبمجرد أن ينتهي من هذه الأشياء ينتهي الوقت، وكانت والسماء مغيمة لا يستطيع أن يرى مغيب الشمس فيها، أو يكون في مكان لا يرى فيه الشمس، لكن يعلم أن مثل هذا القدر من الزمان الذي من عادته أن يجلسه أن الشمس تغيب في مثله، فهذا ظن غالب، لا قطع.وكذلك لو جلس من طلوع الشمس إلى زوالها، كرجل كفيف البصر من عادته أن يجلس ما بين طلوع الشمس إلى زوالها، يصلي ما شاء الله له، ويقرأ من القرآن ما كتب الله له، ومن كثرة الإلف والعادة يعلم أنه إذا بلغ إلى القدر المعين أن الشمس تزول، وأن وقت الظهر يدخل، فهذا غالب ظنٍ معتبر.فهذه دلائل بالنسبة لشخص الإنسان، أو دلائل بالأمارات والعلامات يغلب بها ظن الإنسان أن وقت الصلاة قد دخل، فإذا حصَّل الإنسان غلبة الظن، أو حصَّل اليقين فحينئذٍ يتعبدُ الله ويصلي.أما لو كان الظن وهماً، أو كان شكاً، فإن الأصل عدم الصلاة.والدليل على أنه في غالب ظنه يصلي أن الشرع علَّق الأحكام على غلبة الظن، وقد قرر ذلك العلماء رحمة الله عليهم،
ولذلك قالوا في القاعدة:
(الغالب كالمحقق).
أي: الشيء إذا غلب على ظنك، ووجِدت دلائله وأماراته التي لا تصل إلى القطع، لكنها ترفع الظنون، فإنه كأنك قد قطعت به،
وقالوا في القاعدة:
(النادر لا حكم له).فالحكم للغالب، فالشيء الغالب الذي يكون في الظنون أو غيرها مع الذي به يناط الحكم.وبناءً على هذا إذا غلب على ظنك أن الوقت قد دخل أو تحقق فصلِّ،
لكن لو أن إنساناً قال:
أنا أشك أن الشمس قد غابت، فاحتمال مغيبها واحتمال بقائها عندي بمرتبةٍ واحدة،
أو قال:
أتوهَّم أن الشمس قد غابت.فإنه لا يُصلي المغرب؛ لأن اليقين أن العصر باقٍ، واليقين أن النهار باقٍ، والقاعدة في الشريعة أن اليقين لا يزول بالشك، ولذلك تبقى على اليقين،
والقاعدة المفرعة على القاعدة التي ذكرناها تقول:
(الأصل بقاء ما كان على ما كان).فما دمت في النهار فالأصل أنك في النهار حتى تتحقق من مغيب الشمس، وما دمت أنك في المغرب ولم تتحقق من مغيب الشفق فالأصل أنك في المغرب حتى تتحقق من مغيب الشفق، فهذا بالنسبة إذا شككت واستوى عندك الاحتمالان.
ولذلك قال العلماء: من شك هل طلع الفجر أو لم يطلع جاز له أن يأكل ويشرب إذا كان في الصيام.فلو أن إنساناً استيقظ من نومه، ولم يستطع أن يتبين هل طلع الفجر أو لم يطلع، فالأصل واليقين أنه في الليل،
ونقول:
كُل وأنت معذورٌ في أكلك، لكن لو كان مستطيعاً أن يتحرى وجب عليه التحري،
للقاعدة: (القدرة على اليقين تمنع من الشك).ولا يجوز للإنسان أن يجتهد ما دام أنه بإمكانه أن يصل إلى اليقين.فهذا بالنسبة لحكم الوقت ابتداءً.
فالإنسان له أربعة أحوال: إما أن يتوهم دخول الوقت، أو يشك، أو يغلب على ظنه، أو يستيقن.فإن توهم دخول الوقت أو شك لم يصلِّ، وإن غلب على ظنه أو قطع فإنه يصلي، وصلاته مجزِئة معتبرة.
[المعتبر في دخول الوقت]
قال رحمه الله تعالى: [بدخول وقتها إما باجتهادٍ، أو خبر ثقةٍ متيقن] اعتبار الإنسان بدخول الوقت وقد يكون باجتهاد؛ لأن غالب الظن ينبني على الاجتهاد، وغالب الظن يكون مبنياً على الإخبار؛ لأنه ربما كذب المخبر، لكنه رحمه الله عبر بغالب الظن، وإلا فيمكن في بعض الأحوال أن تستيقن، كما لو رأيت الشمس غابت، فحينئذٍ أنت على يقين، فاختار المصنف رحمه الله حالة غلبة الظن لكي نعلم أن اليقين من باب أولى وأحرى؛
لأنه إذا حكم لك أنه في غلبة الظن تصلي فتعلم بداهةً أنه لا حاجة أن يقول لك:
أو استيقنت؛ لأنه إذا غلب على ظنه فمن باب أولى إذا استيقن.فغالب الظن إما أن يكون باجتهاد أو بخبر ثقةٍ متيقِّنٍ، أو بالعلامات أو الأمارات أو الدلائل التي يتحرى الإنسان بها زوال الشمس، ويتحرى بها صيرورة ظل كل شيءٍ مثله أو مثليه، ومغيب الشمس، وكذلك أيضاً مغيب الشفق وانتصاف الليل وطلوع الفجر.فإنسانٌ يعلم دلائل الفجر الصادق من الفجر الكاذب ويستطيع أن يتحرى ويجتهد، فيعرف أن هذا الوقت هو وقت الفجر الصادق،
نقول له: اجتهد، فإن غلب على ظنك أن الفجر قد طلع فصلِّ وصلاتك معتبرة.
وحينئذٍ لا يخلو من أحوال:
فإما أن يجتهد ويتبيَّن له صدق اجتهاده، فصلاته معتبرةٌ إجماعاً.وإما أن يجتهد ويتبيَّن له خطؤ اجتهاده، كأن يظن أن الفجر قد طلع، ثم تبيَّن أن الفجر لم يطلع،
فحينئذٍ لا عبرة بالظن فالقاعدة:
(لا عبرة بالظن البين خطؤه)،
أي:
لا عبرة بالظن الذي بان واتضح خطؤه، وبناءً على ذلك يطالب بإعادة الصلاة؛ لأن ظنه في غير موضعه، وقد توصَّل باليقين إلى خطئه فيلزمه أن يعيد.وإما ألا يتبين له هل صدق اجتهاده فأصاب الوقت، أو أن اجتهاده على خطأ،
فحينئذٍ نقول:
تعبَّدك الله بغلبة الظن، ولا عبرة بما وراء ذلك.والدليل على أن غالب الظن في مثل هذا يجزئ ويكفي تعبُّد الشريعة بغلبة الظن، بل إنها تحكم بسفك الدماء في حكم القاضي بالقتل بناءً على شهادة شاهدين، فإن شهد شاهدان أن فلاناً قتل فلاناً، فبالإجماع أنه يُقتص من القاتل؛ لأنه قتله عمداً وعدواناً، مع أنه يحتمل أن الشاهدين زورا أو أخطأا، ومع هذا فالغالب أنهما لم يخطئا، والغالب أنهما صادقان؛ لأننا لا نقبل شهادة إلا من الثقة العدل، فلما كان الشاهدان على ثقةٍ وعدالة حكمت الشريعة بغلبة الظن.ويُحكم به في الفروج،
فتقول: فلانة امرأة فلان، ويحكم القاضي بذلك بناءً على شاهدين عدلين.وهكذا بالنسبة للأحكام الشرعية، حينما تأتي للمجتهد وتسأله عن مسألة اجتهادية فيُفتيك، فإنه يفتيك على غالب ظنه، وليس على يقينٍ وقطع إلا فيما دلَّت عليه النصوص القطعية،
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
(إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر).فاجتهاد القاضي على غلبة ظن، كما قال العلماء، وبناءً على هذا فهمنا أن الشريعة تنيط الأحكام على غلبة الظن، فإذا اجتهد الإنسان وغلب على ظنه أن الوقت قد دخل، ثم لم يتبين له خطأُ الاجتهاد، فاجتهاده معتبر، وعبادته مجزِئةٌ صحيحة.
وقوله: [أو خبر ثقةٍ متيقِّن] أي: من غلبة الظن أن يخبرك ثقة، فخرج خبر الفاسق، فإن الفاسق أمرنا الله بالتبيُّن من خبره،
كما قال سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]،
وفي قراءة:
(فتثبتوا)، ولذلك أمر الله عز وجل في مثل هذا الخبر ألا نحكم به، ولكن نتبيَّن، فدلّ على أن خبره لا يُعتد به، إذ لو كان خبر الفاسق مُعتداً به لوجب الحكم به مباشرة، لكن كون الله عز وجل يأمرنا بالتثبت والأخذ من غيره والتبيُّن من صحته دَلّ على أن مثله لا يُعوَّل عليه،
ولذلك قال تعالى:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]،
وقال سبحانه وتعالى:
{وَاسْتشهدوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] ثم قال بعد ذلك: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282].فلو أخبرك من لا يُرضَى دينه، ولا يُرضَى خلقه، فليس خبره بمعتدٍ به.
قال العلماء: لأن الفاسق كما أنه اعتدى حدود الله بفسقه،
فلا يُؤمَن أن يعتدي حدود الله فيكذب عليك ويقول:
دخل الوقت، وهذا موجود، فإن بعض الفُسَّاق -والعياذ بالله- عنده استهتار بالدين، فلربما أراد أن يخدع المطيع عن ربه،
فقال:
دخل الوقت، ثم تركه يصلي، وكل ذلك إما قصداً للسخرية والاستهزاء، وإما تهكماً واستهتاراً واستخفافاً -والعياذ بالله- بحدود الله.فمثله لا يوثق بخبره، فلا بد أن يكون ثقة، وبعد ذلك أن يكون متيقناً.
والثقة على حالتين: إما أن يكون مجتهداً، أو يكون متيقناً، فإن كان الثقة متيقناً فلا إشكال،
فلو قال لك:
رأيت الشمس قد غابت بعيني فحينئذٍ تصلي صلاة المغرب بلا إشكال؛ لأن خبر الواحد في الديانات مقبول،
وأما لو قال لك اجتهاداً:
يغلب على ظنِّي أن الفجر قد طلع، فإن من أماراته كذا وكذا، وذكر لك الأمارات؛
أو:
يغلب على ظني أن النهار قد انتصف، وزالت الشمس؛ لأن الأمارة كذا وكذا.
فحينئذٍ لا ينفك المُخبَر عن حالتين: فإما أن تكون مجتهداً مثله، فهذا هو الذي عناه المصنف رحمه الله بمفهوم الوصف، فإن لم يتبيَّن لك الصبح،
وجاءك وقال لك:
قد تبين الصبح.فهل تترك الاجتهاد وتقلد؟ أو تبقى على الأصل ما دام عندك الآلة والملكة؟
قال بعض العلماء:
المجتهد لا يقلِّد، ويجب عليه أن يبقى حتى يتأكد أن الصبح قد طلع.
وقال بعض العلماء: المجتهد إذا تعذَّرت عليه الآلة في نفسه وجب عليه أن يعمل بقول غيره؛ لأنه ترفَّع عن مستوى من يقلد بمكان الاجتهاد، فإذا أصبح الاجتهاد فيه متعذراً أو ممتنعاً انتقل إلى حال الأمي وحال المقلِّد، فنلزمه بالعمل بخبر هذا المجتهد.والقول الأول من القوة بمكان، وهو أن المجتهد إذا تعذرت عنده الآلة، ولم يستطع أن يتحرى، فإنه يَقْوَى أن يميل إلى قول غيره، ولكن الاحتياط والأفضل أن يُعمَل بما درج عليه المصنف رحمه الله.والعامِّي الذي لا يعرف الأوقات، ولا يعرف الدلائل لو جاءه إنسانٌ مجتهد يعرف الأوقات بدلائلها وهو ثقة، فلا يَدْخُل فيما سبق،
فالعامي يلزمه أن يقلد من عنده علمٌ وبصيرة قال تعالى:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فإذا أخبره ثقة أنه باجتهاده قد تبيَّن له أن الصبح قد طلع وجب عليه أن يعمل بقوله؛ لأنه لا آلة عنده، وهو تبعٌ لغيره، فيستوي حينئذٍ أن يكون مخبِرُه على غالب ظنه، أو على يقين.فالحاصل أن الشخص المجتهد لا يَحكُم بدخول الوقت إلا باجتهادٍ منه أو مخبر متيقِّن، أما لو أخبره بغالب الظن ففيه خلاف،
وقلنا: الأحوط أن لا يعمل، وهذا على ما درج عليه المصنف.وأما إذا كان الإنسان عامياً أو غير مجتهد فحينئذٍ يعمل بقول من تيقَّن، وبقول من اجتهد ولو كان بغالب ظنه.
[حكم من صلى قبل الوقت باجتهاده فأخطأ]
قال رحمه الله تعالى: [فإن أحرم باجتهادٍ فبان قبله فنفلٌ وإلا ففرض] هذه مسألة من اجتهد وتبيَّن له الخطأ، فلو أنه أحرم بالصلاة على أن الوقت قد دخل، فظن أن المغرب قد وجب، وأن الشمس قد غابت فصلَّى، ثم في أثناء الصلاة أو بعد انتهاء الصلاة إذا بالشمس قد طلعت، فإن طلعت بعد انتهاء الصلاة فحينئذٍ لا إشكال أن الصلاة لا تُعتد فريضةً،
أي:
لا تقع فريضة، ويبطل الحكم بكونها فريضة والاعتداد بها، ويُلزم بفعل الفريضة بعد المغيب، ولكن تقع صلاته تلك نفلاً؛ لأنه إذا تعذَّرت نية الفرض انقلبت إلى النفل؛ لأنها عبادة،
والله يقول:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143].ولذلك أخبر الله أنه لا يضيع الإيمان،
وبالإجماع على أن المراد بقول الله:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، الصلاة؛ لأنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس،
فقالوا:
إخواننا قد ماتوا وقد صلوا إلى بيت المقدس، فأنزل الله عز وجل النفي الذي يدل على أنه ما كان ليضيع إيمانهم أي صلاتهم، فسمَّى الصلاة إيماناً.
قالوا: إن الله عز وجل وعد بأنه لا يُضِيع صلاة المصلي، فإذا تعذر إيقاعها فريضةً وانقلبت إلى نافلة، بما دل عليه دليل الكتاب.
وقال تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]، والمصلي محسن ومطيعٌ لله عز وجل،
وقد يقول قائل:
ما الدليل على أن الفرائض تنقلب نوافل والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)؟
فيقال له:
الدليل على ذلك أنَّك لو حكمت، فإما أن تحكم ببطلان الصلاة، أو انقلابها نفلاً،
فإن قلتَ:
أحكُم بانقلابها نفلاً صح ذلك مع دليل الكتاب؛ لأنه ينبني عليه أن صلاته معتد بها، فإنه قصد القربة وقصد الطاعة والإخلاص لله عز وجل، وأوقَع الصلاة بصفاتها الشرعية، فلا وجه للإبطال، والله عز وجل لا يضيع عمل العامل، وهذا عمل،
ولذلك نستثنيه من قوله صلى الله عليه وسلم:
(وإنما لكل امرئٍ ما نوى)،
فنقول: إذا تعذر الفرض انقلب إلى كونه نفلاً من هذا الوجه.
[حكم المكلف إذا أدرك وقت الصلاة]
قال المصنف رحمه الله: [وإن أدرك مكلفٌ من وقتها قدر التحريمه، ثم زال تكليفه أو حاضت، ثم كلف وطهرت قضوها] هذا مما ينبني على معرفة آخر الوقت.
وتستفيد منه أنك إن قلت: العبرة بتكبيرة الإحرام فإن المجنون إذا أفاق قبل مغيب الشمس بقدر تكبيرة الإحرام يلزمه أن يقضي العصر، ولو أفاق قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة الإحرام يلزمه قضاء الفجر.كذلك أيضاً لو أن صبياً احتلم، فبلغ قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة الإحرام يلزمه فعلُ الصبح، وكذلك أيضاً لو أنه احتلم قبل غروب الشمس فإنه يُحكم بكونه مطالباً بصلاة العصر،
وهذا إذا قُلنا: إنه يعتد بتكبيرة الإحرام.أما الراجح والصحيح -وهو مذهب الجمهور- أنه يُعتد بالركعة كاملة، فإذا أدرك الركوع قبل أن تغيب الشمس، أو قبل أن تطلع الشمس حُكِم بإدراكه لوقت الصلاة، وإلا فلا.
وقوله: [أو حاضت، ثم كلف وطهرت قضوها].
أي: أو حاضت المرأة، فيلزمها القضاء.
قال رحمه الله تعالى: [ومن صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها لزمته].
قوله: [من صار أهلاً] يعني: من أهل التكليف بالصلاة، إذا صار أهلاً قبل أن يخرج الوقت [لزمته] أي: يلزمه أن يفعل هذه الصلاة، إذا كان قبل الخروج بقدر تكبيرة الإحرام.
قوله: [وما يجمع إليها قبلها].الكلام متصل بما بعده، أي [لزمته الصلاة]، ولزمه [ما يُجمع قبلها]،
وهذا يتأتى في أربع صلوات:
الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء.
فإن قال قائل: قد علمتُ أن من أَدرك من آخر الوقت قدر الركعة أنه يُعتبر مدرِكاً للصلاة، لكن لو أن إنساناً أدرك قبل نهاية الوقت في الصلاة التي تُجمع مع ما قبلها بقدر فعل الأخيرة والأولى، أو قدر فعل الأخيرة وركعة من الأولى، فهل يُلزَم بفعل الصلاتين؟ أو يلزم بفعل صلاةٍ واحدة؟و a لو أن مجنوناً أفاق، أو صبياً احتلم قبل غروب الشمس بقدر خمس ركعات، فالأربع للعصر والخامسة للظهر،
فحينئذٍ إن قلتَ:
إن وقت الظهر والعصر للضرورات وأهل الأعذار فيُعتبر بمثابة الوقت الواحد، وهو قضاء الصحابة ومفهوم الشرع، وأدلة الشرع تدل عليه من جهة المفاهيم،
فإننا نقول:
يَلزمه فعل الصلاتين.وهذا هو الصحيح، وأقوى قولي العلماء، فمن أدرك قبل غروب الشمس الصلاة الأخيرة وقدر ركعة من الصلاة التي قبلها يَلزَمه فعل الصلاتين، فيلزمه فعل الظهر والعصر إن أدرك قدر خمس ركعات قبل مغيب الشمس، ويلزمه فعل المغرب والعشاء إن أدرك قبل نصفِ الليل، أو قبل طلوع الفجر -على القولين في آخر وقت العشاء- قدر خمس ركعات.
وإن كان مسافراً تقول:
إن أدرك ثلاث ركعات؛ لأنه يقصرُ الصلاة، فركعتان للأخيرة وركعة للأولى.وهذا كما قلنا تدل عليه أدلة الشرع، فالصلاتان بمثابة الصلاة الواحدة لأهل الأعذار، فيُلزم بفعلهما معاً، سواءٌ أكان ذلك في الظهر مع العصر، أم المغرب مع العشاء.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #59  
قديم 01-09-2020, 04:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (57)

صـــــ(1) إلى صــ(13)

شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [3]
من فاتته صلاة أو صلوات فلم يدرك وقتها وجب عليه قضاؤها مرتبة، إلا إن نسي فيسقط عنه الترتيب، أو إذا خشي خروج وقت الصلاة الحاضرة، فيصليها ثم يقضي الفائت بعدها.
[أحكام وأقوال العلماء في قضاء الفوائت]
بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويجب فوراً قضاء الفوائت مرتباً].
قوله:
[يجب فوراً]: بمعنى أن تُبادر مباشرةً.
وقوله: (قضاء الفوائت) معناه أنه قد خرج الوقت، فإذا خرج وقت الصلاة لمعذورٍ ثم زال عذره، كأن يكون نائماً فأفاق بعد طلوع الشمس يجب عليه فوراً أن يصلي الصبح،
وهذه المسألة للعلماء فيها قولان:
فقالت طائفةٌ من العلماء: إذا استيقظ الإنسان من نومه بعد خروج وقت الصبح، أو خروج وقت أي فريضةٍ، أو زال عذره، فإنه يجب عليه أن يبادر مباشرةً إلى فعل الفريضة، وإذا أخَّر وهو غير معذورٍ، كأن يكون استيقظ الساعة التاسعة صباحاً، وقد خرج وقت الفجر، فيلزمه مباشرةً أن يتوضأ، وأن يصلي الفجر.فلو جلس إلى العاشرة بدون عذرٍ،
قالوا:
يأثم،
وهذا مذهب من يقول:
إن القضاء على الفور لا على التراخي، ولا يجوز له أن يتراخى إلا من عذر، وهو قول الجمهور.
وقال بعض العلماء: إنه إذا استيقظ الإنسان من نومه، أو كان معذوراً وزال عذره بعد خروج الوقت لا يجب عليه القضاء فوراً، وإنما يصلي ما لم يدخل وقت الثانية، وهذا يتأتَّى في الصبح، فإنك إذا نظرت إلى الوقت فما بين طلوع الشمس وما بين زوال الشمس وقتٌ متسع،
فعندما نقول:
يلزمه الفور، أي: حين يستيقظ، ولكنه ينوي القضاء.وأما بالنسبة للقول الثاني فمن حقه أن يؤخِّر ما لم تَزُل الشمس، وهذا القول الثاني أحد الوجهين عند الشافعية رحمة الله عليهم،
ودليله حديث حذيفة في الصحيحين:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّس -أي: سار إلى آخر الليل- قال: فوقعنا وقعةً ما ألذ منها على المسافر،
فقال صلى الله عليه وسلم: يا بلال اكلأ لنا الليل)
، ومراده أنهم من شدة التعب والإعياء وقعوا -بمعنى ناموا- وقعةً ما ألذ منها على المسافر،
أي:
شعرنا بلذة النوم لمشقة السفر وعناء السهر،
قال:
فقام صلى الله عليه وسلم: (يا بلال اكلأ لنا الليل)،
قال:
فقام بلال فلم يشعر الصحابة، ثم طلعت الشمس، ثم استيقظ عمر رضي الله عنه -كما في الرواية- وجعل يكبِّر، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من حر الشمس صلوات الله وسلامه عليه -والتعبير بالحر يدل على أن الشمس قد ارتفعت-
فلما استيقظ قال: (يا بلال ما شأنك؟
فقال رضي الله عنه:
(أخذ بعيني الذي أخذ بعينك يا رسول الله)
أي: ما أنا إلا بشر ضعيف، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان أتى بلالاً حتى نام)،
أي:
ما زال يهدئه،
ويقول له:
الصبح باق، حتى نام رضي الله عنه وأرضاه،
ثم قال عليه الصلاة والسلام:
(ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)،
أي:
ارتحلوا فأمرهم أن يرتحلوا عن الوادي الذي ناموا فيه،
وقال:
(إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، ثم لما ارتحلوا حتى قطعوه أمر بلالاً فأذن، ثم توضأ فصلى رغيبة الفجر ثم صلى الفجر.ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ مباشرة، فما بين قيامهم من النوم وصلاتهم أمد الارتحال، ومعلوم أن الجيش إذا ارتحل يأخذ وقتاً، فإذا شدوا رِحالهم، ووضعوا الرَّحل، فهذا يحتاج إلى عناء ووقت، فليس هو باليسير، خاصة أنه كان هذا في غزاته الأخيرة عليه الصلاة والسلام في العسرة، فإن هذا يحتاج إلى وقت وعناء، وبناءً على ذلك معناه أنهم قد أخذوا وقتاً ليس باليسير.وبناءً عليه فكون النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر إلى هذا الوقت الذي هو ليس باليسير يدل على أنه يجوز أن يؤخِّر الإنسان، ولا حرج عليه ما لم يدخل وقت الظهر.والذين قالوا بأنه لا يجوز التأخير، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر وقتاً يسيراً،
والحقيقة أنَّ النفس تميل إلى أن قول من قال:
إنه يجوز له التأخير أقوى؛ لأن التعليل بكونه منزل حضره الشيطان لا يدل على بطلان الصلاة فيه،
بل العجيب أن بعض العلماء يقول:
إنه مكانٌ كمَعَاطِن الإبل التي نُهِي عن الصلاة فيها،
وقال:
(حضرنا فيه الشيطان)، وهذا محل نظر؛
لأن هناك فرقاً بين قوله:
(منزل شيطانِ)، و (منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)،
فإن قوله:
(حضرنا فيه الشيطان) أي تسلط على بلال فنام حتى ذهب الصبح، وليس المراد أنه منزلٌ فيه الشياطين؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(حضرنا فيه الشيطان)، والكلمات دلائلها معتبرة في أخذ معانيها وما يُستنبط منها،
فكونه عليه الصلاة والسلام يقول:
(حضرنا فيه الشيطان)، ويعدل إنما هو على سبيل الندب والاستحباب، لا على سبيل الحتم والإيجاب، كأنه كرِه هذا المنزل الذي حصل فيه التفويت للصلاة، وهذا من كمال طاعته لله عز وجل، وهذا شأن كمال الطاعة لا شأن الإلزام،
ولذلك لو قلنا:
إنه كمعاطن الإبل لقال العلماء من نام في غرفةٍ وفاتته صلاة الفجر يجب عليه ألا يصلي فيها، ولا قائل بهذا.
فبناءً على ذلك لا وجه أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع لعذرٍ؛ لأن هذا ليس بعذر، وإنما هو من باب الكمال، وإذا كان من باب الكمال والفضيلة، فإن تأخيره -لو كان القضاء على الفور- لا يتأتى أن يَتْرك الفورية الواجبة لفضيلةٍ غير لازمة.فمن هنا صح أخذ وجه الدلالة على أنه يجوز للإنسان إذا استيقظ من نومه أن يؤخِّر، ولا حرج عليه، ولكن الأفضل والأكمل أن الإنسان يخرج من الخلاف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بادر بفعل الصلاة،
ولذلك نقول:
الأفضل والأكمل أنه يبادر بالصلاة، حتى يخرج من خلاف العلماء رحمة الله عليهم.وأما لو أخَّر الساعة والساعتين ما لم يدخل وقت الظهر فإنه لا حرج عليه لدلالة السنة على هذا.
[حكم الترتيب بين الفرائض]
قال المصنف رحمه الله: [ويسقط الترتيب بنسيانه] أي: يجب على المكلف أن يرتِّب بين الصلوات،
والدليل على ذلك قوله تعالى:
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] والمؤقت: المحدد،
تقول:
أَقَّت الشيء يُؤَقِّته تأقيتاً.إذا حدده زماناً أو مكاناً أو صفةً، فلا يصح أن تصلي الظهر ولم تصل الفجر، ولا يصح أن تصلي العصر ولم تصل الظهر، ومن أدلة الإلزام بالترتيب ما ثبت في الحديث الصحيح (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس،
فقال:
يا رسول الله! ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها.فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد أن غربت الشمس، ثم صلى المغرب).فكونه عليه الصلاة والسلام يراعي الترتيب مع أن الوقت وقت المغرب يدل على الإلزام،
وقد قال:
(صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولذلك يدل هذا على أن الإلزام مُعتَبر، ومن هنا أخذ العلماء أنه لا يصح لك أن تصلي العصر قبل الظهر، وهذا صحيحٌ من جهة النظر، فإن المكلف إذا وجبت عليه صلاة الظهر فقد تعلقت ذمته بخطاب الظهر، ولا يُخاطب بالعصر إلا بعد أن تفرغ ذمته بفعل الظهر، ولذلك أصبح مُلزَماً بالترتيب من هذا الوجه، فلا يصح أن يصلي العشاء قبل المغرب.وبناءً عليه فمن كان في سفر، ودخل إلى مسجدٍ والقوم يصلون العشاء، فإنه يدخل وراءهم وينويها نافلة، ثم إذا انتهوا أقام للمغرب فصلاها، ثم صلى العشاء، فهذا مذهب من يقول بالترتيب.لكن لو دخل وهم يصلون العصر، وكان قد أخر الظهر يريد أن يجمع، فلما دخل على الناس وجدهم يصلون العصر، فينوي وراءهم الظهر، ولا حرج عليه؛ لأن صورة الصلاتين متحدة، ولا اختلاف في الأفعال.أما في المغرب والعشاء فستختلف الأفعال والأركان، ولذلك لا يتأتى إيقاع إحدى الصلاتين تلو الأخرى، وبناءً على ذلك يُلزم بالترتيب على ظاهر دليل التأقيت في الكتاب والسنة.فلو أن إنساناً صلى صلاة العصر قبل الظهرلم تصح صلاته، فتكون صلاة العصر منه نافلة، فيُلزَم بإعادة الظهر وإيقاع العصر بعدها.
لكن لو نسي فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: من صلى العصر ناسياً الظهر، ثم تذكر بعد صلاة العصر يقيم للظهر ويصلي، ولا حرج عليه لمكان النسيان، واختاره المصنف وجمعٌ من أهل العلم،
واحتجوا بظاهر قوله تعالى:
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].
وقال جمعٌ من أهل العلم الذين يقولون بوجوب الترتيب: يلزمه أن يعيد الظهر ثم العصر،
وذلك لأن المؤاخذة في قوله تعالى:
(لا تُؤَاخِذْنَا) لا تُسقِط الضمان بالحق، ولذلك الناسي يسقط عنه الإثم، ويبقى الأصل بالمطالبة،
إذ لو أخذنا بظاهر قوله تعالى:
(لا تُؤَاخِذْنَا) على أنه يدل على إسقاط الترتيب لدلّ على إسقاط الصلاة كلها؛ لأنه قد نسيها.وبناءً على ذلك يلزم بفعل الصلاة مع أنه ناسٍ ويلزمه قضاء الصلاة، وحينئذٍ يلزمه أيضاً أن يوقعها مرتبة،
كما استثنيتم من قوله تعالى:
(رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا) الصلاة نفسها، فبناءً على الدليل يلزمكم استثناء الترتيب بدليل الترتيب نفسه.فمن نسي الترتيب يُطالَب به، ويسقط عنه الإثم؛
لأن قوله تعالى: (لا تُؤَاخِذْنَا) رفعٌ للمؤاخذة، والمؤاخذة: الإثم، وليس المراد بها رفع المطالبة،
إذ لو أخذ بقوله تعالى:
(رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا) على أن المراد به عدم المطالبة حتى بالترتيب،
نقول أيضاً:
لا يُطالَب بالصلاة؛ لأنه نص عام على عدم المؤاخذة، فكما أنه طولِب بحق الله بفعل الصلاة، فحينئذٍ يُطَالَب بحق الله في إيقاعها مرتبة، وهذا أعدل الأقوال وأقواها.
فالاستدلال بقوله تعالى:
(رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا) وقوله عليه الصلاة والسلام: (رفِع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) مقيد بإسقاط الإثم دون إسقاط الضمان، ودليله واضح، ألا ترى الإنسان لو قتل إنساناً خطأً لوجب عليه الضمان لحق الله، فيُطَالب بالكفارة وهي عتق الرقبة، فإن لم يستطع صام شهرين متتابعين، مع أنه مخطئ،
والله يقول:
{لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، فدلّ على أن المؤاخذة المرفوعة في الآية مؤاخذة الإثم التي لا يفوت بها حق الله وحق المكلَّف.
وهذا أعدل أقوال الأصوليين في هذه المسألة المشهورة وهي:
هل المرفوع في قوله: (رُفِع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) الفعل والإثم، أو أحدهما وهو الإثم؟ فالمرفوع هو الإثم حتى يدل الدليل على رفع الاثنين معاً.
[الترتيب بين الصلاتين في وقت لا يسع سوى الحاضرة]
قال المصنف رحمه الله: [وبخشية خروج وقت اختيار الحاضرة].تقدم معنا أن من الفرائض ما له وقت اختيارٍ ووقت اضطرار، فلو أن إنساناً نام عن صلاته حتى استغرق نومه، فمرَّت عليه صلاة الظهر وصلاة العصر حتى بقي من وقت العصر قدر يسير ثم ينتهي وقت الاختيار، قالوا يبدأ بالعصر فيؤديها، ثم يقيم للظهر فيصليها.
ووجه ذلك أنهم قالوا: إننا لو أمرناه بالترتيب لذهب وقت الاختيار للحاضرة،
ولذلك نقول:
سقط الترتيب تحصيلاً للصلاة الحاضرة، فيؤدي الصلاة الحاضرة في وقتها؛ لأنه إذا ازدحمت الفروض،
فبعضهم يقول:
يُراعَى صفة الفرض؛ إذ الحاضرة مزدحمة مع التي قبلها،
فإذا قلت له:
رتِّب الصلوات بناءً على الأصل الشرعي، فإن معنى ذلك أنه سيقضي الصلاتين، فتصبح صلاته للظهر موجبة لخروجه من وقت الاختيار إلى الاضطرار،
فبناءً على ذلك قالوا:
إنه يكون في حكم المفوِّت لوقت الاختيار، فيلزمه حينئذٍ أن يصلي الحاضرة في وقت الاختيار، ثم يصلي الفائتة.وهكذا قالوا لو لم يبق من وقت الحاضرة إلا قدر أدائها، كأن يستيقظ قبل طلوع الشمس بقدرٍ يصلي فيه الصبح، وكان قد نام عن العشاء والصبح،
قالوا:
فلو أمرناه بصلاة العشاء لفاتت عليه صلاة الصبح، فنأمره بصلاة الصبح حاضرة، ثم بعد طلوع الشمس يصلي العشاء الفائتة؛ لأن العشاء مقضية على كل حال، سواءٌ أصليت قبل الصبح أم بعده.وذهب طائفةٌ من العلماء إلى أنه يصلي العشاء أولاً مراعاةً لدليل الشرع،
حيث قالوا:
تأخر لعذر، وأخر الصلاة الحاضرة لعذر، فيصلي العشاء أولاً استناداً إلى أصول الشريعة التي لم تستثن ولم تفرق، فنأمره بصلاة العشاء حتى ولو خرج وقت الفجر، فإذا خرج وانتهى من قضاء العشاء أقام وصلى الفجر؛ لأنه كالشخص الذي قد خرج عليه الوقت.فهذا الوقت اليسير الذي لا يسع إلا للصبح هو -حكماً- بمثابة من استيقظ بعد خروج الوقت؛ لأنه ملغي بأمر الشرع بالترتيب، وهذا القول من ناحية الأصول أوفق.لكن هناك مخرجٌ لطيف لبعض العلماء،
قال:
يستحب له أن يصلي الفجر إدراكاً للوقت، ثم يقيم فيصلي العشاء ويعيد الفجر احتياطاً،
قالوا:
فيكون بهذا قد احتاط لأمره؛ لأنه سيكون قاضياً في كل الأحوال، فإن كان في القدر المتسع اليسير فضل يكون قد أدركه بالصلاة الأولى، وإن لم يكن له فضل يكون قد استبرأ ذمته بالاحتياط لواجب الشرع.
الأسئلة
[حكم من تعمد تأخير الصلاة حتى خرج وقتها]
q إذا أخر رجلٌ الصلاة عن وقتها متعمداً حتى خرج الوقت، فهل يقضي الصلاة أم لا؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة فيها خلافٌ بين العلماء رحمة الله عليهم، فبعض أهل العلم يرى أن من أخَّر الصلاة حتى خرج وقتها وهو متعمد لا يطالب بالقضاء، خاصةً على مذهب من يرى أنه قد كفر بإخراج الصلاة عن وقتها.والقول الثاني أنه لا يكفر، ويُلزم بفعل الصلاة بعد خروج الوقت إن أخرها متعمداً، وهو الأقوى والصحيح إن شاء الله تعالى.
والدليل على ذلك أنه إذا اختلف العلماء رحمهم الله:
هل يطالب بالفعل أو لا يطالب بالفعل رُجِع إلى الأصل، فإن الأصل فيمن دخل عليه وقت الصلاة أنه مطالبٌ بها لتوجه خطاب الشرع عليه بالفعل، فكونه قد أخرها إلى أن خرج الوقت لا يوجب إسقاطها عنه إلا بدليل يدل على أن المتعمد لا يُطالب بفعل الصلاة بعد خروج الوقت، وليس هناك دليلٌ في الكتاب والسنة يدل صراحةً على أنه إذا خرج الوقت لا يطالب بفعل الصلاة،
وغاية ما استدل به أصحاب هذا القول أنهم قالوا:
إن الصلاة محددةٌ ببداية ونهاية، وإذا كانت محددة بالبداية والنهاية فإنه إذا خرج عن نهايتها لا يُطَالَب بفعلها وهذا محل نظر؛ ألا ترى النائم يطالب بفعلها بعد انتهاء وقتها؟! ألا ترى المعذور -وهذا بالإجماع- يُطَالَب بالفعل بعد انتهاء وقتها.فإذا كان هذا مقرَّراً، وهو أن المعذور مطالبٌ بالفعل بناءً على أصل دليل الخطاب، فإنه يدل على أنهم مسلِّمون بوجود الخطاب بعد انتهاء الوقت، وأصبح التأقيت يحتاج إلى دليلٍ من الكتاب والسنة يدل على عدم إلزام المكلف بالفعل بعد خروج الوقت، ولذلك الأقوى أنه يُطَالَب بالفعل، وقد ثبت بدليل السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزَّل حقوق الله كحقوق العباد،
فقال عليه الصلاة والسلام:
(أرأيتِ لو كان على أمك دينٌ أكنت قاضيته؟
قالت:
نعم،
قال:
فدين الله أحق أن يقضى)
، فجعل الصوم، وجعل الحج بتوجه الخطاب ديناً على المكلف؛ لأنه فريضة.
يقول الجمهور: فالصلاة دينٌ على المكلف؛ لأنه مكلفٌ بها بتوجه الخطاب،
كالصوم والحج إذا ثبت أنه دَيْن: (فإن دين الله أحق أن يقضى).وكما أن حقوق العباد يُطَالب الإنسان بقضائها حتى ولو أنكرها وجحدها وامتنع مِن الفعل وماطل فيها بعد وقتها وهو قادرٌ على السداد، كذلك حق الله يطالب بأدائه ولو خرج عن وقته؛ لأن السداد مأمورٌ به، وهو القيام بفعل الصلاة، فالذي تطمئن إليه النفس مطالبته بالفعل، والله تعالى أعلم.
وقد قالوا في الحج: لو أخر مفرِّطاً فيجوز أن يحج عنه، فلو أن إنساناً غنياً ثرياً أخَّر الحج حتى مات وهو قادر على أن يحج،
قالوا:
يُطالَب بالحج عنه من ماله،
بناءً على قوله عليه الصلاة والسلام:
(أرأيتِ لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟
قالت:
نعم.

قال:
فدين الله أحق أن يقضى)، فجعل الحج في ذمة هذا الميت -مع أنه مفرِّط ومتعمدٌ للتأخير- ديناً في ذمته، مع أنه أخرجه عن الوقت المعتبر؛ لأنه بالإجماع على أنه إذا توجه الخطاب على الإنسان بالحج، وهو قادرٌ مستطيع أنَّه واجبٌ عليه، ولكن اختُلِف في مسألة التأخير وعدم التأخير،
فقالوا:
إنه يُطالَب بالفعل ويترتب على المطالبة إلزام الذمة.وبناءً على هذا فإن الصلاة أُلزِمت ذمته بفعلها، وليس عندنا دليل على أنه إذا أخَّر حتى خرج الوقت سقطت عنه، ثم جاء دليل النظر والقياس الصحيح، وهو ما يسمى عند العلماء: قياس الأولى، وقياس الأولى من أقوى الحجج،
حتى إن بعض العلماء يقول:
الخلاف بين الظاهرية والجمهور في الأقيسة لا يشمل قياس الأولى.
فيقولون: إذا كان المعذور الذي عذر ونام حتى فاتت عنه الصلاة يُطالَب بالإعادة، فكيف بإنسانٍ متعمد؟! فإنه أحرى أن يُطالَب بالإعادة،
وهذا يسمونه:
قياس الأولى، فإذا كان صح هذا وهو أن المعذور يطالَب بالفعل مع كونه معذوراً، فمن باب أولى غير المعذور، ولذلك تميل النفس إلى المطالبة بالقضاء، والله تعالى أعلم.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #60  
قديم 01-09-2020, 04:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

[حكم قضاء النوافل]q
هل تقضى الفوائت من النوافل؟
a أما قضاء الفوائت من النوافل فإنه سنة، ودل على ذلك حديث حذيفة في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه لراتبة الفجر.
وقال العلماء:
إن راتبة الفجر هي آكد الرواتب، وتقضى قولاً واحداً عند العلماء،
وتأكُّد قضائها لقوله عليه الصلاة والسلام:
(لا تدعوها ولو طلبتكم الخيل).ولثبوت الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بقضائها مع الصحابة، فإنه لما بات في الوادي الذي ذكرنا أمر بلالاً فأذَّن، ثم صلى ركعتين وهي رغيبة الفجر، ثم أمره فأقام فصلى الصبح.
فدل قضاؤه لها على مسألتين: أما المسألة الأولى فسنِّيَّة قضاء الرواتب،
والمسألة الثانية:
هل يطالب بالقضاء على الفور أم على التراخي؟ ذلك أنه لو كان مطالباً بالفور لصلى الصبح أولاً، ثم صلى بعده الرغيبة، ولَمَا اشتغل بالنافلة قبل الفريضة، فهذا يؤكد ما ذكرناه مِن أن القضاء ليس على الفور؛ إذ لو كان على الفور لما قدَّم النافلة على الفرض.
وبناءً على هذا فإنهم قالوا: إنه يُشرَع قضاء النوافل.
ومن الأدلة حديث عائشة الصحيح: (يا رسول الله! رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل؟
قال:
أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان)
.
وأما حديث أم سلمة أنها لما سألته فقالت: (أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا)، الذي رواه أحمد في مسنده فهو ضعيف، والصحيح أنه يُشرع قضاء الرواتب، وأنه سنة ولا حرج على الإنسان في فعله.
وفي الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاته حِزبُه من الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة)، فقضى عليه الصلاة والسلام صلاة الليل مع أنها نافلة، فدل هذا على مشروعية القضاء.
وفي الصحيح أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل)، وهذا يدل على سعة رحمة الله عز وجل، وعظيم فضله، خاصةً عند وجود العذر، والله تعالى أعلم.
[وقت صلاة الضحى]q
نرى بعض المصلين يصلون صلاة الضحى قبل الظهر بقرابة ربع ساعة، فهل نبيِّن لهم أن هذا وقت نهي؟ مع رجاء تحديد وقت النهي بالدقائق قبل أذان صلاة الظهر.
a هذا فيه مسألتان: المسألة الأولى: تأخيرهم للضحى إلى هذا الوقت، فلو أن إنساناً أخَّر الضحى إلى ما قبل صلاة الظهر، سواءٌ إلى وقت انتصاف النهار المنهي عنه، أم إلى ما قبل وقت انتصاف النهار، فهل هذا من السنة؟
الجواب: لا؛ لأن الضُّحى شيء، والضَّحَى شيء، فإذا أشرقت الشمس فهناك وقت يسمى الضُّحى، وهو أول النهار إلى اشتداد الشمس بحيث تقرُب من الهاجرة، ثم يأتي وقت قبل انتصاف النهار يُقارب الساعة إلى الساعة والنصف يختلف بحسب طول النهار وقصره صيفاً وشتاءً، ففي الصيف يكون أطول، وفي الشتاء يكون أقصر، فهذا الوقت الذي هو قبل أن تنتصف الشمس في كبد السماء يسمى الضَّحَى،
وهو المراد بحديث البخاري:
(كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة، ثم تكون القائلة).فهذا هو وقت القيلولة قبل الظهر بساعة ونصف إلى ساعة، فغالباً هذا الوقت الذي هو قبل الظهر يعين بإذن الله عز وجل على قيام السحر.
وقالوا: هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل)، فكانت قيلولتهم قبل منتصف النهار، فهذا الوقت يسمى الضَّحَى بالفتح، والذي قبله ما بين طلوع الشمس قيد رمح إلى اشتداد النهار يسمى الضُّحَى،
وهو الذي أقسم به الله عز وجل:
{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2]،
فانظر إلى قوله تعالى:
(والليل إذا سجى) أي: جعل بداية الليل وإرخاء سدوله ما يكون عند وجود الشفق إلى سقوط الشفق بحيث يسجِّي الليل، مثل الشخص الذي تسجِّيه،
أي:
تُغَطِّيه.
فقوله تعالى: (الليل إذا سجى) أي: غَطَّى بظلامه، فجعل الوقتان متقابلان.فصلاة الضُحى بداية وقتها بعد طلوع الشمس بقيد رمح، أما أثناء الطلوع إلى ارتفاع قيد رمح فهو داخل في المنهي عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر صلاة العيد إلى ارتفاع الشمس قيد رمح، فدل على أن ما قبله باقٍ على الأصل من النهي، وبناءً على هذا لا ينبغي تأخير صلاة الضُحى إلى هذا الوقت.وأفضل ما تقع صلاة الضُحى بعد ارتفاع النهار، فإذا ارتفعت الشمس قيد رمح بدأ وقت الجواز، فإذا اشتد النهار قليلاً بعد إشراق الشمس بقدر ساعة فهو أفضل؛ لأن الغفلة من الناس تكون في مثل هذا الوقت، وهو وقت طلب التجارة والكسب، فكون الإنسان يترك التجارة والكسب ويُقبِل على الله في مثل هذا الوقت فهذا فضل عظيم.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)،
والفصيل:
ولد الناقة، و (ترمض الفصال) أي: يدركها حر الرمضاء، وهذا يدل على أن الشمس قد ارتفعت،
وأن صلاة الأوابين هي الضُحى التي وعد الله أهلها بالمغفرة: {َإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، فالإضافة المراد بها مثل هؤلاء الذين أثني عليهم بالآية، قالوا: فلا تكون إلا بعد ارتفاع النهار بساعة إلى ساعة ونصف، وما قبل الظهر بساعة إلى ساعة ونصف، فهو أشبه ما يكون بقضاء الضُّحى، وليس بالضُّحى أداءً، وينبني على قضاء النوافل من حيث إنه سائغ أو غير سائغ.فإذا بدأ وقت الضَّحى إلى أن تنتصف الشمس في كبد السماء، فهذا وقت جواز يجوز للإنسان أن يُصلي فيه،
وحملوا عليه قوله عليه الصلاة والسلام:
(رحم الله امرأً صلى قبل الظهر أربعاً)، على أن المراد بقبل الظهر قبل وقتها، وليس المراد به الراتبة.
قالوا: لقوله: (إنها ساعة رحمة تفتح فيها أبواب السماء)،
ولما سئل عنها قال: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح)، فهذا قبل انتصاف النهار.وبعض المؤذنين يحتاطون بقدر ربع ساعة ما بين زوال الشمس وصلاة الظهر،
فيقولون:
الوقت في الظهر داخل بقدر ربع ساعة.وبناءً على هذا فإذا أذن للظهر في الساعة الثانية عشر والنصف، فمعناه أن الزوال ابتدأ في الثانية عشر والربع، وبناءً على هذا فمن جاء يصلي في مثل هذا الوقت الذي تنتصف فيه الشمس في كبد السماء فإنه حينئذ لا يجوز له،
لما ثبت في الحديث:
(ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن،
أو أن نقبر فيهن موتانا:
حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب)
.
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم: (فإذا طلعت الشمس فصل، فإن الصلاة حاضرةٌ مشهودة، فإذا انتصفت -في كبد السماء- فأمسك، فإنها ساعةٌ تسجر فيها نار جهنم)(تسجر) أي: يشتد لهيبها، فهي ساعة عذاب وليست بساعة رحمة، ولذلك نُهِي فيها عن دفن الموتى، وعن صلاة النافلة، فمثل هذا الوقت لا تصلى فيه صلاة الضُحى،
ولذلك قالوا:
إن إيقاع النافلة في الأوقات المنهي عنها وجوده وعدمه على حدٍ سواء، إلا عند من يستثني ذوات الأسباب، والله تعالى أعلم.فينبغي تنبيه هؤلاء -الذين يصلون في هذه الأوقات المنهي عنها- على أمرين: أولاً: أن وقت الضُحى من بعد طلوع الشمس قيد رمح،
أي:
بما يقارب -احتياطاً- اثنتي عشرة دقيقة، فبعدها يغلب على الظن دخول وقت جواز صلاة النافلة، ووقت الفضيلة يبتدئ إذا كان طلوعها السادسة والربع إلى ما يقارب السابعة والنصف إلى الثامنة، وكلما تأخر قليلاً كان أفضل؛ لأنه تكون غفلة الناس باشتغالهم بالدنيا أكثر، والله تعالى أعلم.
[حكم من لا يعرف عدد ما فاته من الصلوات]
q فاتتني كثيرٌ من الصلوات بعد بلوغي، وصليت بعضها جنباً خجلا، وكل ذلك لجهل والدي عن تعليمي ما يجب عليَّ، وهي كثيرةٌ جداً ولا أحصي عددها، ولا أستطيع الاجتهاد في معرفتها، فماذا يلزمني تجاه ذلك؟
a هذا السؤال فيه مسائل: أولاً: إذا تركت الصلاة في أمدٍ من بعد بلوغك ولم تكن تصلي -والعياذ بالله- بعد البلوغ إلى أن التزمت بطاعة الله وشريعة الله فلا يلزمك القضاء؛ لأن تركك على هذا الوجه آخذٌ حكم الترك الموجب للكفر،
فمن ترك الصلاة والعياذ بالله ولم يصل ولم يركع فإنه يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).وإذا حكم بكفر تارك الصلاة على هذا الوجه فلا يُلزَم بقضاء،
بقوله صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما أسلفت من خير)،
وقال في الحديث الصحيح:
(الإسلام يجُبُ ما قبله)، فتكون بالتزامك بالصلاة كأنك قد دخلت في حظيرة الإسلام بأدائها، وبناءً على ذلك لا تُطالب بقضاء ما مضى.
ثانياً:
أما لو كنت تصلي أحياناً وتترك أحياناً،
فحديث عبادة في قوله عليه الصلاة والسلام:
(ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) يدل على عدم الكفر، وبناءً على ذلك تجتهد، وتبني على غلبة الظن،
وقولك:
لا أستطيع الاجتهاد.غير وارد، فلو قدرت السنة التي التزمت فيها بشرع الله، وأصبحت محافظاً فيها على الصلاة بثلاث سنوات من الآن مثلاً ومن بلوغك إلى الآن لك قرابة سبع سنوات مثلاً،
فحينئذٍ تقول:
هي أربع سنوات.فأكثر في الصلوات، وصلِ مع كل صلاةٍ حتى تحتاط بقضاء هذا الأمد كاملاً.
وأما الأمر الثالث في سؤالك فهو قولك: إنك كنت تصلي وأنت جنب.فلا يجوز هذا،
ولذلك قال بعض العلماء:
من صلى وهو على غير طهارته عالماً بحرمة ذلك مستخفاً بهذا التحريم فإنه يكفر -والعياذ بالله- وإن كان الصحيح أنه لا يكفر إلا إذا قصد الاستهزاء، ولكن انظر إلى تشدد العلماء رحمة الله عليهم من شدة تعظيمهم لأمر الصلاة، فينبغي حينئذٍ للإنسان أن يحتاط.ولو أن إنساناً دخل في صلاة الظهر، ثم تذكر أنه أجنب،
وقال:
لو خرجت الآن فإن الناس تراني أو صلى بهم وهو إمام،
فقال: كيف أخرج من الصلاة؟! فينبغي أن تكون خشية الله في قلبك أعظم من خشية الناس، وأن تعلم أنه لا يغني عنك أحدٌ من الله شيئاً، وأنه لا يُجيرك من الله ومن سطوته ومن غضبه أحد، فقد يكون استخفافك بعظمة الله وهيبتك للناس أكثر من هيبتك لله سبباً في غضب الله عليك، فاتق الله عز وجل، فبمجرد ما تشعر أنك غير متوضئ فاخرج من الصلاة، ولتنعم عينك بطاعة الله عز وجل، ولك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة والتوسعة أن تمسك بأنفك وتخرج، فإن الذي أمرك بدخول المسجد أمرك أن تخرج من المسجد، ولا تبالِ بالصغير ولا بالكبير، ولا بالجليل ولا بالحقير، فلتتق الله عز وجل، ولتكن هيبة الله في قلبك أعظم وأجل وأكبر من أن تهاب غيره فتستخف بعظمة الله فتصلي بين يديه على غير طهارة.ولا يجوز للمسلم أن يصلي على غير طهارة، ولا يجوز له أن يستبيح الصلاة وهو جنُب، لما فيه من الاستخفاف بعظمة الله، ولو كان إماماً فإنه يَسحب من وراءه ويستخلف ويخرج، ولتنعم عينه بطاعة الله، فإن الله يثيبه، والله يبتلي، وقد مر هذا علينا، ومر على بعض العلماء من قبلنا، فالله يبتلي إيمان العبد؛ لأنه لا يمكن أن تخرج من هذه الدنيا حتى يظهر كمال إيمانك من نقصه، ومن الإيمان خشية الله، ولن تخرج من هذه الدنيا حتى تظهر خشيتك لله كاملةً أو ناقصة.فإذا جاءتك مثل هذه المواقف فاعلم أن الله يمتحنك، وأن الله يريد أن يبتليك بخشيته بالغيب، فإن الناس لا يعلمون أنك جُنُب، ولا يعلمون أنك على غير طهارة، ولكن الله وحده هو الذي يعلم، فهو علام الغيوب، فإذا جئت بإيمانٍ منك وصدق وخوف ويقين من الله سبحانه وتعالى تخرج أمام الناس لا تستحيي منهم ولا تهابهم ولا تخشاهم كان ذلك أصدق ما يكون في خشيتك لله سبحانه وتعالى، وهذا أمر شائع ذائع،
فإن كثيراً من الناس يقول:
صليت وأنا على غير طهارة، أو كنت على غير طهارة وأنا جالس في المسجد فاستحيت أن أخرج؛ وهذا لا يجوز، فينبغي أن تكون عظمة الله فوق كل شيء، قال تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُ� �ْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13]، فالله أحق أن يُخشى ويهاب، وأحق أن تكون له الرغبة والرهبة، فنسأل الله العظيم أن لا ينزع من قلوبنا خشيته، وأن يرزقنا الخوف منه وإجلاله وإعظامه على الوجه الذي يرضيه عنا، والله تعالى أعلم.
[تذكر صلاة الظهر في آخر وقت العصر]
q إذا فاتت المسلم صلاة الظهر ولم يتذكرها إلا في آخر وقت العصر، والوقت لا يكفي إلا لصلاة العصر فحسب، فهل يلزمه الترتيب أم لا؟
a هذه المسألة فيها خلاف، فبعض العلماء -رحمة الله عليهم-
يقول:
إذا أدركت آخر وقت الثانية، بحيث لا يسع إلا بقدر أن تصلي الثانية حاضرة وأنت لم تصلِ الأولى، فعليك أن تراعي ترتيب الشرع، وتصلي الأُولى ولو خرج الوقت؛ لأن وقت الثانية ساقط عنك بانشغالك بفرض وهذا هو الأصل، وهو قولٌ مبني على اعتبار دليل الترتيب، وقال به جمع من العلماء رحمة الله عليهم.وقال بعضهم: يقدم الحاضرة على الفائتة، وذلك لأنه إذا صلَّى الفائتة كان قاضياً، فاستوى أن يؤديها في وقت الأولى، أو يؤديها في وقت الثانية وهذا القول محل نظر؛
أولاً: لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من حديث عمر: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق،
وقال:
يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها).
فانظر رحمك الله إلى قوله: (ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب) بمعنى: صليتها فغربت الشمس مباشرة، حتى إنه لا يدري هل الصلاة سبقت أو الغروب، فمعنى ذلك أنه قد غابت الشمس، ثم احسب وقتاً لذكره لله عز وجل بعد أدائه للصلاة، ثم قيامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكى، فيحتمل أن الوقت إلى دخول وقت المغرب بقدر لمكان هذا الذي ذكرناه، فاحسب حساب كون عمر يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم،
ثم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له:
(والله ما صليتها)،
ثم قال:
(قوموا بنا إلى بطحان قال: فنزل فتوضأ فصلى العصر ثم المغرب والعشاء)،
ووجه الدلالة أنهم قالوا:
وقت المغرب ضيق وهذا الحديث يرده؛ لأنك لو حسبت تجد أن النبي ذهب إلى وادي بطحان، ثم نزل به ومعه الجيش، ثم توضأ، ثم صلى العصر، وهذا كله يأخذ وقتاً ليس بالقليل مع أن عمر قد جاءه بعد مغيب الشمس، فاحسب كلامه له بعد ذهابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد المغيب، ثم شكواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجوابه، ثم أمره عليه الصلاة والسلام بالذهاب إلى بطحان، ثم وقت الوضوء، ثم القيام إلى الصلاة، فهذا وقت ليس باليسير، خاصة وأن عدد الناس معه لا يقلون عن ألف، فهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم يصلون معه عليه الصلاة والسلام.فالغالب أن وقت المغرب خرج أو كاد يخرج، قالوا: فصلى العصر أولاً، ثم أتبعها بالمغرب، ثم صلى العشاء،
ولذلك ما ورد في الحديث أنه انتظر إلى دخول العِشاء قالوا:
هذا يؤكد على أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على التقديم حتى على الأقل مع خوف خروج الوقت، وهذا يؤكد ما ذكرناه أنه يبدأ بالفائتة قبل الحاضرة.
والذين قالوا:
إنه يبدأ بالحاضرة قبل الفائتة اضطرب قولهم، فهم يقولون بوجوب الترتيب،
ثم يأتون في هذه المسألة ويقولون:
لا يجب الترتيب، وإنما يلزم بفعل الحاضرة قبل الفائتة؛ لأنه إذا صلى الحاضرة أدَّى، وإذا صلى الفائتة قضى في كلتا الصلاتين.والذي تطمئن إليه النفس أنه يبدأ بالفائتة، ثم يتبعها بالحاضرة ولو خرج الوقت؛ لأن التأخير لعذرٍ شرعي، وهو أمر الشرع بفعل الصلاة،
ألا ترى أنهم يقولون: إنه لا يصح أن يوقع صلاة العصر حتى يصلي الظهر،
فكونه يقول:
فائتة أو حاضرة لا تأثير له في الوصف الشرعي،
أي:
لا يقوى على الاستثناء من الأدلة التي دلت على وجوب الترتيب من التأقيت الذي ذكرناه من دليل الكتاب والسنة، وعلى هذا يقوى القول الذي يقول إنه يبدأ بالفائتة قبل الحاضرة.لكن بعض العلماء ذكر مَخرجاً لطيفاً،
فقال:
الأفضل أن الإنسان يخرج من الخلاف، فيصلي الحاضرة في وقتها، ثم يقيم فيصلي الفائتة، ويصلي بعدها الحاضرة، قالوا لأنه إذا كان معذوراً بعدم مراعاة الترتيب فقد أوقع الصلاة في وقتها، فإن كانت معتبرة فقد أدرك الإجزاء والاعتبار، وإن كانت غير معتبرة فقد احتاط لدينه بإعادتها بعد الوقت، وهذا أفضل المخارج، والذي تميل إليه النفس أنه يحتاط، لكن الأصل والأرجح أنه يطالب بفعل الفائتة قبل الحاضرة.

[آخر وقت سنة العشاء]
Q ما هو آخر وقت سنة العشاء؟
A تتأقت الراتبة البعدية بآخر وقت الفريضة نفسها التي رُتِّبت عليها، فإن كنت في الظهر فآخر وقت الظهر، وإن كنت في المغرب فآخر وقت المغرب، وإن كنت في العشاء فآخر وقت العشاء، فعلى القول بأن وقت العشاء إلى نصف الليل تتأقَّت الراتبة إلى نصف الليل، فتصلي الراتبة إلى منتصف الليل، وعلى القول بأنه إلى الفجر فلك أن تصلي راتبة العشاء ما لم يتبين الفجر الصادق.
[حكم صلاة العاري إذا وجد الساتر قبل خروج الوقت]
Q لو أن إنساناً صلى وهو عارٍ لانعدام السترة، ثم جاءت السترة قبل خروج الوقت، فهل يجب عليه الإعادة؟
A إن صلى عارياً فقد مضت صلاته وصحَّت، لكن إذا غلب على ظنه أنه يجد السترة قبل خروج الوقت ينتظر، ومذهب طائفة من العلماء أنه يُستحب له أن يُعيد ولا يجب عليه وهذا أفضل.
[حكم تشمير الثوب عند الهوي للسجود في الصلاة]
Q هل من كف الثياب ما يفعله بعض المسلمين من رفع ثوبه عند الهوي للسجود؛ لأن ذلك يمكّن الإنسان من السجود بكماله؟
A نعم.هذا يدخل فيه، فذكر بعض العلماء رحمهم الله أن هذا يعتبر من كف الثوب؛ لأنه إذا سجد يكون في حكم من كف طرف الثوب من أجل أن لا يتَّسخ،
فيكون تشميره للثوب فيه إخلال من وجهين:
أولاً: لأنه حركة زائدة في الصلاة؛ لأن رفعه للثوب ينافي خشوعه، فهذه الحركة في الصلاة زائدة عما قصده الشرع من الخشوع والسكون؛
لقوله تعالى:
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فقالوا: هذا لا يناسب القنوت.
والأمر الثاني: كونه يأنف عن سجوده بهذا الثوب لله عز وجل، فأن يترك الثوب على حالته أبلغ لقربته لله عز وجل وطاعته، والله تعالى أعلم.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 7 ( الأعضاء 0 والزوار 7)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 331.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 325.48 كيلو بايت... تم توفير 5.80 كيلو بايت...بمعدل (1.75%)]