|
|||||||
| الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
|
#1
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الحدود) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (537) صـــــ(1) إلى صــ(13) شرح زاد المستقنع - علاج الجريمة في الشريعة الإسلامية شرع الله الحدود والعقوبات والزواجر التي تردع عن حدوده ومحارمه، وقد امتازت الشريعة الإسلامية في هذا المجال بميزات عظيمة تدل على سمو منهجها، وحكمة الله عز وجل العظيمة ولطفه بخلقه، ومما امتازت به الشريعة الإسلامية إلى جانب معاقبة المقترف للجريمة، أنها وضعت الحلول لمنع اقتراف الجرائم بداية وذلك بمنع أسبابها ودواعيها. التدابير الوقائية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: التدابير كثيرة، لكن يمكن أن نلخص جوانب منها ونتكلم عنها، وهي تبرز القليل من الكثير، والغيض من الفيض، ومن ذا الذي يستطيع أن يكشف تلك الأسرار والعلوم والمعارف التي هي تنزيل من حكيم حميد؟! من يستطيع أن يصل إلى هذه الأسرار والحكم والفوائد التي حار فيها العلماء، وحار فيها الحكماء، وكشف كنوزها أولو العلم وأولو البصيرة والراسخون في التفاسير وشروح الأحاديث، وبينوا الحكم والأسرار والفوائد؟! لكننا نستطيع أن نجمل شيئا منها في ثلاثة جوانب مهمة، فهناك تدابير وقائية جعلها لله عز وجل للمسلم: إما أن تكون للإنسان في نفسه. أو تكون في أقرب الناس منه، وهم أهله وذووه والداه وولده، وزوجته ومن هو مسئول عنهم. وإما أن تكون فيمن يخالط، وهي البيئة والمجتمع. الوازع الديني هذه الثلاثة الجوانب تبدأ بنفسية الإنسان، هذه النفسية المؤمنة التي خاطبها الله عز وجل فأيقظها من منامها، ونبهها من غفلتها وأرشدها من ضلالتها، وهداها من غوايتها، هذه التدابير المتعلقة بالنفس تدور حول قضية حساسة جدا، وهي القضية التي تسمى بالوازع الديني. فليس هناك سياج أعظم ولا أكمل ولا أتم من هذا السياج الذي وضعه الله عز وجل بينه وبين عبده، إذ هو سر في القلوب لا يطلع عليه إلا الله جل جلاله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. الوازع الديني هو القوة الإيمانية الرهيبة التي لو خلا العبد معها بحد من حدود الله عز وجل؛ ما استطاع أن يفكر في اقترافه فضلا عن أن تمتد له يد، أو تلتبس جارحة من جوارحه بذلك الحد الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. الوازع الديني قوة خفية في الإنسان وهي خشية الغيب، كخشية الشهادة، فخشية الغيب تظهر إذا خلا العبد بحرمة من حرمات الله عز وجل؛ فإن هذه الخشية تحمله على أن يتركها؛ كما لو أنه على رءوس الأشهاد، وخشية الغيب هي التي لم تكن معها خائنة عين. هذا الوازع الديني ما فتئت نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحركه، وتوقظه وتنبهه، وتجعله أمينا على ولي الله المؤمن، وعلى الأمة من إماء الله عز وجل أن تخون أمانتها أو تضيع رسالتها ودينها وشرفها وعرضها وكرامتها، هذا الوازع الديني، تضافرت نصوص الكتاب والسنة على إحيائه وإذكاء جذوته، ولذلك تجد المسلمين في سائر العصور والدهور يمتازون بهذه القضية، وفي جميع العصور والدهور لن تجد أطهر ولا أنقى ولا أتقى ولا أفضل ولا أكمل من مجتمعات المسلمين، حتى ولو فسدت مجتمعات الأرض فإنك تجد أقرب المجتمعات إلى الخير وأحسنها وأفضلها -بالنسبة لغيرها- مجتمعات المسلمين. وكلما قوي باعث هذا الوازع وكلما قويت جذوته في النفوس؛ استحكم الإيمان في القلب، وكلما عظمت الهيبة للرب سبحانه أصبح الإنسان بعيدا عن مقارفة الذنب والتلبس بالعيب. تنمية الوازع الديني الوازع الديني له روافد تغذيه، وقد غرسه الله ونماه في نفس المؤمن في كل حد من الحدود التي مضت معنا، بل في كل حرمة من حرمات الله عز وجل، لن تقرأ آية في كتاب الله، ولن تسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا وجدت إشارة تحكي ذلك المعنى الخفي العظيم. لو بدأنا مثلا بالنصوص في الكتاب والسنة، وكيف حركت في النفوس وازع الدين في اتقاء هذه الجرائم، والبعد عن التلبس بالجريمة، وكيف أن القرآن خاطب بأحسن الخطاب ووجه بأكمل التوجيه ووعظ بأحسن الوعظ: {إن الله نعما يعظكم به} [النساء:58] ، وكيف تمت كلمة ربك صدقا وعدلا، تقيم الإنسان على هذا المنهج الذي ينفر بسببه ويبتعد عما حرم الله. ميزة هذا الوازع الديني أنه يثمر شيئا ينتهي إلى شيء، فالوازع الديني يثمر القناعة الذاتية، والقناعة الذاتية تنشأ عنها النفرة، وهي من أعظم الأسباب التي تحول بين العبد وبين حدود الله ومحارمه، فالذي عنده وازع ديني وقويت فيه جذوة الإيمان والدين -ولا يمكن أن تقوى إلا بالإيمان ولا يقوى الإيمان إلا مع قناعة- وصحبه قناعة ذاتية؛ فعندها لا يستطيع أن يصغي بأذنه أو ينظر بعينه أو يمد يدا أو يخطو خطوة إلى شيء حرمه الله عز وجل عليه. هذه الأمور كلها اجتمعت في عبارات النصوص في الكتاب والسنة، أروع وأجمل وأجل وأكمل ما أنت راء وسامع من خطاب يوجه إلى عبد أو إلى أمة لكي يحال بينه وبين حرمة الله عز وجل. التحذير من الاعتداء على النفس المحرمة خذ -مثلا- جريمة القتل، إذا أخذت جريمة القتل ونظرت كيف خاطب الله عز وجل عباده بتعظيم النفس المحرمة، وكيف جاءت النصوص في القرآن تربي ذلك الوازع الديني العظيم وتذكي جذوته في النفوس، علمت أنها أصدق عبارة وأصدق كلمة، وأتم بيان يكون في التوجيه وفي الوعظ: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} [النساء:93] ، أي مؤمن يقرأ هذه الآية ويتأمل هذا الكلام من الله سبحانه وتعالى يتعظ. (( ومن )) : صيغة من صيغ العموم، أي: ولو كان أغنى الناس في الأرض، وأشرف الناس، وأعلى الناس، ولفظ: (مؤمن) نكرة، أي: ولو كان أفقر خلق الله، (( ومن يقتل مؤمنا )) ، ولم يفرق الله بين الناس، لا بأحسابهم ولا بأنسابهم ولا بصورهم ولا بأشكالهم ولا بمراتبهم ولا بوظائفهم. وعبر بالإيمان الذي هو حرمة من حرمات الله عز وجل ويجب أن تتقى. (( متعمدا )) أي: قاصدا الجريمة وطالبا إزهاق نفس بدون حق. (( فجزاؤه )) ليس له جزاء إلا هذا الجزاء، وانظر! كيف جاء التعبير بالجزاء؛ لأنه عندما تأتي كلمة (جزاء) فالنفوس دائما تطمع، فلما تأت العقوبة في سياق تطميع يكون هذا مثل الصدمة. (( فجزاؤه جهنم )) أي: ما له جزاء إلا هذا، وهذا فيمن استحل قتل المؤمن، {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} [النساء:93] ، ولا يخلد إلا من استحل، فالمستحل يكفر، وعندها يكون من الخالدين أبدا، لكن لو أنه لم يستحل، وتعمد القتل فهو إلى مشيئة الله: إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، كما دلت على ذلك النصوص، وهو مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكبي الكبائر. (( فجزاؤه جهنم )) ، وليس هذا فحسب؛ بل (( خالدا فيها )) ، تصور مؤمنا كلما ذكر النار طار فزعا منها، وكلما مر عليه اسم النار فزع وخاف، ما الذي أبكى عيون الصالحين، وأسهر جفونهم في جوف الليل: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا} [السجدة:16] ، خوفا من جهنم، خوفا من النار، فإذا بالله عز وجل يأتي بها جزاء في القتل، هذه جهنم التي وصف الله أغلالها وعذابها، وشدتها وبلاءها وكربها، فما رأت عين ولا سمعت أذن أعظم ولا أشد من عذاب الله في جهنم. قال تعالى: {فجزاؤه جهنم خالدا فيها} [النساء:93] ، وليس الجزاء أنه خالد فيها فقط، بل: {وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} [النساء:93] ، الغضب: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} [طه:81] ، ولعنه: {ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا} [النساء:52] اللهم إنا نعوذ بك من لعنتك. فإذا أصابت اللعنة قلبا ختم عليه والعياذ بالله، إلا أن يتداركه الله برحمته. {وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} [النساء:93] ، قف عند قوله: (( وأعد )) ، وقف عند قوله: (( عذابا )) نكرة، و (( عظيما )) ، والعظيم من الله عظيم! فالنفس المؤمنة التي تقرأ هذه الآية، ماذا يحدث لها؟ ثم يخاطب الله عباده في هذه الجريمة أفرادا وجماعات شبابا وشيبا؛ ذكورا وإناثا: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} [الأنعام:151] ، أسلوب آخر من أساليب الزجر، يقول الله تعالى: (( ولا تقتلوا )) ، ما قال: لا تقتل، فما خاطب خطاب الفرد، بل خاطب خطاب الجماعة حتى يشمل طبقات المجتمع كلها ويشمل الصغير والكبير، وأن تعلم أن العزيز والذليل في حكم الله سواء. {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله} [الأنعام:151] ، العبد حينما يتذكر كلمة (حرمة) يعرف أنها من أعظم الأشياء والحرمة لها حرمة، قال سبحانه: {ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} [الحج:30] فهو خير له في دينه ودنياه وآخرته، فكون الله عز وجل يحرم القتل، ويجعل القتل لشيء محرم له حرمة، تنفر النفس بمجرد ما تقرأ هذا الشيء، وتحس أن بينك وبينه حواجز تنبني عليها تقوى الله والخوف منه جل وعلا، ثم يقول الله عز وجل في آية ثالثة: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء:29] ، وأسلوب النهي يتضمن التحريم. (لا تقتلوا أنفسكم)، ما قال: لا تذبحوا، وإنما قال: لا تقتلوا؛ لأن القتل أعم من الذبح؛ لأن الذبح يكون بالإضجاع ولكن القتل يكون على أية صورة، سواء قتل قائما، أو قاعدا، أو مضطجعا، بسكين، أو برمي، أو غيره، كله يسمى قتلا: (( ولا تقتلوا أنفسكم )) . وما أبلغه من تعبير بقوله: (أنفسكم) جعل الله المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، فمن قتل مؤمنا فكأنما قتل المؤمنين، {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} [المائدة:32] . هذا الأسلوب الرباني في النهي عن هذه الجريمة التي تتعلق بالاعتداء على النفس، من شأنه أنه إذا قرأه الإنسان متأملا متدبرا اقتنع بالحكم، وحصل عنده وراء هذه القناعة ما نريده من النفرة مما حرم الله. وكون هذه الخطابات: تشريعا، ووصفا، وبيان عاقبة، فهذه الثلاث الأسس ما اكتملت في خطاب ولا توجيه؛ إلا كان له أطيب الأثر في النفوس، فجاء الحكم بالتحريم: (( ولا تقتلوا )) ، فإنه نهي يقتضي التحريم، وجاء الخطاب بوصف النفس المقتولة: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله} [الأنعام:151] ، {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء:29] ، وهذا يجعل عند الإنسان تعظيما لهذه النفس المحرمة، ثم بيان العاقبة. فأنت حينما تنهى، وتصف المنهي عنه بأن له حرمة، وتصف أن اقتراف هذه الحرمة يعود بالعواقب الوخيمة والنهايات الأليمة، فإن ذلك أبلغ ما يكون تأثيرا في النفوس، إذ هو {تنزيل من حكيم حميد} [فصلت:42] ، فلذلك جاء الأسلوب لهذه الجريمة في هذه الآيات، وأما في السنة، فهناك أحاديث كثيرة، لكن سنقتصر على آيات القرآن في حد جريمة القتل. التحذير من الاعتداء على العقل جريمة الاعتداء على العقل: أعز ما مع الإنسان بعد نفسه ودينه؛ عقله، الذي هو نور يميز به بين الحق والباطل، والهدى والضلال؛ الاعتداء عليه إما بشرب المسكرات والمخدرات، وإما بغيرها. فكلما هم بها العبد إذا بالقرآن يأتي بأبلغ العبارة وأصدق الإشارة ويهز القلوب هزا؛ فتحصل الاستجابة ويعمل على التخلص من الخمور، ويسعى للإقلاع عن المسكرات وتجنب سبيلها. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} [المائدة:90] ، فكون الآية تصدر بخطاب فيه وصف التشريف والتكريم فما ذلك إلا لأنه أدعى للاستجابة؛ لأنه لا يستجيب لربك الاستجابة التامة الكاملة إلا أهل الإيمان، ولذلك خصهم الله بندائه، وشرفهم بدعوته. (( يا أيها الذين آمنوا )) : لأن المؤمن ينظر إلى الآخرة، ينظر إلى الحساب إلى العذاب إلى الجنة إلى النار. {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر} [المائدة:90] : أسلوب الحصر والقصر، كأنه يقول: هذه الخمر، ما فيها إلا كذا، بخلاف أن يقول: الخمر كذا وكذا، وابتدأ بها قبل الميسر والأوثان، فقال: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام} [المائدة:90] ، فجعلها قبل الشرك لأنها طريق إليه؛ ولأنها أم الخبائث، ومن فقد عقله فإنه قد يشرك بالله عز وجل ويرتد ويسب الدين، وينتهك الحرمات ويسفك الدماء المحرمة، ولربما قتل أمه وأباه، والعياذ بالله. فإذا: هي أم الخبائث، فقدمها قائلا: (( إنما الخمر )) ، قبل الشرك بالله عز وجل والميسر، والأنصاب والأزلام: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس} [المائدة:90] ، فجاءت نكرة، والعرب إذا جاءت بالنكرة فإنها تشير بذلك إلى استغراق الشيء في الوصف، أي: إنها الرجس كله، فعندما تقول: فلان رجل، يعني جميع صفات الرجولة فيه، فلما قال الله: الخمر رجس، فجميع صفات الأرجاس الحسية فيها، فليس هناك أخبث منها، ولا أنتن منها، والأرجاس المعنوية التي فيها الكفر بالله عز وجل وسب الدين وفيها قتل النفس المحرمة، فالأرجاس القولية والفعلية كلها في الخمر. {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس} ثم يقول تعالى: {من عمل الشيطان} [المائدة:90] ، والمؤمن بينه وبين الشيطان نفرة؛ لأن الله قال له: {إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا} [الإسراء:53] ، وإذا علمت أن هذا من عدوك فهل ترضى به؟ {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} [المائدة:90] ، أمر باجتنابه، ولم يقل: لا تشربوا الخمر، وإنما قال: (( فاجتنبوه )) ، ومعنى المجانبة ألا يشرب من باب أولى، فهذا نهي عن الاقتراب منها، بخلاف ما إذا قال: لا تشربها، فإنه قد يطلي بها، وقد يتعطر بها، لكن قال: (( فاجتنبوه )) ، فجاء النهي عاما بالترك، وعدم التلبس بهذه الخمرة التي حرمها الله ورسوله. {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} [المائدة:90] ، كونه يرتب الفلاح على ترك الخمر، فوالله ما ترك الخمر عبد لله مؤمنا موقنا صادقا مستجيبا لله عز وجل إلا أفلح وأنجح. {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة:91] ، وهذا من بيان الآثار السيئة للجريمة: {أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء} ، والله عز وجل يريد القلوب أن تجتمع وأن تأتلف، والأرواح أن تتصافى، وكل نصوص القرآن والسنة تجمع المؤمنين ولا تفرقهم، وتحبب بعضهم إلى بعض ولا تبغضهم ولا تبغض المؤمن للمؤمن. {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} [المائدة:91] ، فما شربت الخمر إلا سب شاربها ولعن وقذف، ووقع في حدود الله عز وجل وانتهكها، فقال الله: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة:91] ، لما قال: {ويصدكم عن ذكر الله} ، جاء الله عز وجل بوصفين خبيثين في الخمر: الأول: يضر بالناس، وفيه إضاعة لحقوق الناس، والثاني: يضر بحق الله وفيه إضاعة لحق الله، {أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء} ، {ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} ، فجمع الله فيها بين الشرين، فيما بين العبد وربه وفيما بينه وبين الناس. {فهل أنتم منتهون} ؟! عبارة جميلة وأسلوب بلاغي رفيع، ما ملك الصحابة حينما سمعوا هذه الآية إلا أن صاحوا وصاح عمر رضي الله عنه: انتهينا انتهينا، ورد في رواية أنه جثا على ركبتيه وقال: انتهينا يا رب! انتهينا يا رب! فهذه الخمر التي كانت مفتونة بها النفوس استلت بالآيات البينات من كتاب الله عز وجل؛ فما بال الذي يقترف معصية من المعاصي ويقال: يا أخي! اتق الله واترك، فيقول: لا أقدر! كان بعض الصحابة يشرب الخمر، والخمر من أشد ما يكون فطم الإنسان عنها، ولكن قال الله: اتركها فتركها، وقال الله: اجتنبها فاجتنبها، كمال الاستجابة من كمال التوحيد وكمال الإيمان. التحذير من الاعتداء على العرض الاعتداء على الأعراض: الله عز وجل يعظم حرمات العرض في جريمة الاعتداء على العرض القولية والفعلية.
__________________
|
|
#2
|
||||
|
||||
|
الاعتداء الفعلي على العرض بالزنا ونحوه الفعلية: {الزانية والزاني} [النور:2] ، يستفتح بها سورة، ويجعلها أول تنبيه من الله عز وجل في سورة النور التي تعلقت بصفة من صفات الله عز وجل: {الله نور السموات والأرض} [النور:35] ، إذا بها تستفتح بذكر هذا الذنب العظيم والإثم الكبير، وهو جريمة الزنا، اعتداء على الأعراض، وإذا بالله عز وجل يبين عقوبة الزنا، ولكن بأسلوب يثمر القناعة، ويحصل منه الزجر والتخويف: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2] . أي: الزاني أيا كان، شريفا أو وضيعا، قويا أو ضعيفا: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} ، ثم يقول تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور:2] ، فجعل العقوبة دينا لله عز وجل يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى. هذا الأسلوب في كونه أول شيء يعاقب على الذنب، وثانيا: كونه سبحانه وتعالى يمنع من الرأفة بهما، إذا به يعقب ذلك، ويقول: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور:2] ، وفي ذلك التشهير، والتشهير بالعقوبة يؤثر على الفاعل للذنب، ويؤثر على من يراه، ومن رأى زانيا يجلد إذا كان بكرا أو رأى زانيا ثيبا يرجم، قل أن يفارقه إلا وقد اتعظ، ولن يستطيع أن يرفع حجرا يرميه إلا وزجر نفسه عن أن يفعل فعله، وخاف من الله عز وجل أن يرجم غيره وهو مثله: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور:2] . {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} [النور:3] ، قيل: لا ينكح: لا يطأ ولا يزني، لا يفعل الزنا إلا زان أو مشرك، زان من فساق المسلمين أو كافر، {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} [النور:3] ، فجاء التحريم بعدها. وهذا أسلوب من أساليب التنفير من الذنب والجريمة، أعني أسلوب الخطاب بالتحريم، وإذا بالشرع يزيد على هذا في تحريم الزنا بقوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء:32] . والله ما تأمل أحد هذه الآية بإيمان وصدق فيزني أبدا، فإنه قال: (( ولا تقربوا )) : ما قال: لا تزنوا، والنهي عن القرب من الشيء أبلغ من النهي عن فعله. ثم قوله الله: (( ولا تقربوا )) أي: ذكورا وإناثا، أغنياء وفقراء، شرفاء ووضعاء، خاطب الله عز وجل الأمة كلها: (( ولا تقربوا الزنى )) . وهل الزنا هو الفعل فقط؟ لا، بل النهي عن الزنا بجميع صوره، فكل ما سماه الله ورسوله زنا يتقى، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فزنا العين النظر، وزنا اليد اللمس، وزنا الرجل المشي، وزنا القلب بعد ذلك بأن يهوى ويتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، حتى تنتهي الجريمة الكبيرة وهي فعل الزنا واقترافه والعياذ بالله. هذا النهي (لا تقربوا الزنا) تشريع، والتعبير بصيغة (لا تقرب) أبلغ في التحريم. ثم انظر كيف الله عز وجل يقول: (( إنه )) بصيغة التوكيد، ونحن لا نشك في شيء يخبرنا الله عز وجل عنه أبدا، فلا أصدق من الله حديثا ولا أصدق من الله قيلا، فكيف إذا أكد الله ذلك بصيغة التوكيد، فهذه الصيغة تحتاج إلى تأمل! (( إنه )) الضمير عائد إلى الزنا بجميع صوره، وإلى وسائل الزنا وفعل الزنا كله: {إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء:32] . الاعتداء الفعلي على العرض بالنظر ونحوه الزنا فاحشة بالنظر، فاحشة بالسمع، فاحشة باللمس، فاحشة بجميع صوره. البعض يظن أن الفحش أن يفعل الزنا، نعم هذا فحش، وما علم أن الزنا فاحشة إذا نظر بعينه، ولذلك كل من تكون عنده جرأة على أن يزني بعينه يكون من أهل الفاحشة، فتجده جريئا على حدود الله في نظره، والله تعالى يطمس من عينه نور البصيرة، ولا تزال ترتع عينه في حرمات المؤمنين، وأعراضهم حتى يرفع منها نور الفراسة، ولا يزال يرتع بعينه والعياذ بالله في حرمات المؤمنين حتى يشهد الناس عليه أنه زان بعينه، فهو قد يبدأ بخيانة الأعين يسرق النظرات، ثم بعد ذلك تجد الفحش في عينه، حتى لربما نظر إلى المرأة وهي مع زوجها وأومض بعينه إشارة إلى الخنا والفجور. ومن هنا تجد من يزني بعينه، ربما يسير في الشارع فلا يقف على عورة من عورات المسلمين إلا أرسل النظر إليها، ولا ينظر إلى بيت إلا وجدته خائنا في نظره فاحشا متفحشا في بصره، ينظر إلى باب البيت، ينظر إلى النافذة، ينظر إلى خلل البيت يبحث عن الأماكن الخفية، بل حتى لربما لو وقف بجوار سيارة يقلب نظره في السيارة يمنة ويسرة يريد أن ينظر إلى عورة من عورات المسلمين! وهذا فاحش! وكل النفوس تمقته، وكل الناس تزدريه وتشمئز منه، تأتيه المرأة -وهي عورة من عورات المسلمين- وهو بائع أو طبيب أو في أي عمل من الأعمال، لمصلحة من المصالح، فإذا به ينظر إليها فيومض عينه ومض الخنا والفجور، فلا تملك أمة الله إلا أن تكره ذلك الشيء الذي تريده منه، ولربما كرهت وخرجت من عنده، وإذا صبرت خرجت بقلب مجروح لما اقترف من محارم الله فيها. من هذا الفاحش الذي لا يخاف الله عز وجل حينما يرسل النظر، كلما جاء إلى عورة من عورات المسلمين تجده يسترسل في النظر إليها؟! الاعتداء القولي على العرض بالفحش والنميمة والقذف ونحوها ثم تجد زنا اللسان، اللسان يزني بالكلمات الفاحشة البذيئة، بالتسلط على عورات المسلمين بالمغازلة، يكلم أمة من إماء الله عز وجل يستدرجها إلى الحرام، إلى الفواحش والآثام، فتجد الفاحشة في لسانه، ولذلك قل أن تجد أحدا ممن يسترسل في أذية النساء بلسانه فيرزق القول السديد؛ لأن ذنب اللسان لا يجتمع معه نور القول والعمل، فنور الإيمان لا يجتمع مع معصية الله عز وجل، فتجده لا يوفق في كلامه، ولا يوفق في قوله، ولا يرزق القول السديد. وتجده فاحشا في قوله، حتى لربما يجلس مع بعض إخوانه فتجد زلات اللسان واضحة لا يستطيع أن يتحكم: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين:14] ، {وما ظلمهم الله) [آل عمران:117] ، ذلك بما قدمت يداك} [الحج:10] ، {فبما كسبت أيديكم} [الشورى:30] ، من الفحش وغيره. كذلك يقول: {إنه كان فاحشة} [الإسراء:32] ، يعني الزنا، فهو إذا تسلط على عورات المسلمين بالكلام، لا يمكن أن يحول بين نفسه وبين الفحش. وإذا تسلط على عورات المسلمين بالمشي، (وزنا الرجل المشي) كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فتجده يخرج في ظلمات الليل وفي مظان الريب، من أجل أن يبحث عن عورة من عورات المسلمين. والمرأة الفاسدة والعياذ بالله تجدها أفحش، ولذلك بدأ الله في الزنا بالنساء؛ لأن المرأة لو استعصمت بعصمة الله ما وقعت في الحرام ولا وقع منها الزنا، ولذلك قال: (( الزانية والزاني )) ، فبدأ بها، ولما كانت السرقة غالبا تأتي من القوي وهو الرجل قال: {والسارق والسارقة} [المائدة:38] ، فقدم النساء في الزنا وقدم الرجال في السرقة، وكل له ما يناسبه وما يشاكله. فالمرأة إذا زنت أصبحت تحب سماع الخنا والفجور، تجدها والعياذ بالله متفحشة، لا تريد أن تسمع إلا كلاما بذيئا ساقطا، وتستعذب ذلك، وليأتين عليها يوم تتجرع فيه مرارة ما كسبت، إما عاجلا أو آجلا. يقول الله عز وجل: {إنه كان فاحشة} [الإسراء:32] ، هذا في مقدمات الزنا، فكيف بفعل الزنا، والذي يقع في الزنا والعياذ بالله أفحش ويكون بلغ الفحش به غايته؛ فتجده لا يتورع عن حرام من سيئات الفرج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) . في هذه الآية يقول الله تعالى: {إنه كان} [الإسراء:32] ، وقع التعبير بكان التي تدل على الدوام والاستمرار، فالتصق الزنا مع الفحش ولا يمكن أن يفارق الزنا الفحش، {إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء:32] أي: ساء طريقا. فمن سلك طريق الزنا بكت عيناه وتقرح قلبه، وإن لم يتب إلى الله عز وجل فلربما قاده ذلك إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله، وكما يقول: ساء سبيلا، فمن يزني بإماء الله ويتعرض لعورات المسلمين؛ ليبكينه الله في الدنيا أو يبكينه في الآخرة أو يجمع له بين البكائين في الدنيا والآخرة، فمن تسلط على عورات المسلمين واستدرج الغافلات، واستدرج النساء، وأوقعهن في حبائله وأمنياته المكذوبة فلابد وأن يسوء سبيله وتسوء خاتمته، ولذلك تجد من يستمرئ هذه العادة في أسوء الأحوال، وما سميت السيئة سيئة إلا لأنها تسيء إلى صاحبها. ولقد رأيت بعيني رجلا كان فاحشا متفحشا بذيئا، متسلطا على عورات المسلمين، وجاءني أكثر من شخص يشتكي منه، وكان معنا في الدراسة، ووعظته أكثر من مرة ولم أستطع أن أقول له: بلغنا عنك كذا وكذا؛ لأنني لا أستطيع أن أتهم الناس، ولكني ذكرته بالله بما ظهر لي من حال، فما كان إلا أن استهزأ واستخف، فوالله الذي لا إله غيره! ولا رب سواه! لقد رأيته في حادث فكانت خاتمته من أسوأ الخواتم، وكان جريئا على استدراج البرآء وضعفاء الصغار ونحو ذلك إلى الفساد والعياذ بالله، فلا يحسب أحد أن الكون همل وأن عورات المؤمنين سهلة، فمنهم من يبتلى بالشرود الذهني، ومنهم من يبتلى بشتات النفس، ومنهم من يبتلى بالفقر، ومنهم من تضرب عليه الذلة والعياذ بالله، ومنهم من ينطفئ نور الإيمان في وجهه، إلخ. {وساء سبيلا} ، والعاقل الحكيم لا يمكن أن يستدرج نفسه إلى عواقب السوء والعياذ بالله (وساء سبيلا) : نكرة، أي: ساء طريقا على أي كان هذا الزنا. كذلك الاعتداء على العرض كما يكون بالزنا؛ يكون بالقذف: {إن الذين يرمون المحصنات} تعبير بالتوكيد: إن {الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} [النور:23] ، وعيد شديد! كون الله سبحانه وتعالى ينظر إلى النساء الصالحات الغافلات المؤمنات، ويغار عليهن سبحانه من فوق سبع سماوات، فلا يظنن أحد أن أعراض المسلمين رخيصة، ولا يظنن أحد أن اللسان لا سلطان عليه، والله سبحانه وتعالى قد حذر من الوقوع في حقوق الناس، ولذلك تجد أن العواقب الوخيمة في إضاعة حقوق الناس أليمة في الدنيا والآخرة، وجاءت الصيغ في القرآن والسنة في المنهيات، من حقوق الناس من أبلغ ما تكون، ولذلك تجد مثلا في النميمة، وهي نقل الحديث بين الناس: يمر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فيقول: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فقد كان يمشي بالنميمة ... ) ، نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، الذي يقول الله له يوم العرض الأكبر: (ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع) ، فيشفع في الأولين والآخرين، ولم يستطع أن يشفع في رفع العذاب عن نمام، إنما قال: (لعله أن يخفف عنه ما لم تيبسا) ، لا يرفع العذاب وإنما يخفف فقط؛ لأن حقوق الناس أمرها عظيم. وهذا نذير من الله عز وجل؛ فإن استطعت أن تخرج من الدنيا ولم تسب مسلما ولم تتهم مسلما في عرضه، ولم تتهمه في فكره ومنهجه وعقيدته، وتخرج وأنت خفيف الظهر والحمل من حقوق المسلمين، فافعل ذلك رحمك الله، وإلا لتندمن وليطولن ندمك، ولتندمن حين لا ينفع الندم. فهنا في القذف يقول الله عز وجل: {لعنوا في الدنيا والآخرة} [النور:23] ، فلهم لعنة الدنيا ولهم لعنة الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية. {ولهم عذاب عظيم} [النور:23] ، وصف العذاب بكونه عظيما، وكأن سائلا سأل: ما هو هذا العذاب العظيم يا رب؟! متى يكون؟ وأين يكون؟ فإذا به يقول: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} [النور:24] ، التي كانت لا تبالي بأعراض المسلمين، هذه الألسنة التي كانت سليقة حادة: {سلقوكم بألسنة حداد} [الأحزاب:19] ، هذه الألسنة التي لا تبالي بحرمة، إذا به سبحانه يخبر أن هذه الألسنة التي أذنبت تشهد، {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} [يس:65] . ورد في بعض الآثار أن العبد يقول حينما تشهد عليه الملائكة (يا رب! لا أرضى حتى تقيم علي شاهدا من نفسي، فيقول: من نفسك؟ قال: نعم، فيختم الله عز وجل على فيه، ويتكلم فرجه، وتتكلم رجله، وتتكلم يده) ، في يوم يسوؤه كلام ويسوؤه ما يسمعه، فإذا به يخبر الله عز وجل أنه تشهد عليهم ألسنتهم بما رتعوا في أعراض المؤمنين والمؤمنات، وما استحلوا من محارم الله. كم من أمة من إماء الله عز وجل سهرت ليلها تبكي، وأصبحت نهارها متقرحة القلب تشتكي إلى جبار السماوات والأرض من المظالم في اتهامها في عرضها، وكم من طالب علم وعالم وداعية وصالح يتهم في فكره ومنهجه، فلا يحسب أحد أن أعراض المسلمين رخيصة، وإن هذا اللسان الذي يرتع ليعاقب به العبد إذا كان يرتع في العرض؛ فكيف بالدين؟ وكيف بالفكر؟ وكيف بالمنهج؟ جعل الله عز وجل هذه الجرائم محل المقت في قلوب المسلمين، وليس هناك أحد هذب أخلاق المسلمين وقوم سلوكهم وسدد وصوب اتجاههم، مثل ما جاء في كتاب الله عز وجل. ومن هنا يتضح لنا كيف بين الله عز وجل عظم الاعتداء عن العرض، وكيف حذر من هذا الذنب. التحذير من الاعتداء على الأموال الاعتداء على الأموال: الله سبحانه وتعالى بين حد السرقة وحد الحرابة، وهذه العقوبة بقطع اليد التي هي من أبلغ ما تكون ألما، ومن أبلغ ما تكون زجرا للفاعل وزجرا لمن يرى هذه العقوبة. قل أن تجد أحدا يرى سارقا تقطع يده فيفكر في السرقة، يقول أحد العلماء: جاءني رجل كان مبتلى بالنصب والسرقة والعياذ بالله، بل الأسرة عنده مبتلاة بهذا ونشأ في هذا الانحراف، يقول: ولا يستطيع أن يتركه، قال له: اطلب العلم لعل الله سبحانه وتعالى أن يكسر قلبك بزواجر التنزيل وتتعلم، وكان من بيئة ضعيفة. فابتدأ طلب العلم، وصار يسرق طلاب العلم، فصارت المصيبة أكبر، ذكره بالله وخوفه بالله عز وجل، وإذا به يقول: لا أستطيع؛ لأنه مبتلى بهذا البلاء، فشاء الله يوما من الأيام أن قال له موعظة، قال له: أنا أوصيك بوصية، وهي: أن تحرص أن ترى سارقا تقطع يده، ترى بعينك فقط وتعتبر، وشاء الله عز وجل بعد فترة وإذا به يقام حد سرقة، فجاء ووقف على السارق تقطع يده ورأى الدم ورأى اليد تفصل، ورأى حال من قطعت يده فأغمي عليه، ومن بعدها لم يمد يده إلى مال حرام، فقضاء الله عز وجل فيه زجر، والله أعلم بالنفوس، الله أعلم بما يزجر عباده وبما يصلحهم. هذه مجمل التشريعات الواردة وأسلوب النهي فيها. الأسباب التي تعين على وجود الوازع الديني، جعلها الله عز وجل في التشريعات التي تقوي الإيمان، وتسلم بها عقيدة المسلم ويصلح بها عمله. وهناك جوانب أخر، جعل الله عز وجل فيها السلامة من الجرائم، ونبه عباده على أنها علاج للجريمة، وسبب في ترك الجريمة والسلامة منها، والتي منها الإيمان بالله، وإقام الصلاة، والصوم، والذكر؛ فهذه أسباب كلها تقوي جذوة الإيمان، وينتج عنها البعد أو مقارفة الجرائم والوقوع فيها. سنتحدث إن شاء الله في الأسبوع القادم عن جوانب من التشريعات الإلهية التي أعانت الناس على اتقاء الجرائم وعدم الوقوع في هذه المحرمات التي دلت نصوص الكتاب والسنة على تعظيم أمرها وعلى وجوب تركها والبعد عنها، نسأل الله العظيم أن ييسر ذلك وأن يرزقنا القول السديد، إنه ولي ذلك وهو الحميد المجيد، والله تعالى أعلم. الأسئلة المعاصي علامة على ضعف الوازع الديني السؤال المسلم يذنب ويرتكب المعاصي، هل هذا يدل على أنه ليس له وازع ديني أو خوف من الله؟ أثابكم الله. الجواب الناس ووقوعهم في المعاصي -وهذا سننبه عليه- على أحوال: منهم من يقع في المعصية، ولا إشكال أنه لا يقع في المعصية إلا بضعف إيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) ، فمن كمل إيمانه بالله كملت استقامته على طاعة الله بفعل ما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر. وأما من ضعف إيمانه فعلى العكس، وعلى هذا: فلا شك أن الإيمان مؤثر في هذا، وله أثر على سلوك الإنسان، ولكن بالنسبة للتلبس بالمعاصي فهو على أحوال؛ فهناك أسباب تدعو إلى المعاصي، ومنها ما يكون من الشخص نفسه، من النفس السيئة وغلبة الهوى وغلبة الشهوة، ومنها ما يكون من قرناء السوء، ومنها ما يكون في بيئته، ويدل على ذلك حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، وأتم المائة فأمره العالم أن يترك بيئته وأن يخرج، وقال له: إن في قرية كذا أناسا صالحين، وأوصاه أن يترك قرية السوء، وكان في ذلك علاج له، والسنة أقرت هذا، وهذا يدل على أن المعاصي قد تكون بسبب البيئة. وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.
__________________
|
|
#3
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الحدود) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (538) صـــــ(1) إلى صــ(14) شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الأطعمة الأطعمة أنواع: منها النباتية، ومنها الحيوانية، ومنها الجمادات، وكل طعام الأصل فيه الحل حتى يدل الدليل على خلافه، وهذا يدل على أن الشريعة جاءت بما فيه المصلحة والتيسير لا التشديد، وهي إذا حرمت نوعا من الأطعمة فإنما لما فيه من الضرر على الإنسان وحياته. حقيقة الأطعمة وأحكامها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الأطعمة] الأطعمة جمع طعام، واختلف العلماء رحمهم الله في حقيقة الطعام شرعا على وجهين: الوجه الأول: أن الطعام ما يؤكل ويشرب. الوجه الثاني: أن الطعام ما يؤكل مطلقا. وفائدة هذا الخلاف: هل يدخل الماء في المطعومات أو لا يدخل؟ وهكذا بقية المائعات، فالذين قالوا: إن الشراب والمائع يدخل في الطعام، احتجوا بقوله تعالى: {إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} [البقرة:249] ، فقالوا: (ومن لم يطعمه) وقد انصرف ذلك إلى الماء، فدل على كون الماء مطعوما، كذلك استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في زمزم: (إنها طعام طعم، وشفاء سقم) قالوا: فهذا يدل على أن الماء والمائع يكون طعاما، ومن هنا قالوا: إن الحقيقة الشرعية تشمل هذا -أعني: المأكول والمشروب-. ومن فوائد ذلك: جريان الربا في الماء، فلو قلنا: إن الشريعة إذا أطلقت الطعام تقصد به المأكول والمشروب، فمعنى ذلك أنه يدخل في عموم الحديث الذي رواه معمر بن عبد الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل) ، ومن هنا لا يجوز بيع الماء بالماء إلا متماثلا ويدا بيد، بناء على أنه يدخل في الطعام الشرعي. وقوله رحمه الله: (كتاب الأطعمة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بما أحل الله وما حرم، وما كره للعبد أن يطعمه. وهذا الباب باب عظيم؛ لما يشتمل عليه من بيان أحكام ومسائل شرعية تعم بها البلوى، ويحتاج المسلم إليها في نفسه وفي أهله وفي الناس جميعا، ولما في الطعام الطيب والأكل من الطعام الطيب، أو من الطيبات من الخير العظيم للإنسان؛ لأن الله يزكيه بذلك حتى تستجاب دعوته، وتقبل دعوته إذا طاب مطعمه، قال صلى الله عليه وسلم: (أطب مطعمك؛ تستجب دعوتك) . وقد جمعها رحمه الله في قوله: (الأطعمة) ؛ لأنها أنواع من حيث الحقيقة، فهناك أطعمة نباتية، وهناك أطعمة حيوانية، وهناك أطعمة من الجمادات، وكذلك أيضا لاختلاف أنواعها الشرعية: فهناك طعام محرم، وهناك طعام مباح، وهناك طعام مكروه، فنظرا لتعددها قال رحمه الله: (كتاب الأطعمة) . الأصل في الأطعمة الحل قال رحمه الله: [الأصل فيها الحل] : قوله رحمه الله: (الأصل فيها الحل) الضمير عائد إلى الأطعمة، أي: حكم الشريعة على الطعام أنه حلال للمسلم، وهذا الأصل دل عليه دليل الكتاب كما قال تعالى: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثية:13] ، وهذا التسخير لبني آدم يقتضي الانتفاع، فإن كان الشيء الموجود في السماوات والأرض مطعوما يطعمه، وإذا كان مشروبا يشربه، وإذا كان من جنس ما يركب يركبه، إذن قوله تعالى: (وسخر لكم) يقتضي الإباحة والحل، ومن هنا: نص العلماء والأئمة على أن الأصل في الطعام: أنه حلال. وفائدة هذا: أن الفقيه، وطالب العلم، والمسلم يعلم أن أي طعام الأصل فيه أنه حلال، حتى يدل الدليل الشرعي على عدم جوازه، ومن هنا لو اختلف العلماء رحمهم الله في طعام هل يجوز أكله أو لا يجوز أكله، فإن الذي يقول بجواز الأكل يستدل بالأصل، ويقول: الأصل عندي أن الطعام حلال، ولذلك يجوز لي أن آكله حتى تعطيني دليلا يدل على أنه لا يجوز لي أن آكل هذا, ومن هنا نجد أن العلماء والأئمة يقولون: إن حفظ الأصول هو الطريق للوصول، ولذلك قالوا: من حرم الأصول حرم الوصول، والمراد بالأصول: أصول الأبواب، وليس أصول الفقه، وإن كانت أصول الفقه مهمة، لكن المقصود أصول الأبواب: أي أنك في كل باب تعرف ما هو حكم الله، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي شرعه في كتابه، وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم على الشيء: هل هو حلال، أو غير حلال؟ فإذا علمت هذه الأصول تسأل عما يستثنى، وعندها تكون قد وصلت إلى خير كثير من العلم. وقوله: (الحل) أي: الجواز، بدليل الكتاب، ولإجماع العلماء رحمهم الله على أن الأصل في الطعام أنه حلال. إباحة كل طاهر لا ضرر فيه قال رحمه الله: [فيباح كل طاهر لا مضرة فيه] : الفاء: للتفريع، أو سببية، يتفرع على ما سبق من كون الأصل في الأطعمة أنها حلال، أن نقول ونحكم بأنه يباح كل طاهر لا مضرة فيه، فيباح كل طاهر، و (كل) من صيغ العموم. قوله: [كل طاهر لا مضرة فيه] هذان الوصفان ما اجتمعا في شيء من الأطعمة إلا كان طيبا: أن يكون طاهرا، وأن يكون لا مضرة فيه، فكل ما جمع هذين الوصفين فإنه الطيب الذي عناه الله عز وجل بقوله: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة:57] ، وعتب على من حرم فقال: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف:32] ، فكل طاهر لا مضرة فيه فإن الله قد طيبه، وهو حلال، هذا الأصل. قوله: (كل طاهر) هذا اللفظ له مفهوم وهو: أن من أسباب التحريم: عدم الطهارة، أو كون المأكول أو المطعوم ليس بطاهر، أي: إما نجس، أو متنجس؛ لأن المتنجس يأخذ حكم النجس، أو يكون مما فيه ضرر، وسيأتي أنه لا يجوز أكل النجس. [من حب، وثمر وغيرهما] : قوله: (فيباح كل طاهر لا مضرة فيه) هذا كما قلنا عموم، وهذا العموم يحتاج إلى بيان، ولذلك قال: (من حب، وثمر وغيرهما) . الضرر: ضد النفع، وهو نوعان: إما ضرر ينتهي بالإنسان إلى الموت والهلاك. وإما ضرر دون ذلك. فأي طعام اشتمل على فوات الأنفس وهلاك الأرواح فإنه لا يجوز أكله، أو يكون فيه ضرر يتسبب في إتلاف الأعضاء، أو تعطيل منافعها، أو يحدث للإنسان ضررا في عقله، أو ضررا في حاسة من حواسه، أو يشوش عليه، أو يقلقه، أو يزعجه ونحو ذلك، فإنه يحكم بعدم الجواز؛ لأن النصوص في الكتاب والسنة دلت على تحريم إضرار الإنسان بنفسه، ولذلك حرم الله على العبد أن يقتل نفسه، كما قال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء:29] ، وقال تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195] ، وكل ما فيه ضرر يلقي بالإنسان إلى التهلكة، وقد يهلك عضوا من أعضائه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقا) ، ومن هنا: حرم أكل وشرب الأشياء المضرة، سواء كانت من الجامدات، أو كانت من المائعات. قال رحمه الله: [لا مضرة فيه] فلا يجوز أكل السم؛ لأن فيه ضررا، ولا يجوز أكل ما فيه ضرر على الإنسان في حواسه كما ذكرنا، مثل: الشاة التي فيها مرض، فإنه إذا أكلها انتقل إليه المرض ونحو ذلك، كل هذا لا يجوز، وهو مفرع عن الأصل الذي ذكرناه: أن الأصل لا يكون طيبا إلا إذا كان طاهرا لا مضرة فيه. قال رحمه الله: [من حب، وثمر وغيرهما] : قال تعالى: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141] ، فأحل الله عز وجل أكل ثمار الأشجار، والزروع، وأباح الانتفاع منها، وكذلك أيضا دلت الأدلة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم على إباحة أكل الحيوانات من بهيمة الأنعام من الإبل، والبقر، والغنم، وكل هذا داخل تحت العموم، فيباح كل طاهر لا مضرة فيه؛ من حب، وثمر وغيرهما، و (من) هنا بيانية. تحريم كل نجس وضار من الأطعمة قال رحمه الله: [ولا يحل نجس] ولا يحل نجس: هذا المفهوم جاء بالمنطوق تقريرا للأصل: أنه يباح كل طاهر لا مضرة فيه، والمفهوم: يحرم كل نجس، وكل ما فيه ضرر. والنجس في لغة العرب أصله: القذر، والقذر: هو الشيء الذي تعافه النفوس؛ من المستقذرات، والأشياء الخبيثة، فإنه يحرم أكل النجاسات، والأصل في ذلك: تحريم الله للميتة، وما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما حرم لحوم الحمر الأهلية، نادى مناديه -كما في الصحيح- قال: (إنها رجس) ، والرجس: هو النجس، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكل كل النجاسات. قوله: [كالميتة] الميتة: هي الحيوان الذي هلك حتف نفسه بغير ذكاة. والميتة لا توصف إلا في الحيوانات، فلا يمكن أن نقول للبرتقال ميتة، ولا للتفاح؛ لأنه لا توجد فيه حياة، إذن العلماء رحمهم الله إذا قالوا: ميتة، فمعناه: أنه متعلق بالحيوان، وتوضيح ذلك: أن الحيوان إما أن يذكى؛ إذا كان من جنس ما يذكى، وإما أن يموت حتف نفسه، أو بذكاة غير معتبرة شرعا، ولذلك نجد بعض الفقهاء في تعريفه للميتة يقول: هلك حتف نفسه، أو بغير ذكاة، لأنه لما قال: هلك حتف نفسه، مثل الشاة تموت بأمر الله عز وجل، يعني: تموت فجأة، ولو أن شخصا أمسك الشاة فخنقها، أو وضعها في ماء حتى هلكت، أو رماها من شاهق حتى تردت، فهي منخنقة، أو متردية، أو رماها بحجر على رأسها فهلكت فهذه موقوذة، فكل هذه الأنواع ميتة، ولكنها ماتت بغير ذكاة شرعية، ولذلك نجد بعض العلماء يضيف هذا القيد: هلك حتف نفسه، أو بغير ذكاة شرعية، حتى يشمل النوعين. والميتة نجسة، ولا يجوز أكلها؛ لأن الله تعالى قال: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة:3] ، وذلك في آية البقرة، وآية المائدة، وقال تعالى أيضا في آية الأنعام: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} [الأنعام:145] فهذه النصوص تدل على حرمة أكل الميتات؛ من الإبل، والبقر، والغنم، ويقال: ميتة، لما له ذكاة، وللحيوان الذي في الأصل لا يؤكل إذا مات، لأنه يعتبر ميتة، فاجتمع فيه التحريم بالأصل، والتحريم بعدم وجود الذكاة، وهذا مبني على مسألة حله عند الاضطرار، هل يشترط فيه الذكاة أو لا؟ كما سيأتي في باب الذكاة. فالميتة لا يجوز أكلها، كلا وجزءا، ولا يجوز الانتفاع بها، إلا ما ورد الدليل من الانتفاع بجلدها، وهذا الأصل محل إجماع عند العلماء رحمهم الله. [والدم] : لا يجوز شرب الدماء، والدم المراد تحريمه هنا: الدم المسفوح، وهو: الدم الذي يسبق الموت، والدم الذي يكون أثناء التذكية، فلو أن شاة جرحت، فتطاير دمها على ثوب الإنسان، فإن هذا الدم دم مسفوح، والدم هو الذي يكون بغير ذكاة، سواء سبق الذكاة أو أثناء الذكاة، ولو أراد أن يذبح الشاة أو ينحر البعير، فتطاير عليه دمه فإنه نجس، وهو الذي يسمى بالدم المسفوح: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا} [الأنعام:145] ، فالدم المسفوح: هو الذي يكون في البهيمة حال حياتها إذا نزفت، أو قطع عضو من أعضائها فجرى منها الدم، أما الدم الذي يكون في الحيوان المذكى بعد ذكاته، فإنه طاهر، فلو أن شخصا أتى عند جزار، والجزار يقطع له كتفا من شاة مذكاة، فتطاير عليه دمها، فإنه طاهر، لكن الدم الذي يكون في الرقبة، والدم الذي يكون في السفح-الذكاة- أو أرسل سهما، أو ببندقيته، فضرب بهيمة فتطاير دمها؛ فهذا الدم المسفوح الذي يكون أثناء الذكاة نجس. فلا يجوز شربه، ولا الائتدام به، ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيعه، لكن يجوز الانتفاع به في حال الاضطرار، كما لو احتاج إلى أن يتبرع بدمه لإنقاذ نفس، فهذا استثناه الله عز وجل في قوله: (إ لا ما اضطررتم إليه [الأنعام:119] ، وقوله سبحانه: {إ نما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد} [البقرة:173] ، فإذا توقفت حياة شخص على أن يتبرع له بالدم، فإنه يجوز للإنسان أن يتبرع له، وينوي إنقاذ حياته، وهو مأجور على ذلك، ويدخل في قوله تعالى: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} [المائدة:32] ، وهذا الدم يعتبر من إنقاذ الأنفس، وتكون الحالة حالة اضطرار. [ولا ما فيه مضرة كالسم ونحوه] : لا يجوز أكل ما فيه مضرة كالسم؛ لأن السم قاتل -أعاذنا الله وإياكم منه- وهو يكون في الحيوانات، ويكون في النباتات، ويكون في الجمادات، فسم الحيوانات: مثل ما ذكر العلماء: في السمك، فهناك نوع من أنواع السمك، يقولون له: السمك المسموم، ويكون في الحيوانات كالوزغ الأبرص، فإنه من الحيوانات المسمومة -وذكروا: الزنبور، والنحل- الميت منه يقتل الإنسان غالبا إذا أكله، فهو محرم، سواء كان من الحيوانات، أو كان من النباتات كالخردل، أو كان من الجمادات كالزرنيخ، فهذا لا يجوز أكله. إذا: سبب تحريم السم وجود الضرر، فإن كان السم لا يشتمل على ضرر، بمعنى أن يتعاطاه الإنسان بطريقة لا تضره، ولا تأتي ببلاء عليه في عضو من أعضائه، أو في جسده، فيجوز أكله، ويجوز تعاطيه للحاجة، مثل الدواء، فبعض الأدوية توضع فيها جرعات من السم، وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعاطي السم للوقاية، كما كان يفعله بعض الأطباء للعظماء، والسلاطين إذا خشوا أن يسموا، فكانوا يعطونهم جرعات من السم، حتى يصبح الجسم قابلا للسم، فكانوا يرخصون في هذا؛ لأن سبب التحريم خوف الهلاك، والعلة إذا زالت يزول الحكم المترتب عليها، وعلى هذا لو زال أو غلب على ظنه أنه لا يستضر فإنه يجوز تعاطيه. أما بالنسبة لدليل تحريم السم فقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195] ، والسم ينتهي بالإنسان إلى الموت، وقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء:29] ، وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تحسى سما فمات منه، فهو في نار جهنم يتحساه، خالدا مخلدا فيها) ، فهذا يدل على تحريم أكل السموم. وإذا ثبت أنها حرام، فإنه يحرم بيعها، إلا إذا كان على الوجه الذي استثنيناه، ولكن لو علم أن شخصا سيأخذ السم، ويقتل به نفسا محرمة فلا يجوز وهكذا. ومما يتفرع على هذه المسألة بيع الأدوية ممن لا يحسن صرفها، كأن يبيعها الصيدلي، أو يعطيها للمريض، أو يصرفها طبيب ليس من تخصصه، والأدوية، إما أن تكون فيها سموم، أو فيها ضرر، وكلاهما موجب؛ لأن أصل تحريم أكل السموم: الضرر، فالقاعدة العامة: وجود الضرر، والمثال: السم، فإذا كانت الأدوية تصرف من شخص ليست عنده أهلية، فالغالب الضرر، وحينئذ لا يجوز أن يأكلها، ولا يجوز أن يتعاطاها. ما يحرم من الحيوانات البرية وما يباح قال رحمه الله: [وحيوانات البر مباحة] : هذا أصل عام. والحيوان ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون بريا. وإما أن يكون بحريا. فحيوان البر: يشمل ما كان في السماء، كالطيور، وما كان في الأرض؛ مثل بهيمة الأنعام، ونحو ذلك من الوحوش في البراري، وغيرها مما أحل الله عز وجل، هذا حيوان البر. وحيوان البحر: كالسمك، والحوت ونحو ذلك، والحيوان البحري: هو الذي لا يعيش إلا في البحر، أو غالب عيشه في البحر، بحيث إذا خرج يهلك، أو يقل خروجه، ونسله وتكاثره في غير البحر. حيوانات البر تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: مستأنسة: وهي التي تكون بين الناس وتأنسهم، وتألف الناس ويألفونها ولا تنفر منهم؛ كالإبل، والبقر، والغنم، ومن الطيور: كالدجاج، والإوز، والبط، هذه يسمونها: مستأنسة وداجنة. والقسم الثاني: المتوحشة، وهي بطباعها تنفر من الإنسان، كبقر الوحش، وحمار الوحش، والثيتل، والوعل، ونحو ذلك من حيوانات البر، والطيور: مثل العصافير، والحباري، والقماري وغير ذلك. فحيوانات البر: الأصل حلها، قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} [المائدة:96] معناه: أنه حلال لكم إذا لم تكونوا محرمين، هذا بالنسبة للصيد البري، وصيد البحر. أما بالنسبة للمستأنس البري: فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الإبل، والبقر، والغنم، وهذا يدل على حل حيوانات البر. حكم أكل الحمر الإنسية والوحشية قال رحمه الله: [إلا الحمر الإنسية] : الحمر نوعان: الأول: حمر إنسية، أو أهلية: وهي التي تعيش بين الناس، الأسود منها، أو الرمادي، أو الأبيض، أو الأغبر. الثاني: حمر وحش: وهي التي تعيش في البراري، وهو الأبيض والأسود المخطط، وهو معروف إلى الآن في زماننا، وموجود. ولكن يقل وجوده في جزيرة العرب؛ لأنه كان يأتي من أفريقيا، كما حدثنا كبار السن، وقل وجوده بسبب عدم وجود الهجرة. فبالنسبة للحمر الأهلية: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها عام خيبر، ونهى عنها عليه الصلاة والسلام عام الحديبية -كما في بعض الروايات- ونهى عنها في خطبة حجة الوداع، والإجماع قائم -بعد أن وقع بعض الخلاف عن الصحابة- على تحريمها، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور، كما في حديث أنس، وحديث جابر: نادى مناد: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن الحمر الأهلية) وهذا يدل على تحريم أكلها. واختلف العلماء في العلة: فقيل العلة أنها تجول، وتأكل النتن، والقذر في القرى والهجر، وهذه العلة يرتضيها الإمام البخاري، ويقويها حديث الغالب بن أبجر: (إنها جوال القرية) : أي تجول في القرى. وقيل: إنها لا تخمس في الغنائم، وهي علة ضعيفة، وقد تقدم معنا أحكام الخمس. وقيل: إنه يحتاج إليها للظهر؛ أي: أن يحمل عليها، كما يشهد لذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقيل-وهي العلة القوية-: كما في حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح، ورجحه غير واحد من العلماء أن العلة هي: النجاسة، وذلك لحديث: (وأمر أن تكفأ القدور، وقال: إنها رجس) ، والرجس هو: النجس، وهذا يدل على أن تحريم أكل الحيوانات المحرمة يؤدي إلى الحكم بنجاستها، وهذا صحيح، ولذلك حكم بنجاسة الميتة، وهذا الذي أجمع عليه العلماء، وشكك فيه بعض المتأخرين، وقال: لا يعرف دليل على نجاسة الميتة، لكن يقوي القول بنجاستها حديث الحمر؛ ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت الحمر تؤكل، ثم في اليوم الثاني عندما حرم أكلها قال: (إنها رجس) ، فدل على أنها سلبت ما فيها من الطيب، وأصبحت نجسة، ولا يجوز أكلها من هذا الوجه.
__________________
|
|
#4
|
||||
|
||||
|
حكم أكل ما له ناب من السباع قال رحمه الله: [وما له ناب يفترس به] : الناب: هو السن الذي يلي الرباعيات ويفترس به؛ وهنا وصفان: أن يكون له ناب، وأن يفترس؛ أي: أن يكون من العاديات، وهذا لا يكون إلا في السباع. والأصل في تحريمه قوله صلى الله عليه وسلم: (كل ذي ناب من السباع حرام) والحديث في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. فهذا أصل عند جمهور العلماء في تحريم أكل السباع العادية؛ كالأسد، والنمر، وكل ما له ناب، يعدو به على الناس، ولذلك لا يحل أكل لحمه. وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن العلة في هذا التحريم: أن السباع العادية فيها قوة، وفيها كلب، وفيها نفس خبيثة في الاعتداء، وإلحاق الضرر بالغير، واللحم يؤثر في الطبائع، ولـ ابن خلدون كلام تاريخي على مسألة النباتية والحيوانية، يعني أكل النباتات والحيوانات، وتأثير ذلك على الطباع. فالسباع العادية إذا أكل لحمها تأثر الإنسان بطباعها الخبيثة من العدو والكلب، ولذلك نهي عنه، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (السكينة عند رعاة الغنم من مضر) لأن طبيعة الغنم السكينة؛ ولذلك بين أن السكينة في رعيها وأكل لحمها، ثم قال: (والجفاء عند رعاة الإبل من ربيعة) فهذا يدل على أن أكل لحم الإبل يؤثر في الطبائع، ويؤثر في نفسية الإنسان، ومن هنا قال الإمام ابن القيم: إن السباع العادية فيها نفس خبيثة، وفيها كلب وعدوان، فأكل لحمها يؤثر في طبع الإنسان، ولهذا حرمت. واختلف العلماء في مسألة كل ذي ناب من السباع: الجمهور على التحريم، والمالكية عندهم رواية بالجواز، واحتجوا بقوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} [الأنعام:145] ، قالوا: إن آية الأنعام لم تذكر السباع. ونقول لهم: إن قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} . دل على عموم التحريم، وحديث: (كل ذي ناب من السباع) دل على خصوص التحريم في السباع العادية، فلا تعارض بين هذا وهذا، حيث جاءت السنة بالزيادة، والسنة تزيد على القرآن، وهذا هو الذي عليه العمل عند جماهير السلف والخلف والأئمة. قوله: [غير الضبع] : الضبع: اختلف فيه على قولين: قيل: إنه لا يجوز أكله، كما يقول المالكية والحنفية. وقيل: بجواز أكله، كما هو مذهب الشافعية والحنابلة. والذين قالوا بالجواز أسعد بالدليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحل الضبع، فقد سأل عبد الرحمن بن عبد الله بن عمارة التابعي جابر بن عبد الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (الضبع صيد؟ قال: نعم، قال: آكله؟ قال: نعم، قال: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم) . وهذا الحديث صححه الإمام البخاري، وابن خزيمة، وابن حبان، والإمام الترمذي، والعمل عند العلماء-من ذكرنا- على متنه، أنه يدل على جواز أكل لحم الضبع، وعلى هذا فقول من قال بتحريمه مرجوح. [كالأسد، والنمر. كالأسد، والنمر، والذئب، والفيل: هذا تمثيل للسباع العادية، فالأسد: يقتل، ويعدو بنابه، وله كلب، وفيه وجهان: أولا: الأسد، والنمر من السباع العادية، وهذا النص فيه واضح. وثانيا: اغتذاؤها بالجيف، ومن هنا تكون خبيثة، فجمعت بين الأصلين؛ لذلك التحريم فيها أقوى. [والذئب] : والذئب له ناب، ويعدو بنابه، ويقتل. [والفيل] : فيه قولان للعلماء: الجمهور على تحريم أكل الفيل؛ وذلك لأمرين: أولا: وجود الناب فيه، حتى قال الإمام أحمد: لم أر أعظم منه نابا، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب. وهو يعدو؛ فإنه إذا آذاه الإنسان يفتك به، وإن كان فتكه ليس بالناب، لكنه يعدو عليه ويقتله، ففيه الكلب. الوجه الثاني: خبث الفيل، ومن هنا قالوا: إنه جمع بين الوصفين. وهناك من يقول بجواز أكل لحم الفيل. [والفهد، والكلب، والخنزير] : أما الكلب: فاختلف في نجاسته وطهارته: فقيل: إنه نجس، وهذا هو الصحيح، وقد تقدم هذا في الطهارة وبينا الدليل على نجاسته، وبناء على ذلك لا يجوز أكل لحم الكلب، ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله من الفواسق، وإن كان قد خص الكلب العقور، وقد أمر بقتل الكلاب صلوات الله وسلامه عليه، ولو كانت تؤكل لأمرهم أن يأكلوا لحمها، ولكنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتلها، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكل لحم الكلب. الأمر الثاني: أن الكلب يغتذي بالجيف، ففيه استخباث لحمه، وقد جمع بين الوصفين لتحريمه. قوله: (والخنزير) دل دليل الكتاب والإجماع على تحريم أكل لحم الخنزير، كما قال تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} [المائدة:3] ، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكل لحم الخنزير، ولا الإدهان بشحمه، ونحو ذلك من بقية أجزائه. [وابن آوى، وابن عرس، والسنور] ابن آوى: فوق الثعلب، ودون الذئب، ويكثر صياحه لبني جنسه، وصوته أشبه بصوت الصبيان فيما ذكروا من ضوابطه، وهو مستخبث، وفيه خلاف، والجمهور على تحريم أكل لحمه. (وابن عرس) كذلك مثله؛ لأن له نابا، وكلبا. (والسنور) القط: سواء كان بريا، أو أهليا، فله كلب، وله عدو، خاصة المتوحش منه؛ وهو البري، ولو خلا بالإنسان فإنه يقتله، والقط البري المعروف، يقال: إنه من فصيلة النمور، وهو يغتذي بالجيف والأهلي يغتذي بالحشرات، فيستخبث لحمه، فهذه الأنواع كلها لا يجوز أكلها. حكم أكل ما له مخلب من الطير قال رحمه الله: [والنمس، والقرد، والدب] : الدب استخبثوه؛ لأن فيه الكلب، وفيه الاستخباث. [وما له مخلب من الطير يصيد به] : بعد أن بين رحمه الله تحريم السباع العادية، بالنسبة لما يدب على وجه الأرض، شرع في بيان النوع الثاني من البري؛ لأن البري إما طائر، وإما غير طائر، فبين غير الطائر، الذي هو ذو الناب من السباع، ثم شرع في بيان المحرم من الطير، وهو كل ذي مخلب من الطير، والمخلب: الظفر، والمراد به: ما يعدو من الجوارح؛ كالصقر، والباز، والشاهين، والباشق، ونحوها من العاديات في الطيور، فهذه محرمة. أولا: لوجود العدو منها، كالعدو في ذوات السباع؛ لأنها ذوات مخلب. كذلك أيضا: خبث تناولها للجيف، وأكلها للجيف يقوي تحريمها. [كالعقاب، والبازي، والصقر، والشاهين، والباشق، والحدأة، والبومة] : هذه كلها من الطيور العادية، والعادية ورد فيها النص؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الحدأة في الحل والحرم، وهذا يدل على أنها ليست بصيد؛ لأن المحرم لا يقتل الصيد، ولو كانت مما يحل أكله لكان فيه الضمان في قتله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنها فاسق، وأنها تقتل، فهذا يدل على أنها ليست مما يحل أكله. حكم أكل ما يأكل الجيف قال رحمه الله: [وما يأكل الجيف] : هذا المستخبث من الطيور. [كالنسر، والرخم] : النسر معروف، وهو يعدو على الجيف، وكثيرا ما يوجد في فضلات البهائم في البر. والرخم: وهو من أسوأ وأقذر أنواع الطيور لحما، حتى كان بعض الأطباء إذا أعياه وجود الدود في بعض الجسم، يضع لحم الرخم على الجلد من خارج، فيترك الدود داخل البدن ويخرج إلى الرخم، وهذا من غريب ما فعله بعض الأطباء حينما أعيته الحيلة والرخم يضربون به المثل للشيء الذي يكون عديم الفائدة، لأنه لا أحد ينتفع به. [واللقلق، والعقعق، والغراب الأبقع] : أما الغراب فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتله كما في حديث الفواسق، والأبقع: هو الذي فيه البقعة البيضاء، قيل: فيه بياض. [والغداف: هو أسود صغير أغبر، والغراب الأسود الكبير] : كل هذه يحرم أكلها -أنواع الغراب- لأنها مستخبثة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الغراب، وجعله من الفواسق، ولو كان حلالا لما أمر بقتله عليه الصلاة والسلام، ولما جعله من جنس ما لا يضمن، كما في حديث الفواسق. حكم أكل ما يستخبث قال: [وما يستخبث كالقنفذ، والنيص، والفأرة، والحية، والحشرات كلها، والوطواط، وما تولد من مأكول، وغيره كالبغل] قوله: [وما يستخبث] : الأصل في تحريمه قوله تعالى: {يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157] ، والأصل عند جمهور العلماء أن العبرة بالاستخباث العرب؛ لأن بيئتهم هي أوسط البيئات، وطبائعهم هي أعدل الطبائع، لما جبلهم الله عز وجل عليه من الصفات، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله اختارهم واصطفاهم. وهذا الاختيار من الله عز وجل والاصطفاء، فيما جبلوا عليه من النعم التي وضعها الله عز وجل في طبائعهم. فما استخبثته العرب فهو خبيث، وما استطابته فهو طيب، ثم ينظر: العرب فيهم بادية وحاضرة، وفيهم الغني والفقير، وفيهم أزمنة الرخاء وأزمنة الشدة، فهل نحكم في الاستخباث والطيب بضابط معين؟ أو يترك الأمر هكذا؟ الذي عليه المحققون: أن الاستخباث والطيب أمر نسبي، وأن العبرة فيه بأعدل الناس، لأن الغني يستخبث ما يستطيبه الفقير، فلو أنه جعل الاستخباث للأغنياء لعظم التحريم، ولم يبق شيء إلا حرم؛ لأنهم لا يأكلون إلا شيئا معينا خاصا، ولذا نظر إلى الأعدل في هذا، قيل: إنه ينظر إلى الفقراء. أما بالنسبة للمدن، والقرى، والبادية، فينظر إلى الوسط بينها؛ لأن البادية بحكم شدة الظروف فيهم من الجلد والقوة ما ليس بالحاضرة، ولذلك يقوون على بعض الأشياء، ويرون أنها مستطابة، وقد يكون العرب في الحاضرة لا يستطيبونها، فلو قيل: إن العبرة بطبائع البادية، لحصل توسع، ولذلك قالوا: ينظر إلى الطبائع المعتدلة في القرى، والهجر، ونحوها. كذلك أيضا بالنسبة للغنى والفقر، وأزمنة الخصب والجدب، فإن العبرة بالوسط بين الحالتين، وهو الذي يعتبر فيه الاستخباث وعدمه، وليس فيه إشكال إلا قليل جدا؛ لأنه ما حدث الخلاف بين العلماء إلا في مسائل معدودة، لأن كثيرا منها وردت بها النصوص، وحل إشكالها؛ لأنه لم يترك الشرع إلى طبائع الناس، وإنما هو وارد في بعض المسائل المحددة، وقد اختلف فيها، مثلا: بعض الدواب مثل القنفذ، هل هو مستخبث أو ليس بمستخبث؟ حصل الخلاف بين العلماء في هذا، لكن الأمر في الأوسط، وهو الذي عليه العمل عند المحققين رحمهم الله. [كالقنفذ، والنيص] : القنفذ معروف؛ ذو الشوك، وهو حيوان يعدو بشوكه على الأفاعي، واستخباثه من جهة مطعمه، وتستخبث النفوس أكله، وأثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنهم حرموا أكله، ونصوا على ذلك، كما أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما، وغيره. [والنيص] : قيل: إنه أكبر القنافذ أي: شيخ القنافذ، ويأخذ حكم التابع لما قبله، وقيل غير ذلك، ويقال له: (الدلدل) وعلى كل حال هو آخذ حكم القنافذ؛ لأن الخبث فيه من جهة أنه يعدو على الحيات والأفاعي، وهو يتكور، فتؤذيه الحية حتى يقتلها بشوكه، وقيل: إن النيص يلقي شوكه، والقنفذ لا يلقي شوكه، يعني: يرمي النيص، لكن هذا اختلف فيه بين العلماء رحمهم الله، وسواء هذا أو هذا، كلاهما شر. [والفأرة] : النص فيها واضح، وخبثها معلوم، حتى إن الأطباء -والعياذ بالله- ذكروا أنها من أسباب الطاعون. [والحية] : لا يجوز أكل الحيات؛ لما فيها من الضرر، وقد عدها النبي صلى الله عيه وسلم من الفواسق. [والحشرات كلها] : لا يجوز أكل الحشرات؛ لأنها مستخبثة، إلا الدود الذي يكون في الطعام، مما لا نفس له سائلة، كدود التمر، ودود الحب، فهذا طاهر، ويجوز أكله، والأصل في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحلت لنا ميتتان، ودمان، أما الميتتان: فالجراد، والحوت) ، فجعل الجراد من الميتات يؤكل بغير ذكاة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقتلونه بالرماح، والجراد مما لا نفس له سائلة، ولذلك دود التمر، وسوس التمر، والسوس الذي يكون في الحبوب ونحوها، يجوز أكله مع أنه من الحشرات، ولا يعتبر محرما. [والوطواط] : كذلك لاستخباثه، وقد أثر عن السلف رحمهم الله خبث لحمه. [وما تولد من مأكول وغيره، كالبغل] : البغل يتولد من الحمار ومن الخيل، فإذا غلب الحلال، فإنه يقال بجواز أكله، وإن غلب الحرام، فيقال بتحريم أكله، والذي عليه المحققون: أنه إذا اجتمع الحل والحرمة في الدواب، كأن يكون متولدا من حلال وحرام، سواء كانت الأنثى الحلال، أو العكس، فالحكم في الجميع التحريم، والسبب في ذلك: أنه ليس فيه ذرة من لحمه إلا وفيها اختلاط حلال بحرام. وهذا لا يجوز أكل السنع والسيعار، والسنع من الذئب والضبع، والسيعار من الكلب والضبع، وقيل أيضا: النعجة قد ينزو عليها الكلب-أكرمكم الله- فتأتي بنصف شبه للكلب، ونصف شبه للبهيمة، فكل هذا محرم؛ لأنه ليس فيه شيء إلا وقد اشترك فيه الحلال والحرام، ولا يشكل على هذا مسألة من كان يتعامل بالربا، إذا أردت أن تأخذ منه دينا، أو استضافك، وقد اختلط ماله الحلال بماله الحرام، فليس من هذا، ولذلك قالوا: من اختلط ماله الحلال بماله الحرام لا يمتنع إلا إذا جزم بأن هذا المال من الحرام، وعلم أن هذا المال الذي يأكل منه من الحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من شاة اليهودية، واستضافه اليهودي كما في الحديث المسند على خبز وإهالة سخنة، وأكل صلى الله عليه وسلم، لأن عين المال لم يجزم بحرمته، فبقي على الأصل من حله. ما يحل أكله من الحيوانات قال رحمه الله تعالى: [فصل: وما عدا ذلك فحلال] أي: سوى ما ذكر فحلال، وهذا من بديع ذكر المصنف رحمه الله؛ فإنه ذكر المحرمات، ثم أعقبها بالحلال، من هنا يدرك المسلم أن ما أحل الله من الطيبات أكثر مما حرم، ولذلك قال تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} [الأنعام:145] فجعل الحل عاما، وجعل التحريم خاصا، وهذا يدل على سماحة الشريعة ويسرها، ولا يحرم إلا لسبب؛ إما وجود الخبث، وإما وجود الضرر، وقد يكون لسبب إلهي مثل أن يكون مذبوحا لغير الله عز وجل، كأن يكون مما ذبح على النصب، وأهل لغير الله به. [كالخيل] : اختلف في الخيل على قولين: قيل بتحريمها، وقيل بحل أكلها، والصحيح جواز أكلها، فقد حل نص صلى الله عليه وسلم على ذلك كما في حديث جابر في الصحيح أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الحمر الأهلية، وأذن لنا في الخيل) وقالت أم المؤمنين: (نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا وأكلناه) ، فهذا يدل على حل أكل الفرس، وقد حرم الحنفية وبعض المالكية أكل الخيل، لقوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [النحل:8] قالوا: إن الله جعل الخيل مع الحمير، وهذه تسمى: دلالة الاقتران، وهي ضعيفة؛ لأن العطف لا يقتضي المساواة في الحكم، قال تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141] كلوا، وآتوا: فالأكل من الثمر ليس بواجب، وآتوا حقه-الذي هو الزكاة- واجبة، فالعطف لا يقتضي من كل وجه التشريك في الحكم، فالصحيح القول بجواز أكل لحم الخيل، وأنه لا بأس بذلك ولا حرج. [وبهيمة الأنعام، والدجاج، والوحشي من الحمر، والبقر، والظباء، والنعامة، والأرنب، وسائر الوحوش] هذا فقط مجرد تمثيل، وما سوى ذلك الأمر واضح فيه، فلو أنه عدد، لم ينته الكتاب؛ لأن ما أحل الله لا ينحصر، وذلك من سعة رحمة الله بعباده. وقوله: (بهيمة الأنعام) أي: الإبل، والبقر، والغنم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكل الإبل، وأكل الغنم كما في حديث الشاة، وحديث الكتف، وكذلك أيضا البقر، فقد ضحى عن نسائه بالبقر، أما الدجاج، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة) ثم الشاة، ثم الدجاجة، فدل على حل أكل الدجاج. ما يباح من حيوان البحر وما يحرم قال رحمه الله: [ويباح حيوان البحر كله] : شرع رحمه الله في بيان حكم حيوان البحر، وقد اختلف في الأصل فيه على قولين: القول الأول: أن حل حيوان البحر لا يختص بنوع معين، أي: أن الأصل حله، لقوله عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقوله: (الحل ميتته) عام، فنأكل السمك، ونأكل الحوت، ونأكل سرطان البحر، ونأكل الجنبري ونحو ذلك، وذهب الحنفية رحمهم الله إلى تخصيص الحكم بالسمك والحوت، وأن ما عداه لا يؤكل، واختلفوا في نوعين: أحدهما (الجريث) : وهو السمك الذي كالترس المدور، و (الماراماهي) : وهذا أيضا فيه خلاف لبعض أهل البدع مع أهل السنة، والصحيح جوازه، وهو مذهب جماهير العلماء، لظاهر السنة. فلا نحرم شيئا من لحم البحر إلا إذا ثبت ضرره، كالسمك إذا تفسخ، وقال الأطباء: فإنه يضر، أو كان من النوع الذي فيه ضرر، فنقول: لا يجوز أكله. إذا: لا نحرمه إلا إذا وجد سبب يقتضي التحريم، وإلا فالأصل جوازه. [إلا الضفدع] : لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله. [والتمساح] : وهو من العوادي، فلا يحل أكله. [والحية] : تقدم معنا أنها من الفواسق، ومراده هنا: حية الماء. أحكام المضطر قال رحمه الله: [ومن اضطر إلى محرم غير السم حل له منه ما يسد رمقه] : بعد أن بين أحكام الاختيار شرع رحمه الله في بيان أحكام الاضطرار. والضرورة: الإلجاء، ومن اضطر إلى الشيء احتاجه ولجأ إليه بعد الله سبحانه وتعالى، ولا تكون الضرورة إلا عند الخوف على النفس من التهلكة، أو على عضو من الأعضاء؛ كاليد والرجل أن تقطع، أو تذهب منافعها، فهذا مقام ضرورة. قوله: (من اضطر) كمن أصابته مخمصة: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم} [المائدة:3] قيل: ألا يكون سفره لحرام، وقيل أن يقصد تقوى الله عز وجل، وألا يعتدي ويسرف في أكله، فإذا أصابته المجاعة ولم يجد شيئا إلا الميتة، ينتظر حتى يغلب على ظنه أنه لو لم يأكل يهلك، فحينئذ يأكل، وقد ذكر الإمام الحافظ ابن حجر أمرا عجيبا عن بعض الأطباء، وهو: أن الجسم إذا وصل إلى درجة المخمصة الشديدة وأصبح في مجاعة شديدة، وبلغ حالة الاضطرار، تكون فيه مثل المادة السمية، مما يفرزه من شدة حرارة الجسم، وهي في حمياته، وهذه المادة تقوى على دفع سم الميتات وضررها. وقال: هذا من البديع الحسن، وكل شرع الله عز وجل حسن، ومن هنا لو اعترض معترض بأن الميتات خبث، وأنها كذا، لا يبعد أن الله سبحانه وتعالى أحل هذا، وجعل في الإنسان ما يؤهله لذلك، ولذلك لما حرم الخمر سلبها المنافع، فالله إذا أحل وحرم، حلل وحرم لحكمة: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة:216] . فمن اضطر -أي بلغ مقام الاضطرار- فقد أجمع العلماء رحمهم الله على حل الميتات والمحرمات له؛ لأن الله نص على ذلك، فقال سبحانه وتعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) [البقرة:173] ، وقال تعالى: فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) [المائدة:3] ، وقال تعالى: فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} [الأنعام:145] ، وقال: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119] فالمضطر يسقط عنه التكليف، وحينئذ ينقذ نفسه، وهذا من باب دفع الضرر الأعظم بتناول أو تعاطي الضرر الأخف، وعلى هذا أجمع العلماء والقاعدة المشهورة: (الضرر يزال) ومن فروعها: (الضرورات تبيح المحظورات) . قوله: [ومن اضطر إلى محرم] : كالميتة، فيجوز للمضطر أن يأكل منها، وهل يأكل إلى حد الشبع، أو يأكل بقدر ما يدفع المخمصة؟ وجهان: أحوطهما: أن يأكل بقدر ما يدفع به المخمصة، وإذا غلب على ظنه أنه يجد ما ينقذ به نفسه فلا يجوز له أن يحمل منها، وإذا غلب على ظنه أنه لا يجد فيجوز له أن يحمل، هذا بالنسبة للأكل مما يضطر منه. فالقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) فرعت عليها القاعدة: (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) ومن هنا يأكل بقدر ما يدفع به الضرر عن نفسه، والزائد على ذلك يبقى على الأصل. [غير السم] : لأن السم لا ضرورة فيه، فإنه إذا أكله هلك، وحينئذ لا ينقذ، بل يعجل بالوفاة، فلا يجوز تعاطي السم في الضرورات، يعني ليس بموجب لاغتذاء الجسم، وليس بموجب لاندفاع الضرر عنه، إلا فيما استثنيناه من أن يكون السم للتداوي أو ما شابه، فهذا قد استثناه بعض العلماء ولا يدخل في مسألتنا، إنما المسألة: رجل جائع ويريد أن يأكل، ولم يجد إلا سما، أو عطشان، ولم يجد إلا سائلا من السم، وإذا شربه يموت، فإن هذا ليس مما يؤذن له بشربه. قال رحمه الله: [حل له منه ما يسد رمقه] حل له من الميتة، أو من الطعام المحرم ما يسد رمقه؛ لأن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها. قال رحمه الله: [ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه] : بعد أن بين الاضطرار إلى الأكل شرع في الاضطرار إلى المنافع، إذا اضطر إلى المنفعة مع بقاء العين، كأن يضطر إلى ركوب سيارة، مثل أن تكون امرأته في حالة يخشى عليها الموت، أو عنده مريض يريد أن يسعفه، ولم يجد إلا هذه السيارة وعليها مفتاحها، إذن اضطر إلى نفع في مال غير، وهي السيارة، والنفع هو الركوب، مع بقاء العين: التي هي السيارة، وسيردها إلى صاحبها، فليس فيه استهلاك للمادة، وهذا يدخل في العواري، والأصل: أن المسلم يمنح أخاه المسلم ويعطيه، دل على مشروعية ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما ركب على فرس أبي طلحة، وذلك عندما سمع الصحابة ذات ليلة صيحة، فخرجوا -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشجع الناس، وهذا الحديث من السير يمثل به العلماء على شجاعته عليه الصلاة والسلام- فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد رجع من عند الصوت، وهو يقول: (لا تراعوا) ، وكان عليه الصلاة والسلام قد ركب على فرس أبي طلحة من غير سرج، وأخذوا من هذا الحديث -يقولون- ما لا يقل عن ثلاثين فائدة، منها: استعمال مال الغير عند الحاجة مع بقاء العين، وقيل في قوله تعالى: {فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون} [الماعون:4 - 7] قيل: الماعون: هو الإناء، وهذا قول لبعض العلماء، ولكن قول طائفة من أئمة اللغة، وهو معروف في لسان العرب، واختاره بعض أئمة التفسير، ومحفوظ عن أئمة الصحابة أن الماعون: كل ما يحتاج إليه الإنسان؛ لأنه من المعونة، والآية فيها وعيد شديد على أن للإنسان الذي يرى أخاه محتاجا إلى شيء زائد عنه ثم لا يعطيه ذلك الفضل، وهذا هو المعنى الصحيح، وقد أشار إليه الأئمة كالإمام القرطبي وغيره من المفسرين، وعلى هذا لا يمنعه مالك الحاجة. واختلف العلماء لو رأى شخصا بين الحياة والموت, وعلم أنه لو لم يركب معه أنه سيموت، وامتنع من إركابه؛ فـ ابن حزم يرى أنه قاتل، وأنه يقتل به، وهذا من مسائله الغريبة، لكنه سيكون عليه إثم عظيم، وهذه سببية، لكنها سببية لا تفضي للزهوق، ولم يقصد بها الزهوق، ولم يقصد بها الإتلاف؛ لأنه قد يمتنع لعارض، وليس كل من يمتنع معناه أنه يريد أن يقتل أخاه، كأن تمر على شخص في الطريق في شدة الظهيرة وهو واقف فتمتنع من إركابه، كأن تكون معك عائلة، أو تخشى على عرض، أو تخشى على شيء، وهذا شيء آخر، أو وجدت شبهة وريبة، وإلا والله الأمر عظيم في منع المسلم لأخيه المسلم ما يحتاجه. قال رحمه الله: [لدفع برد، أو استسقاء ماء، ونحوه] : لدفع برد: أي من أجل دفع البرد، وإذا كان يريد منك لحافا (بطانية) ، أو استسقاء: مثل أن يريد الدلو للبئر، فحينئذ ينبغي للإنسان أن يساعده. [وجب بذله له مجانا] : معناه: أنه يأثم إذا لم يعطه، وفي حال الاضطرار يصير واجبا عليك، وفي حال الاختيار يكون غير واجب؛ لأنه يجد مندوحة، وعنده القدرة أن يشتري، لكن شخص مضطر يريد أن يشرب ماء ولا يجد إلا دلوك من أجل أن يغرف به فتعطيه، أو رجل يرتعش من شدة البرد، والضرر سيأتيه في بدنه، وعندك مثلا لحاف، أو بطانية، أو كوت، أو نحو ذلك، وتستطيع أن تعطيه إياه، أو في شدة الحر يمشي على الوهيج، وقد يتأذى يتضرر، وعندك حذاء-أكرمكم الله- زائد عن حاجتك، وجب بذله، قال: (وجب) يعني: يأثم إذا امتنع. قال رحمه الله: [ومن مر بثمر بستان في شجرة، أو متساقط عنه، ولا حائط عليه ولا ناظر، فله الأكل مجانا منه، من غير حمل] : من مر بثمر داخل بستان: ينادي على صاحبه، فإذا لم يأت صاحبه حل له أن يأكل غير متمون، ولا يرمي الشجر فيسقط ما عليه، له أن يأكل ما أسقطه النخيل أو ما أسقطته الرياح من النخيل، وله أن يلتقط من الفواكه غير متمون، وفيها حديث السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (ينادي على صاحب البستان ثلاثا، ثم يأكل بالمعروف) . قال رحمه الله: [وتجب ضيافة المسلم المجتاز به في القرى يوما وليلة] . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) فالمسلم إذا اجتاز بالقرى، فيجب على أهل القرية أن يكرموه، فإذا تبرع شخص أن يؤويه، وتبرع آخر أن يطعمه، سقط الإثم عن الجميع، وإلا أثموا، فعندما يمر الضيف أو يمر المسلم بإخوانه المسلمين ولا يجد من يضيفه، هذا من أسوأ ما يكون. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا.
__________________
|
|
#5
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الحدود) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (539) صـــــ(1) إلى صــ(10) شرح زاد المستقنع - باب الذكاة الذكاة أصلها الشيء الطيب، وتنقسم في الشريعة إلى قسمين: ذكاة أصلية، وذكاة بدلية، ولكل منهما شروط حتى يحكم بصحتهما، فينبغي على كل مسلم معرفة هذه الشروط يلزم توافرها ليعرف ما أحل الله له من الذبائح وما حرم عليه. الذكاة تعريفها وأقسامها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الذكاة] . الذكاة أصلها: الشيء الطيب، ومنه قولهم: رائحة ذكية، وقيل: الذكاة الحدة، والفراسة القوية، ولذلك وصف بها إنهار الدم؛ لأن الآلة تفري، وتنهر الدم، فكانت هناك مناسبة بين الإطلاق اللغوي والإطلاق الشرعي. قوله رحمه الله: (باب الذكاة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالذكاة الشرعية، والمناسبة: أن هذه الحيوانات المباحة، يحل أكلها إذا ذكيت وكانت من جنس ما يذكى. فإن هناك حيوانات من حيث الأصل أمر بتذكيتها، وهناك حيوانات لا تذكى، وقد بين لنا المصنف ما يحل وما يحرم، فنستبعد الذي يحرم؛ لأن الذي يحرم لا يذكى، إلا في خلاف عند العلماء في حال الضرورة، كأن يكون مثلا جائعا ووجد أسدا، فهل يذكيه؟ هذا إذا ما كان الأسد سيبقى إلى تذكيته! لكن بعض العلماء يرى أنه يذكى، والأقوى أنه لا تجب الذكاة؛ لأنه أصلا ليس من جنس ما يذكى. الذكاة نوعان: منه ما أمر الله بذكاته، ومنه ما لم يأمر الله بذكاته، وهو حيوان البحر، وأيضا ما لا نفس له سائلة؛ كالجراد، والدود، فهذا يؤكل بدون ذكاة، أما بالنسبة للذي يكون من غير حيوان البحر، ومما له نفس سائلة مما أحل الله أكله ففيه الذكاة. أقسام الذكاة وتنقسم الذكاة إلى قسمين: الأول: الذكاة الأصلية. الثاني: الذكاة المنزلة منزلة الأصل، فهي بدل عنه. والذكاة الأصلية: تنقسم إلى قسمين أيضا: الذبح والنحر، وما جمع بينهما: فهناك حيوانات تذبح؛ كالغنم، وتيس الجبل ونحو ذلك، إذا كان مستأنسا. وهناك حيوانات تنحر، كالإبل، فلا يوجد أحد يذبح الإبل وإنما ينحرها، ولذلك يقال: نحرت البعير، ولا يقال: ذبحت البعير. وما يجمع الأمرين: كالبقر، ففيه موضع للذبح، وموضع للنحر، هذا بالنسبة لما يحل أكله من الحيوان الذي يذكى الذكاة الأصلية. والذكاة البدلية: هي ذكاة الصيد، وقد نزلت منزلة هذه الذكاة الأصلية حتى نفقه عموم حكم الشريعة في الذكاة، فالحيوان الذي يكون بريا؛ إما أن يكون من جنس ما يذكى بالأصل، وهو الحيوان المستأنس، وإما أن يكون له ذكاة بدلية، وهو الصيد، وتعكس، فتقول: إذا صار الصيد مستأنسا عومل معاملة المستأنس، فلو أمسك بقر وحش، فإنه ينحره أو يذبحه، ولو أن المستأنس أصبح متوحشا عومل معاملة الصيد. ومعاملة الصيد على إحدى النوعين من الذكاة، فكما أن المستأنس له طريقتان، فالصيد له طريقتان: الأولى: أن تكون تذكيته بالآلة، مثل: أن يرسل السهم، أو يثور السلاح كالبندقية، فتنهر الدم في أي موضع، فيحل أكله إذا وجده ميتا، أما إذا وجده حيا فإنه يجب أن يعامله معاملة المستأنس، إذن هي بدلية، وليست أصلية. الثانية: أن تكون بالحيوان، ثم إذا كانت بالحيوان؛ فإما أن تكون بالعاديات، كالكلب، والأسد، والنمر، ونحوها من الحيوانات العادية التي تعلم الصيد، وإما أن تكون بالطيور كالباز، والصقر، والنسر، والباشق، والشواهين مما يعلم من الطيور العادية. هذا بالنسبة لمجمل نظرة الذكاة، فإما أن تكون من جنس ما يذكى، وإما أن تكون من جنس ما لا يذكى. فمما لا يذكى، حيوان البحر، وما لا نفس له سائلة. أما الذي يذكى وهو البري، فإنه غير ما ذكر، فإن الذكاة فيه إما أن تكون أصلية، وإما أن تكون بدلية قائمة مقام الأصل. هذا كله يسمى من حيث الأصل: الذكاة الاختيارية، وهناك نوع من الذكاة يسمى: الذكاة الاضطرارية: وهي مثلما ذكرنا: أن يفر المستأنس، ويعجز الإنسان عن إمساكه، فيرميه في أي موضع، فيعامله معاملة الصيد، مع أنه في الأصل يذكى الذكاة الشرعية. وجوب الذكاة في الحيوان المقدور عليه قال رحمه الله: [لا يباح شيء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة] : (لا يباح، ولا يحل) : من الصيغ الصريحة في التحريم؛ وذلك لأن الله تعالى قال: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3] فدل على لزوم الذكاة، وهذا في جنس ما تجب ذكاته. قال رحمه الله: [إلا الجراد، والسمك، وكل ما لا يعيش إلا في الماء] : إلا الجراد: هذا ما لا نفس له سائلة؛ ولذلك كان الصحابة يضربونه بالرماح، ويقتلونه من غير ذكاة، ثم بعد ذلك يشوى، أو يقلى، ويؤكل. والسمك والحوت: هذا لا يذكى؛ لأنه من حيوان البحر، وحيوان البحر يؤكل بدون ذكاة إلا على مذهب المدلسين، فإنهم يكتبون على بعض الكراتين: مذبوح بالطريقة الإسلامية، وهو سمك، وهذا-نسأل الله السلامة والعافية- من خداع المسلمين، والحرص على ترويج البضاعة ولو بأي شيء، ولو بالكذب في أمر الدين-نسأل الله السلامة والعافية-. شروط الذكاة الشرط الأول: أهلية المذكي قال رحمه الله: [ويشترط للذكاة أربعة شروط: الأول: أهلية المذكي] : لا تصح الذكاة إلا إذا كان المذكي أهلا، ويكون أهلا [بأن يكون عاقلا، مسلما، أو كتابيا] : قوله: (بأن يكون عاقلا فالمجنون لا تصح ذكاته، وكذلك السكران أما المجنون: فلأنه لا يقصد الذكاة، وحكي الإجماع، لكن عند الحنفية أنه إذا كان المجنون يضبط، قالوا: تصح صلاته، أي: إذا جاء وذبح أو نحر، وضبط الذبح والنحر، تصح ذكاته، وهذا ضعيف؛ لأنه لا يوجد القصد، الذي ذكرناه في الإراقة على وجه التعبد. أما بالنسبة للسكران؛ فإن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء:43] ، فسيقول السكران: باسم الله، وهو لا يعلم ما يقول، وهذا يدل على أنه لا تصح ذكاة السكران؛ لأنه لا يعلم ما يقول، والمجنون في حكمه أيضا، من باب أولى وأحرى، وهكذا من تعاطى المخدرات وزال شعوره، فإنه لا تصح تذكيته. قوله: [مسلما، أو كتابيا] : سواء كان مسلما، أو كان كتابيا من اليهود والنصارى، يقول تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} [المائدة:5] ، والشرط: أن يكون ذبحه ونحره وقيامه بالتذكية على المعروف في دينه، فطعام الذين أوتوا الكتاب حل لنا، وقد خص الله عز وجل من بين الكفار أهل الكتاب؛ لأن غيرهم لا يتقيد بشريعة، وهم متقيدون بشريعة، وهذا الوصف يقتضي التخصيص. وهناك من يقول: لما قال: (وطعام الذين أوتوا الكتاب) : يعني ما يأكلونه من ذبائحهم، بأي طريقة ذبحوه، فكل شيء جاءنا من عندهم يؤكل، ولو كان بالآلات، يا سبحان الله! لو أن مسلما وضع آلة، وصرعت البهيمة ودوختها، أو جاء بالآلة، وجعلها هي التي تفري الأوداج، وهي التي تقطع الرءوس، فإننا نقول: حرام، ولا يجوز، وإذا جاء كتابي -يهودي، أو نصراني- نقول: إنه يجوز؛ لأن الله يقول: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) لا يمكن هذا، (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب) ما حل طعام الذين أوتوا الكتاب إلا لطيبه؛ وطيبه لأنه من شرع سماوي، ولذلك أكل النبي صلى الله عليه وسلم من شاة اليهودية. ومن أقوى الأدلة على ضعف القول بجواز أكل كل ما أكلوه: حديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إلا السن، والظفر، وأنا أنبئكم؛ أما السن فعظم-وتعرفون أن العظم زاد إخواننا من الجن، فإذا ذبح به فالدم المسفوح نجس- وأما الظفر فمدى الحبشة) والحبشة كانوا من أهل الكتاب، وكانت الكنائس موجودة عندهم، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، فكانوا يذكون بأظفارهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه التذكية، أحلال لأهل الكتاب حرام علينا؟! ويأتي المسلم يذكي به، إذن معناه: أنهم خرجوا عن دينهم، قال: (مدى الحبشة) ، ما قال: (مدى النصارى) ، ولذلك خص به: أهل الموضع. فالذي نجده الآن في الذبائح المستوردة، نجد شيئا خارجا عن السنن، لا ينضبط بضوابط الشريعة الإسلامية، ولا بضوابط أهل الكتاب، فالشركة تبحث عن كثرة الإنتاج، وتبحث عن كثرة ما تصدره من الذبائح، فتقتل بأي طريقة، وتزهق بأي طريقة، وبأي وسيلة، ثم بعد ذلك لا يسأل، ونقول: إن هذا حلال، لا، ينبغي التقيد بالوارد، وهذا الوارد هو الذي وردت النصوص باعتباره، قال تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات} [المائدة:5] . ومن طرق أهل الكتاب الموجودة الآن ما يأتي: أولا: لا نجد تقيدا من شركات الذبائح بذبيحة أهل الكتاب، بل تعمل هذه الشركات بالطرق التي يراد منها تكثير الإنتاج، بغض النظر عن كونه موافقا أو مخالفا، ولذلك لا يتقيد أحد من أهل الكتاب عدا اليهود في ذبائحهم، ومن هنا أكل النبي صلى الله عليه وسلم شاة اليهودية، وكان بعض مشايخنا مثل الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله عندما سافر إلى الغرب ما أكل إلا من ذبائح اليهود؛ لأنهم يتقيدون بشريعتهم، والذي يتقيد بشريعة أهل الكتاب تقيد بملة، ودين، وحينئذ يجوز أكل ذبيحتهم. لكن الذي يجري في اللحم المستورد أنه يتم قتله -بالنسبة لما يتاجر به- على مرحلتين: المرحلة الأولى: التمهيدية؛ وهي السيطرة على البهيمة. والمرحلة الثانية: مرحلة الإزهاق. والمحظور موجود في المرحلتين، فمرحلة السيطرة على البهيمة هذه أصلا ليست من شرع أهل الكتاب، إنما هي من بقايا اليونانية, فإنهم كانوا لا يقتلون إلا بضرب البهيمة بالعصا على رأسها حتى تدوخ، ثم بعد ذلك يذكونها، وهذا الضرب قد يقتل البهيمة قبل أن تزهق روحها، ويقولون: إن هذا أرحم بالبهيمة. والمصدر من الطعام: منه ما يكون من الدجاج، ومنه ما يكون من الغنم، ومنه ما يكون من البقر، فالنسبة للحيوانات الكبيرة، يعتنى بصرعها وتدويخها، ومسألة التدويخ تكون بطريقة الصعق الكهربائي بالمسدس في النخاع، أو الدائرة الكروانية، وهناك طريقة للدجاج خاصة؛ لأنه لا يحتاج إلى سيطرة عليه مثل البقر والغنم، وهي التي تسمى بالطريقة الإنجليزية، وهي مشهورة: يخزعون -وحتى في البهائم البقر والغنم يفعلون هذا- ما بين العظم الرابع والخامس في عظام الصدر بالمنفاخ، ثم يضخون الهواء، عندها تتخثر البهيمة، ويضعف النفس. وهذا التدويخ من سلبياته: معارضته للشريعة، فإن الشريعة قصدت الإزهاق وإنهار الدم، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه) . قالوا: إن البهيمة تستطاب بخروج الدم منها؛ لأنه بمجرد حدوث أي نزيف يسترسل الدم، وهذا أبلغ في طهارة المذبوح كما هو معروف طبيا، وأبلغ في طهارة اللحم، واستطابته، والعملية التي يفعلونها - وهذا إذا سلمت البهيمة- الدجاج أول شيء: يقلب، ثم يحضر بالماء ويعلق من رجليه، ولا يصل إلى المكان الذي فيه الآلات إلا وشيء منه يموت أثناء حمله، وشيء منه يموت أثناء تعليقه، ثم لا يبالى أهو حي أو ميت، ثم بعد ذلك يرش بالماء لتنظيفه بطريقة معروفة، وهذه الطريقة أبدى بعض الذين حضروا ورأوا أنه قد يحصل خنق للبهيمة بسبب الماء المبرد، ثم بعد ذلك يحضر بالتدويخ، كل هذه المراحل تأتي بعد مرحلة الزهوق. وبالنسبة للبقر والغنم فإنهم يدخلونه بين نوعين: الدوار، والمثبت، وهي معروفة في الغرب، وجميع هذه الأحوال للبقر، والغنم، والدجاج، والآلة هي التي تزهق، فهذا هو التحضير كله، وهناك التدويخ الذي يأتي على نفس البهيمة، وقد تموت بفعل الخزع بالنخاع، ومعروف أن خزع النخاع قد يقضي على البهيمة، ولذلك من العلماء من قال: إذا ذبح الذابح، وأدخل السكين، وقطع النخاع قبل قوة المور في فري الأوداج، والحلقوم والمريء، أصبحت شبهة؛ لاحتمال أن البهيمة ماتت بخزع النخاع ولم تمت بفري الأوداج والحلقوم والمريء، وهذا سيأتي في فصل الرأس، ومن هنا قال بعض العلماء بعدم حلها، وإذا قطع النخاع وصبرت قبل الزهوق تذبح من الخلف، كل هذا من أجل أن يكون الفوات للنفس عن طريق النزف وإنهار الدم، وهذا كله مصادم لما في الشرع فيترك. ثم تأتي المصيبة العظمى وهي: عمل الآلة، أي: أن الذي يقتل هو الآلة؛ فليس هناك آدمي؛ لا كتابي ولا غيره، بل الآلة هي التي تذكي، إلا إذا كانت الآلة من أهل الكتاب، لا أدري!! فما العجب من أن نسأل: هل ذكوا أو لم يذكوا، أهل لأن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أناسا يأتوننا بلحم، حديثو عهد بجاهلية، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا) فهذا الحديث خارج عن مسألتنا؛ فمسألتنا: خرجت فيها الذكاة عن الصورة الشرعية المعتبرة عند الكتابيين وعند المسلمين، أما حديث عائشة: (إن أناسا حديثو عهد بجاهلية) فمعناه: أنهم أسلموا، لكن لا ندري عندما ذبحوا؛ هل ذبحوا على طريقة الإسلام، أو على الطريقة التي ألفوها. والأصل: أنهم لما أسلموا يعاملون معاملة المسلمين لا معاملة أهل الجاهلية، ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم لها: (سم الله) يعني هذا لا يسأل عنه؛ لأن الأصل في المسلم إذا ذبح أن تؤكل ذبيحته، وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وذبح ذبيحتنا، فذلك المسلم) . فهؤلاء الأصل فيهم: أنهم إذا أسلموا أن يعملوا بوفق شريعة الإسلام، ولذلك ألغى النبي صلى الله عليه وسلم الشك، وهذا ليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بمسألتنا، فالذي معنا: إعمال الذكاة، وإنفاذ الذكاة على الأصل الذي لا يمت لا إلى الشريعة الإسلامية، ولا إلى ذبائح أهل الكتاب بصلة، فوجب العمل بالأصل الشرعي: أننا نقول: هذا ليس من طعام أهل الكتاب؛ لأنه لا يحل لهم في دينهم، وإنما هو خارج عن الأصل، فلا يحل أكله حتى يكون ذبحه من المحافظين؛ فإذا كان نصراني يذبح بذبيحة النصرانية فأقبل، ولو جئت نصرانيا، وذبح ذبيحته على طريقته أقبل وآكل، كما أكل النبي صلى الله عليه وسلم من شاة اليهودية، أما أن تذبح الآلات، وتسفك، وتنهر الدم الآلات، فهذا ليس بداخل تحت قوله:: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) والجمهور على أن العبرة في طعام أهل الكتاب: أن يكون وفق شريعتهم، وليس على كل ما فعلوه أنه يقبل منهم، خاصة وحديث مدى الحبشة يدل على أنهم إذا استطابوا شيئا أو أكلوا شيئا، لا يأخذ حكم الأصل من جواز أكله. وقوله: [ولو مراهقا] : ولو: إشارة إلى الخلاف المذهبي. (مراهقا) مثلا: صبي قبل البلوغ؛ في الثانية عشرة أو في الثالثة عشرة، ولم يحتلم، ولكنه يعقل، وسمى الله وذبح الذبيحة، قال: تحل ذبيحته. قوله: [أو امرأة] : وكذلك المرأة، كما ثبت في صحيح البخاري في قصة المرأة عندما عدا الذئب على شاتها، فقطعت حجرا ثم ذبحتها. قوله: [أو أقلف] : وهو غير المختتن، فلا تأثير له في الذكاة، وتصح ذكاته. قوله: [أو أعمى] : جمهور العلماء على صحة تذكية الأعمى إذا ضبط ذكاته، وقال الإمام النووي الشرط الثاني: الآلة الشرعية قال رحمه الله: [الثاني: الآلة] : الشرط الثاني: الآلة. [فتباح الذكاة بكل محدد] . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنهر الدم) ، وقال: (وليحد أحدكم شفرته) ، فدل على أن المحدد من جنس ما يذكى به، مثل: السكاكين، والزجاج، فلو أنه لم يجد سكينة فله أن يذبح بالزجاج، فالزجاج له مور ونفاذ، فإذا أمسك البهيمة وذبحها بالزجاجة، أو ذبحها بنحاس له مور ونفاذ كل ذلك مؤثر ما دام أنه ينهر الدم، ولذلك لما سأل أبو ثعلبة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيد بقوسه، قال: (ما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل) ، وفي بعض الروايات: (إن أصاب فخزق) وهذا يدل على اعتبار المور، والنفاذ وقد تقدم معنا في القتل العمد بيان مسألة المحدد. قوله: [ولو مغصوبا] : إشارة إلى خلاف مذهبي، قال بعض العلماء، وهو موجود في مذهب الحنابلة: أنه لو غصب سكينا وذكى بها، لم تصح التذكية، والصحيح مذهب الجمهور: أنه لو أخذ سكينا فذكى بها، صحت التذكية. قوله: [من حديد، وحجر، وقصب وغيره] : (من) : بيانية، من حديد: مثلما ذكرنا: محددة، كالسكاكين. [وحجر] : لحديث المرأة؛ لأنها كسرت حجرا. [وقصب وغيره] : القصب معروف، فإذا كان له مور ونفاذ، فإنه يذبح به وينحر. [إلا السن، والظفر] : لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثناهما كما في الحديث الصحيح: (أما السن فعظم) والعظم زاد إخواننا من الجن، فلو أخذ نابا ونحو ذلك من بهيمة، وأراد أن يطعن به خزقا كما ذكر بعض العلماء وكان بعض العرب في القديم يأخذ البهيمة بسنه، كما لو صاد عصفورا. فهذا من المخصصات لحديث: (ما أنهر الدم) لأن السن ينهر الدم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبره ذكاة. (والظفر) كذلك: وهو معروف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمدى الحبشة) . الشرط الثالث: قطع الحلقوم والمريء قال رحمه الله: [الثالث: قطع الحلقوم والمريء] : الشرط الثالث: قطع الحلقوم والمريء. الحلقوم: مجرى النفس، والمريء: مجرى الطعام. وهناك أربعة أشياء ينتبه لها: الحلقوم: مجرى النفس. المريء: مجرى الطعام. ثم الجانب الأيمن والأيسر من رقبة البهيمة فيها الودجان -العرقان- وبقطعهما يكون زهوق الروح. وقد أجمع العلماء على أنه إذا قطع الحلقوم، والمريء، والودجين، أنها تحل البهيمة، وهناك من العلماء من اشترط ثلاثة من أربعة: الحلقوم، والمريء، وأحد الودجين، ومنهم من اشترط ثلاثة من أربعة دون تعيين، أن يأخذ ثلاثة من هذه الأربعة دون أن يحدد، ومنهم من اشترط الحلقوم والمريء، كما درج عليه المصنف، وبهما يتحقق الزهوق والإنهار للدم، فهذا هو القدر الذي اقتصر عليه. [فإن أبان الرأس بالذبح لم يحرم المذبوح] الذبح يكون تحت الجوزة، أو الغلصمة كما تسمى، فإذا كان من تحتها أو عليها نفسها وفصلها، فلا إشكال، لكن لو أنه ارتفع -من فوقها- فقطع من هذا الموضع؛ فالجمهور على صحة ذلك، والمالكية عندهم قول بالمنع، والصحيح مذهب الجمهور لعموم الخبر. قال رحمه الله: [وذكاة ما عجز عنه من الصيد، والنعم المتوحشة، والواقعة في بئر ونحوها: بجرحه في أي موضع كان من بدنه] بعد أن بين رحمه الله ذكاة المقدور عليه، شرع في حكم ذكاة الصيد، وذكاة المعجوز عنه، فقال رحمه الله: [وذكاة ما عجز عنه من الصيد] : هذا النوع الأول. [والنعم المتوحشة] : سيأتي في الصيد بيان أحكامه. [وما يشرد] فمثلا: لو أن شاة شردت، وهو في بر، وغلب على ظنه أنه لا يستطيع أن يمسكها، وأنها ستنفق في مقطعة، أو نحو ذلك، فإنه يأخذ السلاح ويرميها في أي موضع. رأى الشاة فرت منه إلى الشارع، وهو جازم بأنها ستضربها السيارة وتموت، وإذا ضربتها السيارة فإنها حينئذ تموت بالصدم، وهذا أشبه بالارتطام وبالتردية، وحينئذ أراد أن يدرك ذكاتها، فقتلها قبل أن تصدمها السيارة. أو جاءت على بئر، أو على هاوية، أو على شفير جبل، وهو يعلم أنها ستموت، فحينئذ لو ثور السلاح وقتلها، حلت، وتكون ذكاتها. والدليل على ذلك: حديث أبي رافع رضي الله عنه وأرضاه: أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير وشرد، فأهوى رجل بسهمه فعقره وقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا) فدل على أن المستأنس إذا توحش يعامل معاملة الصيد، وهذا ما عناه المصنف رحمه الله، ولم يخالف في هذه المسألة إلا الإمام مالك، فالجمهور على أنه يقتل في أي موضع، ويرمى في أي موضع، وأنه يحل بهذه التذكية، واستدلوا بحديث أبي رافع، ولذلك كان الإمام أحمد يقول: لعل مالكا لم يبلغه حديث أبي رافع، ما قال: أخطأ مالك، أو: هذه من أوهام مالك ومن شذوذه، لا. بل قال: لعل مالكا هكذا وإلا فلا، هكذا يطيب العالم، ويطيب قوله، ويطيب بما يكون منه من حسن المعذرة لأهل العلم رحمة الله عليهم، وقد ضرب أئمة الإسلام المثل السامي في حسن الأدب رحمهم الله وفي رعاية الحرمة، وفي حفظ الحق لذي الحق، مع أن الإمام مالكا يقول: إذا وجدتم قولي يخالف قول الرسول فاضربوا بقولي عرض الحائط، والظن به: أنه لو بلغته السنة لعمل بها، فيقول: لعل مالكا لم يبلغه حديث أبي رافع. [والواقعة في بئر، ونحوها] : لو وقعت شاة في بئر، فإنها ستموت بأحد أمرين: إما أن ترتطم بأرض البئر إذا لم يكن فيه ماء، وحينئذ تكون متردية، وإما أن تموت بخنق الماء إذا كان هناك ماء في البئر، فحينئذ يعاجلها بضربها في أي موضع، ويزهق روحها قبل وصولها إلى الماء. يقول رحمه الله: [بجرحه في أي موضع كان من بدنه، إلا أن يكون رأسه في الماء ونحوه، فلا يباح] . قوله: [إلا -استثناء- أن يكون رأسه في الماء] : هذه مسألة اجتماع الحاضر والمبيح، فإنه إذا رمى الشاة، أو الطير، أو البط، أو الإوز وهو على النهر، وانغمس، وشك: هل مات بالخنق، أو مات بالذكاة؟ فخذها قاعدة: الأصل في الصيد-يعني في الشيء الذي لا تمسكه، ولا تذكيه الذكاة الشرعية- أنه ميتة حتى تحله الذكاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عدي: (فإن أكل-يعني الكلب من الصيد- فلا تأكل، فإني أخاف -لم يجزم- أن يكون إنما أمسك لنفسه) لم يجزم بالتحريم، والأصل: حل الأشياء، لكنه غلب التحريم، ومن هنا استنتج العلماء قاعدة: الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل. فالصيد بضرب البهيمة في أي موضع رخصة، وتوسعة من الله، لكن لما شككنا أنها أزهقت النفس، أو أزهقها الماء بالخنق، قدمنا الحاضر على المبيح، ومنع من أكل الطير، وإذا رأى الشاة ساقطة من علو ورماها، وغلب على ظنه أن المرمى يزهق نفسها قبل الوصول إلى الأرض، أو تكون مستنفذة الروح، حل، لكن لو رماها -مثلا- في رجلها، وارتطمت، وقوي وغلب على الظن أن موتها كان بقوة الارتطام، فحينئذ لا تحل له، وهذا معنى قوله: إلا أن يرى رأسه في الماء، وهذا فيه أثر عنه عليه الصلاة والسلام. الشرط الرابع: التسمية قال رحمه الله: [الرابع: أن يقول عند الذبح: باسم الله] : وهذا لقوله تعالى: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} [الأنعام:118] ، ولقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} [الأنعام:121] ، وهذا يدل على لزوم التسمية، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل) وهذا شرط يدل على أنه إذا أرسله ولم يذكر اسم الله عليه لم يحل أكله، وأجمع العلماء على أن الأصل بالتذكية: أن تكون بذكر اسم الله عز وجل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (باسم الله) عند تذكيته صلوات الله وسلامه عليه كما في حديث أنس وغيره رضي الله عن الجميع. [ولا يجزيه غيرها] : لا يجزيه غير باسم الله، فلو ذكر غير اسم الله-والعياذ بالله- ولو كان نبيا، أو ملكا، فإنها تعتبر ميتة لا يحل أكلها، فلو قال: باسم النبي، أو باسم الولي فلان، أو الشيخ فلان؛ لأن الذبح لغير الله شرك (كفر) والعياذ بالله، فالذبح لا يكون إلا لله، قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} [الأنعام:162] ، وقال تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر:2] ، وهذا يدل على أنه لا يجوز ذكر غير اسم الله عز وجل مع اسم الله عز وجل عند الذبح. [فإن تركها سهوا أبيحت، لا عمدا] : هذه مسألة خلافية، فمن العلماء من يرى أنه تحل الذبيحة إذا تركت البسملة نسيانا، ومنهم من يبقى على الأصل: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام:121] وهذا أقوى، أن العبرة بذكر اسم الله، وأنه تحل الذبيحة به، وأنه لازم في الذكر والنسيان. مكروهات الذبح قال رحمه الله: [ويكره أن يذبح بآلة كالة] : شرع رحمه الله في بيان مكروهات الذبح، فيكره للمسلم أن يذبح بآلة كالة كالسكين غير المحددة، قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (هلم المدية) فجاءت بها، فقال: (اشحذيها بحجر) ، فدل على أن السنة: أن تشحذ، قال صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) ، هذه هي السنة، قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) ، فإذا ذبح بآلة كالة غير مسننة وغير محددة عذب الحيوان، ولذلك أثر في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمتها مرتين) وفيه ضعف، لكن معناه صحيح، وأثر عن بعض الصحابة: (لا تمتها مرتين) . [وأن يحدها والحيوان يبصره] : وهذا فيه أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه؛ فإنه ليس من الإحسان، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان عند الذبح، فيكره أن يأتي بالبهيمة ويحد السكين أمامها؛ لأن هذا مما يؤذيها. فهذه هي الحقوق الواقعة في موقعها والواقعة في موضعها، أما أن ترى الذين لا يعقلون ولا يفقهون يريدون أن يعلموا المسلمين الحقوق! ألا شاهت الوجوه!! هذه حقوق الشريعة من قبل ألف وأربعمائة سنة، وهي تقر المبادئ السامية العادلة، أما هؤلاء فلم يعرفوا حقوق الحيوانات إلا الآن، لكنا عرفناها وعرفها أبناء المسلمين، وأطفال المسلمين وهم يمصون أصابعهم كيف يعاملون حتى الحيوان، وعلموا الحرمة حتى في الشجر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم في مكة شجرها، وكان المسلم يعي ما الذي له وعليه، حتى الجماد، فهذه أمة سامية، ولذلك ينبغي للمسلم أن يعتز بدينه، وأن يعلم أنه ليس بحاجة لأن يعلمه أحد، وأن ما علمه الله عز وجل يكفيه عن غيره: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] : إنه فضل الله عز وجل عليه، وعلى أمته صلوات الله وسلامه عليه وعلى خلقه أجمعين، فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. [وأن يوجهه إلى غير القبلة] لأن النبي صلى الله عليه وسلم وجه إلى القبلة، وهذه هي السنة، وقد قال في الحديث الحسن: (قبلتكم أحياء وأمواتا) . قال رحمه الله: [وأن يكسر عنقه، أو يسلخه قبل أن يبرد] . لأن في هذا إيلاما لها؛ لأنه إذا كانت ترفس فلا زالت فيها حياة، نعم، هي كالعدم، لكن من باب الرفق أنه ينتظر حتى تبرد، ومن الأخطاء: أن ترى بعض من يذبح يدخل السكين، أو يحاول أن يكسر الرقبة قبل أن تبرد. فتقول له: لا، افر الأوداج واقطع الحلقوم والمريء، واترك البهيمة حتى تبرد، هذا هو الرفق، وهذا هو الإحسان، وهذا الخطأ يقع من بعض الجزارين؛ لأنه يريد أن يذبح أكبر عدد فيفعل مثل هذا.
__________________
|
|
#6
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الحدود) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (540) صـــــ(1) إلى صــ(6) شرح زاد المستقنع - باب الصيد سخر الله سبحانه وتعالى الأرض لبني آدم؛ فمنها طعامهم وشرابهم ولباسهم ومساكنهم، ومن جملة ما سخر الله سبحانه في هذه الأرض أن سخر الحيوان لبني آدم، فبه يصطادون ومنه يأكلون، ولحل هذا الصيد والأكل جاءت الشريعة الإسلامية بعدة شروط وأحكام، تطالعها -أخي القارئ الكريم- في هذه المادة. الصيد شروط حله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الصيد. لا يحل الصيد المقتول في الاصطياد إلا بأربعة شروط:] باب الصيد مفرع على باب الذكاة، والصيد -كما ذكرنا في الحيوان المتوحش- وأحكامه بينتها أدلة الكتاب والسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عدي بن حاتم الطائي، وكان عدي رضي الله عنه يربي العاديات، حتى قالوا: إنه لما مات عكفت على قبره السباع من حبها له رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه كان مولع بالصيد بالسباع العادية، وكذلك أيضا: حديث أبي ثعلبة الخشني في الصيد بالمعراض والصيد بالقوس. والصيد يكون واجبا إذا كان لإنقاذ نفس، ويكون مكروها إذا فوت الإنسان به الأفضل والأكمل؛ لأن الصيد يشغل الإنسان ويلهيه، ويكون مندوبا إذا كان الإنسان يستغني به، أو يريد أن يطعم به ضيفا أو نحو ذلك، ويكون مباحا في غير ذلك. ويكون محرما إذا كان لإزهاق الأرواح، كمن يقتل البهيمة دون أن يأكلها، ويترك الطير بعد قتله، ولا يأكله، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عنه (أن يتخذ الحيوان غرضا) يعني: هدفا، فالصيد على هذا النوع محرم لا يجوز. الشرط الأول: أهلية الصائد قال رحمه الله: [أحدها: أن يكون الصائد من أهل الذكاة] . وقد تقدم هذا في شروط أهلية المذكي. الشرط الثاني: الآلة الشرعية قال رحمه الله: [الثاني: الآلة، وهي نوعان] : الصيد إما أن يكون بالسهم، وبالرمح كما في القديم، أو بالبنادق وبالرشاش كما في عصرنا الحاضر. وإما أن يكون بالحيوان. يعني: الصيد إما أن يكون بآلة، وإما أن يكون بحيوان. قال رحمه الله: [محدد يشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح وأن يجرح] . يشترط في هذه الآلة أن تكون جارحة، فيجوز أن يصيد بالبنادق الموجودة الآن؛ لأن البندق يخزق البهيمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أصاب فخزق فكل) . فإذا خزق البهيمة فقد أنهر الدم، فيذكر اسم الله عند ثوران السلاح، ويأكل ما صاد له، ما دام أنه أنهر الدم. لكن لو كان لا ينهر الدم مثل النبال الموجودة الآن، بأن يضع الحصى ويرمي الطائر، فهذا إذا وجد الطائر ميتا فهو موقوذ لا يحل، فقد حرم الله الموقوذة، وإذا كانت الآلة التي يستخدمها أو السلاح الذي يقتل به البهيمة له مور ويشق ويخزق ونحو ذلك حل أكل البهيمة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) ومفهومه: أن الذي لا ينهر الدم لا يأكل منه، كما لو كانت عنده خشبة يضرب بها الطير فتموت الحمامة أو يموت العصفور، نقول: هذا لا يجوز؛ لأنها ميتة بالارتطام، وليس فيها خزق، لكنه لو رمى سهما أو نحو ذلك فخزق الروح ونفذ إلى البدن فإنه يحل أكله. [فإن قتله بثقله لم يبح] . كما ذكرنا، ومنه صيد المعراض، فقد كانوا في القديم يضعون المعراض ويضعون الحجر المقلاع ويرمون به، فيجدون البهيمة ميتة، فإذا وقعت الحجرة على رأس البهيمة أو في مقتل منها فماتت، لم يحل أكلها. [وما ليس بمحدد كالبندق والعصا والشبكة والفخ لا يحل ما قتل به] . لأنه ليس بمحدد، البندق قالوا: كان الطين يجفف ويرمون به، فيدوخ البهيمة وقد يقتلها ويقضي عليها، فله قوة قريبة من قوة الحجر، فهو يأخذ حكم الوقيذ. والشبكة فيها خنق، فقد كانوا يضعون فيها أكلا، وبعض الأحيان يضعونها في مجرى الصيد، ثم يثيرون الصيد من ناحية ويأتون إلى الشبكة -وهي غير الشبكة الموجودة الآن التي تمسك البهيمة حية- وكلما تقدم الحيوان جذب حتى ينخنق ويبرد، وهذا نوع من الخنق، ولذلك لا يحل أكله، لأن الإزهاق به ليس بإنهار الدم، وقد اشترط النبي صلى الله عليه وسلم لحل الذكاة إنهار الدم. [والنوع الثاني: الجارحة، فيباح ما قتلته إذا كانت معلمة] . الجوارح نوعان: طيور، وسباع عادية، فالسباع العادية الصحيح أنه يجوز الصيد بأي منها، فلو علمت أسدا فصد ما شئت، وهذا له طريقة، وقد بين كتاب: حياة الحيوان، ونهاية الأرب، وصبح الأعشى للقلقشندي أنواع الحيوانات التي يصاد بها، وطريقة تعليم الصيد لهذه الحيوانات، والأصل في الشريعة أن هذا السبع وهذا الطائر يعلم بطريقة مخصوصة، ويشترط فيه أن يدعوه فيجيب، وأن يشليه فينشلي، وألا ينطلق إلا بأمره. فمثلا: السباع العادية نوعان مما يعلم: مما له كلب: إما أن يكون من السباع العادية كالأسد والنمر والفهد والكلب، فهذه كلها تعلم الصيد، فإذا علم الصيد جاز أكل صيده وميتته، وكذلك أيضا الطيور الجارحة مثل الباز والنسر والباشق والشواهين والعقاب ونحو ذلك إذا علم جاز أكل صيده. أما كيفية تعليمه: فأولا: يعلمه استجابة الدعاء، كأن يكون بينه وبينه صوت معين، فإذا ناداه بهذا الصوت عرفه فأتاه. ويكرر هذا ثلاث مرات، أي: يدعوه ثلاث مرات فيستجيب، ويكون هذا الصوت متعارفا عليه، فلو علمه مرتين، ودعاه فاستجاب مرتين، فرأى الفريسة في الثالثة وانطلق بأمره وجاءه بها لم يحل أكلها، لأنه لا يصبح معلمه إلا بعد الثالثة. الشرط الثاني: أن يشليه فينشلي، والإشلاء: التحريش أتينا أبا عمرو فأشلى علينا كلابه فكدنا بين بيتيه نؤكل هذا رجل بخيل، وجاءوا يريدون أن يطعمهم، فوجدوا طعاما لكن من نوع خاص، فالإشلاء هو التحريش، أن يحرش الكلب أو الأسد الذي يعلمه أو النمر ثلاث مرات، فبعض الأحيان يكون عنده لحم ويرميه له، فيدعوه أن يذهب ويأتي باللحم، أو يرمي له دجاجة فتفر، فيحرشه بها. ويكون ساكنا ينتظر أمره، فإذا استجاب ثلاث مرات ورأى صيدا في الرابعة فحرشه عليه فجاء بالصيد ميتا حل أكله. إذا: هذه الأمور لابد أن تكرر ثلاث مرات: دعوى مع الإجابة، والإشلاء؛ فينشلي بأمر سيده، ويكون انبعاثه بأمر السيد لا بنفسه. قال تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} [المائدة:4] ، وهذا يدل على مشروعية تعليم الجوارح، ويشمل جارحة الطير، قال أبو ثعلبة: (يا رسول الله! إني أصيد بهذه البزاة -الباز من أفضل أنواع الطيور التي يصاد بها- وأصيد بكلبي المعلم، وأصيد بكلبي غير المعلم، فما يحل لي؟ -فبين له الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل له إلا أكل ما صاد المعلم- إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل) فدل على اشتراط التعليم، كما هو ظاهر القرآن. الشرط الثالث: إرسال الآلة قاصدا قال رحمه الله: [الثالث: إرسال الآلة قاصدا] . يعني: لو أن البندقية ثارت من نفسها، فضربت فريسة، فهذا لا يؤثر ولا يعتد به، وإنما تكون ميتة. ثم الخلاف: هل يشترط أن يعين الصيد أم لا يشترط؟ وفائدة الخلاف: لو أنه أرسلها على حمامة معينة، ثم طارت وجاءت حمامة أخرى، فإن قلنا: يشترط التعيين، فإنها تكون ميتة، وإن قلنا: لا يشترط التعيين حلت، والأقوى أنه لا يشترط التعيين، ويتخرج عليه أنه لو ذبح الشاتين بشاة واحدة، فإنه يصح، وهكذا يتفرع عليها مسألة الرصاص المنتشر؛ لأنه إذا أرسله على الصفة الشرعية بذكر اسم الله عز وجل صار مذكيا، يستوي أن يصيب ما عينه صيدا أو ما لم يعينه، ثم إنه من الصعوبة بمكان لو قلنا بالتعيين وجاء بقطيع من تيس الجبل، فصعب جدا أن يحدد واحدا، لا يمكن هذا، فأنت عندما ترى القطيع يفر ترمي مباشرة، وقد تصيب هذه أو هذه، فهل تظل تبحث عن واحدة معينة؟!! هذه مشكلة وحرج عظيم، لذلك لا يشترط التعيين، وهو الصحيح. والسلاح الموجود الآن والذي ينتشر منه عدة طلقات إذا أصابت طلقة واحدة الفريسة فإنه يحل أكلها على الصحيح، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله. [فإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه لم يبح إلا أن يزجره فيزيد في عدوه بطلبه، فيحل] . إذا استرسل الكلب وأنت جالس، سواء رأيت الصيد أو لم تر، فما شعرت إلا والكلب -أكرمكم الله- قد هاج على الصيد، فهذا له صورتان: الصورة الأولى: أن يشليه -يحرشه-، أي: فبعد أن رأيته مسرعا زدت في تحريشه، فهذه فيها خلاف بين العلماء. والصورة الثانية: أن تسكت. فأما إذا سكت فإنه قد أمسك لنفسه فلا يحل الصيد؛ لأن الله يقول: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4] أي: لكم، وإذا انبعث من نفسه فهو يريد الصيد لنفسه وليس لسيده، ولذلك قال: (إذا أرسلت كلبك) ومفهوم الصفة في قوله صلى الله عليه وسلم: (أرسلت) أنه لا يحل إذا لم يرسله، فالذي يترجح مذهب من قال: أنه يستوي إذا حرشه بعد انبعاثه أو لم يحرشه، فما دام أن الكلب بنفسه انبعث فإنه لا يحل أكل صيده، وهكذا لو أن الباز بنفسه انطلق دون أن يكون هو الذي أطلقه، ودون أن يكون هو الذي أرسله لم يحل الصيد. الشرط الرابع: التسمية قال رحمه الله: [الرابع: التسمية عند إرسال السهم أو الجارحة] . لأنها شرط، قال تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} [المائدة:4] فدل على اشتراط التسمية، ولا بد من ذكر اسم الله عند إرساله، وهكذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه) ، وقال: (وما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه) ، فأكدت السنة ما دل عليه القرآن من اشتراط التسمية. [فإن تركها عمدا أو سهوا لم يبح] . تقدم معنا في باب الذكاة أنهم قالوا: لو نسي البسملة في الذبح والنحر صح، أي: جاز أن يأكل، وهنا -في الصيد- قالوا: لم يجز، وهذا يؤكد أن باب الصيد أضيق من باب التذكية؛ لأنه خرج عن الأصل. قال رحمه الله: [ويسن أن يقول معها: الله أكبر كالذكاة] . لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
__________________
|
|
#7
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الأيمان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (541) صـــــ(1) إلى صــ(13) شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الأيمان [1] إن مسألة عن الأيمان من المسائل المهمة في الشريعة، لما يتعلق بها من أحكام عقدية وفقهية، فمن الأحكام العقدية: أن يكون الحلف بالله وأسمائه وصفاته؛ لأن الحلف بغير الله كفر وشرك كما ثبت ذلك في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. بيان الأحكام المتعلقة بالأيمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: ما تنعقد به اليمين فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الأيمان] . قال رحمه الله: [واليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث هي اليمين بالله] لا تكون اليمين شرعية إلا بما ذكر المصنف رحمه الله: أن تكون باسم من أسماء الله أو بصفة من صفاته، على التفصيل الذي سنذكره، فالمصنف رحمه الله بين أن اليمين التي تنعقد وتعتبر يمينا شرعيا هي التي تكون باسم الله عز وجل، أو بصفة من صفاته. والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) وسمع النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- عمر وهو يحلف بأبيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) قيل: أو للتنويع، وقيل: للعطف، بمعنى: قد كفر وأشرك، كفر نعمة الله، وأشرك مع الله غيره. قوله: (تجب بها الكفارة) وهي اليمين الشرعية التي تسمى: اليمين المنعقدة؛ لأن هناك يمينا منعقدة ويمينا غير منعقدة، فاليمين المنعقدة لابد من توافر الشروط الشرعية فيها. قوله: (هي اليمين بالله) أن يقول: والله، وبالله، وأقسم بالله. أما لو قال: أقسمت. ولم يقل: بالله. فهل تكون يمينا؟ قالوا: إنها حلف ويمين. ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أنه لما أول الرؤيا (قال: يا رسول الله! أخبرني هل أصبت أو أخطأت؟ قال: أصبت وأخطأت. قال: أقسم أن تبين لي ما أصبت به وما أخطأت، قال: لا تقسم) فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقسم) يدل على أنها قسم. وقال تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} [الأنعام:109] قالوا: إنه إذا قال: أقسمت. فهو متضمن معنى قوله: أقسمت بالله. وهذا مثل حذف المعلوم، ولذلك قالوا: إنها تكون يمينا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تقسم) وهذا رد له لقسمه. [أو صفة من صفاته] كأن يقول: والأول، والآخر، والظاهر، والباطن، والسميع، والعليم، وعزة الله، وقدرة الله وعظمة الله، والدليل على ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عن النار (تقول النار: قط قط وعزتك) . وكذلك أيضا في حديث أيوب عليه السلام، قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: (اغتسل أيوب فأنزل الله عليه جرادا من ذهب، فجعل يجمع منه في ثوبه، فقال الله تعالى: أولم أكن أغنيتك؟ فقال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك) فهو أقسم بعزة الله، فدل على أنه يمين شرعي، فيكون بالله وبأسمائه وصفاته. حكم الحلف بالقرآن أو بالمصحف قال رحمه الله: [أو بالقرآن أو بالمصحف] : قوله: (بالقرآن) هو أن يقصد كلام الله عز وجل؛ لأن كلام الله صفة من صفاته ليس بمخلوق، منه بدا وإليه يعود، ولذلك استدل الأئمة رحمهم الله على قول السلف: منه بدا وإليه يعود، بقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أن القرآن يرفع في آخر الزمان) ، وابتداؤه من الله عز وجل؛ لأنه هو المتكلم به، وهو صفة من صفات الله عز وجل. ومذهب أهل السنة والجماعة: أن القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق، فإذا حلف به فقد حلف بصفة من صفات الله. قال تعالى: {إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك} [الأعراف:144] فهذا يدل على أن كلام الله من صفاته، فيجوز أن يحلف به، كأن يقول: والقرآن، ويكون مراده كلام الله عز وجل، ويجوز أن يحلف بالسور وبالآيات؛ لأنها من كلام الله عز وجل، فلو قال: وسورة البقرة. ومراده كلام الله عز وجل في سورة البقرة، كما قال: والقرآن ومراده ما في القرآن، وهكذا لو أقسم بآية، فكل هذا صحيح. قوله: (أو بالمصحف) كذلك إذا حلف بالمصحف على أنه كلام الله عز وجل، ولا أعلم أحدا ضيق في مسألة الحلف بالقرآن والمصحف إلا الحنفية؛ لأصل عندهم رحمهم الله، وهو: أن اليمين لا تنعقد إلا بالشرط الأول، وشرط جريان العرف، قالوا: أن يجري العرف بكونه قسما، ومن ثم قالوا: إن الحلف بالقرآن لم يجر به العرف وهذا مذهب المتقدمين من الحنفية، وليس مرادهم الطعن في كون القرآن صفة من صفات الله؛ لأن أهل السنة والجماعة متفقون على أنه كلام الله وصفة من صفاته سبحانه، إنما مرادهم في مسألة اليمين هل يشترط فيها جريان العرف أو لا؟! والصحيح أن هذا يمين ويعتبر قسما وتجب به الكفارة. حكم الحلف بغير الله قال رحمه الله: [والحلف بغير الله محرم ولا تجب به كفارة] . الحلف بغير الله عز وجل سواء كان هذا المحلوف به ملكا مقربا أو نبيا مرسلا لا يجوز، حتى الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجوز الإمام أحمد -وهو مذهب الحنابلة كما ذكره صاحب: الإنصاف- الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم لله عز وجل، فلو قال: والنبي والرسول فإنه لا حرج عليه في ذلك، وتعتبر يمينه فيها الكفارة، ونص صاحب الإنصاف على أنها يمين منعقدة، ولكن هذا القول مرجوح. والصحيح أنه لا يجوز الحلف إلا بالله عز وجل، أو باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته؛ لأن الدليل نص على هذا، (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) ، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فهذا يدل دلالة صريحة على أنه لا تنعقد اليمين إلا اليمين الشرعية، التي تكون باسم من أسمائه أو صفة من صفاته سبحانه وتعالى. شروط وجوب كفارة اليمين قال رحمه الله: [ويشترط لوجوب الكفارة ثلاثة شروط:]الشرط الأول: أن يكون الحالف مختارا لا مكرها قال رحمه الله: [الأول: أن تكون اليمين منعقدة، وهي التي قصد عقدها على مستقبل ممكن] خرج من هذا اليمين على الماضي، مثل قوله: والله وقع كذا، حصل كذا، فإذا كان كاذبا فإنها -والعياذ بالله! - اليمين الغموس، التي تغمس صاحبها في النار، وإن كان صادقا فقد صدق وحلف على ما ذكر، ولكن إذا كان كاذبا فلا تجب عليه الكفارة، وهذا مراد المصنف: أن الكفارة لا تكون إلا إذا كانت اليمين على أمر مستقبل، ويكون هذا الأمر مما يمكن. قال: [فإن حلف على أمر ماض كاذبا عالما فهي الغموس] . بمعنى: أنه لا تجب عليه الكفارة؛ لأنه قيد التي فيها الكفارة بما ذكرنا. لغو اليمين أنواعه وحكمه قال رحمه الله: [ولغو اليمين الذي يجري على لسانه بغير قصد، كقوله: لا والله، وبلى والله] وهذا قول طائفة من أئمة السلف، منهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو أن قول الرجل: لا والله وبلى والله، تجيء والله تجلس والله ولا يقصد به اليمين، ليس بيمين، هذا إذا لم يقصده، أما إذا قصده وحلف قاصدا لليمين انعقدت يمينه. هذا بالنسبة للنوع الأول من لغو اليمين. النوع الثاني: أن يحلف على شيء يظنه، ويرى عليه أمارات ثم يتبين أنه أخطأ، كأن يرى رجلا من بعيد يظنه فلانا ثم تبين أنه ليس بفلان، فقال وهو يراه من بعيد: والله فلان، قالوا: ليس بفلان. قال: والله فلان. وهو على غالب ظنه ثم تبين خطؤه، فإنه حلف على غالب الظن فلا تجب عليه كفارة، ولا تعتبر يمينا منعقدة، ويعذر في هذا. هذا بالنسبة لمسألة لغو اليمين. قال بعض العلماء: إن لغو اليمين تكون في المحرمات، وهذا ضعيف عند أئمة التفسير، وقد استدلوا بقوله تعالى {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} [القصص:55] بناء على أن اللغو في الأمر المحرم، وكل من حلف على أمر محرم فإنه لغو، والصحيح أن لغو اليمين ما ذكرناه وهو: أن يحلف الرجل على الشيء يظنه، أو جريان الكلام بدون قصد، كما يقع مع الضيف، وما يقع في السباق، يقول لصاحبه: تتقدم ويقول الآخر: والله تتقدم أنت، والله تتأخر، وهذه يجري على لسان الناس دون إرادة عقد اليمين. [وكذا يمين عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافه] وهذا مأثور عن بعض السلف، وعن ابن عباس رضي الله عنهما. [فلا كفارة في الجميع] لأنها من اللغو. الشرط الثاني: انعقاد يمين من حلف مختارا لا مكرها [الثاني: أن يحلف مختارا، فإن حلف مكرها لم ينعقد يمينه] أن يحلف مختارا غير مكره، وقد تقدمت معنا شروط الإكراه، فلو هدده شخص وقال له: تحلف بالله على شيء. فإنه لا تنعقد يمينه، ولا تجب عليه الكفارة إذا حنث فيها؛ لأنه مكره على قوله. والإكراه نوعان: - إكراه بحق. - وإكراه بدون حق. فإذا كان الإكراه بدون حق فحينئذ لا يعتبر يمينا، لكن إذا كان الإكراه بحق، فإنه يكون يمينا معتبرا شرعا ويجب عليه أن يصدق، كأن يأبى أن يحلف وطلب منه أبوه أن يحلف وأكرهه على الحلف في القضاء، وقال له: إن هذا شيء فيه إحقاق حق وإبطال باطل، فهذه يمين شرعية مع أنه مكره ولا يريدها. وكان أئمة السلف لا يحلفون حتى يمين القضاء، فهذا ابن عمر رضي الله عنهما لما اختصم مع الرجل في عبد من عبيده قال: بعته لي بكذا بعيب. قال: ما علمته. قال: بلى قد كنت تعلمه. قال له القاضي: احلف قال: ما علمته. قال له: احلف. قال: لا أحلف. قال: إذا ترد على الرجل ماله، قال: أرد له ماله. فرد له المال تورعا، فباع العبد بأضعاف القيمة التي كان قد باعه بها، وذلك أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، ومن يتق الله لا يرى إلا خيرا. حكم الحنث في اليمين من حيث الفعل والترك والإكراه والنسيان [الثالث: الحنث في يمينه، بأن يفعل ما حلف على تركه أو يترك ما حلف على فعله مختارا ذاكرا] قوله: (الحنث في يمينه) هذا الشرط الثالث، فإذا حلف أن يفعل شيئا فالحنث أن لا يفعله، وإذا حلف أن لا يفعل شيئا فالحنث أن يفعل، فإذا قال: والله لا أدخل الدار حنث بالدخول، وإذا قال: والله سأدخل الدار ولم يدخل حنث بعدم الدخول، فإذا حنث لزمته الكفارة. قال صلى الله عليه وسلم: (إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) بمعنى: أنه يفعل عكس ما حلف عليه، والعكس كما ذكرنا: أن ينفي ما أثبته، ويثبت ما نفاه. [فإذا حنث مكرها أو ناسيا فلا كفارة] قوله: (مكرها) لأن الله أسقط بالإكراه المؤاخذة، قال: والله لا أدخل الدار. فأخذوه وربطوه وحملوه وأدخلوه الدار، فهذا إكراه ملجئ تام، فلا تجب عليه كفارة؛ لأنه أسند الدخول إلى نفسه وطوعه وإرادته، ومن دخل بحمل الناس له فقد دخل بغير اختياره وبغير إرادته، فحينئذ لا يكون حانثا. قوله: (أو ناسيا) اختلف العلماء رحمهم الله في الناسي، هل هو مكلف أو غير مكلف؟ وتفرع عليه هذه المسألة، فإن قلنا: إنه غير مكلف لا يجب عليه، والأقوى أنه يجب عليه الضمان في الإخلال، وهي مسألة الأصول التي كررناها أكثر من مرة، وفي الأيمان تستثنى من هذا الأصل؛ لأن المراد به الانتهاك للحرمة، ومن كان ناسيا ليس فيه معنى الانتهاك، فهذا وجه الاستثناء للناسي من الأصل الذي ذكرناه، وهو مؤاخذته للضمان بحق الله وحق المخلوق. الاستثناء في اليمين قال رحمه الله: [ومن قال في يمين مكفرة: إن شاء الله لم يحنث] . بهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الحسن، وصح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح في قصة سليمان عليه السلام، أنه قال: (والله لأطوفن الليلة على تسعين امرأة) الله أكبر! الأنبياء أعطوا هذه القوة، في ليلة واحدة يطوف على تسعين امرأة! (تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله) انظروا كيف الهمة وبماذا تتعلق النفوس!! أنبياء الله أعظم الناس قربة لله عز وجل، في سائر شئونهم وأمورهم، حتى عند إتيانهم الشهوة يصرفونها في طاعة الله. قال: (والله لأطوفن الليلة على تسعين امرأة) فأقسم، لكن لم يرد الله عز وجل ذلك، فألقت واحدة منهن بعض مخلوق وليس مخلوقا كاملا، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنه قال: إن شاء الله) وعلى كل حال قيل هذا: مسألة التحقيق، وقيل: مسألة التعليق، وقال من حيث الأصل: إنه أقسم، ووجدت المشيئة لتحقيق القسم والاستثناء. أما الحديث الحسن: (من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه) فيشترط اتصالها باليمين، كأن يقول: والله تقوم إن شاء الله. أو يقول: والله إن شاء الله تقوم، والله إن شاء الله تفعل، والله إن شاء الله لا تفعل، ويشترط أن يكون قاصدا للاستثناء قبل انصراف اليمين، أما إذا طرأ عليه أن يستثني بعد انعقاد اليمين فلا، وإلا قال كل شخص بمجرد الشك أنه لا يفي إن شاء الله. هذا يدل على أنه لابد من اتصال الاستثناء، ولابد من قصده، وقد فصلنا في هذه المسألة في تعليق الطلاق بالمشيئة وبينا ضوابط المشيئة وتأثيرها. استحباب الحنث في اليمين وإتيان الذي هو خير قال رحمه الله: [ويسن الحنث في اليمين إذا كان خيرا] اليمين قد يندب له برها ويكره له الحنث فيها، وقد يجب عليه البر ويحرم عليه الحنث، وقد يستحب له البر ويندب له الحنث، وقد يحرم عليه البر ويجب عليه الحنث، هذه أحوال لليمين، وهي: الحالة الأولى: يجب عليه البر ويحرم عليه الحنث في يمينه، كما لو قال: والله لأصلين مع الجماعة، وهو ممن تجب عليه صلاة الجماعة، فيجب عليه أن يبر ويحرم عليه أن يحنث؛ لأن هذا واجب بأصل الشرع. أو تقول له أمه: افعل كذا وأمرته به فقال: والله أفعل. فحينئذ يجب عليه البر ويحرم عليه الحنث؛ لأن طاعة أمه واجب مؤكد. الحالة الثانية: يحرم عليه البر ويجب عليه الحنث، كما لو أقسم أنه لا يصلي صلاة الظهر، فهذا لا يجوز؛ لأنه حلف على ترك واجب، أو حلف على فعل محرم، كأن يقول: والله لأشربن الخمر -والعياذ بالله! - فيجب عليه الحنث ويحرم عليه البر. الحالة الثالثة: يندب له الحنث ويكره له البر، كما لو حلف على أن لا يصوم الأيام البيض وقال: والله لا أصوم الأيام البيض من هذا الشهر. فيندب له أن يحنث ويكفر في يمينه ويصوم الأيام البيض، ويكره له أن يمضي في يمينه ويفوت على نفسه الخير. الحالة الرابعة: يندب له البر ويكره له الحنث، كما لو قال: والله لأصومن الخميس والإثنين. فيندب له أن يصوم وأن يبر، ويكره له أن يفوت على نفسه الخير. هذه أحوال اليمين. إذا الإنسان إذا رأى شيئا أفضل مما حلف عليه فالأفضل له أن يكفر، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) وهذا يستثنى من الأصل من حفظ اليمين والبر فيها، فإن المسلم إذا مثلا: والله لا أكلم فلانا اليوم -وهو يجوز له أن يهجر أخاه المسلم دون الثلاث- فرأى أن الخير أن يكلمه، كأن يأمره بالمعروف أو ينهاه عن المنكر، أو وجدت مصلحة أخرى، أو قال: والله لا أزور فلانا اليوم، ورأى من المصلحة أن يزوره، أو توفي أحد أو مرض أو جاء سبب يندب إلى الإتيان، فنقول له: الأفضل أن تكفر عن يمينك وتأتي الذي هو خير. حكم يمين من حرم حلالا وصوره قال رحمه الله: [ومن حرم حلالا سوى زوجته من أمة أو طعام أو لباس أو غيره لم يحرم، وتلزمه كفارة يمين إن فعله] . هذه المسألة تقدمت معنا في قول الرجل لزوجته: أنت علي حرام، وذكرنا: أن هذه المسألة فيها ما لا يقل عن عشرين قولا، ذكرها أئمة التفسير في قوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم:1] قال بعض العلماء: إنه إذا حلف وحرم على نفسه لبس الثياب، أو حرم على نفسه لبس غطاء رأسه كالعمامة، أو حرم على نفسه أن يركب السيارة، أو حرم على نفسه أن يطعم الطعام، أو حرم على نفسه أن يتزوج، قالوا: كل هذا لغو ولا شيء عليه ولا تجب عليه كفارة، وهذا مذهب الظاهرية وأهل الحديث، قيل: مذهب جمهور أهل الحديث. وذهب الجمهور -على تفصيل عندهم- إلى أنه إذا حلف على تحريم حلال فإنه تنعقد يمينه ويجب عليه الكفارة، وهذا مبني على أصل، والأصل: أن تحريم الحلال يأتي على صورتين: الصورة الأولى: إذا قصد به التحريم فهو لغو. الصورة الثانية: إذا حلف على أن يحرم على نفسه شيئا حلالا، فإنه حينئذ يكفر، وهذا معنى ما ورد في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة العسل، عندما قالت أم المؤمنين حفصة: أجد منك ريح مغافير، وهذا من باب الغيرة؛ لأنه شرب عند زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها العسل، وغارت أمهات المؤمنين وتمالأن عليها، وقمن يذكرن ذلك له عليه الصلاة والسلام، وقلن: جرست نحلة في العرفط، وهذا عندما شرب عندها عسلا، وبين الله عز وجل ذلك لنبيه وقال: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم:2] فالنبي صلى الله عليه وسلم لما امتنع من شرب العسل، قال الله عز وجل له: {لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} [التحريم:1] وهذا يدل على أنه قصد اليمين. ومن هنا من حرم على نفسه الحلال وقصد اليمين انعقدت يمينه، وأما إذا حرم الحلال معتقدا تحريمه فهذا لغو ولا يؤثر، ومنه ما فعله الصحابة حينما اجتمعوا: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعهم عثمان بن مظعون، وكان من أشد الصحابة عبادة وصلاحا رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عنهم أجمعين، وتكلموا في شأن الإسلام ثم اتفقوا على أنهم لا يتزوجون النساء وأنهم يختصون، فأدركتهم نشوة الدين ومحبة الطاعة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال -كما في الحديث الصحيح حديث جابر: (رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان التبتل، ولو أذن له لاختصينا) . فتحريم المباحات من شأن أهل الضلال، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يحرم شيئا أحله الله له، وذلك لقوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} [الأعراف:32] وهذا استفهام إنكاري، يدل على أن الحلال ما أحله الله، ولو حرمه الناس، والحرام ما حرمه الله ولو أحله الناس، فلو حرم حلالا كان لغوا. قوله: (سوى زوجته) تقدم معنا أنه إذا قال لزوجته: أنت علي حرام، أو أنت الحرام، أو الحرام يلزمني منك. كل هذا تقدم. والحنابلة كما ذكرنا يقولون: إنه ظهار، وقد صح عن عثمان رضي الله عنه أن من حرم زوجته فهو مظاهر، وقد بينا أن الصحيح: أن من قال لامرأته: أنت علي حرام، نسأله عن نيته، إن قصد به اليمين فعليه الكفارة، وفيه عن ابن عباس أثر صحيح، وإن قصد به الطلاق سألناه كم ينوي؟ وإن قصد به الظهار فظهار، وإن لم يقصد شيئا فهو لغو، مع أنها ليست بحرام وإن قال: إنها حرام، فهو أخبر بشيء مخالف للواقع، فلا يقع شيئا ولا يعتد به ويكون لغوا. قوله: (لم يحرم) لم يحكم بتحريمه عليه، ويكون كلامه لغوا. قوله: (وتلزمه كفارة يمين إن فعله) كما ذكرنا بالتفصيل الذي بيناه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________________
|
|
#8
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الأيمان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (542) صـــــ(1) إلى صــ(3) شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الأيمان [2] إن من تيسير الشرع على المكلفين أن جعل التخيير في كفارة اليمين لمن لزمته الكفارة، وهذا من فضل الله على عباده، كما جعل الرجوع في الأيمان إلى نية الحالف وقصده؛ لأن في الأيمان ما هو لغو يؤاخذ المرء عليه، ومنها ما هو يمين معقود يتحقق فيه لزوم الكفارة. التخيير في كفارة اليمين بين خصال الكفارة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يخير من لزمته كفارة يمين بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة] الواجب في الشريعة ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الواجب المضيق المرتب، الذي لا يجوز للمسلم أن ينتقل فيه بعد ترتيب الشرع إلى أمر لاحق؛ إلا بعد العجز عن الأمر السابق، كما في كفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان؛ فإن هذه واجبة لازمة على من ارتكب المحظور، ولكنه لا ينتقل إلى الخصلة الثانية التي رتبها الشرع على الأولى إلا بعد العجز عن الأولى، وهذا يسميه العلماء: بالواجب المرتب. وقد نص ابن عباس رضي الله عنهما على أن ما ورد بثم، لا يجوز للمسلم أن ينتقل إلى الخصلة الثانية إلا بعد عجزه عن الخصلة الأولى. فهذا واجب مرتب يجب على المسلم أن يلتزم ترتيب الشرع فيه. القسم الثاني: الواجب المخير، وهو الذي وسع الشرع فيه على المكلف، فخيره بين خصلتين أو ثلاث أو أربع، إن فعل واحدة منها أجزأه. وفي الحقيقة كفارة اليمين جمعت بين النوعين، ففيها الواجب المرتب، وفيها الواجب المخير، فخير الله عز وجل بين الإطعام والكسوة والعتق، ورتب ما بين هذه الثلاثة إذا عجز عنها أن ينتقل إلى الصيام. وعلى هذا يكون الواجب في كفارة اليمين قد جمع بين الأمرين: الترتيب والتخيير، فبين المصنف رحمه الله: أن من لزمته كفارة -وقد قدمنا شروط الحنث، ومتى يحكم بكون الإنسان حانثا في يمينه- فعليه الكفارة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب الكفارة كما في آية المائدة: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89] فهذه الآية أصل في كفارة اليمين، وقد نص الله عز وجل فيها على خصال الكفارة. فبين رحمه الله الواجب الأول: وهو إطعام عشرة مساكين، وإطعام عشرة مساكين على وجهين عند العلماء: الوجه الأول: أن يطعم كل مسكين ربع صاع، كما في كفارة الظهار، من حديث سلمة بن صخر البياضي، حيث أطعم ستين مسكينا خمسة عشر صاعا، وهذا يقتضي أن يكون لكل مسكين ربع صاع. الوجه الثاني: أن يطعم كل مسكين نصف صاع، كما في كفارة الفدية في النسك من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الذي في الصحيح، وفيه أن من ارتكب المحظور من حلق رأس ونحو ذلك لزمته الفدية، وقد أمر الله عز وجل فيها بنصف صاع، فقالوا: هذا يدل على أن الإطعام يكون بنصف صاع. والحقيقة أنه لو اقتصر الشخص على ربع صاع أجزأه، لكن الأحوط والأحسن له أن لا ينقص عن نصف صاع، هذه الصورة الأولى. ثم يرد السؤال هل الكفارة في اليمين تمليك، أو يقصد منها مطلق الوقوع؟ بمعنى: أن الشخص يجب عليه أن يعطي المسكين الطعام، والمسكين يتصرف في الطعام كيف شاء، فهذا تمليك، وحينئذ لا يجوز أن يصنع الطعام ويدعو المسكين إليه؛ لأن التمليك يقتضي أن يكون المسكين حرا بين أن يأكله اليوم أو غدا أو بعد غد، فيملك هذا الذي ملكه الله عز وجل إياه، وإن قلنا: إنها ليست بتمليك فيكون من حقه أن يطعمه، وأن يصنع الطعام ثم يدعو عشرة مساكين فيأكلون ذلك الطعام. ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم أطعموا، كما في قصة أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأيضا الأصل يقتضي عموم الإطلاق، ولكن التمليك أحوط، والجمهور على أنه لو أطعم يجزيه. وإطعام عشرة مساكين يستوي فيه أن يكونوا ذكورا أو إناثا، أي: تمحضوا بالذكور، أو تمحضوا بالإناث، أو جمعوا بين الذكور والإناث، ويستوي أن يكونوا كبارا أو صغارا، فلو نظر إلى أسرة فيها عشرة أفراد أجزأه، ثم يرد السؤال: هل يشترط أن يكون الصغير بعد الفطام ليأكل أكل المفطوم، أم يكون رضيعا فيشتري له ما يرتضع به كحليب ونحو ذلك؟ وجهان للعلماء: والصحيح: أنه يجزيه سواء كان قبل الفطام أو بعده؛ وذلك لإطلاق القرآن، ولكن الأحوط أن يبرئ ذمته على الوجه الذي لا شبهة فيه. قوله: (أو كسوتهم) الكسوة فيها وجهان للعلماء: منهم من أطلق الكسوة، حتى لو ألبسه ثوبا يستر عورته أجزأه، والصحيح: أن الكسوة لابد فيها من أن تكون كسوة تصح بمثلها الصلاة، وعلى هذا لو كساه ثوبا شفافا لم يجزه، ودليلنا على ذلك السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما، نساء كاسيات عاريات) فوصفهن بالكسوة، ولكن سلبهم هذا الوصف بالعري، وقد أمر الله بكسوة المسكين، فدل على أنها كسوة خالية من العري. وعلى هذا لابد وأن تكون الكسوة التي تصح بها الصلاة في المرأة: الدرع والخمار، وفي الرجل: ما يستر به عورته، فلو أنه ستره بثوب غامق اللون يستر عورته، فيكون السروال والفنيلة فضلا، ولو ستره بقميص وسروال أجزأه، ولو ستره بإزار ورداء كإزار الحج والعمرة وردائهما، فإنه يجزئه. إذا: بالنسبة للثياب يشترط فيها: أن لا تكون معيبة عيبا يقدح في وجود الكسوة فيها، فلو أنه كانت عنده ثياب يلبسها هو وكساها فيجزيه ذلك، ما دام أنها نظيفة صالحة للاستعمال، وهكذا بالنسبة للثياب التي كساها للصغار من المساكين، لو أخذ كسوة أولاده فكساهم إياها وهي صالحة للاستعمال أجزأه. قوله: (أو عتق رقبة) يستوي أن تكون الرقبة صغيرة أو كبيرة، وقد بينا هذا وفصلناه في مسألة العتق في كفارات الظهار والجماع في نهار رمضان. ولكن هنا هل يشترط إيمان الرقبة أو لا يشترط؟ الأقوى أنه يشترط إيمان الرقبة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في صحيح مسلم من حديث معاوية بين الحكم رضي الله عنه-: (أعتقها فإنها مؤمنة) وذلك بعد أن سأل الجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة) أي: أعتقها من أجل أنها مؤمنة. فالرق ضرب من أجل الكفر، فلا يعقل أن الشريعة تأمر بضرب الرق على الكفار المحاربين، ثم بكل سهولة يعتقون، إذا ما هي الفائدة؟ وعلى هذا لابد وأن تكون الرقبة مؤمنة، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (أعتقها فإنها مؤمنة) جملة تعليلية، أي: لأنها مؤمنة، ولم يقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتق مباشرة، بل أمره أن يحضر الجارية، وسألها وامتحنها واختبرها صلى الله عليه وسلم وتكلف ذلك، فدل على أنه لا يجزئ أن يعتق كل رقبة. قال بعض العلماء: يشترط عدم العيب في الرقبة إذا كان عيبا مخلا يمنع العجز فإنه لا يصح ولا يجزئ، والصحيح أنه قد يجزئ، إلا إذا كان على وجه يريد به التخلص من الرقبة، فهذا أمر آخر. [فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة] وقد نص القرآن على ذلك، قال سبحانه وتعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89] وفي قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب، الأولى عند عبد الرزاق بسند صحيح، والأخرى عند ابن جرير وجود إسنادها غير واحد من العلماء: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وهذا أخذ منه الحنابلة وطائفة وجوب التتابع في صيام الكفارة في الأيمان، وهو الصحيح إن شاء الله. حكم من لزمته أيمان متكررة قبل التكفير حال اتحاد موجبها أو اختلافه قال رحمه الله: [ومن لزمته أيمان قبل التكفير موجبها واحد فعليه كفارة واحدة] . قوله: (ومن لزمته أيمان) يعني: متكررة عديدة، ويكون ذلك على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون على شيء واحد، فمثلا قال لفلان: والله ما تدخل البيت. ثم قال له: سأدخل. قال: والله ما تدخل. قال: سأدخل، فهذه يلزمه كفارة واحدة. الصورة الثانية: إذا كانت متعددة فكل واحدة منها يمين، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمهم الله. [وإن اختلف موجبها كظهار ويمين بالله لزماه ولم يتداخلا] أي: وهكذا إذا اختلفت أجناسها كظهار ويمين ونحو ذلك، فكل ذلك يحكم بكل مقسم عليه بيمين مختصة به، إذا حنث فيها يلزمه الكفارة لكل يمين.
__________________
|
|
#9
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الأيمان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (543) صـــــ(1) إلى صــ(14) شرح زاد المستقنع - باب جامع الأيمان من المسائل التي تواجه الناس في حياتهم اليومية مسائل الأيمان، لذا فلابد لهم من معرفة أحكام أيمانهم، وما يجب عليهم منها، وما لا يجب، وقد فصل العلماء في أحكام الأيمان تفصيلا دقيقا، فبينوا حكم نية الحالف، وسبب اليمين، وأحكام تعيين الشيء المحلوف عليه، وغير ذلك من الأحكام التي يكثر احتياج الناس إلى معرفتها؛ ليقوموا بحق الله عليهم فيها. ما يرجع إليه في الأيمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: الرجوع إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ فيقول المصنف رحمه الله: [باب جامع الأيمان: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ] . أي: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف وقصده؛ لأن الله تعالى يقول: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة:225] وقال سبحانهه في الآية الأخرى: {بما عقدتم الأيمان} [المائدة:89] فإذا كانت اليمين في الأصل لا تنعقد إلا إذا قصد الشخص عقدها، فإذا لم يقصد عقدها بأن جرت على لسانه كانت لغوا ساقطة، دل هذا على قوة تأثير النية، فإذا كانت اليمين لا تنعقد إلا عند القصد والتوجه والنية، فمن باب أولى أن لا تنعقد في الألفاظ والكلمات ما دام أن اللفظ محتمل ويرجع إلى نيته. والأصل في ذلك حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) والأعمال شاملة للأقوال والأفعال، واليمين قول، فتدخل تحت هذا العموم، فدل على أنه لابد من الرجوع إلى نية الحالف. وصورة المسألة: لو قال: والله لا أركب السيارة. فالسيارة لفظ عام يشمل السيارة الصغيرة والكبيرة والباص وغيره، فلو قال: قصدت السيارة -أل للعهد- الفلانية أو سيارة فلان. فحينئذ ينتقل من العموم إلى الخصوص. والعكس، لو أن شخصا جاراه في السيارة فقال: والله لا أشتري السيارة. فظاهر الحال أنه لا يشتري السيارة هذه، لكن قال: نيتي جميع السيارات، يعني: جنس السيارة لا أشتريها، فحينئذ النية تتحكم في اللفظ، بشرط أن يكون ذلك اللفظ محتملا؛ لأن (أل) في السيارة تحتمل الجنس وهذا للعموم، وتحتمل العهد وهذا للخصوص، قال تعالى: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول} [المزمل:15 - 16] قيل: إن أل في الرسول للاستغراق؛ لأن من عصى رسولا واحدا فكأنما عصى الرسل كلهم، والأشبه أن هذا عهد ذهني. فهناك شرط في اعتبار النية مؤثرة في اللفظ: وهو أن يكون اللفظ محتملا، بمعنى: أن وضعه اللغوي يحتمل معنيين فأكثر، فالنية تحدد المراد، أما إذا كان اللفظ لا يحتمل ولا علاقة له بما نوى في وضع اللغة وأصلها، وليس هناك عرف جار به، فنيته لغو، كأن يقول: والله لا آكل البرتقال. ولكن قصد بالبرتقال التفاح، ومعلوم أنه لا يطلق البرتقال على التفاح فحينئذ تسقط نيته ويعتد ويعتبر بظاهره، فما دام أنه تلفظ بهذا اللفظ يؤاخذ به، ويحكم بوجوب الكفارة عليه إن أكل ذلك المسمى. وهذا مقرر على مسألة مشهورة عند علماء الأصول، وهي: مسألة وضع اللغة، والصحيح أن الله عز وجل هو واضع اللغات، ومن هنا لو تحكم الشخص في اللغة وقال: والله لا أصعد الجبل، وقيل له: ماذا تريد بالجبل؟ قال: السيارة. لا يوجد أحد يطلق الجبل على السيارة لا لغة ولا عرفا، ولا توجد مناسبة بين السيارة والجبل، فهو يضع دلالة من عنده لهذا اللفظ، مع أن الجبل من حيث هو موضوع على دلالة معينة، فهو فحينئذ يسقط اعتبار النية بشرط احتمال اللفظ، وهذا أصل صحيح مقرر عند العلماء. الرجوع إلى سبب اليمين عند انعدام النية قال رحمه الله: [فإن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها] فأول شيء النية ثم هناك السبب، وسبب اليمين يسمونه: السبب المهيج. وبعض فقهاء الحنابلة يطلق ويقول: سبب اليمين، وعند المالكية وبعض الفقهاء يسمونه: بساط اليمين. وبعضهم يعبر عنه: بموجب اليمين، والمراد من ذلك الباعث على اليمين. ونحن نمثل بأشياء موجودة الآن؛ لأن القديم موجود في كتب العلماء فإذا رجع إليه طالب العالم فإنه يفهم. مثال: لو أن شخصا اختصم مع شخص وجرى بينهم لجاج، فقال: تركب معي سيارتي. فقال له: والله لا أركب سيارتك. فقوله: (لا أركب سيارتك) في الأصل يقتضي أن كل سيارة يملكها الشخص أنه لا يركبها، ولكن بساط اليمين، وموجب اليمين، والباعث على اليمين، والسبب المهيج لليمين، هو الخصومة عن سيارة معينة. فحينئذ نقول: هذا العموم ينصرف إلى خاص، فلا يحنث إذا ركب سيارة أخرى يملكها ذلك الشخص، إلا إذا نوى، فإن النية مؤثرة، لكن كلامنا هنا عن الشخص الذي قال: والله لا أركب سيارتك. قلنا له: هل نويت العموم؟ قال: لا ما نويت العموم، بل خرج مني هذا اللفظ بناء على قوله لي: اركب معي سيارتي، فقلت: لا أريد أن أركب. فقال لي: لابد أن تركب. فأحرجني فأردت أن أقطع قوله: فقلت: والله لا أركب سيارتك. نقول له: إن ركبت أي سيارة غير هذه السيارة فإنك حينئذ لا تحنث؛ لأن السبب المهيج يقتضي التخصيص. الرجوع إلى التعيين في اليمين عند انعدام النية والسبب قال رحمه الله: [فإن عدم ذلك رجع إلى التعيين] إذا: هناك ثلاثة أشياء: - النية. - السبب. - التعيين. والتعيين: أن يعين الشيء، وهو ضد الإبهام، فإذا قال: والله لا آكل هذا اللحم. والله لا ألبس هذا الثوب. والله لا أكلم هذا الرجل لا أكلم هذا الصبي لا أكلم هذه الجارية. فهذا تعيين، والمعين لا ينصرف إلى غيره؛ لأن مرادهم بعينه وذاته، وعين الشيء ذاته. قوله: [فإذا حلف: لا لبست هذا القميص فجعله سراويل أو رداء أو عمامة ولبسه] أي: لو حلف على ذلك الشيء بعينه كأن يقول: لا لبست هذا القميص، ومادة القميص من القماش، إذا انصب عليها اليمين، فلو أن هذا القميص غير وفصل سروالا حنث بلبسه؛ لأنه قال: هذا، فاختص بالتعيين وتقيد به؛ لأن اليمين بالتعيين، فمهما تغير في شكله فذاته موجودة، وانصب المنع على الذات، وحينئذ لو تغيرت إلى أي حال فإنه يبقى الحكم معلقا بها، فيحنث إذا لبسه على أي صورة. وكذلك لو جعل هذا القميص رداء أو عمامة، فإنه يحنث بلبسه، والعكس إذا جعل السروال قميصا، فالمادة موجودة والحكم واحد في هذا. قوله: [أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا] أو صار رجلا لأن الحكم متعلق بعين الصبي ولا يختلف. قوله: [أو زوجة فلان هذه، أو صديقه فلانا، أو مملوكه سعيدا، فزالت الزوجية والملك والصداقة ثم كلمهم] لو قال: والله لا أكلم زوجتك. فليس كقوله: والله لا أكلم هذه الزوجة. فلو قال: لا أكلم زوجتك. فقوله: زوجتك لفظ عام، فإذا لم تكن هناك نية وأخذناه على ظاهر اللفظ، فكل زوجة يتزوجها هذا الرجل بمجرد أن يعقد عليها وتدخل في عصمته، فإنه يحنث بكلامه معها بأقل ما يصدق أنه كلام. فكل امرأة عقد عليها ذلك الشخص فإنه يحنث بكلامه لها، وبمجرد أن تخرج من عصمته وتنتقل عنها، فحينئذ إذا كلمها لا يحنث؛ لأن الوصف متعلق بكلام زوجة هذا الرجل، وحينئذ متى ما كانت زوجة لهذا الرجل حنث بكلامها، وإذا زالت هذه الصفة من الزوجة لم يحنث، أما إذا قال: لا أكلم زوجتك هذه. صار الأمر متعلقا بالزوجة بعينها، فلو طلقها أو بانت منه، فإنه في هذه الحالة لو كلمها فإن اليمين ما زالت منعقدة فيحنث بكلامها، حتى لو تزوجت غيره فإنه لا زال اليمين متعلقا بالعين فيحنث بكلامها. قوله: (أو مملوكه سعيدا) . لو قال: لا أكلم مملوكا لك. فهذا عام، أي: كل عبد يملكه هذا الشخص، فبمجرد ما يشتريه يحنث بكلامه بأقل ما يصدق عليه أنه كلام، لكن لو قال: لا أكلم مملوكك سعيدا وعين، أو مملوكك هذا وعين وخصص، فحينئذ كما ذكرنا، لو أنه أعتقه ما زال الحكم متعلقا بعين المملوك، فيحنث بكلامه. قوله: (فزالت الزوجية والملك والصداقة ثم كلمهم) الأصل أنه يحنث حتى بعد زوال هذه الأشياء كما ذكرنا وفصلنا. قوله: [أو لا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشا] . لأن اليمين متعلقة بلحم الحمل، فحتى إن أكله بعد أن صار كبشا، فإنه يحنث؛ لأنه قد انصبت اليمين على لحمه. قوله: [أو هذا الرطب فصار تمرا أو دبسا أو خلا] . لو جيء لشخص برطب فقال: والله لا آكل رطبا. فرفع هذا الرطب ثم صار تمرا بالحرارة وبالتأخر وجيء به إليه، فقيل له: كل. فأكل، فإنه لا يحنث؛ لأن الأمر متعلق بالوصف الذي هو رطب، ولو قال: والله لا آكل الرطب وقيل له: على هذه النخلة رطب اصعد وكله. قال: أنا حلفت أن لا آكل الرطب، ثم صبر حتى صار تمرا فصعد وأكل، فإنه يحنث لو صعد وهو رطب وأكل منه، ولا يحنث في الثانية؛ لأنه أكل تمرا؛ ولأنه حلف على الرطب، لكن لو قال: والله لا آكل هذا الرطب، فإنه في هذه الحالة يحنث إن أكله رطبا أو تمرا. [أو هذا اللبن فصار جبنا أو كشكا أو نحوه ثم أكله حنث في الكل] وهكذا بالنسبة للبن، يعني يستوي أن ينتقل عن حاله بفعل المكلف أو ينتقل بطبعه، كما ذكرنا في الرطب والتمر، حنث في الكل [إلا أن ينوي ما دام على تلك الصفة] إذا النية من أقوى ما تكون، ونحن لا نتكلم هنا على قوة السبب. وعلى هذا يحنث في الكل كما ذكرنا؛ لأنه قصد عين المحلوف عليه. وإذا كانت له نية فقال: والله لا أكلم زوجتك فلانة، وهذا لأنه رأى أن الرجل متضايق منه بسبب خصومة أو شيء، فقصد في نيته أن هذه المرأة سيئة تسبب مشاكل، فقال: والله لا أكلم هذه الزوجة، وهو يقصد مدة كونها زوجة له، فحينئذ هناك تعيين في السبب، ولكن النية أخص من السبب؛ لأنه لم يقصد عين المرأة، وحينئذ إذا زالت الزوجية يجوز له أن يكلمها ولا يحنث. الرجوع في اليمين إلى ما يتناوله الاسم عند عدم النية والسبب والتعيين قال رحمه الله: [فصل: فإن عدم ذلك رجع إلى ما يتناوله الاسم] . إذا أول شيء النية، ثم السبب، أي: لابد أول شيء أن تكون هناك نية؛ لأن مقاصد المكلفين معتبرة، وقد أجمعت على ذلك نصوص الكتاب والسنة والقاعدة المشهورة: على أن الأمور بمقاصدها، ثم السبب الذي يهيج اليمين. قوله: (رجع إلى ما يتناوله الاسم) أي: هذا اللفظ يدل على ماذا؟ وهذا عين العدل في الشريعة الإسلامية، فينظر إلى دلالة اللفظ اللغوية والعرفية والشرعية، هذه ثلاثة أنواع من الدلالات، فإذا قال: والله لا أصعد الجبل، والله لا أجلس تحت السماء، والله لا أعبر نهرا ولا أركب بحرا، والله لا أصلي، والله لا أصوم، فكل هذه ألفاظ فيها دلالة لغوية وفيها دلالة شرعية وفيها دلالة عرفية، فحينئذ لابد من النظر في اللفظ، هذا إذا قال: ليست عندي نية في شيء معين، وليس هناك سبب هيج على اليمين، فحينئذ ينظر في دلالة اللفظ. أقسام الحقائق ومتى يرجع إليها في اليمين قال رحمه الله: [وهو ثلاثة: شرعي وحقيقي وعرفي] . هذه يسمونها. الحقائق، وهي: - الحقيقة اللغوية. - الحقيقة الشرعية. - الحقيقة العرفية. فالحقيقة اللغوية: مصطلح يكون في أصل التخاطب في لسان العرب، فإذا قالوا: السماء، فهم يعنون بها السماء المعروفة، وإذا قالوا: الأرض، الجبل، الشجر، فهذه أسماء على مسميات معينة وضعت في لغة ولسان العرب، فهذه يسمونها: حقيقة لغوية، وهي ما يدل عليه اللفظ في وضع اللغة. الحقيقة الشرعية: فالشرع قد ينقل هذا الاسم من عموم إلى خصوص، وقد ينقل هذا الاسم إلى دلالة ليس فيها لا عموم ولا خصوص، وإنما يكون لها معنى جديد، فالشرع يتصرف في المسميات. الحقيقة العرفية: العرف يجمع الناس على لفظ له دلالة لغوية فيأخذه الناس، مثلا السيارة الآن، السيارة: لها معنى في اللغة، وهي في لغة القرآن موجودة: {وجاءت سيارة} [يوسف:19] {يلتقطه بعض السيارة} [يوسف:10] . لكن هل تلك السيارة التي كانت عندهم هي السيارة الموجودة عندنا الآن؟ الجواب لا، السيارة في القديم لها معنى، والسيارة في وضع اللغة لها معنى، وفي عرفنا اليوم لها معنى. ونحن نمثل بشيء موجود: الكتابة في القديم لها معنى، ومعناها اللغوي معروف، وهو الخط باليد، لكن في زماننا الآن يضرب بأصابعه على الآلة ومع ذلك يوصف بكونه كاتبا، فلو قال شخص: والله لا أكتب على الآلة، وهو يختصم مع شخص على أن يطبع له، إذا يوجد معنى عرفي الآن. كذلك الوضوء له معنى لغوي، وله معنى شرعي، والصلاة والزكاة والصوم والهبة والصدقة والإجارة كلها حقائق فيها معان لغوية وفيها معان شرعية. ولذلك لما استفتحنا أبواب العلم كنا نقول: في اللغة وفي الشرع، في اللغة: أي: حقيقة لغوية، وفي الشرع: أي حقيقة شرعية، فهذه تسمى: بالحقائق، فإذا تلفظ المكلف فإنه ينظر فيها.
__________________
|
|
#10
|
||||
|
||||
|
الحقيقة الشرعية ومتى يرجع إليها في اليمين قال رحمه الله: [فالشرعي ما له موضوع في الشرع، وموضوع في اللغة] فالشرعي كالصلاة مثلا، لها موضوع في اللغة، فتطلق بمعنى: الدعاء، وتطلق بمعنى: الرحمة، وتطلق بمعنى: البركة، ولكنها في الشريعة نقلت إلى العبادة، ذات القيام والركوع والسجود والذكر على الوجه المخصوص. قال رحمه الله: [فالمطلق ينصرف إلى الموضوع الشرعي الصحيح] اللفظ المطلق إذا كان له معنى لغوي ومعنى شرعي فإننا نصرفه إلى الشرعي، فلو قال: والله لا أصلي، فإنه يحنث بالصلاة نافلة أو فريضة؛ لأن الشرع يطلق الصلاة على هذه العبادة ذات الركوع والسجود، هذا هو المعنى الشرعي. والمعنى اللغوي: الدعاء، فلو أنه قال: والله لا أصلي. ثم قال: اللهم! ارحمني لم يحنث؛ لأنه عند تعارض الحقيقة اللغوية مع الحقيقة الشرعية، مع الإطلاق العام يتقيد بالشرع، فإذا قال: والله لا أصلي. فإنه يحنث بفعل الصلاة، ولا يحنث بالدعاء، ولا بالترحم. إذا: الصلاة في هذا المعنى تنصرف إلى المعنى الشرعي، فلا يحنث إلا بفعل فريضة أو نافلة. ويشترط إذا كانت بالمعنى الشرعي أن تكون معتبرة معتدا بها شرعا. فلو قال: والله لا أصلي هذه الساعة. ثم قال: أريد أن أكفر. فقام يريد أن يصلي، فصلى ركعتين، ثم أراد أن يكفر، فتبين له أنه محدث، سقطت عنه الكفارة تيسيرا من الله. إذا في هذه الحالة لا يحنص إلا إذا كانت صلاة شرعية؛ لأنه قال: والله. أي: ألزم نفسه فيما بينه وبين الله أنه لا يصلي، فلا يكون حانثا ولا تجب عليه كفارة إلا إذا حصل الإخلال، ولا يحصل الإخلال إلا بالصلاة الشرعية، فإذا صلى محدثا لم تكن صلاته مجزئة. [فإذا حلف لا يبيع أو لا ينكح فعقد عقدا فاسدا لم يحنث] وهذا مثلما ذكرنا، لو قال: لا أصلي ثم صلى صلاة فاسدة لم يحنث؛ لأن الشرع لا يسمي هذا صلاة، ولا يسمي هذا بيعا، قال: والله لا أبيع. ثم باع بيعا فاسدا، كأن يبيع مجهولا، فإنه يحكم ببطلان البيع؛ لأنه من بيوع الغرر -وقد تقدم معنا- كما لو قال له: أبيعك دارا ولم يصفها، قال: هذه الدار تشتريها مني (بمليون) ، قال: قبلت. أعطاه (المليون) تمت صورة البيع، لكن انفسخ هذا البيع بحكم الشرع، قال القاضي: هذا بيع فاسد؛ لأن الدار لم تصفها ولم تبينها على وجه تزول به الجهالة ويصح به العقد، إذا هذا عقد فاسد، وذلك لوجود الغرر. في هذه الحالة لو جاء وقال: أنا قلت: والله لا أبيعه، وقد وقع مني بيع، ولكن أفسده القاضي، أو المفتي حيث قالا: هذا بيع فاسد. نقول: إذا وجوده وعدمه على حد سواء، ولا كفارة عليك؛ لأنك حلفت على بيع شرعي وهذا بيع فاسد. [وإن قيد يمينه بما يمنع الصحة، كأن حلف لا يبيع الخمر أو الخنزير حنث بصورة العقد] إذا قلنا: إن البيع حقيقة شرعية، ولابد أن يكون على الصفة الشرعية، فلو أنه قال: (والله لا أبيع الخمر) ثم باع الخمر هل يحنث؟ قالوا: هنا يحنث بصورة العقد؛ لأن مراده بقوله: (لا أبيع الخمر) صورة العقد؛ لأنه في الأصل يريد أن لا يبادل؛ لأن البيع حقيقته المبادلة، وكأنه يقول: التزمت فيما بيني وبين الله أن لا أبادل الخمر بشيء، فلما وقع البيع فصورة المبادلة وجدت، فحينئذ نقول: قد حصل الإخلال فلزمه الكفارة من هذا الوجه. وهناك من العلماء من لا يرى أنه ليس إخلالا ولا تجب به الكفارة. الحقيقة اللغوية ومتى يرجع إليها في اليمين قال رحمه الله: [والحقيقي هو الذي لم يغلب مجازه على حقيقته] . الحقيقي في اللغة: هو الذي لم يغلب مجازه على حقيقته اللغوية، كالسماء والأرض، فهذه حقائق تنطبق على أشياء. مثلا: اللحم حقيقة يطلق على اللحم، ولا ينصرف إلى غيره إذا أطلق، وهذا لا إشكال في اعتباره، فلو قال: (لا آكل اللحم) حكمنا بأنه يحنث بأكل اللحم، أيا كان هذا اللحم، فيكون اللحم شاملا للحم الأنعام ولحم الطيور ولحم الأسماك، فإذا أكله حنث، وتتقيد هذه الحقيقة بدلالتها. [كاللحلم فإن حلف لا يأكل اللحم فأكل شحما أو مخا أو كبدا أو نحوه لم يحنث] لأن الكبد والشحم والمخ هذه ليست بلحم؛ فإن العرب إذا قالت: اللحم، فإنه لا يشمل الكبد ولا المخ ولا الشحم، وقد يستشكل البعض هذا، ويقول: إن الله عز وجل قال في المحرمات: {أو لحم خنزير} [الأنعام:145] نقول: هذا لا إشكال فيه؛ لأنه عبر بالجزء وأراد الكل؛ لأن الذي يأكل الخنزير في الأصل إنما يأكل اللحم، وجعل ما بعده تبعا له. فالشاهد من هذا: أن اللحم إذا أطلق فالمراد به اللحم المعروف، ولا يشمل الشحم وبقية الأجزاء التي ليست بلحم حقيقة؛ فإن اللحم له حقيقة، والشحم له حقيقة، والكبد لها حقيقة، الطحال له حقيقة، فإذا قال: لا آكل الكبد فهذه حقيقة تتقيد بالكبد، وإذا قال: والله لا آكل اللحم، فهذه حقيقة تتقيد باللحم. [وإن حلف لا يأكل أدما حنث بأكل البيض والتمر والملح والخل والزيتون ونحوه وكل ما يصطبغ به] إذا قال: والله لا آكل ولا أطعم الإدام، والأدم هو: كل ما يؤتدم به، فإنه يحنث به إن أكله، سواء كان من المربى أو الملوخية أو اللوبيا أو الفاصوليا أو الخضار أو غيرها من المطاعم مما يؤتدم به، فكل ما يؤتدم به، تصدق عليه هذه الحقيقة اللغوية الجامعة في دلالتها على هذه الأشياء، فيحنث بها. [ولا يلبس شيئا فلبس ثوبا أو درعا أو جوشنا أو نعلا حنث] لأن أصل اللبس الدخول في الشيء، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف) وجعل هذا لبسا، فلو قال شخص: والله لا ألبس، فإنه يحنث بكل شيء يكتسي به، ويضعه على بدنه ويدخل فيه، فإذا قال: والله لا ألبس الثوب. فإنه بمجرد دخوله فيه يحنث. لكن لو أنه وضع الثوب على كتفيه لم يحنث؛ لأنه لا يصدق عليه اللبس، مثله مثل المحرم، لو أن محرما أخذ ثوبا ووضعه مثل الإحرام، لم تجب عليه الفدية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم) الذي يشمل أعلى البدن، ثم قال: (ولا السراويلات) الذي يشمل أسفل البدن ثم قال: (ولا البرانس) فشمل أعلى البدن وأسفله، فإذا حصل الدخول حصل الإخلال وإلا فلا. [وإن حلف لا يكلم إنسانا حنث بكلام كل إنسان] إذا قال: والله لا أكلم إنسانا. فإن هذه نكرة عامة تشمل كل إنسان، سواء كان مجنونا أو كان عاقلا صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى؛ لأن الحقيقة اللغوية تشمل هذا كله. [ولا يفعل شيئا فوكل من فعله حنث إلا أن ينوي مباشرته بنفسه] إذا قال: والله لا أعطي فلانا ثم وكل شخصا -والوكيل ينزل منزلة الأصيل، والفرع آخذ حكم أصله- وقال له: يا فلان اذهب واعط فلانا أو قال لابنه: يا محمد اذهب وأعط فلانا هذا المبلغ حنث؛ لأن عطاء الوكيل عطاء من الأصيل، وهو تابع للأصل فيحنث به. الحقيقة العرفية ومتى يرجع إليها في اليمين قال رحمه الله: [والعرفي ما اشتهر مجازه فغلب الحقيقة كالرواية والغائط ونحوهما] هذا النوع الثالث من الحقائق: وهي الحقيقة العرفية، فقوله: (ما غلب مجازه على الحقيقة) مثل: الغائط، والراوية، فلو قال: والله لا أذهب إلى الغائط، فالعرف أن الغائط مكان قضاء الحاجة، وذلك لقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} [النساء:43] يعني: مكان قضاء الحاجة، فقوله: والله لا أذهب إلى الغائط، أو لا أدخل الغائط، أو لا أجلس في الغائط، يحمل على الحقيقة العرفية، فيحنث بدخوله مكان قضاء الحاجة، وحينئذ لا يحكم بكونه حانثا إلا إذا دخل فيه، لكن لو قصد الحقيقة اللغوية، وقال: أردت بالغائط المكان المطمئن؛ فحينئذ نيته تنقله من الحقيقة العرفية إلى الحقيقة اللغوية؛ لأنه نوى ذلك وقصده. لكن لو تعارضت الحقيقتان، كأن قال: والله لا أجلس في غائط، فقال بعض الفقهاء: هذه حقيقة لغوية وحقيقة عرفية، فأيها يقدم؟ يقدم العرفية على اللغوية في قول جمهور العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وهذا ما درج عليه المصنف رحمه الله، أن العرف معتبر. إذا الراوية والغائط تنتقل من المعنى العام إلى المعنى الخاص. [فتتعلق اليمين بالعرف] الأصل في الاحتجاج بالعرف القاعدة الشرعية التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة: (العادة محكمة) ، فإذا جرى العرف بذلك فإنه يؤثر. جلس قوم في شركة أو مؤسسة وعندهم غرفة معينة اصطلحوا على تسميتها (الغرفة) فهذا عرف خاص، فإذا حلف شخص وقال: والله لا أدخل الغرفة، فالغرفة حقيقة لغوية للمكان المبني بالهيئة المعروفة، فكلمة (الغرفة) في اللغة عامة في كل غرفة، ولكن العرف والأصل أنه يريد هذه الغرفة، لاختصاص هذه الغرفة بالعرف. إذا: لابد للفقيه إذا سئل عن الأيمان أن يكون ملما بدلالة اللغة في هذا اللفظ الذي سئل عنه، وأن يكون ملما بدلالة الشريعة، فإذا قال: والله لا أتصدق، والله لا أهب، كيف يعرف أنه حنث أو لم يحنث إذا لم يعلم حقيقة الهبة، وحقيقة الصدقة، وحقيقة الوقف؟ إذا: لابد من إدراك هذا كله حتى يحكم بكونه حانثا أو غير حانث. [فإذا حلف على وطء زوجته أو وطء دار تعلقت يمينه بجماعها وبدخول الدار] أي: لو قال: والله لا أطأ زوجتي. تعلقت يمينه بجماعها، هذه حقيقة عرفية، ولو قال: والله لا أدخل الدار، لم يحنث إلا بدخول جرمه كاملا فيها، والدار إذا خصها العرف بشيء معين اختصت به؛ لأن الدار في بعض الأحيان قد تطلق حتى على الخباء، يقول الشخص: هذه داري. وهي خيمة، وقد تختص بالبناء. إذا العرف له تأثير في دلالات الألفاظ، فحينئذ نتقيد بهذا العرف، وإن كانت دلالة اللغة عامة كما بينا. [وإن حلف لا يأكل شيئا فأكله مستهلكا في غيره كمن حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن لا يظهر فيه طعمه، أو لا يأكل بيضا فأكل ناطفا لم يحنث] هذه المسألة تقدمت معنا في الصيد في المستهلك ومتى يحكم باستهلاكه وعدمه، في المستهلك من الممنوع أكله وطعمه مثل: الزعفران وغيره. فعلى كل حال إذا استهلكت وذهبت مادة السمن في المطبوخ فإنه لا يؤثر؛ لأنه لم يصدق عليه أنه أكله، أما لو بقي شيء من المادة فإنه يؤثر. [وإن ظهر طعم شيء من المحلوف عليه حنث] لأنه حينئذ يتحقق السبب الموجب للحنث، وهو وجود طعم الذي حلف أنه لا يطعمه. حكم من أكره على فعل شيء حلف ألا يفعله قال رحمه الله: [فصل: وإن حلف لا يفعل شيئا ككلام زيد ودخول دار ونحوه ففعله مكرها لم يحنث] بين رحمه الله في هذا الفصل تأثير الإكراه، وأن الإكراه يوجب إسقاط المؤاخذة، وعلى هذا قالوا: إنه لا يحكم بالحنث مع وجود الإكراه، فلو قال: والله لا أدخل الدار، فأكره عليها بالتهديد، أو أكره عليها بأن ربط ووضع في حمالة ونقل، وهذا يسمونه: الإكراه الملجئ، وهناك الإكراه غير الملجئ، أو يقولون: الإكراه التام، والإكراه الناقص، في كلتا الصورتين لم يحنث، فلو قال: والله لا أدخل الدار فحمل إليها مكرها، أو لا أكلم فلانا فأكره على تكليمه فإنه لا تلزمه كفارة؛ لأن الله أسقط بالإكراه أعظم شيء وهو الردة، فلأن يسقط موجب التكفير من باب أولى وأحرى. حكم من حلف ألا يفعل شيئا ففعله ناسيا أو جاهلا قال رحمه الله: [وإن حلف على نفسه أو غيره ممن يقصد منعه كالزوجة والولد أن لا يفعل شيئا ففعله ناسيا أو جاهلا حنث في الطلاق والعتاق فقط] . هذه المسألة ترجع إلى قضية حق الله عز وجل وحق المخلوق، فإذا كان حلف على غيره أن لا يفعل، كولده وزوجته ممن له عليه سلطان، فإنهم فرقوا بين الطلاق والعتاق الذي هو تعلق حق المخلوق بهما دون غيره، أما وجه تعلق حق المخلوق في العتق والطلاق، فلو قال له: إذا فعلت كذا فعبدي فلان حر، وهذا العتق، أو إذا فعلت كذا فزوجتي فلانة طالق، أو زوجتي طالق، أو نسائي طوالق، هذا الطلاق. في هذه الصور كلها، هذا الحلف على المنع أو الحمل على فعل الشيء في شخص له عليه سلطة وقوة، قالوا: إنه يسقط المؤاخذة بالنسيان في هذه الصور كلها إلا العتق والطلاق؛ لأن العتق تعلق به حق المخلوق، فلو أن الشخص هذا الذي قال له: والله ما تشتري من البقالة. وإن اشتريت فزوجتي فلانة طالق، هنا تعلق الطلاق بمن له عليه سلطة كولده أو زوجته. قالوا: إذا فعل هذا المحلوف عليه والمعين ناسيا فإنه لا كفارة عليه ولا يحنث، ولا يلزمه شيء، إلا في الطلاق، والعتق. فإنه إذا فعله ناسيا حكمنا بالعتق وبوقوع الطلاق؛ لأنه حق للزوجة، أنها تطلق من زوجها، وتنحل العصمة، وحق للملوك؛ لأنه خرج عن الملكية، فما نستطيع أن نقول: إن النسيان مؤثر. لماذا؟ لأنه دلت النصوص على أن النسيان لا يسقط حقوق المخلوقين. فلو أن شخصا نسي دينا لشخص عليه، ثم رفعه إلى القاضي فقال: عليه دين لي؟ قال: ليس له علي شيء. وهو ناس، وحكم القاضي بأنه لا شيء عليه، ثم بعد عشرين سنة تذكر أن عليه دينا، فهل يسقط الحق هنا؟ الجواب لا، ويجب عليه الضمان، ويسقط عليه الإثم مدة النسيان، فالنسيان يسقط الإثم، ولكن لا يسقط الحق من المخلوق. إذا النسيان الذي هذا حكمه يؤثر ما لم يكن فيه التبعة، الذي هو موجب الضمانات، وقد تقدم معنا في أكثر من مسألة بيان هذا. وقد استثنى المصنف رحمه الله العتق والطلاق لتعلق حق المخلوق به، فحينئذ المرأة لها حق والمملوك له حق، وبعض المتأخرين من العلماء رحمهم الله قال: إن هذا ضعيف أن يسوى الطلاق بالعتق، فقبل الطلاق ولم يقبل العتق. قال: لأن المرأة قد تبكي وتقول: أريد زوجي وما تريد الطلاق، والواقع أن جمهور العلماء لما قالوا بهذا، قالوا به بوجه صحيح. وهناك أمر ينبغي على طالب العلم أن ينتبه له وهو: أن كثيرا من إيرادات المتأخرين تنحصر في صور معينة، ولذلك تجد بعض المتأخرين يأتي بصورة عاطفية، أو يأتي بشيء محدود يعيب به على كلام العلماء وينتقدهم فينبغي أن ينتبه لهذا؛ فإننا كثيرا ما نجد ضوابط العلماء شمولية أو عمومية أو غالبية لا تتقيد بصور معينة، وهذا أمر مهم جدا؛ لأن أحكام الشريعة لا تتقيد بحالة دون أخرى. المقصود أنه قال: إنه قد تبكي المرأة، نقول: أيضا المملوك الذي حكمنا بعتقه قد يقول: أريد سيدي، لا أريد أن أعتق منه. وأذكر أيام الرق كان للجد والأسرة منهم بعض من عتق وأبوا أن يبرحوا الجد، بسبب حسن المعاملة، وقد لا يرضى الإنسان، ويحب أن يكون عند سيده؛ من حسن معاملته، وشرفه، وطيبه، وعلمه، فتجد من يبكي ويتذمر منهم. وأدركنا أناسا حدثونا عن أناس ممن كانوا لا يريدون أبدا أن يعتقوا من أسيادهم، فرجعوا إلى أسيادهم وأصروا على البقاء عندهم. إذا المعنى في العتق هو نفس المعنى في الطلاق، ما الذي جعلهم يقولون: إن المرأة عندما تطلق عتقت من موجب العصمة؛ لأن قيام الرجل عليها تضييق في حريتها، هذا بأصل الشرع، وإن كان فيه مفسدة، لكن له مصالح أعظم، ونحن نقول: إن الطلاق يوجب لها الراحة والفكاك في غالب الصور، بغض النظر عن الآحاد، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه إليه. وعلى هذا لا يرد ما ذكره بعض المتأخرين بالتفريق بين العتق والطلاق، والمصنف جمع بينهما وجمعه صحيح ونص عليه الأئمة رحمهم الله. حكم من حلف على من ليس له عليه سلطان قال رحمه الله: [أو على من لا يمتنع بيمينه من سلطان وغيره ففعله حنث مطلقا] قوله: (من لا يمتنع بيمينه) سواء فعله ناسيا أو غير ناس، فرقوا بين من يمتنع وبين من لا يمتنع، والأصل يقتضي التسوية. حكم من حلف على شيء وفعل بعضه قال رحمه الله: [وإن فعل هو أو غيره ممن قصد منعه بعض ما حلف على كله لم يحنث ما لم تكن له نية] هناك فرق بين الكل والبعض، فلو قال: والله لا آكل الرغيف فإنه يحنث إذا أكل بعضه، أما لو قال: والله لا آكل كل الرغيف. فأكل نصفه، أو أكل ثلثيه أو ثلاثة أرباعه أو أكل شيئا يسيرا لم يحنث حتى يأكل الكل، ولو قال: والله لا أدخل الدار فمد يده أو مد رجله لم يحنث حتى يدخل كله. ومن هنا قالوا: الجزء لا يأخذ حكم الكل، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام لـ عائشة: (ناوليني الخمرة -وكان معتكفا- قالت: يا رسول الله! إني حائض) وهذا يدل على أن الحائض لا تدخل المسجد، فإنه لو كانت عائشة لا تدرك هذا -وهي الفقيهة- لقامت مباشرة وأعطته، لكن قالت: (إني حائض) ومعنى ذلك: أنه عرف عند الصحابة وتقرر أن الحائض لا تدخل المسجد، لكنهم ظنوا أن الجزء يأخذ حكم الكل؛ فإنها لو مدت يدها لناولته، فقال لها: (إن حيضتك ليست في يدك) يعني: (ناوليني) والمناولة باليد، ما قال: ائتيني أو تعالي بالخمرة إنما قال: (ناوليني) باليد، فدل هذا على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، وأنه لا يحنث. ومن ذلك: مسألة الأيمان والنذر في الاعتكاف، لو نذر أنه لا يخرج من المسجد فأخرج يده فإن هذا لا يوجب الحكم بانتقاضه.
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 20 ( الأعضاء 0 والزوار 20) | |
| أدوات الموضوع | |
| انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |