منهج القرآن في ترشيد العقول وإعلاء الهمم وترقية المواقف - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         إزدواجية الملتزم بين أخلاق الإسلام وغواية الشيطان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          غـزوة مؤتـة: بداية الفتح الإسلامي وإنهيار دولة الرومان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          إصدارات لتصحيح المسار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 872 )           »          السنة كالقرآن في الأسماء الحسنى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          شـهر رمضـان- أمامك موسم من مواسم الآخرة فاستعد لعمارته بالأعمال الصالحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          قناديل على الدرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 35 - عددالزوار : 8735 )           »          تفسير آيات الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 15 )           »          لا تحاســدوا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          التصلب المتعدد Multiple sclerosis (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الجمل الندية من ألقاب المسائل الفقهية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 5 - عددالزوار : 140 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 29-09-2020, 01:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,942
الدولة : Egypt
افتراضي منهج القرآن في ترشيد العقول وإعلاء الهمم وترقية المواقف

منهج القرآن في ترشيد العقول وإعلاء الهمم وترقية المواقف


الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي








مِن سورة الأنعام




















بسم الله الرحمن الرحيم



والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين.



قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 74 - 83].







إذا كان القرآن الكريم قد حض على الإيمان والعبادة والتقوى؛ صلاة وصيامًا ونُسكًا ومعاملات إنسانية طيبة في آيات كثيرة هُنَّ قوام العمل الصالح في الإسلام، فإنه قد حض قبل ذلك في المرحلة المكية على تدبُّر النص القرآني والتفقه فيه، واتخاذه مرجعًا لاستعادة السواء إن افتُقِدَ في الأفراد والمجتمعات والأمم بقوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، كما حث على ترقية القدرات العقلية والفكرية؛ تأملًا وفهمًا وملاحظة ومقارنة وتعليلًا، وتذكرًا وانتباهًا ونقدًا واستقراءً واستنباطًا، في آيات أخرى هنَّ أُسُّ الإيمان ودعامة العبادة والتقوى، وأدوات البحث عن الحق إن خفِي، والفطرةِ إن عتَّم عليها الجهل وران عليها الضلال، وأفسدتها مواريث الأمم المتعاقبة، وتراكُمُ التقاليد السخيفة، فقال عز وجل:



﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف: 105].



﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 185].



﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101].



﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 50].



﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ﴾[غافر: 57، 58].







بل إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد توعد بالويل مَن عطل عقله وتخلى عن التفكُّر والتدبر، وكان إيمانه تقليدًا أعمى واتباعًا أخرس، فيما رواه ابن عمير إذ سأل أُمَّنا عائشة رضي الله عنها قال: أخبرينا بأعجبِ شيء رأيتِه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة، ذَرِيني أتعبَّد الليلة لربي))، قلت: والله إني لأحب قُربك، وأحب ما سرَّك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلالٌ يؤذِنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لمَ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟! لقد نزلت عليَّ الليلة آيةٌ، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها؛ ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190].







إن اللهَ تعالى إذ خلق الإنسان جعل له في كل خَطْرة من خَطَرات النفس وخَلجة من خَلَجاتها نافذةً إلى معرفته سبحانه، وفي كل لمحة عين أو رنة صوت أو لمسة أو إحساس أو شعور أو نشوة فرح أو لسعة حزن طريقًا إلى الإيمان، إنه عز وجل إذ خلَقه ودلَّه على الإيمان، لم يخلقه عبثًا، ولم يُهبطه إلى الأرض لعبًا، ولم يكلفه بالعبادة فيها عنتًا ورهقًا، بل زوده ابتداءً بكل مراشده، وأدوات معرفته ومعرفة ما ينبغي عمله، ولكن الإنسان يجهل، يجهل بما يكتسب، ويجهل بما يغتر، ويجهل بما ينسى، طغَتْ أنانيته على ما لديه مِن أدوات الفهم والعلم فعتَّمت عليها، وتنكب جادة الصواب فحاد عن الطريق، واتخذ لنفسه بتراكُمِ ما اكتسب من الآثام بدائل عن الإيمان، وأولياء من الرهبان والأوثان؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقلت، فإن عاد زِيدَ فيها، فإن عاد زِيدَ فيها حتى تعلو فيه، فهو الرانُ الذي ذكر الله: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14])).







إن الإيمان بالله عز وجل فينا؛ في فِطرتنا، في أعماقنا، في قلوبنا وأسماعنا وأبصارنا وجلودنا وأحاسيسنا، كما هو في الكون من حولنا؛ جليلِه ودقيقه، قريبه وبعيده، محسوسه ومنظوره ومسموعه، ولكننا قوم جاهلون، أو عُمْيٌ أو صُم أو مطموسٌ علينا.







وإن الإنسان إذ أُهبط إلى الأرض، كان أولَ أمره فيها عارفًا بربه، مؤمنًا تائبًا عابدًا خاشعًا، ولكن الغفلة والنسيان وتعاقب الأيام وتقادم الأعوام وتراكم الآثام عتَّم على إيمانه، وأنساه ما كان عليه من التوحيد، فاستبدل الأربابَ المزيفة بربِّه الحق، والآلهةَ المتعددة بربه الواحد الخلَّاق، ولكنَّ رحمة الله ولُطفَه ووعده إياه إذ خاطبه عند إهباطه إلى الأرض بقوله: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38] - كل ذلك دفع بهذا المخلوق العجيب المهاجر إلى الأرض، الغريب بين سكانها وقطانها، إلى تيهِه الجديد عن ربه، ونسيانه كلمتَه وتوحيده، فلم يكن له مفتاحًا لرحمة الإيمان المهداة والهداية المجتباة إلا ما رُكِّب في نفسه يوم خُلق مِن أدوات للفهم والعلم والإدراك والتدبُّر والتعقل.







وكما هي طبيعة القرآن في التبليغ والتعبيد إذا أمَر أو نهى أو حرَّم أو أباح أو أوجب أن يبين للناس منهج القيام بذلك، وخطواتِ العمل به، وألا يدعَ جانبًا من كيانهم المادي والمعنوي إلا علَّمهم كيف يتعاملون معه ويستفيدون منه ويتَّقون فساده، وهو ما عُرف بتنزيل أحكام الله تعالى في واقع الأمة؛ أفرادًا ومجموعات، وشعوبًا وأممًا، كما هو الشأن في آيات قرآنية كثيرة بيَّنتها آيات أخرى غيرها، أو أحكام قرآنية فصَّلتها سنَّة قولية أو عملية أو إقرارية من صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، لا سيما أن طبيعةَ رسالة الإسلام قد وُضعت على مقاس الإنسان؛ بدنًا ورُوحًا ونفسًا وعقلًا ومجتمعًا وحياة دنيوية تُفضي إلى الآخرة حسابًا وجزاءً، وتجزم بأن الله تعالى ما أمر بشيء فوق طاقة البشر، وما كلَّف شيئًا إلا سن له طريقةً للقيام به.







ولئن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين للناس منهج الإيمان إذ نزل قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾ [البقرة: 137]، وقال لهم: ((الإيمان أن تؤمنَ بالله، وملائكته، وكُتبه، ورُسله، واليوم الآخر، وتؤمنَ بالقدَر خيرِه وشرِّه))، وبين طريقة الصلاة والزكاة إذ نزل قوله: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43]، فقال: ((ارجعوا إلى أهليكم فكونوا فيهم وعلِّموهم، ومُرُوهم، وصلُّوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمَّكم أكبرُكم))، كما بينت آية قرآنية أخرى مصارفَ الزكاة بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60]، فإن مِن حق القارئ المتثبِّت للقرآن، الحريص على امتثال أوامره تعالى إذ يتلو قوله تعالى: ﴿ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [هود: 51]، وقوله عز وجل: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 242]، في أكثرَ من عشرين آية أخرى تحض على التعقل، وتذم من عطَّل طاقة العقل التي وهبها الحق تعالى للإنسان، وحوالي ست عشرة آية أخرى تحض على التفكير والتفكُّر، منها قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ [الروم: 8] - مِن حق هذا القارئ إذ أُمر بالتفكر والتعقل أن يسأل عن طريقة القيام بهذا الأمر الرباني؛ لتحقيق الغاية منه؛ استجماعًا للتصور الإيماني الواضح السليم، واستصلاحًا للفطرة إن فسَدت أو رانت عليها عتمات الغفلة، وجمود التقليد، والركون للأوهام والخرافة.







فهل وضَع الحق سبحانه للعقل البشري منهجًا للتفكر الإيجابي الرشيد، والتدبر الواعي السديد، وطريقًا إلى الهداية إن ضلَّ أو غوى؟!







وما هو منهج التفكر والتدبر وترقية الأدوات العقلية، وقد أمر به القرآن الكريم وتوعد بالويل مَن أعرض عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لقد نزلت عليَّ الليلة آيةٌ، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها ..))؟ وما هو الهُدى الرباني المقصود الواجب اتباعه في هذا الأمر إذ قال تعالى لآدم عليه السلام وهو في طريقه إلى الأرض: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38]؟







إن التفكُّر والتدبر والتعقل عملية شعورية تجري داخل نفس المرء خفيةً عن العين المجردة، وعن غيرها من الجوارح الأخرى، وإن ترقية هذه العملية الشعورية بما ينمِّي خاصية الإدراكين الحسي والمعرفي والقدرة على اتخاذ المواقف الحاسمة تبعًا لهما، مِن أهم ما يحتاجه طالب الحق والمنافح عنه؛ كي يفقهَ ما يقال له من ربه، وما يراه من الكون المنظور، فلا يتعرَّض للتوبيخ بالاستفهام عن علة جهله وقلة فهمه لِما يراه أو يخبر به في قوله تعالى: ﴿ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 78].







مِن أجل ذلك كانت ترقية هذه العملية الشعورية غير المنظورة تحتاج إلى قدوة منظورة ونموذج حيٍّ يأخذ بيد المؤمن إليها، فيقرِّب له بعيدها، وينير له طريقها، كما يفعل معلم الصبيان إذ يقرب لهم المعاني المجردة البعيدة عن أذهانهم بأدوات إيضاح مادية أو تشخيصية يقدمها لهم؛ لذلك اختار اللهُ تعالى للتعليم والترشيد والتذكير في هذه العمليات الفكرية إنسانًا سويًّا يقوم بها، ويكون لهم فيها قدوة وأسوة، وكان هذا الإنسان هو الشابَّ اليافعَ الطموح إبراهيم عليه السلام، في قومه من الكلدانيين عبدةِ النجوم والأوثان في العراق، وقد خنعوا لسطوة حاكم جبَّار مستبد نصَّب نفسه إلهًا عليهم.







ولئن كان القرآن الكريم لم يذكر شيئًا عن نشأة إبراهيم فإنه قد بيَّن لنا من خصاله وتكوينه النفسي والعقلي ما يقرِّبنا من معرفة شخصيته، ونيرِ عقله، وعلو همته، ومَضاء عزيمته، فهو - بشهادة الوحي الكريم - أمَّةٌ وحدَه، يُغْني بفضل الله عليه عن أمة كاملة: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [النحل: 120]، وهو العاقل المتأوِّه المراجع لما فاته؛ تداركًا واستصلاحًا، والمُنيب إلى الحق الراجع إليه؛ اختيارًا ذاتيًّا وفلاحًا: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ [هود: 75]، وهو الذي اكتمل رشدُه بأمر ربه واصطفائِه وعلمه: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 51].







أما عن تكوينه الإراديِّ ومَضاء عزيمته فهو الفتى المِقدام الناهض، ومِن بواكير فتوَّته أن شنَّ في مقتبل عمره حملةَ تنديد بغباء قومه إذ يعبدون أحجارًا منحوتة لا تنفعُ ولا تضر، ثم شفع حملته بتحطيم تلك الأوثان وجعلها جُذاذًا، وإذ تساءل عبدتُها عمن فعل بها ذلك قيل لهم: ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾ [الأنبياء: 60].







لقد أراد الله تعالى لهذا الشابِّ الناهض المِقدام أن يهتدي إلى الإيمان، وأن تكون أدواته في ذلك ما ركَّب فيه مِن قدرات عقلية ونفسية وإرادية؛ تدبرًا وتفكرًا وملاحظة في الكون، من غير أن يأتيه ملَك مقرَّب أو نبي أو رسول؛ ليكون في البحث الذاتي عن الله والوصول إليه قدوةً للناس، وحافزًا لهم إلى التحرر من عبودية الهوى والخمول والركون إلى ما تفرضه الخرافة والاستبداد من عقائدَ وأديان.







بذلك كان الطريق إلى الإيمان مجسَّدًا تجسيدًا حيًّا في هذا الشاب اليقِظ بين قومه الغافلين، وقد أنكر عليهم جهالتَهم، ورفض غباءهم، وازدرى ما يعبدون، ولجأ إلى ما لديه من أدوات للفهم والمعرفة فاهتدى.







لم تكن من أدواته إلا الجوارح، يقودها التأمل والتدبر، والتعقل والفهم والتفكر، ولم يكن معها إلا الكون المنظور حوله في الآفاق، ولم يختَرْ مِن هذا الكون الفسيح الهائل دقائقَه وغامضه ومعتمه، بل اختار منه بالليل الأشد وضوحًا، والأقرب رؤية؛ كواكبه وقمره، وبالنهار أقوى ما رأى سطوعًا من القمر وأكبر حجمًا وأشد حرارة، وهو الشمس، اختار ذلك موضوعًا للتدبر والتفكر والتعقل والسعي الرشيد نحو الإيمان.







وكما هي سنَّة الأنبياء والرسل عليهم السلام في أن يبدؤوا بأهلهم وعشيرتهم؛ كما قال الحق سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، فقد عمَد الفتى إبراهيم إلى مقاومة عقيدةِ الشرك في قومه، وكان أبوه ينحَت الأوثان ويبيعها لهم ويعبدها معهم، فخاطبه بقوله:



﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 74]، استفهام إنكاري من إبراهيم للضلال البيِّن الواضح في تصرفات أبيه وقومه إذ يعبدون النجوم والكواكب، ويتخذون لها رموزًا ووسائطَ من التماثيل الخشبية والحجرية، وموقف رشيد منه يشير إلى أبعادٍ مهمة كثيرة في تكوين الشخصية الإبراهيمية التي اصطفاها الحقُّ تعالى وجعلها للناس أسوةً وقدوة ومنارَ طريق بقوله: ﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [البقرة: 130]، وقوله: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: 4].







أول هذه الأبعاد انتباهُه إلى جدية التصرفات وعبثيَّتها، وتمييز صحيحها من سقيمها.



وثانيها الإصرار على السعي لمعرفة الحق، مهما خفِي، أو عتَّمت عليه الجاهلية.



وثالثها القدرة على الاستفادة العملية من كل معرفة مستحدَثة أو مكتشفة، واتخاذها مرجعًا للتصرفات والعلاقات، مما يكشف مستوًى عاليًا من الرُّشد العقلي الذي تُخصبه المعارف، وتُنضجه التجارِب.



ورابعها الميل الفطري لإشراك الغير في أي منفعة، ومحاولة إنقاذ المجتمع من أي مضرَّة.



وخامسها القدرة النفسية والإرادية على الجهر بالحق والدفاع عنه حين الاهتداء إليه، وعلى اتخاذ الموقف الحاسم من أي ضلال أو فساد أو منكر يراه أو يواجهه.







والخطاب بقوله تعالى في هذه الآية من سورة الأنعام: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ... ﴾ [الأنعام: 74] الآية.. استمرارٌ لمخاطبة الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة منها بدئ بقوله تعالى:



﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ﴾ [الأنعام: 74]؛ أي: واذكر يا محمدُ موقفَ إبراهيم من أبيه وقومه وقد أنكر عليهم الشرك وعبادة الأوثان وقال لأبيه: ﴿ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ﴾ [الأنعام: 74] كيف تنحِتُ أحجارًا تبيعها للناس وتتخذها معهم آلهة تعبُدُها معهم؟! ﴿ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 74] إن هذا منك ومنهم هو عينُ الضلال البيِّن، والسفاهة السخيفة.



يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 142.18 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 140.51 كيلو بايت... تم توفير 1.68 كيلو بايت...بمعدل (1.18%)]