الخليل بن أحمد الفراهيدي: غني بعلمه عن العالمين - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         6 كواكب وسابعهم القمر في خط مستقيم – اصطفاف الكواكب ظاهرة فلكية نادرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 87 )           »          الثبـــات وأسبــابه.. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 67 - عددالزوار : 9697 )           »          هذا الدين هو دين أهل العزة والكرامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »          فضيلة الشيخ أ. د. ناصر العقل متحدثاً عن التكفير المذموم التكفــير فتنة هذا العصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          أخطاء الواقفين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 69 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 90 - عددالزوار : 22495 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 236 - عددالزوار : 29121 )           »          ما تحرمش نفسك من التسالي فى العيد.. أنواع مختلفة من السناكس الدايت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 95 )           »          4 نصائح لخسارة الوزن الزائد بخطوات سهلة بعد فتة ولحمة العيد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 81 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام > ملتقى أعلام وشخصيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17-03-2020, 03:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي الخليل بن أحمد الفراهيدي: غني بعلمه عن العالمين

الخليل بن أحمد الفراهيدي: غني بعلمه عن العالمين
أحمد الجوهري عبد الجواد




ملوك بلا تيجان (5)



كان والد الخليل بن أحمد الفراهيدي أوَّلَ مَن تسمى في الإسلام بـ(أحمد) بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم[1]، ولعل ذلك كان مِن الفأل الحسن لأهل هذا البيتِ المبارك؛ إذ قدَّر الله تعالى أن يكون لهم مع العبقرية والسبقِ إلى الإبداع تاريخٌ كبير، تمثل في الابن الخليل، الذي اخترع بمفرده خمسة علوم أو يزيد، لم يفضَّ أبكارَها أحدٌ قبله، ولم يطمثها إنس ولا جان!

ولو أردنا أن نلقِّب حياة الخليل بلقب، لكان لقب "السِّباق" أحق بها من أي لقب آخر، فلقد كانت حياة الخليل عبارة عن حلبة سباق يسابق هو خلالها الأيام والليالي، بل الساعات والثواني؛ ليصنع عملًا جليلًا في حياته، ويترك أثرًا جديرًا به بعد مماته.
ولو أردنا أن نصفَه هو بكلمة واحدة لقلنا: "المبدع"، فلم يكن سعي الخليل الحثيث هذا ليقدِّمَ عملًا ألِفه الناس، أو لينشئ عملًا عرَفه الناس، بل كان شرطه في أعماله أن تكون أثرًا جديدًا وفنًّا مبدعًا غير معروف.

السباق والإبداع ذلك هو عنوان حياة الخليل وملخصها، مِن ثم رأيناه يخترع علم العَروض الذي يُعرَف به صحيح أوزان الشعر العربي من فاسدها، وما يعتريها من الزحافات والعلل، الذي استنبطه من أشعار العرب الأقحاح، بل أحدث فيه أنواعًا من الشعر ليست من أوزان العرب[2].

ورأيناه يخترع علم المعاجم، ويُؤسِّس لوضع أول معجم لُغوي يجمع شتات كلمات اللسان العربي، وهو "معجم العين" الذي أتمه بعده تلميذه الليث[3].
وفي طريقه لوضع المعجم وضع أُسُسَ علم الصوتيات، وكانت أعماله أول اللَّبِنات في بنيان العلم بهذا الفرع من فروع اللسانيات في الحضارة العربية.

وكان للخليل فضلُ التوجيه إلى وضع قواعد علم النحو بواسطة تلميذه الأشهر وناشر علمه على الدنيا "سيبويه"، وذلك في كتابه الأجلِّ "الكتاب"[4].
وله أيضا اليد الطولى في تطوير نظام الضبط الكتابي؛ حيث اخترع وضع العلامات من حركات وسكون وشدة وغيرها فوق الحروف العربية، وكانت قبله على نحو يثير اللَّبْسَ ويعسر القراءة[5].

ولقد همَّ الخليل أن يضع نوعًا من الحساب السهل الميسور الذي تمضي به الصبية الصغيرة إلى البقَّال، فلا يمكنه أن يظلمها، وقد بقي يُعمِل فكره في ذلك حتى عاجلته المنيَّة ولحق بالرفيق الأعلى[6].
وكانت للخليل تجارب في الترجمة من اللغات الأخرى وفي الطب وغيرهما، ومَن يدري ماذا كان يصنع لو طال به الأجَلُ، فإنه كان عبقريًّا حقًّا، بل لا نخطئ إن قلنا: إنه كان عدة عباقرة اجتمعوا في شخص واحد.

ولقد كان يمثل العبقرية في أسمى معانيها، وإن الحديث عنه ليثيرُ في النفس مشاعر الرغبة في الإبداع، ويؤز على العبقرية، ويبعث على النشاط والجد، إن استذكار مواقفه فقط يُعلي الهمة، ويشحذ العزيمة، لله درُّه!
ولئن كانت هذه الصفات في الخليل تجعله يحتل مكانًا متقدمًا في العلماء والعظماء، فإن صفة أخرى عظيمة كانت فيه جديرة أن تؤهِّله ليكون من سادات هؤلاء العلماء والعظماء، وهذه الصفة العظيمة هي صفة العزة بالعلم، لقد كان الخليل يتمتع باعتزازٍ عظيم بعلمه بلَغ فيه حد الكمال، وظل وفيًّا لها إلى آخر نفَس في الحياة، فلم يُعلَم عنه أنه أذلَّ عِلمَه لشيء، لا لرياسة أو منصب، ولا لغنى أو مال، ولا لأحد كائنًا مَن كان!

ولم يؤْثر عنه أنه سعى إلى أحد بعلمه، بل حين سعى إليه ذوو المال ورأى فيهم دلالًا عليه بمالهم، ترفَّع هو عليهم ولم يجبهم، وأعلن في صراحة أنه في سَعَة وأنه أغنى منهم، وإن كان في الحقيقة ليس له مال، لكنه غنيُّ النفس، والغنى بالنفس فوق الغنى بالمال.
وجَّه إليه سليمان بن علي - والي البصرة - رسولًا يلتمس منه الشخوص إليه وتأديب أولاده نظير راتب يجريه عليه، وجاء الرسولُ الخليلَ وحدَّثه بما جاء لأجله، فماذا حدث؟ أخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزًا يابسًا، وقال: ما عندي غيره، وما دمت أجده، فلا حاجة لي في سليمان.

فقال الرسول: فماذا أبلِّغه عنك؟ فأنشأ الخليل يقول:
أبلِغْ سليمان أنِّي عنه في سَعَةٍ
وفي غنى غيرَ أني لستُ ذا مالِ

شحًّا بنفسيَ أني لا أرى أحدًا
يموت هزلًا ولا يبقى على حالِ

وإن بين الغنى والفقر منزلةً
مخطومة بجديدٍ ليس بالبالي

الرزقُ عن قدَرٍ لا الضعفُ يَنقصُه
ولا يزيدُك فيه حولُ محتالِ

إن كان ضنَّ سليمانُ بنائلِه
فالله أفضلُ مسؤولٍ لسؤَّالِ

والفقرُ في النفس لا في المالِ نعرفُه
ومثلُ ذاك الغنى في النفسِ لا المالِ

والمالُ يغشى أناسًا لا خلاقَ لهم
كالسيلِ يغشى أصولَ الدِّنْدِنِ البالي

كل امرئٍ بسبيل الموت مرتهنٌ
فاعمَلْ لنفسِك إني شاغلٌ بالي[7]


فما كان من سليمان إلا أن قطع عن الخليل راتبه الذي كان له في بيت المال؛ ظنًّا منه أن ذلك يجعله يعيد التفكير فيذعن لمطلبه، وإذا لم يعده كانت تلك عقوبة له لازمة!
وهذا يجعلنا نقف على السبب الذي لأجله فعل الخليل ما فعل، إنه لم يرَ في سليمان الشخص الذي يُعز العلم ويقدِّر العلماء، فلم يشأ أن يُذلَّ نفسه وعلمه عند مَن كان كذلك، ولعل الخليل كان يودُّ أنْ لو طلب إليه سليمان طلبه هذا بغير هذه الطريقة التي رأى فيها إنقاصًا من قدره، وإزراءً بمنزلته ومكانته، ما على سليمان إن دعاه إلى ضيافتِه فأكرمه ونعَّمه، ثم تقرب إليه في مجلسه وسما بمنزلته إلى منزلة الخليل، فحدَّثه بنفسه فيما يريد منه وما يطلبه إليه، لكنه وقد فعل ما فعله، تكشف لدى الخليل أنه لا يقدره، ولا ينزله منزلته اللائقة، أو هو يجهل تلك المنزلة، فكان منه إليه ذلك الردُّ السابق، وكان أن صدق سليمان ظن الخليل، وكشف عن نفسه وبواعثها، فأجاب بقطع راتب الخليل، فأساء بدلًا من أن يعتذر، فماذا كان رد الخليل؟

ما زحزح ذلك الخليلَ عن موقفه قِيدَ شعرة، بل زاده على الله اتكالًا، وبعلمه اعتزازًا، وأنشأ يقول:
إن الذي شقَّ فمي ضامنٌ
للرزق حتى يتوفاني

حرمتني خيرًا قليلًا فما
زادك في مالِك حرماني[8]


وبلغت كلماته سليمان، فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، بل ضاعف له راتبه، فقال الخليل:
وزلة يُكثرُ الشيطان إن ذُكرت
منها التعجُّبَ جاءت من سليمانَا

لا تعجبنَّ لخيرٍ زلَّ عن يدِهِ
فالكوكبُ النحس يسقي الأرضَ أحيانَا[9]


لقد رأى الخليل الأمرَ على حقيقته إذًا، مكرمة من والٍ لأحد العلماء، يكون لها ما بعدها من آثار تترتب عليها، مِن أولاها خضوعُ النفس وتبعيتها لأحد قيادات السلطة التنفيذية، وتتوالى المخاطر التي لا يَعرف لطبيعتها وصفًا، ولا لنهايتها حدًّا، لكنه وإن لم يعرف طبيعة المخاطر وحدها، فهو يعرف قبل ذلك نفسه، ويعرف علمه، ويوقن أنه لا سبيل أبدًا إلى تمكينهما من ذلك، أو إذلالهما لأحد مهما يكن وتكن إكراماته، أو حتى عقوباته؛ ولهذا كان هذا الرد المباشر المختصر.

والذي يجعلنا نرجح ذلك هو موقف الخليل نفسه بعد ذلك من دعوة الليث بن المظفر الكناني، حين استقدمه عليه في خراسان، فأجاب الخليل طلبه ولبَّى دعوته، وعاش زمنًا في جواره، وما ذاك إلا لأنه لمس في دعوة الليث له التماس الطالب الراغب، الذي يعرف قيمة مَن يطلبه، ويقدر ما عليه من معرفة وعلم، وليس كما فعل سليمان والي البصرة، ففرق بين الطلبين والطالبين؛ ولهذا وجد الفرق في الجوابين والردين.

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17-03-2020, 03:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الخليل بن أحمد الفراهيدي: غني بعلمه عن العالمين



ولنتأمل ذلك الخبر:
قال الحسن بن علي المهلبي: كان الخليل منقطعًا إلى الليث بن رافع بن نصر بن سيار، وكان الليث مِن أكتب الناس في زمانه، بارع الأدب، بصيرًا بالشعر والغريب والنحو، وكان كاتبًا للبرامكة، وكانوا معجبين به، فارتحل إليه الخليل وعاشره، فوجده بحرًا فأغناه، وأحب الخليل أن يهدي إليه هدية تشبهه، فاجتهد الخليل في تصنيف (كتاب العين)، فصنَّفه له وخصه به دون الناس، وحبره وأهداه إليه، فوقع منه موقعًا عظيمًا وسُرَّ به، وعوَّضه عنه مائة ألف درهم واعتذر إليه، وأقبل الليث ينظر فيه ليلًا ونهارًا لا يمل النظر فيه حتى حفِظ نصفه[10].
أرأيت إلى عبارة: "وعوَّضه عنه مائة ألف درهم واعتذر إليه"، إنها تكفي لبيان ما احتل الخليل في نفس الليث من مكانة.

إن ما فعله الخليل مع سليمان والليث هو فهمٌ أصيل لمكانة العلم ومنزلة العلماء، إنه تحقيق لرجحان المنصب الجدير بأن يثقُل في الميزان وتطيش أمامه كلُّ الإغراءات والتهديدات، وهذا الفهم المبكر لأهمية حرية استقلال العالم عن كافة القيود المؤثرة على مساره واختياراته وآرائه - هو نموذج يجب أن يُعمَّم على كافة أصعدة العلم، وأن يحتذى مِن جميع العلماء بمختلف المستويات.

ولله در أبي الحسن الجُرجاني؛ إذ يصوِّر لنا صورة كاشفة عن عزة العالم بعلمه في أبياته الرقيقة التي يقول فيها:
يقولون لي: فيك انقباضٌ وإنما
رأَوا رجلًا عن موقف الذلِّ أحجَمَا

أرى الناسَ مَن داناهمُ هان عندهمْ
ومَن أكرمَتْه عزةُ النفس أُكرِمَا

ولم أقضِ حقَّ العلم إن كان كلَّما
بدا طمعٌ صيَّرته ليَ سُلَّمَا

وما زلتُ منحازًا بعرضيَ جانبًا
مِن الذلِّ أعتَدُّ الصيانةَ مَغنمَا

إذا قيل: هذا منهلٌ، قلتُ: قد أرى
ولكنَّ نفس الحُرِّ تَحتمل الظَّمَا

أنزِّهُها عن بعض ما لا يَشِينُها
مخافةَ أقوالِ العدا فيمَ أو لِمَا

فأصبح عن عيبِ اللئيم مسلَّمًا
وقد رحتُ في نفس الكريم معظَّمَا

وإنِّي إذا ما فاتني الأمرُ لم أَبِتْ
أقلِّب فكري إثرَه متندِّمَا

ولكنه إن جاء عفوًا قبِلتُه
وإن مال لم أُتْبعه هلَّا ولَيتمَا

وأقبض خطوي عن حظوظٍ كثيرةٍ
إذا لم أنَلها وافرَ العِرض مكْرمَا

وأُكرم نفسي أن أُضاحِكَ عابسًا
وأن أتلقى بالمديح مذمَّمَا

وكم طالبٍ رقِّي بنعماه لم يصل
إليه وإن كان الرئيس المعظَّمَا

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 17-03-2020, 03:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الخليل بن أحمد الفراهيدي: غني بعلمه عن العالمين

وكم نعمةٍ كانت على الحر نقمةً
وكم مغنم يعتدُّه الحر مَغرَمَا

ولم أَبتذِلْ في خدمة العلم مُهجتي
لأَخدُم مَن لاقيتَ لكنْ لأُخدَمَا

أأَشقى به غرسًا وأجْنِيه ذِلَّةً
إذًا فاتباعُ الجهلِ قد كان أحزَمَا

ولو أن أهلَ العلم صانُوه صانَهم
ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّمَا

ولكنْ أهانوه فهانوا ودنَّسوا
محيَّاه بالأطماع حتى تجهَّمَا

فإن قلتَ: جدُّ العلم كابٍ، فإنما
كَبَا حين لم يُحرس حماه وأُسْلِمَا

وما كل برقٍ لاح لي يستفزُّني
ولا كل مَن في الأرض أرضاه مُنْعِمَا



إلى أن أرى ما لا أغَصُّ بذِكرِه
إذا قلتُ: قد أسدى إليَّ وأنعَمَا[11]

لقد شهِدت الحياة العلمية في أزمنة القوة والضعف على السواء شخصياتٍ علميةً باعت عزة العلم الذي تحمله، وأهانت شرف الدرجة التي تتبوَّؤها، حين سارت في ركاب السلطة تأتمر بأمرها وتنتهي عما تنهاه عنه، دون مراعاة لحقائق الشرع أو نصوص الدين، بل تم ذلك كلُّه في كثير من الأحيان تحت ستار الدين؛ تحريفًا تارة، وتأويلًا تارات أخرى، وسخَّروا القرآن والسُّنة لهوى الرجال والنساء، واخترعوا أحكامًا لإرضائهم ما أنزَلَ اللهُ بها من سلطان، وكان لذلك أثره السيِّئ الضار على الدين والعلم والمجتمع بأسره، وهكذا تجني شعوبنا المسلمة المصائب من تفريط العلماء وإضاعتهم لأمانات الله التي طوقت أعناقهم.

ولئن كان هؤلاء في زمن القوة قليلين، وأثرهم لا يكاد يُذكر، فإنهم في زمان الضعف - كزماننا هذا - يضرُّون الدين وأهله ضررًا بالغًا.
وهل هناك أضر على الدين من فقيه مثلًا يُطلَب إليه من قِبل الإعلام أن يضع جملة أحاديث في تحديد النسل، فيقول لمحدِّثيه: تريدون أن أكتب بالتحليل أم بالتحريم؟

فما كان من المجيب إلا أن قال له ساخرًا: خمسة أحاديث بالحل، وخمسة أخرى بالحُرمة!
يا لضيعة الدين بين أهله! ويا لهوان العلم على حامله! ويا لضيعته إذ وضع في غير موضعه، ومِن هذا اللون في عالَمِنا المعاصر كثيرون، لا يخشَون الله، ولا يرقبون في دينهم وأمتهم إلًّا ولا ذمة!

أمَا علِم هؤلاء أن الوفاء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم أبقى وأجدى؟!
لقد خسِروا الآخرة، ولو كانوا يتوهمون بأنهم كسبوا الدنيا بأعمالهم تلك، فقد خُدعوا عن أنفسهم، فإنهم ما كسبوها، وكيف يقال: إنهم كسبوها، وهم ما عاشوا فيها إلا حقراء تافهين، لا قيمة لهم بين العامة، ولا يأبَهُ لهم الذي يستعملونهم؟

ليت لنا مثل الخليل عالِمًا، يعلِّم أولئك أن عزة العلم وعزة العلماء أرفع من كل مال أو منصب أو جاه، وأن لذة هذه العزة هي أعظم من لذة تحقيق المكاسب العاجلة، والرغائب الذاهبة، والشهوات التافهة!
ومن لوازم العزة الزهدُ في الدنيا والرغبة عن التكثر منها؛ ولهذا كان أكثر ما يميز الخليل من الصفات بعد سيادته في العلم وانقطاعه له - ما كان من زهده وورعه؛ إذ كان متقللًا من الدنيا جدًّا، متقشفًا متعبدًا، صبورًا على خشونة العيش وضيقه، وكان يقول: "إني لأغلق عليَّ بابي، فما يجاوزه همي"[12].

وكان رحمه الله يقيم في خصٍّ، وربما لا يملك ما يقيم أوده، يقول تلميذه النضر بن شميل: "أقام الخليل في خص له بالبصرة، لا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال، وكان كثيرًا ما ينشد:
وإذا افتقرتَ إلى الذخائرِ لم تجِدْ ♦♦♦ ذُخرًا يكون كصالحِ الأعمالِ"[13].

قال الذهبي: وكان الخليل من خيار عباد الله المتقشفين في العبادة، وهو القائل:
إن لم يكن لك لحمٌ
كفاك خلٌّ وزيتُ

إنْ لا يكن ذا ولا ذا
فكِسرةٌ وبُيَيْتُ

تظلُّ فيه وتأوي
حتى يجيئَك موتُ

هذا لَعمري كفافٌ
لكنْ تضرُّك لَيْتُ[14]


ولو لم نقف في حياةِ الخليل على درسٍ سوى هذا، لكفانا، ووالله إن حياتَه كلها لدروسٌ وعِبر ناطقة حية، تعِظُ الغافلين والعاطلين والكسالى والفارغين، رحم الله صاحب هذه الحياة العامرة بالإنتاج والإبداع، وتقبَّله في الصالحين.
كان مولد الخليل في العام المتمم مائة من الهجرة، في خلافة العادل عمر بن عبدالعزيز، وتُوفِّي رحمه الله في البصرة عام 174 هـ، في خلافة هارون الرشيد، وذلك بعد رحلات متعددة إلى أماكنَ شتى.

وقال الإمام شمس الدين الذهبي في سبب وفاته في كتابه تاريخ الإسلام:
"يقال: كان سبب موت الخليل أنه قال: أريد أن أعمل نوعًا من الحساب تمضي به الجارية إلى الفامي، فلا يمكنه أن يَظلِمَها، فدخل المسجد وهو يُعمل فكرَه، فصدمته ساريةٌ وهو غافل فانصرع، فمات من ذلك.

وقيل: بل صدمته السارية وهو يقطِّع بحرًا مِن العروض"[15].
وختامًا: هذا هو الخليل، فلا غرو أن يقول عنه سفيان بن عُيَينة: "مَن أحب أن ينظر إلى رجل خُلِق من الذهب والمسك، فلينظر إلى الخليل بن أحمد"[16].


[1] الأعلام (4/ 165).

[2] انظر: سير أعلام النبلاء (7/ 430).

[3] تاريخ الإسلام (4/ 355).

[4] قصة عبقري (116).

[5] المحكم في نقط المصاحف (7، 8)؛ الداني.

[6] تاريخ الإسلام، ت/ بشار (4/ 357).

[7] انظر: شعراء مقلون، (355 - 356)؛ د. حاتم الضامن، عالم الكتب.

[8] وفَيَات الأعيان (2/ 246).

[9] وفَيَات الأعيان (2/ 246).

[10] معجم الأدباء (2/ 283).

[11] يتيمة الدهر (4/ 23).

[12] سير أعلام النبلاء (7/ 431)، وفَيَات الأعيان (2/ 245).


[13] وفَيَات الأعيان (2/ 245)، سير أعلام النبلاء (7/ 430)، والبيت من ديوان الأخطل (1/ 136).

[14] تاريخ الإسلام (4/ 355).

[15] تاريخ الإسلام (4/ 356).

[16] المزهر في علوم اللغة وأنواعها (1/ 52)؛ للسيوطي.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 84.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 82.15 كيلو بايت... تم توفير 2.60 كيلو بايت...بمعدل (3.06%)]