رمضانيات يوميا فى رمضان إن شاء الله - الصفحة 21 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الهوية الإمبريالية للحرب الصليبية في الشرق الأوسط (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          «ابن الجنرال» ونهاية الحُلم الصهيوني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          التغيير في العلاقات الأمريكية الروسية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          هل اقتربت نهاية المشروع الإيراني؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          الشيخ عثمان دي فودي: رائد حركات الإصلاح الديني في إفريقيا الغربية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          دور العلماء الرّواة والكُتّاب في نشأة البلاغة العربية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          مرصد الأحداث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          وقفات مع قول الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          أصحّ ما في الباب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          التدريب على العجز!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > ملتقى اخبار الشفاء والحدث والموضوعات المميزة > رمضانيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

رمضانيات ملف خاص بشهر رمضان المبارك / كيف نستعد / احكام / مسابقات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-01-2022, 06:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (31)
بخاري أحمد عبده



﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].

عَوْد على بَدْء:
في رحلتنا البصيرة مع نفحات آيات الصيام راعتْنا "مفاعلات" التحرير تشعُّ خلال الآيات، تُبْطِل رِقَّ الهوى، وتَنقض أحابيل الشيطان، ثم تنقَضُّ - بفتح القاف وتشديد الضاد - على مرابض الباطل؛ تدمَغ الفِرَى - بكسر الفاء، وفتْح الراء، جمْع فِرْيَة - وتُوهِي العُرى - جمع عُروة - وتردُّ كيْد الكائدين.

ومفاعلات التحرير التي تنعش خلال الآيات تعتق الرِّقاب العانية - الأسيرة - وتحرِّك قُوَى الإيمان الكامنة، وتُبارِك الأنفس؛ حتى تُحدِّد الوجْهة، وتُسلم الوجْه المبارك إلى الله وحْده، فلا تستفزُّها رُقَى - بضم الراء وفتْح القاف، جمع رُقْية بضم الراء وإسكان القاف - الشيطان، ولا يستأثِرُ بها تراثُ الآباء، أو تقاليد البيئة؛ ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 21 - 22].

وعلى هدى تلك المفاعلات، أبصرنا أقنعة الزَّيف تتطايَر فتشي بالخُبثاء الماكرين، وتَفضَح تدابير المجرمين المتربِّصين.

وفي رحلتنا تلك واكبْنا - بعقيدة مَجلوَّة، وقلبٍ مؤمن - أرواحَ الحريَّة تُرفرف عبر كلِّ الهدايات القرآنيَّة، وتستنقذ من ظُلمة الطين، وأسْر المحسوس، ومن ذُلِّ الأنداد المتدافعة المتشاكسة، التي لا تفتأ تغرُّ وتُغري الإنسان؛ حتى يذلَّ وينحني، ثم يمضي مُكِبًّا على وجْهه، حَشْو أديمه تُرَّهات وخدَعٌ تتفاعل مع مركب النقْص الذي أحْكَم عُقدته ذُلُّ السنين، يمضي يَنْعِق نعيقَ البُهْم، ويَنِبُّ نبيبَ التيوس، ويهرُّ هريرَ الكلاب.

ورأينا أُمَّة احتواها الفراغ، فغَدَت تختنق، وتتخبَّط صمَّاءَ عمياءَ، نُهْبَ حملات غزْوٍ فكري وغير فكري، والقرآن يتداركهم فيُوسع الخِناق، ويملأ الفراغ، ويُطلق من حقِّه قذائفَ تُهشِّم الأغلال، فتَفكُّ الرِّقاب.

وأرواح الحرية الخفَّاقة لا يَطْعَمها ولا يَجد شَذاها، إلاَّ مَن رهَفَتْ مشاعره، وسَلِمتْ له حواسُّه، فغدَت تستقبل وتُرسل ما تستقبل، تغزو به كلَّ قُوى الإدراك التي تنشط؛ كي تَعِي وتتأثَّر، وتمثِّل وتختزن.

أما المبتلون ذَوُو الحواسِّ المتبلِّدة، فأنَّى لهم أن يُحِسُّوا؟
ولقد ابْتُلِيت أُمَّتنا بذَوِي الحسِّ الصفيق المتبلِّد، الذي يُورث الجمود، ويُنذر بالعَتَه والعَمَه.

والعَمَه نعني به: عمى الفؤاد؛ ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].

والعَمَه بهذا المفهوم: مظهر من مظاهر غضب الله ومَقْته، وازدرائه للضالِّين ذَوِي الحسِّ الصفيق؛ ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 15].

وهو - بهذا المفهوم - دليلُ تخلِّي المولَى عن العامهين، وأنه - سبحانه - وكَلَهم إلى أنفسهم الساقطة المتهالكة على الشِّعاب المنحرفة المضلة؛ ﴿ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [يونس: 11].

ومُهْوَى العَمَه؛ مشحون بالعَفن، مُتْرَع بأجواء الغفلة، مُنْذَر بالأخْذ الوشيك؛ ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [الحجر: 72 - 75].

والعَتَه نعني به: الغفلة التي تُسلم إلى السكرة، والتي تُعَطِّل أو تَسْلُب قُوَى الحواس والإدراك، فيُمسي الغافلون أنعامًا، بل أضل؛ ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].

وأولئك وهؤلاء استبانتْ سبيلُهم، وتحدَّد مصيرهم، فلا ينبغي أن يُدْعَوا - بالبناء للمجهول - لرِيَادة، أو يُمَكَّنوا من قيادة، أو يُتْرَكوا في موقع تأثيرٍ؛ ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].

وأولئك وهؤلاء منهم الجاحدون المخْلِدون إلى الأرض، المتشدِّقون بالماديَّة، والعلمانية، المتخذون دينَ الله هُزوًا ولعبًا، المحْتَذُون - حَذْوَ النَّعل بالنَّعل - خُطى الكافرين الموتورين؛ شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراع.

والكافرون الموتورون نُهينا عن أن نتَّخذَهم أولياءَ، أو وليجةً، أو بِطَانةً؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 57].

وهذه الآية التي تُحرِّم الموالاة، وتُجَرِّم - بضم التاء، وفتْح الجيم، وكسر الرَّاء المشددة - الموالين، دون أن تتعرَّض لأكثر من هذا، الآية تُشرع لحالة من حالات المسلمين، قد لا تكتمل فيها القُدرة على ردْعِ المستهزئين، أمَّا إذا كان الإسلام في ذِروة القوَّة والقدرة، فإن دستورَهم ما جاء في آية التوبة: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29].

وتنفيذ أمْر القطعية والمفاصلة حسبما ورَد في آية المائدة جِهادٌ، ولكنَّه جهادُ المستضعفين الملتبسين بحالة من حالات الضَّعف.

وأستطرد[1]، فأقول: إن القوى المناوئة للإسلام تَعْتريها في مواجهتها للمسلمين حالات:
1- حالة الهيبة البالغة؛ ﴿ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 13]، وفيها يحذرون أن تبدرَ منهم بادرة تشي بما في قلوبهم، فلا عجب إذا اتخذوا اللسان غِطاءً لِمَا يعتمل في الجَنان فأثنوا وهنَّؤوا، ونَمَّقوا الكلام، وداهنوا وأبدوا المودَّة، وتشدَّقوا واعتذروا عن مواقف الشُّبهات، وبرَّروا… إلخ، ولعل هذا إيحاءُ قول الله: ﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 167]، وقوله: ﴿ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [الفتح: 11]، ﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ﴾ [التوبة: 8]، ﴿ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [الحشر: 13].

2- حالة الفرصة الآمنة، وهذه تَلْمسها وأنت تقرأ قوله - سبحانه -: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]، وقوله - سبحانه -: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 76].

3- حالة انكشاف الغُمَّة وإفلات اللسان؛ ﴿ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ﴾ [الأحزاب: 19].

4- حالة الظهور والتمكُّن، فلا مودَّة، ولا مُجاملة، ولا مسالَمة، بل عُدوان وإساءة، وطِعان؛ ﴿ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ﴾ [الممتحنة: 2].

وواضح أن كلَّ حالة من هذه الحالات ردُّ فعلٍ بليغٍ ينمُّ عن مكانة المسلمين ومستواهم العسكري، والمستوى الذي يُرضي الله هو مستوى الظهور والتمكُّن، مستوى القمة والذُّرَى، أما مستوى الحُفَر والقِيعان والسفوح، فهو مسارح الدِّيدان، ومكامِن الحشرات.

والمسلم في أدنى حالاته، لا ينبغي أن يَهبط عن المستوى الذي يُمْكنه فيه أن يتَّخذ القرارَ ويَصمد، أمَّا أنْ يُحْشر إلى الله هشيمًا تَذروه الرياح، فذلك من الخُسران المبين.

فإذا كان ذلك هو موقف الإسلام ممن اتَّخذ آيات الله هُزوًا من غير المسلمين، فماذا عسى أن يكون موقفه من مسلمين يتطاولون على الشريعة، ويستهزئون بأحكامها، ويرتضون أن يُصبحوا - بألسنتهم وأقلامهم، وكلِّ إمكاناتهم - سهامًا من جعبة الشيطان، ونِصالاً في كِنانة الأعداء؟
إن المسلم الذي مسَّ الإيمان شغاف قلبِه يَحكم للتَّوِّ على أصحاب مثل تلك الأقلام بالرِّدَّة والمروق، ثم يكرُّ عليهم بالوعظ الشافي، والقول البليغ، والإعراض الزاجر الأليم؛ إعمالاً لقول الله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 63].

ذلك هو المتاح في ظروف غيبة الشريعة، وانتشار مدِّ الطاغوت؛ ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ﴾ [النساء: 60].

ومِن أولئك وهؤلاء جامدون يشتملون بمعلوماتهم اشتمالَ الصماء، والإسلام مع دقَّة تعاليمه مَرِنٌ، فِضْفاض، يَسَع ببُحبوحته الأوَّلين والآخِرين.

هؤلاء تَمرق بهم الأيام، فلا ينتبهون، وتُغْرِي أُمَّتهم الأحداث ولا ينتفضون، وتُدَحْرجهم الأقدام، فلا يتأوَّهون، تحسبهم - حين تُنْعِم فيهم النظرَ - أيقاظًا وهم رُقود، وتظنُّهم - بجامع السَّمت والهيئة - وَحْدة متعاطفة، والحقُّ أنَّهم صورة ناطقة لقول الحقِّ - جل وعلا -: ﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ [الحشر: 14].

فاتَهم فَهْمُ مُقتضى الحال، وإدراك عامل الزمن، وعامل المكان.

وهؤلاء أفْزعتْهم فَرْقَعة السِّياط، وحَشَرتْهم صَيْحات الزَّجْر، ودَفعات الرَّكْل؛ حتى انْزَوَوا وتَقَوْقَعوا في محارات ضيِّقة، ظنُّوها كلَّ الدِّين، والدين أرحبُ وأرغدُ، وأرفعُ مما رأَوْا وخَالوا.

هؤلاء الجامدون أيضًا آفتُهم تبلُّد الحِسِّ:
والبَلادة كما تتأتي مما رانَ على القلب من شرٍّ، تتولَّد كذلك من طول المعاناة، أو من عضَّة اليأْس، أو من غمرة الحَيْرة، أو من استفحال عُقدة النقْص، أو..، أو..، وحينئذ تَركُد العقول، ويَجمد الفكر، ويتَسنَّه ويأْسَن، فيعجز المصابون بهذا الداء عن مُجاراة العالَم، ومُلاحقة الرَّكب، وعن إدراك سُنن المولى في الكون، وعن استثمار نِعَم الله المبثوثة في تضاعيف الوجود.

والجامدون قد ينطوون على خيرٍ، ولكنَّهم في مَسيس الحاجة إلى يدٍ آسية؛ تفتح لذلك الخير المنافذ، وتَجلو ما انعقَد حوْله أو فوْقه من قَتَام وغَمام، وعِلَلٍ نفسيَّة جَليَّة وخفيَّة، تفقدُ التوازُن، وتُغري بعِشْق الذَّات، والتمحْوُر - بلا فِقهٍ - حول ما عرَفوا وألِفُوا.

نعم هم في مسيس الحاجة إلى قيادة رشيدة تجمع بين خصائص إمام الدعوة، وإمام السياسة والدولة، ولكن لِمَ هذا اللف والنشر والحديث ذو الشجون عن الجمود والجامدين؟

ثم ما علاقة هذا الحديث الساخن بالنفحات وآيات الصيام؟ أهي الملابسة الوثيقة التي بين الجمود والقيود، وبين التطور والتحرُّر؟

قد يكون إدراك تلك العلاقة حافزًا من الحوافز، ولكنَّ الذي أهمَّني أمرٌ وراء هذا، أمرٌ محورُه رمضان والعيد، وزَيْغة الحُكماء، فإلى لقاءٍ قريب، والله المستعان.



[1] أمْلَى هذا الاستطراد غُربةُ الإسلام ومِحنة المسلمين.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-01-2022, 06:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)



آيات الصيام: مقاصد وأحكام



د. فارس العزاوي






الحمد لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.





وبعد:


فهذه وقفات مُوجزة مع آيات الصيام قصدت بها توضيحَ مقاصد الآيات وبيان مَعانيها، مُهتديًا ومسترشدًا بما قاله المفسرون، ومن المُهم التنبيه على ضرورة رَبْطِ فقه الصيام في تقرير أحكامه بالآيات المنزلة فيه؛ لجعل عبادة الصيام مُرتبطة بمرجعيتها القرآنية وبيانها النبوي.






ولعلَّ من المثالب والمعايب التي اتَّصفت بها المتون الفقهية وشروحاتُها وحواشيها عزلَ الأحكام الفقهية عن مَراجعها النصية، مع العلم أنَّ هذه الأحكامَ مأخوذةٌ استنباطًا واستخراجًا من الكتاب والسنة؛ لكونهما المصدرين الأصلِيَّين في الاجتهاد واستخراج الأحكام، ويحسب لمدرسة الأثر ربطها الأحكامَ بنصوصها، إلاَّ أنَّه يعيبها غيابُ النظر المقاصدي، وكان حريًّا بمدارس الفقه الإسلامي التأكيد على قراءة النصوص ومُقتضياتِها ومقاصدها في تقرير الأحكام، ولا شَكَّ أن النص الشرعي قرآنًا وسنة يستبطن حكمَه الظاهر ومَقصده المكنون.






وهنا تتجلى وظيفة الفقيه والمجتهد في قراءةِ النص من أجل التعرُّف على أحكامه ومقاصده، وفقًا لمنهجِيَّة أصولية معتبرة تستحضر معهودَ التنزيل وأسلوبَ القرآن العربي، وما يتعلَّق به من أسباب للنُّزول وناسخ ومنسوخ، واعتبار قواعد الألفاظ، وغير ذلك من قواعد التعامُل مع النص الشرعي.






وعليه؛ فبين يدي القارئ استعراض لآيات الصيام، وقراءة موجزة في مقاصدِها وأحكامها؛ عَلَّها تكون عونًا للمسلم المعاصر في فقهها وتنزيلها على الواقع؛ لتكونَ العبادة آخذة بجوامعه قلبًا وروحًا وجسدًا.






قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ * أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 183 - 187].






قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:


استئناف ابتدائي لفصل هذه الآية عن التي قبلها، وإنَّما فصلت؛ لاختلافِ الغَرَضين، واختلاف الحُكمَين، فالآياتُ السابقة تَختص بحكم القصاص والوَصِيَّة، وهذه الآيات إنَّما تتعلق بأحكام الصيام.






وهذا الجزء من الآية فيه جملة من الفوائد:


1- وصف الله المخاطبين بـ﴿ الذين آمنوا ﴾، ولم يقل: المؤمنون؛ وذلك خشيةَ اعتقادِ أنَّ هذا الحكم خاص بالمخاطبين، فقوله: ﴿ يا أيها المؤمنون ﴾ يَحتمل وجهين: العهد والاستغراق، فأتى بالكلمة التي لا تَحتمل إلاَّ وجهًا واحدًا وهو العموم؛ لأنَّ كلمةَ "الذين" اسم موصول، والأسماء الموصولة كما هو مَعروف عند علماء الأصول تُفيد العموم؛ قال ابن عاشور[1]: "الظاهر أن خطابات التشريع ونَحوها غير جارية على المعروف في توجُّه الخطاب في أصلِ اللغات؛ لأنَّ المشرع لا يقصد لفريق مُعين، وكذلك خطاب الخلفاء والولاة في الظهائر والتقاليد، فقرينة عدم قصد الحاضرين ثابتة واضحة"؛ لذلك نقول: إنَّ الخطابَ هنا - وفي غيره - للعموم.






2- وصفُ الله المخاطبين بالإيمان دليلٌ على أنَّ الخطاب هنا خاصٌّ بمن تَحقَّق فيه شرط الإيمان، وأمَّا الكفار، فليسوا داخلين في الخطاب ولا الحكم، من حيث أداؤه لا من حيث توجه الخطاب، وهي مسألة اختلف فيها أهلُ العلم: هل الكفارُ مُخاطبون بفروع الشريعة أو لا؟ والجمهور على أنَّهم داخلون في الخطاب، وإن لم يذكروا، ولكن لا عِبْرَة بفعلهم؛ لوجودِ المانع وهو الكفر، وإنَّما خُصَّ المؤمنون بالذكر تشريفًا لهم كما قال الشوكاني نقلاً عن بعض أهل العلم: "إنَّ المسلمين والمؤمنين خُصِّصوا من باب خطاب التشريف لا خطاب التخصيص"[2].






والدليل على أنَّ الكافرَ داخلٌ في الخطاب قوله - تعالى -: ﴿ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴾ [المدثر: 39 - 45].






3- وفي قوله: ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ إشارة إلى أنَّ الإيمان شرطٌ لقَبول العمل، والإيمان هو: "الإقرارُ المستلزم للقَبول والإذعان"، فلا بُدَّ من الإقرار بالقَلب واللسان، والقَبول باللسان، والانقياد بالجوارح، وحُذِفَ المتعلق؛ لدلالة ما قبله عليه في قوله - تعالى - بداية السورة: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ [البقرة: 3]، والإيمان له لوازمُ ينبغي معرفتها، والتحلي بها، نذكرها إجمالاً: إخلاص العمل لله، وتعظيم القرآن الكريم، ومَحبة الله ورسوله، والتمسُّك بما عليه الجماعة، ومَحبة المؤمنين؛ روى الإمام البخاري في صحيحه[3] من حديث أنس - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثٌ مَن كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أنْ يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأنْ يُحب المرء لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعودَ في الكفر كما يكره أنْ يقذف في النار))؛ قال الحافظ ابن حجر: "شَبَّهَ رغبةَ المؤمن في الإيمان بشيء حُلْوٍ، وأثبت له لازمَ الشيء وأضافه إليه"[4].






4- في قوله: ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ جاء الخطاب للمؤمنين بصيغة الجمع، وهذا فيه إشارةٌ إلى أنَّ الأمةَ جماعة واحدة على منهجٍ واحد، فلا يَجوز تفرقها، وهذا في جميع خطابات الشرع، وقد جاءت أدلَّة كثيرة، ونصوص صريحة من كتاب الله، وسنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأقوال سلف الأمة في الأمر بالجماعة؛ قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وقوله: ﴿ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]؛ روى الذهبي في سيره[5]: "قال الليث بن سعد وغيره: كتب رجل إلى ابن عمر أَنِ اكتُب إلَيَّ بالعلم كله، فكتب إليه: إنَّ العلمَ كثير، ولكن إنِ استطعتَ أنْ تلقى الله خفيفَ الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كافَّ اللسان عن أعراضِهم، لازمًا لأمر جماعتهم - فافعل".





قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أمرنا بملازمة الإسلام إلى الممات، كما أمر الأنبياء جميعهم بالإسلام، وأنْ نعتصمَ بِحَبله جميعًا ولا نتفرق، ونهانا أنْ نكونَ كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وهذا نظير قوله للرسل: ﴿ أنْ أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ، فهذه النصوص وما كان في معناها تُوجِب علينا الاجتماع في الدين، كاجتماع الأنبياء قبلنا في الدين"[6].






قوله - تعالى -: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ:


الصيام في اللغة: الإمساك؛ قال تعالى: ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26]، وأمَّا في الشرع، فهو: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التعبُّد لله - تعالى - ومن حكمة الله - تعالى - أنَّه نوَّع العبادات اختبارًا للمكلف كيف يكون امتثاله، هل يكون من جهة اتباع الهوى، أو من جهة إعلان العبودية لله - عزَّ وجلَّ - وهذا التقسيم والتنويع للعبادات جاء حتى يعرفَ مَن يَمتثل تعبدًا لله ممن يَمتثل تبعًا لهواه، هذا مع العلم أن الأصل في العبادات أنَّها غير معقولة المعنى، فالأصلُ فيها التعبد، ولكن لا يَمنع تلمس المعاني والمقاصد التي قصدها الشارع في تشريعه للعبادات، والمؤمن إذا اهتدى إليها كانت تثبيتًا وتأكيدًا لإيمانه، ودفعًا للاستزادة من الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36].






قوله - تعالى -: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ:


فيه إشارة إلى أن امتثالَ هذا الأمر يجعل المؤمن داخلاً في رَكْبٍ فيه أعظم من وجد على وجه البسيطة، هم الأنبياء والمرسلون وأتباعهم، ففي امتثالِ هذا الأمر تشريفٌ للمؤمن؛ لأنَّ له انتسابًا إلى خير الخلق؛ قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره: "يُخبر تعالى بما مَنَّ به على عباده بأنه فرض عليهم الصيام، كما فرضه على الأمم السابقة؛ لأنَّه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كلِّ زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة بأنَّه ينبغي لكم أنْ تنافسوا غيرَكم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي اختُصِصْتم بها"[7].






قوله - تعالى -: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ:


هذه الجملة تعليلية فيها معنى المفعول لأجله؛ لأنَّ الغاية من امتثال هذا الأمر حصول التقوى، ولقد جاء الخبر هنا جملة فعلية، وهي تتقون، وهي صيغة الفعل المضارع، التي تفيد التجدد والحدوث؛ أي: إنَّ التقوى تتجدد من قبل صاحبها مع أنَّ أصلها ثابت والمراد الزيادة، ولقد حذف المعمول؛ وذلك لأنه معلومٌ، والتقدير: لعلكم تتقون عذاب الله - تعالى - وهذا هو معنى التقوى الذي قرَّره العلماء، وهو: أن يَجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقايةً بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.






والصوم من أكبر أسباب التقوى؛ وذلك لأمور:


1- أنَّ فيه تركَ الطعام والشراب والجماع وغيرها، مع العلم أنَّها أمور تَميل إليها النفس، والغاية التقرُّب إلى الله راجيًا بتركها ثوابه، وهذا من التقوى.


2- أن في الصوم مراقبة لله، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه؛ لعلمه باطلاع الله عليه.


3- أن في الصيام الإكثار من الطاعات، والطاعات هي من خصال التقوى.


4- أن في الصيام التعرُّف والتحسس لما يُعانيه الفقراء من ألَم الجوع والعطش، ففيه معنى المواساة لهم، وهذا من التقوى.






قال ابن القيم: "وللصوم تأثيرٌ عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحِميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصومُ يَحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويُعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]... والمقصود: أنَّ مصالح الصوم لَمَّا كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمةً بهم، وإحسانًا إليهم، وحِمْيَة لهم وجنة"[8].






قوله - تعالى -: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ:


من رحمة الله - تعالى - بهذه الأمة أنْ رَبَطَ أحكامَ الشريعة المكلفة بها بالاستطاعة؛ قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، وقال: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا ﴾ [الطلاق: 7]، فجعل الصيام أيامًا معدودات؛ أي: قليلات، ولم يَجعلها كثيرة؛ لئلا يشق على المكلفين، والواقع أنَّ الشريعة ليس فيها مشقة، وإن وجدت فهي مُحتملة كما قال العلماء، وإذا وصل بها الحد إلى المشقة غير المحتملة، سقط الواجب عندها؛ ولذلك قعَّد العلماء قاعدة: "لا واجب مع العجز".






قوله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ:


في هذه الجملة محذوف وتقديره: فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فأفطر، فعِدَّة من أيام أخر، وهذا يُسميه أهلُ العلم دلالة الاقتضاء، وهي توقُّف الكلام على مَحذوف لو لم يقدر، لكان الكلام مَعيبًا، وهذا القدر من الآية مُتعلق بالأعذار التي تُبيح الفطر في رمضان، فالمرضُ المبيح للفطر هو الذي يشق على المكلف معه الصَّوم، وهذه المشقة المصاحبة للمرض عند التلبس بعبادة الصوم هي التي تَجعل الحكم الشرعي مُتغيرًا من الإيجاب بالصوم إلى إباحة الفطر.






وعليه؛ فإنَّ المرض المقصود في الآية ليس كل مرض، وإنَّما هو الذي يترتب عليه المشقة والضَّرَر، أمَّا المرض الخفيف الذي ليس له أثر على المكلف عند التلبس بالعبادة، فليس مُعتبرًا في تغير الحكم الشرعي.






قوله - تعالى -: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ:


كان فرض الصيام في السنة الثانية للهجرة، وقد فرض على مرحلتين:


الأولى: التخيير بين الصيام والإطعام، والصوم أفضل، وهو الذي دلَّت عليه هذه الآية.


الثانية: تعيين الصيام وبَقاء الإطعام لمن لم يَستطع الصيام من الرجل الكبير، والمرأة الكبيرة، أو المريض الذي لا يُرجى بُرؤه، ولا يستطيع الصيام.






روى مسلم في صحيحه من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -[9] قال: "كُنَّا في رمضان على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من شاء صام، ومن شاء أفطر، فافتدى بطعام مسكين، حتى أُنْزِلت هذه الآية: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، وفي رواية قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.






وقد روى البخاريُّ عن ابن عباس قوله[10]: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أنْ يَصوما، فيطعمان مكانَ كل يوم مسكينًا، وهذا الذي قرَّره ابنُ عباس هو الذي يظهر لنا، وعليه فإن الآية متعلقة بالمرض الذي لا يُرجى برؤه، ويشق معه الصوم، وكذلك المكلف الذي بلغ من الكبر عتيًّا؛ بحيث لا يستطيع الصوم، ومن الجدير ذكرُه في هذا السياق أنَّ هناك من المكلفين مَن يدخل عليهم الخرف؛ بسببِ تقدُّمهم في السن، وهؤلاء على صُورتين: الأولى: أنْ يستحكمَ الخرف فيهم؛ بحيث يصبح المرءُ لا يعقل شيئًا، ففي هذه الحالة يرتفع عنهم التكليف، فلا صومَ ولا كفارة، والصورة الثانية: أنْ يكونَ حالُهم مُتفاوتًا، فيكون تارة عاقلاً، وتارة أخرى خرفًا، وهنا ينبغي التنبه إلى أنَّه مكلف حال كونه عاقلاً، فيجب أمره بالصوم، وإلاَّ فعليه الكفارة، وأمَّا في حالة كونه خرفًا، فإن التكليف يسقط عنه، فلا صَوْمَ ولا كفارة.






قوله - تعالى -: ﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ:


والتقدير: وصومكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون، وحذف مُتعلق بعد خير؛ لإفادة العموم، فالخيرية عامَّة شاملة لأمور الدين والدنيا.


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09-01-2022, 06:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية



قوله - تعالى -: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ:


أي: هذا الصوم يكون في شهر رمضان، وهذه فضيلة لهذا الشهر الكريم، وزاده فضيلة أخرى، وهي إنزال كتاب الله - تعالى - قال الشنقيطي: "لَم يبيِّن هنا هل أنزل في الليل منه أو النهار؟ ولكنَّه بيَّن في غير هذا الموضع أنَّه أنزل في ليلة القدر من رمضان في قوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، وقوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]؛ لأنَّ الليلة المباركة هي ليلة القدر على التحقيق، وفي معنى إنزاله وجهان: الأول: أنه أنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا، كما ثبت عن ابن عباس، الثاني: أن معنى إنزاله فيها ابتداء نزوله، كما قال به بعضهم"[11].






قوله - تعالى -: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ:


هدى هنا قد يكون حالاً، وقد يكون مفعولاً لأجله، وهنا الهدى ورد نكرة، والنكرة عند أهل العلم تعُمُّ، فهدايةُ القرآن عامة شاملة، والتنوين في هدًى للتعظيم، وهذا أسلوب معروف في القرآن أنَّ النكرةَ قد يُراد بها التعظيم، وقد يُراد بها التحقير، وكلاهما في كتاب الله - تعالى - أمَّا التعظيم فهنا مثاله، وأمَّا التحقير كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾ [البقرة: 96]؛ قال أهلُ العلم: النكرة هنا للتنويع، سواء كانت عزيزة أم ذليلة، المهم عندهم أنَّها حياة؛ قال السعدي: "هو القرآن الكريم المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية، وتبيين الحق بأوضح بيان، والفرقان بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلال، وأهل السعادة وأهل الشقاوة، فحقيقٌ بشهر هذا فضله"[12].






قوله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185]:


وهنا أعاد الرُّخصة؛ خشيةَ أنْ يظن أنَّها منسوخة بحكم ذكرها في الآية السابقة، وهي منسوخة على مَن قال بالنسخ، كما تقدم آنفًا، فقرر أنَّها ما زالت قائمة.






قوله - تعالى -: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [البقرة: 185]:


وهذه قاعدةُ الشريعة في الحكمة من التشريع، فإنْ قصد الشارع في وضع الشريعة أنْ لا تكليفَ بما لا يطاق، ولا تكليف بما فيه حرج، وقد ذكر أهلُ العلم أنَّ الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين:


الأول: الخوف من الانقطاع في الطريق وبغض العبادة.


الثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع.






قال الشاطبي: "اعلم أنَّ الحرج مرفوع عن المكلف؛ لوجهين: أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله، والثاني: خوف التقصير عند مُزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أُخَر تأتي في الطريق، فربَّما كان التوغُّل في بعض الأعمال شاغلاً عنها، وقاطعًا بالمكلف دونها، وربَّما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء، فانقطع عنها"[13].






لذلك كانت الصفة التي اتَّسمت بها الشريعة هي الاعتدال لتناسب العباد.






قال ابن كثير في تفسيره معلقًا على هذه الآية: "أي: إنَّما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار؛ لإرادته بكم اليسر، وإنَّما أمركم بالقضاء؛ لتكملوا عِدَّة شهركم"[14]؛ قال ابن الجوزي مُبينًا حقيقة المرض والسفر المبيحين للفطر: "ليس المرض والسفر على الإطلاق، فإنَّ المريضَ إذا لم يضر به الصوم، لم يَجز له الإفطار، وإنَّما الرحمة مَوقوفة على زيادة المرض بالصوم، واتفق العلماء على أنَّ السفر مقدر"[15].






قوله - تعالى -: ﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ:


قال الآلوسي: "﴿ ولتكبروا الله ﴾ عِلَّة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته، ﴿ ولعكم تشكرون ﴾ عِلَّة الترخيص والتيسير، وتغيير الأسلوب؛ للإشارة إلى هذا المطلوب بمنزلة المرجوِّ؛ لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله، وهو ظهور كون الترخيص نعمة، والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فواتِ بَركات الشهر، وهذا نوعٌ من اللفِّ لطيف المسلك قَلَّما يُهتدى إليه؛ لأنَّ مُقتضى الظاهر ترك الواو؛ لكونها عللاً لما سبق؛ ولذا قال: مَن لَمْ يبلغ درجة الكمال إنَّها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره، أمَّا على الأول فظاهر، وأمَّا على الثاني، فلِمَا فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف؛ لأنَّ الفعل المقدر؛ لكونه مُشتملاً على ما سبق إجمالاً يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل"[16].






قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186]:


وَجْهُ جَعْلِ هذه الآية بعد آيات الصيام أنَّ فيها إشارةً إلى أن الصيام والدعاء متلازمان، فإنَّ العبد خلال صيامه وقيامه وطاعته وبعده عن المعاصي والسيئات يكون قريبًا من ربِّه - سبحانه - وإذا اقتربَ العبدُ من ربه، استجاب دُعاءَه، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال[17]: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله قال: مَن عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلَيَّ عبدي بشيء أَحَبَّ إِلََيَّ مِما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلَيَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سَمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يَمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)).






وقوله: ﴿ عبادي ﴾ إضافة تشريف وتكريم لهم؛ إذ أضافهم إلى نفسه - سبحانه - وكان الجواب بلا واسطة؛ إذ الغالبُ في السؤال في القرآن يكون جوابه: قل، إلاَّ في هذا الموضع، وذلك للإشعار بأنَّ الله قريب إلى العبد بلا واسطة.






قوله - تعالى -: ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]:


هنا حذف المعمول؛ ليدلَّ على العموم، فالرشادُ يَحصل لهم في أمورِ الدين والدُّنيا؛ قال الشوكاني في تفسيره: "قوله: ﴿ فليستجيبوا لي ﴾؛ أي: كما أجبتهم إذا دعوني، فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعات، وقيل: معناه: يطلبون إجابة الله - سبحانه - لدُعائهم باستجابتهم له؛ أي: القيام بما أمرهم به، والترك لما نهاهم عنه"[18].






قوله - تعالى -: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187]:


هذه الآية استفاض في بيانِها المفسرون؛ لأنَّ فيها مسائلَ كثيرة؛ قال القرطبي في تفسيره: "فيه ست وثلاثون مسألة"[19]؛ قال الصابوني مُبينًا المعنى الإجمالي: "وقد يسر - تعالى - على عباده وأباح لهم التمتُّع بالنساء في ليالي رمضان، كما أباح لهم الطعام والشراب، وقد كان ذلك من قبلُ محرمًا عليهم، ولكنه - تعالى - أباح لهم الطعام والشراب، والشهوات الجنسية من الاستمتاع بالنساء؛ ليُظْهِرَ فضله عليهم، ورحمته بِهم، وقد شَبَّه المرأة باللباس الذي يستر البدن، فهي ستر للرجل وسكن له، وهو ستر لها؛ قال ابن عباس: معناه: "هن سكن لكم وأنتم سكن لهن"، وأباح معاشرتهن إلى طلوع الفجر، ثُمَّ استثنى من عموم إباحة المباشرة مباشرتهن وقتَ الاعتكاف؛ لأنَّه وقت تبتل وانقطاع للعبادة، ثُمَّ ختم - تعالى - هذه الآيات الكريمة بالتحذير من مُخالفة أوامره، وارتكاب المحرمات والمعاصي، التي هي حدود الله، وقد بيّنها لعباده؛ حتى يجتنبوها، ويلتزموا بالتمسك بشريعة الله؛ ليكونوا من المتقين"[20].






وأهم ما تتضمنه الآية من مسائل ما يأتي:


1- جواز مجامعة المرأة في أي جزء من أجزاء الليل:


ويلزم من ذلك أنْ يكونَ المكلف عند جماعه في آخر لحظة من الليل جُنُبًا أن يدخل عليه الفجر وهو جُنُب، وهذا لا يؤثر في الحكم، فقد ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنْ شرع في الصوم وهو جُنُب.






2- إباحة الأكل والشرب:


والآية وإن جاءت في سياق الأمر، إلاَّ أنَّه مُراد، وإنَّما المراد به الإباحة؛ لأنَّه أمر جاء بعد الحظر، والقاعدة عند الأصوليِّين: أنَّ الأمر بعد الحظر إباحة، أو أنَّه يعود إلى ما هو عليه قبل الحظر، وهنا يُنبِّه إلى أنَّ الفجرَ المقصود في الآية هو الفجر الصادق، الذي ينتشر أفقيًّا وليس عموديًّا، فإن الأخير يُعَدُّ كاذبًا، وقد جاء في الصحيح من حديث أنس: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن أم مكتوم))[21].






3- إن زمن الصيام ممتد من الفجر الصادق حتى غروب الشمس:


كما دَلَّ عليه الهدي النبوي، وعليه فإن المقصود من الليل في الآية التلبس بأول جزء من الليل وهو سقوط قرص الشمس وغيابه، وعند تَحقُّق ذلك شرع التعجل بالفطر؛ لأنَّه الهدي النبوي الكريم، وسبب للخيرية في الأمة، كما دل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يزال الناسُ بخير ما عجلوا الفطر))[22].






3- يشرع الاعتكاف ويتأكد في رمضان:


وخاصَّة في العشر الأواخر منه، كما دلَّت عليه النصوص النبوية، والاعتكاف شرعًا: لزوم المسجد؛ طاعةً لله، وله شروط وآداب مظانُّها كتب الفقه والأحكام، والآية دَلَّت على أن الاعتكاف إطارُه المسجد دون سواه، واختلف أهلُ العلم في المراد بالمساجد في الآية، فمن قائل: المراد بها جنس المساجد، فتكون (أل) التعريف فيها جنسيةً، وهو قولُ الجمهور، ومن قائل: إنَّ المرادَ بِها المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ومرجع الخلاف حديثٌ ثابت عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا اعتكافَ إلاَّ في المساجد الثلاثة))[23]، إلا أن الجمهور ردُّوا على هذا الاستدلال، وأجابوا عن حديث حذيفة بأنَّ المراد الأفضلية وليس الحصر، ومعناه: أنَّه لا اعتكافَ أفضلُ من المساجد الثلاثة.












[1] "التحرير والتنوير"، محمد الطاهر بن عاشور، ج1ص320.




[2] "إرشاد الفحول"، محمد بن علي الشوكاني، ج1ص222.




[3] رقم الحديث: 16.




[4] "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، ابن حجر العسقلاني، ج1ص136.




[5] "سير أعلام النبلاء"، الذهبي، ج3ص222.




[6] "مجموع الفتاوى"، شيخ الإسلام ابن تيمية، ج19ص115.




[7] "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص94.




[8] "زاد المعاد في هدي خير العباد"، ابن قيم الجوزية، ج2ص28.




[9] رقم الحديث: 1145.




[10] رقم الحديث: 4235.




[11] "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن"، محمد الأمين الشنقيطي، ج1ص73.




[12] "تيسير الكريم الرحمن"، مرجع سابق، ص95.




[13] "الموافقات في أصول الشريعة"، أبو إسحاق الشاطبي، ج2ص136.




[14] "تفسير القرآن العظيم"، ابن كثير، ج1ص295.




[15] "زاد المسير في علم التفسير"، أبو الفرج ابن الجوزي، ج1ص185.




[16] "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني"، ج2ص62.




[17] رقم الحديث: 6137.




[18] "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير"، ج1ص185.




[19] "الجامع لأحكام القرآن"، شمس الدين القرطبي، ج2ص314.




[20] "روائع البيان في تفسير آيات الأحكام"، ج1ص193.




[21] أخرجه مسلم، برقم: 2588.




[22] أخرجه مسلم، برقم: 2608.




[23] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم: 8357، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم: 2786.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 09-01-2022, 06:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (32)
بخاري أحمد عبده



قال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ï´¾ [البقرة: 183-185].

دين اليسر:
يقف المؤمن خاشعًا أمام قوله سبحانه ï´؟ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ï´¾ [البقرة: 185] ويستحضر - وهو يتمعن - كل صفات الجمال التي نعت (بالبناء للمجهول) بها رب العالمين، من حلم، ورحمة، وسلام، وود، وغفران، ورأفة … إلخ.

ومثل هذه الوقفة الخاشعة حرية أن تتداعي لها الآيات، وتتنادي لها الأحاديث التي تعمق الإحساس باليسر، والرفق، وسائر الألطاف التي تغمر البرية، قاصيها، ودانيها، تقيها وعاصيها. "ليس أحد أصبر على أذي سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدًا، وإنه ليعافيهم، ويرزقهم" البخاري. "... ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد" متفق عليه.

وألطاف الله كانت تملأ خاطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقد عاش يتطلع إليها، ويستمطرها ويشكرها ويهدي المسلمين إليها.

ولعله - عليه الصلاة والسلام - كان يعنيها وهو يسأل ربه النور الغامر "اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، واجعل لي نورًا) رواه الخمسة.

فليس ألطف، ولا أرق وأصفى من الأنوار الربانية ï´؟ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ.. ï´¾ [النور: 35].

والمولى سبحانه رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه) رواه مسلم. وفي رواية له أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: "عليك بالرفق وإياك والعنف، والفحش، إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه، ولا ينزع من شئ إلا شانه".

وشعار الإسلام الذي عليه خاتم محمد - صلى الله عليه وسلم - (بشروا، ولا تنفروا، ويسروا، ولا تعسروا) متفق عليه. وكمال هذا الشعار وثمرته "التطاوع والوفاق" فإنهما يدلان على السماحة، وطيب النفس ويسرها. أما التنافر والشقاق فهما صدي المتربة النفسية وضيق الصدر، والتطاوع، والوفاق تجدهما فيما رواه ابن أبي بردة قال: - بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا موسي، ومعاذا إلي اليمن فقال: يسرا، ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا، ولا تختلفا) متفق عليه. وليس معني هذا أن نعدل، ونغير في الحقائق ولكن المعني أن نوغل برفق، وأن نرعي عند التطبيق حسن المدخل، وننشد روح الإسلام حين يغزر عطاء النص.

ومبدأ التيسير المطلق الذي يسود آفاق الإسلام فوق أنه يوفر المناخ الصحي السلس الذي يطلق الطاقات يفسح - كذلك - مجالات الحرية، ويطلق أعنتها (بكسر العين وتشديد النون المفتوحة. جمع عنان) ذلك لأن التعسير تعتيم، وتقييد، وحد لفاعلية المعنويات التي تحفز للطموح، وتغري بالنهوض.

و الإسلام - حدا من أوزار المعسرة والتعسير - يكفل للمسلم كل الأجواء النقية التي تشرح الصدور، وتوفر الصحة النفسية. والصحة النفسية هي طيب النفس. وطيب النفس النعيم وانشراح الصدر، وانفكاكه عن الأوزار التي تشد إلي أسفل، وتصد عن السبيل، أول بواعث الوثوب وبشائر النجاح ï´؟ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ï´¾ [الزمر: 22].

وظني أن المولي جل وعلا إذ يقرر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقضايا شرح الصدر، ووضع الوزر، وتحرير الظهر، واذهاب العسر.. إنما يمن على الرسول الكريم بهذه النعم. التي تتيح له - صلى الله عليه وسلم -، وللمسلمين أن يمضوا أصحاء، أسوياء، مستبشرين، متخففين نحو الغاية المثلي التي حددت لهم ï´؟ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ï´¾ [الشرح: 1 - 8] نعم إذا خلص الإنسان من أوضاره، وفرغ من وطأة أوزاره فلا شئ يعوقه عن أن يكدح إلي ربه، وينصب في سبيل مولاه متخففًا من كل العوائق، متحررًا.

وإدراكًا لمغبات العسر كان - صلى الله عليه وسلم - لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا. فإن كان إثمًا كان أبعد الخلق عنه. مصداق ما جاء في الصحيح.

والعسر قد تبذر بذوره في طريقك. وقد تتصاعد أبخرته من أعماقك. وقد تنعقد سحبه في آفاقك منبعثة من عقلك، عالقة بأفكارك. ولعل الإسلام حين كره الشؤم والطيرة، والعيافة، والطرق[1]، وحين نفى العدوى، والهامة[2] وصفر والغول، أراد أن يحرر النفوس والعقول من وطأة هذه المعتقدات التي تكبل العقول، وتحجب الرؤية، وتقلل من حرية الحركة.

إن الإسلام حريص على محو درن العقول، وخبث النفوس، والعسرة التي تجثم في الصدور. وتحقيقًا لهذا أولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضايا الشعوذة، والخبال اهتمامًا زائدًا، وحذر في مواقف عدة عن الاستسلام المخزي لأفكار الجاهلية وعدها من الجبت "من السحر والكهانة". قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد" وقال فيما رواه أبو داود "العيافة والطرق، والطيرة، من الجبت".

اتقوا زيغة الحكيم:
والإسلام الذي حرر العقول من التبعية العمياء للآباء، والأجداد، والذي حرر من الأمعية، ومن الدوران الأصم في فلك المترفين أولي النعمة، أو المرموقين أرباب الألسنة النعمة، أو الأقلام أو الأفكار... حررنا كذلك من أن نظن العصمة ببشر خلا الرسول صلوات الله وسلامه عليه. فلا حصانة لفكر بشري، ولا قداسة لرأي بشري، ولا ثقة في علم بشري يستقي مقدماته من الرؤية القاصرة المحدودة، ويبني نتائجه على الاتفاقية فروض قد تشط وتجمح، وقد تضل، وتقصر، ولا في عالم قد تتعدد رؤاه فتلتبس أموره، وقد تتنازعه النوازع فيبعد عن الموضوعية. وقد... وقد... والقصور العلمي قدر البشرية ï´؟ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ï´¾ [الإسراء: 85] والقلة هنا تعني قلة الكم، وتعني ضآلة القدرة على الاستفادة بما نستظهر، فرب حامل فقه غير فقيه".

ولعل الإسلام وهو يذكر فتنة قارون بعلمه ï´؟ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ï´¾ [القصص: 78] وحين يركز على مصائر أقوام أثاروا الأرض، وعمروها، ونحتوا من الجبال، واتخذوا المصانع. ï´؟ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ï´¾ [الشعراء: 128-129] ï´؟ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا ءَامِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ.. ï´¾ [الشعراء: 146-149]، وحين يذكر فسوق كثير من الأحبار، والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، وحين يذكر افتتان أقوام بالأحبار، والرهبان ï´؟ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا... ï´¾ [التوبة: 31]... الإسلام بمثل هذا يستهدف تربية المسلم تربية استقلالية تكفل له ألا يعيش دهره ترسًا في عجلة.. يدور حيث دارت العجلة، أو ذنبا في "دبر" يبصبص، أو يرتفع وينخفض، ويهتز بإرادة حيوان، كيف وقد بوأك الإسلام الصدارة، وضمن لك مقام الشهادة، وأتاح فرص الخيرية المطلقة (لك الصدر دون العالمين أو القبر)؟

ولقد تشبع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الروح الإسلامية المتفتحة الفطنة، وصاغوا من روحهم، الوثابة، ومن تشبعهم بالرحيق السماوي، ومن وعيهم، وانتفاعهم بهدايات الإسلام، ومن رؤيتهم المقتبسة من النبعين الثريين، صاغوا وصايا حكيمة سديدة لتبقي مشاعل ومعالم على الطريق تتضافر كلها على توفير المناخ الصحي الذي تزدهر فيه شجرة الحرية.

أ- من ذلك ما رواه الدارمي بسند صحيح. عن زياد بن حدير قال:- قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال:- قلت لا. قال (يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الائمة المضلين). وكل واحد من هؤلاء الثلاثة ينطلق من موقع تأثير. إلا أن العالم قد لا يأمن - بعلمه - غوائل البشرية، وقد تثور في دمه أعاصير المادة والهوى فيتعثر، أو يزل ويسقط وينهار والإمام يغوى من موقع تأثير. والمنافق يماري ملوحًا بالكتاب الكريم ذي التأثير ولكن ليموه ويمكر ويخدع.

والمؤمن الحصيف ينبغي ألا يمزج بين الوعاء، والموعي (بضم الميم، وفتح العين) وألا ينسى أن الإناء قد يصدأ، أو يشرخ أو يشدخ ويكسر، ويتفتت، وارتباط المؤمن بالأشخاص ارتباطًا أعمى، وتلقفه لكل أقوالهم بلا تمحيص، يشل كياسته، ويعطل فطنته، ويعجز حركته، ويسكب حريته - المذابة - في إناء غيره ليعيش مسلوب الحرية إمعة، ليعيش ذيلًا.

ب- ومن ذلك ما رواه يزيد عن عمير قال:- كان معاذ لا يجلس مجلسًا للذكر إلا قال:- الله حكم قسط. هلك المرتابون. فاحذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق الحق. قال - قلت لمعاذ: وما يدريني؟ فقال:- اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال فيها ما هذه، ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع الحق. وتلق (بفتح اللام وتشديد القاف) إذا سمعته، فإن على الحق نورًا) فتح المجيد ص 273.

وظني أن معاذًا رضي الله عنه يشير (بزيغة الحكيم) إلي زلة العالم، ويدعو إلي موضوعية العلم، والتحرر من كل تأثير خارجي.

وهذه الآثار التي ذكرناها، أو ألمحنا إليها، تتضافر كلها لتعلن:-
1- إن الإسلام - برغم وضوح معالمه، ودقة نصوصه، وتحدد أهدافه - فيه مجال للنظر وتعدد الرؤي بشرط ألا نتجاوز النطاق الذي تفرضه النصوص القاطعة الصحيحة.

2- وأن المسلم إذا تشعبت أمامه السبل يتحري المسلك الأيسر الذي يصل به إلي الغاية مظللًا (بضم الميم، وفتح الظاء، وتشديد اللام الأولي مفتوحة) بالسكينة، مجنبًا مشاكل الوعورة، وبواعث اللهاث.

3- وأن الرفق:
(‌أ) أن ترفق بنفسك (التي بين جنبيك فلا تكلفها شططًا، ولا تحملها من البلاء ما لا تطيق، ولا تزج بها في دياجير الشعب، ومخاطر المشتبهات … إلخ.

(‌ب) وأن ترفق بغيرك فتجبر كسره، وترعى جوانب ضعفه في كل المواقف (رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشتري، وإذا اقتضي) رواه البخاري.

والرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يدعو إلي السماحة المترفقة:
(1) يؤكد مضمون الآية الكريمة ï´؟ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ... ï´¾ [البقرة: 280].

(2) ويحدوك عليه الصلاة والسلام إلي أفعال المولى جل وعلا الذي يجيب المضطر ويكشف السوء، ويغفر لكل من اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم.

ومن الرفق بالغير أن تهديه إذا أدلهمت - عليه - السبل، وأن تختار له إذا التبست - عليه - الأمور، وأن تغضي عن هنأته، وتصفح عن صغائره، وألا تتبع عوراته، أن تهتم به، وبمصالحه، حاضرًا معك أو غائبًا عنك.

4- وإن الاسلام أشبع، وأغني، فلا عطاء يعلو على عطائه ولا اجتهاد في حضرة نصوصه، ولا طاغوت يرعي في ساحته.

5- وأن الناس خلفاء، يخلف اللاحق منهم السابق. والذوات تعظم، أو تصغر بمقدار قربها، أو بعدها من الله، وهداياته، وشريعته. وأن القيم التي علا بها العالون باقية، وأن نعمة الوعي التي فقه بها الأولون ماضية، وأن كلمات الله التي اعترفوا منها لا تنفد.

6- وأن روح الإسلام تخفق من حول المسلمين، وتنعش في سمواتهم فلا يمكن لعين مؤمنة أن تخطئها. وهي الملاذ أن تعددت الرؤي، وكثرت المفاهيم.

7- وأن رائد المسلمين دائمًا أحاديث رسول الله، ومنها ما رواه ابن مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما: (نضر الله عبدًا سمع مقالتي، فحفظها، ووعاها، وأداها: فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلي من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل[3] عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم".

يتبع،،


[1] العيافة: زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها، والطرق نوع من التكهن. ومنه الضرب بالحصى، والخط في الرمل، واللعب بالودع ونحوها من التمائم... والغول واحد الغيلان وهي جنس من الجن، والشياطين. وكانت العرب تزعم أن الغول يتراءى للناس في الفلاة وتتلون لهم تلوناً في صور شتى وتضلهم عن الطريق وتهلكهم فنفاه النبي، وأبطله. فتح المجيد ص310

[2] الهامة اسم طير كانوا يتشاءَمون به، أو إشارة على ما كانوا يعتقدون من أن روح الميت تنقلب هامة تطير. وصفر ما كانوا يعتقدون من أن في البطن دابة تهيج عند الجوع وربما قتلت صاحبها.. إلى غير ذلك من قولهم أنه العدوى، أو حية في البطن، أو ما كانوا يعتقدون من أن شهر صفر شهر شؤم.

[3] لا يدخله حقد، ولا يخون، والمعنى أن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر. أ.هـ «مشكاة».



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 14-01-2022, 11:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن




أحمد مظهر العظمة



بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]


في ليلة مباركة من شهر رمضان الذي كان سيدنا محمد يأوي فيه إلى غار حراء، يفكر فيه فيما كان يرى ويسمع من قومه، مما ينكره لبه ولا يميل إليه قلبه، ويمعن في هدوء الغار أمام جمال السماء وجلال الجبل، بآلاء مَن خلَق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعَله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة، فخلق العلقة مضغة، فخلق المضغة عظامًا، فكسا العظام لحمًا، ثم أنشأه خلقًا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين[1]؛ في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر - تنزل القبس الأول من شعلة النور الإلهي، يحمله الوحي إلى رسول العرب والعجم (صلى الله عليه وسلم)، كما يحمل الفجر هدية ذُكاء إلى النهار.

تنزل القبس الإلهي في نور من الكلام، ألفاظه مصابيح الهدى، لتكون الأرض كالسماء: لهذه كواكب تضيء، ولهذه عباد صالحون، يملؤونها حقًّا وعدلاً وجمالاً، بعد أن ملئت باطلاً وظلمًا وظلامًا.

كلمات وجمل، حية خالدة، عملها أن تثير في النفوس إعجابًا لا ينتهي، ونشوة لا تنقضي، وعلمًا لا ينفد، وإيمانًا لا شك معه ولا فتور ولا ضعف، كلما زدتها نظرًا، زادتك إعجابًا ونشوة وعلمًا وإيمانًا... وانتهت بك إلى معانٍ للإعجاز خلفها معانٍ، كأنها (اللانهاية) لا تقف فيها على حد مهما طويت بُعدًا وبذلت جهدًا!

وإن كتابًا عربيًّا على ذلك كلماته وآياته، كيف تنتهي بيناته ومعجزاته؟ وكيف لا يجعل أمة لها للبيان أسواق، ولناشئها فيه أحكام بلغت من لطف الذوق وقوة الإمعان وسلامة الرأي، ما لم نسمع له مثيلاً في آداب الأمم الأخرى[2]، كيف لا يجعلها تؤخذ أخذًا لا تجد عنه سبيلاً؟ حتى كان فيها مَن يسجد لبيانه إذا تليت عليه آياته، كما كان ذلك حين سمع أحدهم قارئًا يقرأ: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ﴾ [النجم: 1][3]، ومن أروع ما يروى في هذا الصدد: أن الوليد بن المغيرة والأخنس بن قيس وأبا جهل بن هشام، وهم من أكابر بلغاء قريش، سمعوا ليلة آيَ الذِّكر الحكيم يتلوها النبيُّ عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهو يصلي في بيته، وانصرفوا صباحًا، فجمعتهم الطريق، فتلاوَموا وقالوا: إنه إذا رآكم سفهاؤكم تفعلون ذلك، فعلوه واستمعوا إلى ما يقوله، واستمالهم، وآمنوا به، ولكنهم عادوا في الليلة الثانية، ولما أصبحوا، جمعتهم الطريق، فتحالفوا ألا يعودوا لمثل ما فعلوا، فلما تعالى النهار، جاء الوليد بن المغيرة إلى الأخنس بن قيس، فقال: ما تقول فيما سمعت من محمد؟ فقال الأخنس: ماذا أقول: قال بنو عبدالمطلب: فينا الحجابة، قلنا: نعم، قالوا: فينا السدانة، قلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، يقولون: فينا نبي ينزل عليه الوحي، والله لا آمنتُ به أبدًا، فصدته العصبية كما ترى عن الحق، والوليد بن المغيرة هذا هو الذي طلب إليه أبو جهل أن يقول في النبي صلى الله عليه وآله قولاً يبلغ قومه أنه له كاره، وكان قد سمع منه القرآن، فقال: ماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برَجَزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمِر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدَعْني حتى أفكر، فلما فكر قال: (هذا سِحر يؤثر، يأثره عن غيره)، وخير من هؤلاء عمرُ بن الخطاب الذي انقلب إلى الإيمان بالقرآن، وقد جاء ليصد عنه ولينكل بمن آمن به.
• • •


اجتمعت لغات الغرب ببيان القرآن، على أفضل ما يمكن أن تجتمع عليه من الكمال، فبقي منها الصالحُ للبقاء، وذهب الزبد جفاءً، وكشف بمعانيه ما كان في صدورهم من غِلٍّ، وما يدور بينهم من شَحْناء، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، ولبث يؤثِّر فيهم تأثيرًا عامًّا برِفْق وحكمة وأناة، حتى يفقهوا الإسلام فقهًا صحيحًا، ويقفوا على أغراضه، ويسعَوا إلى غاياته، فيحملوا راياته من الصحراء إلى الظل والماء، ويحوطوها بهمم وعزائم وثبات، إلى أن يوفوا على القصد فيبلغوا كلمتها سليمة كما أنزلت ففهموها بلغتها وبلاغتها، ويجعلوا الأمم كلها تشترك في بناء جنسية قلوب مؤمنة بالله، عربية بلسان كتابها العربيِّ المبين، ولكن ليست عصبية ما دامت لقلوب أمم وسلامة أوطان.
• • •


كذلك أخذ القرآن يؤثِّر في العرب، حتى خلقهم خَلْقًا جديدًا، قرآنيًّا، فأصبح القرآن مناجاة الصلاة، وإلهام الخلق، وسنَّة الحكم، ومنهاج العمل، ووحي الأدب، ولسان الدعوة، ونشيد الجهاد، وأصبح العرب معانيَ للفضائل في صور البشر، هبت على العالم، فملأته عطرًا من أنفاس الحق والخير والجمال.
• • •


وقد تعهد المسلمون كتابهم عملاً وحفظًا ودرسًا وتلاوة، حتى كان لهم به من معارف العلوم والفنون الشيء الكثير، وبلغ تفسير أحد مفسريه مائة مجلد، وكان منهم من يختم تلاوته في شهرين، ومنهم في شهر، وفي عشر ليال، وفي ثمان ليال، وفي سبع - وهذا أفضل الأكثرين من السلف - وفي ست، وفي خمس، وفي أربع، وفي ثلاث، وفي يوم وليلة، وبلغ أبعد من ذلك أن الكاتب الصوفي[4] روى أنه ختم أربع ختمات في الليل، وأربعًا في النهار، وممن كان يختمه في ركعة: عثمان بن عفان، وتميم الدَّاري، وسعيد بن جبير، رضي الله عنهم.

وتدبر القرآن هو المقصود بالتلاوة، ولا جرم أن الناس يتفاوتون في تدبرهم بتفاوت مداركهم وأشغالهم، كما يختلف التدبر نفسه بمعانيه الدانية القطوف أو البعيدة المنال.

وخير لمن يظهر له بالإمعان في قراءة القليل مع الاتئاد، ما لا يظهر له في قراءة الكثير مع الإسراع: أن يقتصر على قليله؛ فإن قليله جليل، والعبرة (للكيفية) لا (للكمية)، وفي الأثر لا في النظر، وقد كان من السلف من يتلو الآية الواحدة ليلة أو معظمها يتدبرها، وكان ضياء الدين بن الأثير أحد أئمة البلاغة وصاحب كتاب المَثَل السائر، يختم القرآن مرة في الأسبوع، وزاد إمعانه فيه، فأخذ يقرؤه مرة في الشهر، وقوي تدبره إياه، فجعل يقرؤه مرة في السنة، وغاص في طلب درره، فأتى عليه سبع سنين، لم يبلغ فيها بلاغة كلمه وحروفه فحسب، لا معجزاته الخلقية والعلمية والاجتماعية...
• • •


وإن مما يحز في النفس، أن نرجع البصر اليوم إلى شباب الإسلام - وهم أملنا في الغد - فنرى كثيرًا منهم يتعثر لسانه في قراءته، كأنه يسير في طريق لاغب، فكيف لا يتعذر عليه بعد ذلك تدبره، وكيف ترجو أن يكون على خير، وقد أحاط به التواءُ العصر وتيهه من كل جانب، فأصبح كبيئته: بلسان ملتوٍ، وجنان تائهٍ، وآمال كخضرة الدمن؟

وهكذا ضعفت قراءة القرآن فضعف البيان، وهانت النفوس، وكلَّت العزائم، وفشلت السياسة، وهكذا كانت الرطانة جرثوم المرضى، وعلاجها بالقرآن ثابت؛ إذ ما جرت البلاغة على لسان أو قلم كاتب بالعربية مسلم أو غير مسلم، إلا وجرى من قبلها القرآن على لسانه، وجرى منه إلى نفسه نوره الذي يشرق فيما يخرجه من آثاره للناس.

المصدر: مجلة التمدن الإسلامي، السنة الثالثة، العدد السادس، 1356هـ - 1937م


[1] اقرأ تفسير أصل الآية العجيب للأستاذ الحكيم داود الأنطاكي، المتوفي سنة 1008، وقد نقلها المرحوم النابغة الأستاذ الرافعي لكتاب: إعجاز القرآن، ص 173.

[2] من ذلك أن الخنساء نقدت حسان بن ثابت في سوق عكاظ حين أنشدها قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ولدنا بني العنقاء وابني محرق
فأكرِمْ بنا خالاً وأكرم بنا ابنما

فقالت له: ضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع، قال: وكيف؟ قالت: قلت (لنا الجفنات) والجفنات ما دون العشر، فقللت العدد، ولو قلت: (الجفان) لكان أكثر، وقلت (الغر) والغرة: البياض في الجبهة، ولو قلت: البِيض لكان أكثر اتساعًا، وقلت: (يلمعن)، واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو: (يشرقن) لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت: (بالضحى) ولو قلت: (بالعشية) لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت: (أسيافنا)، والأسياف: دون العَشر، ولو قلت: سيوفنا كان أكثر، وقلت: (يقطرن) فدللت على قلة القتل، ولو قلت: (يجرين) لكان أكثر لانصباب الدم، وقلة: (دمًا) و(الدماء) أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت، ولم تفتخر بمن ولدك، (فتأمل).

[3] حدثنا الأمير شكيب أرسلان حفظه الله عن فتاة ألمانية كانت تسمع في الآستانة القرآن مِن قارئ تركي حسن الصوت، ولما أتم قراءته قال للأمير وقد شهدها تبكي: ما يُبكي هذه أهي موسيقية؟ فسألها الأمير فأجابت: لقد سمعت ما لم أسمع له مثيلاً، وأرجو أن تدعوني لسماع هذا القارئ كلما دعوته للقراءة، فتأمل في موسيقا القرآن وتأثيره منه حتى في الأعاجم.

[4] كتاب الأذكار للنووي.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 17-01-2022, 10:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (34)
بخاري أحمد عبده




قال تعالى:-

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].



النفحات التي تُزجيها هذه الآيات نفحاتٌ ذات شجون[1]، وهي وإن خُيلت (بالبناء للمجهول) مشرقة مغرية، أو تبدَّت للرائين منتشرة متفرقة - حلقات يمسك بعضُها بحُجَز بعض وتدور كلها - من قريب أو من بعيد، حول المحاور الخلاَّقة التي استبانت لنا منذ الوقفة الأولى، وتعينت أصولاً، ومعالم تحدِّد المسار، وتشي بالغاية.



ولقد وقفنا - في المقال الماضي - وقفةً متأنية حِيال مقدَّسات الإسلام الزمانية والمكانية، وعرضْنا للتفاعل المهيب الذي ينتظم الإنسانَ المؤمن، والمقدسات، ورأينا آثار ذلك التفاعُل جلاءً للبصائر، وتزكيةً للأفئدة، وتنشيطًا للدورة الإيمانية في الكيان، وتجديدًا لقوى الرُّوح، وتقوية لمعنويات الدَّاعية حتى يدعو من مركز مطمئنٍ، مرموق، متجاوبًا مع استعدادات زمانه ومكانه، بأسلوب يوفق ويحقق الانسجامَ بين حقائق الإسلام الثابتة وبين مطالب الظروف الزَّمانية والمكانية المتغايرة، وأحجام الناس المتفاوِتة.



والداعية الذي لا يَعِي الحقائقَ، ولا يقدِّر الظروف، ولا يستبين الأحجام، داعيةٌ يصرخ - كما يقولون - في وادٍ، وينفخ في رمادٍ، وينعق بما لا يُفهم - بالبناء للمجهول - هو داعيةٌ أصم، أعمى، مشلول.



الثرى والثريا:

وأستطرِدُ مرةً أخرى[2] معتذرًا، وقبل أن أضع النقط على الحروف - فأعود إلى "الظروف" الزمانية والمكانيَّة، والواقعية التي تلابس حياةَ الإنسان فتؤثِّر وتُغير، وتُعلي وتخفض، وتبني وتهدم؛ عسى أن يكون الحديثُ المستفيض هدى لفئاتٍ تعيش على هامش الزَّمان والمكان، دون أن يبلوا الواقع، أو يقدروا الظروف، ذيولاً أو نفايات تحت السَّنابك والعجلات، ولقد علمنا أنَّ آفة المسلمين ومشكلة الإسلام تتركَّزانِ في الجاحدين من أبنائه وفي الجامدين.



أمَّا الجاحدون فمثلهم كمثل الذين ينكرون الرُّبوبية والألوهية، ينكرون وجود سلطةٍ غيبية وراء الطبيعة تتحكَّم في الكون، وتصرِّف وتدبِّر، والقرآن الكريم وهو يزرع في القلوب شجرةَ التوحيد لم يعرض لهؤلاء الجاحدين كثيرًا تحقيرًا لشأنهم، وتسفيهًا لمذهبهم الذي يَتَعارَض مع الفطرة والعقل.



وأمَّا الجامدون ففي كثيرٍ منهم إخلاصٌ، وعند كثير منهم غيرةٌ على الدِّين وحب للإسلام، إلا أنَّ إهمالَهم لعامل الظُّروف المكانية والزمانية والواقعية أبطل فاعليةَ ذلك الحب، وعَزَلَهم عن روح الإسلام المَرِن الفينان، وأوقفهم موقفَ الدُّبِّ الذي قتل صاحبَه؛ ظانًّا أنه يذُب عنه.



واعتبارًا لجوانب الخير الدفينة، ينبغي ألا نقطعَ عنهم أناتنا، وأن نواليهم حتى تلتئمَ الحلقة التي تآكلت فقطعت التيار، وأفقدت الفاعلية والإبصار، وحصرتْهم في قواقع خانقة خالوها الوجود فحجروا الدِّين، وجهلوا عمومية الإسلام وشموليته، وأسفُّوا (بفتح السين وتشديد الفاء المضمومة) فرضُوا بأن يكونوا مع الخوالِف قيد الأوهام والأحلام، وإذا قُدِّر لهم أن يغوصوا ففي الحفر مع الديدان والهوام، وإذا حلَّقوا كان سماؤهم المهدي المنتظر آية آخر الزَّمان، ولا غرابة فقدْ شاهدناهم، واستمعنا لهم في حضرة عالمٍ كبير شدُّوا إليه الرِّحال، وعبروا البحارَ ليسألوه عن أجساد الأنبياء، هل تأكلُها الأرض فتبلى؟ وعن درجة الكفر الذي يتبوَّؤها منكِرُ المهدي المنتظر، وعن عدد الذبذبات التي ينبغي أن تصدرَها السَّبابة والمصلي في وضع التشهد[3]... إلخ، أي بؤس هذا؟ وأي انحدار؟ ذلك وعدونا يقطعُ بمراكبِه أجوازَ الفضاء، ويحطُّ على الزهرة والمريخ، ويرى ويسمع بالأقمار، فما أبعد الثَّرى من الثُّريَّا!



إنَّ الله أرسل رسولَه بالهدى ودين الحق ليظهرَه على الدِّين كله، وكلمة "الدين" بأداتها "أل" التي تفيد الاستغراق ويتابعها "كله" الذي يفيد التوكيد، تعني كافَّةَ المذاهب، والأيديولوجيات الغابرة والمعاصرة سماويها وأرضيها، ولكن الدين نزل رفيعًا ظاهرًا وانتشر، وتمكَّن رفيعًا ظاهرًا، فما معنى "ليظهره



إنَّ الدِّين هو المعتصَم والملاذ والمعراج، وإظهاره يعني - ضمن ما يعني - ظهور الملتزمين، ورفعة المعتنقين؛ ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]، ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ﴾ [الزخرف: 44].



والمصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - عاش ما عاش يُجاهد كي يرفع النَّاس إلى مستوى الدين.



وظني أنَّ من ظلَّ قانعًا بالوِهاد، يعطي الدنايا منكسًا وضيعًا، ينبغي عليه أن يقوِّم (بتشديد الواو المكسورة) من جديد درجةَ انتمائه للإسلام الرفيع العزيز.





إِذَا أَنْتَ غَمَّتْ عَلَيْكَ السَّمَاءُ

وَضَلَّتْ حَوَاسُكَ عَنْ صُبْحِهَا




فَعِشْ دُودَةً فِي ظَلاَمِ الْقُبُورِ

تَغُوصُ، وَتَسْبَحُ فِي قَيْحِهَا








درس كوني على الطريق:

تعاقبُ الليل والنهار ظاهرةٌ كونيَّة تطوي وتنشر كلَّ الكائنات، وهي ظاهرةٌ معلومة بالضَّرورة، ورغم هذا أطال القرآنُ الوقوفَ عندها، والتمعُّن في أعراضِها وآثارها، تلمَّسْ هذا وأنت تتدبر مثل قوله - تعالى -: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 5]، ومثل قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ﴾ [الأعراف: 54]، ومثل قوله - سبحانه -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62].



ومثل قوله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس: 37 - 40]



وظنِّي أنَّ مثل هذه اللفَتات الكريمة فوق أنها تبصِّر بعظمة الله، وقدرته وعلمه، وفوق أنها تربِّي في المسلم القدرةَ على التأمُّل والتدبُّر والبحث العلمي - تربط النَّاسَ بما وراء هذه الظاهرة من:

1- مضاء الزَّمن: كالسيف القاطع، واختراقه أحشاءَ كلِّ الكائنات.



2- مضيه: كالبرق الخاطف، وتقلبه بما حوى وأوعى بكلمة الله الذي قدر المنقلب والمثوى ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44]



3- ومن: تأثيره وتغلغل إشعاعاته في الأعماق بشكل يورِثُ اللهاث، ويورد المُنْقَلَبَ المحتوم منقلبَ المعرضين، أو منقلبَ الشَّاكرين؛ ﴿ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144].



وتروعك - خلال الآيات - الحركةُ الدائبة، والحيويَّة الفيَّاضة، والنبض الذي تجد صداه في قلبِك حين تندمج في الآيات، وتنفذ منها إلى الحياة، ثمَّ تُشد - بالبناء للمجهول - بأسبابِها إلى الممات، وتستهويك الإيحاءات الدَّقيقة التي تنبعث هادية مُعبرة، ومن تلك الإيحاءات:

1- أنَّ الكون فلكٌ دوَّار، وأنَّ كل ما فيه يدور تلقائيًّا، وبالتَّبعية.



2- وأنَّ من فقد الحركة الذاتية فلم يدر طوعًا، انفردت به التبعية فدار كرهًا بلا اتِّزان ولا انضباط ولا إرادة، وتبارك الذي ﴿ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11].



3- وأنَّ الكائنات - ولا سيما الأناسي - لم توجَد لتظلَّ خامدة هامدة، بل لتنتعش وتنشطَ حول محاورها - محكومة بسنن الله، وقوانينه التي تحل في الزمان وفي المكان - مستبقة جادة حتى مغرب الشمس ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ [يس: 40].



ولعلَّ من مظاهر الاستباق الذي تخوضه الكائنات:

1- اختلاف الليل والنهار طولاً وقِصَرًا حسب تباين الفصول، أو مواقع البلاد.



2- واختلاف الصَّيْف والشتاء وغيرهما من الفصولِ ضِيقًا واتساعًا، وحرارةً وبردًا.



3- واختلاف البِقاع المحكومة بقوانين الله في الزَّمان والمكان، ازدهارًا وإقفارًا، وامتلاءً وخَواءً، وقوةً وضعفًا.



4- وامتداد النهار في بعض البلاد، والتفاف بلادٍ أخرى في ليل طويل.



نحو حتفه بظِلْفِه:

إنَّ الكون بكلِّ مفاعلاته ومحتوياته، يستحث الخُطى إلى الأجل المسمَّى الفاغر فمه:

1- ليلتقمَ الأفراد ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78].



2- وليلتقم الأُمم ﴿ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ [الحجر: 5].



3- وليلتقم القُرى ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴾ [الحجر: 4].



مصايرُ مبصرة تتربَّص بكلِّ الكائنات، يسجلها المولى بارزةً كي ترتفعَ زاجرة، واعظةً محرِّكة للضمائر موقظة من السُّبات العميق ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 45، 46].



هكذا تتدافع الكائنات، ويخلفُ اللاحِقُ السابقَ ليؤثر كما تأثر، وليرْبِي التراث الذي آل إليه حتى يؤول إلى غيره أربى وأرحب، ولقد اقتضتْ حكمة الله التدرجَ في إيجاد الكون، وإشارة إلى أنَّ الحكمة في هذا أجل من أن تعيها العقولُ المحدودة يختم الله الآيات التي تعكس مشهدَ الخلق بقوله: ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [يس: 38]، ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [فصلت: 9 - 12].



واقتضت حكمتُه كذلك أنْ يظلَّ هذا الكون متغيرًا متطورًا نشطًا، حتى يعدو الإنسان قدرَه ويعيد ظنه، ويعميه غرورُه، ويبلغ الذروة التي تشرف على الهاوية؛ ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].



كن على سفر:

روى البخاري عن علىٍّ - رضي الله عنه - أنه قال: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مُقبلة".



وارتحال الدُّنيا على أجنحة الليالي والأيام حقيقةٌ ملموسة، أمَّا ارتحال الآخرة فأمرٌ اعتباري، فهي تدنو منك بقدر ما تبتعد أنت عن الدُّنيا، بقدر ما يتناقص عمرُك، تمامًا كما تدنو البقعةُ المطلوبة من المسافر كلما طوى نحوها الأشواط، والدنيا المرتحلة كالمركبة المتحرِّكة لا بد أن يسايرَها الراكبُ بكل كتلته، متجاوبًا متأثِّرًا منسجمًا، فإنَّ فَقَدَ الانسجامَ فَقَدَ اتزانَه وانقلب.



وعلي - رضي الله عنه - استعار هذا التصويرَ من نبينا - عليه الصلاة والسلام - الذي ألمح إلى أنَّ قدر الإنسان يكون دائمًا متحرِّكًا غيرَ جامد، وأنَّ الأيام مركبُ الأنام إلى مراميهم، فقال فيما رواه أحمدُ وابنُ ماجه والترمذيُّ عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((ما لي وللدنيا؟ وما أنا والدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت ظلِّ شجرة ثم راح وتركها))[4].



ذلك لأنَّ الدنيا المتغيرة المتلاشية عَرَضٌ زائل وَفْقَ ما روى عمرو - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب يومًا فقال: ((ألا إنَّ الدنيا عرَض حاضر يأكل منه البَرُّ والفاجر، ألا وإنَّ الآخرة أَجَلٌ صادق ويحكم فيه مَلِكٌ قادر...))[5].



ويجدر - قبل أن نمضي - أنْ نومئ إيماءً إلى إيحاءِ كلمات: "راكب" و"استظل" و"راح وتركها"، فكلها كلماتٌ تشي بالحركة والعلو، وبأنَّ المؤمن لا يهمِلُ الدُّنيا إهمالاً، بل ينعم ببردها ويستظل بظلِّها، وبأنَّ حق اتخاذ القرار مكفولٌ للمؤمن، هي المقبلة، وهو باختياره بعوض "راح وتركها".



والدُّنيا ككل الأعراض حائلة ثائرة، متقلِّبة تضم فتحنو، وتغط[6] فتعصر، وتطوي وتنشر، والمرء - كي يأمن - لا بد أنْ يكون مرنًا، يحسن استخدام القوى الفعَّالة التي حباه الله بها، والتي تعتم في داخله، فإذا تجاوب مستمسكًا بعرى الإسلام، مسترشِدًا بنور الإيمان بَذَّ الأقرانَ وسبق، وإلا اختلَّ توازنُه وسقط نهب المدى، وتحت الأقدام، ولا يكفيه أن يتعلقَ بأذيال القادرين.



والحركة في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - "مالي وللدنيا..."، تبدو وكأنَّها تنبعث من الرَّاكب وحده - فهو الظَّاعن[7]، وهو المستظِلُّّ، وهو الرَّائح التارِك - والحقُّ أنَّ الدنيا هي المركب، وعلى متنها العريض الممتد تنتظم أفواج بعد من بعد أفواج، ولكلِّ فوج "محطته" الأخروية، ومنزله المحتوم، أما القطار - بعرباته الجمَّة - فماضٍ حتَّى يأتي أمرُ الله.



الحركة إذًا في الأصل حركة المركب، أمَّا الراكب فتابِعٌ، ودوره التنسيق وإيجاد الانسجام، واستثمار حركة المركب والركب، في هدي الدين على النحو الذي يرضي المولى - جل وعلا - ويحقق الخلافة.



وهؤلاء الذين يعمرون الدنيا - متعاقبين - معادنُ متفاوتة، وهم - متكاملين - يتبعون مركزَ الخلافة في صياغة هذه الدُّنيا، واللاحقون - بحكم انتفاعهم بتراث السابقين، وإثرائهم للتراثِ بما استحدثوا وجمعُوا وأوعوا - أوضحُ رؤية، وأضبط حركة، وأحسن مرتفقًا، وأعظمُ مسؤولية من السابقين، وهم - بما أتيح لهم - رُفعوا (بالبناء للمجهول) درجات دنيوية عن الأولين، فبلاؤهم أشدُّ، ومحنتهم أجلُّ، وظني أنَّ هذه المعاني هي التي تسبق إلى خواطرِنا حين نتدبر قولَه - سبحانه -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 165]



إنَّ كل جيل يضيف من ثقله على مواقع السَّابقين فترْبُو وتعلو، ويحتاج شاغلوها المتميزون بصياغة فكريةٍ جديدة، إلى عطاء متميِّزٍ جديد.



(طابع الأرض، وصبغة الظروف):

مما رواه أحمدُ والترمذي عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّ الله خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدمَ على قدر الأرض، فيهم الأحمرُ والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث، والطيب)).



فالإنسان - كما يقولون - طرْحُ الأرض ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ... ﴾ [طه: 55]، وهو - كالأرض - يخضع لعوامل التَّعرية، وعوامل التنمية ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5]، وهو - ككل ما تنبت الأرض - قد يمسخ شجرة خبيثة، وقد يسمق شجرة طيبة أصلُها ثابت، وفرعُها في السماء تؤتي أكلَها كل حين بإذن ربها.



ولكنَّ الإنسان - مع هذا - حفيدُ أمسه ووليد يومه وصدى ظروفه، فصِلَتُه بماضيه وثيقة، وصلته بحاضره أوثق، لأنَّ الماضي بجميع أحواله رافد من روافد الحاضر، وملامح الماضي دائمًا ترتسم على مُحَيَّا (بضم الميم، وفتح الحاء، وتشديد الياء) الحاضر، وعلى ضوء هذا البيان يمكن أن نفهم ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس أكرم؟ قال ((أكرمهم عند الله أتقاهم)) قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فأكرمُ النَّاسِ يوسف نبيُّ الله، ابن نبي الله ابن نبي الله، ابن خليلِ الله))، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال: ((فعن معادنِ العرب تسألون))، قالوا: نعم، قال: ((فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا))؛ متفق عليه.



والمعنى: أنَّ أريج الأصول العَطِر يزكِّي الفروع، وأنَّ الماضي يفرغ من شرِّه وخيره على الحاضر، وعبارة "إذا فقهوا" تشير إلى اصطباغ الشخصية بصبغة الظروف.



شخصية الإنسان إذًا تتأثر بالتَّاريخ وبالزمان والمكان، وبالظروف المادية والمعنويَّة الملابسة.



وليس معنى هذا أنَّ الأناسيَّ الذين تجمعهم مؤثراتٌ متماثلة يتساوون بالضرورة، كيف وهناك حظ الإنسان من أمه الأرض؟ هذا الحظ الذي يختلف قوةً وضعفًا، كثرة، وقلة، ويدق دقة التغاير الذي بين نبرات الأصوات، أو بين بصمات البنان ﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 4] إنَّ لميراث الأرض وزنًا بين الصفات المتفاعلة التي تبني شخصية أي إنسان.



ونبادرُ فنعلن أنَّ هذا التفاعل الحيويَّ سنةُ الله في الكون والكائنات، فهو بعيدٌ كل البعد عما ادَّعاه الطبيعيون أصحاب شعار: ﴿ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾ [الجاثية: 24] مِنْ أنَّ هذا الكون أزليُّ العناصر، قديم المركبات، وأنَّ عناصره تتفاعل منذ القِدَم ذاتية، فتلتئم وتنفصِم، وتجتمع وتفترق… إلخ، هكذا بلا مدبر ولا موجِّه ولا مهيمن، بل بقواها الساذجة المكتومة التي لا تعي، إنَّ وراء كلِّ الظواهر الكونيَّة قوة الخالق البارئ المصور، ملهم النفوس فجورَها، وتقواها وهاديها النَّجْدَيْن.



وانفعال الأنفس بالأجواء الكونية التي تكتنفها تحسه وأنت تتدبَّر آيات قرآنية، تلفت النهي إلى آيات كونية، ثمَّ تتحدث عن النفس باعتبارها آية، وإيحاء بارتباطها العميق الدَّقيق بتلك الظواهر التي سبقت، وبحركتها وإشعاعاتها… إلخ، وتنبيهًا إلى أنَّ النفس تتأثر بما تبث هذه الأجرام، وبما تعكِس ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 1 - 8]، وعطاء هذه الأجرام يختلف بلا شكٍّ من بيئة لبيئة، وإذا أخذنا في الاعتبار قدرةَ أهل هذا القرن على ارتياد الآفاق، واستغلال الفضاء، والاستفادة بالطاقة الشمسية - أمكننا أن نقول: إنَّ عطاءَها يختلفُ من زمنٍ إلى زمن.



والنتيجة المُستفادة من كلِّ ما سردْنا هي: (أنَّ إنسان اليوم واسعُ الإمكانات، جمُّ المعلومات متشابك الصِّلات، مزدحم الفكر، فلا بد له من أسلوبٍ عصريٍّ باهر يقنعه ويمتعه، ويؤثر فيه).



يتبع.





[1] متصلة.




[2] هدفنا من هذا الاستطراد الطويل توطيد أرضية علمية وفكرية صلبة يتأكد من خلالها أنَّ الإنسانَ يتفاعل تفاعلاً كيمائيًّا مع الأجواء التي تحتويه، وأنَّ رُؤيته - البشرية - تتكيف بهذا التفاعل، وأنَّ إفرازاته تخضع لتأثير الزمان والمكان والملابسات، لعلنا بهذا البيان نزحزح أولئك الذين اتخذوا رؤى الفقهاء دينًا وأسفارهم دساتير، فانطووا فيها وانسلخوا عن زمانهم المتميز.




[3] كان هذا في موسم الحج الماضي 1404.




[4] ورد هذا المعنى في حديث رواه البيهقي "في الشعب" عن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((... وهذه الدنيا مرتحلة ذاهبة، وهذه الآخرة مرتحلة قادمة...))




[5] رواه الشافعي، وروى نحوه أبو نعيم "في الحلية" بإسناد ضعيف.




[6] تضم بشدة.




[7] المسافر.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 22-01-2022, 04:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (36)
بخاري أحمد عبده



بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].



هو البَرُّ الرحيم:

﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64].



والبَرِيَّة قاطبة لن تحصي ثناء عليه، وهو كما أثنى على نفسه، ولو ذهبت البريَّة تنظم كَلِم الحمد؛ تعبيرًا عن العرفان، وانفعالاً بالنِّعم التي لا تُحصى، والبِرِّ الذي فاض فغمر الدارين، ووَسِعَ الحياتين ما وُجِدَت كلماتٌ أرحب، وأوجز وأغنَى من كلمتين اثنتين ردَّدَتْهما - في الجنَّة - ألسنةُ المؤمنين، وباركَهما ربُّ العالَمين؛ ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28].



فأقدار العباد المنفَعِلين بفضلِ الله الغامر، وقفَتْ خاشعة عند وُسْعِها، مكتفيةً بهاتين الكلمتين اللتين جاءتا صدًى لإحساس المتَّقين العميق بما اكتنفَهم من نعيم الإيجاب والسَّلب، والتكريم بالمحسوس وبالمعنويِّ، على النَّحو الذي عرض في آيات "الطُّور"، حتَّى كان القارئُ يلمس المشاهد "جمع مَشْهَد"، ويجد المذاقَ، ويشمُّ العبير: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 17 - 28].



كلمتان - كما ترى - ذَواتا سعةٍ، وفيهما كناية؛ لأنَّهما مشمولَتان برِضا المولى، ولأنَّه سبحانه أثنى بهما على نفسه، وارتضى بهما شُكرانًا، برغم أنَّ نعمه لا تحصى، وأنَّ يده سبحانه سحَّاء الليل والنهار.



وهو - تبارك وتعالى - إذا دخل رمضانُ كان أجزلَ مثوبةً، وأبسطَ يدًا، وأوسعَ رحمةً؛ مصداقَ ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل رمضان فُتحت أبواب السماء))، وفي رواية: ((فتحت أبواب الرحمة))؛ متفق عليه.



أو مصداقَ ما رواه الترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان أوَّل ليلة من شهر رمضان صُفِّدت - بالبناء للمجهول - الشياطينُ، ومرَدَةُ الجنِّ، وغلقت أبواب النار، فلم يُفْتَح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرِّ أقصر، ولله عُتَقاء من النار، وذلك كل ليلة)).



كذلك الملأ الأعلى، تلهَجُ - مستجيبةً لفطرتها، منفَعِلة بما حولها - بالدُّعاء لأهل الأرض، وتستغفر للأنام - كلِّ الأنام - مصداق ما ذَكَر القرآنُ: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشورى: 4 - 5].



والملأ الأعلى في شهر الصيام يُرَوْن - بالبناء للمجهول - أكثرَ اهتمامًا، ورأفةً واحتفاءً بالذَّاكرين الصائمين؛ مصداقَ ما روى البيهقي في "الشُّعَب" عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان ليلة القدر نزل جبريلُ في كبكبةٍ من الملائكة، يصلُّون على كلِّ عبد قائم، أو قاعد يذكر الله)).



كذلك رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كما رُوِي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في الصِّحاح -: "أجود الناس بالخير، وكان أجودَ ما يكون في رمضان".



وكذلك المسلمون؛ تميَّزوا في هذا الشهر بمزيدِ عبادة، وطُهْر، وبِرٍّ، وأُمِروا (بالبناء للمجهول) - وفق ما رُوِي في الصِّحاح عن ابن عباس - بزكاة الفِطْر على العبد والحُرِّ، والذَّكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة؛ متفق عليه.



وأخرج أبو داود بإسناد جيِّد عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - قال: "فرَض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطر؛ طهرة للصِّيام من الَّلغو، والرفث، وطُعْمة للمساكين".



إذًا فلا عجب إذا أطَلْنا المقام مع نفحات آيات الصِّيام، ولا غرابة إذا ازدحمَت المعاني، وتواردت سخيَّة سحَّاء، محيطة بمجتمع المسلمين، قانصةً من الشَّوارد، نافذةً إلى الأغوار، فيَّاضة بالخيرات كشهر الصيام.



سلفيُّون وأيضًا عصريون:

ولقد أفضنا - وسنُفيض - في الحديث عن فاعليَّة الظُّروف، وقابليَّة الإنسان.



وهذا الإنسان الذي ندعوه إلى أن يتفاعل مع روح هذا الدِّين، وأن يُنسِّق بفطنة بين الدعوة وبين الظُّروف المتجدِّدة المتغيِّرة غير باغٍ، ولا عادٍ، هذا الإنسان - كما تبيَّن - عجيبٌ، تتأثَّرُ "كيميائيَّتُه" بالأعراض التي تنتابُه، أو تعتريه.



يتغيَّر إذا امتلأ، ويتغيَّر إذا علم، وإذا ارتفع أو أمسى وجيهًا، وإذا حقَّق شهرة، أو نَعِمَ بصحة، أو ابتُلِي بقوة... إلخ.



ويتأثر كذلك بكلِّ ضُمورٍ يطرأ عليه؛ في عِلمه، أو جسمه، أو جاهه، أو ماله، أو... أو... والتفاعل الأوَّل خطير؛ لأنَّه إيجابي، وخطورته تَكْمُن في أنه قد يورث عُتوًّا وتطاولاً، أو انحرافًا وتسيبًا، أو ترَفًا وإخلادًا إلى الأرض.



أما الثاني فسلبيٌّ قد يحدُّ من القدرة، وقد يرجعه القَهْقَرى، وينحدر به، ويُسلمُه إلى الفتور والخمول، والعجز شيئًا فشيئًا.



كذلك الأجيال؛ تتقلَّب بين الزيادة والنقص، وتتأثَّر بعوامل التَّعرية.




والإسلام - بحكم عالَمِيَّتِه، وشموله، وخلودِه - ينشد الحياة المهذَّبة، ويحدو نحو الأساليب التي تكفل التفاعل المبارك بين الدِّين وقيمه وهداياته - من جهةٍ - وبين قُوَى الواقع، ومشكلات الحياة بكلِّ عُقَدِها، ومنحنياتها - من جهةٍ أخرى.



فالحقُّ أن الإسلام قديرٌ على أن يفتح الآفاقَ، ويستوعِبَ مشاكل الدُّنيا؛ لأنَّه - برغم مثاليَّتِه - رَحْب، مَرِن، بعيدٌ مدى الرُّؤية.



والداعية الحَصِيف يضع نُصْبَ ناظرَيْه كلَّ هذه الحقائق، ويصل الماضي بالحاضر على هُدًى وبصيرة كلَّما قاد وخطط، أو جال ونفَّذ، أو كرَّ وفر - وإلا اضطربَتْ رؤيته، واختلَّت خُطاه - لا يلهث لهاثَ الكلاب وراء أي جديد، نابذًا كلَّ قديم؛ حتى لا يفقد الأصالة، ويضحي بالمقومات، ولا يرتبط ارتباطًا أعمى بكل قديم، فيفقد الانسجام، وتلفظه الحياة وراءها ظِهْريًّا.



وهذا الفقه الواعي للحياة في كنف الدِّين - أو قُلْ إن شئتَ: للدين في كنف الحياة - هو السِّياسة الشرعيَّة، أو السلفيَّة الحقة؛ لأنَّ السلف كانوا على وعيٍ عالٍ بحياتهم، وبمشاكل عصرهم، وكانوا يطلُّون - من خلال الإسلام - على عالمهم، وما يدور فيه.



ربَّانيون لا رهبانيُّون:

بل ذلك الفقه هو الربَّانية التي أُغْرِينا بها في قول الله سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79].



1- والربَّانيُّ قد يكون منسوبًا إلى الربِّ، فالكلمة - حينئذ - توحي بالثَّراء، والعطاء، والاقتداء بالربِّ سبحانه في التيسير، وسداد التدبير[1]، كما تنمُّ عن الحكمةِ والالتزام.



2- وهي تَحْمل في تضاعيفها معانِيَ "التربية"، القائمة على التدرُّج، والتوصُّل إلى المقصود بصغار العلم قبل كباره؛ الأمر الذي يتطلَّب فقهًا، وسياسة[2].



3- وربما كانت الكلمة - كما أُثِرَ عن المبرِّد - جمعًا واحِدُها "ربَّان" من قولهم: رب يربُّ، فهو ربان، إذا دبَّر وأصلح، وبُنِيَ على علمٍ؛ فهي - إذًا - توحي بالإصلاح، وتدبير أمور الناس، الأمر الذي يتطلَّب بصَرًا وحذقًا، ومعرفةً بمشاكل التطبيق، مع العلم بالحلال والحرام، والوقوف على أنباء الأمم، وما كان، وما يكون[3].



4- وجِمَاعُ كلِّ هذا ما قيل من أنَّ الربانيَّ هو الذي يجمع إلى العِلمِ البصرَ بالسياسة، ويربط الحاضرَ بالماضي، مستعينًا بالفَراسة، وحُسْن القياس، والألمعيَّة.



5 - ومراعاة لأبعاد الكلمة قالوا: الربانيُّون فوق الأحبار[4]؛ لأنَّ الحَبْر قد لا يتجاوز العِلم إلى البصر بالسِّياسة، وحُسْن تناول الأمور، ومعرفة المداخل والمخارج.



هذا، ومن النماذج العليا للربانيَّة: حَبْرُ الأمة "عبدالله بن عباس" - رضي الله عنهما - فقد تميَّز بفقه النظريَّة، وسداد التأويل، واستيعاب مشاكل التطبيق، قال "محمد بن الحنفيَّة" يوم مات ابن عباس: "اليوم مات ربانيُّ هذه الأمة".



كلُّ تلك المعاني تستشعرها إذا استرجعْتَ الآيات الكريمة التي وردت فيها الكلمة.

أ- وردَتْ في قول الله: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79].



والآية تَنْزيه للأنبياء من الإسفاف والميل، والإنصاتِ لصوت الطِّين، ونزعاته الدُّنيا التي تغرُّ، وتُغْري بالتعالي، وتَنْزيهٌ كذلك للدُّعاة "ورثة الأنبياء" عن أن يَحِيدوا عن دروب العلم، والحكمة، وأخلاق الأنبياء، وعلَّة ذلك التَّنْزيه أنَّهم أُوتوا أسباب السَّداد والنَّزاهة، وهُدوا إلى الصِّراط: "الكتاب والحكم والنبوَّة"، والأنبياء - بِما عندهم من ذخائر - على قمَّة شامخةٍ، فلا يتهافَتون ولا يسفون، بل يحصرون على إيجاد الصفِّ الثاني، والعروج بهم إلى قمَّة تالية تُتيح لهم وضوح الرُّؤية، والحركة الرَّشيدة السديدة على ضوء الكتاب والحكمة وتُراث النبوَّة، والصفُّ الثاني الذي يسلك درب الأنبياء هم الربانيُّون المُتَحلون بكل معاني هذه الكلمة، إن كلمة ﴿ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾ [آل عمران: 79] تنهض بالدُّعاة كي يرتفعوا إلى الذروة التي تليق بورثة الأنبياء.



ب- ووردَتْ في قول الله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة: 44].



والآية رتَّبت العاملين في ساحات الدعوة ترتيبًا تنازليًّا؛ "النبيُّون، الربَّانيون، الأحبار"، وذكرت - كذلك - من أسباب السَّكينة، والطُّمأنينة، والسداد: الحُكم والهُدى والنُّور، وذكرت تمكُّنهم من الكتاب تمكُّنًا يتيح لهم وضوح الرُّؤية وصدق الشهادة، والحفاظَ على الوديعة، والاعتزاز بالمولى اعتزازًا تهون معه المخاطر، وتتضاءل معه الأقدار؛ أقدار المتربصين، ﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [المائدة: 44]، إنَّ الرَّبانيين في الآية هم الصف الثاني.



جـ- ووردَتْ في قول الله: ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة: 63].



والآية جاءت بين آيات تُعالِج أمراضًا عقديَّة، وأخلاقية اجتماعيَّة، تفشَّت في مجتمعات أهل الكتاب في غيبة الأنبياء، وتستحِثُّ الصفَّ الثاني "الربَّانيين"، والصف الثالث "الأحبار"؛ كي ينهضوا ضدَّ هذه المنكرات، ويحملوا رسالة الأنبياء.



ومواجهة الأمراض الاجتماعيَّة تتطلب احتكاكًا بالمجتمع، وعِلمًا بالنفسيَّات، وإحاطةً بالدَّوافع والظواهر... إلخ، تتطلب خبرة، وبصَرًا، وسياسة، تتطلب ربانيَّة، إن الربَّاني[5] يضيف إلى العلم اليقظة والفطنةَ، والحكمة والحركة، والبصيرةَ التي تملأ أنحاء المجتمع.



والرهبانيَّة؟

الكلمة مأخوذة من "رهب" بمعني خاف، فهي نسبةٌ إلى الرَّهْبان "بفتح الراء المشدَّدة"، وهو الخائف، والخوف إذا طوى في تلافيفه، والتقَمَ بأضراسه وفكَّيْه، وتمكن حتَّى أمسى سِمَة ونسبة، طحن، وأذاب.



والرهبانيَّة - في أحسن معانيها - لا تَعْدو المبالغة في الرِّياضة، والإفراطَ في العبادة والانقطاع - جسميًّا أو فكريًّا - عن الناس؛ إيثارًا للعزلة، وعجزًا عن مُجاراة الحياة، فهي إذًا هروبٌ من الساحة، وانطواءٌ في مفاهيم معتمة ضيِّقة، وإيثارٌ للشلل على الحركة، وحملٌ للنَّفس - على غير سجيَّتِها - على العزوف عن زينة الله التي أخرج لعباده بالامتناع عن المَطْعَم، والمشرَب، والنِّكاح، وبالتعلُّق بالصوامع، والكهوف، وأكنان الجبال، ولا نزاع في أنَّ هذا تزمُّتٌ يأباه الإسلام، وتقوقعٌ يُفْضي إلى الجمود، والتبتُّل المودي[6].



وبقدر ما تجد في الربَّانية من انتشارٍ وتحليق، واتِّزان، وسعَةِ أفُق، تجد في الرَّهبانية انطواءً وإسفافًا، وإخلالاً، وضيقَ أفق، هي إذًا عقديَّة، وفكرية، وحضارية، والإسلام يرفض كلَّ أنواع الرِّدة، ويرى أن الارتداد الحضاريَّ أو السُّلوكي كمن يمشي القهقرى، والصحابة كانوا يتحرَّجون من أن يأتوا عملاً فيه شبهة الارتداد الحضاري؛ مصداقَ ما روي عن سلمة بن الأكوع أنَّه دخل على الحجَّاج، فقال له: "يا ابن الأكوع، ارتددتَ على عقبيك؟ تعرَّبْتَ؟ قال: لا، ولكن رسول الله أذِنَ لي في البدو".



وكانون يرون مَن رجع بعد هجرته أعرابيًّا مرتدًّا؛ أخْذًا من حديث رسول الله: ((لعن الله آكلَ الرِّبا، وموكِلَه، ومن رجع بعد هجرته أعرابيًّا)).



ورهبانيَّة ابتدعوها:

والرهبانيَّة - وإنْ صاحبَها حسْنُ النيَّة - بِدْعة مذمومةٌ، وهروبٌ من معمَّة الحياة المكتوبة على الناس؛ ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].



والآية الكريمة: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ [الحديد: 27] تقصُّ قصَّة مؤمنين جَبُنوا عن مواجهة الشرِّ، ومقاومة الطُّغيان فآثروا السَّلامة واعتزلوا، نقل الضحَّاك من رواية عن ابن عبَّاس أنَّ ملوكًا من بعد عيسى فجروا وأجرموا، وعصفوا بالآمرين بالمعروف النَّاهين عن المنكر، وداخلَت الرَّهبةُ بقيَّةً باقية من الملتزمين ففرُّوا، واتَّخذوا الصوامع، وتخلَّوْا عن الدعوة، وجَمدوا في قواقعهم، فلم ينتشروا، وكانوا يحسبون أنَّهم يُحْسنون صنعًا، ويبتغون بما ابتدعوا رضوانَ الله، وهؤلاء بصنيعهم هذا ارتكبوا عدَّة جرائر: جريرة التخلِّي عن الموقع والرِّسالة، وجريرة الابتِداع، وجريرة المظهريَّة، والتنازع على الرِّياسة، وليتهم حين عزموا أظهروا رجولةً وصلابة! بل سرعان ما أخَلُّوا وأهمَلوا.



روى أحمد عن أبي أمامة الباهليِّ - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سريَّة من سراياه، فقال: مرَّ رجل بغارٍ فيه شيءٌ من ماء، فحدَّث نفسه بأن يُقِيم في ذلك الغار، فيقتات بما فيه من ماءٍ، ويصيب مِمَّا حوله من البقل، ويتخلَّى عن الُّدنيا، قال: لو أنِّي أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ له ذلك فإن أَذِن لي فعلتُ، وإن لم يأذن لم أفعل، فأتاه فذكر له الأمر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّي لم أُبْعَث باليهوديَّة، ولا بالنصرانية، ولكني بُعِثت بالحنيفيَّة السَّمحة، والذي نفس محمَّد بيده، لغدوة أو روحة في سبيل الله خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ولَمُقام أحدكم في الصفِّ الأول خيرٌ من صلاته ستِّين سنَة))، إنَّ المسلم لا ينبغي له أن يتبتَّل بِجِسمه، كيف والإسلام في مَسِيس الحاجة إلى قُوَاه وطاقاته، وغدوه ورواحه؟



ولا يَنبغي له أن يتبتَّل بفِكْره؛ لأنَّ مُعترك الحياة هو الرَّافد الذي يمدُّ، ويَرْوي الأفكار، واحتكاكُ الأفكار بالأفكار يجلوها، ويغذوها، ويكسبها المَضاء، والتفتُّحَ على آيات الآفاق، وصفحاتِ الكون التي تنشر يجدِّد الدم، ويكفل حُسْنَ التجاوب مع عالَمٍ يتطوَّر كل يوم.



والرهبانيَّة لا يوجد سندٌ لها في الكُتُب المقدَّسة الأولى، ولا في سُنة الأنبياء - عليهم السَّلام - بل إنَّ الناظر في سيرة المسيح وأصحابه ليجد ما يضادُّ هذه النَّزعة التبتليَّة، وهذه الرُّوح الانعزاليَّة لم تظهر في الكنائس إلاَّ في أواخر الجيل الثاني، وأوائل الجيل الثالث؛ منتقلةً إليها من الهنود الوثنيِّين[7].



ولا يهمُّني - هنا - أن أتعرَّض لتفاصيل الرهبانيَّة والاعتزال، والتقشُّف، والتبتُّل.. إلخ؛ فكلُّنا يعرف أنه لا رهبانيَّة في الإسلام، وأن قدر المسلمين الجهاد الجهير؛ مصداقَ ما أخرجه أبو داود عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((... والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخِرُ أمَّتِي الدجَّال، لا يبطله جَوْرُ جائرٍ، ولا عَدْلُ عادل…))[8].



ولكن الذي يهمُّني - هنا - أن أحذِّر من تبتُّلٍ جديد، طوى بعض الناس في أَسْمالٍ بالية، فبدَوْا جامدين مشتَمِلين بأسمالهم اشتمالَ الصمَّاء، وفقدوا القدرةَ على المُواءمة بين أسمالِهم وبين مطالب الحياة العصريَّة.



وهذه الرهبانية الجديدة تختلف عن رهبانيَّة الصوامع، وتبتُّلِ الكهنة، ودعاوى المتصوِّفين، ولكنها تتَّفِق معها في النتائج؛ فكلاهما إغماضٌ عن الواقع، وإيغالٌ في الغفلة، وعجْزٌ عن التكيُّف بالأجواء، والانسجامِ مع موكب الحياة الحافل بكلِّ بديع.





[1] نقل هذا عن ابن عبَّاس.




[2] روي معنى هذا عن عبدالله بن مسعود.




[3] روي هذا عن أبي عُبَيدة.




[4] روي هذا عن مجاهد، وحسَّنه النحَّاس.




[5] إذا اتَّفقنا على أن الكلمة نسبة إلى الربِّ، فأصلها: ربِّيٌّ، وزِيدَت الألف والنُّون؛ للمبالغة، كما يقال: روحاني وعلماني، وماداني، ولحياني لعظيم اللِّحية.




[6] التبتُّل: الانقِطاع.




[7] انظر "محاسن التأويل" ص 5698 من الجزء السادس عشر؛ ففيه تناوُلٌ شافٍ لقضية الرهبانيَّة؛ نقلاً عن مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين.




[8] في سنده «يزيد بن أبي نشبة» وهو مجهولٌ، لكن معنى الحديث صحيح.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 14-01-2022, 11:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (33)
بخاري أحمد عبده



قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة : 183 - 185].

ذهب رمضانُ الشهرُ، ولكن بقيت النفوس المحمومة التي تتقلب في رمضاء[1] حياة قفرةٍ عجفاء[2].

بقيت نفوسٌ لهفى[3] (بتسكين الهاء، وفتح الفاء)، تعوزها السكينةُ والعزة، والوئام والصحة النفسية، ويؤودها الجحود والجمود، والغلظة والإمعية، والتبعية الذليلة.

وظنَّي أنَّ الارتباط الطويل بآلاء الصيام، وأشفية القرآن، ورِضاب[4] الحكمة، ونفحات السماء يوفر لتلك النفوس الرَّمِضَة (بتشديد الراء وكسر الميم؛ أي: المحترقة) فرصَ الصحوة، والنخوة والانبعاث، ويهيِّئ لها أن ترشدَ وتعي، وتستأنف المسيرة على هدًى وبصيرة.

فلا ملامة إذا تشبثنا بهذه الآيات، نحتلب دَرَّهَا، ونحيا بَرَّهَا، ونستمطر فَيْضَها؛ عسى أنْ يسَّاقط (بتشديد السين المفتوحة) غَدَقًا[5] فوق أجداث[6] رمت فينبت ما فيها من هشيمٍ، كما تنبت الحبَّة في حميل السيل[7].

فوق أنَّنا - إذْ نظلُّ مشتملين بآيات الصِّيام متلبسين بأرواحِها - نظلُّ نجترُّ أمجادَ الشهر، ونستحضر طلاوتَه وحلاوته، ونعيش أجواءَه العبقة، نغالب بها عفنَ الواقع، وضراوة الأيام.


الفضاء القرآني:
والفضاء القرآني كالفضاء الكونيِّ، هذا لا يُدرك مداه، وذاك لا تنقضي عجائبُه، مصداقَ ما أُثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلاهما يأسر ويدهش، ويثير بإعجازه مشاعرَ العجز، والضآلة في هذا الإنسان، وكلاهما ينفتح كلَّ يوم عن آفاقٍ جديدة تهدي، وتُرْبي (بضم التاء وتسكين الراء) حقيقةَ الإيمان.

ولقد سَبَحْنا سبْحًا طويلاً في الفضاء القرآني المهيب، مقتفين هديَ آياتٍ تَزْخَرُ بالحياة، وتبثُّ من أضواء الحرية، والشَّمم ما تبث، واستقامتْ إشاراتُ القرآن اللطيفة إلى مدارج التحرير وأسباب الخلاص، وإلى مقوِّمات الشخصية الإسلامية المستقلة، استقامتْ معالم بل مفاعلات بناءة تتوهَّج رشيدةً وكأنها أطواقُ النجاة تطفو فوق العُباب، وتتراءى لأبصارِ غرقى لاهثين يعانون ذلَّ المَتْرَبة وحرَّ المَسْغبة، وحقارةَ الأذناب وضغط القيود، وأغلال الجمود.

وأطللنا من الفضاء القرآني على عالم المسلمين فأطلنا الإطلالة، ورصدنا - متأثرين بما نعاني من جوًى وقهر - ما كان - كما هو كائن اليوم - من فراغ وجداني، ومن غزوٍ فكري، ومن استثمار خسيس لمشاعر الجهالة، وعقد التخلف، والنقص.

وأطللنا فرأينا يدَ الإسلام الآسية تسل سخيمة الصدور، وتمحو علل الهوى، والشهوة، والمادانية العمياء، وكلَّ الآفات التي يبذر بذورَها الشيطان، ويصلى نارَها الحمقى.

تنطع وتصدع:
وأطللنا - متأثرين بما نعاني - فرأينا عينًا حَمِئَةً، آسِنةً يعمرها قوم لا يكادون يفقهون قولاً، داؤهم الجمود الذي يورث الشَّلل، ويشي بالفراغ الرَّهيب، لا يسمنون ولا يغنون، تحسبهم أيقاظًا وهم رقود، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتَّى، تراودهم الرؤى، وتلفهم أغشيةٌ تحجب عنهم يُسرَ الإسلام، ورفقه وسماحته، وقدرته على التطوير والإظهار، وحول العين الحمئة[8] - حيث تغرب الشمس - رأينا تيوسًا جاحدة تعرْبِد وتَنِبُّ، حُشي أديمُها بالجذع والمغالطات، والمقت الشديد للنور، ثم أُطلقت لتعبث وتفسد، ودارتْ حول أمعائها كما يدور الحمار بالرَّحى، لا يفطن إلى أنه معلَّق، ولا يدرك أنَّ زمامه في يد غيره.

وأولئِك، وهؤلاء ذوو حس متبلِّد صَفيق ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [الأعراف : 179] فأنى لهم أنْ يحسوا بمثل الإسلام وقيمه، وشأوه الرَّفيع؟

أنى لأمثال هؤلاء المطوِيِّين في لفائف الجمود، وأولئك المستهتكين[9] المنتشين بعرْي (بضم العين وإسكان الراء) الجحود أنْ يدركوا:
1- أنَّ المؤمن إذا امتلأ فراغه بالإيمان استقام على الطريقة وسكن.

2- وأنه إذا داوى علل عالم الشهادة بأشفية من عالم الغيب صحَّ، واتَّزن (بتشديد التاء المفتوحة).

3- وأنه إذا عالج سُعار المادانية بتِرْياق الرَّوحانية سلم، وأمن.

4- وإذا تعاهد وعورةَ النفس ببلسم السَّماحة وسائر صفات الجمال طاب، وغنم.

5- وإذا سالت أوديتُه بقدرها فلم يغل (بإسكان الغين وضم اللام)، ولم يتقعر، وغدا وراح رحب الشمائل فضفاض الرداء رضي وأرضى، ونزل سهلاً، وحلَّ في كل مكان أهلاً.

6- وأنه إذا جمد نبذ، وإذا ركد أسن وتعفَّن، وإذا اشتمل بعقده اشتمال الصماء افتقد مرونة المسلم وتخلف، وبات على الصورة التي جاءت في حديث "أم زرع"[10] على لسان الزَّوجة الأولى التي وصفتْ زوجَها بأنه: ((..لحم جملٍ غث، على رأس جبل، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل..)).

7- وأنَّ الإسلام يحرِّك ويحرِّر، ويكر على الأغلال النفسية وغير النفسية ينقضها ويحطمها، حلقةً حلقةً، وعروةً عروةً، ويتيح - بهذا - للمسلم أن يخمل غيرَه، ويسبق عصره.

8- وأنَّ الخِلال السمحة التي ألزمنا بها الإسلام هي قوام الحرية، وهي المركب الميمون إلى سُدَّة (بضم السين وتشديد الدال المفتوحة؛ أي: الباب) التَّقارب والتكامل والوفاق، وهذه الصفات تعد من دعائم المجتمع الإسلامي المنيع، وهي ومثيلاتُها من رِفْق ويسر وحلم وليدة الأنفس الأبيَّة، السويَّة التي طهرتْ من أحاسيس الهوان، وعُقَدِ النقص.

إنَّ إنسانية المسلم تصقلها وتجلوها هذه الخلال، وأصالة المجتمع المسلم ترسخ وتتأكَّد إذا اعتمد البناء على لبِنات مسلمة قوامها تلك الخلال.

قداسة الزمان:
والإسلام بكلِّ شعائره يستهدف - فيما يستهدف - تنميةَ المعنويات العليا في الإنسان، ثمَّ يحرص على أن "يعسكر" بالمسلم في أوقات ومواسمَ خاصة حتى تبقى لياقته، وتنمو قدراته على مغالبة ما رُكِّب فيه من لَدَدٍ ولجاج، وهوية وأنانية، وهلعٍ وطغيان... إلخ، فما أحراه بعد هذا أن يغزو كلَّ أشهر العام بمعطيات شهر رمضان، وأن ينفقَ فيها مما اكتسب في رمضان.

والحقُّ أنَّ الإسلام ميَّز أزمنةً وفضَّل أيامًا، وكرَّم أشهرًا وحرَّم أخرى.

إلا أنَّ فيض هذه الأوقات المختارة فيضٌ متعدٍ غيرُ لازم؛ بمعنى أنَّ الأيام التي اجتبيت، وخصت بمزيد فضل تبث خيرَها، وتمد شعاعها، وتشحن بسناها القلوب الملتزمة، وتفيض هذه القلوب بدورها فتملأ بنورها الأرجاء، وتعمُّ بأريحِها كلَّ الأزمنة، فكأنَّ الأوقات التي ميزها الإسلام محطات تقوية لكهربية الإيمان، وفاعلية الخير، وديمومة الإخلاص والإحسان والأخوَّة، وهذه الأوقات المميزة لا تلد هذه الخلال، ولا تصدرها إصدار قرص الشَّمس للحرارة والضوء، ولكنها مستودع ومستقر، والمولى - جلَّ وعلا - اقتضتْ حكمته أن يصدر إلينا أمره السامي الكريم؛ بأن قفوا أمام هذه المقدسات - الزمانية أو المكانية - وامتزجوا بها حتى يَحْدُثَ تفاعلٌ مهيب بينكم وبينها، ومصدر هذه القوة المفاعلة امتثال أمر الله، وتعظيم محارم الله، وتقديس شعائر الله، والقبول والرِّضى - بلا أدنى شكٍّ - بحكم الله، والوقوف - بلا عدوان - عند المعالم التي رفعها الله.

وثمرة هذا التفاعل أنْ يدعم المولى هذه الوقفات، وأن يباركها ويرْبيها، حتى تغدو سحَّاحةً، ضخَّاخة، فيَّاضة، وأن يوفق هذا الإنسان المبارك إلى أن يشحن هذه الأوعية بالخير.

وهكذا نعلم أنَّ هذه المقدسات تأخذ من الإنسان وتعطيه، لتأخذ منه المزيد، ثم تعطيه أزيد وأزيد على مدار العام كلِّه، والعمرِ كله.

أمَّا إذا جفا الإنسان وقلا، وانفكَّ فلا يندمج، ولم ينفعل أو اكتفى بعلاقات شكلية جوفاء، أو ملأ تلك الأوقات بأشياء مبتدعة أو منكرة… إلخ، إذًا لنضب المعين، وانقطع التيار، وجفَّ الضَّرْع الثَّرَار، ورفعت البركة التي يتفضل بها الله.

وآثار الانتفاع بخير هذه الأوقات تتجلى وئامًا والتئامًا، وجمعًا للكلمة، ووحدةً في الصف، وتقديسًا للهدف، واستعمالاً للحكمة وفقهًا للسُّنن، وموجبات التَّطور.

فإذا انتفتْ هذه الخلال وحلَّ محلها التنافر والتدابر، والغلظة والشقاق وعشق الذات، والتزمت الخ…، فإنَّ لنا أن نوقن بأن هناك انفصامًا بين العقيدة والسُّلوك، وأنَّ الارتباط بالمقدسات ارتباط شكلي، وأنَّ دعوى الالتزام يكذبها الواقع، ويعوزها الدليل، مهما ضخمت العمامة، أو عظمت اللِّحية أو طابت الخطبة، أو خليت القراءة أو حسن السمت، أو قصر اللِّباس.

إنَّ الإسلامَ مخبرٌ ومظهر، والشَّكليات المحضة تحيل أصحابها إلى دُمًى (جمع دُمية) وتورث النِّفاق وتشي بالعته، والفراغ.

قداسة المكان:
كذلك اصطفى اللهُ أراضيَ وأمكنة، وأضفى عليها من القداسة والجلال ما أضفى، وأمر أنَّ نتخذها مشاعرَ ومناسك ومزارات، وهذه المشاعر لا تنضح قداسة ولا تشعُّ جلالاً، ولكنَّها تثير المشاعر وتشبع الأرواح، وتسبي القلوب المؤمنة المذعنة المؤتمرة بأوامر الله، الممتلئة خشيةً، ورغبةً، وطاعةً، وحبًا، وإيثارًا، لما عند الله.

وعند الممارسة والاتصال بهذه المقامات يتمُّ تفاعل لا يُدرك كنهُه بين المشاعر وبين الآمِّين النَّاسكين، وتتفتح في الطَّائفين والعاكفين والرَّكع السجود آفاقٌ، وتتحرك أسرار وتزكو أشواق، وتتدفق معانيَ الإجلال والهيبة والروحانية من تلك النفوس المؤمنة المشوقة، لتلتبس بهذه المشاهد، وتلتحم ويختلط المنبع بالمصبِّ، فالقشعريرة التي يحسها العاكف تنبعث من ذاته؛ من نفسه المؤمنة الخاشعة التي تهيَّأتْ لتكون أداةً حسَّاسة تستقبل وتُرسل، ﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ [الزمر: 23]، والمعاني التي في تلك المقامات بتأثير ذلك الاتصال يباركها المولى، ويربيها حتى تغدو زادًا مباركًا يمتد خيرُه لكل مكان، ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة : 197].

إنَّ الأزمنةَ التي آثرها الإسلام، والأمكنةَ التي قدَّسها الإسلام وخصَّها بالشرف والرفعة، هي في الحقيقة طاقات بث، بل شواحن تدور أو تُؤَمُّ[11] (بالبناء للمجهول؛ أي: تقصد) فتفرغ من حمولاتها في القلوب لتزكو بها، ولتحصن - منها -[12] ذخرًا للأيام، وتنشر - منها - إغاثةً للأنام، فهي إذ تتراءى لا تتراءى ضيقةً، وهي إذ تغيب لا تغيب موعية[13] ممسكة، بل تنفح ولا تستبقي، وترسل دائمًا سحائبَها مثارة لتنتظم الأرجاء والآناء[14].

والإنسانُ المؤمن الذي جلا الإيمانُ شغافَ قلبه، هو الذي يستوعب كلَّ هذه النفحات ثمَّ ينشرها، ويغمر بها العباد والبلاد.

فإذا جمد المسلم، وغلظت قشرتُه أضحى مصمتًا[15]، مختنق المسام، رديء التوصيل، وإذا ماع وتسيَّب تسيُّبَ الكثيب الهيل[16] افتقد التماسُك، وعجز عن الفاعلية والتأثير.

ومِن هنا وجب أنْ يكون المؤمن سريعَ التكيُّف، مرنًا، مصداق الحديث: ((مثل المؤمن كمثل الخَامة من الزَّرع تميلها الريح تارة، وتعدلها أخرى)).

ووجب أن يكون هينًا لينًا، مصداق الحديث: (( كالجمل الأنف، إنْ قيد انقاد، وإنْ أنيخ على صخرةٍ استناخ))، فأين نحن من هذا؟

إنَّ معظمنا شارد، ناب، يظهر وفق صورة أخرى سجلها حديثُ أم زرع ((قالت السابعة: زوجي غَيَاياء[17]، أو عَيَاياء[18]، طَبَاقاء[19]، كل داء له داء، شجَّك[20]، أو فلَّك، أو جمع كلاًّ لك..)).

معظمنا يرزح في أغلال الخيبة، وينوء تحت أطباق العجز ويشكو متبرِّمًا من كلِّ شيءٍ، ومن لا شيء، ويثور فيفقد توازنه، ويؤذي - قبل البعداء - الأقرباء، فهل يؤتمن مثل هذا على الإسلام، والمسلمين؟

(يتبع)


[1] الرمضاء: القيظ الشديد.

[2] ذهب خيرها.

[3] حسيرة تستغيث.

[4] الرضاب الشهد.

[5] غزيرًا.

[6] الأجداث: القبور، والمراد: من فيها.

[7] حميل السيل: ما فيه من طين ونحوه مما يساعد على الإنبات.

[8] ذات طين أسود.

[9] لا يبالي أن يهتك ستره.

[10] حديث صحيح تناول مؤتمرًا نسائيًّا تحدثت فيه الزوجات عن أزواجهن بصراحة.

[11] تقصد.

[12] تدخر.

[13] مختزنة، مخفية.

[14] الآناء: الأوقات

[15] المصمت الذي لا جوف له.

[16] الكثيب المهيل: الرمل المتناثر، من قوله سبحانه: ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ﴾ [المزمل : 14]؛ أي: رملاً مجتمعًا متناثرًا بعد أن كنت حجارة صلبة متماسكة.

[17] من الغيِّ الذي هو الضلال والخيبة.

[18] العيي العاجز الضعيف.

[19] تنطبق عليه الأمور وتستغلق فلا يرى لها حلاًّ.

[20] كناية عن تخبطه، وتهوره وعدوانيته.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 14-01-2022, 11:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

أسرار القرآن في شهر رمضان



خميس النقيب




نعيش مع كتاب الله - عزَّ وجلَّ - نعيش مع هذا القرآن، عطاءِ الله للأمَّة في شهر رمضان؛ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، كتاب مبارك: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ [الأنعام: 92]، أُنزل في ليلة مباركة: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3] ليلة السلام، ليلة الأمن، ليلة القدر؛ ﴿ إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 1- 5].









نعيش مع كتاب الله الذي ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].





لو أن أمَّة من الأمم أُعْطِيت آية واحدة صحيحة من هذا الكتاب لاتَّخذَتْ ذلك اليوم عِيدًا، ولعَضَّتْ عليها بالنواجذ.





إنَّ الله - تعالى - اختارها لِهَذا الكتاب، واختار هذا الكتاب لها، رُزِقت القيادة، ورُزقت الرِّيادة، وجعَلها الله - عزَّ وجلَّ - الأمة الوارثة؛ ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105]، وجعَلَها أمَّة الخيريَّة: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ [آل عمران:110]، وجعَلَها الله الأُمَّة الشاهدة على الأمم يوم القيامة؛ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].





لِتَكونوا شهداء على الناس بهذا الكتاب، ويكون الرسول عليكم شهيدًا أيضًا في هذا الكتاب، بلْ ذِكْر الأمَّة مرتبط بالقرآن؛ ﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]، فيه مجْدُكم، وفيه عِزُّكم، وفيه علُوُّكم؛ ﴿ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].





حياة أفضل بالقرآن، وطريقة أفْضَل بالقرآن، وشريعة أفْضل بالقرآن، وإنَّ هذا الكتاب ليَشْكو إلى الله - عزَّ وجلَّ - هذه الأمَّة، لماذا اخْتارت الجهل وأمَامَها العلم؟! وهي أمَّة اقرأ؛ ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، اختارت الذِّلَّة وأمَامها العزَّة؛ ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 139] اختارت الضَّلاَلة وقد هداهَا الله ربُّ العالَمين، ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 39] ﴿ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 178].





الأمم السابقة آثروا العمَى على الهدى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [فصلت: 17].





إذًا؛ كتاب ربِّكم بين أيديكم، أيْن أنْتَ من حَلاله وحرامه؟ أين أنت من ذِكْره وشُكْره؟ أين أنت من تلاوته وترتيله؟ أين أنت من حروفه وحدُوده؟ أين أنت من أمْرِه ونَهْيه؟! هل تعلَّمْتَ تلاوته وترتيله؟ هل تدبَّرْت آياتِه ومعانِيَه؟ هل علَّمْتَه أولادك؟ إنَّه حبْل الله المتين، ونورُه المبين، وصراطه المستقيم، ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43] نعَم، سوف تُسألون عن آياته، وعن حرُوفه وعن حدوده، وعن أمره ونَهْيه، كتاب الله - عزَّ وجلَّ - مَن ترَكَه مِن جبَّار قصَمه الله، ومَن جعلَه خلْفَ ظهْرِه أضلَّه الله، ومن صَدَّ الناس عنه أذَلَّه الله!





كتاب يستقيم مع الفطرة: هل يَحْيا السمك بلا ماء؟! هل يَعيش البشر بلا هواء؟! كلاَّ! كذلك الكون يَحتاج إلى منهج لِيَنتظم مع فطرة الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30] منهج الإصلاح ومنهج التصحيح، منهج الذِّكْر: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ [الأنبياء: 10] ومنهج العلو ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139] دستور القوامة والبشر في الأرض؛ ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9] المنهج الحاجز من التدَنِّي، والمانع من الجهالة والعاصم من الضلالة؛ ((ترَكْتُ فيكم شيئين لَن تضلُّوا بعدَهما: كتاب الله وسنَّتِي، ولن يتفرَّقا حتَّى يَرِدا عليَّ الحوض))؛ تخريج السيوطي، عن أبي هريرة، تحقيق الألباني: "صحيح" انظر حديث رقم: 2937 في "صحيح الجامع".





ويقول الله - تعالى -: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].





إن الإسلام منهج حياة بالقائد القرآني، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم المنهج الربَّاني وهو الكتاب والسُّنَّة، ثم بالجِيل الذي يَقتدي بالرسول القرآني، ويطبِّق المنهج الرباني.





الله - تعالى - يقول: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23] أحسن الحديث تلين له الجلود وتخشع له القلوب، والله - عزَّ وجلَّ - قد وصَف عباده عندما يقرؤون كتاب الله: ﴿ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73] كيف؟ لا يَسمعونه سَماع الصُّم، لا يقرؤونه قراءة المنافقين، كيف؟ ((رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه))؛ يقْرَأ آيات الصدق ويكْذِب، ويقرأ آيات الإخلاص ويُشْرِك، ويقرأ آيات العدل ويظلم، رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه.





أمَّا عباد الرحمن عندما يَجلسون مع القرآن فلَهُم آذان مصْغِية، ولهم قلوب واعية، ولهم أعْين راعية، ترعَى حدود الله - عزَّ وجلَّ - فلا تتعدَّاها.





كتاب الله - عزَّ وجلَّ - أنزله على قلب رسوله؛ ليقرأه على الناس على مكث لتخشع قلوبهم، وتتطهَّر صدورهم، وتتزكَّى نفوسهم، وتتألَّق عقولهم؛ ليتعرَّفوا على ربهم وخالقهم ورازقهم - سبحانه وتعالى.





كتاب ربَّاني شامل:


القرآن فيه آيات الله وأسماؤه وصفاته، فيه صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين، ومصاير هؤلاء، فيه الجنة والنار، فيه الوعد والوَعِيد، فيه الترغيب والترْهيب، فيه الأمر والنَّهْي، قال - تعالى -: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89].





كيف لا، وهو رُوحٌ تسْري في الأمَّة؟! ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].





كيف لا، وهو حياة تَنْعم بها الأمَّة؟! ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122].





كيف لا، وهو شفاء؟! ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82].





كيف لا، وهو سبيل الهداية لِمَا يُصْلِح البلاد والعباد؟! ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9].





كيف لا، وهو حَبْل الله المَتِين، ونُورُه المبين، وصراطه المستقيم، مَن قال به صدَق، ومن حَكَم به عدَل، ومن عَمل به أُجِر، ومن دَعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم؟!





لكل مؤلِّف كتاب، ولكلِّ شاعر ديوان، ولكل فيْلسوف منْطِق، وكلٌّ يقدِّم لِعَملهقائلاً: "إنْ كان هناك تقصير فمن نفسي وان كان غير ذلك فمن الله"، أمَّا كتاب الله فالأمْر فيه يَختلف؛ إنه - سبحانه - يقدِّم له بقوله: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [البقرة: 2].





أين نحن من هذا المنْهج الربَّاني؟ أين نحن من دسْتور الأمَّة؟ أيْن نَحْن من حبل الله المتين؟ ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103] أين نحن من حلاله وحرامه؟ مِن دوائه وشفائه؟ من أمْرِه ونهيه؟ من وعْده ووعيده؟ من ترغيبه وترهيبه؟! بل أين نَحن من تلاوته وتدَبُّره والتأثُّر به ذِكْرًا ووجَلاً وقربًا من الله - عزَّ وجلَّ؟!






أمَّة بغير قرآن كيف سيكون حالُها؟! أمَّة بغير منْهج كهذا: كيف سيكون مصيرها؟! أمَّة عطَّلَت آياتِه وأحكامَه وحدودَه وهي جريمة شنيعة كيف سيكون مآلُها.





كتاب للتدبر والتذكر:


جاء القرآن كتابًا مبارَكًا من عند الله؛ لِتَتَّبِعه الأمَّة؛ ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]؛ لتتدبره الأمة؛ ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، ولا تُنْكِرَه؛ ﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [الأنبياء:50]، يَصُونوا حدوده، ويَرْعوا عهوده، يحفظوا كلماته ويدَّبَّرُوا آياته؛ ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]! كتاب تأثَّر به كلُّ شيء في الحياة:


تأثَّر المشْرِك حين سمع القرآن فقال: إنَّ له لَحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعْلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يَعْلو ولا يُعْلَى عليه.





سَمعه أهل الكتاب فخشعت قلوبُهم، ودمعت أعينهم، وآمنوا بالله ورسوله؛ ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83].





سمِعَتْه الجن ﴿ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن:1،2] ﴿ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 29] وتحوَّلوا إلى دُعاة لهذا المنهج؛ ﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 31].





سَمِعه الجماد، فخشَع من خشية الله؛ ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].





هل بَعد ذلك يتأثَّر المؤمن عند سَماعه للقرآن؟ نعَم، المؤْمن الحقُّ يتأثَّر ويزداد إيمانًا؛ ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].





كتاب يطمْئِنُ النفوس، ويُسكن الأرواح، ويُفْرِح القلوب:


ظنَّ البعض بأنَّ مرور الزمان يقلِّل من صلاحية القرآن في الهداية، وهذا خطأ على الإطْلاق؛ فالقرآن هو كتابُ هداية مطْلَق متَى فَهِمه الإنسان فهْمًا صحيحًا، وأنَّ هداية القرآن ليست مُرتبطة بظرف أو زمان؛ ففي كلِّ الظروف هناك هداية ربَّانية، القرآن الكريم له صفة الإطلاق والقطعيَّة والَّتي لا يتَّصِف بها غيره من الكتب السَّماوية، كما أنَّ القرآن يُعْنَى بالكلِّيات والأمور العامة والأصول الثابتة الَّتي لا علاقة لها بالمتغيِّرات.





كما أنَّ إعجاز القرآن هو إعجاز عِلْمي يَصْلح في كلِّ زمان ومكان، كما أنَّ القرآن نزل للناس جميعًا على كافَّة مسْتوياتهم، لكنَّ الكثير من المسلمين غاب عنهم "تفعيل القرآن في الحياة".





وإنَّ القرآن أصْبح يُقرأ في المآتم أو على الأمْوات، ويَستأجرون مَن يَقرأ عليهم؛ ممَّا طبَع في أذهان الكثير من العوامِّ أنَّ القرآن يُقْرَأ في الأحزان فقط، في حين أنَّ القرْآن جاء للطمأنينة والسَّكِينة والفرح والغِبْطة والسرور، بل إنَّ القرآن جاء أيضًا لإِحْياء القلوب والعقول.





فالقرآن الكريم ربَّى الأمَّة المسلمة على كيفية التعامل والتعايش مع الأُمَم الأخرى؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، وقال - تعالى -: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [البقرة: 83].





يُرْوَى أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يَسِير في طرقات المدينة، وإذا به يرى طفلاً صغيرًا ذاهبًا إلى المسجد؛ ليحْفظ كتاب الله، وكان هذا الفتى يمشِي كعادة الفِتْية لاهيًا ولاعبًا في طريقه، لكنَّه كان يردِّد آيات الله التي سيَقوم بتسميعها لمعلِّمه في المسجد، وإذا بأذُنِ عمر بن الخطاب تَسمع هذه الآية من هذا الصبي الصغير: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7 8] فسقط عمر بن الخطاب من سماعها علي الأرض مغشيًّا عليه، وكلما كلَّمَه أحد قال: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7 8] يا ربِّ ارْحم عمر بن الخطاب، يا رب ارحم عمرَ بن الخطاب، وظل مريضًا في فراشه لمدَّة شهْر!.





صلاح الدِّين يتفَقَّد خِيَام الجند ليلاً قُبيل حطِّين، فيَسمع أزيز صدور جنودٍ يَقُومون الليل ويَقرؤون القرآنَ فيشير للخيمة محدِّثًا مساعده، قائلاً: من هنا يَأتي النَّصْر، ثم يمرُّ على خيمةٍ أخرى فيَسمع جنودًا يَلْهُون ويلعبون، فيقول: ومن هنا تأتي الهزيمة.





قال عبد الله بن مسعود: إنَّ أحَدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته، لا يُسْقِط منه حرفًا واحدًا، وقد أسقَط العمل به.





هل تتأثَّر لتلاوة القرآن أو لسماعه؟


يقول صاحب "الظِّلال": "الحياة في ظلال القرآن نعْمة، نعمةٌ لا يعرفها إلاَّ مَن ذاقها، نعمة تَرفع العمر وتباركه وتزكِّيه".





وهذا بطل العالَم في الملاكمة "محمد علي كلاي" عام 1960 لما بلَغ العشرين من عمره حصَل على لقب بطل العالَم في الملاكمة في أقْصَر المباريات، وأمام ضَجِيج المعْجَبين، وفلاشات آلات التصوير أَعْلَن إسْلامه قائلاً: "أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله"، ولمَّا سُئِل عن سبب إسلامه قال: "بدَأْتُ أعيش مع القرآن، وخاصَّةً مع الفاتحة أوَّلِ سورة حَفِظتها منه، وبدأتُ رحلةَ الإسلام رحلةَ طُمَأنينة، ورحلة إيمان يَعِيشها صاحبُها بتعاليم خالِقه" وقال: "إننا لو قُمْنا بهذه الدعوة سنَجِد حشودًا كبيرة تَدخل إلي الإسلام، الَّذي عنْدما تقارنه بغيره مِن الأديان تعرف أنَّه الدِّين الذي يهدي القلوب إلى دين الحق والنقاء".





جاء القرآن لتأسيس أصُول الحياة وبناء الحياة ونشْر العدالة والمساواة بين الناس، قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70].





كما أنَّ القرآن دعا إلى الحرِّية، فمِن نُظُمِ القرآن في الهداية والإصلاح "الإعداد للمستقبل"، مثلما جاء في قصة سيدنا يوسف: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ﴾ [يوسف: 47]، فالقصَّة ليست استثناءً، ولكنها دعوة للمسلمين جميعًا إلى التخطيط والإعداد للمستقبل.





ولقد استوعبَ القرآنُ الحضاراتِ السابقة؛ فالقرآن الَّذي هو منهاج الإسلام لم يأت للقضاء على الحضارات السابقة، ولكنْ لتقويمها وتصليحها وتعديلها، والاستفادة من تَجارِبها، ولقد رَحَّب الإسلام بكل منْجَزات البشرية، والتي لا تتعارَضُ وإنسانيةَ الإسلام، نزَل مفرَّقًا على ثلاثة وعشرين عامًا على مُكْث؛ لِتُعْلِمَ الناس بما فيه.





وعلى هذا؛ فإنَّ جَميع المسلمين مدْعوُّون كلٌّ على قدْر استطاعته إلى العمل بما يخْدم الإسلام والمسلمين، وبالوسائل الممْكِنة والنافعة، فإنَّ الفلاح كلَّ الفلاح في الأخْذ بهذا المنهج القويم، وصدَق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّي تارِكٌ فيكم ما إنْ تمَسَّكتم به لن تَضِلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنَّتِي))؛ صحيح مسلم.





والأمَّة التي تَستمسك بِهذا القرآن قادمة، نَرى بشائرها في الجهاد المقدَّس، وفي امْتلاء المساجد، وفي الأمْر بالمعروف، وفي النهي عن المنكر، وفي المواقف القويَّة التي تَقُول للفاجر: قِفْ، وللظالِم: توقَّف، وللناسي: تذكَّر، وللجاهل: تعلَّم، وللمقصِّر: عُد، وللمذْنِب: استغْفِر، وللضالِّ: اهْتَدِ.





نريد الصَّحْوة التي تنبعث من أعماق البيوت، وتَخرج من أعماق المساجد، وتَدخل في أعماق القلوب؛ لتحرِّكها بالله، وتَجمعها على الله، وتذكِّرها بالله؛ ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45] وتؤثِّر فيها بكتاب الله؛ ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10].






اللَّهم اهْدِنا إلى العمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك، وارْزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تَجْعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبْلغ عِلْمنا، وصلَّى الله على محمد، وعلى آله وصحْبه وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 17-01-2022, 10:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

آيات الصيام: حكم وأسرار

جمع وإعداد: حسام العيسوى إبراهيم

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -


أمَّا بعد:
فإنَّ الإسلامَ لم يشرعْ شيئًا إلا لحِكمة، عَلِمها مَن عَلِمها، وجَهِلها مَن جَهِلها، وكما لا تخلو أفعالُ الله تعالى من حِكمة فيما خَلَق، لا تخلو أحكامه سبحانه من حِكمة فيما شرَع، فهو حكيمٌ في خلْقه، حكيم في أمْره، لا يخلق شيئًا باطلاً، ولا يشرع شيئًا عبثًا.

وهذا يَنطبِق على العبادات، وعلى المعاملات جميعًا، كما يَنطبِق على الواجباتِ والمحرَّمات أيضًا.

إنَّ الله تعالى غنيٌّ عن العالمين، وعباده جميعًا هم الفُقراء إليه، فهو سبحانه لا تنفعه طاعَة، كما لا تضرُّه معصية، فالحِكمةُ في الطاعة عائدةٌ إلى مصلحة المكلَّفين أنفسِهم.

وفى الصِّيام حِكمٌ ومصالحُ كثيرة، أشارتْ إليها نصوص الشرع ذاتها، منها:
1- قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].

فهذه الآيةُ المبارَكة تبيِّن لنا بعضَ حِكم وأسرار هذه الفريضة:
النِّداء بهذه الصفِّة المحبَّبة إلى النفس: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، وكأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يقول لنا: إنَّ الصوم من علاماتِ الإيمان، وإنَّ مَن صام فقدِ استكمل علاماتِ الإيمان، وفي هذا جاء حديث النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبه))؛ متفق عليه.

التعبير بلفظ ﴿ كُتِبَ ﴾:
والملاحِظ لهذا اللفظ يجد أنَّ الله - سبحانه وتعالى - ذكَره قبل الحديث عن الصَّوْم بآيات قليلة في قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178]، وذكَره - سبحانه وتعالى - بعدَ الحديث عن الصوم بآيات معدودة؛ فقال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]، وهذا يدلُّ دلالةً أكيدة على أنَّ الإسلام كلٌّ متكامل، ونظامٌ شامِل، يشمل مظاهرَ الحياة جميعًا.

غاية الصَّوْم وأسْمى مقاصدِه "التقوى".

يقول ابن القيِّم: "وللصومِ تأثيرٌ عجيبٌ في حِفْظ الجوارح الظاهرة، والقُوَى الباطنة، وحميتها عن التخليطِ الجالِب لها الموادَّ الفاسدة، التي إذا استولتْ عليها أفسدتْها، واستفراغ الموادِّ الرديئة المانِعة لها من صحَّتها، فالصومُ يحفظ على القلْب والجوارح صِحَّتَها، ويُعيد إليها ما استلبتْه منها أيدي الشهوات، فهو مِن أكبر العَوْن على التَّقْوى؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]".

يقول صاحب "الظلال": "وهكذا تبرزُ الغاية الكبيرة من الصوم، إنَّها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظُ في القلوب وهي تؤدِّي هذه الفريضة، طاعةً لله، وإيثارًا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوبَ من إفساد الصَّوْم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطَبون بهذا القرآن يَعلمون مقامَ التقوى عندَ الله، ووزنها في ميزانه، فهي غايةٌ تتطلع إليها أرواحُهم، وهذا الصوم أداةٌ من أدواتها، وطريقٌ موصل إليها، ومِن ثَمَّ يرفعها السِّياق أمامَ عيونهم هدفًا وضيئًا يتَّجهون إليه عن طريقِ الصيام؛ ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾".

2- قال تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 184 - 185].

الصَّوْم الإسلامي أفْضَل أنواع الصِّيام: فهو أيامٌ معدودات، يصوم فيها المسلِم عنِ الطعام والشراب والجِماع، مِن طلوع الفجْر إلى غروب الشمس، وبهذا يَتميَّز الصَّوم الإسلامي عن صومِ أصحابِ الأديان، فبعض أصحابِ الأديان يصومون عن كلِّ ذي رُوح فقط، ويأكلون ما لَذَّ وطاب مِن ألوان الطعام والشراب، كما لا يصومون عن شَهْوةِ الفَرْج، وبعضهم يصوم صيامًا يمتدُّ أيامًا، فيجهد البدَن، ويشقُّ على النفس، ولا يقدر عليه إلا الخاصَّة، أمَّا الصيام الواجب في الإسلام فهو لكلِّ المسلمين المكلَّفين، خاصَّتهم وعامَّتهم.

يُسْر ورحمة الإسلام:
ويَظهر ذلك في تخفيفِ الله على عباده غير القادرين على أداءِ هذه الفريضة، وإعطائهم فرصةً أخرى للقضاء، فإنْ لم يستطيعوا القضاء، فالفِدية تكون عِوضًا لهم عن فِطْرهم، ولذلك حثَّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الأَخْذ بهذه الرُّخَص، بل إنَّه توعَّد في بعض أحاديثه مَن لم يأخذْ بها؛ فعن جابر - رضي الله عنه - قال: خرَج رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عامَ الفتْح إلى مكة في رمضان، فصامَ حتَّى بلغ "كراع الغميم"، فصام الناس، ثم دعَا بقدح مِن ماء، فرَفَعه حتى نظَر الناس، ثم شَرِب، فقيل له بعد ذلك: إنَّ بعض الناس قد صام، فقال: ((أُولئك العُصاة، أولئك العُصاة))؛ أخرجه مسلم والترمذي.

وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كنَّا مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سَفَر، فمِنَّا الصائم ومنَّا المُفطِر، فنزلنا منزلاً في يوم حارّ، أكثرُنا ظلاًّ صاحِبُ الكساء، ومنَّا من يتَّقى الشمس بيده، فسقط الصُّوَّام، وقام المفطِرون، فضربوا الأبنية، وسَقَوا الرِّكاب، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذهَب المفطِرون اليومَ بالأَجْر))؛ أخرَجه الشيخان والنسائي.

القرآن والصيام قُرَناء:
قرَن الله - تبارك وتعالى - في هذه الآية بيْن الصيام المفروض في رمضانَ، وبيْن القرآن؛ وذلك لأنَّ القرآن نزَل في هذا الشهر المبارك، وكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتدارسُ مع جبريلَ القرآن في هذا الشَّهْر، فالله - عزَّ وجلَّ - يَبْعَث لكلِّ مسلمٍ رسالةً أنَّ القرآن دواءٌ لكلِّ إنسان مِن أمراضه وعِلَله، فما على هذا الإنسانِ إلاَّ أن يُحدِّد موضع الداء، والقرآن دواء ناجِع وفعَّال مِن هذا المرَض؛ لأنَّه كلامُ الله - عزَّ وجلَّ - ولذلك عبَّر الله - عزَّ وجلَّ - أنَّ في هذا القرآن هُدًى للناس، فالهِداية عامَّة لكلِّ الناس؛ المسلِم وغير المسلِم، المسلِم الطائع والعاصي، طالما أنَّهم نَظَروا إليه بعُقولهم وأفئدتهم، وتنحَّوْا عن أهوائِهم وشهواتهم، فالقرآنُ الكريم في المقام الأوَّل كتابُ هِداية لكلِّ البشَر.

- شُكْر نِعمة الله - عزَّ وجلَّ:
﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾، فعندَما يصوم المسلِم يشعرُ بنعمة الله عليه، فإنَّ إِلْف النعم يُفقد الإنسانَ الإحساسَ بقيمتها، ولا يعرف مقدارَ النِّعمة إلا عندَ فقدها، وبضدِّها تتميَّز الأشياء، فإنَّما يحس المرء بنِعمة الشِّبع والرِّي إذا جاع أو عطِش، فإذا شبِع بعدَ جوع، أو ارْتوى بعدَ عطَش، قال مِن أعماقه: الحمدُ لله، ودفَعه ذلك إلى شُكْر نِعمة الله عليه، وهذا ما أشار إليه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((عَرَضَ عليَّ ربي ليجعلَ لي بطحاءَ مكة ذَهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكني أَشْبَع يومًا، وأجوع يومًا، فإذا جعتُ تضرعتُ إليك وذكرتُك، وإذا شَبِعتُ حَمدتُك وشكرتُك))؛ رواه أحمد والترمذي.

3- قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون ﴾ [البقرة: 186].

الصائمُ أقربُ الدعاةِ استجابةً:
عن عبدِالله بن عمر - رضِي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ للصائمِ عندَ فطره دعوة ما ترد))؛ رواه ابن ماجه.

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم: الإمام العادِل، والصائِم حتى يُفطِر، ودعوة المظلوم يَرْفَعها الله دون الغَمام يومَ القيامة، وتُفتح لها أبوابُ السماء، ويقول: بعِزَّتي لأنصرنَّك ولو بعدَ حِين))، ومِن ثَمَّ جاء ذِكْر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصِّيام.

4- قال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187].

إذا كان للصوم دَوْره في كسْر شهوة الغريزة الجِنسيَّة، وإعلاء هذه الغَريزة، وخصوصًا إذا دُووم عليها ابتغاءَ مرضاتِ الله، ولكنَّه مِن جانبٍ آخَرَ احترم هذه الغريزةَ الجِنسية للإنسان مِن خلالِ إباحة الجِماع في جميع اللَّيْل إلى تبيُّن الفجر، رحمةً ورخصةً ورفقًا، وقد ورَد في سبب نزول هذه الآية: "أنه أوَّل ما فُرِض الصيام فقد كانوا يأكلون ويَشربون، ويُباشرون نساءَهم، ما لَمْ يناموا أو يُصلُّوا العشاء، فإذا ناموا وصلوا العشاء لم يَجُزْ لهم شيء مِن ذلك إلى الليلة القادِمة، فشقَّ ذلك على الصحابة - رضي الله عنهم - حتى إنَّ بعضَهم، كعُمر بن الخطَّاب، وكَعْب بن مالك قد أصابَ مِن زوجته بعدَما نام، فشقَّ عليه ذلك وشَكَا ذلك للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأنْزَل الله - عزَّ وجلَّ - هذه الآية ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾، ففرِح بها المسلمون فرَحًا شديدًا.

وهكذا تتعدَّد الحِكم والأسرار مِن آيات الصيام.


واللهَ نسأل أن يرزقنا صيامًا مقبولاً، وذنبًا مغفورًا، وتجارةً لن تبورَ، إنَّه ولي ذلك والقادِر عليه.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 321.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 315.16 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.83%)]