|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (172) صـ431 إلى صـ 440 [ ص: 431 ] إلى بعض الزوجات دون بعض ; فإنه أمر لا يملك كسائر الأمور القلبية التي لا كسب للإنسان فيها أنفسها . والذي يوضح هذا الموضع وأن المناصب تقتضي في الاعتبار الكمالي العتب على ما دون اللائق بها قصة نوح وإبراهيم عليهما السلام في حديث الشفاعة ، وفي اعتذار نوح عليه السلام عن أن يقوم بها ، بخطيئته وهي دعاؤه على قومه ، ودعاؤه على قومه إنما كان بعد يأسه من إيمانهم ، قالوا : وبعد قول الله له : لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن [ هود : 36 ] وهذا يقضي بأنه دعاء مباح ; إلا أنه استقصر نفسه لرفيع شأنه أن يصدر من مثله مثل هذا ; إذ كان الأولى الإمساك عنه ، وكذلك إبراهيم اعتذر بخطيئته ، وهي الثلاث المحكيات في الحديث بقوله : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ; فعدها كذبات وإن [ ص: 432 ] كانت تعريضا اعتبارا بما ذكر . والبرهان على صحة هذا التقرير ما تقدم في دليل الكتاب أن كل قضية لم ترد أو لم تبطل أو لم ينبه على ما فيها ; فهي صحيحة صادقة ، فإذا عرضنا مسألتنا على تلك القاعدة وجدنا الله تعالى حكى عن نوح دعاءه على قومه ; فقال : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح : 26 ] ولم يذكر قبله ولا بعده ما يدل على عتب ولا لوم ، ولا خروج عن مقتضى الأمر والنهي ، بل حكى أنه قال : إنك إن تذرهم يضلوا عبادك الآية [ نوح : 27 ] ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يقل ذلك إلا بوحي من الله ; لأنه غيب وهو معنى قوله تعالى : وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن [ هود : 36 ] وكذلك قال تعالى في إبراهيم فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم [ الصافات : 88 ، 89 ] ولم يذكر قبل ذلك ولا بعده ما يشير إلى لوم ولا عتب ، ولا مخالفة أمر ولا نهي ، ومثله قوله تعالى : قال بل فعله كبيرهم هذا [ الأنبياء : 63 ] ; فلم يقع في هذا المساق ذكر لمخالفة ، ولا إشارة إلى عتب ، بل جاء في الآية الأولى : إذ جاء ربه بقلب سليم [ الصافات : 84 ] ، وهو غاية في المدح بالموافقة ، وهكذا سائر المساق إلى آخر القصة . وفي الآية الأخرى قال : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين [ الأنبياء : 51 ] إلى آخرها ; فتضمنت الآيات مدحه ومناضلته عن [ ص: 433 ] الحق من غير زيادة ; فدل على أن كل ما ناضل به صحيح موافق ، ومع ذلك ; فقد قال محمد صلى الله عليه وسلم : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، وإبراهيم في القيامة يستقصر نفسه عن رتبة الشفاعة بما يذكره ، وكذلك نوح ; فثبت أن إثبات الخطيئة هنا ليس من قبل مخالفة أمر الله ، بل من جهة الاعتبار من العبد فيما تطلبه به المرتبة ; فكذلك قصة محمد عليه الصلاة والسلام في مسألة القسم . وقد مددت في هذا الموضع بعض النفس لشرفه ، ولولا الإطالة ; لبين من هذا القبيل في شأن الأنبياء عليهم السلام ما ينشرح له الصدر ، وتطمئن إلى بيانه النفس ، مما يشهد له القرآن والسنة والقواعد الشرعية ، والله المستعان . وفي آخر فصل الأوامر والنواهي أيضا مما يتمهد به هذا الأصل ، وقد حصل من المجموع أن الترك هنا راجع إلى ما يقتضيه النهي ، لكن النهي الاعتباري . وأما السادس ; فظاهر أنه راجع إلى الترك الذي يقتضيه النهي لأنه من باب [ ص: 434 ] تعارض مفسدتين ; إذ يطلب الذهاب إلى الراجح ، وينهى عن العمل بالمرجوح ، والترك هنا هو الراجح ; فعمل عليه . فصل وأما الإقرار فمحمله على أن لا حرج في الفعل الذي رآه عليه السلام فأقره ، أو سمع به فأقره ، وهذا المعنى مبسوط في الأصول ، ولكن الذي [ ص: 435 ] يخص الموضع هنا أن ما لا حرج فيه جنس لأنواع : الواجب ، والمندوب ، والمباح بمعنى المأذون فيه وبمعنى أن لا حرج فيه ، وأما المكروه ; فغير داخل تحته على ما هو المقصود لأن سكوته عليه يؤذن إطلاقه بمساواة الفعل للترك ، والمكروه لا يصح فيه ذلك ; لأن الفعل المكروه منهي عنه ، وإذا كان كذلك ; لم يصح السكوت عنه ، ولأن الإقرار محل تشريع عند العلماء ; فلا يفهم منه المكروه بحكم إطلاق السكوت عليه دون زيادة تقترن به ، فإذا لم يكن ثم قرينة ولا تعريف أوهم ما هو أقرب إلى الفهم ، وهو الإذن أو أن لا حرج بإطلاق ، والمكروه ليس كذلك . لا يقال : فيلزم مثله في الواجب والمندوب ; إذ لا يفهم بحكم الإقرار فيه غير مطلق الإذن أو أن لا حرج ، وليسا كذلك ; لأن الواجب منهي عن تركه ومأمور بفعله ، والمندوب مأمور بفعله ، وجميع ذلك زائد على مطلق رفع الحرج ; فلا يدخلان تحت مقتضى الإقرار ، وقد زعمت أنه داخل ، هذا خلف [ ص: 436 ] لأنا نقول : بل هما داخلان لأن عدم الحرج مع فعل الواجب لازم للموافقة بينهما ; لأن الواجب والمندوب إنما يعتبران في الاقتضاء قصدا من جهة الفعل ، ومن هذه الجهة صارا لا حرج فيهما ، بخلاف المكروه ; فإنه إنما يعتبر في الاقتضاء من جهة الترك ، لا من جهة الفعل ، وأن لا حرج راجع إلى الفعل ; فلا يتوافقان ، وإلا ; فكيف يتوافقان والنهي يصادم عدم الحرج في الفعل ؟ فإن قيل : من مسائل كتاب الأحكام أن المكروه معفو عنه من جهة الفعل ، ومعنى كونه معفوا عنه هو معنى عدم الحرج فيه ، وأنت تثبت هنا الحرج بهذا الكلام . قيل : كلا ، بل المراد هنا غير المراد هنالك ; لأن الكلام هنالك فيما بعد الوقوع لا فيما قبله ولا شك أن فاعل المكروه مصادم للنهي بحتا كما هو مصادم في الفعل المحرم ولكن خفة شأن المكروه وقلة مفسدته صيرته بعد ما وقع في حكم ما لا حرج فيه ; استدراكا له من رفق الشارع بالمكلف ، ومما يتقدمه من فعل الطاعات تشبيها له بالصغيرة التي يكفرها كثير من الطاعات ; كالطهارات ، والصلوات ، والجمعات ، ورمضان ، واجتناب الكبائر ، وسائر ما ثبت من ذلك في الشريعة ، والصغيرة أعظم من المكروه ; فالمكروه أولى بهذا الحكم فضلا من الله ونعمة . وأما ما ذكر هنا من مصادمة النهي لرفع الحرج ; فنظر إلى ما قبل الوقوع ، ولا مرية في أن الأمر كذلك فلا يمكن والحال هذه أن يدخل المكروه تحت [ ص: 437 ] ما لا حرج فيه ، وأمثلة هذا القسم كثيرة ; كقيافة المدلجي في أسامة وأبيه زيد ، وأكل الضب على مائدته عليه الصلاة والسلام . وعن عبد الله بن مغفل ; قال : أصبت جرابا من شحم يوم خيبر ، قال : فالتزمته فقلت : لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا ، قال : فالتفت فإذا رسول الله متبسما . وقد استدل بعض العلماء على طهارة دم النبي عليه الصلاة والسلام بترك الإنكار على من شرب دم حجامته [ ص: 438 ] المسألة السابعة القول منه صلى الله عليه وسلم إذا قارنه الفعل ; فذلك أبلغ ما يكون في التأسي بالنسبة إلى المكلفين لأن فعله عليه الصلاة والسلام واقع على أزكى ما يمكن في وضع التكاليف ; فالاقتداء به في ذلك العمل في أعلى مراتب الصحة . بخلاف ما إذا لم يطابقه الفعل ; فإنه وإن كان القول يقتضي الصحة ; فذلك لا يدل على أفضلية ولا مفضولية . ومثاله ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : أأكذب لامرأتي ؟ قال : لا خير في الكذب قال : أفأعدها وأقول لها ؟ قال : لا جناح عليك ثم إنه لم يفعل مثل ما أجازه ، بل لما وعد عزم على أن لا يفعل ، وذلك حين شرب عند بعض أزواجه عسلا ; فقال له بعض أزواجه إني أجد منك [ ص: 439 ] ريح مغافير كأنه مما يتأذى من ريحه ; فحلف أن لا يشربه ، أو حرمه على نفسه ويرجع إلى الأول ; فقال الله له : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك [ التحريم : 1 ] وكان قادرا على أن يعد ويقول ، ولكنه عزم بيمين علقها على نفسه ، أو تحريم عقده ; حتى رده الله إلى تحلة الأيمان . وأيضا ; فلما قال للرجل الواهب لابنه : أشهد غيري كان ظاهرا في الإجازة ، ولما امتنع هو من الشهادة ; دل على مرجوحية مقتضى القول . [ ص: 440 ] وأمر عليه الصلاة والسلام حسان وغيره بإنشاد الشعر ، وأذن لهم فيه ، ومع ذلك ; فقد منعه عليه الصلاة والسلام ولم يعلمه ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (173) صـ441 إلى صـ 460 وذلك يدل على [ ص: 441 ] مرجوحيته ولقوله : وما ينبغي له [ يس : 69 ] وقال لحسان : اهجهم وجبريل معك ; فهذا إذن في الهجاء ، ولم يذم عليه الصلاة والسلام أحدا بعيب فيه ، خلاف عيب الدين ، ولا هجا أحدا بمنثور ، كما لم يتأت له المنظوم أيضا ومن أوصافه عليه الصلاة والسلام أنه لم يكن عيابا ولا فحاشا ، وأذن لأقوام في أن يقولوا لمنافع كانت لهم في القول أو نضال عن الإسلام ، ولم [ ص: 442 ] يفعل هو شيئا من ذلك ، وإنما كان منه التورية ; كقوله : نحن من ماء ، وفي التوجه إلى الغزو ; فكان إذا أراد غزوة ورى بغيرها ، فإذا كان كذلك ; فالاقتداء بالقول الذي مفهومه الإذن إذا تركه قصدا مما لا حرج فيه ، وإن تركه اقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام أحسن لمن قدر على ذلك ، فمن أتى شيئا من ذلك ; فالتوسعة على وفق القول مبذولة ، وباب التيسير مفتوح ، والحمد لله . [ ص: 443 ] المسألة الثامنة الإقرار منه عليه الصلاة والسلام إذا وافق الفعل ; فهو صحيح في التأسي لا شوب فيه ، ولا انحطاط عن أعلى مراتب التأسي ; لأن فعله عليه الصلاة والسلام واقع موقع الصواب ، فإذا وافقه إقراره لغيره على مثل ذلك الفعل ; فهو كمجرد الاقتداء بالفعل ; فالإقرار دليل زائد مثبت . بخلاف ما إذا لم يوافقه ; فإن الإقرار وإن اقتضى الصحة فالترك كالمعارض ، وإن لم تتحقق فيه المعارضة ; فقد رمى فيه شوب التوقف لتوقفه عليه الصلاة والسلام عن الفعل . ومثاله إعراضه عن سماع اللهو وإن كان مباحا ، وبعده عن التلهي به وإن لم يحرج في استعماله ، وقد كانوا يتحدثون بأشياء من أمور الجاهلية بحضرته وربما تبسم عند ذلك ، ولم يكن يذكر هو من ذلك إلا ما دعت إليه حاجة [ ص: 444 ] أو ما لا بد منه ، ولما جاءته المرأة تسأله عن مسألة من طهارة الحيضة ; قال لها خذي فرصة ممسكة فتطهري بها فقالت : وكيف أتطهر بها ؟ فأعاد عليها واستحيى حتى غطى وجهه ففهمت عائشة ما أراد ، ففهمتها بما هو [ ص: 445 ] أصرح وأشرح ; فأقر عائشة على الشرح الأبلغ ، وسكت هو عنه حياء ; فمثل هذا مراعى إذا لم يتعين بيان ذلك ; فإنه من باب الجائز ، أما إذا تعين ; فلا يمكن إلا الإفهام كيف كان ; فإنه محل مقطع الحقوق ، والأمثلة كثيرة . والحاصل أن نفس الإقرار لا يدل على مطلق الجواز من غير نظر ، بل فيه ما يكون كذلك ، نحو الإقرار على المطلوبات والمباحات الصرفة ، ومنه ما لا يكون كذلك كالأمثلة . فإن قارنه قول ، فالأمر فيه كما تقدم ، فينظر إلى الفعل ; فيقضي بمطلق الصحة فيه مع المطابقة دون المخالفة . [ ص: 446 ] المسألة التاسعة سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها ومن الدليل على ذلك أمور [ ص: 447 ] أحدها : ثناء الله عليهم من غير مثنوية ، ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها ; كقوله تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران : 110 ] وقوله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأمم ، وذلك يقضي باستقامتهم في كل حال ، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة ، وفي الثانية إثبات العدالة مطلقا ، وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى . ولا يقال : إن هذا عام في الأمة ; فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم لأنا نقول : " أولا " ليس كذلك ، بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص ، ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر [ ص: 448 ] " وثانيا " على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب ; فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهم المباشرون للوحي . " وثالثا " أنهم أولى بالدخول من غيرهم ; إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم ; فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح . وأيضا ; فإن من بعد الصحابة من أهل السنة عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم ، فأخذوا عنهم رواية ودراية من غير استثناء ولا محاشاة ، بخلاف غيرهم ; فلم يعتبروا منهم إلا من صحت إمامته وثبتت عدالته ، وذلك مصدق لكونهم أحق بذلك المدح من غيرهم ، فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير [ ص: 449 ] أمة بإطلاق ، وأنهم وسط أي عدول بإطلاق ، وإذا كان كذلك ; فقولهم معتبر ، وعملهم مقتدى به ، وهكذا سائر الآيات التي جاءت بمدحهم ; كقوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا إلى قوله والذين تبوءوا الدار والإيمان الآية [ الحشر : 8 9 ] وأشباه ذلك . والثاني : ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم ، وأن سنتهم في طلب الاتباع كسنة النبي صلى الله عليه وسلم كقوله فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ . وقوله : تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي [ ص: 450 ] وعنه أنه قال : أصحابي مثل الملح ، لا يصلح الطعام إلا به [ ص: 451 ] وعنه أيضا : إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليا ; فجعلهم خير أصحابي ، وفي أصحابي كلهم خير [ ص: 452 ] ويروى في بعض الأخبار : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم إلى غير ذلك مما في معناه [ ص: 453 ] [ ص: 454 ] [ ص: 455 ] [ ص: 456 ] والثالث : أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل ; فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلا ، وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلا ، وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلا ، ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة [ ص: 457 ] وهذه الآراء وإن ترجح عند العلماء خلافها ; ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلي هو المعتمد في المسألة ، وذلك أن السلف والخلف من التابعين ، ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة ، ويتكثرون بموافقتهم ، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتبرين ، فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قووها بذكر من ذهب إليها من الصحابة ، وما ذاك إلا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم ، وقوة مآخذهم دون غيرهم ، وكبر شأنهم في الشريعة ، وأنهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم فضلا عن النظر معهم فيما نظروا فيه ، وقد نقل عن الشافعي أن المجتهد قبل أن يجتهد لا يمنع من تقليد [ ص: 458 ] الصحابة ، ويمنع في غيره ، وهو المنقول عنه في الصحابي : " كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته ، ولكنه مع ذلك يعرف لهم قدرهم ، وأيضا فقد وصفهم السلف الصالح ووصف متابعتهم بما لا بد من ذكر بعضه . فعن سعيد بن جبير أنه قال : ما لم يعرفه البدريون ; فليس من الدين [ ص: 459 ] وعن الحسن وقد ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال : إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، قوما اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم ; فإنهم ورب الكعبة على الصراط المستقيم وعن إبراهيم قال : لم يدخر لكم شيء خبئ عن القوم لفضل عندكم . وعن حذيفة ; أنه كان يقول : اتقوا الله يا معشر القراء ، وخذوا طريق من قبلكم ; فلعمري لئن اتبعتموه فقد سبقتم سبقا بعيدا ، ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا . وعن ابن مسعود : من كان منكم متأسيا ; فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا ، [ ص: 460 ] وأحسنها حالا ، قوما اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه ; فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ; فإنهم كانوا على الهدى المستقيم . وقال علي : إياكم والاستنان بالرجال ثم قال : فإن كنتم لا بد فاعلين ; فبالأموات لا بالأحياء وهو نهي للعلماء لا للعوام . ومن ذلك قول عمر بن عبد العزيز ; قال : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، من عمل بها مهتد ، ومن استنصر بها منصور ، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا وفي رواية بعد قوله : وقوة على دين الله : ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الرابع الحلقة (174) صـ461 إلى صـ 474 ،، ولا النظر في رأي [ ص: 461 ] خالفها ، من اهتدى بها مهتد الحديث ، وكان مالك يعجبه كلامه جدا . وعن حذيفة قال : اتبعوا آثارنا ; فإن أصبتم فقد سبقتم سبقا بينا ، وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالا بعيدا . وعن ابن مسعود نحوه ; فقال : " اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا ; فقد كفيتم " وعنه أنه مر برجل يقص في المسجد ويقول : " سبحوا عشرا وهللوا عشرا فقال عبد الله : إنكم لأهدى من أصحاب محمد أو أضل ! بل هذه بل هذه [ ص: 462 ] يعني : أضل . والآثار في هذا المعنى يكثر إيرادها ، وحسبك من ذلك دليلا مستقلا وهو : الرابع : ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم من أبغضهم ، وأن من أحبهم فقد أحب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام ، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط ; إذ لا مزية [ ص: 463 ] في ذلك وإنما هو لشدة متابعتهم له ، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته ونصرته ، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة ، وتجعل سيرته قبلة . ولما بالغ مالك في هذا المعنى بالنسبة إلى الصحابة أو من اهتدى بهديهم واستن بسنتهم فجعله الله تعالى قدوة لغيره في ذلك ; فقد كان المعاصرون لمالك يتبعون آثاره ويقتدون بأفعاله ، ببركة اتباعه لمن أثنى الله ورسوله عليهم ، وجعلهم قدوة أو من اتبعهم ، رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون [ المجادلة : 22 [ ص: 464 ] المسألة العاشرة كل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبر فهو كما أخبر ، وهو حق وصدق ، معتمد عليه فيما أخبر به وعنه ، سواء علينا أنبنى عليه في التكليف حكم أم لا كما أنه إذا شرع حكما أو أمر أو نهى ; فهو كما قال عليه الصلاة والسلام ، لا يفرق في ذلك بين ما أخبره به الملك عن الله ، وبين ما نفث في روعه وألقي في نفسه ، أو رآه رؤية كشف واطلاع على مغيب على وجه خارق للعادة ، أو كيف ما كان ; فذلك معتبر يحتج به ويبنى عليه في الاعتقادات والأعمال جميعا ; لأنه صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة ، وما ينطق عن الهوى [ ص: 465 ] وهذا مبين في علم الكلام ; فلا نطول بالاحتجاج عليه ، ولكنا نمثله ثم نبني عليه ما أردنا بحول الله . فمثاله قوله عليه الصلاة والسلام : إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ; فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب ; فهذا بناء حكم على ما ألقي في النفس [ ص: 466 ] وقال عليه الصلاة والسلام : أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها ; فالتمسوها في العشر الغوابر . وفي حديث آخر : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ; فهذا بناء من النبي صلى الله عليه وسلم على رؤيا [ ص: 467 ] النوم ونحو ذلك وقع في بدء الأذان ، وهو أبلغ في المسألة عن عبد الله بن زيد قال : لما أصبحنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الرؤيا ; فقال : إن هذه لرؤيا حق الحديث ، إلى أن قال عمر بن الخطاب : والذي بعثك بالحق ; لقد رأيت مثل الذي رأى قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد ; فذاك أثبت [ ص: 468 ] فحكم عليه الصلاة والسلام على الرؤيا بأنها حق وبنى عليها الحكم في ألفاظ الأذان . وفي الصحيح صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ثم انصرف ; فقال : يا فلان ألا تحسن صلاتك ؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي ; فإنما يصلي لنفسه ؟ إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي فهذا حكم أمري بناء على الكشف ، ومن تتبع الأحاديث وجد أكثر من هذا [ ص: 469 ] فإذا تقرر هذا ; فلقائل أن يقول : قد مر قبل هذا في كتاب المقاصد قاعدة بينت أن ما يخص رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصنا ، وما يعمه يعمنا ، فإذا بنينا على ذلك ; فلكل من كان من أهل الكشف والاطلاع أن يحكم بمقتضى اطلاعه وكشفه ، ألا ترى إلى قضية أبي بكر الصديق مع بنته عائشة فيما نحلها إياه ثم مرض قبل أن تقبضه ، قال فيه : وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله قالت : فقلت يا أبت ! والله لو كان كذا وكذا لتركته ، إنما هي أسماء ; فمن الأخرى ؟ قال : ذو بطن بنت خارجة أراها جارية ، وقضية عمر بن الخطاب في ندائه سارية وهو على المنبر ; فبنوا كما ترى على الكشف والاطلاع المعدود من الغيب وهو معتاد في أولياء الله تعالى ، وكتب العلماء [ ص: 470 ] مشحونة بأخبارهم فيه ، فيقتضي ذلك جريان الحكم وراثة عن النبي صلى الله عليه وسلم . والجواب : أن هذا السؤال هو فائدة هذه المسألة ، وبسببه جلبت هذه المقدمة ، وإن كان الكلام المتقدم في كتاب المقاصد كافيا ، ولكن نكتة المسألة هذا تقريرها . فاعلم أن النبي مؤيد بالعصمة معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال ، وصحة ما بين ، وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصوما بلا خلاف ; إما بأنه لا يخطئ ألبتة ، وإما بأنه لا يقر على خطأ إن فرض ; فما ظنك بغير ذلك ؟ فكل ما حكم به أو أخبر عنه من جهة رؤيا نوم أو رؤية كشف مثل : ما حكم به مما ألقى إليه الملك عن الله عز وجل ، وأما أمته فكل واحد منهم غير معصوم بل يجوز عليه الغلط والخطأ والنسيان ، ويجوز أن تكون رؤياه حلما ، وكشفه غير حقيقي وإن تبين في الوجود صدقه ، واعتيد ذلك فيه واطرد ; فإمكان الخطأ والوهم باق ، وما كان هذا شأنه لم يصح أن يقطع به حكم [ ص: 471 ] وأيضا ; فإن كان مثل هذا معدودا في الاطلاع الغيبي ; فالآيات والأحاديث تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله ، كما في الحديث من قوله عليه السلام في خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم تلا : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام [ لقمان : 34 ] إلى آخر السورة ، وقال في الآية الأخرى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ الأنعام : 59 ] واستثنى المرسلين في الآية الأخرى بقوله : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية [ الجن : 26 ، 27 ] فبقي من عداهم على الحكم الأول ، وهو امتناع علمه وقال تعالى : وما كان الله ليطلعكم على الغيب الآية [ آل عمران : 179 ] وقال : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ النمل : 65 ] وفي حديث عائشة : ومن زعم أن محمدا يعلم ما في غد ; فقد أعظم الفرية على الله [ ص: 472 ] وقد تعاضدت الآيات والأخبار وتكررت في أنه لا يعلم الغيب إلا الله ، وهو يفيد صحة العموم من تلك الظواهر ، حسبما مر في باب العموم من هذا الكتاب ، فإذا كان كذلك ; خرج من سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء صلوات الله عليهم في العلم بالمغيبات . وما ذكر قبل عن الصحابة أو ما يذكر عنهم بسند صحيح ; فمما لا ينبني عليه حكم ، إذ لم يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقوعه على حسب ما أخبروه هو مما يظن بهم ، ولكنهم لا يعاملون أنفسهم إلا بأمر مشترك لجميع الأمة ، وهو جواز الخطأ ، لذلك قال أبو بكر : أراها جارية ; فأتى بعبارة الظن التي لا تفيد حكما ، وعبارة يا سارية ! الجبل مع أنها إن صحت لا تفيد حكما شرعيا ، هي أيضا لا تفيد أن كل ما سواها مثلها ، وإن سلم ; فلخاصية أن الشيطان كان يفر منه ; فلا يطور حول حمى أحواله التي أكرمه الله بها [ ص: 473 ] بخلاف غيره ، فإذا لاح لأحد من أولياء الله شيء من أحوال الغيب ; فلا يكون على علم منها محقق لا شك فيه ، بل على الحال التي يقال فيها : أرى و أظن ، فإذا وقع مطابقا في الوجود ، وفرض تحققه بجهة المطابقة أولا ، والاطراد ثانيا ; فلا يبقى للإخبار به بعد ذلك حكم لأنه صار من باب الحكم على الواقع ; فاستوت الخارقة وغيرها ، نعم تفيد الكرامات والخوارق لأصحابها يقينا وعلما بالله تعالى ، وقوة فيما هم عليه وهو غير ما نحن فيه . ولا يقال : إن الظن أيضا معتبر شرعا في الأحكام الشرعية ; كالمستفاد من أخبار الآحاد والقياس وغيرهما ، وما نحن فيه إن سلم أنه لا يفيد علما مع الاطراد والمطابقة ; فإنه يفيد ظنا ، فيكون معتبرا . لأنا نقول : ما كان من الظنون معتبرا شرعا ; فلاستناده إلى أصل شرعي [ ص: 474 ] حسبما تقدم في موضعه من هذا الكتاب ، وما نحن فيه لم يستند إلى أصل قطعي ولا ظني ، هذا وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم ثبت ذلك بالنسبة إليه ; فلا يثبت بالنسبة إلينا لفقد الشرط وهو العصمة ، وإذا امتنع الشرط امتنع المشروط باتفاق العقلاء . ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (175) صـ5 إلى صـ 20 كتاب الاجتهاد وهو القسم الخامس من الموافقات بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الاجتهاد وللنظر فيه ثلاثة أطراف : أ - طرف يتعلق بالمجتهد من جهة الاجتهاد . ب - وطرف يتعلق بفتواه . ج - وطرف يتعلق النظر فيه بإعمال قوله والاقتداء به . [ ص: 8 ] [ ص: 9 ] الطرف الأول في الاجتهاد فأما الأول; ففيه مسائل : [ ص: 10 ] [ ص: 11 ] المسألة الأولى الاجتهاد على ضربين : أحدهما : لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف ، وذلك عند قيام الساعة . والثاني : يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا . [ ص: 12 ] فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط ، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله ، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله ، وذلك أن الشارع إذا قال وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] وثبت عندنا معنى العدالة شرعا افتقرنا إلى تعيين من حصلت [ ص: 13 ] فيه هذه الصفة ، وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء ، بل ذلك يختلف اختلافا متباينا ، فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة ، طرف أعلى في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق ، وطرف آخر وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها ، وبينهما مراتب لا تنحصر ، وهذا الوسط غامض لا بد فيه من بلوغ حد الوسع وهو الاجتهاد . فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد ، كما إذا أوصى بماله للفقراء ، فلا شك أن من الناس من لا شيء له فيتحقق فيه اسم الفقر فهو [ ص: 14 ] من أهل الوصية ، ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصابا ، وبينهما وسائط; كالرجل يكون له الشيء ولا سعة له; فينظر فيه : هل الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى ؟ وكذلك في فرض نفقات الزوجات والقرابات; إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه والمنفق ، وحال الوقت إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنضبط بحصر ، ولا يمكن استيفاء القول في آحادها; فلا يمكن أن يستغنى هاهنا بالتقليد; لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه ، والمناط هنا لم يتحقق بعد; لأن كل صورة من صوره النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير ، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا; فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد ، وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها; فلا بد من النظر في كونها مثلها أو لا ، وهو نظر اجتهادي أيضا ، وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات ، وقيم المتلفات . ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها ، وإنما أتت بأمور كلية ، وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر ، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين ، وليس ما به [ ص: 15 ] الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ، ولا هو طردي بإطلاق ، بل ذلك منقسم إلى الضربين ، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين ، فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب حتى يحقق تحت أي دليل تدخل ، فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب ، وهذا كله بين لمن شدا في العلم . ومن القواعد القضائية " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " فالقاضي لا يمكنه الحكم في واقعة - بل لا يمكنه توجيه [ ص: 16 ] الحجاج ، ولا طلب الخصوم بما عليهم - إلا بعد فهم المدعي من المدعى عليه ، وهو أصل القضاء ، ولا يتعين ذلك إلا بنظر واجتهاد ورد الدعاوى إلى الأدلة ، وهو تحقيق المناط بعينه . فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت ، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه; فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس أفعال الصلاة ، أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة ، وإن كانت كثيرة فلا ، فوقعت له في صلاته زيادة; فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين ، ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر ، فإذا تعين له قسمها [ ص: 17 ] تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه ، وكذلك سائر تكليفاته ، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن; لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك ، منزلات على أفعال مطلقات كذلك ، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة ، وإنما تقع معينة مشخصة ، فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام ، وقد يكون ذلك سهلا ، وقد لا يكون ، وكله اجتهاد . وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد ، وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجها على الأنواع لا على الأشخاص المعينة; كالمثل في جزاء الصيد ، فإن الذي جاء في الشريعة قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] وهذا ظاهر في اعتبار المثل ، إلا أن المثل لا بد من تعيين نوعه ، وكونه مثلا لهذا النوع المقتول ، ككون الكبش مثلا للضبع ، والعنز مثلا للغزال ، والعناق مثلا للأرنب ، والبقرة مثلا للبقرة الوحشية ، والشاة مثلا للشاة من الظباء ، وكذلك الرقبة الواجبة في عتق الكفارات ، والبلوغ في الغلام والجارية ، وما أشبه ذلك ، ولكن هذا الاجتهاد في الأنواع لا يغني عن الاجتهاد في الأشخاص المعينة; فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان; إذ لا يمكن [ ص: 18 ] حصول التكليف إلا به ، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفا بالمحال ، وهو غير ممكن شرعا ، كما أنه غير ممكن عقلا ، وهو [ ص: 19 ] أوضح دليل في المسألة . وأما الضرب الثاني - وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع - فثلاثة أنواع : أحدها : المسمى بتنقيح المناط ، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في [ ص: 20 ] الحكم مذكورا مع غيره في النص; فينقح بالاجتهاد حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغى ، كما جاء في حديث الأعرابي الذي جاء ينتف شعره ويضرب صدره . ![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (176) صـ21 إلى صـ 30 وقد قسمه الغزالي إلى أقسام ذكرها في " شفاء الغليل " ، وهو مبسوط [ ص: 21 ] في كتب الأصول ، قالوا : وهو خارج عن باب القياس ، ولذلك قال به أبو حنيفة مع إنكاره القياس في الكفارات ، وإنما هو راجع إلى نوع من تأويل الظواهر . والثاني : المسمى بتخريج المناط ، وهو راجع إلى أن النص الدال على [ ص: 22 ] الحكم لم يتعرض للمناط; فكأنه أخرج بالبحث ، وهو الاجتهاد القياسي ، وهو معلوم . والثالث : هو نوع من تحقيق المناط المتقدم الذكر; لأنه ضربان : [ ص: 23 ] أحدهما : ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص; كتعيين نوع المثل في جزاء الصيد ، ونوع الرقبة في العتق في الكفارات ، وما أشبه ذلك ، وقد تقدم التنبيه عليه . والضرب الثاني : ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه; فكأن تحقيق المناط على قسمين : - تحقيق عام ، وهو ما ذكر . - وتحقيق خاص من ذلك العام . وذلك أن الأول نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما ، فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلا ووجد هذا الشخص متصفا بها على حسب ما ظهر له أوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول ، من الشهادات والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة ، وهكذا إذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية ، والأمور الإباحية ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة ، أوقع عليهم أحكام تلك النصوص ، كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة; فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر . أما الثاني - وهو النظر الخاص - فأعلى من هذا وأدق ، وهو في الحقيقة [ ص: 24 ] ناشئ عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [ الأنفال : 29 ] وقد يعبر عنه بالحكمة ، ويشير إليها قوله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا [ البقرة : 269 ] قال مالك : من شأن ابن آدم ألا يعلم ثم يعلم ، أما سمعت قول الله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [ الأنفال : 29 ] ، وقال أيضا : إن الحكمة مسحة ملك على قلب العبد ، وقال : الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد ، وقال أيضا : يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله ، وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله . وقد كره مالك كتابة العلم - يريد ما كان نحو الفتاوى - فسئل ما الذي نصنع ؟ فقال : تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ، ثم لا تحتاجون إلى الكتاب . وعلى الجملة; فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ، ومداخل [ ص: 25 ] الهوى والحظوظ العاجلة حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل ، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره . ويختص غير المنحتم بوجه آخر ، وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت ، وحال دون حال ، وشخص دون شخص; إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد ، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك; فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة ، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر ، ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر ، ويكون بريئا من ذلك في بعض الأعمال دون بعض; فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها ، وتفاوت إدراكها ، وقوة تحملها للتكاليف ، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها ، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها; فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها ، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف; فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق ، لكن مما ثبت عمومه في التحقيق الأول العام ، ويقيد به ما ثبت إطلاقه في الأولي ، أو يضم قيدا أو قيودا لما ثبت له في الأول بعض القيود . [ ص: 26 ] هذا معنى تحقيق المناط هنا . وبقي الدليل على صحة هذا الاجتهاد; فإن ما سواه قد تكفل الأصوليون ببيان الدلالة عليه ، وهو داخل تحت عموم تحقيق المناط; فيكون مندرجا تحت مطلق الدلالة عليه ، ولكن إن تشوف أحد إلى خصوص الدلالة عليه فالأدلة عليه كثيرة نذكر منها ما تيسر بحول الله : فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال ، وخير الأعمال ، وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال; فأجاب بأجوبة مختلفة ، كل واحد منها لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفصيل; ففي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : " إيمان بالله " قال : ثم ماذا ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " قال : ثم ماذا ؟ قال : " حج مبرور " . وسئل عليه الصلاة والسلام : أي الأعمال أفضل ؟ قال : " الصلاة لوقتها " قال : ثم أي ؟ قال : " بر الوالدين " قال : ثم أي ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " . [ ص: 27 ] وفي النسائي عن أبي أمامة قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : مرني بأمر آخذه عنك ، قال : عليك بالصوم فإنه لا مثل له . وفي الترمذي : سئل أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " . وفي الصحيح في قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له . . إلخ ، قال : ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به ، الحديث . [ ص: 28 ] وفي النسائي : " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء " . وفي البزار : أي العبادة أفضل ؟ قال : " دعاء المرء لنفسه " [ ص: 29 ] وفي الترمذي : " ما من شيء أفضل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خلق حسن " . وفي البزار : " يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما ؟ عليك بحسن الخلق ، وطول الصمت; فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما " . [ ص: 30 ] وفي مسلم : " أي المسلمين خير ؟ قال : من سلم المسلمون من لسانه ويده . وفيه : سئل أي الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف . وفي الصحيح : " وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر " . ![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (177) صـ31 إلى صـ 40 [ ص: 31 ] وفي الترمذي : خيركم من تعلم القرآن وعلمه . وفيه : " أفضل العبادة انتظار الفرج " . إلى أشياء من هذا النمط جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق ، ويشعر إشعارا ظاهرا بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت أو إلى حال السائل . [ ص: 32 ] وقد دعا عليه السلام لأنس بكثرة المال; فبورك له فيه . وقال لثعلبة بن حاطب حين سأله الدعاء له بكثرة المال : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه . وقال لأبي ذر : يا أبا ذر إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله ، وقد قال في الإمارة والحكم : إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن الحديث [ ص: 33 ] وقال : أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصا في ذلك من الصلاح . وفي " أحكام إسماعيل بن إسحاق " عن ابن سيرين ; قال : كان أبو بكر يخافت ، وكان عمر يجهر - يعني في الصلاة - فقيل لأبي بكر : كيف تفعل ؟ قال : أناجي ربي وأتضرع إليه ، وقيل لعمر : كيف تفعل ؟ قال : أوقظ الوسنان ، وأخشأ الشيطان ، وأرضي الرحمن ، فقيل لأبي بكر : ارفع شيئا ، وقيل لعمر : اخفض شيئا ، وفسر بأنه عليه الصلاة والسلام قصد إخراج كل واحد منهما [ ص: 34 ] عن اختياره وإن كان قصده صحيحا . وفي الصحيح : أن ناسا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ، قال : " وقد وجدتموه ؟ " قالوا : نعم ، قال : " ذلك صريح الإيمان " . وفي حديث آخر : " من وجد من ذلك شيئا فليقل : آمنت بالله " وعن ابن عباس في مثله قال : " إذا وجدت شيئا من ذلك فقل : هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم [ الحديد : 3 ] فأجاب النبي عليه الصلاة والسلام بأجوبة مختلفة ، وأجاب ابن عباس بأمر آخر ، والعارض من نوع واحد . وفي الصحيح : إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه; مخافة أن يكبه الله في النار . [ ص: 35 ] وآثر عليه الصلاة والسلام في بعض الغنائم قوما ، ووكل قوما إلى إيمانهم لعلمه بالفريقين ، وقبل عليه الصلاة والسلام من أبي بكر ماله كله ، وندب غيره إلى استبقاء بعضه وقال : " أمسك عليك بعض مالك; فهو خير لك " وجاء آخر بمثل البيضة من الذهب; فردها في وجهه " . [ ص: 36 ] وقال علي : " حدثوا الناس بما يفهمون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟ ! " فجعل إلقاء العلم مقيدا; فرب مسألة تصلح لقوم دون قوم ، وقد قالوا في الرباني : إنه الذي يعلم بصغار العلم قبل كباره; فهذا الترتيب من ذلك . [ ص: 37 ] وروي عن الحارث بن يعقوب قال : الفقيه كل الفقيه من فقه في القرآن ، وعرف مكيدة الشيطان ، فقوله : وعرف مكيدة الشيطان ، هو النكتة في المسألة . وعن أبي رجاء العطاردي قال : " قلت للزبير بن العوام : مالي أراكم يا أصحاب محمد من أخف الناس صلاة ؟ قال : نبادر الوسواس " هذا مع أن التطويل مستحب ، ولكن جاء ما يعارضه ، ومثله حديث " أفتان أنت يا معاذ ؟ " ولو تتبع هذا النوع لكثر جدا ، ومنه ما جاء عن الصحابة والتابعين وعن الأئمة المتقدمين ، وهو كثير . وتحقيق المناط في الأنواع واتفاق الناس عليه في الجملة مما يشهد له كما تقدم ، وقد فرع العلماء عليه; كما قالوا في قوله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا الآية [ المائدة : 33 ] [ ص: 38 ] إن الآية تقتضي مطلق التخيير ، ثم رأوا أنه مقيد بالاجتهاد ، فالقتل في موضع ، والصلب في موضع ، والقطع في موضع ، والنفي في موضع ، وكذلك التخيير في الأسارى من المن والفداء . وكذلك جاء في الشريعة الأمر بالنكاح وعدوه من السنن ، ولكن قسموه إلى الأحكام الخمسة ، ونظروا في ذلك في حق كل مكلف وإن كان نظرا نوعيا; فإنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي ، فالجميع في معنى واحد والاستدلال على الجميع واحد ، ولكن قد يستبعد ببادئ الرأي وبالنظر الأول; حتى يتبين مغزاه ومورده من الشريعة ، وما تقدم وأمثاله كاف مفيد للقطع بصحة هذا الاجتهاد ، وإنما وقع التنبيه عليه; لأن العلماء قلما نبهوا عليه على الخصوص ، وبالله التوفيق . فإن قيل : كيف تصح دعوى التفرقة بين هذا الاجتهاد المستدل عليه وغيره من أنواع الاجتهاد ، مع أنهما في الحكم سواء ؟ لأنه إن كان غير منقطع فغيره كذلك ، إذ لا يخلو أن يراد بكونه غير منقطع أنه لا يصح ارتفاعه بالكلية ، وإن صح إيقاع بعض جزئياته ، أو يراد أنه لا يصح ارتفاعه لا بالكلية ، ولا بالجزئية ، وعلى كل تقدير فسائر أنواع الاجتهاد كذلك . أما الأول; فلأن الوقائع في الوجود لا تنحصر ، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة ، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره; فلا [ ص: 39 ] بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها ، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد ، وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم ، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي ، وهو أيضا اتباع للهوى ، وذلك كله فساد ، فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية ، وهو معنى تعطيل التكليف لزوما ، وهو مؤد إلى تكليف ما لا يطاق ، فإذا لا بد من الاجتهاد في كل زمان; لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان . وأما الثاني فباطل إذ لا يتعطل مطلق التكليف بتعذر الاجتهاد في بعض الجزئيات فيمكن ارتفاعه في هذا النوع الخاص وفي غيره ، فلم يظهر بين الاجتهادين فرق . فالجواب أن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن هذا النوع الخاص كلي في كل زمان ، عام في جميع الوقائع أو أكثرها فلو فرض ارتفاعه لارتفع معظم التكليف الشرعي أو جميعه ، وذلك غير صحيح; لأنه إن فرض في زمان ما ارتفعت الشريعة ضربة لازب بخلاف غيره; فإن الوقائع المتجددة التي لا عهد بها في الزمان المتقدم قليلة بالنسبة إلى ما تقدم لاتساع النظر والاجتهاد من المتقدمين ، فيمكن تقليدهم فيه; لأنه معظم الشريعة ، فلا تتعطل الشريعة بتعطل [ ص: 40 ] بعض الجزئيات ، كما لو فرض العجز عن تحقيق المناط في بعض الجزئيات دون السائر; فإنه لا ضرر على الشريعة في ذلك; فوضح أنهما ليسا سواء ، والله أعلم . ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (178) صـ41 إلى صـ 50 المسألة الثانية إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين : أحدهما : فهم مقاصد الشريعة على كمالها . [ ص: 42 ] والثاني : التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها . أما الأول : فقد مر في كتاب المقاصد أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح ، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك ، لا من حيث إدراك المكلف; إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات . [ ص: 43 ] واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب ، فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة ، وفي كل باب من أبوابها; فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله . وأما الثاني : فهو كالخادم للأول ، فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولا ، ومن هنا كان خادما للأول وفي [ ص: 44 ] استنباط الأحكام ثانيا ، لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط; فلذلك جعل شرطا ثانيا ، وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة; لأنه المقصود ، والثاني وسيلة . لكن هذه المعارف تارة يكون الإنسان عالما بها مجتهدا فيها ، وتارة يكون حافظا لها متمكنا من الاطلاع على مقاصدها غير بالغ رتبة الاجتهاد فيها ، وتارة يكون غير حافظ ولا عارف; إلا أنه عالم بغايتها ، وأن له افتقارا إليها في مسألته التي يجتهد فيها; فهو بحيث إذا عنت له مسألة ينظر فيها زاول أهل المعرفة بتلك المعارف المتعلقة بمسألته ، فلا يقضي فيها إلا بمشورتهم ، وليس بعد هذه المراتب الثلاث مرتبة يعتد بها في نيل المعارف المذكورة . فإن كان مجتهدا فيها كما كان مالك في علم الحديث ، والشافعي في علم الأصول ، فلا إشكال ، وإن كان متمكنا من الاطلاع على مقاصدها كما قالوا في الشافعي وأبي حنيفة في علم الحديث فكذلك أيضا لا إشكال في صحة اجتهاده ، وإن كان القسم الثالث; فإن تهيأ له الاجتهاد في استنباط الأحكام مع [ ص: 45 ] كون المجتهد في تلك المعارف كذلك; فكالثاني ، وإلا فكالعدم . فصل وقد حصل من هذه الجملة أنه لا يلزم المجتهد في الأحكام الشرعية أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة ، بل الأمر ينقسم; فإن كان ثم علم لا يمكن أن يحصل وصف الاجتهاد بكنهه إلا من طريقه; فلا بد أن يكون من أهله حقيقة حتى يكون مجتهدا فيه ، وما سوى ذلك من العلوم ، فلا يلزم ذلك فيه ، وإن كان العلم به معينا فيه ولكن لا يخل التقليد فيه بحقيقة [ ص: 46 ] الاجتهاد; فهذه ثلاثة مطالب لا بد من بيانها : أما الأول : وهو أنه لا يلزم أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة فالدليل عليه أمور : أحدها : أنه لو كان كذلك لم يوجد مجتهد إلا في الندرة ممن سوى الصحابة ، ونحن نمثل بالأئمة الأربعة; فالشافعي عندهم مقلد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في انتقاده ومعرفته ، وأبو حنيفة كذلك ، وإنما عدوا من أهله مالكا وحده ، وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل التجارب والطب والحيض وغير ذلك ، ويبني الحكم على ذلك ، والحكم لا يستقل دون ذلك [ ص: 47 ] الاجتهاد . ولو كان مشترطا في المجتهد الاجتهاد في كل ما يفتقر إليه الحكم ; لم يصح لحاكم أن ينتصب للفصل بين الخصوم حتى يكون مجتهدا في كل ما يفتقر إليه الحكم الذي يوجهه على المطلوب للطالب ، وليس الأمر كذلك بالإجماع . والثاني : أن الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية علم مستقل بنفسه ، ولا يلزم في كل علم أن تبرهن مقدماته فيه بحال ، بل يقول العلماء : إن من فعل ذلك; فقد أدخل في علمه علما آخر ينظر فيه بالعرض لا بالذات ، فكما يصح للطبيب أن يسلم من العلم الطبيعي أن الأسطقصات أربعة ، وأن مزاج الإنسان أعدل الأمزجة فيما يليق أن يكون عليه مزاج الإنسان ، وغير ذلك من المقدمات ، كذلك يصح أن يسلم المجتهد من القارئ أن قوله تعالى : [ ص: 48 ] " وامسحوا برءوسكم وأرجلكم " بالخفض مروي على الصحة ، ومن المحدث أن الحديث الفلاني صحيح أو سقيم ، ومن عالم الناسخ والمنسوخ أن قوله : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية [ البقرة : 180 ] منسوخ بآية المواريث ، ومن اللغوي أن القرء يطلق على الطهر والحيض ، وما أشبه ذلك ثم يبني عليه الأحكام ، بل براهين الهندسة في أعلى مراتب اليقين ، وهي مبنية على مقدمات مسلمة في علم آخر ، مأخوذة في علم الهندسة على التقليد ، وكذلك العدد وغيره من العلوم اليقينية ، ولم يكن ذلك قادحا في حصول اليقين للمهندس أو الحاسب في مطالب علمه ، وقد أجاز النظار وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر [ ص: 49 ] لوجود الصانع والرسالة والشريعة; إذ كان الاجتهاد إنما ينبني على مقدمات تفرض صحتها ، كانت كذلك في نفس الأمر أو لا ، وهذا أوضح من إطناب فيه . فلا يقال : إن المجتهد إذا لم يكن عالما بالمقدمات التي يبنى عليها لا يحصل له العلم بصحة اجتهاده; لأنا نقول ، بل يحصل له العلم بذلك; لأنه مبني على فرض صحة تلك المقدمات ، وبرهان الخلف مبني على [ ص: 50 ] مقدمات باطلة في نفس الأمر ، تفرض صحيحة فيبنى عليها; فيفيد البناء عليها العلم بالمطلوب; فمسألتنا كذلك . والثالث : أن نوعا من الاجتهاد لا يفتقر إلى شيء من تلك العلوم أن يعرفه ، فضلا أن يكون مجتهدا فيه ، وهو الاجتهاد في تنقيح المناط ، وإنما يفتقر إلى الاطلاع على مقاصد الشريعة خاصة ، وإذا ثبت نوع من الاجتهاد دون الاجتهاد في تلك المعارف ثبت مطلق الاجتهاد بدونه ، وهو المطلوب . ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (179) صـ51 إلى صـ 60 فإن قيل : إن جاز أن يكون مقلدا في بعض ما يتعلق بالاجتهاد لم تصف له مسألة معلومة فيه; لأن مسألة يقلد في بعض مقدماتها لا يكون مجتهدا فيها بإطلاق ، فلم يمكن أن يوصف صاحبها بصفة الاجتهاد بإطلاق ، وكلامنا إنما هو [ ص: 51 ] في مجتهد يعتمد على اجتهاده بإطلاق ، ولا يكون كذلك مع تقليده في بعض المعارف المبني عليها . فالجواب : إن ذلك شرط في العلم بالمسألة المجتهد فيها بإطلاق لا شرط في صحة الاجتهاد; لأن تلك المعارف ليست جزءا من ماهية الاجتهاد ، وإنما الاجتهاد يتوصل إليه بها ، فإذا كانت محصلة بتقليد أو باجتهاد أو بفرض محال بحيث يفرض تسليم صاحب تلك المعارف المجتهد فيها ما حصل هذا ثم بنى عليه; كان بناؤه صحيحا; لأن الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم ، وهو قد وقع ، ويبين ذلك ما تقدم في الوجه الثاني ، وأن العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد عند عامة الناس كمالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة كان لهم أتباع أخذوا عنهم وانتفعوا بهم وصاروا في عداد أهل الاجتهاد ، مع أنهم عند الناس مقلدون في الأصول لأئمتهم ، ثم اجتهدوا بناء على مقدمات مقلد فيها ، واعتبرت أقوالهم واتبعت آراؤهم ، وعمل على وفقها ، مع مخالفتهم لأئمتهم وموافقتهم; فصار قول ابن القاسم أو قول أشهب أو [ ص: 52 ] غيرهما معتبرا في الخلاف على إمامهم ، كما كان أبو يوسف ومحمد بن الحسن مع أبي حنيفة ، والمزني والبويطي مع الشافعي ، فإذا لا ضرر على الاجتهاد مع التقليد في بعض القواعد المتعلقة بالمسألة المجتهد فيها . وأما الثاني من المطالب ، وهو فرض علم تتوقف صحة الاجتهاد عليه ، فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه فهو بلا بد مضطر إليه; لأنه إذا فرض كذلك لم يمكن في العادة الوصول إلى درجة الاجتهاد دونه; فلا بد من تحصيله على تمامه ، وهو ظاهر ، إلا أن هذا العلم مبهم في الجملة فيسأل عن تعيينه . والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم اللغة العربية ، ولا أعني بذلك النحو وحده ، ولا التصريف وحده ، ولا اللغة ، ولا علم المعاني ، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان ، بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معان كيف تصورت ما عدا علم الغريب ، والتصريف المسمى بالفعل ، وما يتعلق بالشعر من حيث هو شعر كالعروض والقافية; فإن هذا غير مفتقر إليه هنا وإن [ ص: 53 ] كان العلم به كمالا في العلم بالعربية ، وبيان تعين هذا العلم ما تقدم في كتاب المقاصد من أن الشريعة عربية ، وإذا كانت عربية; فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم; لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز ، فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة ، أو متوسطا; فهو متوسط في فهم الشريعة ، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية; فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة; فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة ، فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم ، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ، ولا كان قوله فيها مقبولا . فلا بد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها; كالخليل ، وسيبويه ، والأخفش ، والجرمي ، والمازني ومن سواهم ، وقد قال : الجرمي : " أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه " . [ ص: 54 ] وفسروا ذلك بعد الاعتراف به بأنه كان صاحب حديث ، وكتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش ، والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب ، وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها ، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ونحو ذلك ، بل هو يبين في كل باب ما يليق به ، حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ، ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني ، ومن هنالك كان الجرمي على ما قال ، وهو كلام يروى عنه في صدر كتاب سيبويه من غير إنكار . ولا يقال : إن الأصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية; فقالوا : ليس على الأصولي أن يبلغ في العربية مبلغ الخليل ، وسيبويه ، وأبي عبيدة ، والأصمعي ، الباحثين عن دقائق الإعراب ومشكلات اللغة ، وإنما يكفيه أن يحصل منها ما تتيسر به معرفة ما يتعلق بالأحكام بالكتاب والسنة . لأنا نقول : هذا غير ما تقدم تقريره ، وقد قال الغزالي في هذا الشرط : إنه القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال حتى يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله ، وحقيقته ومجازه ، وعامه وخاصه ، [ ص: 55 ] ومحكمه ومتشابهه ، ومطلقه ومقيده ، ونصه وفحواه ، ولحنه ومفهومه . وهذا الذي اشترط لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة العربية درجة الاجتهاد ، ثم قال : والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل والمبرد ، وأن يعلم جميع اللغة ويتعمق في النحو . وهذا أيضا صحيح; فالذي نفي اللزوم فيه ليس هو المقصود في الاشتراط ، وإنما المقصود تحرير الفهم حتى يضاهي العربي في ذلك [ ص: 56 ] المقدار ، وليس من شرط العربي أن يعرف جميع اللغة ، ولا أن يستعمل الدقائق; فكذلك المجتهد في العربية; فكذلك المجتهد في الشريعة ، وربما يفهم بعض الناس أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل وسيبويه في الاجتهاد في العربية فيبني في العربية على التقليد المحض; فيأتي في الكلام على مسائل الشريعة بما السكوت أولى به منه; وإن كان ممن تعقد عليه الخناصر جلالة في الدين ، وعلما في الأئمة المهتدين . وقد أشار الشافعي في رسالته إلى هذا المعنى ، وأن الله خاطب العرب بكتابه بلسانها على ما تعرف من معانيها ، ثم ذكر مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالعام مرادا به ظاهره ، وبالعام يراد به العام ، ويدخله الخصوص ، ويستدل على ذلك ببعض ما يدخله في الكلام ، وبالعام يراد به الخاص ، ويعرف بالسياق ، وبالكلام ينبئ أوله عن آخره ، وآخره عن أوله ، وأن تتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة ، وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة ، والمعاني الكثيرة بالاسم الواحد . [ ص: 57 ] ثم قال : فمن جهل هذا من لسانها - وبلسانها نزل الكتاب وجاءت به السنة - فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه ، ومن تكلف ما جهل ، وما لم تثبته معرفته; كانت موافقته للصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة ، وكان بخطئه غير معذور ، إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه . هذا قوله ، وهو الحق الذي لا محيص عنه ، وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو من المطالب العربية التي تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها ، وما سواها من المقدمات; فقد يكفي فيه التقليد كالكلام في الأحكام تصورا وتصديقا ، كأحكام النسخ ، وأحكام الحديث ، وما أشبه ذلك . فالحاصل أنه لا غنى للمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب بحيث يصير فهم خطابها له وصفا غير متكلف ، ولا متوقف فيه في الغالب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب . وأما الثالث من المطالب : وهو أنه لا يلزم في غير العربية من العلوم أن يكون المجتهد عالما بها; فقد مر ما يدل عليه; فإن المجتهد إذا بنى اجتهاده على التقليد في بعض المقدمات السابقة عليه; فذلك لا يضره في كونه مجتهدا في عين مسألته [ ص: 58 ] كالمهندس إذا بنى بعض براهينه على صحة وجود الدائرة مثلا ، فلا يضره في صحة برهانه تقليده لصاحب ما بعد الطبيعة ، وهو المبرهن على وجودها ، وإن كان المهندس لا يعرف ذلك بالبرهان ، وكما قالوا في تقليد الشافعي في علم الحديث ولم يقدح ذلك في صحة اجتهاده ، بل كما يبني القاضي في تغريم قيمة المتلف على اجتهاد المقوم للسلع وإن لم يعرف هو ذلك ، ولا يخرجه ذلك عن درجة الاجتهاد ، وكما بنى مالك أحكام الحيض والنفاس على ما يعرفه النساء من عاداتهن ، وإن كان هو غير عارف به ، وما أشبه ذلك . [ ص: 59 ] المسألة الثالثة : الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف ، كما أنها في أصولها كذلك ، ولا يصلح فيها غير ذلك ، والدليل عليه أمور : أحدها : أدلة القرآن ، من ذلك قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] فنفى أن يقع فيه الاختلاف البتة ، [ ص: 60 ] ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال . وفي القرآن : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ النساء : 59 ] ، وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف; فإنه رد المتنازعين إلى الشريعة ، وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف ، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلا شيء واحد; إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفع تنازع ، وهذا باطل . وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات الآية [ آل عمران : 105 ] ، والبينات هي الشريعة ، فلولا أنها لا تقتضي الاختلاف ، ولا تقبله البتة لما قيل لهم : من بعد كذا ، ولكان لهم فيها أبلغ العذر ، وهذا غير صحيح; فالشريعة لا اختلاف فيها . ![]()
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (180) صـ61 إلى صـ 70 وقال تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ الأنعام : 153 ] فبين أن طريق الحق واحد ، وذلك عام في [ ص: 61 ] جملة الشريعة وتفاصيلها . وقال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه [ البقرة : 213 ] ولا يكون حاكما بينهم إلا مع كونه قولا واحدا فصلا بين المختلفين . وقال : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا . . . الآية إلى قوله ولا تتفرقوا فيه [ الشورى : 13 ] ثم ذكر بني إسرائيل وحذر الأمة أن يأخذوا بسنتهم فقال : وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم [ الشورى : 14 ] . وقال تعالى : ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد [ البقرة : 176 ] . والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرجوع إلى الشريعة كثير كله قاطع في أنها لا اختلاف فيها ، وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد ، قال المزني صاحب الشافعي : ذم الله الاختلاف ، وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة ، فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه ، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة . والثاني : أن عامة أهل الشريعة أثبتوا في القرآن والسنة الناسخ [ ص: 62 ] والمنسوخ على الجملة ، وحذروا من الجهل به والخطأ فيه ، ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما هو فيما بين دليلين يتعارضان بحيث لا يصح اجتماعهما بحال ، وإلا لما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا ، والفرض خلافه; فلو كان الاختلاف من الدين لما كان لإثبات الناسخ والمنسوخ - من غير نص قاطع فيه - فائدة ولكان الكلام في ذلك كلاما فيما لا يجني ثمرة ، إذ كان يصح العمل بكل واحد منهما ابتداء ودواما استنادا إلى أن الاختلاف أصل من أصول الدين ، لكن هذا كله باطل بإجماع; فدل على أن الاختلاف لا أصل له في الشريعة ، وهكذا القول في كل دليل مع معارضه كالعموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد ، وما أشبه ذلك فكانت تنخرم هذه الأصول كلها ، وذلك فاسد; فما أدى إليه مثله . والثالث أنه لو كان في الشريعة مساغ للخلاف لأدى إلى تكليف ما لا يطاق; لأن الدليلين إذا فرضنا تعارضهما وفرضناهما مقصودين معا للشارع; فإما أن يقال : إن المكلف مطلوب بمقتضاهما أو لا ، أو مطلوب بأحدهما دون الآخر ، والجميع غير صحيح; فالأول يقتضي " افعل " ، " لا تفعل " لمكلف واحد [ ص: 63 ] من وجه واحد ، وهو عين التكليف بما لا يطاق ، والثاني باطل; لأنه خلاف الفرض ، وكذلك الثالث; إذ كان الفرض توجه الطلب بهما; فلم يبق إلا الأول فيلزم منه ما تقدم . لا يقال إن الدليلين بحسب شخصين أو حالين; لأنه خلاف الفرض ، وهو أيضا قول واحد لا قولان; لأنه إذا انصرف كل دليل إلى جهة لم يكن ثم اختلاف ، وهو المطلوب . والرابع أن الأصوليين اتفقوا على إثبات الترجيح بين الأدلة المتعارضة إذا لم يمكن الجمع ، وأنه لا يصح إعمال أحد دليلين متعارضين جزافا من غير [ ص: 64 ] نظر في ترجيحه على الآخر ، والقول بثبوت الخلاف في الشريعة يرفع باب الترجيح جملة; إذ لا فائدة فيه ، ولا حاجة إليه على فرض ثبوت الخلاف أصلا شرعيا لصحة وقوع التعارض في الشريعة لكن ذلك فاسد; فما أدى إليه مثله . والخامس : أنه شيء لا يتصور; لأن الدليلين المتعارضين إذا قصدهما الشارع مثلا لم يتحصل مقصوده; لأنه إذا قال في الشيء الواحد : " افعل " " لا تفعل " ; فلا يمكن أن يكون المفهوم منه طلب الفعل لقوله " لا تفعل " ، ولا طلب تركه لقوله " افعل " ، فلا يتحصل للمكلف فهم التكليف ، فلا يتصور توجهه على حال ، والأدلة على ذلك كثيرة لا يحتاج فيها إلى التطويل لفساد الاختلاف في الشريعة . [ ص: 65 ] فإن قيل : إن كان ثم ما يدل على رفع الاختلاف فثم ما يقتضي وقوعه في الشريعة ، وقد وقع ، والدليل عليه أمور : - منها : إنزال المتشابهات; فإنها مجال للاختلاف لتباين الأنظار ، واختلاف الآراء والمدارك ، هذا وإن كان التوقف فيها هو المحمود; فإن الاختلاف فيها قد وقع ، ووضع الشارع لها مقصود له ، وإذا كان مقصودا له ، وهو عالم بالمآلات; فقد جعل سبيلا إلى الاختلاف ، فلا يصح أن ينفى عن الشارع رفع مجال الاختلاف جملة . - ومنها : الأمور الاجتهادية التي جعل الشارع فيها للاختلاف مجالا; فكثيرا ما تتوارد على المسألة الواحدة أدلة قياسية وغير قياسية ، بحيث يظهر بينها التعارض ، ومجال الاجتهاد مما قصده الشارع في وضع الشريعة حين شرع القياس ووضع الظواهر التي يختلف في أمثالها النظار ليجتهدوا فيثابوا على ذلك ، ولذلك نبه في الحديث على هذا المقصد بقوله عليه الصلاة والسلام : [ ص: 66 ] إذا اجتهد الحاكم فأخطأ; فله أجر ، وإن أصاب; فله أجران فهذا موضع آخر من وضع الخلاف بسبب وضع محاله . - ومنها : أن العلماء الراسخين والأئمة المتقين اختلفوا : هل كل مجتهد مصيب ، أم المصيب واحد ؟ والجميع سوغوا هذا الاختلاف ، وهو دليل على أن له مساغا في الشريعة على الجملة . وأيضا فالقائلون بالتصويب معنى كلامهم أن كل قول صواب ، وأن الاختلاف حق ، وأنه غير منكر ، ولا محظور في الشريعة . [ ص: 67 ] وأيضا فطائفة من العلماء جوزوا أن يأتي في الشريعة دليلان متعارضان وتجويز ذلك عندهم مستند إلى أصل شرعي في الاختلاف . وطائفة أيضا رأوا أن قول الصحابي حجة; فكل قول صحابي وإن عارضه قول صحابي آخر كل واحد منهما حجة ، وللمكلف في كل واحد منهما متمسك ، وقد نقل هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " فأجاز جماعة الأخذ بقول من شاء منهم إذا اختلفوا . وقال القاسم بن محمد : لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة ، ورأى أن خيرا منه قد عمله . وعنه أيضا : " أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء " [ ص: 68 ] ومثل معناه مروي عن عمر بن عبد العزيز ، قال : ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم ، قال القاسم : " لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا; لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يقتدى بهم; فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة . وقال بمثل ذلك جماعة من العلماء . وأيضا; فإن أقوال العلماء بالنسبة إلى العامة كالأدلة بالنسبة إلى المجتهدين ، ويجوز لكل واحد على قول جماعة أن يقلد من العلماء من شاء ، وهو من ذلك في سعة ، وقد قال ابن الطيب وغيره في الأدلة إذا تعارضت على المجتهد واقتضى كل واحد ضد حكم الآخر ولم يكن ثم ترجيح ; فله [ ص: 69 ] الخيرة في العمل بأيها شاء; لأنهما صارا بالنسبة إليه كخصال الكفارة ، والاختلاف عند العلماء لا ينشأ إلا من تعارض الأدلة; فقد ثبت إذا في الشريعة تعارض الأدلة; إلا أن ما تقدم من الأدلة على منع الاختلاف يحمل على الاختلاف في أصل الدين لا في فروعه ، بدليل وقوعه في الفروع من لدن زمان الصحابة إلى زماننا . فالجواب : أن هذه القواعد المعترض بها يجب أن يحقق النظر فيها بحسب هذه المسألة; فإنها من المواضع المخيلة . أما مسألة المتشابهات; فلا يصح أن يدعى فيها أنها موضوعة في الشريعة قصد الاختلاف شرعا; لأن هذا قد تقدم في الأدلة السابقة ما يدل على فساده ، وكونها قد وضعت ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة [ الأنفال : 42 ] لا نظر فيه; فقد قال تعالى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ هود : 118 ] [ ص: 70 ] ففرق بين الوضع القدري الذي لا حجة فيه للعبد - وهو الموضوع على وفق الإرادة التي لا مرد لها - وبين الوضع الشرعي الذي لا يستلزم وفق الإرادة ، وقد قال تعالى : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] وقال : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا [ البقرة : 26 ] ومر بيانه في كتاب الأوامر; فمسألة المتشابهات من الثاني لا من [ ص: 71 ] الأول ![]()
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (182) صـ81 إلى صـ 90 [ ص: 81 ] الخلاف كما إذا اختلف المجتهدون على قولين; فوردت كذلك على المقلد; فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة; فيتبع هواه ، وما يوافق غرضه دون ما يخالفه ، وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين ، وقواه بما روي من قوله عليه الصلاة والسلام : " أصحابي كالنجوم " وقد مر الجواب عنه ، وإن صح; فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه ، وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين; فالحق أن يقال : ليس بداخل تحت ظاهر الحديث; لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه; فهما صاحبا دليلين متضادين ، فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى ، وقد مر ما فيه; فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها . وأيضا; فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد ، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد ، ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا; لجاز للحاكم ، وهو باطل بالإجماع . وأيضا; فإن في مسائل الخلاف ضابطا قرآنيا ينفي اتباع الهوى جملة ، [ ص: 82 ] وهو قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] ، وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان; فوجب ردها إلى الله والرسول ، وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية ، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة; فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول ، وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت ، ولذلك أعقبها بقوله : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك الآية [ النساء : 60 ] . وبهذا يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله : " أصحابي كالنجوم " . وأيضا; فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي ، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل . [ ص: 83 ] وأيضا; فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها; لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء ، وهو عين إسقاط التكليف ، بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل; فلا يكون متبعا للهوى ، ولا مسقطا للتكليف . لا يقال : إذا اختلفا فقلد أحدهما قبل لقاء الآخر جاز; فكذلك بعد لقائه ، والاجتماع طردي; لأنا نقول : كلا ، بل للاجتماع أثر ; لأن كل واحد منهما في الافتراق طريق موصل كما لو وجد دليلا ولم يطلع على معارضه بعد البحث عليه جاز له العمل ، أما إذا اجتمعا واختلفا عليه; فهما كدليلين متعارضين اطلع عليهما المجتهد ، ولقد أشكل القول بالتخيير المنسوب إلى القاضي ابن الطيب ، واعتذر عنه بأنه مقيد لا مطلق ، فلا يخير إلا بشرط أن يكون في تخييره في العمل بأحد الدليلين قاصدا لمقتضى الدليل في العمل المذكور ، لا قاصدا لاتباع هواه فيه ، ولا لمقتضى التخيير على الجملة; فإن التخيير الذي هو معنى الإباحة مفقود هاهنا ، واتباع الهوى ممنوع; فلا بد من هذا القصد . وفي هذا الاعتذار ما فيه ، وهو تناقض; لأن اتباع أحد الدليلين من غير ترجيح محال ، إذ لا دليل له مع فرض التعارض من غير ترجيح ، فلا يكون هنالك متبعا إلا هواه . [ ص: 84 ] فصل وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال; اتباعا لغرضه وشهوته ، أو لغرض ذلك القريب ، وذلك الصديق . ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا ، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة ، وذلك فيما لا يتعلق به فصل قضية ، وفيما يتعلق به ذلك . فأما ما لا يتعلق به فصل قضية ، بل هو فيما بين الإنسان وبين نفسه في عبادته أو عادته; ففيه من المعايب ما تقدم ، وحكى عياض في " المدارك " : قال موسى بن معاوية : كنت عند البهلول بن راشد إذ أتاه ابن فلان ; فقال له بهلول : ما أقدمك ؟ قال : نازلة ، رجل ظلمه السلطان فأخفيته وحلفت بالطلاق [ ص: 85 ] ثلاثا ما أخفيته ، قال له البهلول : مالك يقول : إنه يحنث في زوجته ، فقال السائل : وأنا قد سمعته يقول ، وإنما أردت غير هذا ، فقال : ما عندي غير ما تسمع ، قال : فتردد إليه ثلاثا ، كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول ، فلما كان في الثالثة أو الرابعة; قال : يا ابن فلان ! ما أنصفتم الناس ، إذا أتوكم في نوازلهم قلتم : قال مالك ، قال مالك; فإن نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص ، الحسن يقول : لا حنث عليه في يمينه ، فقال السائل : الله أكبر ، قلدها الحسن ، أو كما قال . وأما ما يتعلق به فصل قضية بين خصمين; فالأمر أشد ، وفي " الموازية " كتب عمر بن الخطاب : لا تقض بقضاءين في أمر واحد فيختلف عليك أمرك ، قال ابن المواز : لا ينبغي للقاضي أن يجتهد في اختلاف الأقاويل ، وقد كره مالك ذلك ولم يجوزه لأحد ، وذلك عندي أن يقضي بقضاء بعض من [ ص: 86 ] مضى ، ثم يقضي في ذلك الوجه بعينه على آخر بخلافه ، وهو أيضا من قول من مضى ، وهو في أمر واحد ، ولو جاز ذلك لأحد لم يشأ أن يقضي على هذا بفتيا قوم ، ويقضي في مثله بعينه على قوم بخلافه بفتيا قوم آخرين إلا فعل; فهذا ما قد عابه من مضى وكرهه مالك ولم يره صوابا . وما قاله صواب; فإن القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر ، مع عدم تطرق التهمة للحاكم ، وهذا النوع من التخيير في الأقوال مضاد لهذا كله . وحكى أحمد بن عبد البر أن قاضيا من قضاة قرطبة كان كثير الاتباع ليحيى بن يحيى ، لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء ، فوقعت قضية تفرد فيها يحيى وخالف جميع أهل الشورى; فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم ، وردفته قضية أخرى كتب بها إلى يحيى; فصرف يحيى رسوله وقال له : لا أشير عليه بشيء; إذ توقف على القضاء لفلان بما أشرت عليه; فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه ، وركب من فوره إلى يحيى ، وقال له : لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع ، وسوف أقضي له غدا إن شاء الله ، فقال له يحيى : وتفعل ذلك صدقا ؟ قال : نعم ، قال له : فالآن هيجت غيظي; فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرا لله ، متخيرا في الأقوال; فأما إذ صرت تتبع الهوى وتقضي برضى مخلوق ضعيف; فلا خير فيما تجيء به ، ولا في إن رضيته منك; فاستعف من ذلك فإنه أستر لك ، وإلا رفعت في عزلك; فرفع يستعفي فعزل . وقصة محمد بن يحيى بن لبابة أخ الشيخ ابن لبابة مشهورة ذكرها [ ص: 87 ] عياض ، وكانت مما غض من منصبه ، وذلك أنه عزل عن قضاء البيرة لرفع أهلها عليه ، ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه ، وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زياد وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته وألا يفتي أحدا فأقام على ذلك وقتا ، ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر; فشكا إلى القاضي ابن بقي أمره وضرورته إليه لمقابلته متنزهه ، وتأذيه برؤيتهم أوان تطلعه من علاليه ، فقال له ابن بقي : لا حيلة عندي فيه ، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس ، فقال له : فتكلم مع الفقهاء فيه ، وعرفهم رغبتي ، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه; فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة; فتكلم ابن بقي معهم; فلم يجعلوا إليه سبيلا; فغضب الناصر عليهم ، وأمر الوزراء بالتوجه فيهم إلى القصر وتوبيخهم; فجرت بينهم وبين الوزراء مكالمة ولم يصلالناصر معهم إلى مقصوده ، وبلغ ابن لبابة هذا الخبر; فرفع إلى الناصر يغض من أصحابه الفقهاء ، ويقول : إنهم حجروا عليه واسعا ، ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة وتقلدها وناظر أصحابه فيها; فوقع الأمر بنفس الناصر ، وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة; فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم ، وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لأجلها وغبطة المعاوضة فيها ، [ ص: 88 ] فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه ، وابن لبابة ساكت; فقال القاضي له : ما تقول أنت يا أبا عبد الله ؟ قال : أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء; وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا ، وهم علماء أعلام يهتدي بهم أكثر الأمة ، وإذ بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يرد عنه ، وله في السنة فسحة ، وأنا أقول فيه بقول أهل العراق ، وأتقلد ذلك رأيا ، فقال له الفقهاء : سبحان الله ! تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنه بوجه ، وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه ؟ فقال له محمد بن يحيى : ناشدتكم الله العظيم; ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم ؟ قالوا : بلى ، قال : فأمير المؤمنين أولى بذلك; فخذوا به مآخذكم وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء; فكلهم قدوة فسكتوا ، فقال للقاضي : أنه إلى أمير [ ص: 89 ] المؤمنين فتياي; فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس ، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يأخذ له بفتيا محمد بن يحيى بن لبابة وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاكه بمنية عجب ، وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر ، ثم جيء من عند أمير المؤمنين بكتاب منه إلى ابن لبابة هذا بولايته خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة; فهنئ بالولاية ، وأمضى القاضي الحكم بفتواه ، وأشهد عليه وانصرفوا; فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة . قال القاضي عياض : ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر; فقال : ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذي حل سجل السخطة إلى سجل السخطة; فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه ، أو كما قال . وذكر الباجي في كتاب " التبيين لسنن المهتدين " حكاية أخرى في أثناء كلامه في معنى هذه المسألة; قال : وربما زعم بعضهم أن النظر والاستدلال [ ص: 90 ] الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيها شاء ، دون أن يخرج عنها ، ولا يميل إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك; فيقضي في قضية بقول مالك ، وإذا تكررت تلك القضية كان له أن يقضي فيها بقول ابن القاسم مخالفا للقول الأول ، لا لرأي تجدد له ، وإنما ذلك بحسب اختياره . قال : ولقد حدثني من أثقه أنه اكترى جزءا من أرض على الإشاعة ، ثم إن رجلا آخر اكترى باقي الأرض; فأراد المكتري الأول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد; فأفتى المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك ألا شفعة في الإجارات ، قال لي : فوردت من سفري; فسألت أولئك الفقهاء - وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح في الدين - عن مسألتي; فقالوا : ما علمنا أنها لك; إذ كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها; فأفتاني جميعهم بالشفعة; فقضي لي بها . قال : وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول معلنا غير مستتر : إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه . قال الباجي : ولو اعتقد هذا القائل أن مثل هذا لا يحل له ما استجازه ، ولو استجازه لم يعلن به ، ولا أخبر به عن نفسه . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |