|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الثامن عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الكهف الحلقة (991) صــ 101 إلى صــ 110 مطلع الشمس، كما أتبع سببا حتى بلغ مغربها. وقوله (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) يقول: وقد أحطنا بما عند مطلع الشمس علما لا يخفى علينا ما هنالك من الخلق وأحوالهم وأسبابهم، ولا من غيرهم شيء. وبالذي قلنا في معنى الخبر، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (خُبْرًا) قال: علما. حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) قال: علما. القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) } يقول تعالى ذكره: ثم سار طرقا ومنازل، وسلك سبلا (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) . واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين (حتَّى إذَا بلَغ بينَ السُّدَّيْنِ) بضمّ السين وكذلك جميع ما في القرآن من ذلك بضم السين. وكان بعض قرّاء المكيين يقرؤنه بفتح ذلك كله. وكان أبو عمرو بن العلاء يفتح السين في هذه السورة، ويضمّ السين في يس، ويقول: السَّدُّ بالفتح: هو الحاجز بينك وبين الشيء؛ والسُّدُّ بالضم: ما كان من غشاوة في العين. وأما الكوفيون فإن قراءة عامتهم في جميع القرآن بفتح السين غير قوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) فإنهم ضموا السين في ذلك خاصة. ورُوي عن عكرمة في ذلك، ما حدثنا به أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما كان من صنعة بني آدم فهو السَّدُّ، يعني بالفتح، وما كان من صنع الله فهو السدّ. وكان الكسائي يقول: هما لغتان بمعنى واحد. والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، ولغتان متفقتا المعنى غير مختلفة، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، ولا معنى للفرق الذي ذكر عن أبي عمرو بن العلاء، وعكرمة بين السُّد والسَّد، لأنا لم نجد لذلك شاهدا يبين عن فرق ما بين ذلك على ما حكي عنهما. وما يبين ذلك أن جميع أهل التأويل الذي رُوي لنا عنهم في ذلك قول - لم يحك لنا عن أحد منهم تفصيل بين فتح ذلك وضمه، ولو كانا مختلفي المعنى لنقل الفصل مع التأويل إن شاء الله. ولكن معنى ذلك كان عندهم غير مفترق، فيفسر الحرف بغير تفصيل منهم بين ذلك. وأما ما ذُكر عن عكرِمة في ذلك، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب وهارون، وفي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقات أصحابه. والسَّد والسُّد جميعا: الحاجز بين الشيئين، وهما ها هنا فيما ذُكر جبلان سدّ ما بينهما، فردم ذو القرنين حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم، ليقطع مادّ غوائلهم وعبثهم عنهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس (حتى إذَا بَلَغَ بينَ السُّدَّيْنِ) قال: الجبلين الردم الذي بين يأجوج ومأجوج، أمتين من وراء ردم ذي القرنين: قال: الجبلان: أرمينية وأذربيجان. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (حتى إذَا بَلَغَ بينَ السُّدَّيْنِ) وهما جبلان. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (بينَ السُّدَّيْنِ) يعني بين جبلين. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (بينَ السُّدَّيْن) قال: هما جبلان. وقوله (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا) يقول عزّ ذكره: وجد من دون السدّين قوما لا يكادون يفقهون قول قائل سوى كلامهم. وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله (يَفْقَهُون) فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة (يَفَقَهُونَ قَوْلا) بفتح القاف والياء، من فقَه الرجل يفقَه فقها: وقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الكوفة (يُفْقِهُون قَوْلا) بضمّ الياء وكسر القاف: من أفقهت فلانا كذا أفقهه إفقاها: إذا فهمته ذلك. والصواب عندي من القول في ذلك، إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، غير دافعة إحداهما الأخرى، وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولا لغيرهم عنهم، فيكون صوابا القراءة بذلك. وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل: إما بألسنتهم، وإما بمنطقهم، فتكون القراءة بذلك أيضا صوابا. وقوله (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) فقرأت القرّاء من أهل الحجاز والعراق وغيرهم (إنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ) بغير همز على فاعول من يججت ومججت، وجعلوا الألفين فيهما زائدتين، غير عاصم بن أبي النجود والأعرج، فإنه ذكر أنهما قرآ ذلك بالهمز فيهما جميعا، وجعلا الهمز فيهما من أصل الكلام، وكأنهما جعلا يأجوج: يفعول من أججت، ومأجوج: مفعول. والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا، أن (ياجُوحَ وماجُوجَ (بألف بغير همز لإجماع الحجة من القرّاء عليه، وأنه الكلام المعروف على ألسن العرب؛ ومنه قول رؤبة بن العجاج. لو أنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ مَعا ... وعادَ عادُوا واسْتَجاشُوا تُبَّعا (1) وهم أمتان من وراء السدّ. (1) البيت لرؤبة بن العجاج (ديوانه طبعة ليبسج 1903 ص 92) قال: "يأجوج ومأجوج، لا ينصرفان. وبعضهم يهمز ألفيهما، وبعضهم لا يهمزها؛ قال رؤبة:" لو أن يأجوج ومأجوج معا "فلم يصرفهما. (وفي اللسان: أجج) . ويأجوج ومأجوج: قبيلتان من خلق الله، جاءت القراءة فيهما بهمز وغير همز. قال: وجاء في الحديث:" إن الخلق عشرة أجزاء، تسعة منها يأجوج ومأجوج. وهما اسمان أعجميان، واشتقاق مثلهما من كلام العرب، يخرج من أجت النار، ومن الماء الأجاج، وهو الشديد الملوحة، المحرق من ملوحته. قال: ويكون التقدير في يأجوج: "يفعول" . وكذلك مأجوج. قال: وهذا لو كان الاسمان عربيان، لكان هذا اشتقاقهما؛ فأما الأعجمية فلا تشتق من العربية. ومن لا يهمز وجعل الألفين زائدتين، يقول: ياجوج: من يججت، وماجوج: من مججت وهما غير مصروفين؛ قال رؤبة: لو أن ياجوج وماجوج معا ... وعاد عادوا واستجاشوا تبعا . أهـ. وقوله: (مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ) اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتين الأمتين، فقال بعضهم: كانوا يأكلون الناس. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، قال: ثنا إبراهيم بن أيوب الخوزاني، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول في قوله (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ) قال: كانوا يأكلون الناس. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن يأجوج ومأجوح سيفسدون في الأرض، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون. * ذكر من قال ذلك، وذكر صفة اتباع ذي القرنين الأسباب التي ذكرها الله في هذه الآية، وذكر سبب بنائه للردم: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن اسحاق، قال: ثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب، ممن قد أسلم، مما توارثوا من علم ذي القرنين، أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر اسمه مرزبا بن مردبة اليوناني، من ولد يونن بن يافث بن نوح. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي، وكان خالد رجلا قد أدرك الناس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذى القرنين فقال مَلِكٌ مَسَحَ الأرْضَ مِنْ تَحْتِها بالأسْبابِ" قال خالد: وسمع عمر بن الخطاب رجلا يقول: يا ذا القرنين، فقال: اللهمّ غفرا، أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء، حتى تسموا بأسماء الملائكة؟ فإن كان رسول الله قال ذلك، فالحق ما قال، والباطل ما خالفه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني، وكان له علم بالأحاديث الأول، أنه كان يقول: ذو القرنين رجل من الروم، ابن عجوز من عجائزهم، ليس لها ولد غيره، وكان اسمه الإسكندر. وإنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس؛ فلما بلغ وكان عبدا صالحا، قال الله عزّ وجل له: يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض، وهي أمم مختلفة ألسنتهم، وهم جميع أهل الأرض، ومنهم أمتان بينهما طول الأرض كله؛ ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله، وأم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فأما الأمتان اللتان بينهما طول الأرض: فأمة عند مغرب الشمس، يقال لها: ناسك. وأما الأخرى: فعند مطلعها يقال لها: منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض، فأمة في قطر الأرض الأيمن، يقال لها: هاويل. وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر، فأمة يقال لها: تاويل؛ فلما قال الله له ذلك، قال له ذو القرنين: إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يَقدر قدره إلا أنت، فأخبرني عن هذه الأمم التي بعثني إليها، بأيّ قوة أكابدهم، وبأيّ جمع أكاثرهم، وبأيّ حيلة أكايدهم، وبأيّ صبر أقاسيهم، وبأيّ لسان أناطقهم، وكيف لي بأن أفقه لغاتهم، وبأىّ سمْع أعي قولهم، وبأيّ بصر أنفذهم، وبأيّ حجة أخاصمهم، وبأيّ قلب أعقل عنهم، وبأيّ حكمة أدبر أمرهم، وبأيّ قسط أعدل بينهم، وبأيّ حلم أصابرهم، وبأيّ معرفة أفصل بينهم، وبأيّ علم أتقن أمورهم، وبأيّ يد أسطو عليهم، وبأيّ رجل أطؤهم، وبأيّ طاقة أخصمهم، وبأيّ جند أقاتلهم، وبأيّ رفق أستألفهم، فإنه ليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم لهم، ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم. وأنت الربّ الرحيم. الذي لا يكلِّف نفسا إلا وسعها، ولا يحملها إلا طاقتها، ولا يعنتها ولا يفدحها، بل أنت ترأفها (1) وترحمها. قال الله عزّ (1) يقال: رأف به يرأف: إذا رحمه، وهو بوزن فتح وكرم وفرح، ويعدى بالباء، كما في اللسان، ولعل هنا مضمن معنى رئمه، فعدى بنفسه، أو محرف عن ترأمها. وجلّ: إني سأطوّقك ما حمَّلتك، أشرح لك صدرك، فيسع كلّ شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كلّ شيء، وأبسط لك لسانك، فتنطق بكلّ شيء، وأفتح لك سمعك فتعي كلّ شيء، وأمدّ لك بصرك، فتنفذ كلّ شيء، وأدبر أمرك فتتقن كلّ شيء، وأحصي لك فلا يفوتك شيء، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء، وأشدّ لك ظهرك، فلا يهدّك شيء، وأشدّ لك ركنك فلا يغلبك شيء، وأشدّ لك قلبك فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة، فأجعلهما جندا من جنودك، يهديك النور أمامك، وتحوطك الظلمة من ورائك، وأشدّ لك عقلك فلا يهولك شيء، وأبسط لك من بين يديك، فتسطو فوق كلّ شيء، وأشدّ لك وطأتك، فتهدّ كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يرومك شيء. ولما قيل له ذلك، انطلق يؤم الأمة التي عند مغرب الشمس، فلما بلغهم، وجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله، وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله، وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة، وقلوبا متفرّقة، فلما رأى ذلك كاثرهم بالظلمة، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها، فأحاطتهم من كلّ مكان، وحاشتهم حتى جمعتهم قي مكان واحد، ثم أخذ عليهم بالنور، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته، فمنهم من آمن له، ومنهم من صدّ، فعمد إلى الذين تولوا عنه. فأدخل عليهم الظلمة.فدخلت في أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم، ودخلت في بيوتهم ودورهم، وغشيتهم من فوقهم، ومن تحتهم ومن كلّ جانب منهم، فماجوا فيها وتحيروا، فلما أشفقوا أن يهلكوا فيها عجوا إليه بصوت واحد، فكشفها عنهم وأخذهم عنوة، فدخلوا في دعوته، فجنَّد من أهل المغرب أمما عظيمة، فجعلهم جندا واحدا، ثم انطلق بهم يقودهم، والظلمة تسوقهم من خلفهم وتحرسهم من حولهم، والنور أمامهم يقودهم ويدلهم، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى، وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها هاويل. وسخر الله له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتماره، فلا يخطئ إذا ائتمر، وإذا عمل عملا أتقنه. فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال، فنظمها في ساعة، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم وتلك الجنود، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها، ثم دفع إلى كلّ إنسان لوحا فلا يكرثه حمله، فلم يزل كذلك دأبه حتى انتهى إلى هاويل، فعمل فيها كعمله في ناسك. فلما فرغ منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند منها جنودا، كفعله في الأمتين اللتين قبلها، ثم كر مقبلا في ناحية الأرض اليسرى، وهو يريد تاويل وهي الأمة التي بحيال هاويل، وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كله؛ فلما بلغها عمل فيها، وجند منها كفعله فيما قبلها، فلما فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي وسط الأرض من الجن وسائر الناس، ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك نحو المشرق، قالت له أمة من الإنس صالحة: يا ذا القرنين، إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله، وكثير منهم مشابه للإنس (1) ، وهم أشباه البهائم، يأكلون العشب، ويفترسون الدوابّ والوحوش كما تفترسها السباع، ويأكلون خشاش الأرض كلها من الحيات والعقارب، وكلّ ذي روح مما خلق الله في الأرض، وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد، ولا يزداد كزيادتهم، ولا يكثر ككثرتهم، فإن كانت لهم مدّة على ما نرى من نمائهم وزيادتهم، فلا شكّ أنهم سيملئون الأرض، ويجلون أهلها عنها ويظهرون عليها فيفسدون فيها، وليست تمرّ بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقعهم، وننتظر أن يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) أعدوا إليّ الصخور والحديد والنحاس حتى أرتاد بلادهم، وأعلم علمهم، وأقيس ما بين جبليهم. ثم انطلق يؤمهم حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم، فوجدهم على مقدار واحد، ذكرهم وأنثاهم، مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخالب في موضع الأظفار من أيدينا، وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها. وأحناك كأحناك الإبل، قوّة تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرّة من الإبل، أو كقضم الفحل المسنّ، أو الفرس القويّ، وهم هلب، عليهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم، وما يتقون به الحرّ والبرد (1) في (عرائس المجالس للثعلبي المفسر، طبعة: الحلبي ص 365) ليس فيهم مشابهة من الإنس، وهو أليق بالمقام. إذا أصابهم، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان: إحداهما وبرة ظهرها وبطنها، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها، تَسعانه إذا لبسهما، يلتحف إحداهما، ويفترش الأخرى، ويصيف في إحداهما، ويشتي في الأخرى، وليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذى يموت فيه، ومنقطع عمره، وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد، ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد، فإذا كان ذلك أيقن بالموت، وهم يرزقون التنين أيام الربيع، ويستمطرونه إذا تحينوه كما نستمطر الغيث لحينه، فيقذفون منه كلّ سنة بواحد، فيأكلونه عامهم كله إلى مثله من العام القابل، فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم، فإذا أمطروا وأخصبوا وعاشوا وسمنوا، ورؤي أثره عليهم، فدرّت عليهم الإناث، وشَبِقت منهم الرجال الذكور، وإذا أخطأهم هَزَلوا وأجدبوا، وجفرت الذكور، وحالت الإناث، وتبين أثر ذلك عليهم، وهم يتداعَون تداعي الحَمام، ويعوُون عُواء الكلاب، ويتسافدون حيث التقَوا تسافد البهائم. فلما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصَّدَفين، فقاس ما بينهما وهو في منقطع أرض الترك مما يلي مشرق الشمس، فوجد بُعد ما بينهما مئة فرسخ؛ فلما أنشأ في عمله، حفر له أساسا حتى بلغ الماء، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا، وجعل حشوه الصخور، وطينه النحاس، يذاب ثم يُصبّ عليه، فصار كأنه عِرْق من جبل تحت الأرض، ثم علاه وشَرّفه بزُبَر الحديد والنحاس المذاب، وجعل خلاله عِرْقا من نحاس أصفر، فصار كأنه بُرد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد، فلما فرغ منه وأحكمه، انطلق عامدا إلى جماعة الإنس والجن، فبينا هو يسير، دفع إلى أمة صالحة يهدون بالحقّ وبه يعدلون، فوجد أمة مقسطة مقتصدة، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، ويتآسون ويتراحمون، حالهم واحدة، وكلمتهم واحدة، وأخلاقهم مشتبهة، وطريقتهم مستقيمة، وقلوبهم متألفة، وسيرتهم حسنة، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليس على بيوتهم أبواب، وليس عليهم أمراء، وليس بينهم قضاة، وليس بينهم أغنياء، ولا ملوك، ولا أشراف، ولا يتفاوتون، ولا يتفاضلون، ولا يختلفون، ولا يتنازعون، ولا يستبُّون، ولا يقتتلون، ولا يَقْحَطون، ولا يحردون، ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس، وهم أطول الناس أعمارا، وليس فيهم مسكين، ولا فقير، ولا فظّ، ولا غليظ، فلما رأى ذلك ذو القرنين من أمرهم، عجب منه! وقال: أخبروني، أيها القوم خبركم، فإني قد أحصيت الأرض كلها برّها وبحرها، وشرقها وغربها، ونورها وظلمتها، فلم أجد مثلكم، فأخبروني خبركم؛ قالوا: نعم، فسلنا عما تريد، قال: أخبروني، ما بال قبور موتاكم على أبواب بيوتكم؟ قالوا: عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت، ولا يخرج ذكره من قلوبنا، قال: فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟ قالوا: ليس فينا متهم، وليس منا إلا أمين مؤتمن؛ قال: فما لكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا: لا نتظالم، قال: فما بالكم ليس فيكم حكام؟ قالوا: لا نختصم، قال: فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا: لا نتكاثر؛ قال: فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا: لا نتكابر، قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من قبل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا؛ قال: فما بالكم لا تستبون ولا تقتتلون؟ قالوا: من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم، وسسنا أنفسنا بالأحلام، قال: فما بالكم كلمتكم واحدة، وطريقتكم مستقيمة مستوية؟ قالوا: من قبل أنا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضا؛ قال: فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم، واعتدلت سيرتكم؟ قالوا: صحّت صدورنا، فنزع بذلك الغلّ والحسد من قلوبنا؛ قال: فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا: من قبل أنا نقتسم بالسوية؛ قال: فما بالكم ليس فيكم فظّ ولا غليظ؟ قالوا: من قبل الذّل والتواضع؛ قال: فما جعلكم أطول الناس أعمارا؟ قالوا: من قبل أنا نتعاطى الحقّ ونحكم بالعدل؛ قال: فما بالكم لا تُقْحَطون؟ قالوا: لا نغفل عن الاستغفار، قال: فما بالكم لا تَحْرَدون؟ قالوا: من قبل أنا وطأنا أنفسنا للبلاء منذ كنا، وأحببناه وحرصنا عليه، فعرينا منه، قال: فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟ قالوا: لا نتوكل على غير الله، ولا نعمل بالأنواء والنجوم، قال: حدِّثوني أهكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟ قالوا: نعم وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويَعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلُمون عمن جهل عليهم، ويستغفرون لمن سبهم، ويصلون أرحامهم، ويؤدّون آماناتهم، ويحفظون وقتهم لصلاتهم، ويُوَفُّون بعهودهم، ويصدُقون في مواعيدهم، ولا يرغبون عن أكفائهم، ولا يستنكفون عن أقاربهم، فأصلح الله لهم بذلك أمرهم، وحفظهم ما كانوا أحياء، وكان حقا على الله أن يحفطهم في تركتهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ يأجُوجَ ومأْجُوجَ يَحْفُرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حتى إذَا كادُوا يَرَونَ شُعاعَ الشَّمْسِ قال الَّذِي عَلَيْهِمْ ارْجِعُوا فَتَحْفُرُونَهُ غَدًا، فَيُعِيدُهُ اللهُ وَهُوَ كَهَيْئتِهِ يَوْمَ تَرَكُوهُ، حتى إذَا جاءَ الوَقْتُ قالَ: إنْ شاءَ اللهُ، فَيَحْفُرُونَهُ ويخْرُجُونَ على النَّاسِ، فَينْشِفُونَ الميَاهَ، وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ فِي حُصُونِهِمْ، فَيرْمُونَ بِسِهامِهِمْ إلى السَّماءِ، فَيرجِعُ فيها كَهَيْئَةِ الدِّماءِ، فَيَقُولُونَ: قَهَرْنا أَهْلَ الأرضِ، وَعَلَوْنا أهْلَ السَّماءِ، فَيَبْعَثُ اللهُ عَلَيْهِمْ نَغْفا في أقْفائِهمْ فَتَقْتُلُهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنَّ دَوَابَّ الأرْضِ لَتَسْمَنُ وتَشْكرُ مِنْ لُحُومِهِمْ "." حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري، عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل، وعن أبي سعيد الخدريّ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُفْتَحُ يَأْجُوجُ ومأْجُوجَ فَيَخْرُجُونَ على النَّاسِ كمَا قال الله عز وجل (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) فَيَغْشَوْنَ الأرْضَ، ويَنْحازُ المُسْلِمُونَ عَنْهُمْ إلى مَدَائِنِهمْ وحُصونِهِمْ، وَيَضُمَّونَ إلَيْهِمْ مَوَاشِيهِمْ، فَيَشْرَبُونَ مِياهَ الأرْضِ، حتى إنَّ بَعْضَهُم لَيَمُرُّ بالنَّهْرِ فَيَشْرَبُونَ ما فِيهِ، حتى يَتْركُوه يَابِسًا، حتى إنَّ مَنْ بَعْدَهُم لَيَمُرُّ بذلكَ النَّهْرِ، فَيَقُولُ: لَقَدْ كانَ هَا هُنا ماءٌ مَرَّةً، حتى لمْ يَبْقَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إلا انحازَ إلى حِصْنٍ أوْ مَدِينَةٍ، قالَ قائِلُهُم: هَؤْلاء أهْلُ الأرْضِ قَدْ فَرَغْنا مِنْهُمْ، بَقِيَ أهْلُ السَّماءِ، قالَ: ثُمَّ يَهُزُّ أحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ يَرْمي بها إلى السَّماءِ، فَتَرْجِعُ إلَيْهِ مُخَضبَةً دَما للبلاء والفِتْنَةِ، فَبَيْنَا هُمْ على ذلكَ، بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ دُودًا في أعناقِهِمْ كالنَّغَفِ، فَتَخْرُجُ فِي أعْناقِهِمْ فيُصْبِحُون مَوْتَى، لا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسٌّ، فَيَقُولُ المُسْلِمُونَ: ألا رَجُلٌ يَشْرِي لنَا نَفْسَهُ، فَيَنْظُرُ ما فعل العدوّ، قال: فَيَتَجَرَّدُ رَجُلٌ مِنْهُمْ لذلكَ مُحْتَسِبا لِنَفْسِهِ، قَدْ وَطَّنَها على أنَّهُ مَقْتُولٌ، فَيَنزلُ" فَيَجِدُهُمْ مَوْتَى، بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، فَيُنادِي: يا مَعْشَرَ المُسْلِمينَ، ألا أبشرُوا، فإنَّ اللهَ قَدْ كَفاكُمْ عَدُوَّكُمْ، فيَخْرُجونَ مِنْ مَدَائنهم وَحُصُونِهِمْ، وَيُسَرّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَمَا يَكُونُ لَهَا رَعْيٌ إلا لُحُومُهُمْ، فَتشْكرُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما شَكَرَتْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّباتِ أصَابَتْ قَطّ "." حدثني بحر بن نصر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني معاوية، عن أبي الزاهرية وشريح بن عبيد: أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف: صنف طولهم كطول الأرز، وصنف طوله وعرضه سواء، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى فتغطي سائر جسده. حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ) قال: كان أبو سعيد الخدريّ: يقول: إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ حتى يُولَدَ لِصُلْبِهِ ألْفُ رَجُل" . قال: وكان عبد الله بن مسعود يعجب من كثرتهم ويقول: لا يموت من يأجوج ومأجوج أحد حتى يولد له ألف رجل من صلبه. ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الثامن عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ مريم الحلقة (996) صــ 151 إلى صــ 160 يقول تعالى ذكره: قال الله لزكريا مجيبا له (قَالَ كَذَلِكَ) يقول: هكذا الأمر كما تقول من أنّ امرأتك عاقر، وإنك قد بلغت من الكبر العتيّ، ولكن ربك يقول: خلْق ما بشَّرتك به من الغلام الذي ذكرت لك أن اسمه يحيى عليّ هين، فهو إذن من قوله (قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) كناية عن الخلق. وقوله (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) يقول تعالى ذكره وليس خلق ما وعدتك أن أهبه لك من الغلام الذي ذكرت لك أمره منك مع كبر سنك، وعقم زوجتك بأعجب من خلقك، فإني قد خلقتك، فأنشأتك بشرا سويا من قبل خلقي ما بشرتك بأني واهب لك من الولد، ولم تك شيئا، فكذلك أخلق لك الولد الذي بشرتك به من زوجتك العاقر، مع عِتيك ووهن عظامك، واشتعال شيب رأسك. وقوله: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) يقول تعالى ذكره: قال زكريا: يا ربّ اجعل لي علما ودليلا على ما بشَّرَتني به ملائكتك من هذا الغلام عن أمرك ورسالتك، ليطمئنّ إلى ذلك قلبي. كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) قال: قال ربّ اجعل لي آية أن هذا منك. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: قال رب، فإن كان هذا الصوت منك فاجعل لي آية (قال) الله (آيَتُكَ) لذلك (أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) يقول جلّ ثناؤه: علامتك لذلك، ودليلك عليه أن لا تكلم الناس ثلاث ليال وأنت سويّ صحيح، لا علة بك من خرس ولا مرض يمنعك من الكلام. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس (ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) قال: اعتقل لسانه من غير مرض. حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) يقول: من غير خرس. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) قال: لا يمنعك من الكلام مرض. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) قال: صحيحا لا يمنعك من الكلام مرض. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) من غير بأس ولا خرس، وإنما عوقب بذلك لأنه سأل آية بعد ما شافهته الملائكة مشافهة، أخذ بلسانه حتى ما كان يفيض الكلام إلا أومأ إيماء. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن عكرمة، في قوله (ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) قال: سويا من غير خرس. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) وأنت صحيح، قال: فحبس لسانه، فكان لا يستطيع أن يكلم أحدا، وهو في ذلك يسبح، ويقرأ التوراة ويقرأ الإنجيل، فإذا أراد كلام الناس لم يستطع أن يكلمهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني، قال: أخذ الله بلسانه من غير سوء، فجعل لا يطيق الكلام، وإنما كلامه لقومه بالإشارة، حتى مضت الثلاثة الأيام التي جعلها الله آية لمصداق ما وعده من هبته له. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدّي (قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) يقول: من غير خرس إلا رمزا، فاعتقل لسانه ثلاثة أيام وثلاث ليال. وقال آخرون: السويّ من صفة الأيام، قالوا: ومعنى الكلام: قال: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال متتابعات. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) قال: ثلاث ليال متتابعات. القول في تأويل قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) } يقول تعالى ذكره: فخرج زكريا على قومه من مصلاه حين حُبس لسانه عن كلام الناس، آية من الله له على حقيقة وعده إياه ما وعد. فكان ابن جريج يقول في معنى خروجه من محرابه، ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ) قال: أشرف على قومه من المحراب. قال أبو جعفر: وقد بيَّنا معنى المحراب فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ) قال: المحراب: مصلاه، وقرأ: (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) وقوله: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ) يقول: أشار إليهم، وقد تكون تلك الإشارة باليد وبالكتاب وبغير ذلك، مما يفهم به عنه ما يريد. وللعرب في ذلك لغتان: وَحَى، وأوحى فمن قال: وَحَى، قال في يفعل: يَحِي; ومن قال: أوحى، قال: يُوحي، وكذلك أوَمَى وَوَمَى، فمن قال: وَمَى، قال في يفعل يَمِي; ومن قال أوَمَى، قال يُومِي. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي به أوحى إلى قومه، فقال بعضهم: أوحى إليهم إشارة باليد. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَأَوْحَى) : فأشار زكريا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ) قال: الوحي: الإشارة. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ) قال: أومى إليهم. وقال آخرون: معنى أوحى: كتب. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمود بن خداش، قال: ثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، في قول الله تعالى (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قال: كتب لهم في الأرض. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ) قال: كتب لهم. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدّي (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ) فكتب لهم في كتاب (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ، وذلك قوله (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ) وقال آخرون: معنى ذلك: أمرهم. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قال: ما أدري كتابا كتبه لهم، أو إشارة أشارها، والله أعلم، قال: أمرهم أن سَبِّحوا بكرة وعشيا، وهو لا يكلمهم. وقوله (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قد بيَّنت فيما مضى الوجوه التي ينصرف فيها التسبيح، وقد يجوز في هذا الموضع أن يكون عنى به التسبيح الذي هو ذكر الله، فيكون أمرهم بالفراغ لذكر الله في طرفي النهار بالتسبيح، ويجوز أن يكون عنى به الصلاة، فيكون أمرهم بالصلاة في هذين الوقتين. وكان قتادة يقول في قوله (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قال: أومى إليهم أن صلوا بكرة وعشيا. القول في تأويل قوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) } يقول تعالى ذكره: فولد لزكريا يحيى، فلما ولد، قال الله له: يا يحيى، خذ هذا الكتاب بقوة، يعني كتاب الله الذي أنزله على موسى، وهو التوراة بقوّة، يقول: بجدّ. كما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) قال: بجدّ. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) قال: بجدّ. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) قال: القوّة: أن يعمل ما أمره الله به، ويجانب فيه ما نهاه الله عنه. قال أبو جعفر: وقد بيَّنت معنى ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا، في سورة آل عمران، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وقوله (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) يقول تعالى ذكره: وأعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال. وقد حدثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرني معمر، ولم يذكره عن أحد في هذه الآية (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) قال: بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خُلقتُ، فأنزل الله (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) . وقوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) يقول تعالى ذكره: ورحمة منا ومحبة له آتيناه الحكم صبيا. وقد اختلف أهل التأويل في معنى الحنان، فقال بعضهم: معناه: الرحمة، ووَجهوا الكلام إلى نحو المعنى الذي وجهناه إليه. * ذكر من قال ذلك: حدثنا علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) يقول: ورحمة من عندنا. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة، في هذه الآية (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: رحمة. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: رحمة من عندنا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: رحمة من عندنا لا يملك عطاءها غيرنا. حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) يقول: رحمة من عندنا، لا يقدر على أن يعطيها أحد غيرنا. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ورحمة من عندنا لزكريا، آتيناه الحكم صبيا، وفعلنا به الذي فعلنا. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) يقول: رحمة من عندنا. وقال آخرون: معنى ذلك: وتعطفا من عندنا عليه، فعلنا ذلك. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: تعطفا من ربه عليه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: بل معنى الحنان: المحبة. ووجهوا معنى الكلام إلى: ومحبة من عندنا فعلنا ذلك. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن يحيى بن سعيد، عن عكرمة (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: محبة عليه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَحَنانا) قال: أما الحنان فالمحبة. وقال آخرون معناه تعظيما منا له. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عطاء بن أبي رباح (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: تعظيما من لدنا. وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا أدري ما الحنان. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة، عن ابن عباس، قال: والله ما أدري ما حنانا. وللعرب في حَنَانَك لغتان: حَنَانَك يا ربنا، وحَنانَيك; كما قال طَرَفة بن العبد في حنانيك: أبا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا ... حَنانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِن بعضِ (1) وقال امرؤ القيس في اللغة الأخرى: (1) البيت لطرفة بن العبد البكري (اللسان: حنن) . والشاهد في قوله حنانيك، أي تحننا على تحنن. وحكى الأزهري عن الليث: حنانيك يا فلان افعل كذا، ولا تفعل كذا، يذكره الرحمة والبر، وأنشد بيت طرفة. قال ابن سيده: وقد قالوا حنانا، فصلوه من الإضافة في الإفراد، وكل ذلك بدل من اللفظ بالفعل. ويَمْنَحُها بَنُو شَمَجَى بن جَرْمٍ ... مَعِيزَهُمُ حَنانَكَ ذَا الحَنانِ (1) وقد اختلف أهل العربية في "حنانيك" فقال بعضهم: هو تثنية "حنان" . وقال آخرون: بل هي لغة ليست بتثنية; قالوا: وذلك كقولهم: حَوَاليك; وكما قال الشاعر: ضَرْبا هَذَا ذَيْكَ وطَعْنا وَخْضًا (2) وقد سوّى بين جميع ذلك الذين قالوا حنانيك تثنية، في أن كل ذلك تثنية. وأصل ذلك أعني الحنان، من قول القائل: حنّ فلان إلى كذا وذلك إذا ارتاح إليه واشتاق، ثم يقال: تحنَّنَ فلان على فلان، إذا وصف بالتعطُّف عليه والرقة به، والرحمة له، كما قال الشاعر: تَحَنّنْ عَليَّ هَدَاكَ المَلِيكُ ... فإنَّ لِكُلّ مَقامٍ مَقالا (3) بمعنى: تعطَّف عليّ. فالحنان: مصدر من قول القائل: حنّ فلان على فلان، يقال منه: حننت عليه، فأنا أحنّ عليه حنينا وحنانا، ومن ذلك قيل لزوجة الرجل: حَنَّته، لتحنته عليها وتعطفه، كما قال الراجز: (1) البيت لامرئ القيس بن حجر (اللسان: حنن) و (مختار الشعر الجاهلي، بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 110) قال شارحه ويمنحها: هذه رواية الأصمعي أي يعطيها ويروى: ويمنعها، وهي أشبه بمعنى البيت. وقوله: حنانك ذا الحنان، فسره ابن الأعرابي: رحمتك يا رحمن، فأغنى عنهم. وعلى أية حال. فالشاعر برم بمجاورة بني شمجي بن جرم، متسخط فعلهم، زار عليهم، إذا منعوه المعزى. فأما إذا منحوه إياها (على رواية الأصمعي) فإنه يكون ساخطا، لاضطراره إلى أن يقبل منح أمثالهم مع ما له من الشرف والعراقة في الملك؛ كأنه يقول في نفسه: أبعد ما كان لنا من العز الشامخ تذل نفسي وتضطر إلى قبول المنح والصلات من الناس. وفي اللسان: فرواية الأعرابي تسخط وذم، وذلك تفسيره؛ ورواية الأصمعي: تشكر وحمد ودعاء لهم، وكذلك تفسيره. (2) البيت في (اللسان: هذذ) غير منسوب. قال: الهذ والهذذ: سرعة القطع وسرعة القراءة. قال: ضربا هذا ذيك: أي هذا بعد هذ، يعني قطعا بعد قطع. وعلى هذا استشهد به المؤلف. . والوخض: قال الأصمعي: إذا خالطت الطعنة الجوف ولم تنفذ، فذلك الوخض والوخط أه. يقال: وخضه بالرمح وخضا. (3) البيت للحطيئة (لسان العرب: حنن) . قال: وتحنن عليه: ترحم، وأنشد ابن بر الحطيئة: تحنن علي. . . البيت. وَلَيْلَةٍ ذَاتِ دُجًى سَرَيْتُ ... ولَمْ تَضِرْنِي حَنَّةٌ وَبيْتُ (1) وقوله: (وَزَكاةً) يقول تعالى ذكره: وآتينا يحيى الحكم صبيا، وزكاة: وهو الطهارة من الذنوب، واستعمال بدنه في طاعة ربه، فالزكاة عطف على الحكم من قوله (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ) . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَزَكاةً) قال: الزكاة: العمل الصالح. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (وَزَكاةً) قال: الزكاة: العمل الصالح الزكيّ. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله (وَزَكاةً) يعني العمل الصالح الزاكي. وقوله (وكانَ تَقِيًّا) يقول تعالى ذكره: وكان لله خائفا مؤدّيا فرائضه، مجتنبا محارمه مسارعا في طاعته. كما: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) قال: طهر فلم يعمل بذنب. حدثني يونس، قال: خبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) قال: أما الزكاة والتقوى فقد عرفهما الناس. (1) هذان بيتان من مشطور الرجز، لأبي محمد الفقعسي، وبينهما بيت ثالث، وهو قوله * ولم يلتني عن سراها ليت * (اللسان: حنن) . وقد استشهد بالبيتين الأولين منهما صاحب اللسان في (ليت) . واستشهد بهما المؤلف في الجزء الخامس عشر عند تفسير قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده) وموضع الشاهد هنا في البيت الثالث وهو قوله: "حنة" . قال: وحنة الرجل: امرأته، قال أبو محمد الفقعسي: "وليلة" . . . . إلخ. الأبيات الثلاثة. قال: وهي طلته وكنيته ونهضته وحاصنته وحاضنته. القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) } يقول تعالى ذكره: وكان برّا بوالديه، مسارعا في طاعتهما ومحبتهما، غير عاقّ بهما (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) يقول جلّ ثناؤه: ولم يكن مستكبرا عن طاعة ربه وطاعة والديه، ولكنه كان لله ولوالديه متواضعا متذللا يأتمر لما أمر به، وينتهي عما نُهِي عنه، لا يَعْصِي ربه، ولا والديه. وقوله (عَصِيًّا) فعيل بمعنى أنه ذو عصيان، من قول القائل: عَصَى فلان ربه، فهو يعصيه عصيا. وقوله (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) يقول: وأمان من الله يوم ولد، من أن يناله الشيطان من السوء، بما ينال به بني آدم، وذلك أنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأْتي يَوْمَ القِيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إلا ما كانَ مِنْ يَحْيَى بنِ زَكَريَّا" . حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: ثني ابن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (جَبَّارًا عَصِيًّا) قال: كان ابن المسيب يذكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أحَدٍ يَلْقَى اللهَ يَوْمَ القِيامَةِ، إلا ذَا ذَنْبٍ، إلا يَحْيَى بنَ زَكَريَّا" . قال: وقال قتادة: ما أذنب، ولا هم بامرأة. وقوله (وَيَوْمَ يَمُوتُ) يقول: وأمان من الله تعالى ذكره له من فَتَّاني القبر، ومن هول المطلع (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) يقول: وأمان له من عذاب الله يوم القيامة، يوم الفزع الأكبر، من أن يروعه شيء، أو أن يفزعه ما يفزع الخلق. وقد ذكر ابن عيينة في ذلك ما حدثني أحمد بن منصور الفَيروزِيّ، ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الثامن عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الكهف الحلقة (992) صــ 111 إلى صــ 120 فالخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه في قصة يأجوج ومأجوج، يدلّ على أن الذين قالوا لذي القرنين (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ) إنما أعلموه خوفَهم ما يحدُث منهم من الإفساد في الأرض، لا أنهم شَكَوا منهم فسادا كان منهم فيهم أو في غيرهم. والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد في الأرض، ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنين السدّ الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفساد. فإذا كان ذلك كذلك بالذي بيَّنا، فالصحيح من تأويل قوله (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ) إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض. وقوله (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) كأنهم نَحَوا به نَحو المصدر من خَرْج للرأس، وذلك جعله، وقرأته عامَّة قرّاء الكوفيين (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا "بالألف، وكأنهم نحوا به نحو الاسم. وعنوا به أجرة على بنائك لنا سدّا بيننا وبين هؤلاء القوم." وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا "بالألف، لأن القوم فيما ذُكر عنهم، إنما عرضوا على ذي القرنين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السدِّ، وقد بين ذلك بقوله: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) ولم يعرضوا عليه جزية رؤوسهم. والخراج عند العرب: هو الغلة." وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجًا) قال: أجرا (عَلَى أن تجعل بيننا وبينهم سدا) حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (فَهَلْ نَجْعَلُ لَك خَرَاجا) قال: أجرا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، قوله (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا) قال: أجرا. وقوله: (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) يقول: قالوا له: هل نجعل لك خراجا حتى أن تجعل بيننا وبين يأجوج ومأجوح حاجزا يحجز بيننا وبينهم، ويمنعهم من الخروج إلينا. وهو السدّ. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) } يقول تعالى ذكره: قال ذو القرنين: الذي مكنني في عمل ما سألتموني من السدّ بينكم وبين هؤلاء القوم ربي، ووطأه لي، وقوّانى عليه، خير من جُعلكم، والأجرة التي تعرضونها عليّ لبناء ذلك، وأكثر وأطيب، ولكن أعينوني منكم بقوة، أعينوني بفَعَلة وصناع يُحسنون البناء والعمل. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) قال: برجال (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) وقال ما مكني، فأدغم إحدى النونين في الأخرى، وإنما هو ما مكنني فيه. وقوله: (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) يقول: أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج ردما. والردم: حاجز الحائط والسدّ، إلا أنه أمنع منه وأشدّ، يقال منه: قد ردم فلان موضع كذا يَردِمه رَدْما ورُدَاما (1) ويقال أيضا: رَدَّم ثوبه يردمه، وهو ثوب مُرَدّم: إذا كان كثير الرقاع، ومنه قول عنترة: هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ ... أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهْمِ (2) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) قال: هو كأشد الحجاب. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: "ذكر لنا أن رجلا قال: يا نبي الله قد رأيت سدّ يأجوج ومأجوج، قال انْعَتْهُ لي قال: كأنه البرد المحبَّر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء، قالَ قَدْ رأيتَهُ" . القول في تأويل قوله تعالى: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى (1) الردام: مصدر ردم يردم (بالضم في المضارع) رداما: ضراط. (عن اللسان) . (2) البيت لعنترة بن عمرو بن شداد العبسي، من معلقته المشهورة (انظره في شرح الزوزني للمعلقات السبع، وشرح التبريزي للقصائد العشر، ومختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي ص 369) قال شارحه: متردم: موضع يسترقع ويستفلح لوهنه ووهيه، من قولهم: ردمت الشيء إذا أصلحته، وقويت ما وهي منه. ويروى: مترنم، من الترنم، وهو ترجيع الصوت مع تحزين. يقول: هل ترك الشعراء موضعا مسترقعا إلا وقد أصلحوه، أو هل تركت الشعراء شيئًا إلا رجعوا نغماته بإنشاء الشعر في وصفه؟ والمعنى: لم يترك الأول للآخر شيئا. ثم أضرب عن ذلك، وسأل نفسه: هل عرفت دار عشيقتك، بعد شكك فيها؟ وفي (اللسان: ردم) : والمتردم الموضع الذي يرقع. ويقال: تردم الرجل ثوبه: أي رقعه يتعدى، ولا يتعدى. ابن سيده: ثوب مردم، ومرتدم، ومتردم، وملوم: خلق مرقع؛ قال عنترة: * هل غادر الشعراء من متردم * . . . البيت ". معناه أي مستصلح. قال ابن سيده: أي من كلام يلصق بعضه ويلبق: أي قد سبقونا إلى القلم فلم يدعوا مقالا لقائل." بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) يقول عزّ ذكره: قال ذو القرنين للذين سألوه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سداّ (آتُونِي) أي جيئوني بِزُبَرِ الحديد، وهي جمع زُبْرة، والزُّبْرة: القطعة من الحديد. كما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (زُبَرَ الْحَدِيدِ) يقول: قطع الحديد. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) قال: قطع الحديد. حدثني إسماعيل بن سيف، قال: ثنا عليّ بن مسهر، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قوله: (زُبَرَ الْحَدِيدِ) قال: قطع الحديد. حدثني محمد بن عمارة الأسديّ، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى عن مجاهد، قوله (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) قال: قطع الحديد. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي فَلَق الحديد. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) قال: قطع الحديد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) قال: قطع الحديد. وقوله (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) يقول عزّ ذكره: فآتو زُبَر الحديد، فجعلها بين الصدفين حتى إذا ساوى بين الجبلين بما جعل بينهما من زُبر الحديد، ويقال: سوّى. والصدفان: ما بين ناحيتي الجبلين ورؤوسهما، ومنه قوله الراجز: قدْ أخَذَتْ ما بينَ عَرْضِ الصُّدُفَيْنِ ... ناحِيَتَيْها وأعالي الرُّكْنَيْن (1) (1) البيتان من شواهد أبي عبيدة في (مجاز القرآن 1: 414) قال: "بين الصدفين" : فبعضهم يضمها، وبعضهم يفتحها (الصاد المشددة) يحرك الدال. ومجازهما: ما بين الناحيتين من الجبلين. وقال: "قد أخذت. . . البيتين" . ولم ينسبهما وفي (اللسان: صدف) : والصدفان (التحدريك) والصدفان بضمهما: جبلان متلاقيان بيننا وبين يأجوج ومأجوج. وفي التنزيل العزيز: (حتى إذا ساوى بين الصدفين) : قرئ الصدفين (بالتحريك) والصدفين وبضمهما، والصدفين (بضم الأول وفتح الثاني) .وفي هامش اللسان "وبقيت رابعة: الصدّفين كعضوين كما في القاموس" . (ثم قال في اللسان وفي الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بصدف أو هدف مائل أسرع المشي" . ابن الأثير: هو بفتحتين وضمتين. قال أبو عبيدة: الصدف والهدف: واحد، وهو كل بناء مرتفع عظيم. قال الأزهري: وهو مثل صدف الجبل، شبه به، وهو ما قابلك من جانبه. أه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) يقول: بين الجبلين. حدثني محمد، بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) قال: هو سدّ كان بين صَدَفين، والصدفان: الجبلان. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى "ح" ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (الصَّدَفَيْنِ) رؤوس الجبلين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا مُعاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) يعني الجبلين، وهما من قبل أرمينية وأذربيجان. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) وهما الجبلان. حدثني أحمد بن يوسف، قال: أخبرنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم أنه قرأها (بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) منصوبة الصاد والدال، وقال: بين الجبلين، وللعرب في الصدفين: لغات ثلاث، وقد قرأ بكلّ واحدة منها جماعة من القرّاء: الفتح في الصاد والدال، وذلك قراءة عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة، والضمّ فيهما، وهي قراءة أهل البصرة، والضم في الصاد وتسكين الدال، وذلك قراءة بعض أهل مكة والكوفة، والفتح في الصاد والدال أشهر هذه اللغات، والقراءة بها أعجب إليّ، وأن كنت مستجيزا القراءة بجميعها، لإتفاق معانيها. وإنما اخترت الفتح فيهما لما ذكرت من العلة. وقوله قَالَ انْفُخُوا) يقول عزّ ذكره، قال للفعلة: انفخوا النار على هذه الزبر من الحديد. وقوله: (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا) وفي الكلام متروك، وهو فنفخوا، حتى إذا جعل ما بين الصدفين من الحديد نارا (قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) فاختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة، وبعض أهل الكوفة (قَالَ آتُونِي) بمد الألف من (آتُونِي) بمعنى: أعطوني قطرا أفرغ عليه. وقرأه بعض قرّاء الكوفة، قال (ائْتُونِي) بوصل الألف، بمعنى: جيئوني قِطْرا أفرغ عليه، كما يقال: أخذت الخطام، وأخذت بالخطام، وجئتك زيدا، وجئتك بزيد. وقد يتوجه معنى ذلك إذا قرئ كذلك إلى معنى أعطوني، فيكون كأن قارئه أراد مد الألف من آتوني، فترك الهمزة الأولى من آتوني، وإذا سقطت الأولى همز الثانية. وقوله: (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) يقول: أصبّ عليه قِطرا، والقِطْر: النحاس. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) قال: القطر: النحاس. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا مُعاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) يعني النحاس. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) أي النحاس ليلزمه به. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) قال: نحاسا. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: القِطر: الحديد المذاب، ويستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر: حُساما كَلَوْنِ المِلْحِ صَافٍ حَديدُه ... جُزَارًا مِنْ أقْطارِ الحَديدِ المُنَعَّتِ (1) وقوله: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) يقول عزّ ذكره: فما اسطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوا الردم الذي جعله ذو القرنين حاجزا بينهم، وبين من دونهم من الناس، فيصيروا فوقه وينزلوا منه إلى الناس. يقال منه: ظهر فلان فوق البيت: إذا علاه، ومنه قول الناس: ظهر فلان على فلان: إذا قهره وعلاه وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) يقول: ولم يستطيعوا أن ينقبوه من أسفله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) من قوله (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) أي من أسفله. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) قال: ما استطاعوا أن ينزعوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، (1) البيت من شواهد أبي عبيدة في (مجاز القرآن 1: 415) عند تفسير قوله تعالى: (أفرغ عليه قطرا) قال: أي أصب عليه حديدًا ذائبا، قال: "حساما. . . البيت" جمع قطر، وجعله بعضهم الرصاص النقرة أه. وفي (اللسان: قطر) والقطر بالكسر: النحاس الذائب، وقيل ضرب منه أه. وفي (اللسان: جرز) : وسيف جراز: قاطع: ويقال: سيف جراز: إذا كان مستأصلا. والجراز من السيوف: الماضي النافذ أه. عن قتادة (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) قال: أن يرتقوه (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، (فما استطاعوا أن يظهروه) قال: أن يرتقُوه (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) قال: يعلوه (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) أي ينقبوه من أسفله. واختلف أهل العربية في وجه حذف التاء من قوله: (فَمَا اسْطَاعُوا) فقال بعض نحويي البصرة: فعل ذلك لأن لغة العرب أن تقول: اسطاع يسطيع، يريدون بها: استطاع يستطيع، ولكن حذفوا التاء إذا جُمعت مع الطاء ومخرجهما واحد. قال: وقال بعضهم: استاع، فحذف الطاء لذلك. وقال بعضهم: أسطاع يسطيع، فجعلها من القطع كأنها أطاع يطيع، فجعل السين عوضًا من إسكان الواو. (1) وقال بعض نحوييّ الكوفة: هذا حرف استعمل فكثر حتى حذف. (1) أي عوضا من ذهاب حركة الواو، كما في اللسان. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) } يقول عزّ ذكره: فلما رأى ذو القرنين أن يأجوج ومأجوج لا يستطيعون أن يظهروا ما بنى من الردم، ولا يقدرون على نقبه، قال: هذا الذي بنيته وسويته حاجزا بين هذه الأمة، ومن دون الردم رحمة من ربي رحم بها من دون الردم من الناس، فأعانني برحمته لهم حتى بنيته وسوّيته ليكفّ بذلك غائلة هذه الأمة عنهم. وقوله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) يقول: فإذا جاء وعد ربي الذي جعله ميقاتا لظهور هذه الأمة وخروجها من وراء هذا الردم لهم. جعله دكاء، يقول: سواه بالأرض، فألزقه بها، من قولهم: ناقة دكاء: مستوية الظهر لا سنام لها. وإنما معنى الكلام: جعله مدكوكا، فقيل: دكاء. وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) قال: لا أدري الجبلين يعني به، أو ما بينهما. وذُكر أن ذلك يكون كذلك بعد قتل عيسى ابن مريم عليه السلام الدجال. * ذكر الخبر بذلك: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا هشيم بن بشير، قال: أخبرنا العوّام، عن جبلة بن سحيم، عن مؤثر، وهو ابن عفارة العبدي، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لَقِيتُ لَيْلةَ الإسْرَاءِ إبْرَاهيمَ وَمُوسَى وعِيسَى فَتَذَاكرُوا أمْرَ السَّاعةِ، وَرَدُّوا الأمْرَ إلى إبْرَاهِيمَ فَقالَ إبْرَاهيمُ: لا عِلْمَ لي بِها، فَرَدُّوا الأمْرَ إلى مُوسَى، فَقالَ مُوسَى: لا عِلْمَ لي بها، فَرَدُّوا الأمْرَ إلى عِيسَى؛ قَالَ عِيسَى: أمَّا قِيامُ السَّاعةِ لا يَعْلَمُهُ إلا اللهُ، وَلَكِنَّ رَبّي قَدْ عَهِدَ إليَّ بِمَا هُوَ كائِنٌ دُونَ وَقْتِها، عَهِدَ إليَّ أنَّ الدَّجَّالَ خارِجٌ، وأنَّهُ مُهْبِطِي إلَيْهِ، فَذَكَرَ أنَّ مَعَهُ قَصَبَتَيْنِ، فإذَا رآنِي أهْلَكَهُ اللهُ، قالَ: فَيَذُوبُ كما يذوبُ الرَّصَاصُ، حتى إنَّ الحَجَرَ والشَّجَرَ لَيَقُولُ: يا مُسْلِمُ هَذَا كافِرٌ فاقْتُلْهُ، فَيُهْلِكُهُمُ اللهُ، ويَرْجِعُ الناسُ إلى بِلادِهِمْ وأوْطانِهمْ فَيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ كُلِّ حَدبٍ يَنْسِلُونَ، لا يَأْتُونَ عَلى شَيْءٍ إلا أكَلُوهُ، ولا يَمُرُّونَ على ماءٍ إلا شَرِبُوهُ، فَيْرِجِعُ النَّاسُ إليَّ، فَيَشْكُونَهُمُ، فأَدْعُو الله عليهم فيميتهم حتى تَجْوَى الأرْضُ مِنْ نَتِنْ رِيحِهِمْ، فَيَنزلُ المَطَرُ، فَيَجُرُّ أجْسادَهُم، فيُلْقِيهِمْ فِي البَحْرِ، ثُمَّ يَنْسِفُ الجِبَالَ حتى تَكُونَ الأرْضُ كالأدِيمِ، فَعَهِدَ إليَّ رَبّي أنَّ ذلكَ إذا كان كذلك، فإنَّ الساعة مِنْهُمُ كالحامِلِ المُتِمُّ الَّتِي لا يَدْرِي أهْلُها مَتى تَفْجَؤُهُمْ بِوِلادِها، لَيْلا أوْ نَهَارًا" . حدثني عبيد بن إسماعيل، قال: ثنا المحاربيّ، عن أصبع بن زيد، عن العوّام بن حوشب، عن جبلة بن سحيم، عن مؤثر بن عَفازَة، عن عبد الله بن مسعود، قال: لما أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. فتذاكروا أمر الساعة. فذكر نحو حديث إبراهيم الدورقي عن هشيم، وزاد فيه: قال العوّام بن حوشب: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال الله عز وجل (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) يقول: وكان وعد ربي الذي وعد خلقه في دكّ هذا الردم، وخروج هؤلاء القوم على الناس، وعيثهم فيه، وغير ذلك من وعده حقا، لأنه لا يخلف الميعاد فلا يقع غير ما وعد أنه كائن. القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) } يقول تعالى ذكره: وتركنا عبادنا يوم يأتيهم وعدنا الذي وعدناهم، بأنا ندكّ الجبال ونَنْسِفها عن الأرض نسفا، فنذرها قاعا صفصفا، بعضهم يموج في بعض، يقول: يختلط جنهم بإنسهم. كما ثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن هارون بن عنترة، عن شيخ من بني فزارة، في قوله (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) قال: إذا ماج الجنّ والإنس، قال إبليس: فأنا أعلم لكم علم هذا الأمر، فيظعن إلى المشرق، فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض، ثم يظعن إلى المغرب، فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض، ثم يصعد يمينا وشمالا إلى أقصى الأرض، فيجد الملائكة قطعوا الأرض، فيقول: ما من مَحِيص، فبينا هو كذلك، إذ عرض له طريق كالشراك، فأخذ عليه هو وذرّيته، فبينما هم عليه، إذ هجموا على النار، فأخرج الله خازنا من خُزّان النار، قال: يا إبليس ألم تكن لك المنزلة عند ربك، ألم تكن في الجنان؟ فيقول: ليس هذا يوم عتاب، لو أن الله فرض علي فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه، فيقول: فإن الله قد فرض عليك فريضة، فيقول: ما هي؟ فيقول: يأمرك أن تدخل النار، فيتلكأ ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الثامن عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الكهف الحلقة (993) صــ 121 إلى صــ 130 عليه، فيقول (1) به وبذرّيته بجناحيه، فيقذفهم في النار، فَتزفر النار زفرة فلا يبقى مَلَك مقرّب، ولا نبيّ مرسل إلا جثى لركبتيه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) قال: هذا أوّل القيامة، ثم نفخ في الصور على أثر ذلك فجمعناهم جمعا، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في الصُّور، وما هو، وما عُنِي به. واخترنا الصواب من القول في ذلك بشواهده المغنية عن إعادته في هذا الموضع، غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ما لم نذكر في ذلك الموضع من الأخبار. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: ثنا أسلم، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن أعرابيا سأله عن الصُّور، قال "قَرنٌ يُنْفَخُ فِيهِ" . حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن العجلي، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحوه. حدثنا محمد بن الحارث القنطري، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير، قال: كنت في جنازة عمر بن ذرّ فلقيت مالك بن مغول، فحدثنا عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخُدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحبُ القَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ وَحَنى الجَبَهَةَ، وأصْغَى بالأذُنِ مَتَى يُؤْمَرُ، فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قُولُوا حَسْبُنا الله وعَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا، وَلَوِ اجْتَمَعَ أهْلُ مِنًى ما أقالُوا ذلك القَرْنَ" كذا قال، وإنما هو ما أقلوا. حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن الحجاج، عن عطية، عن أبي سعيد الخُدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أنْعَمُ" (1) يقول: بمعنى يدفع به ويحركه. وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ، وَحَنى ظَهْرَهُ وَجَحَظَ بعَيْنَيْهِ، قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: حَسْبُنا اللهُ، تَوَكَّلْنا عَلى اللهِ "." حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عطية، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ، وَحَنى جَبْهَتَهُ يَسْتَمِعُ مَتى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ فِيهِ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف نقول؟ قال: تَقُولُونَ: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، تَوكَّلْنا على اللهِ" . حدثنا أبو كريب والحسن بن عرفة، قالا ثنا أسباط، عن مطرف، عن عطية، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثله. حدثني يعقوب، قال: ثنا شعيب بن حرب، قال: ثنا خالد أبو العلاء، قال: ثنا عطية العوفيّ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ أَنْعَمُ وصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنى الجَبْهَةَ، وأصْغَى بالأذُنِ مَتَى يُؤْمَرُ أنْ يَنْفُخَ، وَلَوْ أنَّ أهْلَ مِنًى اجْتَمَعُوا على القَرْنِ على أن يُقِلُّوهُ مِنَ الأرْضِ، ما قَدَرُوا عليه "قال: فأُبِلسَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشقّ عليهم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُولُوا: حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، عَلى اللهِ تَوَكَّلْنا" . حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن فلان، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب الْقُرَظيّ، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَمَّا فَرَغَ اللهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ، خَلَقَ الصُّورَ، فأعطاهُ إسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَضَعَهُ عَلى فِيهِ شاخِصٌ بَصَرُهُ إلى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتى يُؤْمَرُ، قال أبو هريرة: يا رسول الله، ما الصُّور؟ قال: قَرْنٌ، قال: وكيف هو؟ قال: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ: الأولى: نَفْخَةُ الفَزَعِ، والثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، والثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِيامِ لِرَبّ العالَمِينَ "." وقوله (فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا) يقول: فجمعنا جميع الخلق حينئذ لموقف الحساب جميعا. وقوله (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا) يقول: وأبرزنا جهنم يوم ينفخ في الصور، فأظهرناها للكافرين بالله، حتى يروها ويعاينوها كهيئة السراب، ولو جعل الفعل لها قيل: أعرضت إذا استبانت. كما قال عمرو بن كلثوم: وأعْرَضَتِ اليَمامَةُ واشْمَخَرَّتْ ... كأسْياف بأيْدي مُصْلِتِينا (1) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأوْيل.. *ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: ثنا أبو الزعراء، عن عبد الله، قال: يقوم الخلق لله إذا نفخ في الصور، قيام رجل واحد، ثم يتمثل الله عزّ وجلّ للخلق فما يلقاه أحد من الخلائق كان يعبد من دون الله شيئا إلا وهو مرفوع له يتبعه، قال: فيلقى اليهود فيقول: من تعبدون؟ قال: فيقولون: نعبد عُزَيرا، قال: فيقول: هل يسركم الماء؟ فيقولون نعم، فيريهم جهنم وهي كهيئة سراب، ثم قرأ (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا) ثم يلقى النصارى فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد المسيح، فيقول: هل يسركم الماء، فيقولون نعم، قال: فيريهم جهنم وهي كهيئه السراب، ثم كذلك لمن كان يعبد من دون الله شيئا، ثم قرأ عبد الله (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) } يقول تعالى: وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين الذين كانوا لا ينظرون في آيات الله، فيتفكَّرون فيها ولا يتأمَّلون حججه، فيعتبرون بها، فيتذكرون وينيبون (1) البيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي في (جمهرة أشعار العرب 74 - 84، وفي شرحي الزوزوني والتبريزي للمعلقات) وأعرضت: ظهرت، وعرضت الشيء: أظهرته، ومنه قوله عز وجل: (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا) وهذا من النوادر عرضت الشيء فأعرض، ومثله كببته فأكب، واشمخرت: طالت وارتفعت. والمعنى بدت مستطيلة. والكاف في قوله كأسياف: في موضع نصب، على أنها نعت لمصدر محذوف، والمصلت الشاهر سيفه، يقال: أصلت الشيف: إذا سللته. والمعنى: ظهرت لنا قرى اليمامة، وارتفعت في أعيننا، كأسياف بأيدي رجال سالين سيوفهم، فاشتقت لذلك لما رأيت موضعها الذي يصير إليه. والشاهد في قوله: أعرضت بمعنى ظهرت. إلى توحيد الله، وينقادون لأمره ونهيه، وكانوا لا يستطيعون سمعا، يقول: وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر الله الذي ذكَّرهم به، وبيانه الذي بيَّنه لهم في آي كتابه، بخذلان الله إياهم، وغلبة الشقاء عليهم، وشُغلهم بالكفر بالله وطاعة الشيطان، فيتعظون به، ويتدبَّرون، فيعرفون الهدى من الضلالة، والكفر من الإيمان. وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) قال: لا يعقلون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) قال: لا يعلمون. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي) الآية، قال: هؤلاء أهل الكفر. القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نزلا (102) } يقول عزّ ذكره: أفظن الذين كفروا بالله من عبدة الملائكة والمسيح، أن يتخذوا عبادي الذين عبدوهم من دون الله أولياء، يقول كلا بل هم لهم أعداء. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله (أفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْ يَتَّخِذُوا عِبادي مِنْ دُونِي أوْلياءَ) قال: يعني من يعبد المسيح ابن مريم والملائكة، وهم عباد الله، ولم يكونوا للكفار أولياء. وبهذه القراءة، أعني بكسر السين من (أفَحَسِبَ) بمعنى الظنّ قرأت هذا الحرف قرّاء الأمصار ورُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وعكرمة ومجاهد أنهم قرءوا ذلك (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بتسكين السين، ورفع الحرف بعدها، بمعنى: أفحسبهم ذلك: أي أفكفاهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء من عباداتي وموالاتي. كما حُدثت عن إسحاق بن يوسف الأزرق، عن عمران بن حدير، عن عكرمة (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال: أفحسبهم ذلك، والقراءة التي نقرؤها هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ) بكسر السين، بمعنى أفظنّ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها. وقوله (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نزلا) يقول: أعددنا لمن كفر بالله جهنم منزلا. القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الذين يبغون عنتك ويجادلونك بالباطل، ويحاورونك بالمسائل من أهل الكتابين: اليهود، والنصارى (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) أيها القوم (بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا) يعني بالذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحا وفضلا فنالوا به عَطَبا وهلاكا ولم يدركوا طلبا، كالمشتري سلعة يرجو بها فضلا وربحا، فخاب رجاؤه. وخسر بيعه، ووكس في الذي رجا فضله. واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بذلك، فقال بعضهم: عُنِي به الرهبان والقسوس. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا المقبري، قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: أخبرني السكن بن أبي كريمة، أن أمه أخبرته أنها سمعت أبا خميصة عبد الله بن قيس يقول: سمعت عليّ بن أبي طالب يقول في هذه الآية (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت حيوة يقول: ثني السكن بن أبي كريمة، عن أمه أخبرته أنها سمعت عبد الله بن قيس يقول: سمعت عليّ بن أبي طالب يقول، فذكر نحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن مصعب بن سعد، قال: قلت لأبي (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) أهم الحَرورية؟ قال: هم أصحاب الصوامع. حدثنا فضالة بن الفضل، قال: قال بزيع: سأل رجل الضحاك عن هذه الآية (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا) قال: هم القسيسون والرهبان. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن منصور، عن هلال بن بساف، عن مصعب بن سعد، قال: قال سعد: هم أصحاب الصوامع. حدثنا ابن حميد، قال ثنا جرير، عن منصور، عن ابن سعد، قال: قلت لسعد: يا أبت (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا) أهم الحَرورية، فقال: لا ولكنهم أصحاب الصوامع، ولكن الحَرورية قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. وقال آخرون: بل هم جميع أهل الكتابين. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد، قال: سألت أبي عن هذه الآية (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أهم الحَرورية؟ قال: لا هم أهل الكتاب، اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا بمحمد. وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا: ليس فيها طعام ولا شراب، ولكن الحَرورية (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) فكان سعد يسميهم الفاسقين. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن إبراهيم بن أبي حُرّة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، في قوله (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا) قال: هم اليهود والنصارى. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن أبي حرب بن أبي الأسود عن زاذان، عن عليّ بن أبي طالب، أنه سئل عن قوله (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا) قال: هم كفرة أهل الكتاب، كان أوائلهم على حقّ، فأشركوا بربهم، وابتدعوا في دينهم، الذي يجتهدون في الباطل، ويحسبون أنهم على حقّ، ويجتهدون في الضلالة، ويحسبون أنهم على هدى، فضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ثم رفع صوته، فقال: وما أهل النار منهم ببعيد. وقال آخرون: بل هم الخوارج. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان بن سَلَمة، عن سلمة بن كُهَيل، عن أبي الطفيل، قال: سأل عبد الله بن الكوّاء عليا عن قوله (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا) قال: أنتم يا أهل حَروراء. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن أبي صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن أبي الصهباء البكريّ، عن عليّ بن أبي طالب، أن ابن الكوّاء سأله، عن قول الله عزّ وجلّ (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا) فقال عليّ: أنت وأصحابك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الطفيل، قال: قام ابن الكوّاء إلى عليّ، فقال: من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، قال: ويْلُك أهل حَروراء منهم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن خالد ابن عَشْمة (1) ، قال: ثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله، قال: ثنى أبو الحويرث، عن نافع بن جبير بن مطعم، قال: قال ابن الكوّاء لعليّ بن أبي طالب: ما الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا؟ قال: أنت وأصحابك. والصواب من القول في ذلك عندنا، أن يقال: إن الله عزّ وجلّ عنى بقوله (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا) كلّ عامل عملا يحسبه فيه مصيبا، وأنه لله بفعله ذلك مطيع مرض، وهو بفعله ذلك لله مسخط، وعن طريق أهل (1) هي أم محمد، وخالد أبوه، فيلزم إثبات الألف أه. الإيمان به جائر كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الإجتهاد في ضلالتهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة، من أهل أيّ دين كانوا. وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب قوله (أعمالا) ، فكان بعض نحويي البصرة يقول: نصب ذلك لأنه لما أدخل الألف واللام والنون في الأخسرين لم يوصل إلى الإضافة، وكانت الأعمال من الأخسرين فلذلك نصب، وقال غيره: هذا باب الأفعل والفُعْلَى، مثل الأفضل والفُضْلَى، والأخسر والخُسْرَى، ولا تدخل فيه الواو، ولا يكون فيه مفسر، لأنه قد انفصل بمن هو كقوله الأفضل والفُضْلَى، وإذا جاء معه مفسر كان للأوّل والآخر، وقال: ألا ترى أنك تقول: مررت برجل حَسَن وجها، فيكون الحسن للرجل والوجه، وكذلك كبير عقلا وما أشبهه قال: وإنما جاز في الأخسرين، لأنه ردّه إلى الأفْعَل والأفْعَلة. قال: وسمعت العرب تقول: الأوّلات دخولا والآخِرات خروجا، فصار للأوّل والثاني كسائر الباب قال: وعلى هذا يقاس. وقوله: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يقول: هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلالة، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل على كفر منهم به، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا: يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدَل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالا وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم. ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه، كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة، وأن أعمالهم حابطة. وعنى بقوله: (أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) عملا والصُّنع والصَّنعة والصنيع واحد، يقال: فرس صنيع بمعنى مصنوع. القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) } يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا صفتهم، الأخسرون أعمالا الذين كفروا بحُجج ربهم وأدلته، وأنكروا لقاءه (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) يقول: فبطلت أعمالهم، فلم يكن لها ثواب ينفع أصحابها في الآخرة، بل لهم منها عذاب وخزي طويل (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) يقول تعالى ذكره: فلا نجعل لهم ثقلا. وإنما عنى بذلك: أنهم لا تثقل بهم موازينهم، لأن الموازين إنما تثقل بالأعمال الصالحة، وليس لهؤلاء شيء من الأعمال الصالحة، فتثقل به موازينهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن شمر، عن أبي يحيى عن كعب، قال: يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) . حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن الصلت، قال: ثنا ابن أبي الزناد، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم "يُؤْتَى بالأكُولِ الشَّرُوب الطَّوِيلِ، فَيُوزَنُ فلا يَزِنُ جناح بعوضة" ثم قرأ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) } يقول تعالى ذكره: أولئك ثوابهم جهنم بكفرهم بالله، واتخاذهم آيات كتابه، وحجج رسله سُخْريا، واستهزائهم برسله. القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا (108) } يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا بالله ورسوله، وأقرّوا بتوحيد الله وما أنزل من كتبه وعملوا بطاعته، كانت لهم بساتين الفردوس، والفردوس: معظم الجنة، كما قال أمية: كانَتْ مَنازِلُهُمْ إذْ ذاكَ ظاهِرَةً ... فِيها الفَراديسُ والفُومانُ والبَصَلُ (1) واختلف أهل التأويل في معنى الفردوس؛ فقال بعضهم: عنى به أفضل الجنة وأوسطها. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عباس بن الوليد، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قال: الفردوس: ربَوة الجنة وأوسطها وأفضلها. حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي، قال: ثنا الهيثم أبو بشر، قال: أخبرنا الفرج بن فضالة، عن لقمان، عن عامر، قال: سئل أبو أسامة عن الفردوس، فقال: هي سرّة الجنة. (1) البيت لأمية بن أبي الصلت الثقفي (اللسان: فوم) . قال: وقال أمية في جمع الفوم: "كانت لهم جنة إذ ذاك ظاهرة" . . . البيت. قال: ويروى الفراريس. قال أبو الإصبع الفراريس: البصل. وقال: الزجاج: الفوم الحنطة ويقال الحبوب، لا اختلاف بين أهل اللغة أن الفوم الحنطة وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم الفوم، قال: من قال: الفوم هاهنا الثوم، فإن هذا لا يعرف. وقال أبو منصور: فإن قرأها ابن مسعود بالثاء، فمعناه الفوم وهو الحنطة. وفي (اللسان: فردس) الفردوس: البستان. قال الفراء: هو عربي. وقال ابن سيده: الفردوس: الوادي الخصيب عند العرب، البستان وهو بلسان الروم: البستان. والفردوس: الروضة عن السيرافي. والفردوس: خضرة الأعناب. قال الزجاج: وحقيقته: أنه البستان الذي يجمع ما يكون في البساتين، وكذلك هو عند أهل كل لغة. والفردوس: حديقة في الجنة. والفردوس: أصله رومي عرب، وهو البستان. ![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الثامن عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ مريم الحلقة (994) صــ 131 إلى صــ 140 حدثنا أحمد بن أبي سريج، قال: ثنا حماد بن عمرو النصيبي، عن أبي عليّ، عن كعب، قال: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس، وفيها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر. وقال آخرون: هو البستان بالرومية. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ بن سهل الرملي، قال: ثنا حجاج عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: الفردوس: بستان بالرومية. حدثنا العباس بن محمد، قال: ثنا حجاج، قال: ابن جريج: أخبرني عبد الله عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: هو البستان الذي فيه الأعناب. حدثنا عباس بن محمد، قال: ثنا محمد بن عبيد، عن الأعمش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن كعب، قال: جنات الفردوس التي فيها الأعناب. والصواب من القول في ذلك، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك ما حدثنا به أحمد بن أبي سريج، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا همام بن يحيى، قال: ثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبادة بن الصامت، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ، ما بينَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ عامٍ والفِرْدَوْسُ أعْلاها دَرَجَةً، ومِنْها الأنهَارُ الأربعةُ، والفِرْدَوْسُ مِنْ فَوْقِها، فإذَا سألْتُمُ اللهَ فاسألُوهُ الفِرْدَوسَ" . حدثنا موسى بن سهل، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا همام بن يحيى، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عُبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ مَا بَينَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ كمَا بينَ السَّماءِ والأرْضِ، أعْلاها الفِرْدَوْسُ، ومِنْها تُفَجَّر أنهارُ الجَنَّةِ الأرْبَعَةُ، فإذَا سألْتُمُ اللهَ فاسألُوه الفِرْدَوْسَ "." حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني أبو يحيى بن سليمان، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، أو أبي سعيد الخُدريّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذَا سألْتُمُ اللهَ فاسألُوهُ الفِرْدَوْسَ، فإنَّها أوْسَطُ الجَنَّة وأعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَها عَرْشُ الرَّحْمنِ تَبَارَكَ وَتَعالى، ومِنْهُ تَفَجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ "." حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا فليح، عن هلال، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله، إلا أنه قال: "وَسَطُ الجَنَّةِ" وقالَ أيضًا: "ومِنْهُ تُفَجَّرُ أو تَتَفَجَّرُ" . حدثني عمار بن بكار الكلاعي، قال: ثنا يحيى بن صالح، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، قال: ثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنَّ فِي الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، ما بينَ كُلّ دَرَجَتَينِ كَمَا بينَ السَّماءِ والأرْضِ، والفِرْدَوْسُ أعْلَى الجنَّةِ وأوْسَطُها، وفَوْقُها عَرْشُ الرَّحْمن، ومِنْها تَفَجَّر أنهَارُ الجَنَّهِ، فإذَا سألْتُمُ الله فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ" . حدثنا أحمد بن منصور، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا الحارث بن عمير، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جناتُ الفِرْدَوْسِ أرْبَعَةٌ، اثْنَتانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتُهُما وآنِيَتُهُما، ومَا فِيهِما مِنْ شَيْءٍ، واثْنَتانِ مِنْ فِضَّة حِلْيَتُهُما وآنِيَتُهُما، ومَا فِيهِما مِنْ شَيْءٍ" . حدثنا أحمد بن أبي سريج، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا أبو قدامة، عن أبي عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ أرْبَعٌ: ثِنْتانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتهُما ومَا فِيهِما، وَثِنْتان مِنْ فِضَّةٍ حِلْيتُهُما وآنِيَتُهُما ومَا فِيهِما" . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص، عن شمر، قال: خلق الله جنة الفردوس بيده، فهو يفتحها في كلّ يوم خميس، فيقول: ازدادي طيبا لأوليائي، ازدادي حسنا لأوليائي. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: سمعت مخلد بن الحسين يقول: وسئل عنها، قال: سمعت بعض أصحاب أنس يقول: قال: يقول: أوّلهم دخولا إنما أدخلني الله أوّلهم، لأنه ليس أحد افضل مني، ويقول آخرهم دخولا إنما أخرني الله، لأنه ليس أحد أعطاه الله مثل الذي أعطاني "." القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) } يقول عز ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ) يا محمد: (لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا) للقلم الذي يُكتب به (لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ مَاءً الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) يقول: ولو مددنا البحر بمثل ما فيه من الماء مددا، من قول القائل: جئتك مددا لك، وذلك من معنى الزيادة. وقد ذُكر عن بعضهم: ولو جئنا بمثله مددا، كأن قارئ ذلك كذلك أراد: لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو زدنا بمثل ما فيه من المداد الذي يكتب به مدادا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى "ح" وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي) للقلم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا محمد بن جعفر وابن الدراوردي، قالا ثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ للْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْها كمَا بينَ السَّمَاءِ والأرْضِ، أعْلَى دَرَجَةٍ مِنْها الفِرْدَوْس" . حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي، قال: ثنا أحمد بن الفرج الطائي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفِرْدَوْسُ مِنْ رَبْوَةِ الجَنَّةِ، هِيَ أوْسَطُها وأحْسَنُها" . حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، قال: أنبأنا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنَّ الفِرْدَوْسَ هِيَ أعْلَى الجَنَّةِ وأحْسَنُها وأرْفَعُها" . حدثني محمد بن مرزوق، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، قال للربيع ابنة النضر "يا أُمَّ حارِثَةَ، إنَّها جِنانٌ، وإنَّ ابْنَكِ أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأعْلَى" . والفردوس: ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها. وقوله: (نزلا) يقول: منازل ومساكن، والمنزل: من النزول، وهو من نزول بعض الناس على بعض. وأما النزل: فهو الريع، يقال: ما لطعامكم هذا نزل، يراد به الريع، وما وجدنا عندكم نزلا أي نزولا. وقوله: (خالدِينَ) يقول: لابثين فيها أبدا (لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا) يقول: لا يريدون عنها تحوّلا وهو مصدر تحوّلت، أخرج إلى أصله، كما يقال: صغر يصغر صغرا، وعاج يعوج عوجا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا) قال: متحولا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي) يقول: إذا لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات الله وحكمه. القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) } يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المشركين يا محمد: إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم لا علم لي إلا ما علمني الله وإن الله يوحي إليّ أن معبودكم الذي يجب عليكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، معبود واحد لا ثاني له، ولا شريك (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ) يقول: فمن يخاف ربه يوم لقائه، ويراقبه على معاصيه، ويرجو ثوابه على طاعته (فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا) يقول: فليخلص له العبادة، وليفرد له الربوبية. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الربيع بن أبي راشد، عن سعيد بن جبير (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ) قال: ثواب ربه. وقوله (وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) يقول: ولا يجعل له شريكًا في عبادته إياه، وإنما يكون جاعلا له شريكًا بعبادته إذا راءى بعمله الذي ظاهره أنه لله وهو مريد به غيره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عمرو بن عبيد، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (1) حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان (وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) قال: لا يرائي. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن طاوس، قال: جاء رجل، فقال: يا نبيّ الله إني أحبّ الجهاد في سبيل الله، وأحبّ أن يرى موطني ويرى مكاني، فأنزل الله عزّ وجلّ: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) "" حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ومسلم بن خالد الزنجي عن صدقة بن يسار، قال: "جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، وزاد فيه: وإني أعمل العمل وأتصدّق وأحبّ أن يراه الناس" وسائر الحديث نحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، قال: ثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم، عن شهر بن حوشب، قال: "جاء رجل إلى عُبادة بن الصامت، فسأله فقال: أنبئني عما أسألك عنه، أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله ويحبّ أن يُحْمَد ويصوم ويبتغي وجه الله ويحبّ أن يُحْمَد، فقال عبادة: ليس له شيء، إن الله عزّ وجلّ يقول: أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله، لا حاجة لي فيه" . حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكوني، قال: ثنا هشام بن عمار، قال: ثنا ابن عياش، قال: ثنا عمرو بن قيس الكندي، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن. آخر تفسير سورة الكهف (1) كذا في المخطوطة رقم 100 تفسير، بدار الكتب المصرية، وفي الدر عن سعيد: لا يشرك: لا يرائي بعبادة ربه أحدا. بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة مريم عليها السلام القول في تأويل قوله تعالى: {كهيعص (1) } اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى ذكره: كاف من (كهيعص) فقال بعضهم: تأويل ذلك أنها حرف من اسمه الذي هو كبير، دلّ به عليه، واستغنى بذكره عن ذكر باقي الاسم. * ذكر من قال ذلك: حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية (كهيعص) قال: كبير، يعني بالكبير: الكاف من (كهيعص) . حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، كان يقول (كهيعص) قال: كاف: كبير. حدثني أبو السائب، قال: أخبرنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير في (كهيعص) قال: كاف: كبير. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن إسماعيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه. وقال آخرون: بل الكاف من ذلك حرف من حروفه اسمه الذي هو كاف. * ذكر من قال ذلك: حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد، في قوله (كهيعص) قال: كاف: كافٍ. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا أبو روق، عن الضحاك بن مزاحم في قوله: (كهيعص) قال: كاف: كافٍ. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عنبسة، عن الكلبي مثله. وقال آخرون: بل هو حرف من حروف اسمه الذي هو كريم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير (كهيعص) قال: كاف من كريم. وقال الذين فسروا ذلك هذا التفسير الهاء من كهيعص: حرف من حروف اسمه الذي هو هاد. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا أبو حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان يقول في الهاء من (كهيعص) : هاد. حدثنا أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيل، عن سعيد، مثله. حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير نحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن إسماعيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. حدثني يحيى بن طلحة، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا أبو روق، عن الضحاك بن مزاحم في قوله (كهيعص) ، قال: ها: هاد. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن الكلبي، مثله. واختلفوا في تأويل الياء من ذلك، فقال بعضهم: هو حرف من حروف اسمه الذي هو يمين. * ذكر من قال ذلك: حدثني أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: "يا" من (كهيعص) ياء يمين. حدثني أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: "يا" من (كهيعص) ياء يمين. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير مثله. حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير ياء: يمين. وقال آخرون: بل هو حرف من حروف اسمه الذي هو حكيم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير (كهيعص) قال: يا: من حكيم. وقال آخرون: بل هي حروف من قول القائل: يا من يجير. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا إبراهيم بن الضريس، قال: سمعت الربيع بن أنس في قوله (كهيعص) قال: يا من يجير ولا يجار عليه. واختلف متأوّلو ذلك كذلك في معنى العين، فقال بعضهم: هي حرف من حروف اسمه الذي هو عالم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد (كهيعص) قال: عين من عالم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن الكلبي، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. حدثنا عمرو، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن العلاء بن المسيب بن رافع، عن أبيه، في قوله (كهيعص) قال: عين: من عالم. وقال آخرون: بل هي حرف من حروف اسمه الذي هو عزيز. ذكر من قال ذلك: * حدثني أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (كهيعص) عين: عزيز. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن إسماعيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير مثله. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير مثله. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، في قوله (كهيعص) قال: عين عزيز. وقال آخرون: بل هي حرف من حروف اسمه الذي هو عدل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا أبو روق، عن الضحاك بن مزاحم، في قوله (كهيعص) قال: عين: عدل. وقال الذين تأولوا ذلك هذا التأويل: الصاد من قوله (كهيعص) : حرف من حروف اسمه الذي هو صادق. * ذكر الرواية بذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان يقول في (كهيعص) صاد: صادق. حدثني أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن ![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الثامن عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ مريم الحلقة (995) صــ 141 إلى صــ 150 إسماعيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير مثله. حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن حصين، عن إسماعيل بن راشد، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا أبو روق، عن الضحاك بن مزاحم، قال: صاد: صادق. حدثني يحيى بن طلحة، قال: ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، قال: صادق، يعني الصاد من (كهيعص) حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد (كهيعص) قال: صاد صادق. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن الكلبي، قال: صادق. وقال آخرون: بل هذه الكلمة كلها اسم من أسماء الله تعالى. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن خالد بن خداش، قال: ثني سالم بن قتيبة، عن أبي بكر الهُذَليّ، عن عاتكة، عن فاطمة ابنة عليّ قالت: كان عليّ يقول: يا (كهيعص) : اغفر لي. حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (كهيعص) قال: فإنه قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله. وقال آخرون: كلّ حرف من ذلك اسم من أسماء الله عزّ وجل. * ذكر من قال ذلك: حدثني مطر بن محمد الضبي، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد العزيز بن مسلم القسملي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: (كهيعص) ليس منها حرف إلا وهو اسم. وقال آخرون: هذه الكلمة اسم من أسماء القرآن. * ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله (كهيعص) قال: اسم من أسماء القرآن. قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندنا نظير القول في (الم) وسائر فواتح سور القرآن التي افتتحت أوائلها بحروف المعجم، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى قبل، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) } اختلف أهل العربية في الرافع للذكر، والناصب للعبد، فقال بعض نحويي البصرة في معنى ذلك كأنه قال: مما نقصّ عليك ذكر رحمة ربك عبده، وانتصب العبد بالرحمة كما تقول: ذكر ضرب زيد عمرا. وقال بعض نحويي الكوفة: رفعت الذكر بكهيعص، وإن شئت أضمرت هذا ذكر رحمة ربك، قال: والمعنى ذكر ربك عبده برحمته تقديم وتأخير. قال أبو جعفر: والقول الذي هو الصواب عندي في ذلك أن يقال: الذكر مرفوع بمضمر محذوف، وهو هذا كما فعل ذلك في غيرها من السور، وذلك كقول الله: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وكقوله: (سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا) ونحو ذلك. والعبد منصوب بالرحمة، وزكريا في موضع نصب، لأنه بيان عن العبد، فتأويل الكلام: هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا. وقوله: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) يقول حين دعا ربه، وسأله بنداء خفي، يعنى: وهو مستسرّ بدعائه ومسألته إياه ما سأل، كراهة منه للرياء. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) أي سرّا، وإن الله يعلم القلب النقيّ، ويسمع الصوت الخفيّ. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) قال: لا يريد رياء. حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: رغب زكريا في الولد، فقام فصلى، ثم دعا ربه سرّا، فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) .... إلى (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) وقوله: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) يقول تعالى ذكره، فكان نداؤه الخفي الذي نادى به ربه أن قال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) يعني بقوله (وَهَنَ) ضعف ورقّ من الكبر. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي ضعف العظم مني. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) قال: نحل العظم. قال عبد الرزاق، قال: الثوري: وبلغني أن زكريا كان ابن سبعين سنة. وقد اختلف أهل العربية في وجه النصب في الشَّيْب، فقال بعض نحويي البصرة: نصب على المصدر من معنى الكلام، كأنه حين قال: اشتعل، قال: شاب، فقال: شَيْبا على المصدر. قال: وليس هو في معنى: تفقأت شحما وامتلأت ماء، لأن ذلك ليس بمصدر. وقال غيره: نصب الشيب على التفسير، لأنه يقال: اشتعل شيب رأسي، واشتعل رأسي شيبا، كما يقال: تفقأت شحما، وتفقأ شحمي. وقوله: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) يقول: ولم أشق يا رب بدعائك، لأنك لم تخيب دعائي قبل إذ كنت أدعوك في حاجتي إليك، بل كنت تجيب وتقضي حاجتي قبلك. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج عن ابن جريج، قوله: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) يقول: قد كنت تعرّفني الإجابة فيما مضى. القول في تأويل قوله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يقول: وإني خفت بني عمي وعصبتي من ورائي: يقول: من بعدى أن يرثوني، وقيل: عنى بقوله (مِنْ وَرَائِي) من قدّامي ومن بين يديّ؛ وقد بيَّنت جواز ذلك فيما مضى قبل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) يعني بالموالي: الكلالة الأولياء أن يرثوه، فوهب الله له يحيى. حدثنا يحيى بن داود الواسطي، قال: ثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال: العصبة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال: خاف موالي الكلالة. حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح بنحوه. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال: يعني الكلالة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله (خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال: العصبة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال: العصبة. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) والموالي: هنّ العصبة، والموالي: جمع مولى، والمولى والوليّ في كلام العرب واحد. وقرأت قراء الأمصار (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ) بمعنى: الخوف الذي هو خوف الأمن. وروي عن عثمان بن عفان أنه قرأه: (وإنّي خَفَّتِ المَوَالي) بتشديد الفاء وفتح الخاء من الخفة، كأنه وجه تأويل الكلام: وإني ذهبت عصبتي ومن يرثني من بني أعمامي. وإذا قرئ ذلك كذلك كانت الياء من الموالي مسكنة غير متحركة، لأنها تكون في موضع رفع بخفت. وقوله (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) يقول: وكانت زوجتي لا تلد، يقال منه: رجل عاقر، وامرأة عاقر بلفظ واحد، كما قال الشاعر: لَبِئسَ الفَتى أنْ كُنْتُ أعْوَرَ عاقِرً ا ... جبَانا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلّ مَحْضَرِ (1) وقوله (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) يقول: فارزقني من عندك ولدا وارثا ومعينا. وقوله: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) يقول: يرثني من بعد وفاتي مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، وذلك أن زكريا كان من ولد يعقوب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) يقول: يرث مالي، ويرث من آل يعقوب النبوّة. حدثنا مجاهد، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا إسماعيل، عن أبي صالح في قوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال: يرث مالي، ويرث من آل يعقوب النبوّة. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوّة. (1) البيت في ديوان عامر بن الطفيل، طبعة ليدن سنة 1913. والرواية فيه "فبئس" في مكان: "لبئس" وفي اللسان: العاقر التي لا تحمل، ورجل عاقر: لا يولد له، ونساء عقر، بضم العين وتشديد القاف المفتوحة. وقد استشهد به المؤلف على معنى العاقر، في سورة آل عمران (3: 257) وأعاده في هذا الموضع، ومحل الاستشهاد في الموضعين واحد. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال: يكون نبيا كما كانت آباؤه أنبياء. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال: وكان وراثته علما، وكان زكريا من ذرّية يعقوب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: كان وراثته علما، وكان زكريا من ذرية يعقوب. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن، في قوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال: نبوّته وعلمه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن مبارك، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللهُ أخِي زَكَرِيَّا، ما كانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَةِ مالِهِ حِينَ يَقُولُ فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثْ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" . حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال: كان الحسن يقول: يرث نبوّته وعلمه. قال قتادة: ذُكر لنا "أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية، وأتى على (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال: رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته" . حدثنا الحسن، قال أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "يَرْحَمُ اللهُ زكَرِيَّا ومَا عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَيَرْحَمُ اللهُ لُوطا إنْ كانَ لَيَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ" . حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال: يرث نبوّتي ونبوّة آل يعقوب. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) فقرأت ذلك عامَّة قرّاء المدينة ومكة وجماعة من أهل الكوفة: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ) برفع الحرفين كليهما، بمعنى فهب الذي يرثني ويرث من آل يعقوب، على أن يرثني ويرث من آل يعقوب، من صله الوليّ. وقرأ ذلك جماعة من قرّاء أهل الكوفة والبصرة: (يَرِثُنِي وَيَرِثْ) بجزم الحرفين على الجزاء والشرط، بمعنى: فهب لي من لدنك وليا فإنه يرثني إذا وهبته لي. وقال الذين قرءوا ذلك كذلك: إنما حسن ذلك في هذا الموضع، لأن يرثني من آية غير التي قيلها. قالوا وإنما يحسنُ أن يكون مثل هذا صلة، إذا كان غير منقطع عما هو له صلة، كقوله: (رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) . قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأه برفع الحرفين على الصلة للوليّ، لأنّ الوليّ نكرة، وأن زكريا إنما سأل ربه أن يهب له وليا يكون بهذه الصفة، كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أنه سأله وليا، ثم أخبر أنه إذا وهب له ذلك كانت هذه صفته، لأن ذلك لو كان كذلك، كان ذلك من زكريا دخولا في علم الغيب الذي قد حجبه الله عن خلقه. وقوله (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) يقول: واجعل يا ربّ الولي الذي تهبه لي مرضيا ترضاه أنت ويرضاه عبادك دينا وخُلُقا وخَلْقا. والرضي: فعيل صرف من مفعول إليه. القول في تأويل قوله تعالى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) } يقول تعالى ذكره: فاستجاب له ربه، فقال له: يا زكريا إنا نبشرك بهبتنا لك غلاما اسمه يحيى. كان قتادة يقول: إنما سماه الله يحيى لإحيائه إياه بالإيمان. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى) عبد أحياه الله للإيمان. وقوله (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم معناه لم تلد مثله عاقر قط. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ليحيى (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) يقول: لم تلد العواقر مثله ولدا قط. وقال آخرون: بل معناه: لم نجعل له من قبله مثلا. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو الربيع، قالا ثنا سالم بن قتيبة، قال: أخبرنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، في قوله (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) قال: شبيها. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) قال: مثلا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: معنى ذلك، أنه لم يسمّ باسمه أحد قبله. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) لم يسمّ به أحد قبله. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) قال: لم يسمّ يحيى أحد قبله. - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) قال: لم يسمّ أحد قبله بهذا الاسم. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) لم يسمّ أحد قبله يحيى. قال أبو جعفر: وهذا القول أعني قول من قال: لم يكن ليحيى قبل يحيى أحد سمي باسمه أشبه بتأويل ذلك، وإنما معنى الكلام: لم نجعل للغلام الذي نهب لك الذي اسمه يحيى من قبله أحدا مسمى باسمه، والسميّ: فعيل صرف من مفعول إليه. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) } يقول تعالى ذكره: قال زكريا لما بشره الله بيحيى: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) ومن أيّ وجه يكون لي ذلك، وامرأتي عاقر لا تحبل، وقد ضعُفت من الكبر عن مباضعة النساء بأن تقوّيني على ما ضعفت عنه من ذلك، وتجعل زوجتي ولودا، فإنك القادر على ذلك وعلى ما تشاء، أم بأن أن أنكح زوجة غير زوجتي العاقر، يستثبت ربه الخبر، عن الوجه الذي يكون من قبله له الولد، الذي بشره الله به، لا إنكارا منه صلى الله عليه وسلم حقيقة كون ما وعده الله من الولد، وكيف يكون ذلك منه إنكارا لأن يرزقه الولد الذي بشَّره به، وهو المبتدئ مسألة ربه ذلك بقوله (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) بعد قوله (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) . وقال السديّ في ذلك: ما حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: نادى جبرائيل زكريا (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) فلما سمع النداء، جاءه الشيطان فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس من الله، إنما هو من الشيطان يسخر بك، ولو كان من الله أوحاه إليك كما يوحي إليك غيره من الأمر، فشك وقال (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) يقول: من أين يكون (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) . وقوله (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) يقول: وقد عتوت من الكبر فصرت نحل العظام يابسها، يقال منه للعود اليابس، عوت عاتٍ وعاسٍ، وقد عتا يعتو عَتِيًّا وعُتُوّا، وعسى يعسو عِسِيا وعسوّا، وكلّ متناه إلى غايته في كبر أو فساد، أو كفر، فهو عات وعاس. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قد علمتُ السنة كلها، غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أو (عِسِيًّا) . حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) قال: يعني بالعِتيّ: الكبر. . حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم؛ قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (عِتِيًّا) قال: نحول العظم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) قال: سنًّا، وكان ابن بضع وسبعين سنة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) قال: العتيّ: الذي قد عتا عن الولد فيما يرى نفسه لا يولد له. - حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) قال: هو الكبر. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) } ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الثامن عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ مريم الحلقة (997) صــ 161 إلى صــ 170 قال: أخبرني صدقة بن الفضل قال: سمعت ابن عطية يقول: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يُبعث فيرى نفسه في محشر عظيم، قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا، فخصه بالسلام عليه، فقال (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) . حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أن الحسن قال: إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني، فقال له الآخر: استغفر لي، أنت خير مني، فقال له عيسى: أنت خير مني، سَلَّمت على نفسي، وسلَّم الله عليك، فعرف والله فضلها. القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد في كتاب الله الذي أنزله عليك بالحقّ مريم ابنة عمران، حين اعتزلت من أهلها، وانفردت عنهم، وهو افتعل من النَّبذ، والنَّبذ: الطَّرْح، وقد بيَّنا ذلك بشواهده فيما مضى قبلُ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ) أي انفردت من أهلها. حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصَّلْت، قال: ثنا أبو كُدَينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) قال: خرجت مكانا شرقيا. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها، وهو قوله: (1) فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا: في شرقيّ المحراب. وقوله (مَكَانًا شَرْقِيًّا) يقول: فتنحت واعتزلت من أهلها في موضع قِبَلَ مَشرق الشمس دون مَغربها. كما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (مَكَانًا شَرْقِيًّا) قال: من قِبَل المشرق. حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، عن ابن عباس، قال: إني لأعلم خلق الله لأيّ شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله: فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا، فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة. حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن ابن عباس، مثله. حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: أخبرنا محمد بن الصَّلْت، قال: ثنا أبو كُدَينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت، والحج لله، وما صرفهم عنهما إلا تأويل ربك (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) فصلوا قبل مطلع الشمس. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) قال: شاسعا متنحيا. وقيل: إنها إنما صارت بمكان يلي مشرق الشمس، لأن ما يلي المشرق عندهم كان خيرا مما يلي المغرب، وكذلك ذلك فيما ذُكر عند العرب. وقوله: (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا) يقول: فاتخذت من دون أهلها سترا يسترها عنهم وعن الناس، وذُكر عن ابن عباس، أنها صارت بمكان يلي المشرق، لأن الله أظلها بالشمس، وجعل لها منها حجابا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) قال: مكانا (1) كذا هنا، وفي موضوعين بعد: فانتبذت، والقراءة: إذ انتبذت. أظلتها الشمس أن يراها أحد منهم. وقال غيره في ذلك ما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا) من الجدران. وقوله (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) يقول تعالى ذكره: فأرسلنا إليها حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، واتخذت من دونهم حجابا: جبريل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) قال: أرسل إليها فيما ذُكر لنا جبريل. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: وجدتْ عندها جبريل قد مثله الله بشرا سويا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) قال: جبريل. حدثني محمد بن سهل، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل بن أخي وهب، قال: سمعت وهب بن منبه، قال: أرسل الله جبريل إلى مريم، فَمَثَل لها بشرا سويا. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: فلما طهرت، يعني مريم من حيضها، إذا هي برجل معها، وهو قوله (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) يقول تعالى ذكره: فتشبه لها في صورة آدميّ سويّ الخلق منهم، يعني في صورة رجل من بني آدم معتدل الخلق. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) } يقول تعالى ذكره: فخافت مريم رسولنا، إذ تمثل لها بشرًا سويا، وظنته رجلا يريدها على نفسها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) قال: خشيت أن يكون إنما يريدها على نفسها. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) فلما رأته فزعت منه وقالت: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) فقالت: إني أعوذ أيها الرجل بالرحمن منك، تقول: أستجير بالرحمن منك أن تنال مني ما حرّمه عليك إن كنت ذا تقوى له تتقي محارمه، وتجتنب معاصيه; لأن من كان لله تقيا، فإنه يجتنب ذلك. ولو وجه ذلك إلى أنها عَنَت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تتقي الله في استجارتي واستعاذتي به منك كان وجها. كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) ولا ترى إلا أنه رجل من بني آدم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر، عن عاصم، قال: قال ابن زيد: وذكر قَصَص مريم فقال: قد علمت أن التقيّ ذو نُهية حين قالت (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) . يقول تعالى ذكره: فقال لها روحنا: إنما أنا رسول ربك يا مريم أرسلني إليك (لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا) واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والعراق غير أبي عمرو (لأهَبَ لَكِ) بمعنى: إنما أنا رسول ربك: يقول: أرسلني إليك لأهب لك (غُلامًا زَكِيًّا) على الحكاية، وقرأ ذلك أبو عمرو بن العلاء (ليهب لك غلامًا زكيا) بمعنى: إنما أنا رسول ربك أرسلني إليك ليهب الله لك غلاما زكيا. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك، ما عليه قرّاء الأمصار، وهو (لأهَبَ لَكِ) بالألف دون الياء، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين، وعليه قراءة قديمهم وحديثهم، غير أبي عمرو، وغير جائز خلافهم فيما أجمعوا عليه، ولا سائغ لأحد خلاف مصاحفهم، والغلام الزكيّ: هو الطاهر من الذنوب وكذلك تقول العرب: غلام زاكٍ وزكيّ، وعال وعليّ. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) } يقول تعالى ذكره: قالت مريم لجبريل (أنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ) من أيّ وجه يكون لي غلام؟ أمن قِبَل زوج أتزوّج، فأرزقه منه، أم يبتدئ الله فيّ خلقه ابتداء (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) من ولد آدم بنكاح حلال (ولَمْ أَكُ) إذ لم يمسسني منهم أحد على وجه الحلال (بَغِيًّا) بغيت ففعلت ذلك من الوجه الحرام، فحملته من زنا. كما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) يقول: زانية (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) يقول تعالى ذكره: قال لها جبريل: هكذا الأمر كما تصفين، من أنك لم يمسسك بشر ولم تكوني بغيا، ولكن ربك قال: هو عليّ هين: أي خلق الغلام الذي قلت أن أهبه لك عليّ هين لا يتعذّر عليّ خلقه وهبته لك من غير فحل يفتحلك. (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) يقول: وكي نجعل الغلام الذي نهبه لك علامة وحجة على خلقي أهبه لك. (وَرَحْمَةً مِنَّا) يقول: ورحمة منا لك، ولمن آمن به وصدقه أخلقه منك (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) يقول: وكان خلقه منك أمرا قد قضاه الله، ومضى في حكمه وسابق علمه أنه كائن منك. كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني من لا أتهم، عن وهب بن منبه (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) أي أن الله قد عزم على ذلك، فليس منه بدّ. القول في تأويل قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) } وفي هذا الكلام متروك تُرِك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر منه عنه (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا بغلام فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) وبذلك جاء تأويل أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سهل، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقِل ابن أخي وهب بن منبه، قال: سمعت وهبا قال: لما أرسل الله جبريل إلى مريم تمثَّل لها بشرا سويا فقالت له: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) ثم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني، قال: لما قال ذلك، يعني لما قال جبريل (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) .... الآية استسلمت لأمر الله، فنفخ في جيبها ثم انصرف عنها. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: طرحَتْ عليها جلبابها لما قال جبريل ذلك لها، فأخذ جبريل بكميها، فنفخ في جيب درعها، وكان مشقوقا من قُدامها، فدخلت النفخة صدرها، فحملت، فأتتها أختها امرأة زكريا ليلة تزورها; فلما فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكريا: يا مريم أشعرت أني حبلى، قالت مريم: أشعرت أيضا أني حُبلى، قالت امرأة زكريا: إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذلك قوله (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) . حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: يقولون: إنه إنما نفخ في جيب درعها وكمها. وقوله (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) يقول: فاعتزلت بالذي حملته، وهو عيسى، وتنحَّت به عن الناس مكانا قصيا يقول: مكانا نائيا قاصيا عن الناس، يقال: هو بمكان قاص، وقصيّ بمعنى واحد، كما قال الراجز: لَتَقْعُدِنَّ مَقْعَدَ القَصِيِّ ... مِنِّي ذي القاذُوَرةِ المَقْلِيّ (1) يقال منه: قصا المكان يقصو قصوا: إذا تباعد، وأقصيت الشيء: إذا أبعدته وأخَّرته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) قال: مكانا نائيا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مَكَانًا قَصِيًّا) قال: قاصيا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدّي، قال: لما بلغ أن تضع مريم، خرجت إلى جانب المحراب الشرقي منه فأتت أقصاه. وقوله (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) يقول تعالى ذكره: فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة، ثم قيل: لما أسقطت الباء منه أجاءها، كما يقال: أتيتك بزيد، فإذا حذفت الباء قيل آتيتك زيدا، كما قال جل ثناؤه (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) والمعنى: بزُبَر الحديد، ولكن الألف مدت لما حذفت الباء، وكما قالوا: خرجت به وأخرجته، وذهبت به وأذهبته، وإنما هو أفعل من المجيء، (1) البيتان لرؤبة ابن العجاج الراجز (انظر فوائد القلائد في مختصر الشواهد للعيني ص 115 - 116) وبعدهما بيتان آخران وهما: أو تحلفي بربك العلي ... أنى أبو ذيا لك الصبي ومقعد القصي: إما مفعول مطلق. على أن يكون المقعد بمعنى القعود أو على أنه مفعول فيه، أي في مقعد القصي، أي البعيد، من قصا المكان يقصو: إذا بعد. ويقال رجل قاذورة: أي لا يخالط الناس، لسوء خلقه. والمقلي المبغض من قلاه يقليه قلى بالكسر. وهما صفتان للقصي. وفي (لسان العرب: قصا) قصا عنه قصوا، وقصوا وقصا وقصاء، وقصي (بكسر الصاد) : بعد وقصا المكان يقصو قصوا (على فعول) : بعد. والقصي والقاصي: البعيد، والجمع: أقصاء فيهما، كشاهد وأشهاد، ونصير وأنصار. كما يقال: جاء هو، وأجأته أنا: أي جئت به، ومثل من أمثال العرب ": شرّ ما أجاءني إلى مُخَّة عرقوب" ، وأشاء ويقال: شرّ ما يُجِيئك ويُشِيئك إلى ذلك ; ومنه قول زهير: وَجارٍ سارَ مُعْتَمِدًا إلَيْكُمْ ... أجاءَتْهُ المَخافَةُ والرَّجاءُ (1) يعنى: جاء به، وأجاءه إلينا وأشاءك: من لغة تميم، وأجاءك من لغة أهل العالية، وإنما تأوّل من تأوّل ذلك بمعنى: ألجأها، لأن المخاض لما جاءها إلى جذع النخلة، كان قد ألجأها إليه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ) قال: المخاض ألجأها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: ألجأها المخاض. قال ابن جريج: وقال ابن عباس: ألجأها المخاض إلى جذع النخلة. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) يقول: ألجأها المخاض إلى جذع النخلة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) قال: اضطرّها إلى جذع النخلة. واختلفوا في أيّ المكان الذي انتبذت مريم بعيسى لوضعه، وأجاءَها إليه المخاض، فقال بعضهم: كان ذلك في أدنى أرض مصر، وآخر أرض الشأم، وذلك أنها هربت من قومها لما حملت، فتوجهت نحو مصر هاربة منهم. (1) البيت لزهير بن أبي سلمى (اللسان: جيأ) . قال: وأجاءه إلى شيء: جاء به، وألجأه، واضطره إليه. قال زهير بن أبي سلمى: "وجار. . ." البيت. قال الفراء: أصله من جئت، وقد وقد جعلته العرب إلجاء. وفي المثل: "شر ما أجاءك إلى مخة العرقوب، وشر ما يجيئك إلى مخة عرقوب" قال الأصمعي: وذلك أن العرقوب لا مخ فيه، وإنما يحوج إليه من لا يقدر على شيء. ومنهم من يقول: شر ما ألجأك: والمعنى واحد. وتميم تقول: شر ما أشاءك. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن سهل، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما اشتملت مريم على الحمل، كان معها قَرابة لها، يقال له يوسف النَّجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم، فكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد، في ذلك الزمان، وكان لخدمته فضل عظيم، فرغبا في ذلك، فكانا يليان معالجته بأنفسهما، تحبيره وكناسته وطهوره، وكل عمل يعمل فيه، وكان لا يعمل من أهل زمانهما أحد أشدّ اجتهادًا وعبادة منهما، فكان أوّل من أنكر حمل مريم صاحِبُها يوسف; فلما رأى الذي بها استفظعه، وعظم عليه، وفظع به، فلم يدر على ماذا يضع أمرها، فإذا أراد يوسف أن يتهمها، ذكر صلاحها وبراءتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قطّ; وإذا أراد أن يبرئها، رأى الذي ظهر عليها; فلما اشتدّ عليه ذلك كلمها، فكان أوّل كلامه إياها أن قال لها: إنه قد حدث في نفسي من أمرك أمر قد خشيته، وقد حَرَصت على أن أميته وأكتمه في نفسي، فغلبني ذلك، فرأيت الكلام فيه أشفى لصدري، قالت: فقل قولا جميلا قال: ما كنت لأقول لك إلا ذلك، فحدثيني، هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم، قال: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم، قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله تبارك وتعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذر يومئذ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر; أو لم تعلم أن الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كلّ واحد منهما وحده، أم تقول: لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته؟ قال يوسف لها: لا أقول هذا، ولكني أعلم أن الله تبارك وتعالى بقدرته على ما يشاء يقول لذلك كن فيكون، قالت مريم: أو لم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر؟ قال: بلى، فلما قالت له ذلك، وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله تبارك وتعالى، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك، ثم تولى يوسف خدمة المسجد، وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه، وذلك لما رأى من رقة جسمها، واصفرار لونها، وكلف وجهها، ونتوّ بطنها، وضعف قوّتها، ودأب نظرها، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك; فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن أخرجي من أرض قومك، فإنهم إن ظفروا بك عيروك، وقتلوا ولدك، فأفضت ذلك إلى أختها، وأختها حينئذ حُبلى، وقد بشرت بيحيى، فلما التقيا وجدت أمّ يحيى ما في بطنها خرّ لوجهه ساجدا معترفا لعيسى، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ليس بينها حين ركبت وبين الإكاف شيء، فانطلق يوسف بها حتى إذا كان متاخما لأرض مصر في منقطع بلاد قومها، أدرك مريم النفاس، ألجأها إلى آريّ حمار، يعنى مذود الحمار، وأصل نخلة، وذلك في زمان أحسبه بردا أو حرّا "الشكّ من أبي جعفر" ، فاشتدّ على مريم المخاض; فلما وجدت منه شدّة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة، قاموا صفوفًا محدقين بها. وقد رُوي عن وهب بن منبه قول آخر غير هذا، وذلك ما حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: لما حضر ولادُها، يعني مريم، ووجدت ما تجد المرأة من الطلق، خرجت من المدينة مغربة من إيلياء، حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم، فأجاءها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود بقرة تحتها ربيع من الماء، فوضعته عندها. وقال آخرون: بل خرجت لما حضر وضعها ما في بطنها إلى جانب المحراب الشرقي منه، فأتت أقصاه فألجأها المخاض إلى جِذْعِ النخلة، وذلك قول السدي، وقد ذكرت الرواية به قبل. حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني المغيرة بن عثمان، قال: سمعت ابن عباس يقول: ما هي إلا أن حملت فوضعت. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: وأخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله أنه سمع ابن عباس يقول: ليس إلا أن حملتْ فولدتْ. وقوله: (يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا) ذكر أنها قالت ذلك في حال الطلق استحياء من الناس. ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الثامن عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ مريم الحلقة (998) صــ 171 إلى صــ 180 كما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) تقول: يا ليتني مِتُّ قبل هذا الكرب الذي أنا فيه، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل، وكنت نِسيا منسيًّا: شيئا نُسي فتُرك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر، وكذلك كل شيء نسي وترك ولم يطلب فهو نسي. ونسي بفتح النون وكسرها لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد، مثل الوَتر والوِتر، والجَسر والجِسر، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندنا; وبالكسر قرأت عامة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة; وبالفتح قرأه أهل الكوفة; ومنه قول الشاعر: كأنَّ لَهَا فِي الأرْضِ نِسْيا تَقُصُّهُ ... إذَا ما غَدَتْ وإنْ تُحَدّثْكَ تَبْلَتِ (1) ويعني بقوله: تقصه: تطلبه، لأنها كانت نسيته حتى ضاع، ثم ذكرته فطلبته، ويعني بقوله: تبلت: تحسن وتصدّق، ولو وجه النسي إلى المصدر من النسيان كان صوابا، وذلك أن العرب فيما ذكر عنها تقول: نسيته نسيانا ونسيا، كما قال بعضهم من طاعة الربّ وعصي الشيطان، يعني وعصيان، وكما تقول أتيته إتيانا وأتيا، كما قال الشاعر: أتيُ الفَوَاحِشِ فِيهِمُ مَعْرَوفَةٌ ... وَيَروْنَ فِعْلَ المَكْرُماتِ حَرَامَا (2) وقوله (مَنْسيًّا) مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت: ليتني كنت الشيء الذي ألقي، فترك ونسي. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. (1) البيت للشنفرى "اللسان: نسي" قال: والنسي: الشيء المنسي الذي لا يذكر. وقال الأخفش: النسي: ما أغفل من شيء حقير ونسي. وقال الزجاج: النسي في كلام العرب الشيء المطروح، لا يؤبه له. وقال الشنفرى: "وكأن لها. . . البيت" قال ابن بري: بلت، فالفتح: إذا قطع، وبلت بالكسر: إذا سكن. وقال الفراء: النسي والنسي (بكسر النون المشددة وفتحها) لغتان فيه تلقيه المرأة من خرق اعتلاها (حيضها) مثل وتر ووتر. قال ولو أراد بالنسي (بالفتح) مصدر النسيان، كان صوابا. (2) في (اللسان: أتى) : الإتيان: المجيء. أتيته أتيا وإتيانا وإتيانه ومأتاه: جئته. واستشهد المؤلف بالبيت على أن العرب تقول نسيته نسيانا ونسيا، كما تقول أتيته إتيانا وأتيا. وقوله معروفة: أنث الخبر بالتاء مع أن المبتدأ وهو الأتي مذكر، لكنه لما أضيف إلى الفواحش، وهي جمع فاحشة. اكتسب منها التأنيث فلذلك أنث الخبر بالتاء. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس، قوله: (يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) لم أخلق، ولم أك شيئا. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) يقول: نِسيا: نُسي ذكري، ومنسيا: تقول: نسي أثري، فلا يرى لي أثر ولا عين. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) : أي شيئا لا يعرف ولا يذكر. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله (وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) قال: لا أعرف ولا يدرى من أنا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس (نَسْيًا مَنْسِيًّا) قال: هو السقط. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) لم أكن في الأرض شيئًا قط. القول في تأويل قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) } اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) بمعنى: فناداها جبرائيل من بين يديها على اختلاف منهم في تأويله; فمن متأوّل منهم إذا قرأه (مِنْ تَحْتِهَا) كذلك; ومن متأوّل منهم أنه عيسى، وأنه ناداها من تحتها بعد ما ولدته. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة والبصرة (فَنَادَاها مَنْ تَحْتَها) وبفتح التاءين من تحت، بمعنى: فناداها الذي تحتها، على أن الذي تحتها عيسى، وأنه الذي نادى أمه. * ذكر من قال: الذي ناداها من تحتها المَلَك، حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن، قال: سمعت ابن عباس قرأ: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) يعني: جبرائيل. حدثني أحمد بن عبد الله أحمد بن يونس، قال: أخبرنا عَبثر، قال: ثنا حصين، عن عمرو بن ميمون الأوْديّ، قال: الذي ناداها الملك. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، أنه قرأ: فخاطبها من تحتها. حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قرأ: فخاطبها من تحتها. حدثنا الرفاعي، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قرأها كذلك. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن جويبر، عن الضحاك (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) قال: جبرائيل. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن جويبر، عن الضحاك، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) : أي من تحت النخلة. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَنَادَاهَا) جبرائيل (مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي) . حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) قال: المَلَك. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) يعني: جبرائيل كان أسفل منها. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) قال: ناداها جبرائيل ولم يتكلم عيسى حتى أتت قومها. * ذكر من قال: ناداها عيسى صلى الله عليه وسلم: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) قال: عيسى ابن مريم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) ابنها. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قال الحسن: هو ابنها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه (فَنَادَاهَا) عيسى (مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي) . حدثني أبو حميد أحمد بن المغيرة الحمصي، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا محمد بن مهاجر، عن ثابت بن عجلان، عن سعيد بن جبير، قوله (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) قال عيسى: أما تسمع الله يقول (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) قال: عيسى; ناداها (مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) . حُدثت عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحيّ، عن أبيّ بن كعب قال: الذي خاطبها هو الذي حملته في جوفها ودخل من فيها. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندنا قول من قال: الذي ناداها ابنها عيسى، وذلك أنه من كناية ذكره أقرب منه من ذكر جبرائيل، فردّه على الذي هو أقرب إليه أولى من ردّه على الذي هو أبعد منه. ألا ترى في سياق قوله (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) يعني به: فحملت عيسى فانتبذت به، ثم قيل: فناداها نسقا على ذلك من ذكر عيسى والخبر عنه. ولعلة أخرى، وهي قوله (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) ولم تشر إليه إن شاء الله ألا وقد علمت أنه ناطق في حاله تلك، وللذي كانت قد عرفت ووثقت به منه بمخاطبته إياها بقوله لها (أَنْ لا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) وما أخبر الله عنه أنه قال لها أشيري للقوم إليه، ولو كان ذلك قولا من جبرائيل، لكان خليقا أن يكون في ظاهر الخبر، مبينا أن عيسى سينطق، ويحتجّ عنها للقوم، وأمر منه لها بأن تشير إليه للقوم إذا سألوها عن حالها وحاله. فإذا كان ذلك هو الصواب من التأويل الذي بينا، فبين أن كلتا القراءتين، أعني (مِنْ تَحْتِهَا) بالكسر، (وَمَنْ تَحْتَها) بالفتح صواب. وذلك أنه إذا قرئ بالكسر كان في قوله (فَنَادَاهَا) ذكر من عيسى: وإذا قرئ (مَنْ تَحْتَها) بالفتح كان الفعل لمن وهو عيسى. فتأويل الكلام إذن: فناداها المولود من تحتها أن لا تحزني يا أمه (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) . كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي) قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي، لا ذات زوج فأقول من زوج، ولا مملوكة فأقول من سيدي، أي شيء عذري عند الناس (يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام. واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالسريّ في هذا الموضع، فقال بعضهم: عني به: النهر الصغير. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال: الجدول. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول في هذه الآية (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال: الجدول. حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) وهو نهر عيسى. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال: السريّ: النهر الذي كان تحت مريم حين ولدته كان يجري يسمى سَرِيا. حدثني أبو حصين، قال: ثنا عَبثر، قال: ثنا حصين، عن عمرو بن ميمون الأوْدِيّ، قال في هذه الآية (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال: السريّ: نهر يُشرب منه. حدثنا يعقوب وأبو كريب، قالا ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عمرو بن ميمون، في قوله: (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال: هو الجدول. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (سَرِيًّا) قال: نهر بالسريانية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، قال ابن جريج: نهر إلى جنبها. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، في قوله (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال: كان سريا فقال حميد بن عبد الرحمن: إن السريّ: الجدول، فقال: غلبتنا عليك الأمراء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال: هو الجدول، النهر الصغير، وهو بالنبطية: السريّ. حدثني أبو حميد الحمصي، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا محمد بن مهاجر، عن ثابت بن عجلان قال: سألت سعيد بن جبير، عن السريّ، قال: نهر. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: النهر الصغير. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، أنه قال: هو النهر الصغير: يعني الجدول، يعني قوله (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) . حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك، قال: جدول صغير بالسريانية. حدثنا عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (تَحْتَكِ سَرِيًّا) الجدول الصغير من الأنهار. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) والسريّ: هو الجدول، تسميه أهل الحجاز. حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، في قوله (سَرِيًّا) قال: هو جدول. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم وعن وهب بن منبه (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) يعني ربيع الماء. - حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) والسريّ: هو النهر. وقال آخرون: عنى به عيسى. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) والسريّ: عيسى نفسه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) يعني نفسه، قال: وأيّ شيء أسرى منه، قال: والذين يقولون: السريّ: هو النهر ليس كذلك النهر، لو كان النهر لكان إنما يكون إلى جنبها، ولا يكون النهر تحتها. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قيل من قال: عنى به الجدول، وذلك أنه أعلمها ما قد أتاها الله من الماء الذي جعله عندها، وقال لها (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي) من هذا الرطب (وَاشْرَبي) من هذا الماء (وَقَرِّي عَيْنًا) بولدك، والسريّ معروف من كلام العرب أنه النهر الصغير; ومنه قول لبيد: فَتَوَسَّطا عُرْضَ السَّريّ وَصَدَّعا ... مَسْجُورَةٌ مُتَجاوِرًا قُلامُها (1) ويُروى فينا (2) مسجورة، ويُروى أيضًا: فغادرا. قوله (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) ذكر أن الجذع كان جذعًا يابسًا، وأمرها أن تهزّه، وذلك في أيام الشتاء، وهزّها إياه كان تحريكه. كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) قال: حركيها. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) قال: كان جذعًا يابسًا، فقال لها: هزّيه (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن، قال: سمعت أبا نهيك يقول: كانت نخلة يابسة. حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول في قوله: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) فكان الرطب يتساقط عليها وذلك في الشتاء. حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) وكان جذعا منها مقطوعا فهزّته، فإذا هو نخلة، وأجري لها في المحراب نهر، فتساقطت النخلة رطبًا جنيا فقال لها (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) . (1) البيت للبيد بن ربيعة العامري، من معلقته المشهورة (انظره في شرح الزوزني على المعلقات السبع، وفي شرح التبريزي على القصائد العشر، وفي جمهرة أشعار العرب ص 63 - 74) . قال صاحب الجمهرة: توسطا؛: أي دخلا وسطه. وعرض السري: أي ناحية النهر، وأهل الحجاز. يسمون النهر سريا. وصدعا: أي فرقا. ومسجورة: أي عينا مملوءة؛ قال الله تعالى: (والبحر المسجور) وأقلامها، ويروى قلامها، وهو ضرب من الشجر الحمض، والأقلام: قصب اليراع. وقال الزوزني يقول: فتو سط العير والأتان جانب النهر الصغير، وشقا عينا مملوءة ماء، قد تجاوز قلامها، أي قد كثر هذا الضرب من النبت عليها. وتحرير المعنى: أنهما قد ورد عينا ممتلئة ماء، فدخلا فيها من عرض نهرها، وقد تجاور نبتها. والشاهد في قوله "السري" وهو اسم للنهر الصغير. (2) كذا في المخطوطة بغير نقط، ولم نقف على هذه الرواية. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهزّي إليك بالنخلة. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: قال مجاهد (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) قال: النخلة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن عيسى بن ميمون، عن مجاهد، في قوله (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) قال: العجوة. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عمرو بن ميمون، أنه تلا هذه الآية: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) قال: فقال عمرو: ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب، وأدخلت الباء في قوله: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) كما يقال: زوجتك فلانة، وزوّجتك بفلانة; وكما قال (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) بمعنى: تنبت الدهن. وإنما تفعل العرب ذلك، لأن الأفعال تكنى عنها بالباء، فيقال إذا كنيت عن ضربت عمرا: فعلت به، وكذلك كلّ فعل، فلذلك تدخل الباء في الأفعال وتخرج، فيكون دخولها وخروجها بمعنى، فمعنى الكلام: وهزِّي إليك جذع النخلة، وقد كان لو أن المفسرين كانوا فسروه وكذلك: وهزِّي إليك رطبًا بجذع النخلة، بمعنى: على جذع النخلة، وجها صحيحا، ولكن لست أحفظ عن أحد أنه فسره كذلك. ومن الشاهد على دخول الباء في موضع دخولها وخروجها منه سواء قول الشاعر: بِوَادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرُهُ ... وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهانِ (1) (1) في (اللسان: سدر) السدر: شجر النبق، واحدتها سدرة. . . والمرخ: شجر كثير الورى سريعه. . وفي (اللسان: شبه) الشبهان: نبت يشبه الثمام، ويقال له الشبهان. قال ابن سيده: والشبهان (بالتحريك) والشبهان (بضمتين) : ضرب من العضاه؛ وقيل: هو الثمام، يمانية، حكاها ابن دريد. قال رجل من عبد القيس * بواد يمان ينبت الشث صدره * . . . البيت. قال ابن بري قال أبو عبيدة: البيت للأحول اليشكري. واسمه يعلى. قال: وتقديره: وينبت أسفله المرخ. على أن تكون الباء زائدة. وإن شئت قدرته: وينبت أسفله بالمرخ، فتكون الباء للتعدية. لما قدرت الفعل ثلاثيا. وفي الصحاح: الشبهان: هو الثمام من الرياحين. و (في اللسان: شث) الشث: ضرب من الشجر عن ابن دريد، وأنشد البيت: * بواد يمان ينبت الشث فرعه * إلخ. وقيل: الشث: شجر طيب الريح، مر الطعم، يدبغ به. قال أبو الدقيش: وينبت في جبال الغور وتهامة ونجد. والبيت شاهد على أن الباء في قوله "بالمرخ" زائدة، دخولها كخروجها وهي مثل الباء في قوله تعالى: (وهزي إليك بجذع النخلة) . قال في (اللسان: هز) الهز: تحريك الشيء، كما تهز القناة، فتضطرب وتهز. وهزه يهزه هزا وهز به، وفي التنزيل العزيز: (وهزي إليك بجذع النخلة) أي حركي. والعرب تقول: هزه وهز به إذا حركه. ومثله: خذ الخطام، وخذ بالخطام، وتعلق زيدا وتعلق بزيد. قال ابن سيده: وإنما عداه بالباء، لأن في هزي معنى جري، (أمر من الجر) . واختلف القراء في قراءة قوله (تَسَّاقَطُ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة (تَسَّاقَطُ) بالتاء من تساقط وتشديد السين، بمعنى: تتساقط عليك النخلة رطبًا جنيا، ثم تُدغم إحدى التاءين في الأخرى فتشدّد (1) وكأن الذين قرءوا ذلك كذلك وجهوا معنى الكلام إلى: وهزِّي إليك بجذع النخلة تساقط النخلة عليك رطبًا: وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة (تَساقَطُ) بالتاء وتخفيف السين، ووجه معنى الكلام، إلى مثل ما وجه إليه مشدّدوها، غير أنهم خالفوهم في القراءة. ورُوي عن البراء بن عازب أنه قرأ ذلك (يُساقِط) بالياء. حدثني بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقرؤه كذلك، وكأنه وجه معنى الكلام إلى: وهزِّي إليك بجذع النخلة يتساقط الجذع عليك رطبًا جنيا. ورُوي عن أبي نهيك أنه كان يقرؤه (تُسْقِطُ) بضمّ التاء وإسقاط الألف. حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن، قال: سمعت أبا نَهِيك يقرؤه كذلك، وكأنه وجه معنى الكلام إلى: تسقط النخلة عليك رطبًا جنيا. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن هذه القراءات الثلاث، أعني (تَسَّاقَطُ) بالتاء وتشديد السين، وبالتاء وتخفيف السين، وبالياء وتشديد السين، قراءات متقاربات المعاني، قد قرأ بكل واحدة منهن قرّاء أهل معرفة بالقرآن، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب الصواب فيه، وذلك أن الجذع إذا تساقط رطبًا، وهو ثابت غير مقطوع، فقد تساقطت النخلة رطبًا، وإذا تساقطت النخلة رطبًا، فقد تساقطت النخلة بأجمعها، جذعها وغير جذعها، وذلك أن النخلة ما دامت قائمة على أصلها، فإنما هي جذع وجريد (1) عبارة الجلالين، بتاءين قبلت الثانية سينا وأدغمت في السين. ![]()
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الثامن عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ مريم الحلقة (999) صــ 181 إلى صــ 190 وسعف، فإذا قطعت صارت جذعا، فالجذع الذي أمرت مريم بهزّه لم يذكر أحد نعلمه أنه كان جذعًا مقطوعًا غير السديّ، وقد زعم أنه عاد بهزِّها إياه نخلة، فقد صار معناه ومعنى من قال: كان المتساقط. عليها رطبا نخلة واحدا، فتبين بذلك صحة ما قلنا. وقوله: (جَنِيًّا) يعني مجنيا; وإنما كان أصله مفعولا فصرف إلى فعيل; والمجني: المأخوذ طريا، وكل ما أخذ من ثمرة، أو نقل من موضعه بطراوته فقد اجتني، ولذلك قيل: فلان يجتني الكمأة; ومنه قول ابن أخت جذيمة: هَذَا جَنَايَ وخِيارُهُ فِيهِ ... إذْ كُلُّ جانٍ يَدُهُ إلى فِيهْ (1) (1) البيت في (اللسان: جنى) قال: قال أبو عبيد: يضرب هذا مثلا للرجل يؤثر صاحبه بخيار ما عنده. قال أبو عبيد: وذكر ابن الكلبي أن المثل لعمرو بن عدي اللخي بن أخت جذيمة، وهو أول من قاله، وإن خذيمة نزل منزلا، وأمر الناس أن يجتنوا له الكمأة، فكان بعضهم يستأثر بخير ما يجد، ويأكل طيبها، وعمرو يأتيه بخير ما يجد، ولا يأكل منها شيئا، فلما أتى خاله جذيمة قال: هذا. . . البيت والجنى: ما يجنى من الشجر. ويروى * هذا جناي وهجانه فيه * أي خياره. أه. وقال: وجنيت الثمر أجنيتها واجتنيتها: بمعنى. ابن سيده: جني الثمرة ونحوها وتجناها، كل ذلك: تناولها من شجرتها وعلى هذا استشهد المؤلف بالبيت. القول في تأويل قوله تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) } يقول تعالى ذكره: فكلي من الرطب الذي يتساقط عليك، واشربي من ماء السريّ الذي جعله ربك تحتك، لا تخشي جوعًا ولا عطشًا (وَقَرِّي عَيْنًا) يقول: وطيبي نفسا وافرحي بولادتك إياي ولا تحزني ونصبت العين لأنها هي الموصوفة بالقرار. وإنما معنى الكلام: ولتقرِر عينك بولدك، ثم حوّل الفعل عن العين إلى المرأة صاحبة العين، فنصبت العين إذ كان الفعل لها في الأصل على التفسير، نظير ما فعل بقوله (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا) وإنما هو: فإن طابت أنفسهن لكم. وقوله (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) ومنه قوله (يُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) إنما هو يساقط عليك رطب الجذع، فحوّل الفعل إلى الجِذْع، في قراءة من قرأه بالياء. وفي قراءة من قرأ: (تُساقِطْ) بالتاء، معناه: يساقط عليك رطب النخلة، ثم حول الفعل إلى النخلة. وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله (وقرِّي) فأما أهل المدينة فقرءوه (وَقَرِّي) بفتح القاف على لغة من قال: قَرِرت بالمكان أَقَرّ به، وقَرِرت عينا، أقرّ به قُرورا، وهي لغة قريش فيما ذكر لي وعليها القراءة. وأما أهل نجد فإنها تقول قررت به عينا أقر به قرارا وقررت بالمكان أقر به، فالقراءة على لغتهم: (وَقِري عَيْنا) بكسر القاف، والقراءة عندنا على لغة قريش بفتح القاف. وقوله (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا) يقول: فإن رأيت من بني آدم أحدا يكلمك أو يسائلك عن شيء أمرك وأمر ولدك وسبب ولادتكه (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) يقول: فقولي: إني أوجبت على نفسي لله صمتا ألا أُكَلِّم أحدًا من بني آدم اليوم (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) وبنحو الذي قلنا في معنى الصوم، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: سمعت أنس بن مالك يقول في هذه الآية (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) صمتا. حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني المغيرة بن عثمان، قال: سمعت أنس بن مالك يقول (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) قال: صمتا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) قال: يعني بالصوم: الصمت. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن سليمان التيميّ، قال: سمعت أنسا قرأ (وإنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَن صَوْما وَصَمْتا) . حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) أما قوله (صَوْما) فإنها صامت من الطعام والشراب والكلام. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) قال: كان من بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من الطعام، إلا مِن ذكر الله، فقال لها ذلك، فقالت: إني أصوم من الكلام كما أصوم مِنْ الطعام، إلا من ذكر الله; فلما كلموها أشارت إليه، فقالوا (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) فأجابهم فقال (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ) حتى بلغ (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) . واختلفوا في السبب الذي من أجله أمرها بالصوم عن كلام البشر، فقال بعضهم: أمرها بذلك لأنه لم يكن لها حجة عند الناس ظاهرة، وذلك أنها جاءت وهي أيِّم بولد بالكفّ عن الكلام ليكفيها فأمرت الكلام ولدها. * ذكر من قال ذلك: حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال: ثنا مصعب بن المقدام، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن حارثة، قال: كنت عند ابن مسعود، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر، فقال: ما شأنك؟ فقال أصحابه: حلف أن لا يكلم الناس اليوم، فقال عبد الله: كلم الناس وسلم عليهم، فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدّقها أنها حملت من غير زوج، يعني بذلك مريم عليها السلام. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد لما قال عيسى لمريم (لا تَحْزَنِي) قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي، لا ذات زوج ولا مملوكة، أي شيء عذري عند الناس (يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) قال: هذا كله كلام عيسى لأمه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) فإني سأكفيك الكلام. وقال آخرون: إنما كان ذلك آية لمريم وابنها. * ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) قال في بعض الحروف: صمتا وذلك إنك لا تلقى امرأة جاهلة تقول: نذرت كما نذرت مريم، ألا تكلم يومًا إلى الليل، وإنما جعل الله تلك آية لمريم ولابنها، ولا يحلّ لأحد أن ينذر صمت يوم إلى الليل. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، فقرأ (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) وكانت تقرأ في الحرف الأوّل: صمتا، وإنما كانت آية بعثها الله لمريم وابنها. وقال آخرون: بل كانت صائمة في ذلك اليوم، والصائم في ذلك الزمان كان يصوم عن الطعام والشراب وكلام الناس، فأذن لمريم في قدر هذا الكلام ذلك اليوم وهي صائمة. * ذكر من قال ذلك: حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا) يكلمك (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) فكان من صام في ذلك الزمان لم يتكلم حتى يمسي، فقيل لها: لا تزيدي على هذا. القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) } يقول تعالى ذكره: فلما قال ذلك عيسى لأمه اطمأنت نفسها، وسلَّمت لأمر الله، وحملته حتى أتت به قومها. كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: أنساها يعنى مريم كرب البلاء وخوف الناس ما كانت تسمع من الملائكة من البشارة بعيسى، حتى إذا كلَّمها، يعني عيسى، وجاءها مصداق ما كان الله وعدها احتملته ثم أقبلت به إلى قومها. وقال السديّ في ذلك ما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: لما ولدته ذهب الشيطان، فأخبر بني إسرائيل أن مريم قد ولدت، فأقبلوا يشتدّون، فدعوها (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ) . وقوله (قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) يقول تعالى ذكره: فلما رأوا مريم، ورأوا معها الولد الذي ولدته، قالوا لها: يا مريم لقد جئت بأمر عجيب، وأحدثت حدثا عظيما. وكل عامل عملا أجاده وأحسنه فقد فراه، كما قال الراجز: قَدْ أَطْعَمَتنِي دَقَلا حُجْرِيًّا ... قَدْ كُنْتِ تَفْرِينَ بِهِ الفَرِيَّا (1) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى (فَرِيًّا) قال: عظيما. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) قال: عظيما. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لَقَدْ (1) في (اللسان: دقل) : الدقل من التمر: معروف، قيل: هو أردأ أنواعه. وفي (اللسان: فرى) : التهذيب: ويقال للرجل إذا كان جادًّا في الأمر قويا: تركته يفري الفرى ويقد. والعرب تقول: تركته يفري الفرى: إذا عمل العمل أو السقي فأجاد. . . وأنشد الفراء لزرارة بن صعب يخاطب العامرية: قَدْ أطْعَمَتْنِي دَقَلا حَوْليًّا ... مُسَوَّسًا مُدَوَّدًا حَجْرِيًّا قَدْ كُنْتِ تَفْرِينَ بِهِ الفَرِيَّا أي كنت تكثرين في القول وتعظمينه. يقال: فلان يفري الفرى: إذا يأتي بالعجب في عمله. ثم قال: وفي التنزيل العزيز في قصة مريم: (لقد جئت شيئا فريا) . قال الفراء: الفري الأمر العظيم، أي جئت شيئا عظيما. وقيل: جئت شيئا فريا: أي مصنوعا مختلقا. جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) قال: عظيما. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: لما رأوها ورأوه معها، قالوا: يا مريم (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) : أي الفاحشة غير المقاربة. القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) } اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل لها: يا أخت هارون، ومن كان هارون هذا الذي ذكره الله، وأخبر أنهم نسبوا مريم إلى أنها أخته، فقال بعضهم: قيل لها (يَاأُخْتَ هَارُونَ) نسبة منهم لها إلى الصلاح، لأن أهل الصلاح فيهم كانوا يسمون هارون، وليس بهارون أخي موسى. * ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (يَاأُخْتَ هَارُونَ) قال: كان رجلا صالحًا في بني إسرائيل يسمى هارون، فشبَّهوها به، فقالوا: يا شبيهة هارون في الصلاح. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) قال: كانت من أهل بيت يُعرفون بالصلاح، ولا يُعرفون بالفساد ومن الناس من يُعرفون بالصلاح ويتوالدون به، وآخرون يُعرفون بالفساد ويتوالدون به، وكان هارون مصلحا محببا في عشيرته، وليس بهارون أخي موسى، ولكنه هارون آخر. قال: وذُكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفا، كلهم يسمون هارون من بني إسرائيل. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي صدقة، عن محمد بن سيرين، قال: نبئت أن كعبا قال: إن قوله (يَاأُخْتَ هَارُونَ) ليس بهارون أخي موسى، قال: فقالت له عائشة: كذبت، قال: يا أمّ المؤمنين، إن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما ستّ مئة سنة، قال: فسكتت. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (يَاأُخْتَ هَارُونَ) قال: اسم واطأ اسما، كم بين هارون وبينهما من الأمم أمم كثيرة. حدثنا أبو كريب وابن المثنى وسفيان وابن وكيع وأبو السائب، قالوا: ثنا عبد الله بن إدريس الأودي، قال: سمعت أبي يذكر عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران، فقالوا لي: ألستم تقرءون (يَاأُخْتَ هَارُونَ) ؟ قلت: بلى وقد علمتم ما كان بين عيسى وموسى، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: "ألا أخْبَرْتَهُمْ أنَّهُمْ كانُوا يُسَمّونَ بأنْبِيائِهمْ والصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ" . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة، قال: أرسلني النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض حوائجه إلى أهل نجران، فقالوا: أليس نبيك يزعم أن هارون أخو مريم هو أخو موسى؟ فلم أدر ما أردّ عليهم حتى رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فقال: "إنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّون بأسْماءِ مَنْ كانَ قَبْلَهُمْ" . وقال بعضهم: عنى به هارون أخو موسى، ونُسبت مريم إلى أنها أخته لأنها من ولده، يقال للتميميّ: يا أخا تميم، وللمُضَرِيّ: يا أخا مُضَر. * ذكر من قال ذلك: حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (يَاأُخْتَ هَارُونَ) قال: كانت من بني هارون أخي موسى، وهو كما تقول: يا أخا بني فلان. وقال آخرون: بل كان ذلك رجلا منهم فاسقا معلن الفسق، فنسبوها إليه. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما جاء به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه، وأنها نسبت إلى رجل من قومها. وقوله (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) يقول: ما كان أبوك رجل سوء يأتي الفواحش (وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) يقول: وما كانت أمك زانية. كما حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي (وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) قال: زانية. وقال (وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) ولم يقل: بغيَّة، لأن ذلك مما يوصف به النساء دون الرجال، فجرى مجرى امرأة حائض وطالق، وقد كان بعضهم يشبه ذلك بقولهم: ملحفة جديدة وامرأة قتيل. القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) } يقول تعالى ذكره: فلما قال قومها ذلك لها قالت لهم ما أمرها عيسى بقيله لهم، ثم أشارت لهم إلى عيسى أن كلِّموه. كما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: لما قالوا لها (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) قالت لهم ما أمرها الله به، فلما أرادوها بعد ذلك على الكلام أشارت إليه، إلى عيسى. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) قال: أمرتهم بكلامه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) يقول: أشارت إليه أن كلِّموه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) أن كَلِّموه. وقوله (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) يقول تعالى ذكره، قال قومها لها: كيف نكلم من وُجد في المهد؟ وكان في قوله (مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) معناها التمام، لا التي تقتضي الخبر، وذلك شبيه المعنى بكان التي في قوله (هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا) وإنما معنى ذلك: هل أنا إلا بشر رسول؟ وهل وجدت أو بعثت; وكما قال زهير بن أبي سُلْمَى: زَجَرْتُ علَيْهِ حُرَّةً أرْحَبِيَّةً ... وَقَدْ كَانَ لَوْنُ اللَّيْلِ مِثْلَ الأرَنْدَجِ (1) بمعنى: وقد صار أو وُجد. وقيل: إنه عنى بالمهد في هذا الموضع: حجر أمه. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) والمهد: الحجر. قال أبو جعفر: وقد بينا معنى المهد فيما مضى بشواهده، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) } يقول تعالى ذكره: فلما قال قوم مريم لها (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) وظنوا أن ذلك منها استهزاء بهم، قال عيسى لها متكلمًا عن أمه: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ) . وكانوا حين أشارت لهم إلى عيسى فيما ذُكر عنهم غضبوا. كما حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: لما أشارت لهم إلى عيسى غضبوا، وقالوا: لسخريتها بنا حين تأمرنا أن نكلم هذا الصبيّ أشدّ علينا من زناها (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) فأجابهم عيسى (1) البيت في (ديوان زهير بن أبي سلمى. طبعة دار الكتب المصرية بشرح أبي العباس ثعلب، ص 323) ورواية الأصل: أجرت تحريف. وقوله عليه: على ذلك الطريق. وحرة كريمة وأرحبية: منسوبة إلى أرحب، وأرحب بطن من همدان، تنسب إليهم النجائب الأرحبية، وقيل هو موضع. وقال الأزهري: يحتمل أن يكون أرحب فحلا تنسب إليه النجائب لأنها من نسله والأرندج واليرندج: السواد يسود به الخف، أو هو الجلد الأسود. أي زجرت على هذا الطريق هذه الناقة. والليل أسود مثل الأرندج. عنها فقال لهم (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) ... الآية. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ لَهُمُ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) فقرأ حتى بلغ (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) فقالوا: إن هذا لأمر عظيم. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) لم يتكلم عيسى إلا عند ذلك حين (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) وقوله (آتَانِيَ الْكِتَابَ) يقول القائل: أو آتاه الكتاب والوحي قبل أن يخلق في بطن أمه فإن معنى ذلك بخلاف ما يظنّ، وإنما معناه: وقضى يوم قضى أمور خلقه إليّ أن يؤتيني الكتاب. كما حدثني بشر بن آدم، قال: ثنا الضحاك، يعني ابن مخلد، عن سفيان، عن سماك، عن عكرمة (آتَانِيَ الْكِتَابَ) قال: قضى أن يؤتيني الكتاب فيما مضى. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا سفيان، عن سماك، عن عكرمة، في قوله (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ) قال: القضاء. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، في قوله (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ) قال: قضى أن يؤتيني الكتاب. وقوله (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) وقد بيَّنت معنى النبيّ واختلاف المختلفين فيه، والصحيح من القول فيه عندنا بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته. وكان مجاهد يقول في معنى النبيّ وحده ما حدثنا به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: النبيّ وحده الذي يكلم وينزل عليه الوحي ولا يرسل. وقوله (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: وجعلني نفاعا. ![]()
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الثامن عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ مريم الحلقة (1000) صــ 191 إلى صــ 200 * ذكر من قال ذلك: حدثني سليمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلحي، قال: ثنا العلاء، عن عائشة امرأة ليث، عن ليث، عن مجاهد (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا) قال: نفاعا. وقال آخرون: كانت بركته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. * ذكر من قال ذلك: حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي، قال: سمعت وُهَيْب ابن ابن الورد مولى بني مخزوم، قال: لقي عالم عالما لما هو فوقه في العلم، قال له: يرحمك الله، ما الذي أعلن من علمي، قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده، وقد اجتمع الفقهاء على قول الله: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) وقيل: ما بركته؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان. وقال آخرون معنى ذلك: جعلني معلم الخير. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا سفيان في قوله (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) قال: معلما للخير. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، قوله (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) قال: معلمًا للخير حيثما كنت. وقوله (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ) يقول: وقضى أن يوصيني بالصلاة والزكاة، يعنى المحافظة على حدود الصلاة وإقامتها على ما فرضها عليّ. وفي الزكاة معنيان: أحدهما: زكاة الأموال أن يؤدّيها. والآخر: تطهير الجسد من دنس الذنوب; فيكون معناه: وأوصاني بترك الذنوب واجتناب المعاصي. وقوله (مَا دُمْتُ حَيًّا) يقول: ما كنت حيا في الدنيا موجودا، وهذا يبين عن أن معنى الزكاة في هذا الموضع: تطهير البدن من الذنوب، لأن الذي يوصف به عيسى صلوات الله وسلامه عليه أنه كان لا يدّخر شيئا لغد، فتجب عليه زكاة المال، إلا أن تكون الزكاة التي كانت فرضت عليه الصدقة بكلّ ما فضل عن قوته، فيكون ذلك وجهًا صحيحًا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) } يقول تعالى ذكره: مخبرا عن قيل عيسى للقوم: وجعلني مباركا وبرًّا: أي جعلني برًّا بوالدتي. والبرّ هو البارّ، يقال: هو برّ بوالده، وبارّ به، وبفتح الباء قرأت هذا الحرف قرّاء الأمصار. ورُوِي عن أبي نهيك ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن، عن أبي نهيك أنه قرأ (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي) من قول عيسى عليه السلام، قال أبو نهيك: أوصاني بالصلاة والزكاة والبرّ بالوالدين، كما أوصاني بذلك. فكأنّ أبا نهيك وجه تأويل الكلام إلى قوله (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي) هو من خبر عيسى، عن وصية الله إياه به، كما أن قوله (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ) من خبره عن وصية الله إياه بذلك. فعلى هذا القول يجب أن يكون نصب البرّ بمعنى عمل الوصية فيه، لأن الصلاة والزكاة وإن كانتا مخفوضتين في اللفظ، فإنهما بمعنى النصب من أجل أنه مفعول بهما. وقوله (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) يقول: ولم يجعلني مستكبرًا على الله فيما أمرني به، ونهاني عنه، شقيا، ولكن ذللني لطاعته، وجعلني متواضعا. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه يعني عيسى، كان يقول: سلوني، فإن قلبي ليِّن، وإني صغير في نفسي مما أعطاه الله من التواضع. وحدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى، ويُبرئ الأكمه والأبرص، في آيات سلطه الله عليهنّ، وأذن له فيهنّ، فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي أرضعت به، فقال نبيّ الله ابن مريم يجيبها: طوبى لمن تلا كتاب الله، واتبع ما فيه (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) . حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء، عن بعض أهل العلم، قال: لا تجد عاقا إلا وجدته جبارًا شقيا. ثم قرأ (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) قال: ولا تجد سيئ المِلْكة إلا وجدته مختالا فخورا، ثم قرأ (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا) . وقوله (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) يقول: والأمنة من الله عليّ من الشيطان وجنده يوم ولدت أن ينالوا مني ما ينالون ممن يولد عند الولادة، من الطعن فيه، ويوم أموت، من هول المطلع، ويوم أبعث حيا يوم القيامة أن ينالني الفزع الذي ينال الناس بمعاينتهم أهوال ذلك اليوم. كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) قال: يخبرهم في قصة خبره عن نفسه، أنه لا أب له وأنه سيموت ثم يُبْعث حيا، يقول الله تبارك وتعالى (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) . القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) } يقول تعالى ذكره: هذا الذي بيَّنت لكم صفته، وأخبرتكم خبره، من أمر الغلام الذي حملته مريم، هو عيسى ابن مريم، وهذه الصفة صفته، وهذا الخبر خبره، وهو (قَوْلَ الْحَقِّ) يعني أن هذا الخبر الذي قصصته عليكم قول الحقّ، والكلام الذي تلوته عليكم قول الله وخبره، لا خبر غيره، الذي يقع فيه الوهم والشكّ، والزيادة والنقصان، على ما كان يقول الله تعالى ذكره: فقولوا في عيسى أيها الناس، هذا القول الذي أخبركم الله به عنه، لا ما قالته اليهود، الذين زعموا أنه لغير رشدة، وأنه كان ساحرًا كذّابا، ولا ما قالته النصارى، من أنه كان لله ولدا، وإن الله لم يتخذ ولدا، ولا ينبغي ذلك له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ) قال: الله الحقّ. حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يقولون في هذا الحرف في قراءة عبد الله، قال: (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) ، قال: كلم الله. ولو وُجِّه تأويل ذلك إلى: ذلك عيسى ابن مريم القول الحقّ، بمعنى ذلك القول الحقّ، ثم حذفت الألف واللام من القول، وأضيف إلى الحقّ، كما قيل: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ.) وكما قيل: (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) كان تأويلا صحيحًا. وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والعراق (قَوْلُ الحَقّ) برفع القول على ما وصفت من المعنى. وجعلوه في إعرابه تابعًا لعيسى، كالنعت له، وليس الأمر في إعرابه عندي على ما قاله الذين زعموا أنه رفع على النعت لعيسى، إلا أن يكون معنى القول الكلمة، على ما ذكرنا عن إبراهيم من تأويله ذلك كذلك، فيصحّ حينئذ أن يكون نعتا لعيسى، وإلا فرفعه عندي بمضمر، وهو هذا قول الحقّ على الابتداء، وذلك أن الخبر قد تناهى عن قصة عيسى وأمه عند قوله (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) ثم ابتدأ الخبر بأن الحق فيما فيه تمتري الأمم من أمر عيسى، هو هذا القول، الذي أخبر الله به عنه عباده، دون غيره، وقد قرأ ذلك عاصم بن أبي النجود وعبد الله بن عامر بالنصب، وكأنهما أرادا بذلك المصدر: ذلك عيسى ابن مريم قولا حقا، ثم أدخلت فيه الألف واللام، وأما ما ذُكر عن ابن مسعود من قراءته (ذلكَ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ قالُ الحقّ) فإنه بمعنى قول الحقّ، مثل العاب والعيب، والذام والذيم. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: الرفع، لإجماع الحجة من القرّاء عليه. وأما قوله تعالى ذكره: (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) فإنه يعني: الذي فيه يختصمون ويختلفون، من قولهم: ماريت فلانا: إذا جادلته وخاصمته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) امترت فيه اليهود والنصارى; فأما اليهود فزعموا أنه ساحر كذّاب; وأما النصارى فزعموا أنه ابن الله، وثالث ثلاثة، وإله، وكذبوا كلهم، ولكنه عبد الله ورسوله، وكلمته وروحه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، فال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) قال: اختلفوا؛ فقالت فرفة: هو عبد الله ونبيه، فآمنوا به. وقالت فرقة: بل هو الله. وقالت فرقة: هو ابن الله. تبارك وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرا، قال: فذلك قوله (فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) والتي في الزخرف، قال دِقْيوس ونسطور ومار يعقوب، قال أحدهم حين رفع الله عيسى: هو الله، وقال الآخر: ابن الله، وقال الآخر: كلمة الله وعبده، فقال المفتريان: إن قولي هو أشبه بقولك، وقولك بقولي من قول هذا، فهلمّ فلنقاتلهم، فقاتلوهم وأوطئوهم إسرائيل، فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كلّ قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رُفِع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض وأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم النسطورية، فقال الاثنان: كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه، قال: هو ثالث ثلاثة: الله إله، وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى; قال الرابع: كذبت، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته، وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال، فاقتتلوا، فظهر على المسلمين، وذلك قول الله: (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) قال قتادة: هم الذين قال الله: (فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا. القول في تأويل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) } يقول تعالى ذكره: لقد كفرت الذين قالوا: إن عيسى ابن الله، وأعظموا الفِرية عليه، فما ينبغي لله أن يتخذ ولدا، ولا يصلح ذلك له ولا يكون، بل كل شيء دونه فخلقه، وذلك نظير قول عمرو بن أحمر: فِي رأسِ خَلْقَاءَ مِنْ عَنقاءَ مُشْرِفَةٍ ... لا يُبْتَغَى دُونها سَهْلٌ وَلا جَبَلُ (1) وأن من قوله (أَنْ يَتَّخِذَ) في موضع رفع بكان. وقوله: (سُبْحَانَهُ) يقول: تنزيهًا لله وتبرئة له أن يكون له ما أضاف إليه الكافرون القائلون: عيسى ابن الله. وقوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يقول جل ثناؤه: إنما ابتدأ الله خلق عيسى ابتداء، وأنشأه إنشاء من غير فحل افتحل أمه، ولكنه قال له (كُنْ فَيَكُونُ) لأنه كذلك يبتدع الأشياء ويخترعها، إنما يقول، إذا قضى خلق شيء أو إنشاءه: كن فيكون موجودا حادثا، لا يعظم عليه خلقه، لأنه لا يخلقه بمعاناة وكلفة، ولا ينشئه بمعالجة وشدّة. وقوله (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء أهل المدينة والبصرة (وأنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبكُمْ) واختلف أهل العربية في وجه فتح "أن" إذا فتحت، فقال بعض نحوييّ الكوفة: فُتحت ردّا على عيسى وعطفا عليه، بمعنى: ذلك عيسى ابن مريم، وذلك أن الله ربي وربكم. وإذا كان ذلك كذلك كانت أن رفعا، وتكون بتأويل خفض، كما قال (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ) قال: ولو فتحت على قوله (وَأَوْصَانِي) بأن الله، كان وجها. وكان بعض البصريين يقول: وذُكر ذلك أيضًا عن أبي عمرو بن العلاء، وكان ممن يقرؤه بالفتح إنما فتحت أن بتأويل (وَقَضَى) أن الله ربي وربُّكم. وكانت عامّة قرّاء الكوفيين يقرءونه (وَإنَّ الله) بكسر إن بمعنى النسق على قوله (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ) . وذُكر عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرؤه (فإنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) بغير واو. (1) البيت لعمر بن أحمر. (اللسان: عنق) قال: وأما قول ابن أحمر: فِي رأْسِ خَلْقاءَ مِنْ عَنْقَاءَ مُشْرِفَةٍ ... لا يُبْتَغَى دُونَها سَهْلٌ وَلا جَبَلُ فإنه يصف جبلا، يقول: لا ينبغي أن يكون فوقها سهل ولا جبل أحصن منها. أه. قلت: والخلقاء: الصخرة الملساء. العنقاء: البعيدة في السماء. والمشرفة: العالية. ورواية الشطر الثاني في الأصل * ما ينبغي دونها سهل ولا جبل * .ال أبو جعفر: والقراءة التي نختار في ذلك: الكسر على الابتداء. وإذا قرئ كذلك لم يكن لها موضع، وقد يجوز أن يكون عطفا على "إن" التي مع قوله (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ ... وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ولو قال قائل، ممن قرأ ذلك نصبا: نصب على العطف على الكتاب، بمعنى: آتاني الكتاب، وأتاني أن الله ربي وربكم، كان وجها حسنا. ومعنى الكلام: وإني وأنتم أيها القوم جميعا لله عبيد، فإياه فاعبدوا دون غيره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: عهد إليهم حين أخبرهم عن نفسه ومولده وموته وبعثه (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي إني وإياكم عبيد الله، فاعبدوه ولا تعبدوا غيره. وقوله (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) يقول: هذا الذي أوصيتكم به، وأخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم، الذي من سلكه نجا، ومن ركبه اهتدى، لأنه دين الله الذي أمر به أنبياءه. القول في تأويل قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) } يقول تعالى ذكره: فاختلف المختلفون في عيسى، فصاروا أحزابا متفرّقين من بين قومه. كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثني الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) قال: أهل الكتاب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) ذُكر لنا أن لما رُفع ابن مريم، انتخبت بنو إسرائيل أربعة من فقهائهم، فقالوا للأوّل: ما تقول في عيسى؟ قال: هو الله هبط إلى الأرض، فخلق ما خلق، وأحيا ما أحيا، ثم صَعِد إلى السماء، فتابعه على ذلك ناس من الناس، فكانت اليعقوبية من النصارى; وقال الثلاثة الآخرون: نشهد أنك كاذب، فقالوا للثاني: ما تقول في عيسى؟ قال: هو ابن الله، فتابعه على ذلك ناس من الناس، فكانت النَّسطورية من النصارى; وقال الاثنان الآخران: نشهد أنك كاذب، فقالوا للثالث: ما تقول في عيسى؟ قال: هو إله، وأمه إله، والله إله، فتابعه على ذلك ناس من الناس، فكانت الإسرائيلية من النصارى، فقال الرابع: أشهد أنك كاذب، ولكنه عبد الله ورسوله، هو كلمة الله وروحه; فاختصم القوم، فقال المرء المسلم: أنشدُكم الله ما تعلمون أن عيسى كان يَطعم الطعام، وأن الله تبارك وتعالى: لا يطعم الطعام قالوا: اللهمّ نعم، قال: هل تعلمون أن عيسى كان ينام؟ قالوا: اللهمّ نعم، قال فخصمهم المسلم; قال: فاقتتل القوم. قال: فذُكر لنا أن اليعقوبية ظهرت يومئذ وأصيب المسلمون، فأنزل الله في ذلك القرآن (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) . حدثنا الحسن، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة (فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا. وقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يقول: فوادي جهنم الذي يدعى ويلا للذين كفروا بالله، من الزاعمين أن عيسى لله ولد، وغيرهم من أهل الكفر به من شهودهم يومًا عظيما شأنه، وذلك يوم القيامة. وكان قتادة يقول في تأويل ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال الله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) شهدوا هولا إذا عظيما. القول في تأويل قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) } يقول تعالى ذكره مخبرًا عن حال الكافرين به، الجاعلين له أندادا، والزاعمين أن له ولدا يوم ورودهم عليه في الآخرة: لئن كانوا في الدنيا عميا عن إبصار الحقّ، والنظر إلى حجج الله التي تدلّ على وحدانيته، صما عن سماع آي كتابه، وما دعتهم إليه رسل الله فيها من الإقرار بتوحيده، وما بعث به أنبياءه، فما أسمعهم يوم قدومهم على ربهم في الآخرة، وأبصرهم يومئذ حين لا ينفعهم الإبصار والسماع. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ذاك والله يوم القيامة، سمعوا حين لا ينفعهم السمع، وأبصروا حين لا ينفعهم البصر. حدثنا الحسن، قال أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتاده، في قوله (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) قال: أسمعُ قومٍ وأبصرُهُم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، قال (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) يوم القيامة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسن، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: (أسمِعْ) بحديثهم اليوم (وأبْصِرْ) كيف يصنع بهم (يَوْمَ يَأْتُونَنَا) . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) قال: هذا يوم القيامة، فأما الدنيا فلا كانت على أبصارهم غشاوة، وفي آذانهم وقر في الدنيا; فلما كان يوم القيامة أبصروا وسمعوا فلم ينتفعوا، وقرأ (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) . وقوله (لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول تعالى ذكره: لكن الكافرون الذين أضافوا إليه ما ليس من صفته، وافتروا عليه الكذب اليوم في الدنيا، في ضلال مبين: يقول: في ذهاب عن سبيل الحقّ، وأخذ على غير استقامة، مبين أنه جائر عن طريق الرشد والهدى، لمن تأمله وفكر فيه، فهدي لرشده. القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأنذر يا محمد هؤلاء المشركين بالله يوم حسرتهم وندمهم، على ما فرّطوا في جنب الله، وأورثت مساكنهم من الجنة أهل الإيمان بالله والطاعة له، وأدخلوهم مساكن أهل الإيمان بالله من النار، وأيقن الفريقان بالخلود الدائم، والحياة التي لا موت بعدها، فيا لها حسرةً وندامة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن سَلَمة بن كُهَيل، قال: ثنا أبو الزعراء، عن عبد الله في قصة ذكرها، قال: "ما من نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة، وبيت في النار، وهو يوم الحسرة، فيرى أهل النار البيت الذي كان قد أعدّه الله لهم لو آمنوا، فيقال لهم: لو آمنتم وعملتم صالحا كان لكم هذا الذي ترونه في الجنة، فتأخذهم الحسرة، ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار، فيقال: لولا أن منّ الله عليكم" . حدثنا أبو السائب، قال: ثنا معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُجاءُ بالمَوْتِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُوقَفُ بينَ الجَنَّةِ والنَّار كأنَّه كَبْشٌ أمْلَح، ُ قال: فَيُقَالُ: يا أهْلَ الجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرئِبُّونَ وَيَنْظُرُون، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، فَيُقَالُ: يا أهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فيقُولُونَ نَعَمْ هَذَا المَوْتُ، ثُمَّ" ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 117 ( الأعضاء 0 والزوار 117) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |