شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 31 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         طريقة عمل كيك الموز بخطوات ومكونات خفيفة.. حلويات تنفع للعيد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 99 )           »          وصفات طبيعية لتفتيح البشرة قبل عيد الأضحى.. خطوات بسيطة وآمنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 89 )           »          فضائل يومي عرفة والنحر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 113 )           »          حكم تغطية وجه المحرم والمحرمة بالكمامات الطبية وعند النوم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 70 )           »          الظلال الشرفة في الفضائل العشرين ليوم عرفة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 83 )           »          بعض أحكام الأضحية والهدي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 82 )           »          يوم الرحمة والعتق والتجلي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 108 )           »          حتى يكون حجنا مبرورا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 110 )           »          مضامين خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 118 )           »          لغير الحاج.. كيف نستقبل يوم عرفه؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 95 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #301  
قديم 22-05-2024, 12:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (295)

صـــــ(1) إلى صــ(9)

شرح زاد المستقنع -‌‌ باب الخيار [6]
مذهب الحنابلة رحمهم الله من أوسع المذاهب في باب الخيار، ولم يتكلم الفقهاء في مسائل الخيار بالتفصيل والاستيعاب كفقهاء الحنابلة، خاصة وأنهم يقولون بأنواع لا يقول بها غيرهم.
ومن هذه الأنواع: خيار التخبير بالثمن، فما هو هذا الخيار؟ وما هي أحواله وصوره؟ ومتى يقع؟ وما هي البيوع التي يثبت فيها وكيف يثبت؟ هذا ما وضحه الشيخ في هذه المادة

‌‌تعريف خيار التخبير بالثمن وصوره
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [السادس: خيار في البيع بتخبير الثمن متى بان أقل أو أكثر]: ذكر المصنف رحمه الله هذا النوع من الخيار وهو الذي يسمى بخيار التخبير.
والتخبير: تفعيل من الخبر، والخبر لذاته يحتمل الصدق والكذب.
والمراد بهذا الخيار: أن يخبرك البائع بقيمة الشيء المبيع أنه اشتراه بكذا، ثم بعد ذلك يتبين أنه أخطأ أو كذب عليك، فإن تبين صدقه فلا إشكال، وهذا النوع من البيوع في الأصل إنما يقع عند الإخبار بالقيمة.
وبناءً على ذلك: فإن من أراد أن يشتري سلعة ما، فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يقع البيع بالسوم، دون النظر إلى أصل المال الذي اشترى به أو قدر القيمة التي اشترى بها البائع، فلو قال له: بكم تبيعني هذه السيارة؟ قال: بعشرة آلاف، فقال: اشتريت، فحينئذٍ لا إشكال، ولا يبحث في هذا النوع من الخيار؛ لأنه لم يتركب ثمن الصفقة الثانية على الإخبار بالصفقة الأولى.
الحالة الثانية: أن يخبر البائع المشتري بالقيمة التي اشترى بها السلعة، والأصل أن المسلم يجب عليه أن يصدق فيما يقول مطلقاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] فأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتقيه وجعل من التقوى أن نكون من الصادقين، فإذا أخبر المسلم بشيء أياً كان فالواجب عليه من حيث الأصل أن يبين الأمر على حقيقته دون زيادة أو نقص.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا في البيع؛ لأنه يترتب عليه حقوق، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي بين فيه أن بركة البيع مقرونة بوجود هذا الأمر العظيم وهو الصدق فقال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) فبين صلى الله عليه وسلم أن البركة في البيع مقرونة بالصدق، وأن الواجب أن يكون المسلم صادقاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق) أي: الزموه، ومن هنا فالأصل الشرعي أن يصدق البائع.
فهذه الحالة الثانية، وهي أن يقول البائع.
هذه السيارة رأس مالي فيها عشرة آلاف ريال مثلاً، فإذا أخبرك برأس المال، فإن الإخبار برأس المال تترتب عليه أمور مهمة منها: أن المشتري ربما يتفق مع البائع على ربح مبنيا ًعلى رأس المال كما في بيع المرابحة، فيقول له: بكم اشتريت؟ فيقول: بعشرة آلاف، فيقول: أربحك العشر، أي: أنني اشتريها منك بأحد عشر، أو أربحك الخمس، وهذا لا شك أنها زيادة مبنية على الإخبار برأس المال، فيشتريها باثني عشر، ولربما أنقص من رأس المال فقال له: رأس مالي في هذه السيارة عشرة آلاف أسامحك في خُمسها، فأبيعها بثمانية آلاف، فزادت رغبة المشتري في السلعة؛ لأنه يرى أن البائع قد ضحى بكثير وأن السلعة فيها تستحق أكثر مما دفع، فاشترى.
أو قال له: هذه السيارة رأس مالي فيها عشرة آلاف هل تدخل معي شريكاً بالنصف؟ أو هذه الأرض اشتريتها بمائتي ألف هل تدخل معي شريكاً بالنصف؟ فيقول: قبلت، فيدفع له مائة ألف، أو هذه العمارة اشتريتها بمليون، هل تدخل معي شريكاً بالنصف أو الربع؟ وهكذا.
والعلماء يبحثون هذا النوع من الخيار؛ لأن المشتري اشترى بناءً على خبر معين من البائع، وركب على هذا الخبر قيمة الصفقة، وترتب على هذا الخبر الرغبة في الصفقة، فهناك حقوق للمشتري من الإنصاف والعدل أن ترد له إذا ظلم فيها.
وبناءً على هذا: فإنه إذا أخبر البائع المشتري بالقيمة الأولى، فلا يخلو من ضربين: إما أن يخبرك وتبين أنه صادق.
وإما أن يخبرك ويتبين أنه أخطأ: إما عمداً وهو الكاذب والغشاش.
وإما خطأً على سبيل يعذر فيه، بأن كان يظن شيئاً وتبين خلافه، أو كان يظن أنها الصفقة الأخيرة وتبين أنها الصفقة قبل الأخيرة.
إلى آخره.
ففي الضرب الأول من الحالة الثانية: وهو أن يتبين صدق البائع فيما أخبر فلا إشكال، فلو قال لك: اشتريت هذه العمارة بعشرة آلاف، فقلت: أربحك نصفها فأشتريها بخمسة عشر، فلا إشكال إذا تبين أنه اشتراها بعشرة آلاف.
وهكذا لو أنه لم يتبين شيء، فالعلماء لا يبحثون في هذا، وإنما يبحثون فيما إذا تبين الخطأ، فأنت -مثلاً- اشتريت منه العمارة بعشرة آلاف، أو اشتريت منه السيارة بخمسة آلاف، ثم وجدت البائع الأول فقال لك: قد بعتها بأقل مما أخبرك به، فحينئذٍ يكون المشتري قد ظلم في ترغيبه في السلعة، وظلم في القيمة نفسها حيث رتب عليها ربحاً أو نسبة معينة بناءً على القيمة، فإذا ثبت أنه قد كذب أو أخطأ فحينئذٍ يكون للمشتري الخيار.
فاصطلح العلماء على تسمية هذا النوع من الخيار خيار تخبير الثمن

‌‌متى يقع خيار التخبير بالثمن
ثم قال المصنف: [متى بان] أي: اتضح أنه اشترى [بأقل أو أكثر]، وتبين أن هذا الثمن ليس بصحيح.
فإذاً: لو سأل سائل متى يقع الخيار؟ ف

‌‌الجواب
يقع الخيار إذا تبين الخطأ سواء كان مقصوداً كما في حالة الكذب -والعياذ بالله- أو غير مقصود كما في حالة الخطأ، ففي هذه الحالة يبحث العلماء هذا النوع من الخيار.
وهناك مسألة تتبع هذه المسألة وهي: متى يكون من حقك أن تضيف على رأس المال الأصلي أو تسقط منه؟ فأنت قد تشتري الصفقة بمائة ألف، ثم تبين أن هذه الصفقة بها عيب، فأسقط القاضي لك بسبب هذا العيب كأرش عشرين ألفاً، فأنت في الحقيقة اشتريت بمائة، ولكنك برد هذا الأرش إنما دفعت ثمانين، فهل تخبر بالمائة أو تخبر بالثمانين؟ إذاً: هذه مسائل شرعية يبحثها الفقهاء، ومن عادتهم أنهم يرتبون المسائل المتجانسة والمتقاربة والتي تندرج تحت أصل واحد أو يجمعها قاسم مشترك.
فكل هذه المباحث والمسائل التي ستأتينا، إنما هي حول الإخبار بالثمن، وما هو الواجب على المسلم إذا أراد أن ينصف المشتري في إخباره بالثمن، وما الذي تحسبه وما الذي تسقطه؟ فالسيارة -مثلاً- إذا اشتريتها ربما حملتها إليك، أو الطعام إذا اشتريته تحملت تكاليف نقله إليك، فهل تحسب هذه التكاليف مع رأس المال أو لا تحسب؟ فهذه كلها مسائل تحتاج إلى نظر وبحث.
فشروط خيار التخبير: أولاً: أن يخبر البائع المشتري برأس المال: فلا يقع هذا الخيار إذا بت لك البيع وقال لك: هذه العمارة أبيعها لك بمائة ألف، وحينئذٍ فإذا تبين أنه اشتراها بعشرة أو بخمسة أو بمائة، فليس من حقك أن تعترض عليه؛ لأنه لم يخبرك برأس المال، ولم يرتب أرباحه أو استحقاقه على رأس المال، إنما باعك بيع المسلم لأخيه على البت دون ذكر لرأس المال، فإذا اشتريت السلعة بقيمة ورضيت هذه القيمة لقاء السلعة ودفعتها برضاك واختيارك فإنه تلزمك هذه القيمة.
قول المصنف: (متى بان) أي: إذا ثبت أنه قد اشترى بأقل، والإثبات إما بإقرار البائع، كأن يأتي ويقول للقاضي: نعم أنا اشتريتها بثمانين وأخطأت حينما قلت له: بمائة، والإقرار سيد الأدلة كما يقول العلماء؛ لأنه شهادة من الإنسان على نفسه، والأصل أن الإنسان لا يشهد على نفسه بالضرر.
وإما أن يثبت بشاهدين عدلين، كما إذا باعك رجل عمارة بمائة ألف، وقال لك: إنه اشتراها بثمانين ألفاً، فأربحته فيها عشرين، ثم تبين أنه اشتراها بخمسين ألفاً، فأقمت شاهدين عدلين على أنه اشتراها بخمسين ألفاً، فحينئذٍ يثبت القاضي الخيار لك.
فتبين أن الإثبات إما إقرار وإما بشاهدين عدلين، وقد يتوفر شاهد واحد فتتم البينة بيمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد مع اليمين في الحقوق المالية.
مثال ذلك: لو اشتريت من رجل عمارة أخبرك أنه اشتراها بمائة ألف، فأربحته العشر، ودفعت له مائة وعشرة، ثم تبين لك أنه اشتراها بثمانين، فجئت عند القاضي وقلت: إن فلاناً أخبرني أنه اشتراها بمائة ألف، فسأله القاضي قال: نعم أخبرته أنها بمائة ألف، قال: وما الذي تدعي؟ قال المشتري: بل اشتراها بثمانين، فسأله القاضي: هل اشتريتها بثمانين؟ فأنكر وقال: بل اشتريتها بمائة، فقال لك القاضي: أثبت، فأتيت بالبائع الأول الذي باعه وشهد أنه قد باع إليه بثمانين، حينئذٍ تستحق إذا حلفت مع هذا الشاهد يميناً فإن الحقوق المالية تثبت بالشاهد مع اليمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد مع اليمين.
إذاً: قضية (متى بان) تحتاج إلى إثبات إما بإقرار البائع وهذا في حالة الورع، كشخص يبيعك شيئاً، ثم يتبين أنه أخطأ فجاء وقال لك: نعم.
أنا أعترف أنني قد أخطأت في القيمة التي ذكرتها لك.
أو بشاهدين عدلين، أو بشاهد ويمين، أو امرأتان تشهدان بأنه باع بهذه القيمة ويمين، أو أربع نسوة يشهدن بهذه القيمة التي ذكرت.
بناءً على هذا: فمتى بان أنه اشترى بأقل أو أكثر: بأقل كما ذكرنا في المائة والثمانين، أو أكثر، كأن يكون في حال الخطأ، إذا أخطأ البائع وقال: إنه اشتراها بثمانين، فلما رجع إلى حسابه وجد أنه اشتراها بمائة، كما إذا قال لك: هذه العمارة أبيعها لك بمائة ألف، رأس مالي فيها ثمانون، قلت له: اشتريتها منك على أني أربحك عشرين، وهي ربع الثمانين، ثم تبين أنه أخطأ في تقديره وحسابه، وهذا أيضاً على وجه يعذر فيه، وهذا مما يثبت الخيار له

‌‌البيوع التي يثبت فيها خيار التخبير بالثمن
يقول رحمه الله: [ويثبت في التولية]: أي: هذا النوع من الخيار يثبت في التولية.
والتولية: يقال: ولاه الشيء إذا أسند إليه أمره، والمراد بالتولية، أن يقول له: هذه العمارة أو هذه السيارة اشتريتها بكذا والأمر إليك، والعامة اليوم يقولون: رأس مالي كذا والنظر لك، أي: أنت الذي تبت في الأمر، فولى البائع المشتري النظر، فإذا أخبره برأس المال وولاه النظر، فحينئذٍ يكون هذا البيع تولية.
قال رحمه الله: [والشركة]: المصنف هنا يريد أن يثبت محل الخيار، وهذا النوع من الخيار في الأصل لا يقع إلا إذا أخبرك برأس المال، ورأس المال يخبر به في بيع التولية، وفي بيع الشركة، وبيع الشركة: كأن يقول لك: اشتريت أرضاً بمائة ألف، هل تدخل معي شريكاً بالنصف؟ أو اشتريتها بمائتين شاركني في النصف شاركني في الربع وقس على هذا، فيذكر لك رأس المال، ويدخلك شريكاً فيه.
قال رحمه الله: [والمرابحة]: المرابحة مفاعلة من الربح، والربح أصله النماء والزيادة، وقوله: (المرابحة) هذا النوع من البيوع حقيقته أن تشتري الصفقة وبعد أن تثبت ملكيتك على الصفة تعرضها للبيع، فتقول: رأس مالي فيها مائة، كم تربحني؟ فهذا بيع المرابحة الذي تكلم عليه العلماء وسموه بهذا الاسم وبينوا أحكامه وفصلوا ما يتعلق به من المسائل.
أما ما يسمى اليوم ببيع المرابحة في المعاملة الموجودة والشائعة في بعض المؤسسات، من كونه يأتي إلى الشركة أو إلى المؤسسة أو إلى المصرف ويقول له: اشتر لي سيارة من نوع كذا، أو السيارة من فلان، وقسطها عليَّ، وفي بعض الأحيان يذهب العميل ويحضر فواتير السلعة التي يرغب في شرائها، ثم يدفعها إلى البنك، فيقوم البنك بدراستها ثم يشتريها ويبيعها بالأجل على الذي يرغبها من العملاء، فهذا النوع من البيوع لا يعتبر مرابحة وليس في حكم المرابحة أصلاً؛ لأن المرابحة التي تكلم العلماء عليها، تكون في سلعة مملوكة وتحت يد البائع من حيث الأصل، أما هذا النوع من البيوع في العصر الحديث أو الموجود في زماننا هذا، لم يشتر البنك أو المصرف إلا بعد دلالة العميل، فالبنك لا يريد لنفسه، وإنما يريد أن يأخذ زيادة على غرم المال الذي دفعه، فبدل أن يعطي العميل مائة ألف على أن يردها مائة وعشرين، أدخل السلعة حيلة على الزيادة والنماء، ولذلك يعتبر من الربا.
وجه ذلك: أن الشريعة لا تلتفت إلى صورة العقد المفضي إلى الربا، ودليل ذلك بيع العينة، فإنك لو جئت إلى بيع العينة: وهي أن تشتري سيارة بمائة ألف، وهذه السيارة التي اشتريتها بمائة ألف اشتريتها مقسطة على عشرة أشهر -مثلاً- كل شهر تدفع فيه عشرة آلاف، فإذا اشتريت السيارة بمائة ألف، وقال الذي باعك: أنا أشتريها منك نقداً بثمانين، آل الأمر إلى أنه أعطاك الثمانين نقداً بالمائة إلى أجل.
فلو جئت تتأمل بيع العينة الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت صورة البيعين صحيحة، أعني أنه حينما تكون السيارة إلى نهاية السنة تجد أن قيمتها في السوق مائة ألف، فحينما تنظر إلى قيمتها في السوق مائة ألف، فالشريعة لا إشكال أنها تصحح عقداً إلى نهاية السنة على هذه الصورة بمائة ألف.
وأيضاً لو جئت تسأل عن هذه السيارة بالنقد وجدتها بثمانين، فكلا البيعين ليس فيه شبهة من حيث الصورة والشكل، ولذلك فالعلماء لا يعتبرون هذا النوع من البيوع -الذي هو بيع العينة- رباً محضا، ً وإنما يعتبرونه ذريعة إلى الربا، وبيع الذريعة صورته شرعية ولكن حقيقته ومآله إلى المحرم، فأنت إذا تأملت تعيين المشتري للصفقة واختياره لها، بل وأخذه حتى لفواتيرها وذهابه إلى المصرف كأنه يقول للمصرف: أرد لك هذه المائة ألف بزيادة، غير أن المصرف حتى يضمن أن المال ذهب في مكانه أعطاه لصاحب السلعة، بدل أن يعطيه بيده أعطاه إلى صاحب السلعة.
وأعجب من هذا وأغرب أن يكون هناك اتفاق بين المصرف والمؤسسة أنه إذا رجع الزبون أنه ترد له سلعته، فإذا رجع وغير رأيه ردوا السلعة إليه.
فإذاً: لا إشكال أن هذا النوع أولاً ليس بمرابحة حقيقة؛ لأن المرابحة يملك فيها السلعة ويحوزها وحينئذٍ تكون يده يد ملكية، فإذا جاء يشتري إلى أجل فالبيع إلى أجل متمحض وليس فيه أي شبهة؛ لكن في بيع الصورة المحرمة التي ذكرناها لم يشتر البنك ولم يشتر المصرف إلا بإيعاز من العميل، وبدل أن يأخذ العميل المال الذي هو المائة ألف نقداً ويردها مائة وعشرة، لأنه الربا المحض، أدخلا الصفقة احتيالاً على هذا المحرم.
ومن هنا كان ابن عباس رضي الله عنه يرى أن تحريم بيع الطعام قبل قبضه بشبهة الربا؛ لأنه إذا اشترى الطعام بمائة ألف حاضرة، ودفع المائة ألف، ولم يقبضه ولم يأخذه ثم باعه في نفس المكان إلى شخص آخر، كأنه يدفع المائة ويأخذ مائة وعشرة، وهذا كله من العلماء إلغاء للصورة ورجوع إلى الحقيقة؛ فلما كانت الصورة صورة بيع، ولكن في الحقيقة أن البنك لم يأخذ السلعة له ولم يردها له، وإنما أخذها بإيعاز من المشتري وطلب منه، ولا إشكال أن هذا من باب دفع المال بالزيادة، إلا أنه بدل أن يعطيه للمشتري وللعميل، قام بإعطاء الطرف الثاني وهو صاحب السلعة المرغوب في شرائها.
قال رحمه الله: [والمواضعة]: المواضعة مفاعلة من الوضع، والوضع الطرح، ولذلك يسمى هذا النوع من البيع (بيع الحطيطة)، يقال: حط من الثمن إذا انتقص منه، والمواضعة عكس المرابحة كأن يقول لك: اشتريتها بمائة ألف أضع عنك الربع، بمعنى أنني أبيعها لك بخمسة وسبعين، أو اشتريتها بمائة أضع عنك خمسها، أي: أبيعها لك بثمانين، وقس على هذا.
قال رحمه الله: [ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال]: أي: من اللازم في هذه البيوعات كلها معرفة المشتري لرأس المال؛ لأنه لا يستطيع أن يطالب بحقه الذي ظلم فيه في هذا البيع إلا إذا علم أن البائع قد اشترى بأقل، فإذا ثبت عنده أو أثبت عند القاضي أن البائع اشترى بأقل، حق له الخيار، وحينئذٍ يثبت له أن يطالب بالصفة التي سيبينها المصنف رحمه الله

‌‌صور يثبت فيها خيار التخبير بالثمن
قال رحمه الله: [وإن اشترى بثمن مؤجل، أو ممن لا تقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنه حيلة، أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن، ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن، فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد]: قوله رحمه الله: [وإن اشترى بثمن مؤجل]: أي: بأن اشترى البائع السلعة بثمن إلى أجل، وجئت تشتري منه فأخبرك بالثمن، ولم يقل لك: مؤجلاً.
وذلك لأن القيمة المعجلة ليست كالقيمة المؤجلة، فمثلاً: أنت جئت تريد أن تشتري منه العمارة، قال لك: هذه العمارة اشتريتها بمائتي ألف، وقيمتها في الحقيقة مائة ألف، لكنه اشتراها بمائتي ألف مقسطة، ومن المعلوم أن بيع التقسيط أغلى من بيع النقد، فلما قال: اشتريتها بمائتي ألف وسكت فإن سكوته يقتضي أنه اشترى بالنقد؛ لأن الأصل في البيوعات أن تكون نقداً، فإذا قال لك: اشتريتها بمائتي ألف، وأبيعها بمائة ألف، الذي هو بيع المواضعة، أضع لك نصف القيمة، فحينئذٍ يكون قد ظلمك، وذلك يوهمك أنه قد حط عنك مائة ألف، وهو في الحقيقة لم يحط عنك هذا المبلغ وإنما حط عنك نصفه، وهو خمسون ألفاً، وعلى هذا فإذا قال لك: اشتريتها بمائتي ألف أو بأربعمائة ألف وهو اشتراها بثمنٍ مؤجل فإنه يكون من حقك الخيار؛ لأنه ختلك بذكر القيمة مطلقة، وهي منصرفة إلى النقد، وحقيقة البيع الذي ابتاع به أنه إلى أجل.
وقوله: [أو ممن لا تقبل شهادته له]: كأن اشترى العمارة ممن لا تصح شهادته له؛ لأن هناك مستثنيات من الشهادة لا يقبل فيها الشاهد ولو كان عدلاً، وهذا مبني على التهمة، ومن هذه الشهادات شهادة الأصل للفرع والفرع للأصل، فلو قال لك: اشتريتها بمائة ألف، وكان قد اشتراها من أبيه، أو اشتراها من ابنه، فحينئذٍ لا يوثق بهذا الخبر ولا يوثق بشهادة الابن لأبيه ولا بشهادة الأب لابنه.
والسبب في هذا: أن شهادة الابن لأبيه وشهادة الأب لابنه فيها إجماع على عدم القبول عند المتأخرين من العلماء رحمهم الله، لكنَّ أهل العلم لما أجمعوا على عدم قبول شهادة الابن لأبيه والأب لابنه اختلفوا في سبب منع هذه الشهادة، فبعض أهل العلم يقول: هذه الشهادة في أصل الشرع غير مقبولة، وعلل ذلك ودلل له بدليل من السنة ودليل من النظر، أما دليله من السنة فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين-: (إنما فاطمة بضعة مني) فقوله: (بضعة) أي: قطعة وبضعة الشيء قطعة منه، وإذا كانت فاطمة رضي الله عنها قطعة من أبيها، فمعناه أن الابن والولد قطعة من والده، فإذا كان الولد قطعة من والده، فإذا شهد له فكأنما يشهد لنفسه، والعكس إذا شهد الوالد لولده كأنه يشهد لنفسه، ومن هنا لم تقبل شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده.
ثم أيضاً هناك دليل ثانٍ وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) وهو حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله: (وإن أولادكم من كسبكم) جعل فيه الولد من كسب والده وكأنه راجع إليه، فإذا شهد له كان بمثابة الشاهد لنفسه.
أيضاً هناك دليل من النظر: وهو أن الولد والوالد كل منهما تغلبه عاطفة القرابة، والشهادة إنما قبلت من صاحبها لغلبة الظن بالصدق، وإذا غلب على الظن خلاف الصدق، واتهم الشاهد، كان موجباً للرد، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وصححه غير واحد من العلماء: (لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين)، و (الضنين): المتهم، كقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] أي: متهم.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين) دل على أن الشهادة في الرد مبناة على التهم، فإذا شهد الوالد لولده والولد لوالده، فإنه هنا تهمة قوية، ولذلك قالوا: إن هذه الشهادة من حيث الأصل لا تقبل.
وبعض العلماء يقول: شهادة الوالد لولده والولد لوالده في الأصل كانت مقبولة، ولكن نظراً لاختلاف الزمان وتغير الزمان تغيرت الفتوى، فكان السلف يقبلونها ثم ردت، وهذا يروى عن الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، إمام السنة في زمانه رحمه الله، يقول: إن السلف كانوا يقبلون شهادة الولد لوالده، والوالد لولده، وقصة علي رضي الله عنه كانت أصلاً عندهم، وهي ترد هذا الذي ذكره الإمام الزهري رحمه الله، وتقوي القول الأول، خاصة وأن السنة تقوي أن الولد من والده.
وسواء قلنا: إنها مردودة بالشرع وهو الصحيح، أو قلنا: إنها مردودة بالإجماع وهو المرجوح، فالمهم أنها لا تقبل لا شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده.
لكن لو شهد الولد على والده، أو شهد الوالد على ولده، فحينئذٍ تكون الشهادة مقبولة؛ لأن هذا لا يكون إلا عن حمية للدين وصدق، خاصة إذا عرف الولد بالصدق والأمانة والعدالة، وكذلك الوالد، فإن المسلم الصادق لا تأخذه في الله لومة لائم، ومن كمال الإيمان أن يكون الإنسان قائماً بالقسط، فيشهد ولو على أقرب الناس إليه.
فبناءً على هذا: شهادة الولد لوالده، والوالد لولده فيها تهمة، فلو أنه أخبرك بالثمن واشترى ممن لا تقبل شهادته له، فحينئذٍ يكون لك الخيار.
والسبب أننا لا نستطيع أن نتوصل إلى حقيقة القيمة، لوجود الشبهة في صدقه فيما قال وفيما أخبر به، ولذلك يعتبر من موجبات الخيار على الوجه الذي ذكره المصنف رحمه الله.
قال رحمه الله: [أو بأكثر من ثمنه حيلة]: أي: أو اشترى بأكثر من ثمنه حيلة.
رحمة الله على العلماء، إن من لذة الفقه أنك قد تقرأ المسائل هكذا فتشعر بالسآمة والملل، لكن إذا أردت أن تبحث عن العلل والأسباب وجدت أنهم يرتبون هذه العلل ترتيباً دقيقاً، فهم يبحثون عن شيء يوجب الخيار، وتحصل به التهمة، ويبحثون عن إنصاف المشتري من البائع، وأيضاً إنصاف البائع من المشتري؛ لأن البائع ما جاءك إلا للعدل، ولا بنيت هذه الشريعة إلا على العدل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] فالله عز وجل حكم بهذه الشريعة للعدل.
فالمسألة عندنا هنا يكون فيها صدق في الظاهر وحيلة في الباطن، ولما ذكر المصنف رحمه الله القاعدة: (أن يشتري بأكثر حيلة)، ذكر ضابطاً، وهذا له صور وله أمثلة، لكن من أشهرها أن يأتي رجل إلى شخص يحبه كأخيه وقريبه، أو ابن عمه، أو ابن خاله، ويقول له: أشتري منك عمارتك هذه بمائة ألف، والعمارة في الحقيقة تستحق ثمانين ألفاً، وهو يضع في ذهنه أنه سيبيعها مرابحة ولكنه يحتال على المرابحة فيخبر بصدقٍ حقيقتهُ الخداع والغش، فيأتي إلى هذا القريب ويقول له: ما رأيك يا فلان! لو تبيعني عمارتك بمائة ألف، والعمارة قيمتها ثمانون ألفاً، وبطبيعة الحال قد يعلم أن القريب يريد أن يبيع أو لا يريد أن يبيع، لكن القريب بمجرد أن يعلم هذا السعر المغري سيوافق، فاشترى منه العمارة بمائة ألف، هذه العمارة وضعها في الحسبان أنه سيبيعها مرابحة، فجاءه المشتري وقال له: بكم اشتريت هذه العمارة؟ قال: رأس مالي فيها مائة ألف، فهو صادق ولم يكذب؛ لكنه في الحقيقة ختل المشتري وخدعه، وفي الحقيقة كان يبني على ما يرجوه من الزيادة والنماء على طريقة كسب مودة القريب، وأيضاً كسب الربح من الغريب، فهو ينفع القريب بالزيادة التي سيعطيها، وأيضاً ينتفع من الغريب بما يخبره وهو صادق في الظاهر، ولكنه غشاش أو كذاب في الحقيقة؛ لأنه لا يريد أن يخبره أن قيمة السلعة ثمانون ألفاً، ولكنه زاد العشرين من أجل أن يكسب نماء المرابحة، ويثبت هذا عند القاضي بالقرائن.
وهذه الصورة مشكلة، فإذا أقر على نفسه فلا إشكال؛ لأن هذا يوجب الخيار، فلو جاء عند القاضي وتاب إلى الله عز وجل، وقال: نعم أنا اشتريت من أخي هذه العمارة، أو اشتريتها من ابن عمي وأعطيته مائة ألف، وأنا أريد أن أبيعها على فلان مرابحة بمائة وخمسين، حينئذٍ إذا ثبت عند القاضي هذا أثبت به الخيار، لكن لو أنه أنكر، وامتنع أن يثبت أنه قصد ختل المشتري فحينئذٍ يصعب على المشتري أن يثبت ذلك؛ لكن يثبت بالقرائن، فيسأل أهل الخبرة، فإذا سأل أهل الخبرة ووجد أن قيمة هذه العمارة في الحقيقة خمسون ألفاً، ووجد أنه اشتراها من قريبه بسبعين ألفاً، أو بثمانين أو بمائة، عند ذلك نعلم أن هناك محاباة وأن هناك قصداً بإدخال النفع إلى القريب، فمن حق القاضي أن يثبت الخيار بشهادة أهل الخبرة في مثل هذا.
قال رحمه الله: [أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن]: وهذه كلها صور عجيبة جداً تبين كيف كان العلماء رحمهم الله يعيشون حال الناس ويدخلون إلى أسواقهم، بحيث يدققون في كيفية خداع البائع للمشتري، فهذه الصورة تستغرب كيف استطاع البائع أن يختل المشتري ويخدعه بذكر قسط الثمن الذي فيه غرر في بيع المرابحة.
صورة المسألة: أن يشتري ثلاثة أشياء والمسألة هذه لا تقع إلا في أشياء متعددة، كأن يشتري سيارتين، أو عمارتين، أو قطعتين من الأرض، ويبيع إحدى القطعتين ويخبر المشتري على أنها نسبة من أصل البيع، فيجعل المرابحة على أصل الثمن.
فمثلاً: اشترى ثلاث سيارات: السيارة الأولى قيمتها أربعون، والسيارة الثانية قيمتها عشرون، والسيارة الثالثة قيمتها ثلاثون، أصبحت القيمة تسعين ألفاً، فيقول: رأس مالي في هذه السيارات الثلاث تسعون ألفاً، ويبيع إحدى السيارات التي هي -مثلاً- بعشرين، بربح، فإذا جاء المشتري وضع في حسبانه أن الباقي يعادل الثلثين، وأن السيارة التي بيعت بيعت على أنها بثلاثين، وحظها من أصل القيمة ثلاثون، فباعها بالربح ثم أخذ أيضاً فضل الربح فيما بقي.
صورة ثانية: اشترى ثلاث قطع من الأراضي، فلو فرضنا أنه اشتراها بستين ألفاً، وكانت قيمة القطعة الأولى: أربعين ألفاً، والقطعة الثانية: عشرة، والقطعة الثالثة: عشرة ثم يبيع الأغلى والأنفس والتي قيمتها أربعون، وتبقى له قطعتان قيمتهما عشرون ألفاً، فيأتي ويقول: هذه الصفقة قيمتها ستون ألفاً بعت منها قطعة، كم تربحني في القطعتين؟ فيتوهم المشتري أن القطعتين الباقيتين قيمتهما الأساسية أربعون ألفاً نمثل بال

يتبع





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #302  
قديم 22-05-2024, 12:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

‌‌ما يلحق برأس المال ويخبر به وما لا يلحق
قال رحمه الله: [وما يزاد في ثمن، أو يحط منه في مدة خيار، أو يؤخذ أرشاً لعيب، أو جناية عليه، يلحق برأس ماله ويخبر به]: قوله: رحمه الله: [وما يزاد في ثمن]: أي: في مدة الخيار، وهذا يقع في خيار المجلس، وقد يقع في خيار الشرط، لكنه يقع في خيار المجلس وجهاً واحداً من جهة أن من حق المشتري أن يرجع، وذلك أنه إذا اتفق معه على أن القيمة الأولى لا تكفي فرضي أن يزيد فلا إشكال.
صورة المسألة: كنت مع رجل فقال لك: عندي عمارة أبيعها لك بمائة ألف، فوصف لك العمارة وصفاً كاملاً، أو قال لك: عمارتي التي تعرفها في المكان الفلاني أو في الشارع الفلاني، أبيعها بمائة ألف، فقلت له: قبلت -وقد بينّا فيما مضى أنه ما دام البائع والمشتري في مجلس واحد، فهما بالخيار -ففي أثناء المجلس قال لك: رجعت عن المائة ألف أريد عشرين زيادة، فإما أن تعطيني عشرين أو فسخت، فقلت له: هذه عشرون، أو من باب حثه على أن يمضي البيع، قلت له: رضيت أن أزيدك عشرين ألفاً.
فهذه الزيادة التي طرأت على أصل العقد، قد يخبر البائع الثاني المشتري بالقيمة المحصلة فيقول: هذه العمارة اشتريتها بمائة وعشرين، وهو في الحقيقة اشتراها بمائة، والعشرون قد زادها في مجلس العقد، وهذه العشرون التي زادها فيها شبهة، فربما زادها بسبب ضغط البائع لعلمه بجهل هذا المشتري، فحينئذٍ ينبغي أن يخبر بحقيقة هذه العشرين، فيقول: أنا اشتريت بمائة، وكنا في مجلس العقد فألزمني بعشرين، فرضيت بها، فهذا الرضا يحتمل أني أنا رضيت من باب أنني أرغب في هذه العمارة لمصلحتي الخاصة، وربما أنني أرغبها لشيء في ذلك الزمن، فزدت العشرين لا لمصلحة البيع، وليس من أجل البيع.
وذلك حتى يكون من حق المشتري الثاني النظر فإن شاء اعتبر القيمة على وجهها، وإن شاء نكص وامتنع من الشراء.
إذاً: إذا زاده وهو في حال الخيار في القيمة أو انتقص منها، كان من حق المشتري أن يعلم بذلك ويجب على البائع أن يعلمه بذلك.
قوله رحمه الله: [أو يحط منه في مدة خيار، أو يؤخذ أرشاًَ لعيب]: [أو يؤخذ أرشاً لعيب]: لو أنه اشترى العمارة بمائة ألف، وجاء وقال لك: هذه العمارة رأس مالي فيها مائة ألف، وهو صادق أن العمارة بيعت بمائة ألف؛ ولكنه في الحقيقة وجد في العمارة عيباً، وهذا العيب يحط من المائة عشرين، فلو قال لك: أنا اشتريتها بمائة ألف فهو صادق أنه اشتراها بمائة ألف، ولكن العيب الذي وجد في العمارة حط الثمن إلى ثمانين، فيجب أن يخبرك أن هناك عيباً أخذ به أرشاً وهي العشرون، لكي تصبح الحقيقة أنه اشترى بثمانين، فلو قال لك: اشتريت بمائة وسكت عن الأرش، وثبت ذلك عند القاضي، فإن هذا يثبت الخيار للمشتري.
قال رحمه الله: [أو جناية عليه]: أي: جناية على المبيع، فإن المبيع إذا جني عليه خاصة إذا كان في مدة الخيار فإنه ينقص من القيمة، فمثلاً: اشترى سيارة بمائة ألف، فصدمها شخص وهي واقفة، ولما صدمها ضمن التلف الذي أحدثه فيها، فأعطى صاحبها أرشاً، فأخذها وأصلحها ثم قال: هذه السيارة رأس مالي فيها كذا، أو جاء بها بوضعها الراهن، وهي مصدومة، وقال لك: هذه السيارة اشتريتها بمائة ألف، فهو صادق أنه اشتراها بمائة ألف، لكن هذا العيب الموجود فيها، والذي طرأ فأنقص القيمة وكان فيها الأرش، فكأن السيارة اشتريت بمائة ألف، والأرش قيمته عشرون ألفاً، فمعناه أنه تكلف في السيارة ثمانون ألفاً، وأن القيمة الحقيقية لهذه السيارة بعد الأرش إنما هي الثمانون.
وبناءً على ذلك: فكأن أحكام هذا النوع من الخيارات تدور حول مسألة الحقيقة، وأنه لا يجوز أن يستفضل البائع عن طريق المرابحة أو طريق التولية أو طريق المواضعة شيئاً زائداً عن حقه، وكل المراد أن يصل هذا إلى حقه، وكما قررنا في الأول، أنها قائمة على العدل، بحيث يأخذ البائع حقه والمشتري حقه.
قال رحمه الله: [يلحق برأس ماله ويخبر به]: أي: يلحق برأس ماله ويقول: نعم أنا اشتريت هذه السيارة بمائة ألف، ووجدت فيها عيباً فرد لي القاضي أرشاً لقاء هذا العيب عشرين ألفاً، أو رد لي أرشاً لقاء هذا العيب عشرة آلاف، وقس على هذا.
قال رحمه الله: [وإن كان بعد لزوم البيع لم يلحق به]: لأنه بعد لزوم البيع من ضمان المشتري إنما يكون في مدة الخيار، ويقع هذا كما ذكرنا في خيار الشرط على أصح الأوجه فإذا قال: إذا قال: لي الخيار ثلاثة أيام، ثم وقع حادث سيارة بالنقص خلال الثلاثة أيام، فلا بد من العلم بالنقص، وفي ظاهر هذه العبارة أنه لو طرأ النقص بعد العقد أو بعد تمام العقد أنه لا يخبر، مع أن هناك صوراً ينبغي فيها الإخبار والتي تسمى بصور الزيادة وصور النقص، ففي بعض هذه الصور يجب عليه أن يخبر.
من أمثلة ذلك: لو اشترى دابة وهي سمينة بمائة، ثم أخذها فاعتلت وتغيرت وجاءها النقص من جهة مرض أو من جهة سوء تدبير، أما الأصل أن قيمتها مائة، فإذا جاء وقال: رأس مالي فيها مائة، فرأس ماله فيها بمائة حينما كانت كاملة صحيحة، لكن هذا النقص ولو كان طارئاً بعد لزوم البيع، فينبغي أن يخبر به، وأن يقول: هذا النقص طرأ عنده.
وأشار في الشرح أنه ليس هناك خلاف بين أهل العلم رحمهم الله أنه ينبغي أن يخبر في هذه الحالة، كنقص الأمراض ونقص العيوب التي تطرأ بعد لزوم البيع، ولا يجوز له في هذه الحالة أن يسند الثمن الأصلي إلى الأول دون أن يكشف حقيقة الأمر؛ لأنه بعد وجود هذا العيب، الصفقة في حقيقتها تستحق ما دون رأس المال المذكور، فلو قال له: أنا اشتريت هذه الدابة بمائة، فقد ظلمه؛ لأنه اشتراها كاملة وهي في حالها حين البيع الثاني ناقصة، فيكون فيه ختل للمشتري الثاني، فيجب عليه أن يخبره.
كذلك مما يلتحق بهذا ما ذكره بعض العلماء: وهي الزيادة المنفصلة، كأن يشتري ناقة عشراء، بمائة، وتلد بعد ذلك، فيأتي المشتري ويقول: كم رأس مالك؟ فيقول: مائة، وهو صادق أنه اشتراها بمائة؛ لكنه اشتراها بمائة وهي حامل، فمثل هذا يشدد فيه طائفة من العلماء ويقولون: يجب عليه أن يبينه على حقيقته، حتى لا يختل المشتري بثمن زائد عن استحقاق السلعة.
قال رحمه الله: [وإن أخبر بالحال فحسن]: هذا بالنسبة لمسألة الزيادة التي تطرأ بعد لزوم البيع؛ ومن أمثلة الاستحقاقات التي تكون بعد لزوم البيع: أن تكون الزيادة لقاء كلفة ومشقة، مثل أن يقول: بكم هذه السلعة من الطعام؟ قال: بمائة، قال: أريد أن تصل إلى بيتي، فيقول: فلان يحملها لك بعشرة، فتم البيع على مائة، ويكون عقد الإجارة بعد لزوم البيع، فهو ليس راجعاً إلى البيع وليس بأساس البيع، فحينئذٍ يخبر ويقول: هذه السلعة اشتريتها بمائة، ولكنها كلفتني مائة وعشرة، فإني جلبتها إلى مخازني أو حفظتها في مخازني فكلفني هذا عشرة آلاف، فأصبح رأس مالي فيها من القيمة ورأس مالي فيها من التعب والعناء مائة وعشرة


‌‌الأسئلة

‌‌يمين القضاء ومستندها

‌‌السؤال
مر معنا أن المشتري إذا ادعى عند القاضي أن البائع اشترى السلعة بأقل مما ذكر له، فأقام المشتري شاهداً واحداً وهو البائع الأول مع يمينه أنه يستحق الخيار، والسؤال: ما هو المستند الذي يستند إليه المشتري حتى يحلف على ذلك؟ أثابكم الله.


‌‌الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: هذه المسألة وهذا السؤال يرجع إلى قضية الحلف بيمين القضاء، ويمين القضاء هي من أعظم الأيمان التي شدد الشرع فيها، والسبب في هذا: أنها تقتطع بها الحقوق، وهي أيمان عظيمة، ومن حلف يميناً في القضاء كاذباً، لقي الله وهو عليه غضبان، ومن حلف يميناً ليقتطع بها مال امرئ مسلم لم يزده الله بها إلا فقراً وضيعاً، فهي يمين غموس تغمس صاحبها في النار، وهي اليمين التي تسمى بيمين الصبر، وقد جاء في قصة الكندي والحضرمي لما اختصما في البئر وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس لك إلا يمينه قال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه، فقال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، قال: من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهو كاذب لقي الله وهو عليه غضبان) نسأل الله السلامة والعافية! ومن لقي الله وهو عليه غضبان فقد هوى، قال تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] فمن أعظم ما يكون أن يجرؤ على أن يحلف بالله في القضاء على أن هذا حقيقته كذا، وعلى أن هذا الأمر صورته كذا، والواقع أنه كاذب، أو يحلف إذا قيل له: احلف على أنك ما فعلت، فحلف.
وكانوا يقولون: إن من السنن التي وجدوها بالاستقراء والتتبع، أن من حلف يمين القضاء لا يمر عليه الحول وهو بخير، نسأل الله السلامة والعافية!! فإن كان صاحب التجارة فإن الله يمحق البركة من تجارته، وقد يبتليه الله في عافيته، وقد يبتليه الله سبحانه وتعالى في ماله، ومما كان يحدث به كبار السن أن من أغضب الله عز وجل في شيء ظهرت السنن والدلائل على أن الله يؤاخذه ببلاء، وهذا مما يزجر الناس ويمنع الناس؛ لأن السيئة تسيء إلى صاحبها في الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية! فكانوا يقولون: من يحلف اليمين الفاجرة متعمداً، أي: وهو يعلم أنه كاذب فيها، فالغالب أنه لا يسلم.
ومن أشدها أيمان القسامة التي تكون على الدم، وأصل الأيمان في القسامة أنهم لما حلفوا في الجاهلية في قصة الرجل الذي قتل بمكة، فجاء أولياؤه إلى عبد المطلب وطالبوه، فقسم الأيمان على خمسين من أقرباء المدعى عليه أنه قاتل، فكان منها يمين يتعلق بيتيم، فجاء وليه ودفع حظه من الدية، ثم حلف التسعة والأربعون أيمانهم، وكان الرجل هو القاتل، وكانوا يعلمون أنه قاتل، فحلفوا اليمين الفاجرة، فما مر عليهم الحول وفيهم عين تطرف، وهذا ذكره العلماء رحمهم الله في سبب مشروعية القسامة، وهي من قضاء الجاهلية الذي أبقاه الإسلام، لما فيه من تعظيم الحرمات وزجر الناس عن الدماء والاعتداء على الحقوق.
الشاهد: يبقى الإشكال الآن إذا كنا في مسألة المرابحة نقول: إنه يحلف المشتري مع شاهده الذي يقيمه، أي: على أي شيء يستند في حلفه؟ فإن كان قد اطلع بنفسه ورأى الصفقة وتذكرها أو تذكر أنه حضر وأن هذه الصفقة التي كانت في المجلس الفلاني بين فلان وفلان هي على عمارته التي اشتراها الآن، فتذكر ذلك، فهذا يسمونه الحلف على العلم واليقين، أن تحلف على علم ويقين، وبالإجماع يجوز لك هذا الحلف.
النوع الثاني: الحلف على غالب الظن، والحلف على غالب الظن، للعلماء فيه قولان: والمذهب الصحيح أنه يجوز لك أن تحلف على غالب ظنك، فإذا وجدت قرائن ودلائل أو وجدت وثائق كتابية لم يقتنع بها القاضي، وأنت على غالب الظن مقتنع بها، وتعرف خط الرجل أو أخذتها من خزينة الرجل، أو أخذتها من يد الرجل، أو اطلعت على ذلك عن طريق قرائن ممن يعلم معه، ولا يستطيعون أن يشهدوا مخافة منه، وشهدوا عندك وأنت تعلم أنهم صادقون، هذه كلها قرائن تقوي غلبة ظنك بصدقهم، فإذا غلب على ظنك هذا كان من حقك أن تحلف، والحلف على غالب الظن ليس بيمين غموس، ولذلك قال العلماء: لو أن رجلاً أعطاك ألف ريال ديناً ثم غلب على ظنك أنك رددتها، فقال لك: لم تردها، وأنت لا تستطيع أن تجزم، لكن غلب على ظنك أنك رددتها، فيجوز لك أن تحلف بالله إذا أنكر ذلك.
وهكذا لو أنك ادعيت على رجل مالاً، أعطيته هذا المال ثم طالبته فادعى الرد، وأنت على غالب ظنك أنه لم يرد، فيجوز لك أن تحلف على أنك لم تستلم ولم تأخذ، إذا غلب على ظنك ذلك.
الشاهد: أن اليمين التي يسأل عنها، يمكن أن يحلفها الخصم بناء على غالب الظن، وهذا على أصح قولي العلماء رحمهم الله، وينسب بعض العلماء إلى جمهور أهل العلم أن الحلف على غالب الظن لا بأس به وليس فيه حرج، ولكن الورع ألا يحلف إلا على مثل الشمس، فإذا أراد أن يسلم له دينه وأن يحفظ دينه وأن يبارك الله له في ماله، فلا يحلف إلا على شيء كالشمس، وإلا ترك وعوضه الله عز وجل خيراً مما فقد، والله تعالى أعلم


‌‌حكم الإجارة بجزء من العمل

‌‌السؤال
من أراد أن يبيع أرضاً بمائة فقال له آخر: أبيعها لك بمائة وعشرين، وسأخبر المشتري أن صاحب الأرض يريد مائة وعشرين، وتم البيع فأعطى البائع مائة، وأخذ هو العشرين إلى جانب نسبته من المشتري، فهل هذا يصح، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
هذه المسألة فيها أكثر من سؤال: أولاً: بالنسبة للمالك الحقيقي للأرض إذا قال لك: بعها بمائة، فإنك تراعي حقوق إخوانك المسلمين، خاصة إذا وجدت أنهم يحتاجون إلى هذه الأراضي، أو أن الأشخاص الذين سيشترون منك أشخاص يعوزهم المال، فعليك أن تتقي الله، فهذا من النصيحة لعامة المسلمين.
ولا ينبغي للإنسان أن يكون كثير الجشع كثير الطمع دون أن ينظر إلى حقوق إخوانه وحوائجهم، ولو فعل غيره به ذلك لما رضي بهذا، والمسلم يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، ويكره لإخوانه ما يكره لنفسه، فلا ينبغي له أن يبالغ بالأرباح مع إمكان البيع بالأقل.
ثانياً: إذا قال له: أنا أبيع لك هذه الأرض بمائة وعشرين، وآخذ عشرين من المائة، فهذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة (قفيز الطحان) وضابطها الاستئجار بجزء من العمل، فإن العشرين سيأخذها من عمله، والإجارة يمنع بعض العلماء أن يستأجر الأجير بجزء من عمله؛ لكن الصحيح أن فيها تفصيلاً، فإن قوي وكثر الغرر حرم هذا النوع من الإيجارات، وإن قل الغرر وكان يسيراً، فإنه يجوز.
من أمثلة ما كان فيها غرر كثير أن يقول له: اذبح لي هذه الشاة وخذ جلدها، فإن هذا الغرر فيه كبير، لأننا لا ندري هل الجلد ثخين، أو رقيق؟ ولا ندري هل يخرج سالماً أو معيباً؟ لأنه ربما قده أثناء سلخ الشاة، فإذا استأجره بجزء من عمله مع جهالة أو غرر أكبر فلا يجوز، لكن لو كان مثل أن يحدد له قيمة، يقول له: بعها بمائة وعشرين ولك عشرون جاز.
إذا قلنا بجوازها صح له حينئذٍ أن يبيعها بمائة وعشرين، والأفضل أن يتقي الله في إخوانه، وألا يجعل أرباحه الخاصة على وجه الإضرار بالسوق.
تبقى مسألة نسبة السمسرة، ونسبة السمسرة أن يقول له: أبيع لك هذه العمارة أو أبيع لك هذه الأرض، وآخذ (6%)، أو (7%)، أو (2%)، أو (2.
5%) أو (5%) وهذه المسألة لها صور، ففي بعض الأحيان لا يصح أن يقول له: أبيعها وآخذ نسبة كذا منها، لأننا لا ندري بكم يبيع، فتصبح النسبة فيها جهالة، فلو قال له: بع هذه العمارة وخذ ثمن دلالتك (السمسرة) (10%)، فلا ندري هل يبيعها بمائة ألف، أو بمائتين، فإذا باعها بمائة كانت الـ (10%) عشرة آلاف، وإذا باعها بمائتين، تكون الـ (10%) عشرين، فأصبحت الإجارة مجهولة والأجرة مجهولة، ولا تصح الإجارة بمجهول بالإجماع.
الحالة الثانية: أن يحدد له القيمة ويقول له: بعها بمائة ألف، ولك (5%) و (10%) فهذا جائز؛ لأن النسبة معلومة والقدر معلوم، والغرر مندفع بما ذكرناه، من أنه آيل إلى العلم، ولا إشكال في جواز هذه الصورة إن شاء الله.
المسألة الثالثة: أن تصبح السمسرة فريضة على كل من جاء إلى المكتب، بحيث يكون ملزماً بدفع هذا المبلغ سمسرة ودلالة بناءً على الورق الذي يدفعه، فهذا لا يجوز، وهذا من أكل المال بالباطل؛ لأن السمسرة دلالة المشتري وهي من باب الجعل، وليس من حقه أن يطالبه بالسمسرة ولم يقم بشيء، كأن تأتي بالزبون الذي يريد أن يشتري فيقول لك: ما دمت أنك وضعته عندي في المكتب فعليك تدفع كذا وكذا، فهذا ليس من حقه؛ لأنك إنما وضعته في المكتب حتى يأتي بالمشتري، لكن إذا جئت بالمشتري بنفسك فإنه ليس من حقه أن يأخذ من المشتري ولا من حقه أن يأخذ من البائع؛ لأن هذا مالي، أبيعه إلى من شئت بما شئت، وكيف شئت، فإذا جاء وقال في هذه الحالة: يجب عليك أن تدفع هذه النسبة أو تدفع هذا القدر، فإنه يكون من أكل أموال الناس بالباطل.
وآخر دعوانا أَن الحَمد لله رب العالمينَ.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #303  
قديم 22-05-2024, 12:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (296)

صـــــ(1) إلى صــ(12)


شرح زاد المستقنع -‌‌ باب الخيار [7]
من أنواع الخيار: خيار لاختلاف المتبايعين.
والخلاف إما أن يقع في قدر الثمن، أو في صفة المبيع، أو في صفة عقد البيع، وإذا وقع الخلاف فإما أن يعتبر قول البائع وإما أن يعتبر قول المشتري أو يسقط القولان أو يتحالفا، وإذا تحالفا فحينئذٍ يكون الفسخ.
ولهذا الخيار مسائل مهمة، وله أحوال وصور ينبغي معرفتها والاطلاع عليها
‌‌الخيار لأجل اختلاف المتبايعين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [السابع: خيار لاختلاف المتبايعين] أي: النوع السابع من أنواع الخيار خيار يقع لعلة اختلاف المتبايعين.
والسبب في ذلك: أن المتبايعين إذا وقع بينهما خلاف إما في قدر الثمن، أو في صفة المبيع، أو في صفة عقد البيع، فإنه في هذه الحالة لا بد من الفصل بينهما، فإما أن يعتبر قول البائع وإما أن يعتبر قول المشتري، وإما أن يسقط القولان، أو يتحالفا فيكون لكل واحد منهما فسخ البيع.
ونظراً لوجود التخيير في حال الحلف أو في حال سقوط القولين، فإنه من المناسب أن يذكر هذا في باب الخيار، ومن المعلوم أن البيع يفتقر للإلزام به إلى رضا الطرفين، فإذا تراضى الطرفان على بيع السلعة وشرائها بثمن معين، فقد لزم البيع للباذل وهو البائع، ولزم البيع للمشتري وهو الآخذ.
وعلى ذلك لا يكون لأحدهما خيار بناءً على الأصل، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فالأصل أنه إذا بيعت السلعة فأوجب البائع وقبل المشتري، أننا نلزم البائع بالبيع ونلزم المشتري بدفع الثمن، لكن إذا حصل الخلاف بينهما فإن الخلاف يمنع الرضا الذي على أساسه حكم بصحة البيع، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] فأحل الله لنا البيع والتجارة بشرط وجود الرضا، فإذا اختلفا انعدم الرضا، فهذا يقول: بعت السلعة بعشرة، والثاني يقول: اشتريتها بثمانية، وهذا يقول: بعت العمارة بعشرة آلاف، والآخر يقول: بل اشتريتها بتسعة آلاف، فمعناه: أن البائع قد بذل هذه الصفقة -العمارة مثلاً- بعشرة آلاف، ورضي أن يأخذ العشرة في مقابل سلعته، فإذا قال المشتري: بل بثمانية، فمعنى ذلك أن الذي حصل الرضا عليه ليس بموجود، ومن هنا يكون الخيار في البيع على تفصيل سيذكره المصنف رحمه الله.
وإذا وقع الخلاف بين المتعاقدين فهناك أحوال: الحالة الأولى: أن يوجد الدليل الذي يرجح قول البائع أو قول المشتري، بأن قال البائع مثلاً: بعتك سيارتي هذه بعشرة آلاف، وقال المشتري: اشتريتها بثمانية آلاف، فوقع الخلاف بينهما، فقال المشتري: عندي شاهدان عدلان يشهدان أنك بعتها لي بثمانية آلاف، فأقام البينة بالشاهدين العدلين، فحينئذٍ الحكم سيكون لقول المشتري، والبيع تام بثمانية آلاف ويلزم البائع بدفع السلعة بثمانية آلاف، ولا خيار؛ لأنه قد قام الدليل على ترجيح قول المشتري، والحق حقه.
والعكس: فلو أن البائع قال: بعتها بعشرة آلاف، فقال المشتري: بل بثمانية آلاف، قال البائع: عندي شهود يشهدون أنك قد رضيت شراءها بعشرة آلاف، فأقام شاهدين عدلين، على أنه اشترى منه بعشرة آلاف، فحينئذٍ يكون القول قول البائع، ويلزم المشتري بدفع عشرة آلاف، وهكذا لو أقام أحدهما شاهداً وحلف اليمين معه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد مع اليمين.
فهذه الحالة الأولى: أن توجد البينة التي ترجح أحد القولين على الآخر.
الحالة الثانية: أن يحصل الصلح والتراضي فيرضى البائع بقول المشتري، أو يرضى المشتري بقول البائع، فمثلاً: قال البائع: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، قال المشتري: بل اشتريتها بثمانية آلاف، قال البائع: أنا متأكد أنني بعتها بعشرة آلاف، فقال المشتري: أنت ثقة عندي وقد رجعت إلى قولك بعشرة آلاف.
فرضي المشتري بقول البائع.
أو العكس: قال البائع: بعتك السيارة بعشرة آلاف، فقال المشتري: بل اشتريتها بثمانية آلاف، فقال البائع للمشتري: أنت عندي ثقة وقد رضيت بثمانية آلاف، فإذا رضي أحد الطرفين بقول الآخر، نقول: يحكم بالبيع بما تراضيا عليه؛ لأن حقيقة البيع قائمة على الرضا، فإذا تراضيا واصطلحا بعد الخلاف فلا إشكال؛ لكن الإشكال إذا وقع الخلاف بينهما ولم توجد بينة، ولم يوجد الصلح والتراضي بينهما.
وفي بعض الأحيان قد توجد البينة من الطرفين، هذا عنده بينة، وهذا عنده بينة وإذا تعارضت البينتان سقطتا على تفصيل سيأتي إن شاء الله في باب القضاء والبينات، لكن الذي يهم هنا أنه يقع الخلاف بينهما على وجه لا يمكن الترجيح، أي: أن نرجح أحد القولين على الآخر.
فقال رحمه الله: [خيار لاختلاف المتبايعين] أي: النوع السابع من أنواع الخيار أن يقع الخلاف بين البائع والمشتري، في قدر الثمن أو جنس أو نوع الثمن، أو صفة البيع أو صفقة المبيع، هل هو عاجل أو آجل، بالتقسيط أو بالنقد إلخ.
فيقع الخيار على تفصيل سيذكره المصنف رحمه الله
‌‌اختلاف المتبايعين في قدر الثمن
قال رحمه الله: [فإذا اختلفا في قدر الثمن تحالفا، فيحلف البائع أولاً: ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا، ولكلٍ الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر]: قوله رحمه الله: [فإذا اختلفا في قدر الثمن تحالفا]: هذا النوع الأول من الخلاف، وهو أن يقع الخلاف في قدر الثمن، فأنت تقول: اشتريت هذه العمارة بعشرة آلاف ريال، والبائع يقول: بعتها لك باثني عشر ألفاً، أو بعتها لك بعشرين ألفاً، والغالب إذا وقع الخلاف بين البائع والمشتري بقدر الثمن أن يدعي البائع الأكثر، والمشتري الأقل؛ لأن الأحظ للبائع الأكثر، والأحظ للمشتري الأقل، وتقع الكثرة والقلة إما من جهة القدر، وإما من جهة النوع، فمن جهة القدر أن يقول البائع: بعتها بعشرين، يقول المشتري: اشتريت بعشرة.
ومن جهة نوع الثمن، مثلاً: لو كان هناك عملتان: الريالات، والدولارات، فلو قال له: بعتك بعشرة آلاف فيتفقان على القدر، ويختلفان في النوع، يقول: بعتنيها بعشرة آلاف، قال: نعم بعتك بعشرة آلاف، لكن دولارات، قال الآخر: بل ريالات، فالذي يدعي الأكثر: وهي الدولارات هو البائع، والذي يدعي الأقل هو المشتري.
ففي هذا النوع وهو خلاف الثمن، يتحالفان، والأصل في ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اختلف المتبايعان تحالفا) وهذا الحديث اختلف العلماء في سنده، ورجح غير واحد من مجموع الطرق أنه حسن قابل للاحتجاج والعمل به عند أهل العلم رحمهم الله، وقد فعل ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كما روى سعيد بن منصور: أن عبد الله بن مسعود باع إلى الأشعث بن قيس رضي الله عنهما رقيقاً، فقال الأشعث: بعتني بعشرة، قال عبد الله بن مسعود: بل بعتك بعشرين، فلما اختصما ولم يفصلا رده عبد الله رضي الله عنه إلى هذه السنة، فالسنة إذا اختلفا في قدر الثمن أن يرجعا إلى التحالف، وإن أمكن الفصل عن طريق البينة فذاك، لكن الإشكال ألا توجد بينة لأحدهما، أو توجد بينتان متعارضتان، ولا يمكن ترجيح إحداهما على الأخرى، فحينئذٍ يتحالفان، يحلف البائع ويحلف المشتري، ثم بعد ذلك يفسخ البيع بينهما، وإذا أحبا أن يعقدا عقداً جديداً، أو صفقة جديدة فذلك لهما.
قوله: [فيحلف البائع أولاً: ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا] الحلف واليمين حجة في القضاء، وهذه الحجة تستعمل في مواضع، ولذلك جعلت أولاً لجانب المنكر، وفي الحديث: (فإن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)، فلو ادعى رجل على رجل مالاً، ولم يكن للمدعي بينة، فإنه يطالب المدعى عليه بالحلف.
والمدعي مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين فالمدعى عليه مطالب باليمين إذا عجز المدعي عن البينة، فاليمين حجة في حال الإنكار.
وكذلك أيضاً حجة في بعض المواضع التي خصها الشرع، مثل تقوية الشاهد، كقضائه صلى الله عليه وسلم بالشاهد مع اليمين، وهي حجة في دفع الحد عن الزوج والزوجة كما في اللعان فشهادة الرجل تكون أربعة أيمان بالله إنه لمن الصادقين، {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7 - 8] ثم تشهد الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، هذا كله رجوع إلى اليمين، كذلك القسامة حينما يوجد اللوث والعداوة بين المقتول وبين جماعة، ثم يدعي أولياء المقتول أنه قتله فلان من أعدائه فيحددون الشخص الذي يتهمونه بالقتل، ثم يحلفون خمسين يميناً، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية خيبر، حينما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحلف خمسين يميناً لإثبات دعوى قتل يهود للصحابي رضي الله عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (تحلفون خمسين يميناً، فتستحقون دم صاحبكم) فإذا كانت حجة في الدماء وحجة في الإنكارات وحجة في الحقوق المالية فإنها كذلك حجة هنا، فيحلف البائع أولاً أنه ما باع بكذا، أي: الذي ادعاه المشتري، وإنما باع بكذا، وهو الذي يدعي أنه أمضى البيع أو أوجب البيع عليه.
فمثلاً: إذا اختلفا في عمارة قال البائع: بعتها بعشرين، وقال المشتري: بل اشتريتها بعشرة، فيحلف البائع أنه والله ما باعها بعشرة -إذا قال المشتري: إنها عشرة- وإنما باعها بعشرين، هذا بالنسبة ليمين البائع.
قوله رحمه الله: [ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا]: أي: فإذا انتهى البائع من الحلف، طولب المشتري بالحلف، فلا يخلو المشتري من حالتين: إما أن يتورع فيقول: ما دام أنه حلف اليمين فأنا أقبل اليمين، فحينئذٍ يلزمه ما حلف عليه البائع.
ويسمى هذا (نكولاً)، أي: إذا نكل وامتنع من الحلف، أو رضي اليمين من البائع، ثم أمضى البيع وحينئذٍ يلزمه الثمن الذي حدده البائع.
مثال ذلك: قال البائع: والله ما بعتها بعشرة، وإنما بعتها بعشرين، قيل للمشتري: احلف أنك اشتريت بعشرة، ولم تشتر بعشرين، فقال: لا أحلف.
فهذا نكول، فيقضي عليه القاضي بالنكول.
أو يقول: ما دام أن فلاناً قد حلف فقد رضيت يمينه، وهذه اليمين أنا أقبلها وأصدق بها، فحينئذ تلزمه العشرون.
وجملة: [ثم يحلف المشتري] دلت على أن حلف البائع يسبق حلف المشتري، فيبدأ أولاً البائع ثم يتبعه المشتري.
واليمين في البائع والمشتري تتضمن جملتين، جملة للنفي، وجملة للإثبات، فالبائع يثبت ما يدعي وينفي ما يدعيه المشتري، والمشتري بعكسه، فإذا كان الخلاف بين العشرة والعشرين، فالبائع يحلف أنه ما باع بعشرة أولاً، وإنما باع بعشرين، والمشتري يحلف أنه ما اشترى بعشرين، وإنما اشترى بعشرة، فإذاً: كلا اليمينين قائمة على نفي وإثبات، وإنما يجعل الإثبات بعد النفي؛ لأنه ينفي أولاً، حتى يثبت بعد ذلك ما يدعي، فيكون نفيه لما يدعيه خصمه موجباً لإثباته لما يدعيه بعد ذلك.
قال رحمه الله: [ولكلٍ الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر]: أي: لكل من البائع والمشتري حق فسخ البيع، إذا لم يرض بقول الآخر، فإذا حلف الاثنان ثم لما تحالفا لم يرض البائع بقول المشتري ولا المشتري بقول البائع، حينئذ يفسخان البيع
‌‌اختلاف المتبايعين بعد تلف السلعة
قال رحمه الله: [فإن كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها]: قوله: [فإن كانت السلعة تالفة] الفاء هنا للتفريع، إذا قلنا: إنهما يتحالفان فلا يخلو الحال أيضاً من صورتين: إما أن تكون السلعة موجودة.
مثال ذلك: لو أن رجلاً باع عمارة ثم اختلف مع المشتري في القيمة، والعمارة موجودة، فيحلف البائع ويحلف المشتري ونرد العمارة للبائع، والثمن المدفوع للمشتري.
لكن لو أن الخلاف وقع بعد التلف، وهذا كثيراً ما يقع في بيع الأطعمة، كأن يبيعه طعاماً ويكون الثمن إلى أجل، كأن يقول مثلاً: تدفع في نهاية الشهر أو بعد أسبوع أو أسبوعين، قال: رضيت، فذهب المشتري فأكل الطعام، أو تصرف فيه فتلف أو نفذ، ثم جاء يدفع العشرة التي في ظنه أن الاتفاق كان قائماً عليها، فلما أراد أن يدفع العشرة قال: ما بعتك بعشرة، وإنما بعتك بعشرين، فيختلفان، والسلعة مفقودة، وهو الذي عبر عنها المصنف بقوله: (تالفة) أي: إما استهلكت بالأكل، وإما تلفت حقيقة، وإما أنها لم تعد موجودة بأي وسيلة كانت.
فحينئذٍ يرد الإشكال: إذا حصل التحالف بين البائع والمشتري، والطعام قد أكل، كأن يكون علفاً للدواب أو طعاماً للناس، فهو لا يستطيع أن يرد الطعام ولا يستطيع أن يعيد العلف إلى حالته فيرده؛ والبيع قد فسخ، وإذا فسخ البيع وجب رد المبيع، والطعام لا يمكن رده في هذه الحالة، فحينئذٍ إن كانت السلعة تالفة، وجب ضمان قيمة السلعة، كما قال: [رجعا إلى قيمة مثلها] أي: لأن الضمان في المتلفات إما أن يكون بالعين إذا كانت موجودة، أو يكون بالمثل إذا كانت العين مفقودة، ثم بعد ذلك النظر إلى قيمة مثلها، فالطعام الذي استنفذ وأكلته البهائم أو أكله المشتري، ننظر إلى أوصافه، ثم نسأل في السوق عن قيمة المثل؛ لأن قيمة المثل يرجع فيها إلى السوق وأهل الخبرة، فيسأل أهل الخبرة هذا الطعام الذي صفته كذا وكذا، كم قيمته؟ فحينئذٍ يلزم بدفع قيمة المثل.
وعلى هذا: يكون المشتري مطالباً بدفع القيمة التي هي مثل الشيء المستهلك، سواء كان من الطعام أو من العلف أو غيره؛ لأنه إذا تلفت العين وجب ضمان قيمتها على الأصل الذي سبقت الإشارة إليه

‌‌حكم الاختلاف في صفة السلعة

قال رحمه الله: [فإن اختلفا في صفتها فقول مشترٍ]: انظر كيف يرتب المصنف الأفكار: فعندما تكون السلعة قائمة يجب الرد، وإذا تلفت السلعة وجبت القيمة، لكن إذا اتفقا على صفات الطعام، ثم من عادة الفقهاء رحمهم الله أنهم إذا أعطوا حكماً ذكروا ما يترتب عليه، وهذا من فضل الله عز وجل عليهم، وهذه الكتب ألفها علماء، وهؤلاء العلماء منهم من يؤلف بعد أن يتعلم ويعلم ويقضي ويفتي ويدرس، فهي حصيلة خبرة ومعرفة طويلة، وفي الأزمنة القديمة كان التأليف حجراً على العلماء الذين هم أهل التأليف؛ لأنه لو ألف من ليس بأهل كشف عواره، فكان لا يستطيع أحد أن يكتب متناً، أو يؤلف إلا بعد أن يكون أهلاً لذلك، فهو يذكر لك الأمور مرتبة؛ لأن خبرة القضاء والفتوى تكسب المرء مهارة في الترتيب.
والقسمة العقلية للترتيب هنا: إما أن يكون المبيع موجوداً، أو غير موجود.
فإن كان موجوداً ترادا.
وإن كان غير موجود ينظر إلى القيمة، لكن لو نظرنا إلى القيمة فقال البائع: الطعام من النوع الجيد، وقال المشتري: هو من النوع الرديء، فما الحكم؟ لأنهما إذا اتفقا على صفة فلا إشكال فلو قال: اشتريت منه حليباً من نوع كذا، وهذا الحليب الذي اشتراه منه قيمته في السوق عشرون ريالاً، فيلزمه أن يدفع العشرين، لكن لو ادعى البائع حليباً جيداً والمشتري حليباً أردأ منه أو أقل جودة، فما الحكم؟ فقال رحمه الله: [فإن اختلفا في صفتها فقول مشترٍ].
أي: إذا اختلفا في صفة السلعة، فقول مشترٍ، فالخلاف بين البائع والمشتري، فإن كان المشتري هو المدعي طولب بالبينة، ويكون القول قول البائع، وإن كان البائع هو المدعي فالقول قول المشتري، ويطالب البائع بالبينة.
فالآن مثلاً: إذا جاء اثنان واختلفا في صفة السلعة، فقال البائع: بعتك سيارة جيدة من نوع كذا وكذا، وقال المشتري: بل رديئة من نوع كذا وكذا، فالقول قول المشتري؛ لأنهم متفقون على أن ذمة المشتري ملزمة بقيمة الرديئة.
فمثلاً: السيارة الرديئة قيمتها عشرة آلاف، والسيارة الجيدة قيمتها خمسة عشر آلفاً، فإذا قال له: بعتك سيارةً بقيمة خمسة عشر ألفاً، وقال المشتري: اشتريت سيارة بقيمة عشرة آلاف، فعندنا يقين أن المشتري في ذمته عشرة آلاف؛ لأن الخمسة عشر ألفاً تتضمن العشرة آلاف، فنحن على يقين من العشرة آلاف، لكننا نشك في الزائد على العشرة آلاف وهي الخمسة الزائدة المختلف عليها.
فالقول قول المشتري؛ لأن البائع يدعي عليه أمراً زائداً، فنحن على يقين بالعشرة آلاف، وهو القدر الأقل، فيطالب البائع بالبينة على الزائد، وإلا فالقول قول المشتري؛ لأن اليقين في الأقل، والشك في الزائد، فيكون القول قول من يدعي الأقل، ومن يدعي الأكثر والزائد يطالب بالبينة والدليل على أن الأمر زائد على ما اتفقا عليه.
وهذا ما اختاره المصنف رحمه الله؛ وهناك من يقول: القول قول البائع، وهناك من يسقط القولين، ويرجع إلى قيمة المثل.
وبعض العلماء يختار الرجوع إلى السوق، فيقول: إذا قال المشتري: بعشرة آلاف، وقال البائع: بخمسة عشر، وجئنا نبحث في السوق ووجدنا أن السلعة تباع بعشرة آلاف، يقول: فإننا نجد السوق يشهد بصدق قول المشتري، وهذه يسمى (شهادة العرف)، فإذا كان السوق يشهد بقول المشتري، فحينئذٍ يصبح البائع مدعياً.
وإن كان العرف يشهد بقول البائع يكون المشتري مدعياً، ولذلك يقولون: شهادة العرف تجعل من شهدت له مدعىً عليه، ولذلك قال: فالمدعي من قوله مجرد من أصل او عرف بصدق يشهد فقوله: (من أصل او عرف بصدق يشهد) أي: أنه إذا جرى العرف ببيع مثل هذه السلعة بعشرة آلاف والبائع قال: بعتك بعشرة، فإنه حينئذٍ يكون العرف شاهداً لقول البائع، لكن هذا الضابط الذي ذكروه قد يقوى في مسائل القضاء، وقد يضعف هنا؛ لأنه غالباً ما يكون التبايع بين الطرفين فيه شيء من الرضا، فمع المكاسرة يخرجان عن العرف، وكثيراً ما يخرج البائع والمشتري عن العرف بسبب المزايدة والمكاسرة، فقد يشهد العرف بخمسة عشر، لكن المشتري كاسر إلى عشرة، فحينئذٍ لو اعتبرنا العرف شاهداً على هذا الوجه لكان مشكلاً.
وإنما قالوا: القول قول المشتري؛ لأن البائع يدعي عليه غرماً، والغارم دائماً يكون مدعىً عليه؛ لأنه متهم، فإن شئت أن تخرجها على أن اليقين عشرة آلاف والزائد محل شك، فهذا وجه لكي تجعل المشتري مدعى عليه.
وإن شئت فخرجها على أن المشتري غارم؛ لأنه مطالب بالزيادة، والقول قول الغارم؛ لأن الأصل براءته من المطالبة.
وإن شئت أن تجعلها من جهة كون الأصل واليقين بالعشرة والزائد فيه شك فيلغى الشك ويبقى على اليقين، فإنه وجه صحيح
‌‌معنى انفساخ العقد ظاهراً وباطناً
قال رحمه الله: [وإذا فسخ العقد انفسخ ظاهراً وباطناً]: أي: لو تحالفا وانفسخ العقد، هل ينفسخ ظاهراً وباطناً، أو ينفسخ ظاهراً لا باطناً؟ نحتاج إلى مقدمة لكي نفهم به قول العلماء رحمهم الله (الظاهر والباطن).
الخلاف الذي وقع بين البائع والمشتري يقع أمام القضاء، أو يقع في الفصل في الخصومة، وإذا وقعت الخصومة بين البائع والمشتري، فإنه إذا قضي بينهما فإنه يقضى على حسب الظاهر، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعةً من النار) أي: أن حكمي على الظاهر لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً.
وبناءً على ذلك: فإن الشهود إذا شهدوا عند القاضي أن هذه الأرض لفلان، وكانت شهادتهم شهادة زور، وقضى القاضي أن الأرض لفلان بهذه الشهادة المزورة التي لم يعلم القاضي بتزويرها، فإنه يحكم في الظاهر أنها لفلان، ولكن في الباطن ليست له.
وهكذا لو أن رجلاً قال لامرأته: أنتِ طالق، كان جالساً معها وكانت مقيدة، ثم قال لها: أنت طالق، يقصد أنها طالق من الحبل، هذا الذي في قرارة قلبه ونيته، فقالت له: أنت قلت: أنا طالق، فإذاً أطلق عليك، فرفعته إلى القضاء، فقال القاضي: هل قلت: أنت طالق؟ قال: نعم أنا قلت: أنت طالق وقصدت من حبل، فإن القاضي يقضي عليه بأنها طالق؛ لأنه لو فتح الباب لكل شخص يطلق امرأته يقول: أنا أقصد أنها طالق من حبل لوقع الفساد، فعلينا الظاهر والله يتولى السرائر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس).
لكن لو أن المرأة صدقته فيما بينهما وهما جالسان أنه قال: أنت طالق أي: من حبل، فلها أن تصدق على أنها طالق من حبل، لكن لو رفع إلى القضاء فالقاضي لا يحكم إلا على الظاهر: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أكِلَ سرائرهم إلى الله).
وهكذا المدهوش، لو أن رجلاً من شدة الفرح جاءته امرأته بخبر فقال لها: أنت طالق، ثم قال: والله ما قصدت ولم أكن أعلم من شدة الفرح؛ لأنه في بعض الأحيان قد يسبق لسانه بشيء من قوة الصدمة فأراد أن يقول لها: أنت مباركة، أنت فيك خير، فقال لها: أنت طالق، فقال بعض العلماء: إن المدهوش لا ينفذ طلاقه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة: (لله أشد فرحاً بتوبة أحدكم من رجل ضلت ناقته وعليها طعامه وشرابه، فلما يئس منها استظل بشجرة فنام تحتها، ثم استيقظ فإذا هي قائمة على رأسه، فأخذ بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) فقوله: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) هذه كلمة كفر لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخطأ من شدة الفرح) أي: بسببه فلو أن المدهوش أراد -مثلاً- أن يقول لامرأته: أنت طالعة، فقال: أنت طالقة، سبق لسانه، فكل هذه أمور ترجع إلى الظواهر، وهناك تفصيل: فالمرأة لو صدقت الرجل ووثقت به، فحينئذٍ لا إشكال، لكن لو رفعته إلى القضاء وسأله القاضي: هل قلت: أنت طالق؟ قال: نعم قلت: أنت طالق، لكني لم أقصد الطلاق، فالقاضي يمضي عليه الطلاق على الظاهر، ثم تبقى في حقيقة الأمر زوجته فيما بينه وبين الله، ولذلك يقولون: ينفذ الطلاق قضاءً ولا ينفذ ديانةً، أي: هي زوجته فيما بينه وبين الله، ولكنها في الظاهر مطلقة عليه، وسيأتينا إن شاء الله مزيد بيان في هذا في كتاب الطلاق، ونفصل في بعض هذه المسائل.
الشاهد: قضية الظاهر والباطن، فإذا حكم القاضي بحكم بناء على أدلة صحيحة، لا خطأ فيها ولا تزوير، فحينئذٍ ينفذ القضاء ظاهراً وباطناً، كرجل ملك داراً عن أبيه، ثم جاء رجل يخاصمه، فشهدت الشهود وهم عدول ثقات بأن الدار داره، وأثبت القاضي ذلك وحكم به، فإننا نقول: ينفذ قضاؤه ظاهراً وباطناً؛ لأن هذا الحكم موافق للحقيقة، وإذا كان الحكم موافقاً للحقيقة فإنه ينفذ ظاهراً وباطناً.
لكن المسألة التي معنا هنا: البائع والمشتري اختلفا، فإذا وقع الخلاف بين البائع والمشتري، فتارة يكونان بريئين من التهمة، فالبائع نسي بكم باع، لكن في غالب ظنه أنها عشرون، والمشتري في غالب ظنه أنها عشرة، فكل منهما لم يزور ولم يكذب، وهو في حقيقة نفسه مطمئن إلى أنه قال الحقيقة، ويجوز للمسلم أن يحلف على غالب ظنه، ولا يقال: كيف يحلف وهو لم يتحقق أنه باع بعشرين؟ نقول: يجوز إذا غلب على ظنك الشيء أن تحلف على غالب الظن، وهذا أصح أقوال العلماء.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للأنصار أن يحلفوا أيمان القسامة بناء على غلبة الظن فقال: (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟) وهذا لا يكون إلا بغلبة الظن أن فلاناً هو الذي فعل، فالحلف على غالب الظن مشروع، فإذا حلف البائع على غالب ظنه أنها بعشرين وحلف المشتري على غالب ظنه أنها بعشرة فلا إشكال.
لكن لو أن البائع علم أنه قد باع بعشرة، وكذب وفجر فحلف اليمين، وإذا كانت في القضاء فهي يمين غموس، وسميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في النار، ولو كان الشيء الذي يحلف عليه شيئاً يسيراً، -كما في الحديث- قال: (يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، قال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه، من حلف على يمين هو فيها كاذب ليقتطع مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان، قالوا: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً، قال: وإن كان قضيباً من أراك) أي: ولو كان مسواكاً، نسأل الله السلامة والعافية! فهذه اليمين التي تسمى يمين الصبر، ويمين عند مقطع الخصوم فإذا حلف وهو يعلم أنه كاذب فيرد الإشكال: لو حلف أنه باع بعشرين ثم حلف خصمه بأنه سيفسخ البيع، فسيأخذ السلعة ويبيعها مرة ثانية، فهل ينفسخ البيع في حقه ظاهراً وباطناً، أو ينفسخ ظاهراً لا باطناً؟ بالنسبة للمظلوم ينفسخ ظاهراً وباطناً، وبالنسبة للظالم ينفسخ له ظاهراً ولا ينفسخ له باطناً وهو آثم، هذا وجه إدخال قوله: (انفسخ ظاهراً وباطناً).
فمثلاً إذا باعه عمارة بعشرين ألفاً، فتم البيع وانتقلت العمارة إلى ملك المشتري، فحكم الشرع حينئذٍ أن العمارة لزيد الذي اشترى، فلو جاء بعد مدة البائع وادعى أنه باع بثلاثين، وحلف عند القاضي أنه باع بثلاثين وحلف المشتري أنه اشترى بعشرين، فالحلف والأيمان من البائع وقعت على ملك الغير، وحينئذٍ إذا فسخ البيع فكأنه يسترد مالاً ليس من حقه، فحينئذٍ بالنسبة للظالم ينفسخ له ظاهراً ولا ينفسخ باطناً، ويبقى في ذمته، ويبقى آثماً غاصباً لا تبرأ ذمته إلا بتحلله من صاحب الحق.
فإذاً بالنسبة للمظلوم ينفسخ له ظاهراً وباطناً، وإذا طلب المشتري وقال: لا أريد وفسخ، فهذا لا إشكال، وحينئذٍ ينفسخ ظاهراً وباطناً، لكن إذا وقع بينهما التحالف ووقع الاحتيال فالذي اختاره جمع من العلماء، كما في "الشرح الكبير" أنه ينفسخ للظالم ظاهراً ولا ينفسخ له باطناً، وهو الصحيح
‌‌حكم الاختلاف في الأجل والشرط
قال رحمه الله: [وإن اختلفا في أجل أو شرط فقول من ينفيه]: هذه الحالة الثانية من الخلاف: وهي أن يقع الخلاف في صفة العقد، يقول البائع: بعتك بعشرين ألفاً نقداً، ويقول المشتري: اشتريت منك بعشرين ألفاً ولكن إلى نهاية السنة، فيدعي المشتري أنها مؤجلة، والبائع يقول: نقداً، فاختلفا في تعجيل الثمن وتأجيله.
فهذا اختلاف في إثبات الأجل ونفيه.
وتارة يكون الاختلاف بطول الأجل وقصره، فيقول البائع: بعتك بعشرين ألفاً إلى نهاية هذه السنة، فيقول المشتري: بل اشتريت بعشرين ألفاً إلى نهاية السنة القادمة أو السنة التي بعدها، فحينئذ إما أن يقع الخلاف في التعجيل والتأجيل من حيث الأصل إثباتاً ونفياً، أو يتفقا على التأجيل ولكن يختلفان في أمد التأجيل، فحينئذٍ كيف يفصل بينهما؟ هل نقول: القول قول البائع؛ لأنه هو الذي باع السلعة وبذلها وهو أدرى بما بذل، ولا بد أن نجد الرضا منه حتى يصح البيع؟ أم نقول: القول قول المشتري؟ أم نفصل؟
و
‌‌الجواب
التفصيل: فإذا اختلفا في التعجيل والتأجيل فالقول قول من ينفي التأجيل؛ لأن الأصل في البيع التعجيل، والتأجيل خلاف الأصل فالقول قول من ينفيه.
ومعنى قول العلماء: القول قول فلان بمعنى أنه مدعىً عليه، فإذا عرفت أن هناك مدعياً ومدعى عليه، فالقول قول المدعى عليه، ويُطالب المدعي بالبينة.
فالعلماء حينما يذكرون الخلاف بين البائع والمشتري لا بد أن يقرروا أولاً من المظلوم فهو المدعى عليه، فيقولون: القول قول المشتري، أو قول البائع، أو قول من ينفيه، فإذا قال له: بعتك معجلاً، فقال: بل مؤجلاً، فالبائع ينفي الأجل، والمشتري يثبته، فنقول: القول قول البائع أنها معجلة، حتى يثبت المشتري أنها مؤجلة، وهذا بالنسبة للتأجيل والتعجيل.
كذلك أيضاً حينما يختلفان في شرط، فقال له: بعتك هذه العمارة بعشرين ألفاً، فقال: اشتريتها منك بعشرين ألفاً بشرط أن يكون فيها -مثلاً- الماء، أو بشرط أن يكون فيها الكهرباء، أو أن يكون فيها منافع معينة اشترطها، فقال البائع: لم تشترط عليّ هذا الشيء.
فالشرط يدعيه المشتري وينفيه البائع، فالقول قول البائع حتى يثبت المشتري بالبينة أنه قد اشترى على وجه متضمناً الشرط، هذا معنى قوله: (فالقول قول من ينفيه).
والقاعدة عندنا: وقيل من يقول قد كان ادعى ومن يكن لمن عليه يدعى فالذي يقول: حدث كذا، فإنه المعني بقول الناظم: (قد كان ادعى) فهو (مدعٍ)، والذي يقول: لم يكن (مدعى عليه) هذا الأصل.
لكن في هذه الحالة اختلفت صورة الأصل، فإنه في مسألتنا حينما يقول: بعتك مؤجلاً، فالأصل المعجل، وقبلنا قول من يقول بالتعجيل؛ لأن الأصل يشهد به، والأصل أن يبيع البائع نقداً، ودعوى الأجل خلاف الأصل، فحينئذٍ نطالب من يدعي الأجل بالدليل والبينة.
فمن يقول -مثلاً-: هذا العبد اشترطت أن يكون كاتباً، نقول: هذه صفة زائدة فائت بالبينة؛ لأن الأصل أن البيع وقع على هذه الحالة الموجودة عليها الصفقة، فإذا ادعيت أمراً زائداً فعليك البينة وعليك الدليل
‌‌الأسئلة
‌‌الكفارة في الحلف على غالب الظن


‌‌السؤال
من حلف على غالب ظنه ثم تبين له خطؤه، فهل عليه كفارة، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: من حلف على غالب ظنه ثم تبين له خلاف ما حلف عليه، فإنه ينبغي عليه أن يرد الحق إلى صاحبه.
وأما لتكفير هذه اليمين فمذهب طائفة من العلماء أن الحلف على غالب الظن لا يوجب الكفارة وأنه يكون في حكم لغو اليمين، ومن أمثلة ذلك قالوا: أن يرى رجلاً من بعيد، يظنه فلاناً من الناس، فيقول: والله إنه لفلان، ثم يتبين أنه ليس بفلان قالوا: لا كفارة عليه، ويعتبر هذا من لغو اليمين، والله تعالى أعلم
‌‌حكم رد السلعة بعد بيعها إذا انتهت صلاحيتها

‌‌السؤال
أنا صاحب متجر ويأتيني تجار بعض السلع، فإذا انتهت صلاحيتها استبدلوها بغيرها، فهل هذا من بيع التصريف، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
إذا اشترى أحد منك سلعة، وتم البيع وانقطع خيار المجلس، فإن البيع يلزمه ويلزمك، بعد هذا لو رد إليك السلعة بعد انتهاء الصلاحية ولم يكن هذا بشرط بينكما، فجاء وقال: انتهت صلاحية السلعة، فأرجوك أن تردها لي، والتمس منك أن تردها له، فإن رضيت وكان بطيب نفس منك أن توسع عليه، وأن تقيله من البيع، فإنك تؤجر، وهذا جائز ويعتبر في حكم الإقالة، وهي مستحبة عند العلماء رحمهم الله، ويثاب البائع إذا أقال المشتري لما فيه من تنفيس كربة المسلم.
وأما لو رفضت وقلت له: لا أردها فإنه من حقك.
والسبب في هذا: أن الله عز وجل عدل بين البائع والمشتري، فإذا اشترى منك السلعة فإنه يتحمل المسئولية، فلو أن هذه السلعة بعد أن اشتراها منك أصبحت قيمتها ثلاثة أضعاف لم يأتِ إليك ولم يردها، ومن حقه أن يتمتع بهذه المنفعة وبهذا الربح والزيادة، فكما أنه يغنم فإنه يغرم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) فكما أنه يأخذ الربح ولا تستطيع أن تنتزع منه الربح بعد مضي العقد، كذلك ليس من حقه أن يسقط عليك الكسر، إلا إذا رضيت؛ لأنه لا يعقل أن يأخذ الربح ويجعل الخسارة على البائع فهذا ظلم، لكن لو طابت نفس البائع بذلك فإنه لا بأس به، وهو من إقالة النادم.
لكن لو وقع ذلك بالشرط فإنه من بيع التصريف المحرم، والله تعالى أعلم
‌‌النكول في اليمين وما يترتب عليه

‌‌السؤال
ما هو النكول؟ وماذا يترتب عليه، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
النكول: الرجوع، نكل عن اليمين إذا رجع عنها أو امتنع منها، فمثلاً: لو جاء رجل وقال: فلان استدان مني ألف ريال، فقال القاضي للخصم: هل استدنت منه ألف ريال؟ أو ماذا تقول فيما يدعيه عليك؟ قال: لم أستدن منه ألف ريال، فحينئذٍ يقول القاضي للمدعي: هل لك بينة؟ هل لك دليل على أنك أعطيته الألف؟ عندك شهود قال: ليس عندي شهود، وليس عندي بينة، يقول القاضي: ليس لك إلا يمينه، فإذا قال: ليس لك إلا يمينه، يحلف الخصم، أنه والله ما أخذ ألفاً، فإذا قيل له: احلف أنك ما أخذت ألفاً، فإما أن يحلف فيبرأ ولا إشكال، وإما أن يمتنع، ويقول: لا، لا أحلف.
فإذا قال: لا أحلف فحينئذٍ يكون قد نكل، ويقع النكول في الأيمان المخصوصة كأيمان اللعان، فلو أن رجلاً أدعى أنه رأى امرأته تزني وليس عنده شهود فإنه يرفعها إلى القاضي، بناءً على مسألة اللعان، كما حدث لـ عويمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: (يا رسول الله! إني أتيت أهلي عشاء فوجدت رجلاً) وفي حديث أيضاً هلال بن أمية حينما قذف امرأته بـ شريك بن سحماء، قال: (يا رسول الله! إني أتيت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلاً والله لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه قد أنزل فيك وفي صاحبتك القرآن فاذهب فأتِ بها، فجاء بها، فأمر بالحلف، فحلف الأيمان، ثم حلفت هي أيضاً الأيمان)، والسنة في اللعان أن يبدأ الرجل، فيحلف أربع شهادات بالله، فإما أن يحلف أنها زانية -والعياذ بالله- أو يحلف على أن هذا الولد ليس بولده، يقولون: نفي الحمل، ويشير إليه أن هذا الولد الذي في بطنها ليس بولده، أو ليس مني، أو يحلف على مجموع الأمرين: أنها زانية، وأن هذا الولد ليس مني، فإذا حلف وبلغ عند الخامسة يوقفه القاضي.
إذاً يحلف أربع أيمان، يقول: والله أنها زنت، فإذا حلف أربع أيمان وجاء عند الخامسة، يوقفه القاضي، ويقول له: اتق الله، إنها الموجبة، ومعنى الموجبة أي: أنها توجب لعنة الله عليه؛ لأن الله يقول: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] فإذا وصل إلى الخامسة هدده القاضي وذكره بالله، وخوفه فإذا نكل حينئذٍ يجلد حد القذف.
فالنكول -أي: أثره- ينبني عليه جلد حد القذف في اللعان، ولو أن الرجل حلف الأيمان وأتمها ثم ثني بالمرأة قيل لها: احلفي، قالت: ما أحلف، فحينئذٍ ترجم؛ لأنها نكلت عن اليمين وكأن كل يمين من الرجل مقام شاهد،: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:8] حتى تدفع الأربع التي شهد، فإذا نكلت عن اليمين وامتنعت فحينئذٍ يقضى برجمها، فإذا جاءت عند الخامسة التي هي -نسأل الله العافية- الموجبة، يوقفها القاضي ويقول لها: اتقي الله إنها الموجبة، أي: أنها توجب غضب الله عليكِ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة) أي: أن تنال الحد في الدنيا أهون من عذاب الآخرة -نسأل الله السلامة والعافية- وأن تفضحي في الدنيا أهون من فضيحة الآخرة، (فكادت تعترف المرأة -كما في حديث هلال بن أمية - ثم قالت -نسأل الله السلامة والعافية-: لا أفضح قومي سائر اليوم، فحلفت)، الذي هي الخامسة والأخيرة).
فالنكول عن اليمين يوجب الحكم، والقضاء على ذلك، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالنكول، وسيأتي إن شاء الله مزيد بيان في هذه المسألة، وذكر خلاف العلماء فيها في كتاب القضاء، والله تعالى أعلم
‌‌قبول أيمان الكفار وكيفيتها

‌‌السؤال
عند التبايع مع الكفار، هل يطلب منهم الحلف وذلك عند الخلاف، أثابكم الله؟


‌‌الجواب
اليمين من الكافر تقبل؛ لكن الكفار يكون لهم ضوابط في يمينهم، لذلك تعتبر اليمين من حيث الأصل مقبولة من المسلم والكافر، والكفار يعظمون الله عز وجل بالنسبة لمن لهم دين سماوي، فيحلفون كما في قضية شهادة الوصية على السفر، فإنها تقبل شهادتهم فيها، والشهادة أعظم من اليمين، ولذلك يُحَلّف إذا كان ممن له دين سماوي يعظم الله عز وجل، ولا يحلف بغير الله عز وجل، فلا يجوز تحليف النصراني بعيسى، ولا يجوز تحليف اليهودي بموسى، إنما يحلَّف بالله، وقد قضى بذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، في القصة المشهورة حينما كان بالشام، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #304  
قديم 22-05-2024, 12:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (297)

صـــــ(1) إلى صــ(8)

شرح زاد المستقنع -‌‌ باب الخيار [8]
شرع الله عز وجل الخيار لما فيه من دفع الضرر عن المسلمين، ومن ذلك أنه إذا اختلف العاقدان في عين المبيع، فإنهما يتحالفان ويترادان، ولكن قد يأبى كل من الخصمين أن يرد ما بيده، أو يكون الثمن غير حاضر في المجلس، أو يكون غائماً عن البلد، وغير ذلك.
والفقهاء رحمهم الله قد فصلوا أحكام ذلك، وافترضوا خصومات وخلافات بين المتعاقدين، فاستخرجوا لها أحكاماً شرعية تحفظ الحقوق، وتنصف المظلوم.
وهذه الأحكام ينبغي على المسلم أن يتعلمها حتى يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات، وكيف يتعامل المعاملة الصحيحة المطابقة للشرع
‌‌الاختلاف في المبيع وصوره
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد
‌‌الاختلاف في عين المبيع
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن اختلفا في عين المبيع تحالفا وبطل البيع]: كان حديثنا في المجالس الماضية عن الأحكام المتعلقة بالخيار، وهذه الجملة التي بين فيها المصنف رحمه الله اختلافَ كل من البائع والمشتري، في عين المبيع، تعتبر من مسائل الخيار.
ووجه دخولها في الخيار: أنك إذا قلت: اشتريتُ منك سلعة كذا، وقال البائع: بل اشتريتَ مني سلعة كذا؛ فإنه إذا اختلف المتبايعان في عين المبيع، فلا وجه لأن نُلْزِم البائع بأن يبذل شيئاً لم يقصده، ولا وجه أن نُلْزِم المشتري بأخذ شيءٍ لم يقصده.
وحينئذٍ يكون الحكم كالآتي: أولاً: عندنا اختلاف في عين المبيع.
ثانيا: ً عندنا التحالف.
ثالثاً: عندنا الحكم بالفسخ، والتراد.
فأما مسألة الاختلاف في عين المبيع كأن يقول البائع: بعتُك شيئاً وتقول: بل اشتريتُ شيئاً آخر، فلا تخلو هذه المسألة من صور: الصورة الأولى: أن يتفقا على الجنس ويختلفا في النوع.
الصورة الثانية: أن يتفقا على النوع ويختلفا في العين.
الصورة الثالثة: أن يختلفا في الجنس.
مثال الصورة التي يختلف فيها الجنس: أن يقول البائع: بعتك سيارة، فهذا من المنقولات والمعدودات، ويقول المشتري: بل اشتريت طعاماً.
ومن المعلوم أن جنس السيارات غير جنس الطعام، فاختلفا في جنسين غير متفقين.
كذلك أيضاً ربما قال: بعتك عقاراً، وتقول: بل بعتني منقولاً، كأن يقول: بعتك أرضاً، وتقول: بل اشتريت سيارة، فهذا من الاختلاف في جنس المبيع.
مثال الصورة التي يتفقا على الجنس ويختلفا في النوع، يكون -مثلاً- جنس البهائم، يختلفا في نوعه، فالبهيمة عندنا الإبل والبقر والغنم، فيقول: بعتني ناقة، ويقول: بل بعتك شاة، أو يقول: بعتني بقرة، فيقول: بل بعتك شاة، فيختلفا في نوع الجنس.
وتارةً يتفقا على الجنس والنوع، فالجنس بهيمة، والنوع من الشياه، ويختلفا في تعيين الفرد من أفراد هذا النوع، فيقول: بعتني هذه الشاة، فيقول: بل بعتك تلك الشاة، فالجنس واحد، والنوع واحد، ولكن الخلاف في تحديد المراد أو عين المبيع.
وربما يقع في العقار، فيتفقان في جنس العقارات يقول: بعتني الأرض التي رقمها مائة، ويقول: بل بعتك الأرض التي رقمها مائتان أو رقمها مائة وعشرة في المخطط، فهذا كله من الأمثلة القديمة والحديثة في ألا يتفقا على عين المبيع.
وصورة المسألة تعود على أنهما لا يتفقان على شيء معين أنهما تبايعا عليه.
أيضاً: إذا اختلفا إما أن يختلفا في ثمن المنقود المدفوع، فيستلم مثلاً البائع المال، ثم يأتي بالسلعة فيقول المشتري: هذه السلعة لم أتفق عليها معك.
فقد حصل القبض بالثمن، وتعين الثمن.
وتارة يقول له: هذه أرض في المخطط الفلاني في المكان الفلاني بمائة ألف، قال: قبلت، وتم البيع وأوجبا، ثم اختلفا، هل هي الرقم هذا، أو الرقم ذاك؟ فإذاً: عندنا اختلاف في عين المبيع مع اتحاد الأجناس، وعندنا اختلاف الأنواع مع اختلاف الأجناس وعندنا اتحاد الأجناس والأنواع مع الاختلاف في تحديد العين والذات.
هذه كلها تدخل في مسألة اختلاف المتبايعين، فإذا عرفنا صورة الخلاف، فنقول: ثانياً: ما الحكم؟

‌‌الجواب
إن رضي أحدهما بقول الآخر، فلا إشكال، مثل: قال له: بعتك أرضاً، قال: بل بعتني سيارة، أو قال: بعتك مزرعتي قال: بل دفعت لك مائة ألف لقاء سيارتك هذه، قال: إذاً خذ السيارة بمائة ألف، أي: فما دمت لا تريد الأرض فخذ السيارة بمائة ألف، إذاً: فلا خلاف، وإذا اتفقا وارتفع الخلاف، فالحكم أنه يثبت البيع على ما اتفقا عليه.
وأما إذا لم يتفقا، فيقول: اشتريت منك السيارة، فيقول: بل بعتك المزرعة، قال: إما أن تعطيني سيارتك على ما اتفقنا عليه، وأدين الله أنك تبايعت معي عليه، وإلا فأعطني مالي.
فيصر المشتري على قوله، ويصر البائع على قوله، فحينئذٍ يلجأ إلى القاضي، ويلجأ إلى المفتي الفقيه، ويلجأ إلى الحكم الذي ينصب بين الطرفين لحل الاختلافات
‌‌الحكم المترتب على الاختلاف في عين المبيع
قال رحمه الله: (تحالفا) أي: حلف البائع: والله ما بعتك أرضي أو مزرعتي الفلانية، وإنما بعتك سيارتي الفلانية، فيحلف على النفي والإثبات؛ لأن الطرفين متفقان على وجود بيع، ولكن الخلاف في تحديد المبيع.
فإذاً: لا بد أن يحلف على إثبات شيء ونفي ما أثبته خصمه، والخصم يحلف على نفي ما أثبته البائع، وإثبات ما يدعيه هو.
فيبدأ البائع ثم المشتري، على خلاف بين العلماء رحمهم الله.
وبعد التحالف يقع عندنا الآتي: إذا حلف البائع وحلف المشتري، كل منهما حلف على النفي والإثبات تعارضت البينتان، فلا تستطيع أن تلزمني أنا المشتري، بما حلفت عليه، ولا أستطيع أن ألزمك بما حلفت، فإذاً يمينك تسقط يميني، ويميني تسقط يمينك، ودعواك تسقط دعواي، وكلا القولين يسقط، فنرجع إلى الأصل فنرد لكل ذي حق حقه، هذا بالنسبة لصورة المسألة.
إذاً: حينما حصل عندنا ثلاثة أمور: أولاً: أن يقع الخلاف بين الطرفين فلا يتفقان، بجميع الصور التي ذكرناها.
ثانياً: الحكم أنهما يتحالفان بالنفي والإثبات على الترتيب الذي ذكرناه، يحلف البائع لأنه يلزم المشتري، ثم بعد ذلك المشتري يحلف بالنفي والإثبات.
فإذا حلف البائع والمشتري جاءت المرحلة الثالثة وهي الحكم بفسخ البيع، ثم يترتب على ذلك الأمر الرابع، وهو رد المبيع ثمناً ومثمناً.
إذاً: عندنا الشيء الأول: وقوع الخلاف وهو أن يختلفا في عين المبيع، وقد يختلفا في قدر الثمن وصنفه، فهذا نوع ذكرناه وبيناه؛ لكن الخلاف هنا في عين المبيع، فكأن المسألة هنا أصعب؛ لأنك تثبت بيعاً، لا يسلم خصمك به، فأولاً: يقع الخلاف.
ثانياً: يتحالفان.
ثالثاً: إذا حلف البائع أو حلف المشتري حكمنا بانفساخ البيع، فلا يثبت بيع هذا، ولا يثبت بيع هذا.
رابعاً: يترادان، فهذه أربعة أمور لا بد من ضبطها.
فإذاً: وقوع الاختلاف بصوره التي ذكرناها، ثم يتحالفان إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر، وهذا الحلف -كما سبق وأن بيناه- يسمى يمين التهم، ثم يحكم بفسخ البيع، ثم يترادان.
وهذا من عدل الله بين عباده، فإن فسخ البيع بينهما عدل بين قول البائع والمشتري، ثم لماذا نحكم بفسخ البيع؟ لأنك إذا قلت: إن البيع منفسخ يترتب عليه آثار، فالسلعة بنتاجها وما عليها تعود إلى البائع، والثمن يعود بكامله إلى المشتري، فلا يثبت بيع على هذا لقول هذا، ولا العكس.
قال رحمه الله: [تحالفا، وبطل البيع]: أي: تحالف الطرفان، وهذا سبق وسماه العلماء يمين التهم، ويمين التهم لها أصل في آية الشهادة على الوصية في السفر.
[وبطل البيع]: هذا هو الحكم الثالث

‌‌إذا اختلفا في عين المبيع ورفضا تسليم ما في أيديهما والثمن عين

قال رحمه الله: [وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده حتى يقبض العوض، والثمن عين، نصب عدل يقبض منهما ويسلم المبيع ثم الثمن]: قوله: (وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده) أي: إذا اختلفا في عين المبيع تحالفا، وحكمنا بفسخ البيع، وبقي وجوب رد الثمن والمثمن، وإذا حكمت بوجوب رد الثمن والمثمن، لا يخلو المتعاقدان من حالتين: الحالة الأولى: أن يتفقا وتكون مسألة رد الثمن والمثمن سهلة ويسيرة ويتراضيان ويرد كل منهما للآخر، بأن يثق كل منهما بالآخر، يقول: يا فلان أعطني مالي، وقال الآخر: إذاً أعطني ساعتي أو قلمي.
إلخ، فيترادان، فلا إشكال في هذا.
لكن المشكلة في بعض الأشياء المبيعة التي يقع عليها التنازع، ولا يثق أحد الطرفين بالآخر، وقد يثق لكن يخشى جريان الحكم بالفلس، فلا يتصور الطالب أن مسائل الفقه تقف عند الريال والريالين، بل قد تصل إلى ملايين، فالشريعة كما أنها تحتاط للملايين تحتاط للريال الواحد.
فهي تريد أن تعطي كل ذي حق حقه، فلو جئنا إلى مسألة رد الثمن والمثمن، فالثمن قد يكون مبالغ طائلة، قد يتفقان على بيع أرض في مخطط، قيمتها مليون ريال، فيستلم البائع المليون، ثم ينقله إلى أرض أخرى، ويدعي أنه باعه أرضاً أخرى، فإذاً المبلغ ليس باليسير.
ففي هذه الحالة، لو تأخرت يوماً واحداً ربما حكم بالحجر على صاحبك الذي تتعامل معه، فتكون أسوة الغرماء.
فالأمر ليس بالسهل، في مسألة رد الحقوق، وخاصة في القديم لما كان الناس يتشددون في الأحكام، وكانوا يسألون عن كل مسألة صغيرة وكبيرة في المعاملات، يقف الأمر على رد الحقوق لأصحابها في الأعيان، وفي الذمم.
ونحن سبق وأن ذكرنا أن المبيعات إما أن تكون عيناً، وإما أن تكون في الذمة، وقلنا: العين أن تقول: بعتك هذا القلم، بهذه المائة، فهذا باع عيناً بعين.
فإذا قلت: بعتك هذا القلم بمائة، صار البيع عيناً بذمة.
وإذا قال له: بقلم من نوع كذا، فمعناه أنه موصوف في الذمة، والتزم في ذمته أن يدفع قلماً موصوفاً بهذه الصفات.
وهكذا لو قال: بعتك هذا القلم بعشرة، فإذا قال: بعشرة، فهو موصوف في الذمة، لكن إذا قال: بهذه العشرة صارت معينة.
أي أنه إذا قال لك: بعتك هذا القلم بهذه العشرة، فمعناه أن الحق تعلق بالعشرة بعينها.
وانظر إلى عدل الشريعة، ودقة الفقهاء رحمهم الله، حتى في الثمن الذي دفعه، إذا كان عيناً لا بد أن ترد نفس العشرة، إن كانت برأسها برأسها وإن كانت كما يقول العلماء: (تفاريق) رد (التفاريق) وإن كانت جملة ردها جملة، فهنا -مثلاً- لو أنه قال له: بعتك، واختلفا في عين المبيع، فأردنا أن نعطي البائع المثمن، ونعطي المشتري الثمن، فلا يخلو المتعاقدان من حالتين: الحالة الأولى: أن يتفقا ويرد كل منهما للآخر وقلنا: لا إشكال في هذه المسألة وهي أن يرد لكل منهما حقه.
الحالة الثانية: أن يصر أحدهم فيقول: ادفع أولاً، فيقول الآخر: بل أنت ادفع لي أولاً، أو قال: أنا لا أعطيه ولا أثق في فلان بعد أن دلس عليّ في بيعي، فيتهمه بالخيانة، والآخر أيضاً يتهم المشتري بالخيانة فلا يثق كل منهما بالآخر.
فمن دقة الفقهاء أن ذكروا هذه المسألة، فقالوا: ينصب عدل، وتنصيب العدل أن يختار القاضي أو يختاران رجلاً عدلاً؛ فهذا الرجل يقف بينهما وينصف كلاً منهما من الآخر، فيأخذ من البائع ويأخذ من المشتري.
لكن هنا مسألة مهمة وهي مسألة الثمن، قال المصنف: [والثمن عين] أي: فهناك فرق بين كون الثمن عيناً وبين كون الثمن موصوفاً في الذمة.
فمثال كون الثمن عيناً: قوله: بهذه المائة، بهذه العشرة، بهذه الألف، بهذه الخمسمائة، فالثمن عيناً هنا عين، فيجب رده بعينه.
فحينئذٍ عندنا مسألة دقيقة وهي مسألة الاستحقاق في العين والذمة، وهي مسألة تحتاج إلى مدخل لكي يتصور طالب العلم، لماذا نص المصنف على مسألة (عين)؛ لأن هذه الكلمة من ورائها مغزى فقهي، وهو أن الحقوق التي في الذمة أخف من الحقوق المعينة، بدليل أنك لو جئت بمثال للقلم أو ببديل عن القلم في الحقوق المعينة، لم يجز حتى تعلم القلم بعينه، لو قال: أبيعك هذا القلم، وتفاسختما وجب عليك أن ترد عين القلم، ولا ترد مثله.
ولو باعك كتاباً بعينه وجب رد عين الكتاب.
وقد ذكرنا هذه المسألة حينما ذكرنا صور البيع: العين بالعين، والذمة بالذمة، والعين بالذمة.
لكن الذي نحب أن ننبه عليه هنا مسألة الاستحقاق في العين والذمة، وعندنا حديث يحتاج أن نتأمله وننظر إلى معانيه والأحكام والمسائل الموجودة فيه، والحديث ثابت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره) نريد أن نصور هذا الحديث حتى نعرف لماذا استنبط العلماء هذا الحكم الدقيق، وهو أن الحقوق العينية مقدمة على الحقوق في الذمم.
الحديث يقول: (من وجد متاعه بعينه) مثاله: عندنا رجل تاجر دخل في تجارته بمليون، ثم انتكست تجارته، وخسر، فأصبحت التجارة الموجودة عنده بنصف مليون، فمعناه أن ديونه أكثر من رأس ماله، وإذا زادت الديون على رأس مال التاجر واشتكاه غرماؤه وهم أصحاب الحقوق، حكم القاضي بالحجر عليه، وهذا ما يسمى بالحجر على المفلس.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قضى بالحجر على المفلس كما في حديث معاذ رضي الله عنه، الذي أصله من حيث الإجمال متفق عليه.
فلو فرضنا أن النصف المليون الموجودة عنده تقوم على شيئين اثنين: عمارة قيمتها مائتان وخمسون ألفاً، وسيولة أو تجارات أخرى قيمتها مائتان وخمسون ألفاً، لكن العمارة أخذها منك، والعمارة اشتراها منك، فهذا المفلس إذا كان دينه مليوناً، والذين يسألون الدين أربعة أشخاص لكل شخص ربع مليون، فالأربعة الأشخاص يستحقون النصف مليون الموجودة، فمن حيث القسمة الشرعية تقسم النصف مليون الموجودة على أربعة أقسام، ويعطى كل غريم قدر حصته من الدين الأساسي، فالذي له نصف الدين يأخذ ربع المليون، والذي له الثمن يأخذ الثمن، والذي له الثمن الآخر يأخذ الثمن الباقي.
إذاً: إذا عرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالحجر على المفلس، وأنه يجب عليه رد الحقوق إلى الغرماء، وبين أن من كان له عين المتاع، كصاحب العمارة فإنه يأخذ العمارة بعينها، ويلاحظ أنه إذا أخذ العمارة كان أفضل له من أن يدخل شريكاً للغرماء الباقين، فانظر كيف فضل النبي صلى الله عليه وسلم من كان له حق عيني على من له حق في الذمة.
ومن هنا نص العلماء على هذا، وذكروا أن مسألة الحقوق العينية مقدمة على الحقوق في الذمة، فعرفنا لماذا قال المصنف: [والثمن عين]؛ لأنه إذا كان الثمن عيناً، قابل المعين من المبيعات، وحينئذٍ لا بد أن يقبض العيني حتى يقبض ما يقابله من المبيع ويدفع لكل حقه.
وبهذا تقرر أن الحقوق العينية مستحقة ومقدمة على التي في الذمة، فإذا كان الثمن عيناً، والمثمن المبيع مختصاً فيه ولم يتعين، هذا يقول كذا، وهذا يقول كذا.
فإذا حكمنا بالرد؛ فإنه يرد

‌‌السؤال
أننا لو نصبنا رجلاً عدلاً يأخذ من الطرفين، فكيف يكون العدل بين الخصمين؟ بحث العلماء مسألة كيف يأخذ العدل؟ قالوا: يأخذ من الطرفين معاً؛ لأن الحقوق متساوية، وهذا اختاره غير واحد من أصحاب الإمام أحمد كـ ابن حمدان، كما أشار إليه البعلي رحمه الله في المبدع، أنه يأخذ منهما معاً من باب العدل بين الطرفين.
قوله: [نصب عدل يقبض منهما، ويسلم المبيع ثم الثمن]: فالعدل ينصبه القاضي؛ لأنهما إذا اختلفا في عين المبيع، وأردنا أن نحكم بالفسخ، فلا بد أن نرد لكل ذي حق حقه، فإذا اختلفا، فقال كل منهما: لا أرد فلا بد للقاضي أن يفصل، والقاضي لو جاء بنفسه يستلم من هذا ويعطي هذا، نكون قد أشغلنا القاضي عن قضاياه وأشغلناه عما هو أهم، وأشغلناه عن أمر يمكن للغير أن يقوم به، فينصب القاضي العدل؛ لأن هناك أشياء لا يمكن إحضارها إلى مجلس القضاء، فإنهم إذا اختلفوا في ثمن في بيوع المقايظة فدفع أحدهما للآخر -مثلاً- طناً من نحاس والآخر دفع له طناً من حديد، فيصعب أن يحضرونها إلى مجلس القاضي، أو يذهب القاضي ويخرج معهما لكي يسلم لهذا حقه وهذا حقه.
فلذلك قال العلماء: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فالواجب العدل بين الخصمين، ولا يتأتى للقاضي أن يخرج بنفسه في غالب الأحوال لانشغاله بما هو أهم، فحينئذٍ ينصب العدل، فهذا وجه ما نص عليه العلماء رحمهم الله من تنصيب العدل، فهو من القاعدة المعروفة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما وجب العدل بينهما، بالقبض منهما معا، ً وتسليمهما إبراءً للذمة، وجب تنصيب العدل من هذا الوجه
‌‌إذا اختلف المتبايعان والثمن موجود في المجلس
قال رحمه الله: [وإن كان ديناً حالاً أجبر بائع ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس]: [وإن كان ديناً حالاً، أجبر بائع ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس] في بعض الأحيان يتعامل الطرفان بالدين الحال الذي هو الموصوف في الذمة، يقول: أشتريها منك بمائة ألف، فهذا بيع ذمة.
فإذا كان الثمن موصوفاً في الذمة، فهل تساوى الطرفان من حيث الحق والعين أو تفاوتا؟

‌‌الجواب
تفاوتا، فبعض العلماء يرى أن الدنانير والدراهم والنقود تتعين بالتعيين، وهذه مسألة قد تأتي في الصرف إن شاء الله.
فعلى هذا الوجه لو قلنا إن الدين حال، بمعنى أنه أعطاه في المجلس، فهو موجود عند البائع في المجلس [أجبر بائع ثم أجبر مشترٍ] أي: على التسليم، بخلاف الصورة الأولى، لتفاوت الحقين؛ لأنه هنا حق عيني وذمي، وفي الصورة الأولى تساويا معاً
‌‌إذا اختلفا والثمن غائب
قال رحمه الله: [وإن كان غائباً في البلد حجر عليه في المبيع، وبقية ماله حتى يحضره] هذه المسألة كثيراً ما تقع في حال ما إذا أعطاه مثلاً مليون ريال.
لو فرضنا أنه باعه بمائة ألف ريال، فقال له: بعتك سيارة من نوع كذا وكذا بمائة ألف، أو سيارتي هذه بمائة ألف، فقال: قبلت، فهذا الثمن في الذمة، فإذا أعطاه إياه، فأخذ البائع المائة ألف، ثم بعد ذلك اختلفا، هل هذه هي السيارة التي تعاقدا عليها أو غيرها، وحكمنا بالفسخ بين الطرفين، يصبح الثمن في هذه الحالة موصوفاً في الذمة، فيحتاج البائع الذي باع السيارة إلى أن يحضر الثمن من خارج البلد؛ لأن الثمن ليس موجوداً عنده حتى يتم فسخ البيع بصورته الكاملة، فيحتاج أن يسافر، ونحن لا نضمن أنه سيعود، أو لربما يحجر عليه أثناء السفر أو يأتيه عارض، أو يسرق منه المال، فإنه يحجر عليه أولاً في المبيع، فلا يتصرف فيه؛ لأنه هو المالك الحقيقي؛ فلا يتصرف في المبيع.
فيحجر عليه في المبيع ويحجر عليه في أمواله، والسبب في هذا ما ذكرناه: أنه يخشى أن يدخل عليه الحكم بالفلس، والحجر بالفلس سيتضرر به صاحب الحق لتأخر حقه عنه، فهذا وجه ما نص عليه العلماء رحمهم الله من مسألة الحجر؛ ليتبين أنه ليس من باب الظلم، إنما من باب رد الحقوق لأهلها، فإن هذا الرجل لو سافر ربما غاب عنك غيبة طويلة، وهذا يضر بك، فنقول: كما أضر بك في حقوقك فجزاؤه أن يتضرر فيحجر عليه في ماله.
والتلاعب قد يوجد بين التجار، فحينما تحجر عليه في جميع ماله، فإنه في اليوم الثاني سيضع المال عند القاضي، وقد حدث في بعض القضايا أنه امتنع رجل غني ثري من إعطاء عامل حقه، وجلس عنده ثلاث سنوات يكدح بعرق جبينه حتى أصبح ماله ثلاثين ألفاً، فادعى أنه مفلس، فأصبح يشتغل بثمانمائة ريال كذباً من باب الغش، ورفعت القضية إلى أحد القضاة الموفقين وهو الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمة الله عليه، وتبين له الأمر جلياً، وأن الرجل كذاب ومخادع.
وكان هذا الرجل الضعيف العامل الذي تضرر ليس عنده بينة ولا شهود، فقال له القاضي: إن شئت أن تحلف اليمين فإني أقبلها منك، ولكن ليس لك في ذلك خير، قال: أحلف اليمين، قال: إذاً: لا تحلف اليمين، وكتب إلى المسئول: أن هذا الرجل كذاب مماطل، وثبت عندي بالتحري أنه كذاب مماطل، والذي أرى أن يحجر عليه في جميع ماله، حتى يؤدي لهذا الرجل حقه، فقد عمل عنده ثلاث سنوات وهو غريب عن أهله، وهو الآن في أشد ما يكون من العناء.
وذكر الشيخ عنه أنه كان يغمس كسرة الخبز اليابسة في (الشاهي) حتى لا ينفق من ماله الذي يكتنزه عند الرجل مؤتمناً عليه.
فشاء الله أنه حجر عليه في يوم الأربعاء، ثم كتب إلى المسئول أن هذا الرجل يمنع حتى من زيارة الغير له، فكما آذى الناس يؤذى، فما جاء يوم السبت إلا والثلاثون ألفاً موضوعة على طاولة الشيخ كاملة، فمثل هذه الأمور لابد من الحجر فيها، والقضاء ما نصب إلا من أجل الفصل بين الناس.
فحينما ينص الفقهاء رحمهم الله على الحجر فهو مما رأوا من خلال تجاربهم في القضاء والفتاوى، فهذه المتون خرجت من تجربة وخرجت من معاناة؛ لأنه ممكن أن يأتي شخص ويتعامل معك في قطعة أرض يبيعها لك بمليونين، ثم بعد أن يستلم منك المبلغ، يقول: ما بعتك هذه الأرض وإنما بعتك أرضاً أخرى، فتختصما إلى القاضي، فيقوم القاضي بطلب كل منكما أن يدفع، فيماطلك ويؤخرك ويستفيد منها شهوراً وربما دهوراً ثم يدفعها لك بعد ذلك، فأنت تستضر بهذا، لكن حينما يحجر عليه في ماله، ويحجر عليه في مبيعه، كما أضر بغيره أو أراد الإضرار بغيره، فإنه يسلم الحق ويندفع الضرر عن غيره.
ولذلك لم يكن نص العلماء على الحجر من فراغ، وإنما نصوا عليه لوجود الاستحقاق، وهو استحقاق الأذى بالتضرر بالتأخر، وعلى هذا يشرع أن يحجر عليه كما يحجر على غيره.
والحجر في اللغة: المنع، يقال: حجر عليه إذا منعه، ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22] حينما كانوا يجعلون بينهم وبين القرآن مانعاً من أن يستجيبوا له، وكذلك قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53] أي: حائلاً يحول بينهما، ويمنع من دخول أحدهما على الآخر، فالمقصود أن الحجر المنع.
وأما في الاصطلاح: فهو منع نفوذ تصرف قولي لا فعلي في المال، وبعض العلماء يعرفه بتعريف أدق، ويقول: الحجر في الاصطلاح: المنع من التصرفات المالية، وهذا أنسب.
قال رحمه الله: [وإن كان غائباً بعيداً عنها، والمشتري معسر، فللبائع الفسخ]: هذه كما ذكرنا يقال له: لك الفسخ، أي: أنت بالخيار إن شئت انتظرت وإن شئت فسخت البيع، فإن قال: أريد الفسخ، فحينئذٍ يفسخ، وإن قال: أنتظره فذلك به.
فوجه إدخال هذه المسألة في باب الخيار، أنه يترك له الخيار إن شاء أن يمضي الصفقة وإن شاء ألغاها، والأمر إليه
‌‌خيار الصفة
قال رحمه الله: [ويثبت الخيار للخلف في الصفة، ولتغير ما تقدمت رؤيته]: هذه المسألة يقصد منها إثبات خيار الصفة، فيثبت الخيار لاختلاف الصفة، وهذا النوع الأخير يسمى خيار الاختلاف في الصفة، وبعض العلماء يسميه خيار الصفة، وهو أنسب.
وخيار الصفة يقع في نوع خاص من البيوع، وهو الذي يسمى ببيع الغائب.
وبيع الغائب: كأن تأتي إلى رجل ويقول لك: عندي أرض، أو عندي سيارة، أو عندي طعام، وهذه الأشياء غير موجودة في مجلس العقد، ومعنى ذلك أن البيع سيقوم بينك وبينه على الصفة، وأصح أقوال العلماء: أنه يصح بيع الغائب، وهو مذهب الجمهور من حيث الجملة.
فإنه قد وقع بين عثمان وطلحة رضي الله عن الجميع، ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة.
فإذا باعك رجل شيئاً غائباً -كما يقع الآن في بيع المخططات- ووصفه لك بوصف معين، فيكون لك الخيار عند الرؤية فتنظر في هذا المبيع، فإن طابقت الصفة المبيع، لزمك البيع وإن اختلفت فأنت بالخيار بين الإمضاء وبين الإلغاء.
إذاً: صورة المسألة تقع في بيع الغائب عند من يقول بصحة بيع الغائب، ولذلك فالذين لا يرون صحة بيع الغائب لا يقع عندهم خيار بيع الصفة، وهم الشافعية رحمهم الله ومن وافقهم.
ويخالف الحنفية فيقولون: لك الخيار مطلقاً سواء اتفقت الصفة أو لم تتفق، وهذا ضعيف، والصحيح مذهب المالكية والحنابلة، أنه يلزمك البيع إن طابقت الصفة المبيع، ولا خيار لك.
لكن لو جئت فوجدت الصفة مختلفة، فلك الخيار، إن شئت رضيت بالموجود، وإن شئت أبطلت البيع ورددت الثمن


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #305  
قديم 22-05-2024, 12:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (298)

صـــــ(1) إلى صــ(5)


شرح زاد المستقنع -‌‌ باب الخيار [9]
ضبطت الشريعة العقود التي تقع بين الناس بضوابط دقيقة، تضمن دفع الضرر عن المتعاقدين، وتتلاءم مع مصلحة الطرفين.
ومن ذلك ما حددته الشريعة من كون الضمان في عهدة البائع أو المشتري في عقد البيع، وذلك يختلف بحسب اختلاف المبيع واختلاف الحال، وفيه تفصيلات ذكرها غفر الله له موضحة ميسرة، كما ذكر حكم الإقالة وفضلها

‌‌الأشياء التي يحرم التصرف فيها قبل قبضها ومتى يحكم بصحة البيع ولزومه

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: ومن اشترى مكيلاً ونحوه صح ولزم بالعقد] والأصل في هذا حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، وهذا النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل القبض، مبني على علل وأسباب دعت إليه، فإنك إذا اشتريت الأرز على أنه مائة صاع، وأخذته قبل أن تكتاله، ربما بان ناقصاً، فبعته للغير على أنه مائة وإذا به دون المائة، هذا وجه.
وعند ابن عباس رضي الله عنهما: أن بيع الطعام قبل القبض فيه ذريعة إلى الربا؛ لأنه إذا لم يقبض الطعام فمعناه أنه قد باع ثمناً بثمن متفاضل، فمثلاً: لو أن رجلاً اشترى الطعام بألف ريال، على أنه مائة صاع، ولم يكتل ولم يقبضه، ثم بعد ذلك باعه إلى رجل آخر، فمعناه أنه يبيع النقد الألف بألف ومائتين، أو يبيع الذي اشترى به وهو مائة ريال بمائة وخمسين، فيصير كأنه يبيع النقد بالنقد، فأصبحت عندنا علتان، العلة الأولى: ربما باعه فاختلفت صفته عن حقيقته.
الثانية: أنه ذريعة إلى الربا، ثم هناك وجه ثان مبني على أصل شرعي، وهي قاعدة الضمان، حيث إن الضمان يفتقر إلى القبض، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخراج بالضمان) فجعل الربح على من يضمن الخسارة، ولا يمكن أن يضمن الإنسان إلا إذا دخل الشيء في حوزته وملكه، ومن هنا سنبحث في هذا الفصل مسألة: متى يجوز لك أن تبيع السلعة وتتصرف فيها؟ والمسألة التي معنا الآن: مسألة بيع الطعام قبل القبض، يقول رحمه الله: [ومن اشترى مكيلاً ونحوه صح ولزم بالعقد].
فعندنا أولاً: مسألة صحة البيع.
ثانياً: لزوم البيع.
ثالثاً: التصرف في المبيع.
فهي ثلاث مسائل: فلو باع رجل داراً، أو باع طعاما، ً فإننا نحكم أولاً: أن البيع صحيح، ثم إذا حكمنا بصحته، نقول: يلزمك أن تدفع الطعام إلى الرجل أو تدفع الدار إلى الرجل، ونقول للمشتري: يلزمك أن تدفع الثمن للبائع، هذا بالنسبة للزوم.
ثالثاً: متى يتصرف البائع في الثمن ومتى يتصرف المشتري متى يتصرف في المثمن؟ هذه هي المسألة التي يريد المصنف أن يقررها هنا.
فأول ما تبحث في المسائل الفقهية إذا جاءك عقد بيوع، في القضاء أو في الفتوى أن تنظر أول ما تنظر هل البيع صحيح أم لا؟ وهذا يفتقر إلى أن تدرس شروط البيع، وقد بينا هذه الشروط وهي شروط الصحة.
ثم إذا صح البيع، فهناك شيء يسمى اللزوم، واللازم: هو الذي لا ينفك عن الشيء، وقد يطلق لمعانٍ أخرى، مثل (لزاماً) بمعنى العذاب، وقيل: إنه عذاباً ملازماً: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77] أي: عذاباً لا يفارقكم ولا ينقطع عنكم، فأصل الملازمة عدم المفارقة، وملازمة الشيء بالشيء، مصاحبته له على وجه لا يفارقه.
وأنت تجد العلماء يقولون في العقود المالية، كالبيوع والإجارات والشركات: عقود صحيحة، وعقود لازمة، وعقود نافذة، وعقود موقوفة، وعقود باطلة.
فإذا قالوا: عقد صحيح، فضده الفاسد والباطل، على تفصيل بين الجمهور والحنفية، فالصحيح هو الذي تترتب عليه الآثار المعتبرة شرعاً، فإن قلت: بيع صحيح فمعناه أنه تترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على كل بيع صحيح.
وإن قلت: إجارة صحيحة، فمعناه أنها تترتب عليها جميع الآثار المترتبة على الإجارات الصحيحة، والصحيح لا يمكن أن تصححه إلا إذا وافق الشرع.
وضد الصحيح: الباطل والفاسد، فيقال: هذا باطل أو فاسد، أي: لا يترتب عليه أثر، ويحكم بانفساخه، بمعنى أنك لا تملك العوض، فلو بعت سيارة بيعاً فاسداً بعشرة آلاف ريال، وقبضت العشرة آلاف ريال، فليس من حقك أن تتصرف في العشرة آلاف، وليس من حق المشتري الذي أخذ السيارة أن يتصرف في السيارة، بل يجب رد الثمن والمثمن، فلا تترتب الآثار الشرعية، إذا كان فاسداً.
وهناك ما يسمى باللزوم، والإلزام، والعقد اللازم: هو الذي لا يملك أحد الطرفين فسخه دون الآخر، والبيع عقد لازم.
والدليل على أن البيع عقد لازم: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] دلت هذه الآية الكريمة على أنه إذا وقع العقد وهو الإيجاب والقبول، يجب الوفاء به، والبيع عقد.
فـ (من باع مكيلاً ونحوه صح) أي: من باع شيئاً مكيلاً من الحلال الذي يباح بيعه كأرز وبر ودخن، وعدس.
ونحو ذلك مما يكال.
ونحو المكيل: الموزون والمعدود والمذروع.
والموزون هو الذي يكون بالجرامات، أو بالأطنان، مثل البرتقال والتفاح والموز، فهذا موزون بالجرام، فلو باع مثل هذه الموزونات صح.
والمعدود مثل القطع التي تباع بأعدادها، كقطع (الأبلكاش)، والدواب، والسيارات، فهذه كلها معدودات تباع بالعدد، فتقول: أعطني سيارة سيارتين بعيراً بعيرين شاة شاتين، فهذه كلها مبيعات بالعدد، ولا تباع الشاة بالوزن، ولا يصح بيع الشياه بالوزن.
وكذلك أيضاً إذا باعه بطيخاً فيمكن أن يباع عدداً، وممكن أن يباع وزنا، ً فيجتمع فيه الوصفان، وكذلك أيضاً: يكون البيع بالذرع، مثل القماش، فالقماش يباع بالعدد ويباع بالذرع، وإن كان الأصل فيه الذرع، فيقول: أبيعك متراً مترين يارداً ياردتي، ن أو مائة ياردة، فهذا كله بالذرع.
وكذلك المخططات من الأراضي والعقارات، بالذرع، تقول: أبيعك (20×20) (30×30) ونحو ذلك، فهذا كله يباع بالذرع.
إذاً: عندنا مبيع بكيل ووزن وذرع وعدد.
فقال رحمه الله: [من باع مكيلاً ونحوه صح] لأن الشرع أذن بهذا كله، فقال الله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] ولم يفرق بين بيع المكيل والموزون والمعدود والمذروع، فيصح بيع الكل؛ ولأنه ثبتت الأدلة بجوازها دون تفصيل وتفريق بينها.
وقوله: (صح) هذا الحكم الأول، أي: إذا كان مستوفياً لشروط الصحة، بأن يكون عين المبيع مباحاً، ولا يكون عين المبيع محرماً كميتة وخنزير ودم ونحو ذلك.
(ولزم بالعقد) أي: لزم الطرفين، واللازم -كما قلنا- هو الذي لا يملك أحد الطرفين فسخه دون الآخر.
فعندنا إلزام، وعندنا تصرف.
فإلزام الطرف يكون بالعقد، وهو الإيجاب والقبول، فلو قلت لك: بعتك بيتي الفلاني في المكان الفلاني بعشرة آلاف، فقلت: قبلت، فالإيجاب والقبول وقع، لكن الصيغة التي هي الإيجاب والقبول لا تكفي وحدها في البيع كما ذكرنا، بل يتوقف الأمر على الافتراق عن المجلس، فإذاً: صح العقد بشرطه، وهو الافتراق عن المجلس.
فإذا قلت لك: بعتك بيتي بعشرة آلاف، وقلت: قبلت، فحينئذٍ يلزمك أن تدفع العشرة آلاف، ويلزمني أن أدفع البيت.
وعلى هذا: (صح ولزم بالعقد)، فـ (الباء) سببية، أي: بسبب العقد، أو مصاحبة أي: لزم بمجرد انتهاء العقد، وهو الإيجاب والقبول.
فإن الباء لها معانٍ منها: المصاحبة.
ومنها السببية.
فتقول: أتيت بمحمد، بمعنى: مصاحب له.
تعدّ لصوقاً واستعن بتسبب وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلا وزد بعضهم ظرفاً يميناً تحز معانيها كلها للباء اثنا عشر معنى، منها المصاحبة، فهنا لما قال: (صح ولزم بالعقد)، فالباء هنا للمصاحبة، أي: أن الإلزام مصاحب للعقد الصحيح في البيع فإذا صح عقد البيع، فإننا نقول: بالإلزام للطرفين.
والالتزام هو المبني من الصيغة، فهناك فرق بين الإلزام والالتزام، فالإلزام يكون أثراً عن الإيجاب والقبول، والالتزام ينشأ أثناء الإيجاب والقبول.
فالالتزام ينشأ من الطرفين، تقول: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، أي: التزمت لك إن دفعت العشرة أن أعطيك السيارة، وأنت أيضاً تقول: قبلت، أي: التزمت أن أعطيك العشرة آلاف إن أعطيتني السيارة، فهذا يسمى التزاماً.
وفرق بين الإلزام وبين الالتزام، فالإلزام يكون من الشرع، والالتزام يكون من الطرفين المكلفين، فهذه جهة المكلف وهذه جهة المشرع سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله: [ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه]: عرفنا أن العقد صحيح، وبعد أن تثبت أن العقد صحيح تبني عليه أنه لزم الطرفين، فإذا لزم الطرفين، فهل حق المشتري أن يتصرف؟ فمثلاً: جاءني رجل وقال: عندي عمارة في موقع كذا وكذا، ووصفها لي وصفاً تاماً، وأعطيته الثمن، وذهبت ورأيت العمارة فأعجبتني، لكنه لم يعطني مفتاحها، ولم يسلمها لي تسليماً كاملاً، فحينئذٍ تم الإيجاب والقبول، واستلم مني المائة ألف أو المليون، ولكني لم أقبض العمارة إلى الآن، فهنا شيء يسمى القبض والاستيفاء، فالشريعة لا بد أن تبت في مسألة انتقال الملكية ومتى يحكم بانتقال الشيء إلى ذمتك وملكيتك؟ صحيح أنه بالعقد التزمت والتزم، وصار بينكما الإلزام، فقد يتوهم متوهم إنه بمجرد العقد يحصل التملك وتترتب على ذلك آثاره.
وهذا غير صحيح.
فلو أن رجلاً دخل البقالة، فرأى علبة من طعام (مربى) أو غيرها، فقال: بكم هذه؟ قال: بخمسة، قال: اشتريت، فأعطاه الخمسة، فلما أراد الرجل أن يأتي بالعلبة، وضع السُّلم فتحرك الرف فسقطت الزجاجة وانكسرت، فقال له: خذ زجاجتك المكسورة، قال: يا أخي! أنا لم أستلم، قال: لكنك قد اشتريت ودفعت الخمسة، والإيجاب والقبول يقتضي الملكية لك، فأنت الذي تملكها وأنا لا أملكها.
فهنا مسألة وهي مسألة الاستيفاء ومتى نحكم بانتقال الشيء إلى ذمتك وعهدك، بحيث تتحمل المسئولية عنه، سواء كان في الأطعمة أو كان في العقارات أو المنقولات أو غيرها، وذلك ما يسمى بالقبض.
فلا يحكم بتحملك للمسئولية في الشيء إلا بعد قبضه، كما أنه لا يجوز لك بيعه والتصرف فيه إلا بعد القبض، فهذه العمارة إذا أردت أن تبيعها لا بد أن تقبضها أولاً، لماذا؟ لأنك إذا قبضتها فقد صارت إلى ذمتك، فلك غنمها وعليك غرمها، أما أن تدع العمارة عند غيرك، بحيث لو جاء عليها ضرر كان هو الذي يتحمل ذلك، ثم تبيعها أنت بأرباح، فهذا فيه ظلم.
ففي بعض الأحيان، تبيع الشيء ويتركه المشتري عندك، كأن يبقى في مستودع عندك، فيحملك أعباء حفظه، والقيام عليه، ورعايته، فيحتاج إلى حراسة، وتخشى عليه السرقة والآفات، فحي

‌‌أحكام المبيعات التي تلفت قبل قبضها

قال رحمه الله: [وإن تلف قبل قبضه، فمن ضمان البائع]: أي: وإن تلف الطعام أو الكساء والقماش ونحوه قبل قبضه، فمن ضمان البائع.
فمثلاً: أنت اشتريت من تاجر مائة طاقة قماش من نوع معين، وقال لك: هذه المائة بألف ريال، أو بألفين، أو بثلاثة، فقلت له: هذه الألف أو الألفان، فمتى أقبضها؟ قال: ائت غداً، فتلفت في الليل، أو عَدَتْ عليها أرضة فأتلفت شيئاً منها، أو تضررت، فجئت في الصباح فإذا بهذا المال الذي اشتريته بالأمس قد ذهب ثلثه، أو ذهب نصفه، أو ثلاثة أرباعه، فعلى من الضمان؟ سيقول البائع: بعتك، وهذا المال باسمك وليس باسمي، فتقول: صحيح أنني قد تعاقدت معك والعقد صحيح؛ لكن لا يدخل في ضماني حتى أقبض، وأنا لم أقبض.
إذاً: مسألة الضمان متوقفة على القبض.
فعلى هذا لا نحكم بانتقال الضمان من البائع إلى المشتري إلا بعد القبض.
فهذه الزجاجة التي انكسرت سواءً انكسرت من الرف، أو سقطت بآفة سماوية مثل الرعد، أو بفعل المكلف، كعامل دفع الرف فسقطت هذه الزجاجة، فنقول: هذه الزجاجة من ضمان البائع، حتى يمكَّن المشتري من أخذها واستيفائها.
لكن إذا قال له: هذا القماش جاهز، تعال فخذه، ومكَّنه من قبضه واستيفائه، فماطل المشتري وتأخر حتى جاءت الآفة السماوية وأتلفته، فإنه يكون مِن ضمان المشتري؛ لأنه قصَّر، فيُلزم بعاقبة تقصيره.
ومن هنا: المرأة إذا مكَّنت الرجل من الدخول، ومكَّنه أولياؤها من الدخول، وجبت عليه النفقة؛ لأنها في حكم المدخول بها، والتقصير واقع مِن الزوج.
فهذا أصل شرعي، وهو أنه متى مُكِّن ولكنه قصر فإنه يلزم بعاقبة تقصيره، ومن هنا حكموا بوجوب القضاء على من أكل يظن أن الفجر لم يطلع، ثم تبين أنه طلع، أو أن الشمس قد ظهرت؛ لأنه قصر ومن قصر يلزم بعاقبة تقصيره؛ لأنه لو احتاط لنفسه، لما وقع الذي وقع.
قال رحمه الله: [وإن تلف بآفة سماوية بطل البيع]: معناه أنه لا يضمن المشتري، ومعنى (بطل البيع)، أي: صار في ضمان البائع، سواء قلت: بطل البيع، أو قلت: في ضمان البائع، فالمعنى واحد.
قال رحمه الله: [وإن أتلفه آدمي خُيِّر مشتر بين فسخ وإمضاء ومطالبة متلفه ببدله]: قوله (وإن أتلفه آدمي) أي: قصداً أو بدون قصد.
أتلفه آدمي قصداً، كإنسان اعتدى على بقالة فكسر ما فيها، أو اختصم صاحب البقالة مع رجل فكسر له ما ببقالته، وكان من ضمنها المبيع، فتلف بفعل آدمي.
وأتلفه بغير قصد مثلاً: العامل يريد أن ينزل الزجاجة فتنزلق من يده فتنكسر، أو يأتي ليضع السلم فتسقط الأشياء الموجودة على الرف ومنها المبيع، فهذا بغير قصد، فسواء أتلفه الآدمي بقصد أو بغير قصد، فالقصد وعدمه واحد في باب الضمانات.
لأن باب الضمان لا يلتفت فيه إلى القصد، فمثلاً: شخص جاء وصدم سيارتك وقال: لم أقصد، نقول: الحقوق لا يلتفت فيها إلى مسألة قصدت أو لم تقصد، فهذا في الإثم وهو بينك وبين الله، فتأثم إن قصدتني، ولا تأثم إن لم تقصد، لكن حقي في السيارة تضمنه كاملاً.
ولذلك لو رأى أي فريسة وأطلق عليها فأصابت الرمية آدمياً فقتلته وجب عليه أن يدفع الدية، ولا يقول: إني أخطأت، قال تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء:92].
فتحرير رقبة هنا: ليس من باب المؤاخذة بالإثم، وإنما من باب أنه قصر، ولذلك ما من مخطئ إلا وهو مقصر، ومن هنا قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] قيل في قوله: (إِلَّا خَطَأً): ولا خطأ، بمعنى: ألا يتعاطى أسباب التقصير.
فالشاهد: أنه إذا أتلف الآدمي السلعة بقصد أو بدون قصد، وقد عقد عليها، فالمشتري مخير، إما أن يقول: أريد مالي، ويفسخ البيع، أو يقول: أنا أطالب هذا الرجل الذي أتلف، ويكون توجهه على المتلف دون البائع، وهذا يختلف باختلاف الأحوال.
ففي بعض الأحيان يكون بين تاجر مع تاجر، ولا يريد أن يحرج التاجر، فيتوجه على الذي أساء وأضر، فهذه أمور تختلف باختلاف الأشخاص، إن شاء أخذ حقه من هذا أو من ذاك، فالكل يراد به إيصال الحق إلى صاحبه.
فإذاً يرد التقرير: إن قلنا: إنه يفسخ البيع، فلفوات المبيع، فإنه إذا فات المبيع على وجه لا يمكن تداركه، فحينئذٍ ينفسخ البيع.
وإن قلنا: إنه قال: أريد أن أطالب الذي أتلف، فهذا مبني على أن البائع قد مكن من القبض، أو يكون في حكم التمكين من القبض، ولم يكن عنده مانع ويكون حينئذٍ خارجاً عن يده، وإذا أراد أن يطالب هذا الذي أتلف فإنه يطالبه.
فقوله: (خير مشتر بين فسخ) أي: فلا يطالب المتلف، وإنما يطالب البائع، (وإمضاء ومطالبة متلفه ببدله) وهذه المسألة لها مغزى -كما ذكرنا- لأنه في بعض الأحيان يكون الأفضل له أن يطالب بالفسخ، وفي بعض الأحيان يكون الأفضل له أن يطالب بالبدل، مثلاً: لو أن هذا الشيء الذي اشتراه أتلفه متلف، وفي آخر النهار أصبحت قيمته غالية جداً، فيريد البدل، فوجود البدل أحظ له؛ لكن إذا فسخ البيع رد له البائع ثمناً أقل، فينظر الأحظ لأن له الحق في هذا، وله أن يأخذ حقه كاملا، ً كما ذكرنا فيمن وجد العيب في السلعة، إن شاء تنازل عن حقه، وإن شاء أخذ أرش النقص في المبيع، وإن شاء رد السلعة وأخذ الثمن
‌‌ما يجوز التصرف فيه قبل قبضه وضمان تلفه
قال رحمه الله: [وما عداه يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه]: (وما عداه) أي: ما عدا المكيل ونحوه، (يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه).
أولاً: إذا كان المبيع مكيلاً، أو موزوناً، أو مذروعاً، أو معدودا، ً فلا يجوز التصرف فيه، وتحريم الأول بالنص، والباقي بالقياس والإلحاق؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله، على تفصيل عند العلماء، وقد تكلمت على هذه المسألة وبينتها، وفصلت فيها كلام العلماء في شرح البلوغ.
لكن نقول: على ما درج عليه المصنف رحمه الله: الكيل والوزن والعدد والذرع، إذا باع المكيل، فلا يجوز للمشتري أن يتصرف فيه قبل قبضه، فلا يبيعه ولا يحيل عليه، حتى يقبضه، وذلك بأن يكتاله أو يستوفيه، إذا كان كيلاً فالكيل، وإذا كان وزناً فبالوزن، وإن كان عدداً فبالعدد، وإن كان ذرعاً فبالذرع، وإن كان على طريقة الموزون ينتقل إلى الكيل.
فالأصح أنه فإذا كان يجمع بين الوزن والكيل، فإنه ينظر إلى أصله، أو غالب عرف البلد، على تفصيل عند العلماء رحمهم الله فيه.
بناءً على هذا: لو كان المبيع مكيلاً، وأردت أن تتصرف فيه فلا تتصرف إلا بعد القبض والحيازة، ولو باعه قبل أن يكتاله، فالبيع باطل، ولو وهبه فلا تصح هبته، ولو أحال عليه لم لا تصح حوالته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، فدل على أنه لا يصح أن يبيعه حتى يقبضه ويستوفيه، فأخلى يد المشتري عن التصرف في المبيع إلا بعد القبض، فدل على أنه فرق معتبر لصحة التصرف وأنه لا بد من القبض.
ثم يرد

‌‌السؤال
إذا كان من الأشياء الأخرى التي تباع جزافا، ً ولا يجري فيها كيل ولا عد، ولا ذرع ولا وزن؟ فهذه في قول جماهير العلماء رحمهم الله -خلافاً لـ ابن عباس رضي الله عنهما- أنه يجوز بيعها قبل قبضها؛ لكن الاستيفاء يختلف عن المعدودات والمذروعات والمكيلات والموزونات، على حسب عرف القبض فيها.
فمثلاً: عندنا الغنم والإبل والبقر، هذه معدودات، فلا يجوز لك إذا اشتريت شاة أن تبيعها إلا إذا قبضتها، ولكن: كيف يكون قبض هذا النوع وهو المعدود؟ لأنه قد يسألك تجار الغنم، ويقولون: نحن نشتري مائة رأس من الغنم من التاجر الفلاني، ونتركها عنده ثم نبيعها إلى تجار آخرين أو إلى أفراد مقطعة ونحيل عليه، هل يجوز هذا؟ تقول: لا يجوز حتى تقبضوها، فكيف القبض؟ الجاري في العرف أنه يخرجها من زريبة هذا إلى زريبته، وقد نص العلماء رحمهم الله، في بيع الغنم وبهيمة الأنعام، أن الزريبة معتبرة، وهكذا لو كانوا في البادية، والبادية معروف عندهم (المراح)، ومراح الإبل المكان الذي تمرح فيه الإبل، فيخرجها عن مراحها؛ لأنه بمجرد ما أخرجها من المراح يكون قد قبض، فيجوز له وهو يسوقها بعد أن أخرجها من مراحها أن يتصرف فيها، لكن ما دامت في الزريبة، فلا يجوز له أن يبيعها، وكذلك ما دامت في مراحها لا يجوز أن يبيعها.
إذاً: في المعدودات من بهيمة الأنعام لا بد من القبض بهذه الصفة.
كذلك أيضاً في أعرافنا اليوم، مثلاً: بيع الأشياء المغلفة، كالثلاجات والغسالات، فإذا جاء يبيعها فينبغي على المشتري أن يقبضها.
أما كيف دخلت الثلاجة والغسالة في مسألتنا فقد جاءت من باب العدد، على أن المعدود حكمه حكم المكيل، ويدخل في النهي، على القياس الصحيح والنظر الصحيح، من باب إلحاق الشيء بمثله، ففي هذه الحالة لو اشترى ثلاجة لم يبعها حتى يقبضها، والقبض يكون بالحيازة، وعلى هذا لو غلفها له، وأخرجها من مستودع البائع، فقد قبض، لكن لو تلفت وهي في المستودع، أو تلفت قبل إخراجها من المستودع، أو أن العمال أرادوا حملها، فتلفت بأيديهم، أو سقطت فحصل لها ضرر، أو سقط منها شيء وتلفت، فما الحكم؟ الحكم أنها تكون في ضمان البائع.
وكذلك أيضاً في بعض الأجهزة الموجودة، مثل: بعض الأشياء التي تباع في المختبرات وهي حساسة جداً، فلو أنها حركت أقل حركة ربما تسقط، وربما يحصل ضرر، فإذا جاء وأراد أن يقبضها وحصل هذا الشيء الذي أضر بها قبل إخراجها من المستودعات فالحكم أنها في ضمان البائع، إلا بعد خروجها من أماكنها على الصورة التي ذكرناها.
فمثلاً: السيارة جرى العرف في المعارض أنه إذا دخل إلى السيارة وحركها وأدار السيارة، ثم مشى بها قليلاً على قول بعض العلماء من مشايخنا رحمة الله عليهم، أنه قد قبض، ويجوز له أن يبيع ولو لم يخرج من المعرض، ويقول بعضهم: بل لا بد أن يخرج من المعرض، ثم له بيعها سواء رجع إلى نفس المعرض أو باعها في معرض آخر، وذلك حتى تتحقق الحيازة الكاملة.
ولكن أقوى أنه إذا ركب فيها وأدارها، ثم مشى ولو خطوة صح له البيع؛ لأنه في هذه الحالة قد قبض قبضاً كاملاً، ومسألة المعرض وعدمه غير مؤثر؛ لأن المعرض تكون فيه سيارات الأجانب، أي: ليس البائع الذي باعه السيارة هو الذي يملك المعرض.
فإذاً: مسألة المحل بالمعرض لا يحتكم إليها خاصة في المزاد، فيقوى أنه إذا أدارها ومشى وقفل بابها قد قبض.
قال رحمه الله: [وإن تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه، فمن ضمانه ما لم يمنعه بائع من قبضه]: أي: إن تلف ما عدا المكيل ونحوه، فمن ضمان المشتري؛ لأنه لا يشترط فيه قبض.
بناءً على هذا لو سألك سائل: إلى كم تنقسم المبيعات من حيث الضمان بالقبض؟ فعليك أن تقول: تنقسم إلى قسمين: - إما أن تكون مكيلة وما في حكمها، فهذه لا ينتقل ضمانها من البائع إلى المشتري إلا بعد القبض بضابطه، على حسب أنواع المبيعات.
- وإما أن تكون من غير المكيل، وما في حكمه، مما لا يشترط فيه القبض، فهذا النوع ينتقل فيه الضمان إلى المشتري بمجرد العقد الصحيح، وعلى هذا لا يشترط في مثلها القبض.
قال رحمه الله: [ويحصل قبض ما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك] أي: بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً وبالعد عداً، وبالذرع ذرعاً فمثلاً: الآن في المحل: باعك طاقة القماش، فأخذتها وذرعتها، أو ذرعها أمامك، ثم قلت: طبقها لي وضعها في الكيس، فوضعها في الكيس،، ثم أعطاك إياها، فحينئذٍ قد قبضتها، وعندما ذرعها أمامك فقد برئت ذمته، وإذا ذرعها أمامك جاز لك أن تبيعها، ويبقى القبض والاستيفاء الذي هو الصوري.
قال رحمه الله: [وفي صبرة، وما ينقل بنقله، وما يتناول بتناوله، وغيره بتخليته]: أي: يحصل القبض في صبرة بالتخلية، بأن يخلي بينها وبينك، وما كان بالنقل ينقل، مثل الدواب -كما ذكرنا- تنقل من زريبة إلى زريبة، وهكذا إذا تعامل التجار في بيع الثلاجات والغسالات أنها تنقل لا بد من نقلها حتى يتم القبض كاملاً، هذه صورة الاستيفاء
‌‌الإقالة وأحكامها
قال رحمه الله: [والإقالة فسخ تجوز قبل قبض المبيع بمثل الثمن]: (والإقالة) الإقالة أصلها الفسخ، أقال عثرة النادم، إذا لم يؤاخذه، بما جنى بعد ندمه.
وأما في الاصطلاح فهي: فسخ العقد بين الطرفين برضاهما.
وبعضهم يزيد: مع عدم ترتب الآثار، وهذا متكلف لأنه إذا فسخ لا تترتب عليه الآثار، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى التنبيه عليه.
وقلنا: "برضا الطرفين" لأن الإقالة تكون برضا الطرفين، ولا يمكن أن نقيل أحدهما حتى يرضى الآخر؛ لأن البيع عقد لازم، والعقود اللازمة كما أنها تلزم الطرفين، فلا بد أن يكون فسخها من الطرفين، أي: كما أنها لا تثبت إلا من الطرفين فينبغي ألا يكون فسخها إلا من الطرفين، وهذا من العدل الذي حكم الله عز وجل به وجعله بين عباده.
قوله: (تجوز) أي: تشرع، وعليه جماهير السلف والخلف.
والمراد بالإقالة أن يشتري منك شيئاً ثم يأتيك ويقول: لا أريد هذا الشيء، أو طرأت علي أمور، أو أرجوك أقلني، ويلتمس منك الإقالة، فأنت بالخيار بين أمرين: إما أن تلزمه، وتقول له: لا أقيلك وهذا من حقك؛ لأنه قد يكون فيه ضرر عليك، أو قد لا تقتنع بالكلام الذي يقوله، أو ترى من المصلحة أن تمضي البيع له، فإذا رأيت ذلك فهو لك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فإذا كان هذا الأمر يدخل عليك ضرراً عظيماً، أو كنت متحملاً للمسئولية تجاه أناس، أو هذه الصفقة قد تترتب عليها حقوق لأناس، فتقول: لا أستطيع، فهذا لك: أن تلزمه بالعقد.
وإن شئت قبلت إقالته، وهذا أفضل بإجماع العلماء، لما فيه من الترغيب الشرعي، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أقال نادماً، أقال الله عثرته، يوم القيامة) وهو حديث صححه الحاكم وأقره الذهبي وفيه كلام، لكن متنه صحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى ثبت عنه في الحديث القدسي: (أن رجلاً كان يدين الناس ويقول لعامله: إذا وجدت معسراً فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال صلى الله عليه وسلم: فلقي الله عز وجل فقال الله: يا ملائكتي نحن أحق بالتجاوز عن عبدي، تجاوزوا عن عبدي) فهذا يدل على أن الجزاء من جنس العمل، ولذلك يقول العلماء: من شدد على الناس شدد الله عليه، ومن خفف عنهم خفف الله عنه.
فمن كان يعامل الناس بالتيسير يسر الله عليه، وانظر إلى التاجر تجد أنه إن كان سمحاً ميسراً وجدت أموره على السماحة واليسر، حتى أن الله يلطف به في النكبات والفجائع، وتجد من لطف الله عز وجل به ما لم يخطر على بال.
والعكس بالعكس، حتى ولو كان أميناً، لكنه يأخذ حقه كاملاً ويعطيه كاملاً، والرجل يريد أن يضع كل شيء في نصابه، لكن ترى الله سبحانه وتعالى يأخذه فكما يشدد على الناس يشدد الله عليه، فما يأتي الناس يأتيه.
فالذي يعامل الناس بالسماحة واليسر يدفع الله عنه، وهذا أمر جرت عليه الشواهد والأدلة، وسنن الله عز وجل ظاهرة عليه.
وعليه: قالوا: إنه يستحب أن يقيل النادم، لما فيه من تفريج كربة المسلم، وخاصة إذا كانت عنده ظروف وكان فيه مشقة عظيمة عليه، فالإيثار محمود، خذ حتى ولو كان فيه ضرر عليك، فإن هذا البلاء الذي دخل عليك بهذا المسلم، لعل الله أن يدفع عنك به أبواب البلاء؛ لأنه ربما دفع الإنسان عن أخيه المسلم بلاء فيدفع الله عن ماله البلايا، فأجمع العلماء على استحباب الإقالة.
قوله: (تجوز قبل قبض المبيع) أي: تجوز الإقالة قبل قبض المبيع وبعد قبض المبيع، بمثل الثمن، فإذا اشترى منه داراً بمائة ألف، ثم جاءه وقال: أقلني بيعتي، فقال: أقلتك؛ رد له المائة ألف، ورد المشتري الدار إلى البائع، فهذا جائز ومشروع.
وهكذا بالنسبة لغير العقارات، كأن يشتري منه طعاماً بمائة ثم يأتي ويقول له: أقلني، فيقيله، فهذا جائز ومشروع.
وقوله: (بمثل الثمن) أي: فلا يجوز أن يستقيله بما هو أكثر، على أصح قولي العلماء وهو أن الإقالة فسخ.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الإقالة على قولين.
وهناك قول ثالث وهو التفصيل، لكن المشهور قولان: القول الأول: أن الإقالة فسخ.
القول الثاني: أن الإقالة بيع جديد.
نمثل بمثال واحد حتى تتضح الصورة: لو اشتريت سيارة من رجل بعشرة آلاف ريال، ثم بدا لك أن ظروفك لا تساعدك في شراء هذه السيارة، وأن المصلحة أن ترد هذه السيارة، فجئت إليه، وقلت له: يا فلان! خذ سيارتك وأعطني العشرة آلاف، فإذا رددتها بنفس الثمن فحينئذٍ لا إشكال أنه فسخ بالمثل، وهذا إذا قلنا: إنها فسخ، فحينئذٍ تكون رددت له نفس المال الذي له.
وإن قلنا إنها بيع، فمعناه أنكما أنشأتما بيعاً جديدا، ً فيشترط فيه ما يشترط في البيع، من الافتراق عن المجلس فلو قال له: أقلتك، ثم قبل أن يفارقه قال: لا أريد أن أقيلك ورجع عن إقالته كان ذلك من حقه.
وأما إذا كانت فسخاً فإنه لا يجوز له ذلك.
وكذلك أيضاً لو قلنا: إن الإقالة بيع، فجاء وقال: أقلني هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: بل أقيلك بتسعة آلاف ريال، فمعناه أنه بيع جديد، فيجوز أن تقيل بالثمن، وبأقل من الثمن، ولا بأس بذلك ولا حرج على القول بأنها بيع.
والصحيح أنها فسخ، وإذا كانت فسخاً فلا تجوز إلا بنفس الثمن، وحينئذٍ يخير البائع بين أن يمضي الصفقة وبين أن يرد نفس الثمن إلى صاحبه؛ لأن الحق الذي عنده إما أن يمضي فيه الصفقة على ما هو مقرر بالنص الشرعي في العقد من الإيجاب والقبول المركب منهما، وإما أن يرد عليه المال كاملا، ً ولا ينقص منه شيئاً.
قال رحمه الله: [ولا خيار فيها ولا شفعة]: أي: أنها ليست ببيع وإنما هي فسخ.
وإن كانت بيعاً ففيها شفعة، فمثلاً: بعت أرضاً في مخطط، وهذه الأرض لك فيها النصف، حيث كنت أنت وصديق لك قد اشتركتما في الأرض له نصفها ولك نصفها، فباع صديقك الأرض على طرف ثان بمال، فهذا الطرف اشترى منه، فأصبح حينئذٍ شريكاً لك، فإذا استقال من صديقك فأقاله لم يصح لك أن تشفع؛ لأنها ليست بيعاً وإنما هي فسخ، وحينئذٍ يرجع الأمر إلى ما كان، وليس من حقك أن تقول: هذا بيع وأنا شريك، ومن حقي أن أشفع؛ وإذا قلنا: إنها بيع، كان من حقك أن تشفع، وحينئذٍ بدل أن تكون شريكاً بالنصف، فإنك تدخل شفيعاً بمثل المبلغ الذي باعه إياه وتخرج صديقك من الأرض كلية.
مثال: الأرض قيمتها مائة ألف، فعرضت للبيع، فاشترى محمد من شريكك بخمسين، فأصبح محمد شريكاً لك وأنت ساكت، ورضيت من محمد أن يكون شريكك، فاستقال محمد من البائع الذي هو الشريك الأول، فإن قلنا: إنها بيع، فمعنى ذلك أن محمداً الشريك الجديد سيبيع بيعة ثانية، والشريك من حقه أن يشفع في كل بيعة جديدة، حينما وقع البيع الأول ربما كان المشتري قريباً له فسكت، أو لم يكن آنذاك مال، لكن لما وقعت الإقالة كان عنده سيولة ومال، فقال: ما دام أنك أقلته، فهذا بيع وأريد أن آخذ حصة شريكي بثمنه وعليك تخرج من الأرض، فتبين أن فيها ضرراً، ومن هنا نقول: إن الإقالة في بعض الأحيان تدخل الضرر على الإنسان فلا يرضى بها.
وعليه يقول العلماء: إنه يجوز للشريك أن يشفع إن قلنا: إنها بيع، ولا يجوز له أن يشفع إن قلنا: إنها فسخ، والصحيح أنها فسخ


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #306  
قديم 22-05-2024, 01:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (299)

صـــــ(1) إلى صــ(16)


شرح زاد المستقنع -‌‌ باب الربا والصرف [1]
الربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع العلماء، وقليله وكثيره في التحريم سواء، إلا أن هناك من لبس عليهم الشيطان فاستجازوا لأنفسهم بعض صور الربا بشبه واهية ضعيفة رادين بذلك نصوص الكتاب والسنة الواضحة.
والربا يجري في الأصناف التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وهي: الذهب والفضة والبر والتمر والشعير والملح، ويقاس غيرها عليها بجامع الثمنية في الذهب والفضة، والطعم مع الكيل أو الوزن في المطعومات
‌‌تعريف الربا وأدلة تحريمه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الربا والصرف].
الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل:92] أي: أزيد وأكثر عدداً.
وأما في الاصطلاح فهو: زيادة مخصوصة في أشياء مخصوصة.
والربا ينقسم إلى قسمين: 1 - ربا النسيئة.
2 - ربا الفضل.
فأما ربا الفضل: فإنه يكون في الأصناف المنصوص عليها، والملحقة بالمنصوص عليها.
وأما ربا النسيئة: فإنه يكون بزيادة الأجل فيما يجب فيه التقابض.
وهذا الباب عظيم؛ لأنه يشتمل على محظور شرعي عظم الله أمره ونهى عباده عنه، وزجرهم عنه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279]، فنهى سبحانه وتعالى عن الربا وحرمه، وتوعد صاحبه بالحرب، ومن حاربه الله عز وجل فلا يسأل عن حاله، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا من ذلك، وأن يعيذنا منه؛ لأن الله إذا حارب العبد ابتلاه في نفسه وعذبه في دنياه، فأشقاه في نفسه وماله وأهله وولده، فلم تقر له عين في دنياه، ثم ما ينتظره في الآخرة أشد وأعظم.
لقد توعد الله تعالى على هذا الأمر بهذا الوعيد الشديد، ولذلك أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى حينما جعله من كبائر الذنوب، وكما نهى الله عز وجل في هذه الآيات من سورة البقرة
‌‌شبهة وجوابها
كذلك نهى الله عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، وهذه الآية فيها شبهة يحتاج طالب العلم إلى أن ينتبه لها k وهذه الشبهة هي: أن الله تعالى حرم الربا إذا كان أضعافاً مضاعفة، أما إذا كان يسيراً فلا بأس، وهذا هو المدخل الذي أجاز به بعض المعاصرين في فتواه حل شهادات الاستثمار من فئة (ج)، وهي الدرجة الثالثة من استحقاق الربوي، يقولون: لأن نسبتها ضعيفة، ولأن مالها يسير، وليس من الأضعاف المضاعفة، ويتذرعون بهذه الشبهة؛ بل تذرع بعضهم إلى أن الربا المحرم: أن يأخذ أجلين، أما لو أخذ زيادة على أجل واحد فلا بأس، وزين لهم الشيطان هذا كله، نسأل الله السلامة والعافية: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25].
فإذا انطمست البصيرة ينقاد صاحبها إلى الهوى، وإذا انقاد إلى الهوى أحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله، واستحل حدود الله بأدنى الحيل، ولذلك لعن الله بني إسرائيل وطبع على قلوبهم، حينما استحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل.
وشهادات الاستثمار من فئة (ج) يدور عليها الكلام في بعض الأحيان كثيراً، وحاصلها: أن يتقدم المستثمر فتحدد أولاً النسبة المدفوعة للاستثمار في هذه الفئة، مثلا: ً من ريال إلى مائة ريال، أو من مائة ريال إلى خمسمائة، وغالباً في هذا النوع من الربا تكون المبالغ بسيطة جداً، لأجل أن تجلب العوام ويكون الاستثمار منها أكبر، والمشاركون فيها أكثر، فتجعل المبلغ الذي يدفع زهيدا، ً على فترة ثلاثة أشهر، أو ستة أشهر، فيقولون له: ادفع كل شهر مائة، ثم إذا تمت ثلاثة أشهر ودفعت مائة مائة، فأدخل اسم هذا المستثمر في القرعة، ثم إذا خرج اسمه فإنه حينئذٍ يعطى جوائز معينة لعدد معين، فهم يقولون: هذا ليس بربا؛ لأنه ليس ربحاً محضاً، مثل الاستثمار الذي يكون بالفوائد والعوائد الربوية المعروفة، فيقولون: هذا أشبه ما يكون بالمضاربة.
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه: الوجه الأول: أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فللآية منطوق ومفهوم، فمنطوق الآية: تحريم أكل الربا أضعافاً مضاعفة، والاستدلال الذي ذكروه من باب المفهوم وليس من باب المنطوق، ففهموا منه أنه يحل أكل الربا إذا كان بغير أضعاف، فنقول: هذا من المنطوق الذي لا مفهوم له، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون:117]، فإنه ليس معناه أن هناك من يدعو مع الله إلهاً آخر له برهان، وفي القرآن آيات لها منطوق ومفهوم، وآيات لها منطوق وليس لها مفهوم، وهذه الآية من ذلك؛ بدليل تصريحه سبحانه وتعالى بتحريم الربا عموماً.
الوجه الثاني: لو سلمنا فرضاً أن الآية الكريمة لها منطوق ومفهوم، وأنه يحتج بالمفهوم على الجواز، فنقول: إن هذا المفهوم قد عارضه المنطوق من العموم في آية البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278]، ولم يفرق بين الأضعاف وغير الأضعاف، فإذا تعارض المنطوق والمفهوم، قدم المنطوق على المفهوم.
الوجه الثالث: نقول: آية البقرة حاظرة، وآية آل عمران مبيحة، وهذا على قولهم بالمفهوم، والقاعدة: أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح، قدم الحاظر على المبيح.
وبناءً على ذلك نقول: إنه لا يحل الاستدلال بهذه الآية على هذا الوجه، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الربا، حتى عده من السبع الموبقات، فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات -وذكر منها-: أكل الربا)، والعياذ بالله! وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الربا، وأنه من كبائر الذنوب، وأن صاحبه موعود بالنار إذا لم يتب، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]، قال طائفة من المفسرين: إنهم يقومون يوم القيامة ولهم بطون كالبيوت الضخمة، كلما وقف صاحبهم تكفأ على وجهه، والله على كل شيء قدير، فإن الله لا يعجزه شيء، إن شاء خلقهم على هذه الصورة، وإن شاء خلقهم على غيرها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (الذي خلقه يمشي على رجليه يخلقه يوم القيامة يمشي على وجهه)، فالله على كل شيء قدير، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [الإسراء:97]، فالله على كل شيء قدير، والمقصود: أنه محرم بهذا

‌‌الفرق بين القراض المشروع والربا الممنوع

وهنا مسألة: إذا كان الربا محرماً فنريد أن نتعرض لمسألة شبهات جواز الربا، وهي مسألة مهمة، حيث إن هناك شبهة تعتبر من أدق الشبهات التي يحتاج طالب الفقه إلى دراستها، ومعرفة جوابها، وهي باختصار أنهم قالوا: فوائد الربا كفوائد القراض، فتجوز فائدة الربا كما تجوز فائدة القراض وهذا يحتاج إلى شرح وتوضيح.
وحاصله: أنهم يقولون: هناك عقد شرعي وهو المضاربة أو القراض، وهو جائز شرعاً، والفوائد المصرفية والبنكية والعوائد الربوية بمنزلة العوائد من المضاربة.
وهذا يحتاج أولاً إلى أن نعرف ما هي المضاربة، ثم كيف قيست الأسهم والفوائد والعوائد الربوية على المضاربة.
قالوا في المضاربة: حقيقتها أن يدفع رب المال مائة ألف مثلاً لعامل، ويقول له: اذهب واضرب بها، فإن ربحت فالربح بيني وبينك مناصفة، فإذا ربح خمسين ألفاً، فيأخذ خمسة وعشرين ألفاً، ويعطي صاحب المال مائة وخمسة وعشرين ألفاً، قالوا: فكما أن رب المال أخذ مائة وخمسة وعشرين ألفاً، فإنه يجوز لمن أودع مائة ألف أن يأخذ فائدة عليها عشرة آلاف، أو عشرين ألفاً، على حسب المتفق، فالبنك والمصرف بمثابة العامل الذي عمل بالمضاربة، والعميل بمثابة رب المال في المضاربة.
وما الفرق بين الاثنين؟! واعجب فما تنفك من عجائب! حينما يأتي بعض من لا يحسن النظر في الفقه، ويتسمى بأنه فقيه، أو عنده إلمام بالفقه، ويقول: إن المضاربة عقد ليس فيه نص من الكتاب ولا من السنة، فيختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة! وحينئذٍ نقول: هذه العوائد البنكية هي مضاربة عصرية؛ لأننا اجتهدنا فيها باجتهاد العصر الملائم، وهذا كما قال تعالى: {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال:48]، انظر كيف يزين الشيطان لهم، وحينئذٍ نحتاج إلى أن ندرس هذه الشبهة باختصار.
وحاصل ذلك أن نقول: إن المضاربة ثبتت بدليل السنة، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة، فقال: إن بعض الفقهاء يقول: المضاربة ليس فيها نص من الكتاب والسنة، وقد أخطأ في ذلك، فإن المضاربة كانت معروفة في الجاهلية، وأقرها الإسلام، فبسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عليها كانت مشروعة بدليل أنه ضارب بمال خديجة، وهذا ثابت ولا إشكال فيه، وكان في القديم رحلة الشتاء والصيف، قال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1 - 2]، فكانوا يتاجرون بالمضاربة، ويعطون من يقوم على هذه التجارة والعير، من وجهاء قريش كـ أبي سفيان ونحوه، فقد يخرج بها ويضارب ثم يأخذ نسبة من الأرباح على التجارة، وعلى هذا قال: إنها ثابتة بالسنة، فمن قال: إنه لا نص فيها بالكتاب والسنة، فهذا جاهل، هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية: أن فيها إجماع الصحابة، وحاصلها قصة عمر المشهورة مع ابنيه عبد الله وعبيد الله، فإن عبد الله وعبيد الله خرجا إلى أبي موسى الأشعري في الكوفة، وكان أبو موسى والياً عليها، فقال لهما: ليس عندي من شيء، ولكن خذا هذه الإبل، واضربا بها، وأديا إلى أمير المؤمنين رأس المال، وخذا الربح، فمضيا وتاجرا في الطريق حتى قدما على عمر، فلما قدما على عمر، قال عمر رضي الله عنه: ما هذا؟ قالا: يا أمير المؤمنين! هذا لك وهذا لنا، فقال: سبحان الله! وكيف ذلك؟ قالا: إن أبا موسى فعل كذا وكذا، فقال: وهل أعطى كل المسلمين مثلما أعطاكما؟ قالا: لا، فقال: أديا المال إن كنتما ابني أمير المؤمنين، أما عبد الله فاستحى منه، وسكت ولم يعترض، وأما عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيت هذا المال لو أنه تلف أكنت تغرمنا إياه؟ قال: إي ورب الكعبة، قال: إذن ليس من حقك؛ لأن الخراج بالضمان، فما دمنا نحن الذين نضمن، فالسنة ثابتة عن أن من يخسر يضمن، فقال الصحابة: اجعله يا أمير المؤمنين قراضاً، فقسم الربح بينهما وبين بيت مال المسلمين.
فهذا قراض، وهو إجماع من الصحابة.
إذا عرفنا مشروعية المضاربة، فإنه يرد

‌‌السؤال
هل أخذ الفائدة والعائدة منزل منزلة القراض؟ أولاً: لماذا شرع الله المضاربة؟

‌‌الجواب
شرع الله المضاربة؛ لأن عندك مثلاً مائة ألف، وأنت مشغول بطلب علم، أو مشغول بعمل آخر، وغير متفرغ لضربه، أو ليست عندك خبرة في التجارة، وهناك عامل عنده خبرة، فالشريعة رفقت بالمجتمع من هذا الباب، فهذا العاطل الذي ليس عنده عمل اتفق مع هذا الغني، فأخذ المال، فاستفاد الناس من عمله، وخبرته، وتجارته، واستفاد هو من النماء، واستفاد رب المال من الربح، فحصل الرفق للمجتمع بوجود التجارة، والرفق لرب المال بوجود جزء الربح، والرفق للعامل بوجود الكسب الذي يكون من جزء الربح، فشرعت من أجل هذه المقاصد العظيمة، واليسر والرحمة والتخفيف على الأمة.
أما بالنسبة للمال الذي يدفع للبنك والمصرف إذا وردت عليك شبهة، وقيست على شيء، فقرر الأصل وادرسه من كل جوانبه، ثم انظر فيما قيس عليه، هل الشبه كامل أو ناقص؟ فنقول: أولا: ً بالنسبة للمضاربة يقول العلماء: أن يدفع رب المال للعامل المال على أن يتجر به، والربح بينهما على ما شرطا، فعندما يدفع العميل للبنك أو المصرف هل يقوم البنك بالعمل والتجارة؟ الجواب: لا.
وليس هناك أي مادة تخول لهم أن يدخلوا إلى الساحة ويتعاملوا مع الناس؛ لأن أصل تجارة البنك تقوم على حفظ الأمانة، وإنما رخص لهم بالحفظ، ولا يؤذن لهم بأن يقوموا أنفسهم بالتجارة أو منافسة التجار، هذا معلوم وثابت، نتاجهم إنما يكون بأن يأخذوا منك مليوناً، ومن الثاني مليونين، ومن الثالث مائة ألف، ثم تؤخذ هذه وتعطى لأشخاص ديناً على أن يردوها بعوائدها، فأصبح لا حقيقة للعمل، أما المضاربة ففيها ضرب، وتجارة، ولكن الإيداع ليس فيه ضرب ولا تجارة، فأصبح قياساً مع الفارق.
ثانيا: ً في المضاربة الشرعية يدفع رب المال للعامل المال على أن يتجر به، والذي يضمن الخسارة هو رب المال، لكن البنك إذا تاجر بمال العميل، فإنه يلتزم برده كاملاً، ولذلك فإن جميع المواد تنص على أن الوديعة المصرفية دين على البنك وليست بمجال للاستثمار، حتى في القانون ينصون على أنها تأخذ حكم القرض، وهذا موجود، ومن رجع إلى المواد يجد هذا جلياً واضحاً.
إذاً: ليست بيد تجارة، وإنما هي يد ضمان، ويد العامل في المضاربة يد أمانة، وبالإجماع: لا يضمن العامل إلا إذا فرط، فلو أعطيت عاملاً مائة ألف وذهب وتاجر، ثم احترق المال بدون تفريط منه، فلا يضمن، كأن كسد السوق بدون تفريط منه، ونحو ذلك.
لكن لو قصر، كما لو اشترى التجارة من أرض بعيدة، وبإمكانه أن يحضرها عن طريق البر وعن طريق البحر، وفي طريق البحر الموج هائج، وفي زمان شديد البرد، وكثير الرياح، فجاء وخاطر وأدخل السفينة في البحر فغرقت، فإنه يضمن؛ لأنه قصر.
إذاً: العامل لا يضمن في المضاربة؛ لكن إذا دفع العميل المال للمصرف، فإن المصرف يلتزم برد المبلغ كاملاً إن خسر، إذاً: هناك شبه وفارق مؤثر.
ثالثاً: حينما يعطي رب المال للعامل مائة ألف على أن يتجر بها، فإنه يدخل والربح محتمل؛ لكن بالنسبة للعقود المصرفية يلتزم المصرف بإعطاء هذا الاستحقاق الذي هو (5 %) أو (10 %)؛ حتى إن العميل إذا لم يأخذ الاستحقاق قاضاهم قضاءً وقانوناً في قانونهم، وطالبهم بهذا الذي تم الاتفاق عليه.
إذاً: هناك اختلاف بين هذا وذاك.
رابعاً: المضاربة يكون نتاجها من معاملة شرعية، فلو ضارب بحرام لحرمت الأرباح، وأما بالنسبة للمصرف فإنه يأخذ هذه العوائد من الديونات بالفوائد المركبة، فلو كانت مضاربةً فإنها ناشئة من معاملة محرمة، كما لو أخذ المضارب المال وتاجر به في الميتات، أو في المحرمات؛ لحرمت تجارة المضاربة.
كذلك أيضاً لو سلمنا فرضاً أنها مضاربة، أو في حكم المضاربة كما يقولون: إن المضاربة تختلف باختلاف الحال؛ فلو قال: إن هذه الأحكام كلها اجتهادية، وليس فيها نص، فنقول: إذا كانت اجتهادية فأنت بالخيار بين أمرين: - إما أن تبقى على الأصل المجمع عليه بالمضاربة.
- وإما أن تلغي المضاربة من أصلها.
فإن بقيت على المُجْمَع عليه فلا يتفق مع ما ذكرت، وإن ألغيتها من أصلها فهو عقد تقيس عليه، وما قيس على باطل فهو باطل حقيقةً.
وعلى هذا: فإن هذه الشبهة غير واردة؛ لأنه لا يصح لا من جهة تركيب أركان المضاربة وشروطها الشرعية، ولا من جهة النتاج، وما يؤخذ أو يركب على العوائد
‌‌الأصناف التي يجري فيها الربا
لقد قامت مسائل الربا على أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك أحاديث يعتبرها العلماء رحمهم الله أصولاً لهذا الباب، من ضبطها وألم بمسائلها فإنه يستجمع كثيراً من الأحكام المتعلقة بالربا.
ومن أشهر هذه الأحاديث؛ بل هو أشهرها وأوسعها، ويعتبره العلماء رحمهم الله قاعدة هذا الباب، حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، والتمر بالتمر، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد).
وفي رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن زاد أو استزاد فقد أربى)، وهذا الحديث يعتبر قاعدة لباب الربا.
ونحتاج إلى مقدمة لابد من ضبطها حتى تسهل المسائل التي سنتكلم عليها إن شاء الله فنقول: هناك أصناف حرم الله عز وجل على المسلم أن يبيعها إلا إذا تماثلت، فإذا بعت هذا الصنف بمثله فلابد أن يكونا متماثلين، إما بالوزن إن كانا موزونين، وإما بالكيل إن كانا مكيلين، وهذه الأصناف يسميها العلماء بالأصناف الربوية.
وهناك أصناف وسع الله على عباده، فيجوز أن تأخذ الشيء بأكثر منه، فتأخذ الواحد بالاثنين، وتأخذ الشيء بأضعافه، ولا بأس في ذلك ولا حرج.
فإذا حرم الله عليك أن تبيع هذا الصنف بأكثر منه وزناً أو كيلاً فهذا يسمى بالصنف الربوي، وإذا أباح الله لك أن تأخذ هذا الشيء بأكثر منه وزناً أو كيلاً فهذا صنف غير ربوي، فانقسمت الأشياء التي يتبايع بها الناس إلى قسمين: 1 - أصناف ربوية.
2 - أصناف غير ربوية.
والأصناف الربوية: هي التي لابد فيها من أمرين: 1 - التماثل.
2 - التقابض.
فإذا بعت هذا الشيء بهذا الشيء من الأصناف الربوية فإن الشرع يوجب عليك أن تستلمه يداً بيد، فتأخذ بيد وتعطي بأخرى، وهذا ما يسمى بالتقابض.
إذاً: كل ما يشترط فيه التماثل والتقابض يوصف بكونه صنفاً ربوياً، فإن أسقط الشرع المؤاخذة وأجاز لك أن تبيع الشيء بأكثر منه، وأجاز لك أن تؤخر أحد المبيعين، فهذا صنف غير ربوي.
إذا عرفنا أن الأصناف منها الربوي ومنها غير الربوي، فإن الأصناف الربوية التي سنبينها لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون أصنافاً منصوصاً عليها.
الحالة الثانية: أن تكون أصنافاً مقيساً عليها، أو ملحقة بالمنصوص عليه.
وتوضيح ذلك: أن الأصناف التي يحكم العالِم بعدم جواز بيع بعضها ببعض متفاضلة: إما أن يكون فيها نص عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سمى ذلك الشيء بعينه، فحينئذٍ يسميه العلماء صنف منصوص، أي: أنه من الأصناف الربوية المنصوص عليها.
وهناك صنف ثانٍ ربوي لكنه قيس على هذا ولم ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ألحق به.
أما الأصناف المنصوص عليها فإنها قد جاءت مجتمعة في حديث عبادة السابق، ولذلك يسميه العلماء: حديث الأصناف الربوية، أو حديث الأصناف الستة، وهذا الحديث قاعدة باب الربا، فتفرعت عليه مسائل ربا النسيئة والفضل.
وهذه الأصناف الستة هي كالآتي: الذهب، والفضة، والبر، والتمر، والشعير، والملح، وإذا جئنا نبحث مسائلها سنبحثها على مرحلتين: المرحلة الأولى: أن تباع مع اتحاد الجنس والصنف؛ كبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح.
المرحلة الثانية: نبحث في بيعها مختلفة الجنس أو مختلفة الصنف.
وهذه الأصناف الستة سنقسمها إلى قسمين: القسم الأول: غير المطعوم، وهو جنس الأثمان الذهب والفضة.
القسم الثاني: جنس المطعوم، وهو الأربعة الباقية
‌‌الذهب والفضة
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب)، والذهب: هو المعدن المعروف، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعله قيماً وثمناً للأشياء، وهذا المعدن إذا بيع بمثله -كذهب بذهب- فلابد فيه من التماثل والتقابض، والذهب كما هو معلوم له حالات: الحالة الأولى: أن يكون على أصل خلقته، ويسمونه: الخام، وهو الذي استخرج من معدنه، والخام سواء صفي، وهو الذي يسمى بالسبائك، أو بقي فيه الشوب تابع لأصل خلقته.
الحالة الثانية: أن يصنع فيضرب دنانير، فيعتبر نقداً مثلما هو موجود في الدنانير، أو يضرب جنيهات من الذهب، فتكون عملة.
الحالة الثالثة: أن يكون حلياً، كالأسورة والقلائد ونحوها مما تتحلى به النساء، وفي جميع هذه الأحوال بيّن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يجوز بيع الذهب إلا مثلاً بمثل، يداً بيد.
إذاً: هذا الصنف الأول من الأصناف الستة الربوية إذا بيع بمثله فلابد فيه من أمرين: الأمر الأول: التماثل.
الأمر الثاني: التقابض.
فإذا بعت الذهب بالذهب، سواءً كان خاماً أو مضروباً كالدنانير، أو كان حلياً، أو مصنعاً من حلي أو غيره؛ فلابد من التماثل والتقابض، فمثلاً: امرأة جاءت بحلي قديم وتريد أن تستبدله بحلي جديد، فنقول: لابد أن يكون مثلاً بمثل، ويداً بيد، فلا يجوز أن يبيعها غرامات أقل بغرامات أكثر، فيقول لها مثلاً: هذا الذي عندك قديم فأشتري المائة غرام منك بتسعين من الجديد الذي عندي، فلو استفضل غراماً واحداً آخذاً أو معطياً فهو ربا الفضل.
كذلك لابد من التقابض، فلو قلت: سوف أعطيك الذهب الآن، فقال: وأنا سوف أحضر الذهب الذي عندي بعد ساعة، أو بعد خمس دقائق سأذهب وأحضره، فإنه ربا، ويسمى: ربا النسيئة.
إذاً: لابد من الأمرين: الأمر الأول: التماثل: وهو يتحقق بالوزن، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (مثلاً بمثل)، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (وزناً بوزن (، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض).
الأمر الثاني: التقابض: وذلك بأن تعطيه وتأخذ، فلا يفترقا عن بعض إلا وقد أخذ كل منهما السلعة من الآخر، أو المدفوع من الآخر.
لكن هنا مسألة: وهي أن الذهب من حيث هو هناك عيار ثمانية عشر، وهناك عيار واحد وعشرون، وهناك عيار أربعة وعشرون، ففيه الأجود، وفيه الجيد، وفيه الرديء، وقد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب)، وهذا اللفظ عام يشمل جميع أنواع الذهب إذا بودلت، فينبغي فيها التماثل.
فلو قال قائل: إن هذا الذهب من عيار ثمانية عشر، وهذا الذهب من عيار أربعة وعشرين، فأنا سأدفع الفرق بين عيار أربعة وعشرين وعيار ثمانية عشر، فنقول: لا يجوز بيع الذهب بالذهب ولو اختلفا في الجودة إلا مثلاً بمثل، بدليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه عامله على خيبر ومعه تمر، فلما وضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه، فقال صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم: أوه -وهي كلمة التوجع- عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً).
ووجه الدلالة: أن التمر صنف ربوي، فنظر إلى التفاضل في الجودة والرداءة في التمر، فباع الرجل الجيد بالرديء متفاضلاً لقاء الجودة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (عين الربا، لا تفعل)، ثم ذكر له الحيل الشرعية؛ لأن الحيل منها ما هو شرعي جائز، ومنها ما هو محرم، فأعطاه البديل، وقال له: (بع الجمع -أي: الرديء- بالدراهم، ثم اتبع بالدراهم جنيباً) أي: الجيد والصنف المطلوب.
فهذا يدل على أنه إذا أراد أن يبادل صنفاً من الأصناف الربوية مطعوماً أو مثموناً، فلابد أن يكون مثلاً بمثل، ولو اختلفا في الجودة أو الصنعة أو العيار، فلابد من التماثل والتقابض؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عتب على عامله أن فاضل من أجل الجودة، فدل على أنه لابد من التماثل بين الطرفين.
والقول في الفضة كالقول في الذهب، فالفضة صنف من الأصناف الستة المنصوص عليها في الحديث، فإذا باعها بفضة مثلها فلابد من التماثل والتقابض، سواءً كانت الفضة خاماً، أو مضروبة دراهم، أو كانت مصنّعة حلياً أو غيره، فلابد من التماثل في جميع ذلك، ولا يجوز أن يستفضل فيبادل بعضها ببعض متفاضلاً.
فيستوي في ذلك أن تكون الفضة معدناً، أو حلياً، أو نقداً يتعامل به كالدراهم، وفي زماننا الريال، فإن ريال الفضة القديم وجد بدله الريال الورق، فينزل منزلة أصله، ولذلك سمي باسمه، وأعطي مستنداً لأصله؛ بغض النظر عن المنتزع الذي يذكر من كونه يتوصل إلى رصيده أو لا يتوصل، فالعبرة بالأصل، فأصله دين، فيرد النظر عن القدرة على استيفائه أو عدم القدرة على ذلك.
وبناءً على هذا: لو سأل سائل عن مبادلة الفضة بعضها ببعض؛ كامرأة عندها حلي من الفضة قديم، وتريد أن تستبدله بحلي من الفضة جديد، فنقول: لابد أن يكون مثلاً بمثل، يداً بيد.
هذا بالنسبة للذهب والفضة، وبناءً على ذلك نكون قد انتهينا من جنس الأثمان
‌‌المطعومات
أما جنس المطعومات، فهناك أربعة أصناف نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: البر، والتمر، والشعير، والملح.
- فالبر والشعير جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً للحبوب.
- والتمر جعله أصلاً للحلويات؛ كالعسل والزبيب ونحوه.
- والملح جعله أصلاً لما يستصلح به الطعام؛ كما يقع في الأدقة ونحوها.
فهذه الأصناف تسمى بالأصناف المطعومة، فلو أخذنا البر، بأن يبيع البر بالبر، فينبغي أن يكون مثلاً بمثل، يداً بيد، سواءً كان كلا البرين جيداً، أو كان أحدهما جيداً والآخر رديئاً، أو كان أحدهما جيداً والآخر أجود منه، فلابد أن يبيع مثلاً بمثل.
ولو قيل: كيف أبيع الجيد بما هو أردأ منه مثلاً بمثل؟ فيقال: إذاً بعه بالنقد، ثم اشتر بذلك النقد بديله وما تريد مقامه.
فإذا قيل: هذا تعب وتكليف للناس، فيقال: هكذا جاءت السنة، ولا يسعك إلا أن تسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً)، فدل على أنه يعدل إلى الحيلة الشرعية التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما قلنا في الذهب والفضة: يستوي الجيد والرديء، ولابد من التماثل والتقابض، فلو قال له: خذ البر الآن وأنا آخذ منك غداً، أو آتيك بعد ساعة، فإنه يعتبر ربا نسيئة، ولا يجوز إلا إذا كان يداً بيد مثلاً بمثل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثلاً بمثل، يداً بيد).
وكذلك التمر: فإذا بادل التمر بالتمر فلابد أن يكون مثلاً بمثل بالكيل.
والفرق بين التمر والذهب والفضة: أن الذهب والفضة تتحقق المماثلة فيهما بالوزن، وأما بالنسبة للتمر والبر والشعير والملح، ففي الأعراف المشهورة في العهد القريب تتحقق المماثلة فيها بالكيل، فلابد إذا باع طعاماً من تمر أن يماثله بصاعٍ مثله، فلو باعه الصاع بالصاعين أو الصاع بالصاع والنصف، فهذا هو الربا الذي حرم الله، وهو ربا الفضل

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #307  
قديم 22-05-2024, 01:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (300)

صـــــ(1) إلى صــ(16)



‌‌اشتراط التماثل والتقابض في بيع الربوي بمثله
إذا علمنا هذا، وهو أن الأصناف الستة إذا بيع الصنف بمثله اشترط التماثل في الكيل كيلاً كصاع بر بصاع بر، أو صاع تمر بصاع تمر، وفي الوزن وزناً، كأن تقول: مائة غرام من الذهب بمائة غرام من الذهب، ولا يفاضل بينهما، سواءً اتفقت الصنعة أو الجودة أو اختلفت، فالحكم في الجميع واحد، فنقول: إن هذه الأصناف يشترط فيها التماثل والتقابض، ودليل ذلك ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (مثلاً بمثل، يداً بيد)؛ لأنه قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح) أي: بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح.
فجعلها مقابلة لبعضها، فقال: (مثلاًَ بمثل) أي: بيعوها مثلاً بمثل، فدل على أنه لا يجوز بيعها عند فقد التماثل، كذلك أيضاً قال: (يداً بيد)، فلما قال صلى الله عليه وسلم: (مثلاً بمثل)، وقال: (يداً بيد)، أشار إلى نوعين من الربا: النوع الأول: ربا الفضل.
النوع الثاني: ربا النسيئة

‌‌وقوع ربا الفضل والنسيئة في الأصناف الربوية

فأما ربا الفضل: فالفضل أصله الزيادة، وإذا قلت: فلان له فضل، أي: فيه زيادة من خير وطاعة وبر، فربا الفضل ربا زيادة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: (مثلاً بمثل)، وقوله في معنى العكس: (ولا تشفوا بعضها على بعض)، أي: لا تزيدوا بعضها على بعض.
وعلى هذا يتحقق ربا الفضل إذا كان الصنف واحداً من الأصناف الستة، سواءً بودل بمثله، أو بيع بمثله مع الزيادة في وزن أو كيل؛ كصاع بصاعين، وصاع بصاع ونصف، ومُدان بمُد، ونحو ذلك، والوزن مثل: مائة غرام بخمسين غراماً، أو مائة غرام بخمسة وسبعين، أو مائة بتسع وتسعين غراماً، كل هذا يعتبر من الربا، فلو نقص غرام واحد فإنه ربا.
أما ربا النسيئة: فالنسيئة من النسأ، وأصله التأخير، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]؛ لأنهم كانوا ينسئون ويؤخرون الأشهر الحرم عن مواقيتها، وسمي هذا النوع من الربا بربا النسيئة؛ لأنه يقوم على التأخير، فانظر إلى حكمة الشريعة وما جاءت به من العدل بين المتعاملين، فإنك إذا بعت الذهب بالذهب، فمن العدل إذا أعطاك مائة غرام أن تعطيه مائة غرام في مقابلها، ولا تؤخره كما لم يؤخرك، فالعدل يقتضي أن تنجز له وينجز لك.
وبناءً على ذلك: لو بذل أحد الطرفين فقدم وأخر الثاني فإنه يقع ربا النسيئة، لكن بضوابط، فلو تأخر في الدفع فيقع ربا النسيئة بافتراق أحدهما عن الآخر قبل التقابض، فلو أنه قال له في مجلس العقد: عندي مائة غرام من السبائك، وأريدك أن تبادلني أو تبيعني بها مائة غرام من القلائد، فقال: قبلت، فهو لم يعطه شيئاً بعد، وتم الإيجاب والقبول، فمد له الحلي فتأخر الرجل يخرجها من بيته، أو يخرجها من شنطته، أو من كيسه، فلا يؤثر ما داما في مجلس العقد، على أصح قولي العلماء.
وهناك قول آخر: وهو أنه لابد أن يعطي بيده ويستلم بالأخرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر في الصحيح: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء)، أي: عندما تعطيه تقول: هه، وهو أيضاً يقول لك: هه، فمعناه: أنك تعطيه ويعطيك منابذة وحالاً، قالوا: فلو تأخر حتى ليدخل يده في جيبه لإخراج السلعة فإنه لم يتحقق قوله: (هاء وهاء)، فلابد أن يمد بيد ويعطيه بأخرى، وهذه المسألة يسمونها: مسألة صندوق التاجر، حيث كانوا في القديم يأتي ويكلم التاجر ومعه الحلي، فينزل التاجر إلى الصندوق ويخرج منه، كما هو موجود الآن في (البترينة) أو نحوها حين يقفلها ويفتحها حتى يستخرج منها المبيع، فقالوا: لا يجوز له أن يتعاقد معه إلا إذا نجز، وهذا المذهب فيه تشدد، لكن فيه رحمة
‌‌الحكمة من تحريم الربا
والناس قد ينظرون للحكم هكذا ويظنون أن فيه شدة وعسراً، لكن للشريعة حكم عظيمة؛ فإن هذا الاشتراط للتقابض يدفع عن الناس من الشر ما الله به عليم.
وكثير من المظالم تقع بسبب عدم التقابض، حتى إن أحد خبراء الاقتصاد من الكفار المعاصرين لما قرأ شرط الشريعة في التقابض، قال: لو أن العالم طبق شرط الشريعة الإسلامية في التقابض في النقدين، فإن ثلاثة أرباع مشاكل الاقتصاد سوف تنتهي؛ لأن التعامل كله بالكلام، والنكسات التي تقع حينما يحدث السحب بالسيولة غير موجودة، فتحدث بسبب ذلك الديونات والإحراجات، ويحصل بسبب ذلك الظلم.
ومن هنا اشترطت الشريعة التقابض؛ لأنه يدفع باب الاحتيال، فلو قال لك: أبيعك مائة دولار مثلاً من الذهب، وأعطيته النقد ولم يعطك إياها، فربما قال لك: أبيعها لك، وسجلها دون أن تكون موجودة في رصيده، بزعمه أنك إذا جئت تطلبها في أي وقت فإنه سوف ينجزها لك، فربما جئت تطلبها في أحرج الأوقات، فتصيبه النكسة، فيضر بنفسه.
وأيضاً أضر بغيره؛ لأنه ربما وقف العاجز الذي لا يستطيع أن يسدد ديونه لقاء السحوبات، كما يقع في بعض المصارف نكسات بسبب عدم وجود السيولة، فالشريعة لم تشترط هذا من فراغ، ولنمثل لذلك بمثال في مسألة دفع الضرر على هذا النطاق العام وهو ضرر أخف، فمثلاً: إذا جئت إلى رجل وأعطيته خمسمائة ريال وأنت تريد صرفها، أو اشتريت مثلاً بعشرة ريالات وأعطيته خمسمائة ريال، فإنه يأخذها مباشرة ويرميها في الصندوق ثم يقول: كم أعطيتني؟ فتقول: خمسمائة، فيقول: لا، بل أعطيتني مائة.
فتقول: أعطيتك مائة.
فيقول: لا، بل أعطيتني خمسين.
فتقول: خمسين.
فيقول: بل عشرة، هذا إذا لم يقل لك: لم تعطني شيئاً؛ لأنه ينسى.
فالشريعة تريد العدل، فإذا أخذ منك الذهب أعطاك مقابله باليد الأخرى؛ لأنك رضيت أن تبذل ذهبك لأجل العوض، فهذا كله مبني على حكمٍ عظيمة، فإن اشتراط التقابض وتحريم النسأ فيه دفع للضرر عن العامة والخاصة
‌‌التفصيل في بيع الربويات بعضها ببعض
وبناءً على ذلك فالأصناف الستة يشترط فيها التماثل والتقابض، وهذا كله إذا وقع التبايع بالصنف بمثله، كذهب بذهب، وفضة بفضة، وبر ببر، وتمر بتمر، وشعير بشعير، وملح بملح، لكن لو وقع التعامل مع الاختلاف، فإن الحكم يختلف، فإذا حصل الاختلاف اليسير اختلف الحكم يسيراً، وإذا وقع الاختلاف الكلي اختلف الحكم كلياً، وحكم بجواز التفاضل وجواز النسأ والتأخير.
وتوضيح ذلك: أن الأصناف الستة إذا بعتها مختلفة، فإما أن تبيعها مع اتحاد الجنس واختلاف النوع، وإما مع اختلاف الجنسين، فنقسم الستة إلى أثمانٍ ومطعومات، فالأثمان الذهب والفضة، والمطعومات الأربعة الباقية، فالذهب والفضة إذا بيعا مختلفين فإن جنسهما واحد، أي: جنس أثمان، فإذا بعت مع اتحاد الجنس واختلاف الصنف فيشترط التقابض فقط، فيجوز أن تبيع الكيلو من الذهب بالكيلوين من الفضة، لكن بشرط أن يكون يداً بيد، ولا يجوز أن يؤخر أحد المتعاقدين، فإذا اتفق جنس الثمن واختلف الصنف، كذهب بفضة، قلنا: يجوز التفاضل ولا يشترط التماثل، ويجب التقابض، فلا يفترقان عن مجلس العقد إلا وقد أعطى كل منهما للآخر ما له عليه.
مثال ذلك: لو جئت تشتري بالريالات الموجودة -ورصيدها فضة- ذهباً، وقال لك: الجرام بأربعين ريالاً، فاشتريت عشرة جرامات بأربعمائة ريال، أو مائة جرام بأربعة آلاف ريال، فيجب عليك أن تعطيه الثمن ويعطي لك الجرامات يداً بيد، فلا تفترقا عن مجلس العقد إلا وقد قبض كل منكما سلعة الآخر، أو ما عند الآخر.
فلو أن أحدكما أخر وافترقتما، فقد وقع ربا النسيئة من وجه واحد، وعند الانسحاب من الوجهين يجري الربا من وجهين، وعند اتحادهما من وجه واحد يجري الربا من وجه واحد، فيجري النسأ فقط ويجوز التفاضل.
أما لو اختلف الجنسان؛ كذهب بواحد من الأصناف الأربعة المطعومة، أو فضة بواحد من الأصناف الأربعة المطعومة، فيجوز التفاضل ويجوز النسأ، فيجوز أن تبيع الكيلو من الذهب بألف كيلو من التمر؛ لأنه لا يشترط التماثل، كذلك أيضاً يجوز أن تعطيه النقد الآن وتستلم منه التمر بعد يوم، أو بعد شهر، أو بعد سنة، ولا بأس بذلك؛ لأنه لا يوجد الربا لا من جهة التفاضل ولا من جهة التقابض.
وعليه قال العلماء: إن الأصناف الستة يجري فيها الربا من وجهين بشرط اتحاد الجنس والصنف، كذهب بذهب، وفضة بفضة، وبقية الأصناف الأربعة على ذلك، ويجري الربا من وجه واحد وهو ربا النسيئة، إن باع مع اختلاف الصنف واتحاد الجنس، كأن يتحد جنسهما كالأثمان، فيبادل الذهب بالفضة، فيجوز التفاضل بأن يبيعه الكيلو بالكيلوين، ولا يجوز النسأ وهو التأخير.
وكذلك لو باع البر بالتمر، فيجوز الصاع بالصاعين وبالثلاثة، ولكن يجب أن يكون يداً بيد، أما لو اختلف الجنسان كذهب ببر، أو تمر أو شعير أو ملح أو فضة بتمر أو شعير أو ملح، فإنه يجوز التفاضل ويجوز النسأ، ولا ربا في هذا النوع من البيع
‌‌الربا في غير الأصناف الستة المنصوص عليها
أما الأصناف التي سكت عنها الشرع، فجماهير السلف رحمة الله عليهم ومنهم الأئمة الأربعة على أنه يجري فيها الربا ولكن بشروط، وخالف في ذلك الظاهرية رحمهم الله، فقالوا: لا يجري الربا إلا في الأصناف الستة.
ومذهب الجمهور هو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر هذه الأشياء ذكرها أصولاً لغيرها، فذكر البر والشعير أصلاً للحبوب، فتقيس الأرز الموجود في زماننا والدخن والعدس والفاصوليا واللوبيا وغيرها من الحبوب ونحوها على البر والشعير.
كذلك أيضاً ذكر التمر لكي يقاس عليه الزبيب، والعسل، والحلوى، مما يباع كيلاً أو وزناً من جنس المطعومات، فجعلها أصلاً لغيرها.
وجعل ذكر الملح لكي يقاس عليه ما يستصلح به الطعام؛ كالأدقة ونحوها مما يوجد من البهارات الموجودة في زماننا.
إذاً: ليس من فراغ جاء قوله عليه الصلاة والسلام: البر والتمر والشعير والملح، إنما جاء تنبيهاً على المثل، ولذلك صح عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: (وكذلك ما يكال ويوزن)، وهو صحابي جليل فجعل ما يكال ملحقاً بالأصناف الأربعة المنصوص عليها كيلاً، وجعل ما يوزن ملحقاً بالمنصوص عليه من الذهب والفضة؛ لأنه كان يباع وزناً.
إذا علمنا أن الأصح أن الربا يجري في غير هذه الأصناف الستة، فلو سأل رجل عن الأرز الموجود في زماننا، أو سأل عن البرتقال أو التفاح أو الموز، وهذا من جنس المطعومات، أو سأل عن غير الطعام كالحديد أو النحاس أو الألمنيوم أو غيرها من المعادن، هل يجري فيها الربا أم لا؟ بمعنى: لو باع الرجل حديداً متفاضلاً؛ كطن من الحديد الصلب -وهو أجود أنواع الحديد- بنصف طن من الحديد الزهر، وهو رديء، فقال: أردت أن أبادل الحديد بالحديد متفاضلاً، فهل يجوز أم لا يجوز؟ كذلك يسأل الناس في زماننا هذا -ونحب أن نمثل بأمثلة موجودة الآن حتى يكون التطبيق واضحاً- فلو سأل عن ثلاجة بثلاجتين، أو سيارة بسيارتين، هل هذا من الربا؟ والسؤال عن الربا إنما يكون عند الزيادة؛ بل ربما يسأل: القلم بقلمين أو الدفتر بدفترين هل يجري فيه الربا أم لا؟ فكل واحد يسأل عما أشكل عليه أو وقع فيه، ومن هنا تسأل عن كل صغيرة وكبيرة موجودة في زمانك، فإن الموجود في زماننا أكثره غير منصوص عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الذي لم ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كان من جنس المطعومات.
القسم الثاني: ما كان من غير جنس المطعومات.
مثال ذلك: لو أخذنا الحلوى الموجودة في زماننا وبعناها من جنس غير المطعومات، مثل الثلاجات أو الحديد أو النحاس، فهل يجوز بيع هذه الأشياء إذا اتحدت أصنافها متفاضلة؟ هذا يحتاج إلى تفصيل.
وتوضيح ذلك أن يقال: نأخذ أولاً غير المطعومات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بها، فقال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة)، فذكر لنا الأصل في غير المطعوم، وهو الذهب والفضة، فإن الله حرم بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل؛ لمكان العدل، فإنه إذا باع الذهب بالذهب متفاضلاً، فهنا يوجد ظلم.
ومن هنا قال طائفة من العلماء رحمهم الله، وهو رواية عن الإمام أحمد، وذكر المرداوي رحمه الله صاحب الإنصاف أن المذهب عليها، وهو مذهب الحنفية أيضاً: أن العلة في الذهب والفضة الوزن، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب وزناً بوزن، والفضة بالفضة وزناً بوزن)، فكأن مقصود الشرع حصول التماثل بالوزن، فما كان يوزن من غير المطعومات فلابد فيه من التعادل والتكافؤ في الوزن.
ومن هنا إذا باع الموزون بالموزون مع اتحاد الصنف وقع الظلم، وقالوا: إن الموزونات من غير الذهب والفضة تقاس على الذهب والفضة، فلا يجوز بيعها متفاضلة مع اتحاد الصنف، فلو سأل رجل وقال: عندي عمارة وأريد أن أبنيها، فأخذ لها قطعة حديد من الرديء، وجاءه رجل وقال: هذا الطن الذي هو ألف كيلو عندك أريد أن أبادله بنصف طن من الصلب الذي هو أجود عندي، فهل يجوز أم لا يجوز؟ نقول: لا يجوز بيع هذا الحديد بمثله متفاضلاً؛ لأنه موزون، قياساً على الذهب والفضة.
كذلك لو سأل عن النحاس -وقد جرى العرف ببيعه وزناً- عن طن منه بنصف طن، أو طن بطن ونصف، فنقول: لا يجوز؛ لأنه موزون؛ كما لا يجوز بيع الذهب بالذهب متفاضلاً.
لكن لو أن غير المنصوص عليه -الذي قسناه على الذهب والفضة الذي هو الحديد والنحاس ونحوها من المعادن- لو دخلت فيه الصنعة فأخرجته عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مذروعاً فما الحكم؟ من باب المناسبة حتى يكون الحكم واضحاً: الوزن مثل الغرامات، ومثل الكيلو والطن، ونحو ذلك، والكيل كالصاع واللتر، فإن اللترات تسمى كيلاً، فلا يفهم البعض أن الكيل هو الكيلو غرام؛ بل الكيل مثل الصاع والمد والرطل، ونحوها كاللترات الموجودة في زماننا.
فهناك ما يباع عدداً كالسيارة، فإن السيارة لا تباع وزناً ولا كيلاً ولا بالذرع، وإنما تباع بالعدد، فتقول: أريد سيارة بسيارتين، والإبل والبقر والغنم كلها تباع بالعدد، فعندنا أشياء تباع بالوزن، وأشياء تباع بالكيل، وأشياء تباع بالعدد، وأشياء تباع بالذرع.
والذرع مثل القماش فإنه يباع بالمتر، وكذلك المخططات في الأراضي تباع بالذرع، فالشيء الذي يباع بالوزن من غير المطعوم لابد أن يكون مثلاً بمثل، لكن لو دخلت فيه الصنعة فأخرجته عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مزروعاً، مثال ذلك: لو أن رجلاً عنده طن من الحديد، ثم أخذ هذا الطن فقطعه قطعاً وأوصالاً بالأمتار، وأصبح يبيع مثلاً المتر بكذا، وحينئذٍ خرج عن كونه مباعاً بالوزن إلى كونه مباعاً بالذرع.
كذلك أيضاً قد يباع بالعدد، كأن يبيع بالواحدة أو بالاثنتين أو بالثلاث، وكما لو أخذ الحديد فصنعه سيارة، أو أخذ الحديد فصنعه ثلاجة أو غسالة أو نحو ذلك، فأخرجته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مذروعاً، فما الحكم؟ قالوا: إذا أخرجته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً أو مذروعاً جاز التفاضل وحرم النسأ، فيجوز أن يبيع القطعة بالقطعتين، والسيارة بالسيارتين وبالثلاث وبالأربع؛ لأن المعدودات قد يحصل العدل فيها مع اختلاف العدد، فالبعير الواحد قد يعادل ثلاثة أبعرة، ومن هنا قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ البعير بالبعيرين والفرس بالأفراس إلى إبل الصدقة)، وهي معدودات، فأجاز في المعدود التفاضل، وبناءً على ذلك قالوا: إذا أخرجته الصنعة عن كونه موزوناً إلى كونه معدوداً فإنه يجوز فيه التفاضل.
ولو سأل سائل فقال: هل يجوز بيع السيارة بالسيارتين؟ فنقول: نعم؛ لأنها ليست من جنس الربويات فتأخذ حكم الربوي، أعني: أن التفاضل فيها مغتفر، كالغسالة بالغسالتين، أو الثلاجة بالثلاجتين، فأي شيء من غير المطعوم إذا كان غير موزون جاز فيه التفاضل.
كذلك في الخشب: وهذا يقع حينما يشتري الخشب مثلاً بالوزن وهو خام لم يقطع ولم يفصل، فأراد أن يبادله بمثله، فهذا لا يجوز إلا مثلاً بمثل، لكن لو أن هذا الخشب يباع بالعدد، مثل ألواح الأبلكاش فإنها تباع بالأذرعة: المتر والمتر والنصف، وتباع بالعدد فيقول: اللوح واللوحان والثلاثة، وكل عشرة بكذا.
فخرجت عن كونها موزونة، فعندما تأتي وتشتري ألواح الخشب فلا تسأل: كم وزنها؟ إنما تقول: أريد لوحاً أو لوحين من صنف كذا وكذا، فإنه صار من جنس المبيعات بالعدد، فإذا أخرجت الصنعة الموزون إلى كونه معدوداً أو مذروعاً، جاز التفاضل، وحينئذٍ فلا يكون من جنس الربوي المنصوص عليه من كل وجه.
وهناك قول ثانٍ في ثبوت العلة في الذهب والفضة وهو أن العلة هي الثمنية، أي: كونهما رءوساً للأثمان، وقيماً للأشياء، والثمنية يسميها علماء الأصول: علة قاصرة، ولا يقاس عليها غيرها؛ لأن الله جعل في الذهب والفضة خصيصة، كما نبه على ذلك الإمام المقدسي رحمه الله في مختصر منهاج القاصدين.
وهذه العلة يقول بها الجمهور من المالكية والشافعية، وهي رواية عن الإمام أحمد: أن الذهب والفضة جرى فيهما الربا لكونهما ثمناً للأشياء وقيماً لها، وهذه العلة القاصرة مختلف فيها عند علماء الأصول، فبعضهم لا يرى التعليل بها، ولذلك يقول صاحب المراقي: وعللوا بما خلت عن تعدية ليعلم امتناعه والتقوية ومذهب الجمهور على أنه يجوز التعليل بالعلة القاصرة، لكن إذا قلنا: العلة في الذهب والفضة هي الثمنية، بناءً على القول الثاني، فإن الربا عندهم لا يجري في غير الطعام أياً كان ذلك، ولو كان موزوناً، إلا في الذهب والفضة.
فعلى مذهب الجمهور فبيع الطن بالطنين من الحديد يجوز، وبيع الطن بالطنين من النحاس يجوز؛ لأنهم لا يرون جريان الربا في غير المطعوم إلا في الذهب والفضة فقط.
وأما بالنسبة للمطعومات فقد اختلف العلماء رحمهم الله في علتها على أقوال: - فقيل: الكيل، كما هو مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد.
- وقيل: الطعم، كما هو مذهب الشافعية، ورواية أيضاً عن الإمام أحمد.
- وقيل: القوت والادخار، كما هو مذهب المالكية.
- وقيل: الطعم مع الكيل أو الوزن، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال بها بعض السلف، كما هو قول سعيد بن المسيب وطائفة، وهو أرجح الأقوال.
أما الطُعم فلنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل، فهذا حديث معمر بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه يدل على قوة قول القائل: إن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن.
وبناءً على هذا القول -أن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن- فكل طعام ينظر فيه: إن كان يباع كيلاً أو وزناً جرى فيه الربا من الوجهين عند اتحاد الصنف، وإن كان يباع عدداً لم يجر فيه الربا.
فمثلاً: الطعام مثل الأرز الموجود في زماننا، يباع وزناً وكيلاً بأن تضعه في الصاع، فتقول: صاع من الأرز أو صاعان، ونحو ذلك.
أيضاً يباع الطعام عدداً كالبطيخ، فتقول: أعطن
‌‌مسائل في الربا
ابتدأ المصنف رحمه الله بالقاعدة العامة، ثم ذكر تطبيقات لما يحرم فيه الربا من وجهين، ولما يحرم فيه الربا من وجه واحد، ثم بعد أن قرر أصول الربا انتقل إلى بيوع ذرائع الربا؛ لأن المحرمات الربوية تنقسم إلى: منصوص عليها، وملحقة بالمنصوص عليها، وهناك أشياء من البيوع في ظاهرها أو صورتها ليس فيها الربا، لكنها تئول إلى الربا، ويسمونها: بيوع الذرائع الربوية، كبيع ربوي مع الربوي وغير الربوي، وبيع العينة، ونحو ذلك مما سيبينه رحمه الله
‌‌تحريم ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يحرم ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه] إذا باع براً ببر، فيحرم ربا الفضل، وإذا حرم ربا الفضل فاعلم أن ربا النسيئة حرام، وإذا قلت: يحرم النسأ فقد يجوز التفاضل وقد يحرم، إذاً: تحريم النسأ لا يستلزم وجود ربا الفضل، وتحريم الفضل يستلزم وجود ربا النسيئة، وهذا هو الذي جعل ربا النسيئة أقوى من ربا الفضل.
وعليه حمل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أسامة: (لا ربا إلا في النسيئة)؛ وذلك لأنه أغلب وأكثر نوعي الربا انتشاراً، فيكون قوله: (لا ربا إلا في النسيئة) ليس المراد به الحصر، وإنما المراد به التعظيم، كقوله: (الحج عرفة)، فلما كانت أكثر مقاصد الحج في عرفة جعل الحج كأنه الوقوف بعرفة، وكذلك لما كان أكثر الربا في النسيئة، كان هذا خارجاً مخرج التعظيم، وليس المراد به حصر الربا في النسيئة.
وقوله: (وموزون) الموزون سواءً كان مطعوماً أو غير مطعوم، إذا بيع بجنسه فلابد أولاً أن يكون من الأصناف الربوية، فإن كان من جنس المطعومات، قلنا: العلة الطعم مع الكيل أو الوزن، وإن كان من غير المطعومات فإن العلة فقط هي الوزن.
فجاء بالأصل العام الذي هو الكيل والوزن؛ لأن المصنف رحمه الله رجح أن المطعومات العلة فيها الكيل فقط، وهي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وقد بينّا أن الأقوى والأرجح أن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن.
وقوله: (بيع بجنسه) بناءً على ذلك فإن البر مع البر والتمر مع التمر والملح بالملح كله يجري فيه الربا من الوجهين، لكن لو خرجت عن المنصوص عليه فسُئلت عن الأرز أو الحلوى، أو غير ذلك من المكسرات الموجودة في زماننا؟ فتقول: فيها تفصيل: فإن كانت مكيلة أو موزونة فلا يجوز بيع الجنس الواحد بمثله إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، وإن كانت تباع بالعدد جاز التفاضل، ولكن يجب أن يكون يداً بيد

‌‌اشتراط الحلول والتقابض عند بيع الربوي بالربوي

قال رحمه الله: [ويجب فيه الحلول والقبض]: أي: أن يكون البيع حالاً، وأن يتقابضا في المجلس، وعلى هذا فلا يجوز بيع الربوي بالربوي مؤجلاً، كأن يقول له: تعطيني غداً، وأعطيك غداً، أو أعطيك بعد شهر، أو تعطيني بعد شهر، فإن هذا بيع الدين بالدين، والربا فيه من الوجهين ولا إشكال.
وكذلك أيضاً: لو أخر أحدهما، فقبض أحدهما ولم يقبض الآخر، فإنه لا يجوز، بل لابد من التقابض بأن يكون ذلك حالاً، فيعطي هذا ويعطي ذاك.
أما الدليل على هذا فقوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً إلا هاء وهاء)، فنبه على لزوم التقابض في قوله: (هاء وهاء)، وهذا يستلزم أن يكون البيع على البت فيه دون أن يكون مؤجلاً من الطرفين أو أحدهما
‌‌بيع المكيل والموزون بجنسه كيلاً أو وزناً
قال رحمه الله: [ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلاً].
هنا مسألة التماثل، وقد ذكرنا أنه لابد من التماثل في بيع الأصناف الأربعة المطعومة إذا كانت مكيلة، فإذا قلنا: إن العلة في المطعوم هي الكيل، فلا يجوز بيع المكيل من المطعومات كلها بمثله إلا أن يتساويا في الكيل، ولا يعدل إلى الميزان.
مثلاً: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يباع التمر مثلاً كيلاً، فتبيع الصاع بالصاع، لكن لو قال لك قائل: أريد أن أبادلك مائة كيلو من التمر، فنقول: هذا ليس كيلاً إنما هو وزن، ولا يجوز في المكيل أن يباع بالوزن لمثله؛ لأن التماثل في الكيل يختلف عن التماثل في الوزن، ولذلك قالوا: لا يجوز بيع الربوي إذا كان مكيلاً بمثله إلا كيلاً.
وهذا كله من باب تحقيق التماثل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فالتمر من حيث هو فيه الأقماع، والقمع الموجود في التمر يزيد من وزنه، وإن كان شيئاً يسيراً، لكنه في الغرامات تظهر زيادته، فلوكان هناك صاع من التمر بأقماع، فإنه يزيد في الوزن، ولو كان التمر مجرداً مفصلاً من القمع، فمعنى ذلك أن الغرامات تستوي ولا يتحقق التماثل.
والتمر فيه الطويل وفيه القصير، ففي الكيل يكون التماثل بالجنس، ولكن في الوزن يكون التماثل بالثقل، والتماثل في الشريعة عندما جاء بالكيل يتحقق في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً.
وقوله: [ولا موزون بجنسه إلا وزناً]: كما ذكرنا على أنه في الكيل لا ينضبط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب وزناً بوزن)، وعلى هذا فلا يجوز بيع المكيل بالوزن ولا الموزون بالكيل، تحقيقاً للتماثل، وخوفاً من وقوع التفاضل في الوزن، وحينئذٍ لا يتحقق مقصود الشرع من التكافؤ بين المدفوعين من الطرفين: البائع والمشتري
‌‌بيع الجزاف
قال رحمه الله: [ولا بعضه ببعض جزافاً].
وهذا التطبيق الذي ذكره المصنف رحمه الله هو في الحقيقة تطبيق لقاعدة: (بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً)، وما دام أن الشريعة أمرت بالتماثل في المكيلات وفي الموزونات، فمعنى ذلك: أن يتحقق التماثل في الكيل كيلاً وفي الوزن وزناً؛ لأننا ذكرنا أن المكيلات قد تختلف في الوزن.
وبناءً على هذا يختلف مقصود الشرع ببيع المكيل وزناً والموزون كيلاً، وكذلك ببيع بعضها ببعض جزافاً، فالمخالفة تتحقق بإحدى: - إما أن تجعل هناك وحدة تخالف الكيل، إن كان يباع بالكيل، أو تخالف الوزن إن كان يباع بالوزن.
- وإما أن يقع الجهل بالتماثل، ولذلك يذكرون قاعدة: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل)، وهذه القاعدة تنطبق على مسألة بيع بعضه ببعض جزافاً.
والجزاف: كأن يأخذ منه كوماً، أو يقول: هذا الكوم بهذا الكوم، فقد يكون أحدهما أكثر من الآخر كيلاً إن كان من جنس المكيلات، أو وزناً إن كان من جنس الموزونات، كما يقع في خامات بعض المعادن، فلو أنه خالف في الموزون أو المكيل فخرج عن ضبطه بالكيل والوزن -سواءً مع المخالفة بالمقادير المعروفة أو بالجزاف- فإن بيع المكيل بالوزن فات التماثل وخشي أن يكون ذريعة لفوات التماثل، وكذلك أيضاً إذا لم يوجد العيار الذي هو الكيل والوزن فباع جزافاً، ككوم من الطعام بكوم من الطعام، بل حتى لو قال: أبيعك هذا الكوم من الذهب بهذا الكوم، ولا نعرف كم مقدار هذا الكوم وزناً ولا هذا الكوم وزناً؛ فإن هذا يوجب الوقوع في المحرم.
ولذلك قالوا في القاعدة: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل) أي: إذا باعه جزافاً فقد جهلنا التماثل وما تحققنا أن الوزن واحد، قالوا: فإذا جهل التماثل في بيع الربوي بالربوي فكأنه تُحقق من بيعه متفاضلاً



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #308  
قديم 22-05-2024, 02:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (301)

صـــــ(1) إلى صــ(16)


شرح زاد المستقنع -‌‌ باب الربا والصرف [2]
مسائل الربا كثيرة ومتشعبة، وقد تخفى على الكثير من الناس، ومن تلك المسائل: بيع الربوي مع اتحاد الجنس أو اختلافه، وبيع لحم الحيوان بجنسه وبغير جنسه، وبيع الحب بدقيقه أو سويقه، وبيع الأصل بعصيره، وبيع الحب الخالص بالمشوب، وبيع الرطب باليابس، وبيع الربوي بجنسه إذا استويا وغيرها من المسائل المتعلقة بالربا
‌‌تابع مسائل في الربا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد

‌‌حكم بيع الربوي مع اتحاد الجنس أو اختلافه

قال رحمه الله: [فإن اختلف الجنس جازت الثلاثة] هناك ثلاث صور: - الصورة الأولى: أن يكون البيع مع اتحاد الجنس والصنف، فيجري فيه الربا من وجهين.
- الصورة الثانية: أن يتحد الجنس ويختلف النوع، فيجري فيه الربا من وجه واحد.
- الصورة الثالثة: أن يختلف الجنسان، فلا يجري فيه ربا التفاضل ولا النسيئة.
فإذا اتفق الجنسان والصنفان حرم التفاضل والنسأ، وإذا اختلف الجنسان جاز أن يباع كيلاً، ووزناً، وجزافاً، فلا بأس بذلك ولا حرج فيه؛ لأنه لا يشترط فيه التماثل.
وقوله: [والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعاً]: هذا الجنس الأخص.
وقوله: [كبر ونحوه]: البر منه الشامي والحجازي، وغيرهما من الأنواع الأخرى، فهو جنس واحد ولكنه يشمل أنواعاً، وهناك بعض المطعومات يكون جنسها واحداً، وهناك الأجود والجيد والأوسط والرديء، فهو يشمل أنواعاً متعددة.
فعندما نقول: البر يشمل عدة أنواع، والذهب يشمل جيده ورديئه، فيشمل: السبائك والخام والحلي والمضروب؛ فالجميع لابد فيه من التماثل والتقابض إذا اتحد صنفه وجنسه.
وقوله: [وفروع الأجناس كالأدقة والأخباز والأدهان].
الدقيق يكون من البر ومن الشعير، فدقيق الشعير لا يباع بدقيق الشعير ولا يباع بشعير، ولو اختلف الدقيق؛ كدقيق من شعير مشرقي مثلاً بدقيق من شعير مغربي، فنقول: إن اختلاف نوعيهما لا يمنع من الحكم الأصلي من وجوب التماثل فيهما، فلابد من بيعها متماثلة، ويكون ذلك يداً بيد.
وهكذا الأرز، فإن الأرز عدة أنواع، فلو أراد رجل أن يبادل كيساً من الأرز بكيس من نوع آخر، فنقول: فروع هذه الأجناس كل فرع منها إذا كان له اسم خاص وبيع بمثله فإنه يجب أن يباع يداً بيد، مثلاً بمثل، فالأرز أياً كان نوعه لابد فيه من التماثل، وهو جنس ويشمل أنواعاً عديدة، لكن يجب فيها التماثل جميعاً جيدها ورديئها وأوسطها.
وقوله: [واللحم أجناس باختلاف أصوله].
فهناك لحم إبل، ولحم بقر، ولحم غنم، ثم هذه الأنواع تحتها أنواع، فالإبل مثلاً هناك لحم لصغار الإبل، ولحم لكبار الإبل، أو لحم من إبل عرابية ولحم من إبل بختية، فالجميع يجب فيه التماثل، لكن لو بيع لحم إبل بلحم غنم، فنقول: إن فروع الأجناس أجناس، فلحم الإبل جنس ولحم الغنم جنس، فيجوز أن تبيع لحم الإبل بلحم الغنم متفاضلاً في الوزن، ولكن يداً بيد؛ لأنه مطعوم موزون.
فإذا سأل سائل عن بيع اللحم باللحم؟ فنقول: فيه تفصيل: فإن اتفقا فكانا من نوع واحد: كلحم إبل بلحم إبل، فيجب التماثل والتقابض، فهو صنف واحد، وأما إذا اختلف كلحم إبل بلحم بقر، أو لحم إبل بلحم غنم، فإن هذا جنس وهذا جنس، فيجوز التفاضل ويجب التقابض.
وقوله: [وكذا اللبن].
فهناك لبن البقر، ولبن الغنم، ولبن الإبل، فمثلاً: اللبن الذي يباع يوجد منه في السوق بالألتار، ويكتب على العلبة: نصف لتر، أو لتر، وهذا اللتر يكون من جنس المكيلات، فلو سأل سائل عن مبادلة كرتون من هذا النوع من الحليب بكرتونين من نوع آخر من نفس الحليب، لكن هذا حليب مراعٍ والآخر نوع آخر فنقول: ما دام أنه لبن بقر فيجب فيه التماثل والتقابض، الكرتون بالكرتون مع التماثل في الكيل، كمائة لتر بمائة لتر، ويكون يداً بيد.
لكن لو كان أحد الكرتونين من لبن البقر، والكرتون الآخر من لبن الإبل، فنقول: يجوز بيع الكرتون بالكرتونين والثلاثة؛ لأن الجنس واحد، ولكن النوع مختلف، فلا يشترط التماثل.
وقوله: [والشحم].
الشحم المأخوذ من بهيمة الأنعام يختلف، فهناك الشحم الذي يؤخذ من الإبل أو البقر أو الغنم، فإذا باع شحوم الإبل فيجب التماثل والتقابض، إذا كان بعضها ببعض، وكذلك البقر والغنم.
لكن لو أراد أن يبادل شحم الإبل بشحم الغنم، جاز التفاضل ووجب التقابض، إذاً: إذا ضبطت القاعدة فهذه كلها أمثلة تطبيقية على ما يشترط فيه التماثل والتقابض.
وقوله: [والكبد أجناس].
فالكُبود التي تكون من الإبل لها حكم، والكُبود التي تكون من البقر لها حكم، والكُبود التي تكون من الغنم لها حكم، فإذا باع كبود الإبل فتقول: إذا كان بعضها ببعض وجب التقابض والتماثل، وإن كانت كبود إبل بكبود بقر جاز التفاضل ولم يجز النسأ
‌‌حكم بيع لحم بحيوان من جنسه وبغير جنسه
قال رحمه الله: [ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه].
فلو ذبح الجزار شاة، وأتى رجل وعنده شاة حية، فرغب في هذه الشاة المذبوحة، وأراد أن يعطيه الشاة الحية ويأخذ المذبوحة، ومعلوم أن الشاة وهي حية من المعدودات، واللحم بعد ذبحه موزون.
وبالمناسبة: فإن بيع الحيوانات بالوزن لا يجوز، وهذا نص عليه العلماء؛ وذلك لأنه من بيع الغرر؛ لأن الشاة قد تشرب الماء فيثقل وزنها، وقد يعطيها طعاماً فتثقل في الميزان، وهذا من الغرر، ومن ثم حرم العلماء بيع الحيوانات موزونة، لكن لو ذبحت فإنه يجوز بيعها موزونة.
والشاة والبقرة والناقة لهن أحوال، فهناك ما تسمى بالشاة الحلوب، والناقة الحلوب، وهناك الناقة الركوب، وهناك شاة يراد منها الحليب، وهناك ناقة يراد منها الحليب، ويقال لها: ناقة حلوب، وهناك ناقة تراد للركوب، ويقال لها: ناقة ركوب، وهناك ناقة أكولة فيها لحم طيب، وهذا يرجع إلى أهل الخبرة، فإنهم يرون فيها أوصافاً معينة ويبنون عليها أنها صالحة للأكل.
فهناك ما يطلب للأكل، وهناك ما يطلب للركوب، وهناك ما يطلب للحليب، ولذلك قال: (من جنسه).
وبعض العلماء يقول: الأصل في تحريم بيع الحيوان باللحم نسيئة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الحيوان باللحم نسيئة)، وهو مرسل من مراسيل سعيد بن المسيب رحمه الله، وقد أجاز بعض العلماء بيع الحيوان باللحم، وقالوا: يجوز أن يبيعه متفاضلاً لا نسيئة؛ لأنه من جنس المطعوم، أما إذا باع الشاة المذبوحة بشاة أكولة، فإن المراد من الشاتين واحد، فحينئذٍ يمتنع، وأما إذا باع الشاة الأكولة بالشاة الحلوبة فإنه يجوز؛ لأن المقصود مختلف، وهذا وجه خرجه بعض العلماء، خاصة وأنهم يرون ضعف الحديث المرسل عن سعيد بن المسيب رحمه الله.
وقوله: [ويصح بغير جنسه]: أي: إذا باع الحيوان بغير جنسه، فلو أن جزاراً قال لك: أعطني مائة رأس مذبوحة من الغنم وأعطيك بدلاً عنها خمسين رأساً من البقر، فنقول: يجوز؛ لأن جنس البقر غير جنس الغنم، فيجوز التفاضل، ولكن يجب أن يكون ذلك يداً بيد؛ لأن كلاً منهما من جنس المطعوم
‌‌حكم بيع الحب بدقيقه أو سويقه
قال رحمه الله: [ولا يجوز بيع حب بدقيقه].
عرفنا الضابط وهو اشتراط التماثل، وهنا صور يقع فيها التفاضل لعدم القدرة على التماثل والتكافؤ بين الصنفين في الصنف الواحد إذا بيع بعضه ببعض، فمثلاً: الحب بالدقيق، فإن الحب ليس كالدقيق، فالدقيق يقع بعضه على بعض فيكون مسدوداً بأجرام الدقيق أكثر من الذي يسد بالحبوب، ومن هنا لا يحصل التكافؤ بين الحب والدقيق.
ولو سأل سائل وقال: أنتم تقولون: يشترط التماثل، والصاع بالصاع يجوز، فلو أنني أخذت حباً وطحنته، وأردت أن أبادله بحب غير مطحون صاع بصاع، فهل يجوز؟ فنقول: لا يجوز؛ لأنه لما طحن اختلف عن غير المطحون، وموقعهما في الصاع وفي الكيل ليس بمتكافئ.
ومن هنا لا تتحقق المماثلة المشروطة شرعاً، فإنه إذا قال: صاع بصاع، أو مد بمد، فهذا لا يكفي وحده؛ بل لابد من التماثل على الصفة التي ذكرناها، فلو سأل عن بيع الدقيق بالحب؟ فنقول: لا يجوز، ولو اتفقا كيلاً؛ كصاع بصاع ومد بمد؛ بل لابد من التماثل بينهما.
وقوله: [ولا سويقه، ولا نيئه بمطبوخه].
إذا لت السويق بالنار وحبس عليها فسوف يذهب جزء من الدقيق، حتى لو أخذ السويق وبودل بالدقيق فليس بينهما تكافئ، ومن هنا قالوا: لا يجوز بيعه بالحب، ولا بيعه أيضاً بالدقيق؛ لأنه يختلف؛ فإنه المحموس ليس كغير المحموس؛ لأن النار تستنفذ وتستهلك منه، وهذا وهو الذي جعله يقول: (ولا نيئه بمطبوخه)، فلو سأل سائل عن بيع اللحم وقال: هل نبيع اللحم المطبوخ باللحم الني؟ فنقول: لا يجوز؛ لأنهما وإن تماثلا في الوزن فإن اللحم المطبوخ قد استنفذ وأهلكته النار، فلا يصل إلى قدر الني إلا بأضعافه في بعض الأحيان، كالحب مع المطحون

‌‌حكم بيع الأصل بعصيره

قال رحمه الله: [وأصله بعصيره].
فلو قال قائل: أريد أن أبادل عصير البرتقال بحبوبه، فنقول: لا يجوز؛ لأن العصير خالص البرتقال، والحبوب فيها الخالص وفيها غير الخالص، فحينئذٍ الألياف الموجودة في البرتقال زائدة على العصير، فلا يقع التكافؤ في الوزن، حتى لو وزن العصير مع البرتقال موزوناً، وقال: نأخذ القشر ونضاعف البرتقال في الوزن، فنقول: لايجوز.
وكذلك الجزر إذا كان يباع وزناً فهو مطعوم موزون يجري فيه الربا، فلو أراد أن يأخذ الجزر ويعصره ثم يبادله بغير المعصور، فإنه لا يجوز؛ لأن التماثل لا يتحقق
‌‌حكم بيع الحب الخالص بالمشوب
قال رحمه الله: [وخالصه بمشوبه].
فلا يجوز بيع الحب الخالص بالحب المشوب، وهكذا إذا لم يدس حصاد الحب، فإن الحب إذا حصد يجعل في (البيدر) وبعد ذلك يداس وينقح، فمثلاً: قبل أن يخلص من الشوائب جاء رجل وقال: أنا أشتري منك هذا الحب الموجود المدوس الذي لم يصف بعد بهذا الحب الموجود، نكيل هذا ونكيل هذا، ألستم تقولون: إن الشرط (الكيل والتماثل)؟ فنعطي مائة كيلة بمائة كيلة، فنقول: لا.
إنهما وإن اتفقا كيلاً لكن وجود الشوب يمنع من التماثل.
إذاً: وجود الشوب، ووجود النار كما في المطبوخ، وعدم التصفية، والعصر، كل ذلك لا يتحقق به التماثل، فقالوا: لا يباع إلا بمثله.
لكن لو قال أنه يريد أن يبيع عصير البرتقال بعصيره، فهل يجوز أم لا؟ نقول: يجوز إذا تماثلا، فإذا كان العصير يباع مثلاً بالكاسات، والكاسات أشبه باللتر، وتحقق التماثل في الكاسات، فلا بأس.
والبرتقال أنواع، فهذا حلو، وهذا وسط بين الحلو والحامض، فإذا بادل به فيجوز إذا كان يداً بيد؛ لأنه تحقق بيع هذا العصير بهذا العصير، لكن إذا كان بأليافه مع عصيره فإنه لا يتحقق التماثل

‌‌حكم بيع الرطب باليابس

قال رحمه الله: [ورطبه بيابسه].
وهكذا الرطب واليابس؛ لأن الضابط هو عدم وجود التكافؤ؛ لأن اليابس تستهلكه الشمس، فالتمر إذا كان في بداية الاستواء قبل أن ينشف يكون رطباً، أو يكون على نصف استواء الرطب، لم يكتمل استواؤه بعد، فإذا أراد أن يبادل الرطب باليابس فلا يجوز؛ لأن اليابس تستنفذ الحرارة منه وتستخلصه، بخلاف الرطب، فإن الماء الموجود فيه أكثر من اليابس.
والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بيع الرطب بالتمر؟ قال عليه الصلاة والسلام: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم.
قال: فلا إذاً) وهذا الحديث هو قاعدة هذه المسألة؛ فهكذا مسألة الني والمطبوخ، فإن المطبوخ إذا طبخ نقص، وفي بعض الأحيان يزداد المطبوخ إذا كان مخلوطاً بغيره، وإذا استنفد ذلك الغير فإنه يثقل، والعدل أن يكون على صفة يؤمن فيها التفاضل، فإذا كان نياً بني معاً مطبوخ بمطبوخ معاً، وهكذا بالنسبة لبقية الأشياء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أينقص الرطب إذا يبس؟) نبه على العلة التي من أجلها حرم بيع الرطب بالتمر، وهو عدم وجود التماثل المطلوب
‌‌حكم بيع الربوي بجنسه إذا استويا
قال رحمه الله: [ويجوز بيع دقيقه بدقيقه] أي: دقيق الحب بدقيق الحب [إذا استويا في النعومة]، إذاً: مدار المسألة كلها في التماثل فقط، فإذا طحن الدقيق فإنه يطحن الطحنة الأولى والطحنة الثانية، فإذا طحن الطحنة الثانية فإنه يكون أخف بكثير، وأكثر نعومة من الطحنة الأولى، وربما طحن بآلات يكون الطحن فيها أكثر نعومة من غيرها، فالآلات القديمة ليست كالآلات الحديثة.
إذاً: الدقيق بالدقيق يجوز بيع بعضه ببعض إذا كان مثلاً بمثل، يداً بيد، أما إذا اختلفا في النعومة، وكان أحد الدقيقين أكثر نعومة من الآخر، فإنه يقع فيه ما يقع في بيع الحب بالدقيق، فمثلاً: الجريش يطحن بعض الطحن وليس كل الطحن، وتبقى أجرام الحبوب فيه، فهذا الجريش لا يجوز بيعه بالدقيق، ولا يجوز بيعه بالحب، لكن إذا بيع بجريش طحن طحنة في مستواه جاز، وهكذا بالنسبة للدقيق الذي هو أكثر نعومة إذا طحن طحنة كاملة يفصل فيه: فإن طحن مرتين أو ثلاثاً وكانت نعومته أكثر، فلا يباع إلا بما هو ناعم أكثر؛ حتى يتحقق التماثل المطلوب شرعاً والمأمور به كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [ومطبوخه بمطبوخه] أي: إذا تساويا في الطبخ [وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف] وذلك حتى يتحقق العدل، أما إذا اختلفا في الطبخ واختلفا في النشاف فإنه لا يجوز؛ لأنه يفضي إلى التفاضل المنهي عنه شرعاً.
وقوله: [وعصيره بعصيره ورطبه برطبه]، أي: يجوز بيع العصير بالعصير إذا استويا في العصر، ويجوز بيع الرطب بالرطب إذا استويا رطوبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه في حديث المزابنة على تحريم المزابنة لعدم وجود التماثل، ومفهوم ذلك: أنه إذا وجد التماثل جاز، والعلة التي من أجلها حرم بيع المطبوخ بالني، وبيع العصير بغيره، وبيع الدقيق بالحب، إنما هي خوف التفاضل، لكن إذا زالت هذه العلة لاستوائهما نعومة أو طبخاً أو عصراً؛ جاز البيع وصح
‌‌الأصناف التي يجري فيها الربا
الأصناف الستة المنصوص عليها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالأثمان، وهي الذهب والفضة.
القسم الثاني: يتعلق بالمطعومات، وهي: البر والتمر والشعير والملح.
أما حكم التعامل بهذه الستة عند اتحاد الجنس والصنف، كأن يبادل الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو واحداً من الأربعة بمثله، فقد قلنا: لا بد من التماثل والتقابض، وإذا قلت بوجوب التماثل فمعناه: أنه يجري ربا الفضل، وإن قلت بوجوب التقابض فمعناه أنه يجري ربا النسيئة
‌‌العلة في الأصناف الربوية
أما العلة في الأصناف التي يمكن إلحاقها بهذه الستة فهناك علتان: العلة الأولى: تتعلق بالذهب والفضة.
العلة الثانية: تتعلق بالمطعومات.
أما علة الذهب والفضة فعلى أصح قولي العلماء أنها الوزن، فكل شيء من غير المطعومات إذا كان موزوناً فإنه يجري فيه الربا؛ كالحديد والنحاس والرصاص ونحو ذلك، وكل شيء من غير المطعومات إذا كان يباع عدداً أو جزافاً، فإنه لا يجري فيه الربا.
وأما بالنسبة للمطعومات فأصح أقوال العلماء رحمهم الله أن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن، على ظاهر حديث معمر بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل).
أما كيفية القياس والإلحاق، فإن كل مطعوم يباع بالكيل أو يباع بالوزن فإنه يقاس على الأربعة، فإذا بيع بمثله وجب التماثل والتقابض، وهذا يجري في سائر المطعومات بهذا الضابط، فإن اختل الضابط لم يجر ربا الفضل

‌‌أحكام اتفاق الأجناس الربوية واختلافها

أما مسألة الأجناس فما كان جنساً واحداً متفق النوع؛ كالذهب -واتفاق نوعه كأن يكون عيار أربعة وعشرين بعيار أربعة وعشرين، واختلافه كعيار أربعة وعشرين بعيار واحد وعشرين- فهذا يجري فيه الربا على العموم، سواءً اتفق نوع الذهب أو اختلف.
فهذا الضابط يكون فيه الجنس واحداً والنوع مختلفاً، فإذا كان من الأثمان، كالذهب والفضة، فقد يكون الذهب من عيارات مختلفة، وقد يكون حلياً بجنيهات، أو يكون هذا نقداً وهذا حلياً، فالنوعية لا تؤثر، بل ما دام أنه من جنس الذهب فإنه يجري فيه الربا عموماً.
والدليل على أنه إذا كان من جنس الذهب فإنه يجري فيه الربا: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب)، ولذلك نجد العلماء رحمهم الله يقولون: (تبرها ومصوغها)، أي: أن الذهب يجري فيه الربا سواءً كان تبراً بتبر، أو مصوغاً بمصوغ، أو كان تبراً بمصوغ.
والفضة كذلك، ويدخل في حكمها ريال الورق؛ لأنه سند عن أصل من الفضة، فإذا بودلت الفضة بفضة وجب التماثل والتقابض، سواءً كانت ريالات أو حلياً، فتخات أو خواتيم أو أسورة من فضة، فإنه يجب التماثل والتقابض.
إذاً: هنا جنس واحد مشتمل على أنواع يجري فيها الربا، وهي من المنصوص عليها، وهذا بالنسبة للذهب والفضة.
أما بالنسبة للطعام فنفس الحكم، فمثلاً: التمر، منه العجوة والسكري والحلوى الربيعة والند، وأنواع كثيرة، فهل نقول: الحلوى الربيعة بالربيعة يجري فيها الربا، وإن اختلف النوع لا يجري؟ نقول: لا.
بل جميع التمر يجري فيه الربا، سواءً اتفق النوع كبرحي ببرحي، أو سكري بسكري، أو ربيعة بربيعة، أو عجوة بعجوة، أو صفاوي بصفاوي، أو صيحاني بصيحاني فكله يجري فيه الربا سواءً اتحد النوع أو اختلف.
وبناءً على ذلك: لو باع تمر السكري بالند وجب أن يكونا متماثلين؛ كصاع بصاع ومد بمد، ولم يجز التفاضل، بأن يكون أحدهما أكثر من الآخر، وهذا بالنسبة لما اتحد جنسه واختلف نوعه.
أما إذا كان الجنس واحداً ولكن الأصل مختلف، فمثلاً: في النوع الأول الجنس تمر، والاختلاف في النوع، فعاد إلى أصل واحد، فإن التمور تعود إلى أصل واحد، فيجري فيها الربا؛ سواءً اتفقت أنواعها أو اختلفت، لكن لو كانت الأصول مختلفة والجنس واحد، مثل الأدقة والأجبان، فإن الدقيق عندنا مستخلص من البر، يقال: دقيق البر، دقيق الشعير، دقيق الدخن، فهو جنس دقيق، أي: يقال له: دقيق؛ لكنه في الأصل مختلف، بخلاف الأول، فإن التمر في الأصل واحد، ولكنه لما عاد إلى أصل واحد أخذ حكم العين الواحدة، لكن هنا إذا كان دقيق بر بدقيق شعير، فالجنس مختلف، فيجوز فيه التفاضل، لكن يجب أن يكون يداً بيد.
ومن هنا بين المصنف قاعدة وهي: (وفروع الأجناس أجناس)، فبعد أن بيّن مسألة اتحاد الجنس واختلاف النوع، واتحاد الجنس والنوع؛ شرع في اتحاد الجنس واختلاف الأصل، وعلى هذا فلو صنع خبزاً من شعير، وخبزاً من بر، فتقول: الجنس واحد وهو الخبز، ولكن الأصل مختلف، فأصل البر ليس كالشعير على أصح قولي العلماء وهم الجمهور، خلافاً للمالكية، فيجوز أن يبيعها متفاضلة، ولكن يداً بيد، لكن لو أن الخبز كان أصله واحداً كخبز الشعير، فحينئذٍ لابد من التماثل والتقابض.
إذاً.
الجنس متحد النوع يجري فيه الربا إذا كان من الأعيان المنصوص عليها أو المقيس عليها، أما ما كان جنساً واحداً ومختلف النوع كالتمر بأنواعه، فإننا نقول: يجري فيه الربا ويعتبر كالأصل الواحد، فلا يجوز بيع بعضه ببعض، حتى قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً في هذا، أي: فيما إذا بادلت تمراً من نوع بتمر من نوع أنه يجري فيه الربا؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب)، فإن قال قائل: أثبت لي أن هذا الدليل عام؟ فنقول: نثبت ذلك من أوجه: الوجه الأول: اللفظ؛ لأنه قال: (الذهب بالذهب)، ولم يفرق بين الذهب النقدي الذي هو جنيهات ودنانير في القديم، ولا بين الذهب الذي لم يضرب كالتبر أو الخام، ولم يفرق بين الحليّ، إنما قال: (الذهب) فشمل الذهب بالذهب مطلقاً، سواءً كان متماثلاً كحلي بحلي، أو كان مختلفاً كدنانير بحلي، بل لابد من التماثل.
وهنا مسألة تتفرع على هذا الأصل وهي: لو أن تاجراً يتعامل في الذهب جاء وقال: إني أبيع الذهب المصوغ، والذهب إذا صنع حلياً فإنه يكلف ويحتاج إلى إجارة وعمالة، وهذا يستلزم أن يكون أغلى وأكثر مئونة وعناءً من الخام الذي لم يصنع.
ومن باب الفائدة: فإن الذهب يحتاج إلى شيء يقويه؛ لأن مادته ضعيفة ومعدنه ضعيف، ولذلك فإن السبيكة إذا قيل: إنها ألف غرام، فمعناه: أن تسعمائة وتسعة وتسعين وكسراً من الذهب، لكنّ فيها شوباً يقويها وهو النحاس، ولذلك اغتفر وجود النحاس، وقد حكى ابن رشد في بداية المجتهد الإجماع على اغتفاره.
لكن لو أن رجلاً عنده ذهب من السبائك، وأراد أن يبادلها بذهب مصوغ كالحلي والقلائد، فقال التاجر: أعطيك هذا الذهب الذي صنعته وتعبت عليه بهذا الذهب غير المصنوع، وأقدّر التعب الذي تعبته، فإن كان الذهب المصوغ مائة غرام، فإن تعبي يكلف عشرة غرامات، فأشتري منك مائة وعشرة من السبائك بمائة مصوغة، وأستفضل بقدر التعب.
هذا من ناحية عقلية نجد له مبرراً، وذلك مثل التمر الجيد بالتمر الرديء، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى ذلك؛ لعموم قوله: (الذهب بالذهب).
الوجه الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فهموا نفس هذا الفهم، فقد روى الإمام مالك رحمه الله في الموطأ عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه كان في المسجد وجاءه رجل صائغ، فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني أصنع الذهب وأشتري به ذهباً وأستفضل قدر الصنعة -يعني: قدر تعبي- فهل يحل لي؟ قال: لا.
إلا مثلاً بمثل.
فأعاد عليه الرجل مرة ثانية؛ لأنه من ناحية عقلية قد لا يتصور ذلك، فقال: لا.
فما زال مع عبد الله بن عمر حتى خرج من المسجد، وأخذ ابن عمر بخطام دابته وركب عليها، فأعاد له الرجل مرة ثالثة، فقال له: (عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا الذهب بالذهب، مثلاً بمثل)، فاستدل ابن عمر بالعموم.
ولما كان معاوية رضي الله عنه في غزوة فغنم غنيمة، فأجاز للناس أن يبيعوا الأواني المتفاضلة لقاء الصنعة، فقام له أبو أسيد، وقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب) وذكر الحديث، وقام أبو الدرداء وأنكر عليه، ولما بلغ عمر فعله كتب إلى معاوية ينهاه ويأمره بالرجوع إلى قول أبي أسيد وأبي الدرداء رضي الله عنهما.
إذاً: فهم الصحابة على أن الذهب بالذهب عموماً لا يكون إلا مثلاً بمثل، فما هي الحيلة لو قال لك التاجر: أنا لا يمكن أن أبيع الذهب بالذهب مثلاً بمثل؛ لأنني أتعب على هذا المصوغ؟ فقل له: بعه بالريالات التي هي الفضة، وبعد ذلك ساوم معه بما شئت من الفضة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (بع الجمع بالدراهم ثم اشتر به جنيباً).
إذاً: من حيث الأصل بينّا مسألة اتحاد الجنس مع اتحاد النوع، وأيضاً اتحاد الجنس مع اختلاف النوع، وأيضاً اتحاد الجنس مع اختلاف الأصل، ومن أمثلتها: الأدقة والأجبان.
فإن الجبن إذا كان هناك جبن يتخذ من حليب الغنم، وجبن يتخذ من حليب البقر، فإن الجنس واحد وهي أجبان، لكن نقول: أصل الجبن الذي من الغنم غير أصل الجبن الذي من البقر، وكذلك اللحم، فلحم الغنم ليس كلحم الإبل وليس كلحم البقر، فيجوز أن تبيع لحم الإبل بلحم الغنم متفاضلاً على أصح قولي العلماء، كما درج عليه المصنف.
أما المالكية فيقولون: تنقسم اللحوم إلى ثلاثة أقسام: لحوم بهيمة الأنعام، ولحوم الطير، ولحوم الأسماك، فيجعلون بهيمة الأنعام -الإبل والبقر والغنم- كلها واحدة، فلا يجوز أن تبيع لحم الإبل بلحم الغنم إلا مثلاً بمثل، يداً بيد.
ولكن الصحيح أنها متفاوتة، وأنه يجوز أن تبيع لحم الغنم بلحم الإبل متفاضلاً، ولحم الغنم بلحم البقر متفاضلاً، لكن بشرط أن يكون يداً بيد.
ومن يتأمل كلام العلماء يعجب من إعانة الله لهم وتوفيقه لهم على الفهم، فإنك إذا نظرت كلام المصنف وترتيبه للمسائل تجد أولاً أنه قرر القاعدة المستفادة من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وهي: النهي عن بيع الربوي بالربوي متفاضلاً إذا اتحد الصنف، ثم بعد ذلك قرر العلة في مسألة التمر بالتمر مع اختلاف النوع لما بيّن مسألة الجنس وقال: (الجنس ما له اسم خاص)، فقررها من الحديث وانتزعها من عموم الحديث، ثم بعد ذلك شرع في مسألة متفرعة على مسألتين.
ولو قال قائل: إن الحديث أمرنا أن نعطي الصاع بالصاع من البر، وأن نعطي الصاع بالصاع من التمر، فسأعطي صاعاً بصاع من البر، ولكن أحدهما دقيق والثاني حب، فانظروا كيف أن العلماء رحمهم الله يضعون الأفكار مرتبة بعضها على بعض؛ لأن الحديث أمر بالصاع تجاه الصاع.
فعندنا منصوص، وعندنا مفهوم من النص، فلما كان منطوق النص التماثل، وهو بيع الصاع بالصاع، فينبغي أن يكون المعنى موجوداً، فلا يكفي أن تقف عند كلمة الصاع بالصاع، فإذا أعطاه حباً بدقيق فهو صاع بصاع، لكن في الحقيقة الدقيق أكثر من الحب، وإذا جئت تنظر إلى أجرام الحب مع أجرامها تحدث الفراغ في الصاع، لكن الدقيق مع الدقيق يملأ الفراغ.
ومن هنا فرّع العلماء رحمهم الله هذه المسألة على معنى الحديث، وجعلوا هذا تابعاً للأصل، وهو أن الصاع بالصاع يأتي باللفظ ويأتي بالمعنى، فاللفظ أن يتماثلا كصاع بصاع، لكن تكون الحقيقة والمعنى موجوداً، وهو مقصود الشرع أن يكون هناك عدل.
فإذا كان أحدهما مطحوناً والآخر غير مطحون، أو كان أحدهما مطبوخاً والآخر غير مطبوخ لم يجر التماثل المقصود وإن قال لك: هذا صاع بصاع.
وهكذا لو باع التمر بلا نوى بتمر فيه نوى، أو التمر الذي فيه لوز بتمر لا لوز فيه، فهذا كله في الظاهر أن الصاع بصاع، لكن ف
‌‌الأسئلة
‌‌حكم بيع الذهب المرصع بغير المرصع

‌‌السؤال
هل يجوز بيع الذهب المرصع بفص أو بيع الماس بمثله متفاضلاً؟ وجزاكم الله خيراً.


‌‌الجواب
أما بالنسبة للمسألة المذكورة وهي بيع الذهب المرصع بغير المرصع، أو بيع الذهب المرصع بالمرصع، فإذا كان الذهب أو الفضة مع جواهر أو ماس أو أشياء أخرى من الحلي فإنه لا يجوز بيعه إلا مفصلاً؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه وأرضاه أنه: (نهى عن بيع القلادة حتى تفصل)، وهذا يدل على أنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب إذا كان فيه حلي من غيره إلا بعد تفصيله.
وأصل هذه المسألة أن فضالة رضي الله عنه وأرضاه اشترى قلادة بعشرين ديناراً في يوم خيبر، ثم لما فصلها وجدها أكثر من عشرين ديناراً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى عن بيع القلادة حتى تفصل، وهذا من بيوع الذرائع الربوية؛ لأن دخول غير الربوي مع الربوي يفاوت في التماثل.
وبناءً على ذلك: فلابد إذا بادل الذهب بالذهب أن يفصل الحلي، أو يعرف كم وزن الغريب الذي مع الذهب، فمثلاً: لو قال لك: هذا الذهب وزنه مائة جرام، والحلي الذي معه عشرة جرامات، فحينئذٍ يجوز أن يبادله بذهب مثله في نفس الوزن ونفس الحلي.
أما لو جهل مقدار الحلي الموجود مع الذهب سواءً في الاثنين أو في واحد منهما، فالقاعدة: (أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل)، وهي مستنبطة من هذا الحديث كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن الملقن رحمه الله.
فأنت إذا بعت القلادة مرصعة بالحلي وجهلت كم نسبة هذا الحلي الموجود، بمثلها مرصعة بحلي مجهولة أو بمثلها معلومة، فإن الجهل في أحدهما أو فيهما معاً كالعلم بالتفاضل، وهذا يوجب المنع والتحريم.
لكن لو أنه عرض عليك قلادة من ذهب وهي مرصعة بالحلي والجواهر، وقال لك: تشتريها بالنقد الذي هو الريالات، فيجوز ولا بأس أن تشتريها بالنقد، إنما المحرم إذا بادلت الفضة بالفضة أو الذهب بالذهب مع وجود حليّ آخر، أما لو كنت تريد أن تشتري ذهباً بفضة، كالريالات تشتري بها قلائد الذهب أو تشتري بها أسورة الذهب المرصعة بالحلي، فلا بأس بذلك ولا حرج فيه؛ شريطة أن لا يكون على وجه الجهالة الموجبة للغرض، والله تعالى أعلم
‌‌حكم بيع الحديد بالتقسيط

‌‌السؤال
هل يعتبر بيع أطنان الحديد بالتقسيط داخلاً في ربا النسيئة؟


‌‌الجواب
بالنسبة لبيع الحديد بالحديد يجب أن يكون مثلاً بمثل، يداً بيد، فيبيع الطن بالطن، أما الطن بالطن إلا ربع أو بزيادة فإنه يوجب الحكم بالربا، أعني ربا الفضل، لكن لو باع الطن من الحديد بالطن من الحديد وتأخر أحد المتعاقدين في الدفع، فإنه يقع ربا النسيئة، فلا يجوز إلا إذا كان في مجلس العقد، ولا يؤخر أحدهما عن الآخر، بل يتقابضان، وإذا حصل التقابض والتماثل فإنه لا بأس بذلك، والله تعالى أعلم
‌‌حكم بيع المطعومات جزافاً

‌‌السؤال
إذا اختلف الجنس جازت الثلاثة -أي: المكيل والوزن والجزاف- فأشكل عليّ جواز الجزاف، فمن باع صاعاً من بر بتمر جزافاً أليس فيه جهالة وغرر؟ بارك الله فيكم.


‌‌الجواب
بالنسبة لمسألة بيع المطعومات أو غيرها لابد من العلم بقدر المبيع، لكن إذا جرى العرف في بيع بعض الأطعمة جزافاً، بأن كانت من جنس المعدود لكنها تباع بالأكوام وتباع جزافاً، وذلك مثلما يجري الآن في البطيخ فيقول: هذه السيارة بكذا، ويجري العرف بذلك، ويريد أن يبادل، مع أن البطيخ يباع بالعدد، لكن إذا جرى العرف ببيعه وزناً فلا يجوز، ويجري فيه الربا، لكن لو بيع بالعدد؛ فحينئذٍ لو بيع جزافاً مثلما يقع أحواض السيارات، فإن حوض السيارة يخرص ويقدر.
ففي هذه الحالة يقولون: يجوز إذا كان يداً بيد؛ لأننا قلنا: جنس المطعوم لا يجوز إلا يداً بيد، وأما إذا كان من جنس ما يكال ويوزن فلابد فيه من التماثل في الكيل كيلاً، وفي الوزن وزناً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #309  
قديم 22-05-2024, 02:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (302)

صـــــ(1) إلى صــ(9)

شرح زاد المستقنع -‌‌ باب الربا والصرف [3]
من مسائل الربا: حكم بيع الربوي بجنسه ومعه من غير جنسه، وحكم بيع التمر إذا كان فيه نوى بالتمر الذي لا نوى فيه والعكس، وحكم بيع اللبن والصوف بشاة فيها لبن وصوف وغيرها من المسائل التي يدخل فيها ربا النسيئة الذي أجمع العلماء على تحريمه، أو ربا الفضل، وقد اختلف فيه الصحابة إلا أن الراجح تحريمه
‌‌حكم بيع الربوي بجنسه ومعه من غير جنسه
شرع المصنف رحمه الله في مسألة جديدة فقال: [ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما].
وصورة هذه المسألة أن يقول قائل: أبيع البر بالبر صاعاً بصاع، وأستفضل لشيء آخر غير ربوي معهما، فهل يجوز ذلك أم لا؟ ومن هذا المقطع نبدأ في حديث ثانٍ من أحاديث الربا، وهذا الحديث يقوم على حديث فضالة بن عُبيد رضي الله عنه وأرضاه.
وأول الباب قام على حديث عبادة بن الصامت في الأصناف الستة، ثم بعد ذلك لما جئنا إلى الخالص والمشوب والني والمطبوخ فإن هذا قائم على حديث: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم.
قال: فلا إذن)، ثم دخلنا في حديث ثالث وهو حديث فضالة بن عُبيد رضي الله عنه.
وحديث فضالة: أنه في يوم خيبر اشترى قلادة، والقلادة عادة ما تكون مرصعة بالخرز؛ بالجواهر وبالأحجار الكريمة والمرجان واللؤلؤ والعقيق.
إلخ، وتارة تكون من ذهب خالص، فاشترى قلادة وفيها خرز، فلما عرضت القلادة اشتراها باثني عشر ديناراً، وفي بعض الروايات أنه حضر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُسأل عن قلادة اشتريت بتسعة دنانير، وفي رواية: بسبعة دنانير.
وهذا ليس بالاضطراب المؤثر، كما قرره الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ لأن المعنى المستفاد من الحديث متفق عليه، وهو نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعها حتى تفصل وتميز، وهذا قد اتفقت عليه كل الروايات، وهذا من حيث الحكم، لكن كم كانت قيمة القلادة؟ حمل على أنها وقائع مختلفة، فهو رضي الله عنه ربما كانت له وقعة، وغيره ممن حضر سؤاله كانت له وقعة أخرى، فيكون الاختلاف باختلاف المسائل، وليس الاختلاف من باب الاضطراب في التحديد والحكم.
حتى ولو كان اختلافاً من باب الاضطراب في التحديد، فكما ذكر الحافظ ابن حجر أن الرواة وإن كانوا ثقات فإنه ينظر إلى أوثقهم، وتكون رواية غيره بالنسبة له شاذة، ويبقى موضع الشاهد من الحديث -وهو الحكم- معمولاً به.
إذاً: هذا الحديث وقع في أنه اشتراها باثني عشر ديناراً، فلما اشتراها رضي الله عنه فصلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، والدنانير مضروبة من الذهب، فأصبح ذهباً بذهب مع وجود الزيادة، والسبب في هذا أنه لم يعلم قدر الذهب الموجود فيها من غير الذهب.
ومن هنا صار من بيع الربوي بجنسه، ومع أحدهما ما ليس منهما، أي: من الربوي ما ليس بربوي، ومع أحدهما ما ليس بربوي، فأصبح هذا الحديث أصلاً في هذه المسألة.
ولذلك نجد التوافق بين الفقهاء والمحدثين، فالمحدثون إذا ذكروا أحاديث الربا يبتدئون بحديث عبادة، ثم يذكرون ما يقرر معناه كحديث عمر رضي الله عنه في التقابض، وكذلك حديث أبي موسى الأشعري في التماثل والتقابض، ثم بعدما ينتهون من هذا يذكرون أحاديث الربا، كحديث فضالة بن عُبيد، وحديث النهي عن المزابنة.
وهذا كله تقرير للأصول، فلما جاء هذا الحديث جاءنا في مسألة الربوي بالربوي ومعه غير الربوي؛ لأن حديث عبادة ذكر الربوي بالربوي، وهنا ربوي بربوي ومعهما ما ليس منهما، ويلتحق بهذه المسألة أن يكون ربوياً بربوي ومعهما ما ليس بربوي.
وهذه المسألة على صور: الصورة الأولى: أن يعطي الربوي بالربوي ومع أحدهما ما ليس منهما من نفس النوع، ويحتمل أن يكون ربوياً، ويحتمل أن يكون غير ربوي، مثال ذلك: الأثمان والمطعومات.
ففي الأثمان يصرف الدرهمين بدرهم وتمر، فيقول له: عندي درهم اصرفه لي، فيقول: سأعطيك درهماً لقاء الدرهم، وليس عندي درهم آخر، فأعطيك بدلاً عنه تمراً، وفي بعض الأحيان درهم بدرهم وتمر، فيقول له: هذا الدرهم عندي من النوع الجيد بكم سوف تصرفه لي؟ فيقول: أصرفه لك بدرهم.
وذاك يقول: لا أرضى.
فيقول: سأعطيك درهماً وتمراً.
ففي هذه الحالة يكون الدرهم لقاء الدرهم تماثلاً، لكن وجود الزيادة هو من غير الفضة، فكأنه يقرر بهذا أن الزيادة سواءً كانت من الفضة أو من غير الفضة فإنها محرمة، فباعه إياها كذهب بذهب مع زيادة طعام، أو فضة بفضة مع زيادة طعام مشتركة في البيع، وهذا لا يجوز؛ لأن فضالة باع الاثني عشر درهماً بأكثر من اثني عشر درهماً، وجاء في الرواية الأخرى ما هو أقل مع وجود الخرز، فصار فضل الخرز زيادة على الأصل.
فلو قال قائل: أصرف الدرهم بالدرهم وأعطي تمراً؛ لأن التمر ليس بفضة؟ فنقول: مقصود الشرع المعنى وهو التعادل.
وانظروا إلى التجانس بين مسألتنا والتي قبلها، فإنه لما باع الخبز المطبوخ بالني، والدقيق بالحب؛ ففي الظاهر هناك تماثل، لكن صارت الزيادة في الصنعة، وهنا الزيادة من غير الربوي، أما الأول فإن الزيادة من الربوي؛ لقوله: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم.
قال: فلا إذن)، فهي زيادة من مادة الربوي، وهنا زيادة من أجنبي دخل عليهما.
فدرهم بدرهم وتمر، الدرهم بالدرهم تماثل، فلو قيل: إن ذلك جائز؛ لأنني أعطيت درهماً بدرهم، والتمر هذا من عندي، وأنا أريد أن أبيع الدرهم بدرهم وتمر، أليس الدرهم بالدرهم يكافئه ويعادله؟ فنقول: بلى، فيقول: إذاً التمر لا يضر؛ لأنه ليس بفضلة، ولا من نفس الربوي.
فنقول: سواءً كان من الربوي أو من غير الربوي فالحكم واحد، وهذا هو الذي دعا المصنف ليقول: (ولا يباع ربوي بربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما).
وعلى هذا يقال: لابد من التماثل، لكن هناك حالة تستثنى وهي: حالة الفصل، فلو قال له: عندي درهمان.
فقال: سأشتري منك درهماً بدرهم صرفاً، وأشتري منك الدرهم الثاني بصاع من تمر.
فيجوز؛ لأنه باع هذا على حدة، وباع هذا على حدة، واغتفر اجتماعهما في الصفقة الواحدة.
إذاً: يفرق بين كونهما مجتمعين وبين كونهما منفصلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث فضالة نهى عن بيع القلادة حتى تفصل، فدل ذلك على أنها إذا فصلت جاز البيع، وذلك بأن يقول له: اثنا عشر ديناراً في مقابل وزنها، فمثلاً: لو جئنا إلى قلادة وزنها مائة غرام، ودنانير عشرة وزنها مائة غرام، فقال: سأشتري منك هذه القلادة عشرة غرامات بعشرة غرامات، فيصح البيع، ولا إشكال.
لكن لو كان مع القلادة خرز، فقال له: كم وزن الذهب الخالص؟ فقال: مائة غرام.
فقال: والخرز الموجود؟ فقال: عشرة غرامات.
فأصبح المجموع مائة وعشرة، فقال له: إذاً أشتري منك المائة غرام من الذهب بهذه المائة من الذهب، دنانير أو غيرها، وأشتري منك العشرة غرامات الخرز بجنيه، أو مثلاً بريالات موجودة، فلا بأس؛ لأنه فصل هذه البيعة عن هذه البيعة.
وخفف في ذلك جمع من العلماء رحمهم الله، سواءً كان من جنس الربوي أو كان من غيره، قالوا: لأن البيعتين إذا فصلهما عن بعض جاز، فلا يجوز بيع الربوي بربوي ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما كدرهمين بدرهم وتمر.
وفي عصرنا الحاضر نمثل بأمثلة على مسألة الربوي بربوي: عندما تأتي إلى الرجل وتريد أن تصرف عنده، فيقول لك: لا أصرف لك حتى تشتري، فقال بعض العلماء: تدخل في مسألة بيع الربوي بالربوي؛ لأنه إذا ألزمك أن تشتري -مثلاً- كيلو تمر وقيمته ريال، وقال لك: سأصرف لك الخمسمائة ريال بشرط أن تشتري هذا التمر، فإن قيمة الكيلو التمر في الأصل نصف ريال، وهو سيربح نصف ريال؛ فكأنه إذا صرف لك عشرة ريالات بتسعة ريالات -كأنه صرف لك تسعة ونصف ريال -التي هي حقيقة قيمة التمر- بعشرة كاملة، لكن لو جئت باختيارك وطلبت ذلك وابتغيته فقالوا: إن الأمر في ذلك أيسر.
ومن هنا إذا جاء يعرض على الإنسان مناديل تتمة لصرفه أو كذا، قالوا: يتورع، حتى لا يكون فيه شبهة الفضل الذي سيربحه من قيمة المناديل، فيكون قد صرف العد بالعد مع فضل وزيادة.
وهذه المسألة حتى تكون الصورة أقرب ليست من جلية الربا، إنما هي مما يسمونه: بيوع الذرائع، وهي في ظاهرها صحيحة؛ لكنها في الحقيقة تئول إلى الربا؛ كبيع العينة ونحوه.
ولذلك يقولون: هذا من بيوع الذرائع الربوية، فهناك الربا المحض، وهناك ما هو وسيلة وذريعة إلى الربا، والشريعة تحرم المقاصد المحرمة ووسائلها المفضية إليها، ولذلك قُررت القاعدة أن (الوسائل لها أحكام مقاصدها)، فإن كانت الوسيلة إلى حرام فهي حرام، ثم تتفاضل الوسائل في الحرمة وفي الجواز بتفاضل مقاصدها، فما كان وسيلة إلى حرام أعظم فإنها محرمة بحرمة الحرام الأعظم؛ وعليه فما كان وسيلة إلى الربا فإنه محرم، ولا يجوز أن يتعاطاه، كما لا يجوز أن يتعاطى الربا.
وقوله رحمه الله: (ولا يباع ربوي) سواءً كان من الأثمان، أو كان من المطعومات، وسواءً كان من المنصوص عليه، أو كان من الملحق بالمنصوص عليه، وقوله: (بجنسه) أي: من جنسه مع اتحاد النوع، لكن لو كان الربوي بربوي مع اختلاف الجنس، فيجوز التفاضل ولا إشكال فيه.
وقوله: (ومعه) كمد ودرهمين بمدين ودرهم، (أو معهما) مع هذا وهذا من غير جنسهما كدرهمين في مقابل مد ودرهم، فإن الدرهم في مقابل الدرهم، والمد في مقابل الدرهم
‌‌التفصيل في بيع التمر بلا نوى بما فيه نوى
قال رحمه الله: [ولا تمر بلا نوى بما فيه نوى] أي: ولا يجوز بيع تمر بلا نوى بتمر فيه نوى، وفي هذه المسألة صور: 1 - أن يبيع تمراً ونوى بتمر ونوى.
2 - أن يبيع تمراً بلا نوى بتمر بلا نوى.
3 - أن يبيع النوى بالنوى.
4 - أن يبيع تمراً ونوى بنوى.
5 - أن يبيع تمراً ونوى بتمر.
6 - أن يبيع تمراً ونوى بلا نوى.
والتمر في أصل الخلقة يكون في داخله نوى، والنوى يستخلص من أجل أن يباع للبهائم لتطعمه وتسمن به كما هو معروف.
فإذا كان التمر باقياً على أصل خلقته فهو تمر بنوى، وإذا نزع منه النوى وبقي التمر وحده، فهو تمر بلا نوى.
إذاً: الصور هي كالآتي: 1 - تمر ونوى بتمر ونوى.
2 - تمر بلا نوى بتمر بلا نوى.
3 - نوى وحده.
فهذه ثلاث صور إذا اتحد المثمونان.
أما المقابلات فنقول: 1 - تمر ونوى بنوى.
2 - تمر ونوى بلا نوى.
3 - تمر ونوى بتمر.
4 - تمر ونوى بنوى.
فأصبحت خمس صور، ثم خذ الاثنين منفردين: تمر بلا نوى بنوى وحده.
فهذه ست صور.
ثم مرة ثانية: 1 - تمر ونوى بتمر ونوى.
2 - تمر بلا نوى بتمر بلا نوى.
3 - نوى خالص بنوى خالص.
فهذه ثلاث صور متكافئة، أي: يكون المثمونان متقابلين تماماً.
ونقول: 1 - تمر ونوى بنوى.
2 - تمر بنوى بتمر بلا نوى.
أصبحت خمس صور، ثم تأتي كل منها على انفراد: - تمر بلا نوى بنوى وحده.
فهذه ست صور، ونريد أن نفصل في هذه الست: الصورة الأولى: إذا باع التمر مع النوى بتمر مع نوى، كرجل جاء بصاع من السكري مثلاً، وقال: أريد أن تبادلني به سواءً من السكري أو من غير السكري.
فنقول: لابد من التماثل والتقابض، فلا يجوز التفاضل إذا كان تمراً بنوى بتمر فيه نوى، فيجب التماثل والتقابض.
الصورة الثانية: أن يكون تمراً بلا نوى بتمر بلا نوى، الذي هو صورة التماثل، أي: تمر منزوع النوى بتمر منزوع النوى، سواءً اتحد نوعه أو اختلف، فنفس الحكم؛ لأنه لما نص عليه الصلاة والسلام: (التمر بالتمر)، وقال في آخر الحديث: (مثلاً بمثل، يداً بيد)، فهذا تمر بتمر، والتمر الموجود مطعوم، وغاية ما فيه أنه استخرج منه النوى الذي لا يأكله الآدمي.
وبناءً على ذلك في الحالتين: التمر على أصل خلقته بالنوى بتمر على أصل خلقته بالنوى، أو تمر منزوع النوى بتمر منزوع النوى، يجب فيه التماثل والتقابض.
الصورة الثانية: أن يكون النوى وحده بنوى، فنقول: النوى من غير المطعومات؛ لأنه تأكله البهائم، وإذا كانت تأكله البهائم فليس من جنس مطعومات بني آدم، وإذا كان من جنس غير المطعومات فالقاعدة فيه أن ننظر إلى الوزن، فأي شيء من غير المطعومات إذا سئلت: هل يجري فيه الربا أو لا؟ فانظر هل يوزن أم لا؟ فمثلاً: إذا سُئلت عن الكتب، أو الأوراق، أو الأقلام، أو الحديد، أو النحاس الأصفر، أو الرصاص، أو أي نوع من غير المطعومات، فإن كان لا يباع وزناً لم يجر فيه الربا.
فهنا النوى من جنس ما لا يؤكل، فهل يباع وزناً أم كيلاً؟ نقول: فيه تفصيل: فإن كان العرف -أي عرف البلد- والناس الذين يسألون عن هذه المسألة يبيعونه وزناً، وجب التماثل فيه؛ لأنه موزون، فلا يجوز بيع صاع النوى بصاع النوى مطحوناً أو على أصله إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، إن كان يباع وزناً بالكيلو جرامات مثلاً، وأما إذا كان يباع كيلاً بالصاع، فإنه لا يجري فيه الربا؛ لأنه غير موزون، فلا يلتحق بالذهب والفضة.
هذا بالنسبة إذا باع النوى بالنوى خالصاً، أما إذا كان النوى يباع وزناً، فلابد من التماثل، فلو باعه صاعاً من النوى مطحوناً بصاع من النوى غير مطحون، فالحكم على ما درج عليه المصنف أنه لا يجوز؛ لأنه لا يجوز بيع الحب بالدقيق، فإذا كان النوى مطحوناً فلابد أن يكون الآخر مطحوناً، وهكذا إذا كانت طحونته ناعمة أو أخف، فلابد من التماثل من كل وجه.
والخلاصة: أن بيع التماثل يقع في ثلاث صور: 1 - تمر بتمر في كل منهما النوى، فيجب التماثل والتقابض.
2 - تمر بتمر منزوع النوى منهما، فيجب التماثل والتقابض.
3 - نوى بنوى، وفيه تفصيل: - فإن كان يباع وزناً جرى فيه الربا.
- وإن لم يبع وزناً لم يجرِ فيه الربا.
الصورة الرابعة: بيع تمر فيه نوى بتمر ليس فيه نوى، فهل تتحقق المماثلة؟ نقول: أولاً: هل يجري فيه الربا أم لا؟

‌‌الجواب
يجري فيه الربا؛ لأن التمر الأول منصوص عليه، والتمر الثاني منصوص عليه، فكل منهما ربوي، فرجع إلى مسألتنا الأولى وهي أن يبيعه الربوي بالربوي ومع أحدهما من غير الربوي، قالوا: فلا يجوز؛ لأنه سيستفضل لو باع الصاع، فإن التمر الذي لا نوى فيه سيكون أدق، ولذلك لا تتحقق فيه المماثلة.
وخفف بعض العلماء في هذا، فقال: إذا باعه تمراً فيه نوى بتمر لا نوى فيه لم يؤثر؛ لأن النوى غير مقصود، وقد جاء تبعاً ولم يجئ قصداً، لكن هذا يقول ضعيف، وسنبين مسألة التبعية والقصد، وأن الربا فيه قوية، فلابد في بيع التمر مع النوى بالتمر الذي لا نوى فيه من التماثل.
الصورة الخامسة: بيع تمراً ونوى بنوى، وفيها تفصيل: فإن كان النوى مما يوزن فيجري فيه الربا؛ لأن الربا صار حينئذٍ من جنس ما يقابله، موزوناً بموزون، ومعهما من غيرهما بنفس الصورة، فقد صارت مثل صورة تمر بنوى بتمر، وذلك إذا كان النوى مما يوزن، أما إذا كان مما يباع كيلاً، وهذا هو الذي كان موجوداً في زمن المصنف رحمه الله وكان مشهوراً وإلى عهدنا الآن، فإن الأغلب في النوى أن يباع كيلاً.
فحينئذٍ إذا كان يباع كيلاً فإنه يجوز، إذا باعه تمراً ونوى بنوى، فإن التمر الذي هو ربوي لم يعادله ربوي، وإنما تعادل غير الربوي بغير الربوي، فجاز التفاضل، وعلى هذا يفصل في مسألة التمر والنوى إذا كان ذلك مع التماثل أو مع الاختلاف.
وقوله: (ويباع النوى بتمر فيه نوى) وقد ذكرنا ذلك؛ لأنه ليس من جنس الربويات
‌‌حكم بيع لبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف
قال رحمه الله: [ولبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف] المسألة من باب ترويض الذهن، وضبط القواعد والأصول، وقبل أن نبحث أي مسألة لابد أن نعرف جنس المبيع، هل هو ربوي أم غير ربوي؟ فاللبن أولاً: هل هو مطعوم أم غير مطعوم؟ هو مطعوم، وثانياً: هل يباع اللبن كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً أو جزافاً؟

‌‌الجواب
بالكيل، فيقال: لتر، أو نصف لتر، حتى الكراتين التي تباع في زماننا يكتب عليها: لتر، أو نصف لتر، وحتى الحليب كذلك، إذاً: اللبن يباع كيلاً، ولا يباع وزناً، والحليب يباع كيلاً وتارة يباع عدداً، كما هو موجود في علب النيدو.
وحتى نقرر المسائل ونفهم مراد المصنف هنا: لو كان عندك حليب من الإبل وعندي حليب من الإبل، وأردنا التبادل، فلابد أن يكون مثلاً بمثل، يداً بيد حليب من الغنم بحليب من الغنم، مثلاً بمثل، يداً بيد حليب من البقر بحليب من البقر، مثلاً بمثل، يداً بيد.
وإن اختلفا كحليب بقر بحليب غنم، فما الحكم؟ الجنس واحد وهو أنه حليب، لكن الأصل مختلف كاللحم، فحينئذٍ يجب التقابض، ويجوز التفاضل، ويحرم النسيئة.
وبناءً على هذا فالحليب واللبن مكيل.
كذلك الصوف يباع وزناً، وقد يباع جزافاً في بعض الأحيان، لكنه يباع بالوزن، فالصوف يعتبر من جنس الربويات؛ لأنه غير مطعوم، وعلته الوزن، فإذا كان يوزن، أو جرى العرف في وزنه، فحينئذٍ يصبح من الربويات.
ولو باع اللبن والصوف بلبن وصوف، فما الحكم؟ نقول: فيه تفصيل: فإن كان اللبن متماثل الأصل؛ كلبن الشاة بلبن الشاة، فيجب التماثل والتقابض، وهكذا الصوف، لكن لو اختلفا؛ كلبن بقر بلبن غنم، جاز التفاضل ووجب التقابض.
وبناءً على هذا: فلو اشترى اللبن باللبن والصوف بالصوف، فإنه يجري فيه الربا، لكن لو اشترى اللبن والصوف بشاة ذات لبن وصوف، ومعلوم أن اللبن والصوف في الشاة من جنس الربويات، فإن الصوف يجز من الشاة ثم يوزن، واللبن الموجود يحلب ثم يكال، فمن دقة المصنف رحمه الله حينما ذكر الأصل وهو بيع الربوي بالربوي، ومعهما أو مع أحدهما من غيرهما، قال: لا يجوز، فأراد أن يستثني مسألة التبعية، وهي أن يكون الربوي غير مقصود، وإنما جاء تبعاً، فقصد بشراء الشاة الشاة، ولم يقصد لا لبنها ولا صوفها، فحينئذٍ عاوض الشاة بقيمة اللبن والصوف.
فالتبادل لم يقع بين لبن وصوف، مثل أن يبيع الربوي درهماً بدرهم، أو مداً بمد، وهذا المد مقصود بالمد، لكن هنا جاء الربوي تبعاً.
وقد يقول قائل: ما هذا التنظير؟ وما هذه الأشياء التي يقولها العلماء تبعاً وقصداً؟ فنقول: الشريعة تفرق بين التبع وبين القصد، وقد يكون الشيء مقصوداً محرماً لكنه تابع زائد، والدليل على ذلك: أنه لا يجوز بيع النخل والثمر قبل بدو صلاحه، لكن لو اشتريت بستاناً وفيه النخل الذي لم يبدُ صلاحه، وقلت: أشترط أن تكون لي الثمرة، فإنه يصح؛ لأن الثمرة جاءت تبعاً لا قصداً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع).
فإذا اشترطها المبتاع كانت له بالعقد والبيع، فجازت تبعاً ولم تجز استقلالاً؛ لأنه ثبت في الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها) إذاً: الشريعة تفرّق بين التبع والاستقلال.
فمثلاً: رجل توفي والده، وقال: أريد أن أصلي عن والدي العبادات البدنية كالصلاة، فبالإجماع أنه لا يجوز أن يصلي الحي عن الميت، ولا الحي عن الحي؛ بل لا تجوز الصلاة عن أحد إلا في أقوال شاذة وردت، لكن إذا حججت عن الوالد، أو عن قريب توفي ولم يحج، أو اعتمرت عنه، فستضطر لصلاة ركعتي الطواف، لكن هل ركعتا الطواف جاءت أصلاً أم تبعاً؟ الجواب: جاءت تبعاً.
فهنا نقول: إذا باع الصوف واللبن بشاة ذات صوف ولبن، فإن مقصوده الشاة؛ بدليل أنه يقدر قيمة الصوف واللبن الذي معه ويكافئه بقيمة الشاة، ولا يكافئه بقيمة الصوف واللبن الموجود في الشاة.
وعلى هذا فيجوز بيع الربوي بالربوي ومعهما ما ليس من جنسهما إذا كان الربوي تبعاً ولم يكن أصلاً

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #310  
قديم 22-05-2024, 02:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

‌‌العبرة في الكيل والوزن
قال رحمه الله: [ومرد الكيل لعرف المدينة].
هذه مسألة مهمة، خاصة وأننا قد قررنا في باب الربا أنه لابد أن نعرف الموزونات والمكيلات حتى نقول: يجري الربا أو لا يجري.
فأي شيء تسأل عنه من الطعام أو من غير الطعام فتنظر: هل يكال، أو يوزن، أو يباع بالعدد والجزاف والذرع إلى آخره؟ إذاً: أنت محتاج إلى مسألة الكيل والوزن.
فهب أن رجلاً جاءك وقال: أريد أن أبيع العدس بالعدس جزافاً كوماً بكوم، فهل يجوز؟ وحينها ستضطر أن تسأل: هل العدس من جنس الربويات أم لا؟ وهذا يستلزم أن تعرف هل هو يكال ويوزن أم لا يكال ولا يوزن؟ فإذا كان طعاماً يكال أو يوزن جرى فيه الربا، كما قررنا ذلك على أصح أقوال العلماء؛ لكن لو كان الطعام يباع بالعدد، مثل الحلوى الآن، فإن منها ما يباع بالعدد؛ كحلوى العود.
وكذلك المكرونة: هل هي من جنس ما يكال أو يعد أو يوزن أو يذرع؟

‌‌الجواب
مما يوزن، ولذلك تجد مكتوباً عليها مثلاً: مائتين وخمسين جراماً، وفي بعض الأحيان الأنواع الصغيرة قد تباع كيلاً بالصاع، لكن الموجود والشائع في أسواقنا أنها تباع بالوزن.
كذلك الفستق: لو سألك رجل يبيع الفستق والمكسرات، وقال: أريد أن أبادل كيساً من الفستق بكيسين، وهذا الكيس من نوع، وهذان الكيسان من نوع آخر، فهل يجوز أم لا؟ فتقول: هل الفستق يباع بالكيل أو الوزن؟ الجواب: بالوزن، وبناءً على ذلك يعتبر من جنس الربويات، وقس على ذلك بقية الأمثلة.
إذاً: لابد من الكيل أو الوزن في الطعام، ولنفرض أن شيئاً كان يباع بالكيل، فأصبح في زماننا يباع جزافاً بدون كيل ولا وزن، أو أن شيئاً كان يباع بالوزن، فأصبح في زماننا يباع جزافاً بدون كيل ولا وزن، أو أن شيئاً كان يباع قديماً بالجزاف فأصبح يباع في زماننا بالكيل، أو بالوزن، وهذه المسألة تحتاج إلى ضبط؛ لأنك تقول: لا أحكم بالربا إلا إذا كان مكيلاً أو موزوناً من الطعام، فمعناه: أنه لابد أن يكون السوق يتبايع بالوزن أو يتبايع بالكيل.
إذاً: الربويات تنقسم إلى قسمين: الأول: ربويات منصوص عليها.
الثاني: ما كان في حكم المنصوص عليها مما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك أشياء كانت موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتباع بالكيل في زمانه أو تباع بالوزن، فهذه الأشياء لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فيكون إما مطعوماً أو غير مطعوم.
الحالة الثانية: أن يكون غير موجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الموجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما يباع وزناً في زمانه كالذهب والفضة، فلو أنه في زماننا هذا بيع الذهب مثلاً بالذرع، فنقول: العبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولو اختلف الزمان، وهذا بالنسبة لغير المطعومات.
أما بالنسبة للمطعومات، فنفس الحكم، فما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم واختلف حال بيعه في زماننا، فالعبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم لا بزماننا.
فالتمر كان يباع كيلاً، لكن لو أنه في زماننا أصبح يباع بغير الكيل والوزن، فحينئذٍ نعتبر زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول: إنه منصوص عليه، ويجري فيه الربا، حتى ولو بيع بغير الكيل والوزن.
أما غير التمر، فلو كان هناك شيء موجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، مثل الزبيب، فقد كان موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يباع كيلاً؛ فحينئذٍ لو أصبح الزبيب يباع في زماننا وزناً فإن العبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، ويجري فيه الربا.
إذاً: مسألة الكيل والوزن لابد لها من هذا الضابط، فإذا كانت موجودة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام أو غير الطعام، فالعبرة بزمان النبي صلى الله عليه وسلم على حسب الحال، وهذا هو مذهب الجمهور.
وهناك من العلماء من قال: العبرة بالعرف الذي طرأ بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أن البطيخ كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يباع مثلاً بالكوم، ولا ينظرون إلى وزنه، لكن في زماننا يباع البطيخ بالوزن، فإذا كان بالكوم فإنه لا يجري فيه الربا؛ لأنه مطعوم غير مكيل ولا موزون؛ لأنه بيع جزافاً، والجزاف يكون بالحصر والتخمين، وبناءً على ذلك نقول: ما كان من جنس الطعام وغير الطعام يوجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بزمانه كيلاً ووزناً، وما كان مما لم يوجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بعرف السائل، هذا وجه، أو العبرة بمكة إن كان موزوناً، وبالمدينة إن كان مكيلاً، وهذا وجه آخر.
وقال بعض العلماء: أي شيء جرى فيه العرف ببيعه كيلاً أو وزناً تقيد بذلك العرف، فإن لم يكن له عرف رجعوا إلى مكة والمدينة بالكيل والوزن، وأما لو كان له عرف فالعبرة بعرف بلده، هذا هو الوجه الأول.
وهناك وجه ثانٍ يقول: العبرة في المكيلات والمطعومات بكيل المدينة.
فمثلاً: الطعام من جنس المكيلات، فأهل مكة يبيعونه بالوزن، وأهل المدينة يبيعونه بالكيل، فعند الحنفية الذين يرون الكيل، يقولون: يجري الربا؛ لأن العبرة في الكيل بكيل المدينة، والعبرة في الوزن بوزن مكة.
فالوزن من غير المطعومات هوما يقاس على الذهب والفضة، فمثلاً: الحديد والنحاس والنيكل والرصاص والخشب، لو بيع وزناً في مكة وبيع ذرعاً في المدينة جرى فيه الربا؛ لأنه من جنس الموزونات، والعبرة بمكة في الوزن، ولا عبرة بالمدينة في الوزن.
وعلى هذا يقولون: نعتبر في الوزن وزن مكة، ونعتبر في الكيل كيل المدينة، إذاً: عندنا ضابطان لا نص فيهما: العرف، والرجوع إلى مكيال مكة والمدينة.
فإذا قلنا بالعرف الذي هو عرف البلد، فالأصل في الرجوع إليه القاعدة الشرعية المشهورة: (العادة محكمة)، فإن الله ردنا إلى العرف فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، والأدلة على اعتبار العرف من الكتاب والسنة كثيرة.
ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم المرأة إلى مهر مثلها لا وكس ولا شطط، إن كانت بكراً، فالبكر من مثلها سواءً كانت من أوساط الناس أو علية الناس أو الدون، وهذا كله من الرجوع إلى العرف {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] إلى غير ذلك من النصوص التي وردت في اعتبار العرف.
لكن لو فرضنا أننا في المدينة، وقلنا بالرجوع إلى العرف، فمعناه أننا نرجع إلى السوق، فجئنا إلى الكمثرى، وهي مطعوم، لكن هل تباع كيلاً في سوقنا؟ أو وزناً؟ أو عدداً؟ لو أن عرفنا جرى على بيعها عدداً -بالحبة- لم يجر فيها الربا؛ لأنها مطعومة غير مكيلة ولا موزونة، وشرط جريان الربا أن يكون مطعوماً مكيلاً أو موزوناً.
لكن لو كان في المدينة سوقان: سوق يبيعها بالعدد، وسوق يبيعها بالوزن، فإذا جئنا ننظر إلى الذين يبيعونها بالوزن حكمنا بالربا، وإذا جئنا ننظر إلى الذين يبيعونها بالعدد لم نحكم بالربا، فهل نقول: نغلب المحرمين؛ لأنه إذا اجتمع حاظر ومبيح قدم الحاظر، أو نقول: نغلب المجوزين؛ لأن الأصل الحل، والشريعة شريعة رحمة، وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، أو أن الأمر في تفصيل؟ قالوا: فيه تفصيل: فإن كان السوق الذي يبيع بالوزن ويجري على وجهه الربا أكثر وأشهر وأغلب في المدينة، وأكثر ارتياداً من الناس، فالعبرة به والآخر لاغٍ، وإن كان الآخر هو الأكثر، فالعبرة به ولا ربا مثلما ذكرت.
لكن إذا كان السوقان متماثلين: هذا السوق سعته مثل ذلك السوق، والمدينة منقسمة إلى قسمين: النصف منها يقضي في هذا السوق، والنصف الآخر يقضي في ذلك السوق، فما الحكم؟ قالوا: إذا اختلفا فإنه يجري الربا في السوق الذي يباع بالوزن، ولا يجري في السوق الذي لا يباع بالوزن، وهذا ليس بغريب؛ لأنك ربما تأتي الآن إلى حدود الحرم، فلو أن رجلاً في التنعيم دخل خطوة، فصلاته فيها بمائة ألف صلاة، ولو خرج لم تكن له هذه الفضيلة، ولو دخل وأراد فيه الإلحاد بظلم أذاقه الله من عذابٍ أليم، ولو تقهقر وخرج خطوة لم يكن له هذا العذاب.
إذاً: مسألة التحديد لأن هناك وصفاً شرعياً مستنبطاً من النص، إذا وجد حكمنا به، وإذا فقد لم نحكم به، إذاً: هذه هي مسألة العرف.
ولذلك قال المصنف رحمه الله: (ومرد الكيل لعرف المدينة)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العبرة بالكيل بكيل المدينة، والعبرة بالوزن بوزن مكة).
وهذا الحديث صححه غير واحد من العلماء رحمهم الله، والعمل عند أهل العلم على هذا الحديث؛ لأن مكة والمدينة نزل فيهما الوحي، وكان التشريع ونزول الوحي في هذا المكان، فيقولون: يرجع إلى هذا العرف عند اختلاف أعراف الناس، فيحتكم إليهما في الكيل كيلاً بالمدينة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا)، فكان الأشبه بهم كيلاً، والوزن يكون مرده إلى مكة، وعلى هذا يفصل بهذا التفصيل.
وقوله: (زمن النبي صلى الله عليه وسلم)، فقد رجح المصنف رحمه الله هنا أن المكيلات والموزونات نرجع فيها إلى عرف المدينة ومكة، إذا كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مثل الزبيب، فقد كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في المدينة، وكان يباع كيلاً، فنقول: إنه يأخذ حكم المكيل ويجري فيه الربا؛ لأنه مطعوم مكيل.
قال رحمه الله: (وما لا عرف له هناك اعتبر عرفه في موضعه) أي: ما لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجع فيه إلى العرف في بلده، كما ذكرنا أنهم يقولون: إن المطعومات التي لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يرجع فيها إلى عرف بلادها، ويلغون عرف مكة والمدينة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم
‌‌تحريم ربا النسيئة والفضل
قال رحمه الله: [ويحرم ربا النسيئة]
‌‌معنى ربا النسيئة
النسيئة: مأخوذ من النسأ، كقولك: أنسأ الشيء إذا أخره، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة:37]، حيث كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن مواقيتها؛ فلأجل هذا التأخير وصف بكونه نسيئاً.
فالنسيئة إما أن تكون من الطرفين، وهذا أشد ما يكون، وإما أن تكون من أحد الطرفين دون الآخر؛ كأن يعجل أحدهما ويؤجل الآخر، فيعطيه درهمين بدرهم، ينقد أحدهما وينسأ الآخر

‌‌الأدلة على تحريم ربا النسيئة

وقول المصنف: (يحرم ربا النسيئة) الدليل على التحريم قوله عليه الصلاة والسلام فيما ثبت في الصحيح من حديث عبادة رضي الله عنه وأرضاه: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد).
فقوله عليه الصلاة والسلام: (يداً بيد) يدل على أنه لا يجوز بيع الربوي بالربوي مع اتحاد الصنف أو اختلافه إلا يداً بيد، وقوله عليه الصلاة والسلام في تتمة الحديث: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، منطوق النص واللفظ: أي: جاز لكم أن تبيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، كيلو بكيلوين أو بثلاثة، إذا كان يداً بيد، هذا هو المنطوق.
ومفهومه: لا تبيعوا الذهب بالفضة بالنسأ والتأخير إذا لم يكن يداً بيد.
فالمنطوق: جواز بيع الذهب بالفضة، وبيع البر بالتمر، والشعير بالملح، الذي هو واحد من الأربعة بواحد آخر من الأربعة، بشرط أن يكون يداً بيد، ومفهوم الشرع: إذا كان يداً بيد؛ لأن المفاهيم عشرة، منها: مفهوم الشرع.
فلما قال: (يداً بيد)؛ فهمنا أنه إذا لم يكن يداً بيد فإنه لا يحل، وقد ذكرنا حديث عبادة لأنه أصل، وإلا فهناك أحاديث أقوى وأصرح في تحريم ربا النسيئة.
ومنها -الحديث الثاني- حديث عمر في الصحيح، وهو من أشد الأحاديث في تحريم ربا النسيئة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء)، فقوله: (هاء وهاء) أي: هه هه، فتعطي وتأخذ، وهذا يدل على التنجيز والتعجيل والنقد والإعطاء حالاً.
إذاً: فقوله: (هاء وهاء) معناه: أنه يقع في الربا إذا أخر ولا يقع فيه إذا عجل؛ لقوله: (إلا هاء وهاء)، فنص على كونه ربا إذا أخر، وهذا من المنطوق.
الحديث الثالث: من أدلة المنطوق وهي أقوى: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أسامة: (لا ربا إلا في النسيئة)، فإنه من أقوى الأحاديث التي دلت على حرمة النسيئة، بل عظمت أمره حتى قيل: لا يجري الربا إلا في النسيئة.
وهذا من باب التعظيم.
الحديث الرابع: حديث أبي موسى رضي الله عنه وهو في الصحيح أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا -أي: لا تزيدوا، من الإشفاء- بعضها على بعض، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض)، ثم قال -وهذا منطوق النص-: (ولا تبيعوا غائباً منها بناجز).
فهذا نص على تحريم النسيئة وهو قوله: (ولا تبيعوا غائباً منها بناجز)، ومعناه: أنها وقت النسيئة من طرف، قالوا: فحرم النسيئة من طرف، فمن باب أولى أن تحرم إذا كانت من الطرفين، أي: لا يجوز بيع الغائبين: عين بعين مؤجلين، أو ذمة بذمة مؤجلين، نسيئة من الطرفين في ثلاث صور.
إذاً: ربا النسيئة مجمع على تحريمه، ووقع الخلاف في ربا الفضل بين الصحابة، وخالف فيه بعض التابعين، وهنا نتعرض لمسألة هل ربا الفضل مجمع على تحريمه أم لا؟
‌‌الخلاف في حكم ربا الفضل
أولاً: ربا النسيئة مجمع على تحريمه، لكن نظراً لورود الحديث: (لا ربا إلا في النسيئة) نحتاج إلى بيان مسألة ربا الفضل، وهل هو مجمع على تحريمه أم مختلف فيه؟ وهل حديث: (لا ربا إلا في النسيئة) يدل على جواز ربا الفضل وانحصار الربا في هذا النوع وهو النسيئة، أم أنه لا يدل على ذلك؟ وهذه المسألة قد اختلف فيها الصدر الأول من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أواخر القرن الثالث تقريباً، ثم انقرض الخلاف وأصبح قولاً واحداً بتحريم ربا الفضل، لكن لابد أن نتعرض لهذا الخلاف ثم نفند الشبه في جواز ربا الفضل.
وحاصل هذا: أنه روي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن أرقم، وأسامة، عبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان، والبراء بن عازب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
أما عبد الله بن عباس فالرواية عنه في الصحيحين أنه كان يقول: (درهم بدرهمين لا بأس إذا كان يداً بيد)، فكان يجيز ربا الفضل ويحرم ربا النسيئة.
وأما عبد الله بن عمر فصح عنه؛ لكن صح عنه أنه رجع.
وكذلك عبد الله بن مسعود صح عنه، ولكن صح عنه أنه رجع.
والبراء بن عازب كذلك صح عنه أنه قال بقوله في قصة أبي المنهال مع شريكه لما سأل البراء، ولكنه رجع؛ لأن هذا الحكم -وهو جواز ربا الفضل- كان جائزاً في العصر المدني في أول التشريع، فحفظ بعض الصحابة الجواز، ثم اطلع على أدلة التحريم فرجع.
وأما معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعن أبيه، فقد جاء عنه الخلاف في قصته مع أبي الدرداء وأبي أسيد الساعدي المشهورة، وأن أبا أسيد الساعدي عتب على معاوية ورد عليه أمام الناس، وقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب ... )، وذكر الحديث، وهكذا أبو الدرداء راجع معاوية، فلما راجعه امتنع معاوية من قول أبي الدرداء، ثم رجع أبو الدرداء إلى عمر فسأله: ما الذي أقدمك من ثغرك؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إنه كان كذا وكذا وأخبره الخبر، فقال له: ارجع إلى ثغرك، والله لا خير في قوم لست فيهم، ثم كتب إلى معاوية ينهاه؛ فالظن بأمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه معاوية إذا بلغه نهي عمر أن ينتهي؛ لأن بعض الصحابة كان يقول بالجواز على ما كان يعلمه من التشريع الأول، ثم نسخ ذلك التشريع.
ثم عبد الله بن الزبير يُحكى عنه، ولكن لم يأتِ في رواية صحيحة عنه أنه قال بجواز ربا الفضل.
وهكذا أسامة حكي عنه، ولكن لم تأتِ رواية صحيحة عنه.
هذا مجمل الصحابة الذين حكي عنهم الخلاف، وقد رجعوا كلهم، وبقي ابن عباس وحده، هل رجع أو لم يرجع؟ اُختلف فيه على ثلاثة أقوال: فمنهم من يقول: إن ابن عباس رضي الله عنهما رجع عن فتواه بحل ربا الفضل، وهذا يرويه زياد أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما قبل وفاته بسبعين ليلة فأفتى بالتحريم.
ومنهم من يقول: إنه توفي وهو يقول بهذا القول، واحتجوا بما روى سعيد بن جبير رحمه الله وهو من أقرب الناس إلى ابن عباس وأعلمهم بفتواه، أنه قال: (سألت ابن عباس قبل أن يموت بشهرين، فوالله ما رجع عن قوله بربا الفضل) وهذا ثابت في الصحيح.
- وهناك قول ثالث بالتوقف.
والصحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يرجع عن فتواه بجواز ربا الفضل، بل توفي وهو يقول بذلك؛ وكان يتأول حديث أسامة ويفتي به ويعمل به.
ولذلك عتب عليه الصحابة حتى قال له أبو موسى الأشعري كما في صحيح مسلم: (اتق الله يا ابن عباس! أيأكل الناس الربا بقولك؟ فقال: أستغفر الله، فقال له: هل وجدت ذلك في كتاب الله؟ أو شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) فقال له ابن عباس: أما كتاب الله فلا)، أي: لم يجد في كتاب الله هذا الذي يقول به من الفتوى، قال: (وأما السنة فأنتم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لا يعرف الفضل إلا أهله.
فقد كان الصحابة يحفظ الصغير حق الكبير، وكان يحفظ من كان عنده علم من هو أعلم منه، كان يقدر بعضهم بعضاً، فمع كونها مسألة خلافية وفقهية لكنها ما أذهبت الحقوق، ولا أذهبت قدر الناس، ولا جعلت الإنسان عند مخالفته لغيره يحط أو ينزله من قدره، بل قال له أمام الناس: (أما السنة فأنتم أعلم بحديث رسول الله)؛ لأنهم أعلم وأكبر سناً وأكثر شهوداً لمشاهدة التنزيل.
فهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، وهكذا كان التابعون والتابعون لهم بإحسان، ولا زال أهل الفضل على هذا النهج الصالح الذي يدل على صفاء القلوب والإنصاف والعدل والتقوى لله سبحانه وتعالى.
ثم قال: ولكن أخبرني أسامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ربا إلا في النسيئة)، فاحتج بالسنة، وفهم ابن عباس أنه لا يقع الربا في الفضل، وأنه يجوز أن تصرف الريال بالريالين، والدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين؛ لكن بشرط أن يكون يداً بيد، والواقع أن هذا الحديث يجاب عنه من مسالك: المسلك الأول: من ناحية النسخ.
المسلك الثاني: الجمع.
المسلك الثالث: الترجيح.
فهذه ثلاثة مسالك أصولية في الجواب عن هذا الحديث ومناقشته، وتوهين الاستدلال به.
المسلك الأول: دعوى النسخ، وهذا المسلك يميل إليه طائفة من العلماء وبعض أئمة الحديث، كالإمام الحميدي وغيره، ويقوون النسخ؛ لأن البراء قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وتجارتنا هكذا) أي: كنا نعطي الدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين، أي: كنا نتعامل بالفضل، فلما قدم عليهم وتجارتهم هكذا وأقرهم عليها قال: (ثم جاءتنا أحاديث التحريم ففهمنا أن الأمر قد نسخ)، وهذا المسلك من أقوى المسالك.
المسلك الثاني: الجمع، لكن يقول العلماء: لا يصار إلى الجمع متى كان أحدهما منسوخاً؛ لأنه لا يجمع إلا بين نصين محكمين، لأن النصين أحدهما منسوخ، ولا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع.
فأما مسلك الجمع بين النصين، فيجمع بينهما من وجوه: أولاً: قوله: (لا ربا إلا في النسيئة) يحمل على أن المراد به: لا ربا أكمل وأكثر وأشنع وأشد من ربا النسيئة، وهو من باب التهويل والتشديد، فلما كان ربا النسيئة هو ربا الجاهلية، وهو الذي يظلم فيه الفقراء من قبل الأغنياء قال: (لا ربا إلا في النسيئة)، وهو كقوله: (الحج عرفة) فإنه لا يسقط أركان الحج الباقية، فخرج من باب التعظيم والتهويل والتشديد في أمره.
ثانياً: من مسالك الجمع ما اختاره الإمام الشافعي رحمه الله: أن الصحابي حضر الجواب ولم يحضر السؤال، فسُئل عليه الصلاة والسلام عن مسألة فيها ربا نسيئة، فقال له: (لا ربا إلا في النسيئة) أي: هذا الذي تسأل عنه هو عين الربا، فحضر الجواب ولم يحضر السؤال، وهذا يقع في بعض النصوص، فيعمم فيما هو مخصص، أو يطلق فيما هو مقيد، وقد ذكر هذا العلماء والأئمة.
المسلك الثالث: الترجيح، والترجيح هنا من جهة السند ومن جهة المتن: فأما الترجيح من جهة السند: فأولاً: إن أحاديث التحريم، كحديث عبادة بن الصامت، وأبي موسى الأشعري، وعمر بن الخطاب رضي الله عن الجميع، وغيرها من الأحاديث التي أثبتت تحريم ربا الفضل، هي من رواية أكابر الصحابة، وحديث: (لا ربا إلا في النسيئة) من رواية أصاغر الصحابة؛ لأن أسامة بن زيد وعبد الله بن عباس من أصاغر الصحابة.
والقاعدة تقول: (إذا تعارضت رواية الأكابر مع رواية الأصاغر؛ قدمت أحاديث الأكابر على أحاديث الأصاغر)، وهذا نفسه ابن عباس يسلم بذلك ويقول: (أنتم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني).
والسبب في هذا: أن الصغار ربما كانوا متأخرين، وقد تخفى عليهم بعض السنن، ويحكون البعض ويغفلون عن البعض، وهذا هو ما قرره العلماء، إلا في بعض المواطن التي تكون فيها رواية الأصاغر موثقة بدلالة الحال أو السياق، على حسب ألفاظ الأحاديث، كما قال أنس: (ما تعدوننا إلا صبياناً، لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها أسمعه يقول: لبيك عمرة وحجاً).
فهذا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً برواية الأصاغر، لكنه جاء بمقطع واضح على أنه سمع بأذنه وعقل ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: نقول: إن أحاديث النهي من رواية الأكابر، وأحاديث الجواز من رواية الأصاغر، فترجح أحاديث النهي على أحاديث الجواز.
ثانياً: إن أحاديث النهي متصلة؛ لأن عبادة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس يروي بواسطة، ويحتمل أن يكون أسامة روى بواسطة ولم يرو مباشرة، ولذلك قالوا: تقدم الرواية المباشرة على الرواية بواسطة.
أما الترجيح من جهة المتن، فمن وجوه: الوجه الأول: أن الاستدلال بحديث: (لا ربا إلا في النسيئة) من باب المفهوم لا من باب المنطوق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ربا إلا في النسيئة)، ونحن نرى أن الربا يجري في النسيئة، ومفهومه: أنه سكت عن ربا الفضل، فجاء منطوقاً به في أحاديث أخرى، فيقدم المنطوق على المفهوم.
ومن المعلوم أن حديث: (لا ربا إلا في النسيئة) لا يصح دليلاً لـ



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 343.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 337.16 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.70%)]