|
ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: تقديم الظُّعن مِنَ مزدلفة
عن عبداللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ قَالَ: قَالَتْ لِي أَسْمَاءُ وَهِيَ عِنْدَ دَارِ الْمُزْدَلِفَةِ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لَا، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: ارْحَلْ بِي، فَارْتَحَلْنَا حَتَّى رَمَتْ الجَمْرَة،َ ثُمَّ صَلَّتْ فِي مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ هَنْتَاهْ، لَقَدْ غَلَّسْنَا؟ قَالَتْ: كَلَّا أَيْ بُنَيَّ، إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَذِنَ لِلظُّعُنِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/940) في الباب السابق، ورواه البخاري (1679) في كتاب الحج، باب: مَنْ قَدّمَ ضَعفةَ أهْله بليلٍ فيقفون بالمزدلفة ويَدْعُون، ويَقدُم إذا غَابَ القَمر. في هذا الحديثِ يُخبِرُ عبداللهِ وهو ابنُ كَيسانَ، القُرَشي التّميمي مولاهم، مَولى أسماء بنتِ أبي بكْرٍ الصِّدِّيقِ، ثقة، قال: إنَّ أسْماءَ بنتَ أبي بكْرٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- قَالَتْ له «وهِيَ عِنْدَ دَارِ الْمُزْدَلِفَةِ» أي: وهي نازلةٌ عند الدّار المَبْنيّة في مُزدلفة، وهي مَشهورةٌ في ذلك الزّمن في مُزْدلفة، فهي نزَلَتْ لَيلَةَ العاشرِ مِن ذي الحجَّةِ، بعدَ الإفاضةِ مِن عَرَفاتٍ إلى مُزْدَلِفةَ، والمُزدلِفةُ: كما مرّ معنا: اسمٌ للمكانِ الذي يَنزِلُ فيه الحَجيجُ بعْدَ الإفاضةِ مِنْ جبَلِ عَرَفاتٍ، ويَبيتونَ فيه لَيلةَ العاشرِ مِنْ ذي الحِجَّةِ، وفيه المَشعَرُ الحَرامُ، وتُسمَّى جَمْعاً، وتَبعُدُ عن عَرَفةَ حوالي (12) كم. إحياء أسماء لبعض الليل فأحيَتْ أسْماءُ -رضي الله عنها- بعضَ اللَّيلِ، بالعِبادةِ والصَّلاةِ، ثمَّ قالت لِمَولاها عبداللهِ: يا بُنيَّ، هلْ غابَ القمَرُ؟ فأجابَها بـ«لا»، فواصَلَت إحياءَ لَيلِها بالصَّلاةِ والدُّعاءِ، كما في قوله: «فَصَلَّتْ سَاعَةً» أي: استَمرَّت في الصّلاة، ثُمَّ قَالَتْ: «يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ» حتَّى غابَ القَمرُ، ومَغيبُ القمَرِ تلك اللَّيلةَ يَقَعُ عندَ أوائلِ الثُّلثِ الأخيرِ، قبْلَ الفجْرِ بنحْوِ ساعةٍ ونِصفٍ إلى ساعتينِ، وسَببُ سُؤالِها: لِتَعلَمَ كمْ بَقِيَ مِن اللَّيلِ؟ فقدْ كُفَّ بَصَرُها في آخر حَياتِها -رَضيَ اللهُ عنها-، قال الحافظ: ومَغيبُ القَمَر تلك الليلة يقع عند أوائل الثُّلث الأخير، ومَنْ ثَمَّ قَيّده الشافعي ومَنْ تَبعه بالنّصْف الثاني. انتهى. ثم انْصَرَفَت إلى مِنًى- وهو كما ذكرنا- وادٍ يُحيطُ به الجِبالُ، يقَعُ في شرْقِ مكَّةَ على الطَّريقِ بيْن مكَّةَ وجبَلِ عَرفةَ، ويَبعُدُ عن المسجِدِ الحرامِ نحوَ (6 كم) تَقريباً، وهو مَوقعُ رمْيِ الجَمراتِ، فلمَّا وصَلَتْ إليها، رمَتْ جَمرةَ العَقبةِ في آخِرِ اللَّيلِ قبْلَ الفَجرِ، ثمَّ رَجَعَت فصَلَّت الصُّبحَ في مَكانِها الذي نزَلَتْه في مِنى، فقالَ لها مَولاها: «يا هَنْتَاهُ» أي: يا هذِه، قال ابن الأثير: وتُسكّن الهاء التي في آخرها وتُضم، ويقال في التّثنية: يا هنتان في المُؤنث، وفي جَمْعه: يا هنتان وهنوات، وفي المذكر: يا هَن ويا هَنان ويا هنون، وأصْله مِنَ الهَن، ويُكنى به عن نكرة كلّ شيء، فقولك للمُذكّر: يا هَن، كقولك: يا رجل، وقولك للأنثى: يا هنة، كقولك: يا امْرأة. قوله: «لقد غَلَّسْنَا» قوله: «لقد غَلَّسْنَا» أي: جِئنا بِغَلَسٍ، وهو ظَلامُ آخِرِ اللَّيلِ، والمَعنى: أنَّنا تَسرَّعنا في الرَّحيلِ مِن مُزْدَلِفةَ، ورَمْيِ الجَمْرةِ باللَّيلِ، فأجابَته بأنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أذِنَ ورخَّصَ لِلظُّعُنِ، والظُّعُنِ: جَمْعُ ظَعينةٍ، وهي المرأةُ في الهَودجِ، ثمَّ أُطلِقَ على المَرأةِ مُطلقاً، أي: رَخَّص للنِّساءِ في النُّزولِ مِن مُزْدَلِفةَ إلى مِنًى، في آخِرِ اللَّيلِ قبلَ الفَجرِ، ليَكونَ أبعَدَ عن مَشقَّةِ الزِّحامِ. قال النووي -رحمه الله-: «إن النّبّي - صلى الله عليه وسلم - أذِنَ للظُّعُن» بضم الظّاء والعين، وبإسكان العين أيضاً، وهنّ النّساء، الواحدة ظعينة، كسَفينة وسُفُن، وأصلُ الظّعينة: الهَودج الذي تكونُ فيه المَرأة على البَعير، فسمّيت المَرأةُ به مَجازًا، واشتُهر هذا المَجاز حتّى غلب، وخفيت الحقيقة، وظَعينة الرّجل امرأته اهـ. (شرح مسلم) (9/40)، وقال صاحب المُغني: لا نعلمُ خِلافاً في جَواز تقديم الضّعَفة بليلٍ مِنَ جمع إلى مِنى اهـ، وسبب سُؤالها: نشأ مِنْ عَمَاها الذي عَرَضَ لها في آخر عُمْرها -رضي الله عنها. قوله: «فارْتَحلنا» قوله: «فارْتَحلنا» أي: إلى مِنَى «حتّى رَمَت الجَمْرة» أي: جَمْرة العَقَبة «ثمَّ» بعد رَمْيها «صَلّت» أي: صَلاةَ الصُّبْح «في مَنْزلها» بمِنَى «فقلت لها أي هنتاه» أي: يا هذه، وهو بفتح الهاء وبعدها نون ساكنة أو مفتوحة وإسْكانها أشهر ثمَّ تاء مثناة من فوق. قال الحافظ: واستدلّ بهذا الحديث على جواز الرّمي قبل طُلوع الشّمس، عند مَنْ خَصّ التّعجيل بالضّعفة، وعند مَنْ لمْ يُخصّص. وخالف في ذلك الحَنفيّة فقالوا: لا يَرمي جَمرة العَقبة إلا بعد طُلوع الشمس، فإنْ رَمى قبلَ طلوع الشّمس وبعد طلوع الفجر جاز، وإنْ رَماها قبل الفَجر أعَادها، وبهذا قال أحمد، وإسحاق والجمهور، وزاد إسحاق: ولا يرميها قبل طُلوع الشّمس. وبه قال النخعي، ومجاهد، والثوري، وأبو ثور، ورأى جواز ذلك قبل طُلوع الفجر: عطاء، وطاوس، والشعبي، والشافعي. واحْتجّ الجُمْهور: بحديث ابن عمر الماضي قبل هذا، واحتجّ إسْحاق بحديث ابن عباس: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لغِلْمان بني عبدالمطلب: «لا تَرْمُوا الجَمْرة حتّى تَطْلعَ الشّمْس» وهو حديثٌ حَسن، أخرجه أبو داود، والنسائي، والطّحاوي، وابن حبان... قال: وإذا كان مَنْ رخّص له، منع أنْ يَرمي قبلَ طُلوع الشّمْس، فمَنْ لمْ يرخص له أولى. واحتج الشافعي بحديث أسماء هذا. ويُجْمع بينه وبين حديثِ ابن عباس، بحَمل الأمر في حديث ابن عباس على النّدْب، ويؤيده ما أخرجه الطحاوي: من طريق شعبة مولى ابن عباس عنه قال: بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهله، وأمرني أن أرمي مع الفجر. وقال ابن المنذر: السُّنّة ألا يَرْمي إلا بعد طُلوع الشّمس، كما فَعلَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يَجوز الرّمي قبل طُلوع الفجر؛ لأنّ فاعله مُخالفٌ للسّنّة، ومَنْ رَمَى حينئذ فلا إعَادة عليه؛ إذْ لا أعْلم أحداً قال: لا يُجْزئه. قال الحافظ: واسْتدلّ به أيضاً: على إسْقاط الوقُوف بالمَشْعر الحَرام عن الضّعَفة، ولا دلالة فيه؛ لأنّ رواية أسْماء، ساكتة عن الوُقُوف، وقد بيّنته رواية ابن عمر التي قبلها. اختلاف السلف في هذه المسألة وقد اختلفَ السلفُ في هذه المسألة، فكان بعضُهم يقول: مَنْ مَرّ بمُزْدلفة، فلمْ يَنزلْ بها فعليه دَمٌ، ومَنْ نَزَل بها، ثمّ دَفَع منْها، في أيّ وقتٍ كان مِنَ الليل، فلا دَمَ عليه، ولو لم يقفْ مع الإمام، وقال مجاهد، وقتادة، والزُّهري، والثّوري: مَنْ لمْ يقفْ بها، فقد ضَيّع نُسُكاً وعليه دَمٌ، وهو قولُ أبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وروي عن عطاء، وبه قال الأوزاعي لا دم عليه مطلقاً وإنّما هو منزل من شاء نزل به ومن شاء لم ينزل به. وذهب ابن بنت الشافعي، وابن خزيمة إلى أنّ الوقُوف بها رُكنٌ لا يتمّ الحَجّ إلا به. وأشار ابن المنذر إلى تَرْجيحه، ونقله ابن المنذر، عن علقمة، والنخعي، والعجبُ أنّهم قالوا: مَنْ لمْ يقف بها، فاته الحج، ويَجعل إحْرامه عُمْرة. واحتجّ الطّحاوي: بأنّ الله لمْ يذكر الوقوف، وإنّما قال: {فاذْكُروا اللهَ عندَ المَشْعرِ الحَرَام}. وقد أجْمعوا على أنّ مَنْ وَقَفَ بها بغير ذِكْر، أنّ حَجّه تَامٌّ، فإذا كان الذّكر المَذكور في الكتاب، ليس مِنْ صُلب الحج، فالمَوطن الذي يكون الذّكر فيه، أحْرَى أنْ لا يكون فرْضاً. قال: وما احتجوا به منْ حديث عروة بن مضرس- وهو بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها مهملة - رفعه قال: «مَنْ شَهِدَ معنا صلاة الفَجر بالمُزْدلفة، وكان قد وَقفَ قبلَ ذلك بعَرَفة ليلاً أو نَهاراً، فقد تَمّ حَجّه». لإجماعهم أنّه لو بات بها، ووقف ونام عن الصلاة، فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته أنّ حجّه تام. انتهى. وحديث عروة: أخرجه أصحابُ السنن، وصحّحه ابن حبان، والدارقطني، والحاكم ولفظ أبي داود عنه: أتَيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمَوقف- يعني بجَمع - قلت: جئتُ يا رسُول الله، مِنْ جبل طيئ، فأكللتُ مَطيّتي، وأتْعبتُ نفسِي، والله ما تركتُ مِنْ جبلٍ إلا وَقَفتُ عليه فهل لي مِنْ حَج؟ فقال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «منْ أدركَ مَعنا هذه الصّلاة، وأتى عَرفات قبلَ ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تمّ حَجّه، وقَضَى تَفَثه». وللنسائي: «مَنْ أدْركَ جَمْعاً مع الإمامِ والناس، حتّى يُفيضُوا فقدْ أدْرك الحَجّ، ومَنْ لمْ يُدْرك مع الإمامِ والناس، فلمْ يُدْرك»، وقد ارْتكبَ ابنُ حزم الشّطط، فزَعم أنّه مَنْ لمْ يُصلّ صلاة الصّبْح بمُزْدلفة مع الإمام، أنّ الحَج يفوته، الْتزاماً لما ألْزمه به الطّحاوي، ولمْ يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه، فحكى الإجماع على الإجْزاء، كما حكاه الطّحاوي، وعند الحنفية: يجب بترك الوقوف بها دم لمن ليس به عذر، ومن جملة الأعذار عندهم الزحام. انتهى باختصار (الفتح) (3/528-529). فوائد الحديث
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: التّغْلِيس بصَلاة الصُّبْح بالمُزْدلفة
عَنْ عبداللَّهِ بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلَاةً إِلَّا لِمِيقَاتِهَا، إِلَّا صَلَاتَيْنِ: صَلَاةَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ بِجَمْع،ٍ وصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا، الحديث أخرجه مسلم في الحج (2/938) باب: استحباب زيادة التغليس بصلاة الصبح يوم النّحر بالمزدلفة، والمبالغة فيه بعد تحقّق طُلوع الفجر، وأخرجه البخاري في (كتاب الحَج) حديث (1682) باب: متّى يُصلّي الفَجْر بجَمع». قوله: «ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى صلاة إلا لمِيقاتها، إلا صلاتين: صلاةَ المَغرب والعِشاء بجَمع، وصلّى الفَجرَ يومئذٍ قبلَ مِيقاتها» معناه: أنّه صلى المغرب في وقت العشاء بجَمع، وهي المُزْدلفة، وصَلّى الفجر يومئذ قبلَ ميقاتها، أي: المُعْتاد، ولكنْ بعد تحقّق طلوع الفجر. قوله: «قبلَ وَقْتها» فقوله: «قبلَ وَقْتها» المُراد: قبلَ وَقْتها المُعتاد، لا قبلَ طُلوع الفَجر، لأنّ ذلك ليسَ بجائزٍ بإجْماع المسلمين، فيَتعَيّن تأويله على ما ذكرناه، وقد ثبتَ في صحيح البُخاري في هذا الحديث: أنّ ابنَ مَسْعود صلّى الفَجْر حينَ طَلَعَ الفَجْر بالمُزْدلفة، ثمّ قال: «إنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى الفَجْر هذه السّاعة»، وفي رواية: «فلمّا طَلَعَ الفَجْر قال: «إنّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا يُصلّي هذه السّاعة، إلا هذه الصّلاة في هذا المَكان منْ هذا اليوم». قيل: كان يُبكِّرُ مِنْ أجْلِ أنْ يَتَّسِعَ الوقتُ للذِّكرِ والدُّعاءِ، لأنَّ ما بيْن صَلاةِ الفجْرِ ودفْعِ الناسِ إلى مِنىً، مَحلُّ ذِكرٍ ودُعاءٍ. وأيضًا: لِيتَّسِعَ الوقتُ لِما بيْن أيْدِيهم مِنْ أعْمالِ يومِ النّْحْرِ مِنَ المَناسِكِ. اسْتحباب الصّلاة في أوّل الوقت قال النووي: «وفي هذه الرّوايات كلّها حُجّةٌ لأبي حنيفة في اسْتِحباب الصّلاة في آخر الوقت في غير هذا اليوم، ومَذْهبنا ومذهب الجُمهور: اسْتحباب الصّلاة في أوّل الوقت في كلّ الأيام، ولكنْ في هذا اليوم أشدّ اسْتِحباباً، وقد سبق في كتاب الصلاة إيضاح المسألة بدلائلها، وتُسنُّ زيادة التّبْكير في هذا اليوم. قال: وأجابَ أصحابنا عن هذه الروايات بأنّ معناها: أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان في غير هذا اليوم، يتأخّرُ عن أوّل طُلوع الفَجر لَحْظة، إلى أنْ يأتيه بلالٌ، وفي هذا اليوم لمْ يَتأخّر، لكثرة المَناسك فيه، فيَحتاج إلى المُبالغة في التّبكير، ليَتّسع الوقتُ لفِعل المناسك. والله أعلم». والجوابُ لأصْحاب أبي حنيفة أيضاً عن هذا الحديث: أنّه مَفْهُوم، وهم لا يقولون به، ونحنُ نقولُ بالمفهوم، ولكنْ إذا عارضه مَنْطُوقٌ، قدّمناه على المفْهُوم، قد تظاهرت الأحاديثُ الصّحيحة بجواز الجَمْع، ثم هو مَتْروك الظّاهر بالإجْماع في صَلاتي الظّهر والعصر بعرفات. وفي البخاري: عن عبدالرحمنِ بنِ يزيدَ قالَ: خرجْنا مع عبداللهِ - رضي الله عنه - إلى مكةَ، ثمّ قَدِمنا جمعًا فصلى الصلاتينِ: كُلُّ صلاةٍ وحدها بأذانٍ وإقامةٍ، والعشاءُ بينهما، ثمّ صَلّى الفجرَ حين طلعَ الفجرُ- قائلٌ يقولُ طلعَ الفجرُ، وقائلٌ يقولُ لم يطلعِ الفجرُ- ثمّ قالَ: إنّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «إنّ هاتين الصّلاتينِ حُوّلتا عن وقتِهما في هذا المكانِ: المَغربَ والعشاءَ، فلا يَقدَمُ الناسُ جمعاً حتّى يُعْتِمُوا، وصلاةُ الفجرِ هذه الساعةُ». ثمّ وقفَ حتّى أسفرَ، ثمّ قالَ- أي عبدالله-: لو أن أميرَ المؤمنين أفاضَ الآن أصابَ السنةَ. فما أدري: أقولُه كان أسرعَ، أم دفعُ عثمانَ - رضي الله عنه -، فلم يزلْ يلبي حتى رمى جمرةَ العقبةِ يومَ النحرِ. فوائد الحديث 1- مُبادَرةُ الحاجِّ بصَلاتي المغرِبِ والعِشاءِ جَمعا، أوَّلَ قُدومِه المُزدلِفةَ. 2- وفيه: التَّبكيرُ بالفجْرِ في أوَّلِ وَقتِه صَبيحةَ يومِ النَّحرِ. 3- قد ظَهَرَ جَلِيًّا في مَناسِكِ الحجِّ مِن التَّيسيرِ على الناسِ، ورَفْعِ المَشقَّةِ عنهم، ورَحمتِه -سبحانه- خُصوصًا بالضُّعفاءِ والنِّساءِ، ما قال اللهُ -تعالى- فيه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185). وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78). باب: الإفاضَة مِنْ جَمْع بليلٍ للمرأة الثقيلة عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ تَدْفَعُ قَبْلَهُ، وقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وكَانَتْ امْرَأَةً ثَبِطَةً- يَقُولُ الْقَاسِمُ: والثَّبِطَةُ الثَّقِيلَةُ- قَالَ: فَأَذِنَ لَهَا فَخَرَجَتْ قَبْلَ دَفْعِهِ، وحَبَسَنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، ولَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ، فَأَكُونَ أَدْفَعُ بِإِذْنِهِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/939) باب: اسْتِحباب تقديم دَفع الضّعفة منَ النّساء وغيرهنّ منْ مُزْدلفة إلى مِنى في أواخر الليالي قبلَ زَحمة الناس، واسْتحباب المُكث لغيرهم حتى يُصلّوا الصُّبح بمُزْدلفة. في هذا الحديثِ تروي أمُّ المؤمنينَ عائِشةُ -رضي الله عنها- أنَّ أمَّ المؤمنينَ سَودةَ بنتَ زَمْعةَ -رضي الله عنها- كانَت ضَخمةً، أي: سَمينةً ثَقيلةَ الحركةِ، فاستَأذَنَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تَنزِلَ مِن مُزْدَلِفَةَ آخرَ اللَّيلِ، وتَذهَبَ إلى مِنًى لِتَرمِيَ الجمْرةَ قبلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، أي: شِدَّةِ زِحامِ النَّاسِ؛ لأنَّ بَعضَهم يَحطِمُ بَعضًا مِن الزِّحامِ، فأَذِنَ - صلى الله عليه وسلم - لها بالنُّزولِ في آخِرِ اللَّيلِ، فنَزَلَت قبْلَ الفَجرِ. المزدلفة والمُزدلِفةُ كما سبق اسمٌ للمكانِ الذي يَنزِلُ فيه الحجيجُ بعْدَ الإفاضةِ مِنْ عَرَفاتٍ، ويَبيتونَ فيه لَيلةَ العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، وفيه المَشعَرُ الحرامُ، وتُسمَّى جَمْعاً، وتَبعُدُ عن عَرَفةَ حوالي (12 كم)، وهي بجِوارِ مَشعَرِ مِنًى، ومِنًى: وادٍ قُربَ الحَرَمِ المَكِّيِّ، يَنزِلُه الحُجَّاجُ لِيَبيتوا فيه يَومَ التَّرويةِ، وأيَّامَ التَّشريقِ، ويَرْموا فيه الجِمارَ. قوله: «قبل حَطَمة الناس» بفتح الحاء أي: زحمتهم. قوله: «وكانت امْرأةً ثبطة» هي بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة وإسكانها، وفسّره في الحديث بأنّها: الثقيلة، أي: ثقيلة الحركة بطيئة، مِنَ التثبيط وهو التعويق. ثمَّ قالتْ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ -رضي الله عنها-: وأقمْنَا حتَّى أصبَحْنا نَحنُ سائرَ أهلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ دَفَعْنا مِن المُزدلِفةِ إلى مِنًى مع رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك عندَ الإسفارِ، وهو ظُهورُ ضَوءِ النَّهارِ. فلمَّا رَأَت عائشة -رضي الله عنها- شِدَّةَ الزِّحامِ، تَمنَّت لو كانَت فَعَلَت كما فَعَلَت سَوْدَةُ -رضي الله عنها-، ولو أنَّها استأذَنَت مِثلَها لَسُرِرَتْ كَثيراً، ولَفَرِحَتْ فَرَحاً عَظيماً أكثَرَ مِن فَرَحِها بأيِّ شَيءٍ يُفرَحُ به، بالتَّخلُّصِ مِن ذلك التَّعبِ الَّذي عانَتْه مِن شِدَّةِ الزِّحامِ. اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: تَلْبيةُ الحاجّ حتّى يَرْمي جَمْرة العَقَبة عَنْ عَطَاءٍ عن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ جَمْعٍ، قَالَ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْفَضْلَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/931) باب: اسْتحباب إدامة الحاجّ التلبية حتّى يَشْرع في رمي جَمْرة العقبة يوم النّحر، وأخرجه الستّة بألفاظٍ مُختلفة. يحدثُ ابن عباس -رضي الله عنهما-: «أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أرْدَفَ الفَضْل»، أي: أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلى الفَجر في مُزْدلفة، وبقي بها حتّى الإِسْفار، ثمّ رَكِبَ راحلته مُتَوجّهاً إلى مِنَى، وأرْدَفَ الفَضْل بن العبّاس، أي: أرْكبَه خَلْفه بين مُزْدلفة ومِنْى على راحلته. فأخبرَ الفَضْلُ بن عباس -رضي الله عنهما-، وحَدّثه عن تلبية الرّسُول - صلى الله عليه وسلم - حديث شاهد عيان، وأخبره عمّا أبْصرَه بعينه، وسمعه بأذنه، فذَكَرَ «أنّه لمْ يَزْل» النبي - صلى الله عليه وسلم - «يُلبّي حتّى رَمَى جَمْرةَ العَقَبة» أي: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم- اسْتمرّ في التّلْبية ليلةَ عِيد النّحر، وصَبيحة يوم النّحر إلى أنْ رَمَى جَمْرة العَقَبة، فلمْ يَقْطع التلبية، حتّى رَمَى جَمرة العَقبة، يومَ النَّحْرِ، وهو يومُ العاشِرِ مِنْ ذي الحِجَّةِ، وكان ذلك في حَجَّةِ الوداعِ، فدلّ هذا الحديث على أنّه يُطْلب مِنَ الحَاجّ أنْ يَستَمرّ مُلبّياً حتّى يرمي جَمْرةَ العَقَبة يوم النّحر، ثمّ يَقطع التّلْبية. قال الترمذي عقبه (927): والعملُ على هذا عند أهلِ العِلمِ مِنْ أصْحاب النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، أنّ الحاجّ لا يَقطع التّلبية؛ حتّى يرمي الجَمْرة، وهو قول الشّافعي وأحمد وإسحاق. انتهى. والجمهور: على أنّ الحاجّ مُفرداً كان أو مُتمتّعاً أو قارناً يقطع التلبية مع أوّل حَصَاة يَرْميها من جمرة العقبة لقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: «رمقت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلمْ يزْل يُلبّي حتّى رَمَى جمرة العقبة بأوّل حَصاة». أخرجه البيهقي، وفيه شريك وعامر بن شقيق، وقد وثقهما بعض المُحدّثين وضعفهما البعض الآخر. فيه: دليل على أنّه: يستديم التّلبية، حتى يَشرع في رمي جَمرة العَقبة غداة يوم النحر. وإليه ذهب الشافعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وجماهير العلماء: من الصحابة والتابعين، وفقهاء الأمصار، ومن بعدهم. وقال الحسن: يُلبّي حتّى يُصلي الصُّبح، يوم عَرفة. وحكي عن علي، وابن عمر، وعائشة، ومالك، وجمهور فقهاء المدينة: أنه يلبي حتى تزول الشمس، قال النووي: دليل الشافعي والجُمهور: هذا الحديث الصّحيح، مع الأحاديث بعده. قال: ولا حُجّة للآخرين في مخالفتها، فيتعيّن اتباع السنّة. وقال الشوكاني في «السيل الجرار»: هذا يَحتمل أنّه ترك التّلبية، عند الشُّرُوع في الرّمي، ويحتمل أنّه تركها عند الفراغ منه. ويؤيد هذا: ما روي من حديث الفضل بن عباس، عند النسائي والبيهقي: أنه - صلى الله عليه وسلم-، قطع التلبية مع آخر حصاة. فوائد الحديث
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: رَمْي جَمْرة العَقَبة يومَ النَّحْر على الراحلة
عن جَابِرٍ - رضي الله عنه - قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي؛ لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ». (1294/310)، الحديث رواه مسلم في الحج (2/943) باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النّحر راكباً، وبيان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ». في هذا الحَديثِ يُخبِرُ الصَّحابيُّ الجَليلُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ -رضي الله عنهما- أنَّه رَأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في حجَّةِ الوَداعِ- والَّتي كانتْ في السَّنةِ العَاشرةِ منَ الهجرةِ- يَرْمي جَمرةَ العَقَبةِ راكباً راحلَتَه -وهي النّاقةُ الَّتي يَرتحِلُ عليها- وذلك يومَ النَّحرِ، يَعني: في رَميَه لِلجَمرةِ في يومِ العيدِ، في العاشِرِ من ذي الحِجَّةِ. والنّبي - صلى الله عليه وسلم - رَمى راكباً؛ ليُظهِرَ للنَّاسِ فِعلَه، وكان يَقولُ للنَّاسِ: «لِتَأْخُذوا مَناسكَكم» أي: تَعلَّموا مِنِّي، واحْفَظوا الأحْكامَ الَّتي أَتيْتُ بها في حَجَّتي، مِنَ الأَقوالِ والأَفعالِ، فخُذوها عَنِّي واعَمَلوا بِها، وعَلِّمُوها النَّاسَ. وقال النووي: فيه: دلالة لما قاله الشافعي وموافقوه، أنّه يُسْتحبُّ لمَنْ وَصَل منَى راكباً أنْ يَرمِي جَمْرة العَقبة يومَ النّحر رَاكباً، ولو رَمَاها ماشياً جاز، وأمّا مَنْ وصلها ماشياً فيرميها ماشياً، وهذا في يوم النّحر، وأمّا اليومان الأولان منْ أيّام التّشريق، فالسُّنّة أنْ يَرمي فيهما جميعَ الجمرات ماشياً، وفي اليوم الثالث يرمي راكباً، ويَنْفر، هذا كله مذهب مالك والشافعي وغيرهما. وقال أحمد وإسحاق: يُستحبُّ يوم النّحر أنْ يَرمي ماشياً. قال ابنُ المُنذر: وكان ابنُ عُمر وابن الزبير وسالم يَرمُون مشاة، قال: وأجْمعُوا على أنّ الرّمي يُجزيه على أيّ حَالٍ رَمَاه؛ إذا وَقَع في المَرْمى. انتهى. وبيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - سببَ ذلك فقال: «فإِنِّي لا أَدْرِي لعلِّي لا أَحُجُّ بعدَ حَجَّتي هذِه»، وهذا إشارةٌ إلى تَوديعِهم، وإعْلامِهم بقُربِ وَفاتِه - صلى الله عليه وسلم -، وحثَّهم على الِاعْتِناءِ بالأَخْذِ عنه، وانتِهازِ الفُرصةِ مِن مُلازَمتِه وتَعلُّمِ أُمورِ الدِّينِ؛ ولِهذا سُمِّيتْ: حَجَّةَ الوَداعِ. وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لتأخُذُوا منَاسككم» فهذه اللام لام الأمر، ومعناه: خُذُوا مَنَاسككم، وهكذا وقع في رواية غير مُسلم، وتقديره هذه الأمُور التي أتيتُ بها في حجّتي مِنَ الأقوال والأفْعال والهيئات، هي أمُور الحَجّ وصفته، وهي مناسككم فخُذُوها عنّي، واقْبلُوها واحْفظُوها، واعْملُوا بها وعلّموها الناس. فوائد الحديث أمَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّتَه بأخْذِ أُمورِ الدِّينِ، ولا سيَّما المناسِكُ عنه، وألَّا يَعمَلوا بهَواهُم، وإنَّما يتَّبِعونَ ما سَنَّ لهم. وهذا الحديث أصلٌ عظيمٌ في مَناسك الحجّ، وهو نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة: «صَلُّوا كما رَأيتموني أُصلّي». حرَصَ الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- على الاقْتداءِ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ شيءٍ، لا سيَّما العِباداتُ، ومنْها فريضةُ الحجِّ، الَّتي تؤخَذُ أرْكانُها وسُننُها وآدابُها من هَديِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم - الَّذي فصَّلَ ما أجمَلَه القرآنُ. باب: قَدْرُ حَصَى الجِمَار عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَمَى الجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ؛ الحديث رواه مسلم في الحج (2/944) باب: اسْتحباب كون حَصى الجِمار بقَدر حصى الخَذف. في هذا الحَديثِ يُخبِرُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ -رضي الله عنهما- أنَّه رَأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الحجِّ يَرْمى جَمْرةَ العَقَبةِ صَبيحةَ يَومِ النَّحرِ العاشِرِ من ذي الحِجَّةِ، ورَماها بمِثلِ حَصى الخَذْفِ، والخَذْفُ: هو رَميُكَ حَصاةً، أو نَواةً تأخُذُها بينَ سَبَّابتَيكَ، وتَرْمي بها. المراد بالحديث والمرادُ بالحديث: بيانُ مِقْدارِ الحَصى الَّتي يُرْمى بها في الصِّغَرِ والكِبَرِ، فكان حُكمُ الجَمَراتِ الَّتي رَمَى بها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أكبَرَ مِنَ الحِمَّصِ، وأصغَرَ مِنَ البُندقِ. وفي هذا إشارةٌ إلى النَّهيِ عنِ الغُلوِّ في الدِّينِ، كاعْتقادِ أنَّ الرَّميَ بالحِجارةِ الكَبيرةِ أبلَغُ مِنَ الرَّميِ بالصَّغيرةِ، ويكونُ الرَّميُ بسَبعِ حَصَياتٍ في كلِّ مرَّةٍ، ويُفرَّقُ بينَ الحَصَياتِ، فيَرْميهنَّ واحدةً واحدةً. فعن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-: قالَ لي رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غداةَ العقبةِ وَهوَ على راحلتِه: «هاتِ القِطْ لي»، فلقطتُ لَهُ حصياتٍ؛ هنَّ حَصى الخَذفِ، فلمَّا وضعتُهنَّ في يدِه، قال: «بأمْثالِ هؤلاءِ، وإيَّاكم والغُلوَّ في الدِّين، فإنَّما أَهلَكَ مَنْ كان قبلَكمُ الغلوُّ في الدِّينِ». أخرجه النسائي (3057) واللفظ له، وابن ماجة (3029)، وأحمد (3248). فقوله: «وإيَّاكم» أي: أُحذِّركم، «والغُلوَّ في الدِّينِ»، أي: مُجاوزةَ الحدِّ في أمورِ الدِّينِ، والتَّشدُّدَ فيه بالإفراطِ، ولكن عليكم بالوسَطيَّةِ في كلِّ شيءٍ؛ «فإنَّما أهلَك مَنْ كان قبْلَكم» مِن الأُممِ السَّابقةِ، «الغُلوُّ في الدِّينِ»، أي: مُجاوزةُ الحدِّ، والتَّشدُّدُ في الدِّينِ بالإفراطِ؛ فهو سببُ الهلاكِ والبَوارِ. فوائد الحديث 1- بَيانُ تَيسيرِ الإسْلامِ في رَميِ الجَمراتِ، وأنَّها تكونُ صَغيرةً؛ حتَّى لا يَتضرَّرَ النَّاسُ في المناسكِ بها. 2- وفيه: التَّحذيرُ من الغُلوِّ، وبيانُ أنَّه منْ أسبابِ هلاكِ الأممِ السَّابقةِ. 3- الحجُّ أحَدُ أرْكانِ الإسْلامِ الخَمسةِ، وقد بيَّنَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كيفيَّةَ أداءِ الحجِّ بقَولِه وفِعلِه، وأمَرَ بأخْذِ المَناسِكِ عنه؛ فعَلى المُسلِمِ أنْ يَقْتديَ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم} معنى الاسمين ودلالتهما في حق الله تعالى قال الإمام الشنقيطي -رحمه الله تعال في تفسير قوله تعالى-: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم}: «الحكم في الاصطلاح: هو من يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها، فالله -جل وعلا- حكم لا يضع أمرا إلا في موضعه، ولا يوقعه إلا في موقعه، ولا يأمر إلا بما فيه الخير، ولا ينهى إلا عما فيه الشر، ولا يعذب إلا من يستحق العذاب وهو -جل وعلا- ذو الحكمة البالغة له الحجة والحكمة البالغة، وأصل الحكم في لغة العرب: معناه: المنع؛ نقول: حكمه، وأحكمه إذا منعه، هذا هو أصل الحكم، والعليم: صيغة مبالغة؛ لأن علم الله -جل وعلا- محيط بكل شيء، يعلم خطرات القلوب، وخائنات العيون، وما تخفي الصدور، حتى إن من إحاطة علمه -سبحانه- علمه بالعدم الذي سبق في علمه ألا يوجد، فهو عالم أن لو وجد كيف يكون، وأن اسم (الحكيم العليم) فيه أكبر مدعاة للعباد أن يطيعوه، ويتبعوا تشریعه؛ لأن حكمته -سبحانه- تقتضي ألا يأمرهم إلا بما فيه الخير، ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر، ولا يضع أمرا إلا في موضعه، وبإحاطة علمه يعلمون أن ليس هنالك غلط في ذلك الفعل، أو أن ينكشف عن غير المراد، بل هو في غاية الإحاطة والإحكام، وإذا كان من يأمرك بحكم لا يخفى عليه شيء حكيم في غاية الإحكام لا يأمرك إلا بما فيه الخير، ولا ينهاك إلا عما فيه الشر، فإنه يحق عليك أن تطيع وتمتثل»، فاسم الحكيم يقتضي الإيمان بأن الله -عزوجل- حكيم في أحكامه وقضائه وقدره؛ فكما أنه حكيم في شرعه ودينه، فهو حكيم في قضائه وقدره. لذلك فإن مَن عرف اللهَ بعلمه وحكمته، أثمر ذلك في قلبه الرِّضا بحكم الله وقدَرِه في شرعه وكونه، فلا يعترض على أمره ونهيه ولا على قضائه وقدَرِه، وإنما يَرضى المؤمن العارِف بأسماء الله وصِفاته بحكم الله وقضائه؛ لأنَّه يعلم أنَّ تدبير الله له خيرٌ من تدبيره لنفسه، وأنَّه -تعالى- أعلم بمصلحته من نفسه، ولذا تراه يَرضى ويسلّم، بل إنَّه يرى أنَّ هذه الأحكام القدَريَّة الكونية أو الشرعية إنما هي رحمة وحكمة، وحينئذ لا تراه يعترض على شيء منها، بل لسان حاله: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: رَمي جَمْرة العَقَبة مِنْ بَطْنِ الْوَادِي والتكبيِرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ
عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ الحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ يَقُولُ- وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ-: أَلِّفُوا القُرْآنَ كَمَا أَلَّفَهُ جِبْرِيلُ، السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا البَقَرَةُ، والسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ، وَالسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ. قَالَ: فَلَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِ، فَسَبَّهُ وقَالَ: حَدَّثَنِي عبدالرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ عبداللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَأَتَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ، فَاسْتَبْطَنَ الوَادِي، فَاسْتَعْرَضَهَا فَرَمَاهَا مِنْ بَطْنِ الوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، قَالَ: فَقُلْتُ يَا أَبَا عبدالرَّحْمَنِ: إِنَّ النَّاسَ يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا؟ فَقَالَ: هَذَا والَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؛ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ؛ وعَنْ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّ عبداللَّهِ لَبَّى حِينَ أَفَاضَ مِنْ جَمْعٍ، فَقِيلَ أَعْرَابِيٌّ هَذَا؟ فَقَالَ عبداللَّهِ: أَنَسِيَ النَّاسُ أَمْ ضَلُّوا؟ سَمِعْتُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، يَقُولُ فِي هَذَا المَكَانِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/942) باب: رَمي جمرة العقبة مِنْ بَطْنِ الوَادِي، وتكونُ مكة عنْ يساره، ويُكبّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاة. شرح الحديث الأول في الحديث الأول يَذكُرُ التابعيُّ الأعمَشُ سُليمانُ بنُ مِهْرانَ، قال سمعت: «الحجّاج بن يوسف يقول، وهو يخطبُ على المنبر» وكان الحجّاج بن يوسف الثقفي واليًا على العراق من قِبل عبدالملك بن مروان، وكان معرُوفًا بالظُّلم وسفك الدّماء، وانْتقاص السّلف، وتعدّي حُرمات الله بأدْنى شبهة، وقد أطْبق أهل العلم بالتاريخ والسّير: على أنّه كان مِنْ أشدّ الناس ظُلمًا، وأسْرعُهم للدّم الحَرَام سَفْكًا، ولمْ يَحفظ حُرْمات أصْحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا وصيّته في أهل العِلم والفَضل والصّلاح منْ أتباع أصحابه. قال ابن كثير: «وقد رُوي عنه ألفاظ بشعة شنيعة، ظاهرها الكفر، فإنْ كان قد تابَ منها، وأقلعَ عنها، وإلا فهو باقٍ في عُهدتها، ولكن قد يُخشى أنّها رويت عنه بنوعٍ من زيادة عليه». موقف العلماء من الحجاج قال: «وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى كفره وإن كان أكثر العلماء لمْ يروا كفره وكان بعضُ الصحابة كأنس وابن عمر يُصلّون خَلفه، ولو كانوا يرونه كافرًا؛ لمْ يُصلّوا خلفه». (البداية والنهاية) (9/153)، وروى الترمذي في سننه (2220): عن هِشَامِ بن حَسَّانَ قَال: «أَحْصَوْا مَا قَتَلَ الحَجَّاجُ صَبْراً؛ فَبَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ، وعِشْرِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ». قوله: «ألّفُوا القُرآن كما ألّفه جبريل» قوله: «ألّفُوا القُرآن كما ألّفه جبريل، السورة التي يذكر فيها البقرة، ...» قال القاضي عياض: إنْ كان الحجّاج أراد بقوله: «كما ألّفه جِبريل» تأليف الآي في كلّ سُورة، ونظمها على ما هي عليه الآن في المُصْحف، فهو إجْماعُ المسلمين، وأجْمعوا أنّ ذلك تأليف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنْ كان يُريد تأليف السورة بعضها في إثر بعض؛ فهو قولُ بعض الفُقهاء والقرّاء، وخالفهم المُحقّقون وقالوا: بل هو اجتهادٌ مِنَ الأئمّة، وليس بتوقيف، قال القاضي: وتقديمه هنا النّساء على آل عمران؛ دليلٌ على أنّه لمْ يُرد إلا نَظم الآي؛ لأنّ الحجّاج إنّما كان يتّبع مُصحف عثمان - رضي الله عنه . كما في رِوايةِ النَّسائيِ: سَمِعتُ الحَجَّاجَ يقولُ: «لا تَقولوا: سُورةُ البقرةِ، قُولوا: السُّورةُ التي يُذكَرُ فيها البقرةُ»، فذَكَر الأعمَشُ ما سَمِعَه مِن الحَجَّاجِ لإبراهيمَ النَّخَعيِّ استِيضاحًا للصَّوابِ، ولم يَقصِدِ الأعمشُ الرِّوايةَ عن الحَجَّاجِ؛ فلم يكُنْ بأهلٍ لذلك، وإنَّما أراد أنْ يَحْكِيَ القصَّةَ، ويُوضِّحَ خطَأَ الحَجَّاجِ فيها بما ثَبَتَ عن الصّحابة، فحدَّثَه إبراهيمُ أنَّ عبدالرَّحمنِ بنَ يَزيدَ أخبَرَه أنَّه حجَّ مع عبداللهِ بنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه -، وكان معه حينَ رَمى جَمْرةَ العَقَبةِ يومَ النَّحرِ، وهو اليومُ العاشرُ مِن ذي الحجَّةِ، وهي الجَمْرةُ الكُبْرى، وتقَعُ في آخِرِ مِنًى تُجاهَ مكَّةَ، وليست مِن مِنًى، بلْ هي حدُّ مِنًى مِن جِهةِ مكَّةَ. فاسْتَبْطَنَ الوادِيَ قال: «فاسْتَبْطَنَ الوادِيَ» أي: وقَفَ في وسْطِه، حتَّى إذا حاذَى الشَّجرَةَ وقابَلَها - وهذه الشَّجرةُ لَيست مَوجودةً الآنَ- جاءَها مِن عَرْضِها، فرَمَى الجمْرةَ بسَبْعِ حَصَياتٍ، يقولُ: «اللهُ أكبَرُ» مع كلِّ حَصاةٍ يَرمِيها، وفي رِوايةِ مُسلمٍ: «فقلتُ: يا أبا عبدالرَّحمنِ، إنَّ الناسَ يَرْمونها مِن فَوقِها» فقال: مِن هاهُنا- وأشار إلى بَطْنِ الوادي- قام الذي أُنزِلَت عليه سُورةُ البقَرةِ - صلى الله عليه وسلم -، وأقسَمَ ابنُ مَسعودٍ على ذلك باللهِ الذي لا إلهَ غيرُه، تَأكيداً لقَولِه ونَقْلِه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وتَخصيصُ ابنِ مَسعودٍ سُورةَ البَقَرةِ بالذِّكرِ في قَسَمِه دُونَ غَيرِها؛ قيل: يُشيرُ إلى إنَّ كَثيرًا مِنْ أفعالِ الحجِّ مَذكورٌ فيها، فكأنَّه قال: هذا مَقامُ الذي أُنزِلَتْ عليه أحكامُ المَناسِكِ، منبِّهًا بذلك على أنَّ أفعالَ الحجِّ تَوقيفيَّةٌ. وقيل: لطُولِها وعِظَمِ قَدْرِها، وكَثرَةِ ما تَحوي مِن الأحْكامِ. ومُرادُ إبراهيمَ النَّخْعيِّ مِن هذا الحَديثِ: قَولُ ابنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه -: «سُورةُ البَقَرةِ» ولم يَقُلِ: «السُّورةُ التي ذُكِرَت فيها البقرةُ» كما قال الحَجَّاجُ الثَّقفيُّ؛ ففي هذا رَدٌّ عليه ورفْضٌ لقَولِه ولقولِ مَن قالوا: لَا يُقالُ سُورةُ البقَرةِ، وإنَّما يُقالُ: السُّورةُ التي تُذكَرُ فيها البَقَرةُ. فوائد الحديث 1- رَميُ الجِمارِ مِن بَطْنِ الوادِي، والتُكبيِرُ مع كُلِّ حَصاةٍ. 2- وفيه: مَشروعيَّةُ الحَلِفِ لتَأكيدِ الكَلامِ. 3- وفيه: إنكارُ أهلِ العِلمِ على وُلاةِ الأمْرِ بالحِكمة والعلم. الحديث الثاني في هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابِعيُّ عبدالرَّحمنِ بنُ يَزيدَ أنَّ عبداللهِ بنَ مَسعودٍ - رضي الله عنه - لَبَّى حينَ أَفاضَ مِن جَمعٍ، وهيَ المُزدَلِفةُ، وهي ثالثُ المشاعِرِ المقدَّسةِ الَّتي يمُرُّ بها الحَجيجُ، وتقَعُ بينَ مَشعَرَيْ مِنًى وعَرَفاتٍ، ويَبيتُ الحجَّاجُ بها بعدَ نَفْرتِهم من عَرفاتٍ في آخِرِ يومِ التَّاسعِ من ذي الحِجَّةِ، ثُمَّ يُصلّون فيها صَلاتَيِ المغرِبِ والعِشاءِ جَمعاً وقَصرًا، ويجمَعونَ فيها الحَصى لرَميِ الجَمَراتِ بمنًى، ويمكُثُ فيها الحجَّاجُ حتَّى صباحِ اليومِ التَّالي يومِ عيدِ الأضْحى؛ ليُفيضوا بعدَ ذلك إلى منًى. فلمَّا سَمِعَه النَّاسُ يُلبِّي في هذا المكانِ وهذا الوقتِ؛ أنْكَروا عليه تَلبيتَه، وظَنُّوا أنَّه أَعْرابيٌّ من سكَّانِ الصَّحاري الَّذين لا يَفقَهونَ ولا يَعلَمونَ أحْكامَ الدِّينِ، وأخرَجَ البَيهَقيُّ في الكُبرى «فقالوا: يا أعْرابيُّ، إنَّ هذا ليس بيومِ تَلبيةٍ، إنَّما هو التَّكبيرُ». فَقال عبداللهِ بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - مُنكِرًا على مَن أنكَرَ عليه التَّلبيةَ، حينَما أفاضَ من مُزدَلِفةَ: «أَنَسِيَ النَّاسُ أم ضلُّوا؟!» والمَعنى: هل نَسيَ هؤلاء سُنةَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في التَّلبيةِ في مثلِ هذا الموضِعِ؟ حتَّى أنْكَروا عليّ ذلك؟ أم هم تارِكونَ للسُّنَّةِ معَ عِلمِهم بها؟! ثُمَّ قال: «سَمِعتُ الَّذي أُنزلِتْ عليه سورةُ البَقرةِ» يقصِدُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ في هذا المكانِ: «لبَّيكَ اللَّهمَّ لبَّيكَ» أي: أُكرِّرُ إجابَتي لكَ في امتِثالِ أمْرِكَ بالحَجِّ، فأُلَبِّي أمرَكَ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ، وإنَّما خَصَّ البَقرةَ؛ لأنَّ مُعظمَ أَحْكامِ المَناسكِ فيها، فكأنَّه قالَ: هذا مَقامُ مَن أُنزِلتْ عليه المَناسِكُ، وأُخِذَ عنهُ الشَّرعُ، وبَيَّنَ الأَحْكامَ؛ فَاعتَمِدُوه. فوائد الحديث
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: رَمْي جَمْرة العَقَبة يومَ النَّحْر على الراحلة
عن جَابِرٍ - رضي الله عنه - قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي؛ لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»، الحديث رواه مسلم في الحج (2/943) باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النّحر راكباً، وبيان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ». في هذا الحَديثِ يُخبِرُ الصَّحابيُّ الجَليلُ جابرُ بنُ عبداللهِ -رضي الله عنهما- أنَّه رَأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في حجَّةِ الوَداعِ- الَّتي كانتْ في السَّنةِ العَاشرةِ منَ الهجرةِ- يَرْمي جَمرةَ العَقَبةِ راكباً راحلَتَه -وهي النّاقةُ الَّتي يَرتحِلُ عليها- وذلك يومَ النَّحرِ، يَعني: في رَميَه لِلجَمرةِ في يومِ العيدِ، في العاشِرِ من ذي الحِجَّةِ، والنّبي - صلى الله عليه وسلم - رَمى راكباً؛ ليُظهِرَ للنَّاسِ فِعلَه، وكان يَقولُ للنَّاسِ: «لِتَأْخُذوا مَناسكَكم» أي: تَعلَّموا مِنِّي، واحْفَظوا الأحْكامَ الَّتي أَتيْتُ بها في حَجَّتي، مِنَ الأَقوالِ والأَفعالِ، فخُذوها عَنِّي واعَمَلوا بِها، وعَلِّمُوها النَّاسَ. مَنْ وَصَل منَى راكبًا وقال النووي: فيه: دلالة لما قاله الشافعي وموافقوه، أنّه يُسْتحبُّ لمَنْ وَصَل منَى راكباً أنْ يَرمِي جَمْرة العَقبة يومَ النّحر رَاكباً، ولو رَمَاها ماشياً جاز، وأمّا مَنْ وصلها ماشياً فيرميها ماشياً، وهذا في يوم النّحر، وأمّا اليومان الأولان منْ أيّام التّشريق، فالسُّنّة أنْ يَرمي فيهما جميعَ الجمرات ماشياً، وفي اليوم الثالث يرمي راكباً، ويَنْفر، هذا كله مذهب مالك والشافعي وغيرهما. وقال أحمد وإسحاق: يُستحبُّ يوم النّحر أنْ يَرمي ماشياً. قال ابنُ المُنذر: وكان ابنُ عُمر وابن الزبير وسالم يَرمُون مشاة، قال: وأجْمعُوا على أنّ الرّمي يُجزيه على أيّ حَالٍ رَمَاه؛ إذا وَقَع في المَرْمى. انتهى. لعلِّي لا أَحُجُّ بعدَ حَجَّتي هذِه وبيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - سببَ ذلك فقال: «فإِنِّي لا أَدْرِي لعلِّي لا أَحُجُّ بعدَ حَجَّتي هذِه»، وهذا إشارةٌ إلى تَوديعِهم، وإعْلامِهم بقُربِ وَفاتِه - صلى الله عليه وسلم -، وحثَّهم على الِاعْتِناءِ بالأَخْذِ عنه، وانتِهازِ الفُرصةِ مِن مُلازَمتِه وتَعلُّمِ أُمورِ الدِّينِ؛ ولِهذا سُمِّيتْ: حَجَّةَ الوَداعِ. لتأخُذُوا منَاسككم وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لتأخُذُوا منَاسككم» فهذه اللام لام الأمر، ومعناه: خُذُوا مَنَاسككم، وهكذا وقع في رواية غير مُسلم، وتقديره هذه الأمُور التي أتيتُ بها في حجّتي مِنَ الأقوال والأفْعال والهيئات، هي أمُور الحَجّ وصفته، وهي مناسككم فخُذُوها عنّي، واقْبلُوها واحْفظُوها، واعْملُوا بها وعلّموها الناس. فوائد الحديث
الحديث الثاني: باب: قَدْرُ حَصَى الجِمَار عن جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَمَى الجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/944) باب: اسْتحباب كون حَصى الجِمار بقَدر حصى الخَذف. في هذا الحَديثِ يُخبِرُ جابرُ بنُ عبداللهِ -رضي الله عنهما- أنَّه رَأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الحجِّ يَرْمى جَمْرةَ العَقَبةِ صَبيحةَ يَومِ النَّحرِ العاشِرِ من ذي الحِجَّةِ، ورَماها بمِثلِ حَصى الخَذْفِ، والخَذْفُ: هو رَميُكَ حَصاةً، أو نَواةً تأخُذُها بينَ سَبَّابتَيكَ، وتَرْمي بها، والمرادُ بالحديث: بيانُ مِقْدارِ الحَصى الَّتي يُرْمى بها في الصِّغَرِ والكِبَرِ، فكان حُكمُ الجَمَراتِ الَّتي رَمَى بها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أكبَرَ مِنَ الحِمَّصِ، وأصغَرَ مِنَ البُندقِ. النَّهي عنِ الغُلوِّ في الدِّينِ وفي هذا إشارةٌ إلى النَّهيِ عنِ الغُلوِّ في الدِّينِ، كاعْتقادِ أنَّ الرَّميَ بالحِجارةِ الكَبيرةِ أبلَغُ مِنَ الرَّميِ بالصَّغيرةِ، ويكونُ الرَّميُ بسَبعِ حَصَياتٍ في كلِّ مرَّةٍ، ويُفرَّقُ بينَ الحَصَياتِ، فيَرْميهنَّ واحدةً واحدةً، فعن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-: قالَ لي رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غداةَ العقبةِ وَهوَ على راحلتِه: «هاتِ القِطْ لي»، فلقطتُ لَهُ حصياتٍ، هنَّ حَصى الخَذفِ، فلمَّا وضعتُهنَّ في يدِه، قال: «بأمْثالِ هؤلاءِ، وإيَّاكم والغُلوَّ في الدِّين، فإنَّما أَهلَكَ مَنْ كان قبلَكمُ الغلوُّ في الدِّينِ». أخرجه النسائي (3057) واللفظ له، وابن ماجة (3029)، وأحمد (3248). فقوله: «وإيَّاكم» أي: أُحذِّركم، «والغُلوَّ في الدِّينِ»، أي: مُجاوزةَ الحدِّ في أمورِ الدِّينِ، والتَّشدُّدَ فيه بالإفراطِ، ولكن عليكم بالوسَطيَّةِ في كلِّ شيءٍ؛ «فإنَّما أهلَك مَنْ كان قبْلَكم» مِن الأُممِ السَّابقةِ، «الغُلوُّ في الدِّينِ»، أي: مُجاوزةُ الحدِّ، والتَّشدُّدُ في الدِّينِ بالإفراطِ؛ فهو سببُ الهلاكِ والبَوارِ. فوائد الحديث الثاني
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: رَمْيُ الجِمَارِ وِتراً عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الِاسْتِجْمَارُ تَوٌّ، ورَمْيُ الجِمَارِ تَوٌّ، والسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ تَوٌّ، وَالطَّوَافُ تَوٌّ، وإِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ بِتَوٍّ»، الحديث رواه مسلم في الحج (2/945) باب: بيان أنّ حَصى الجِمَار سبعٌ. يُخبِرُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الِاستِجمارَ- وهو إزَالةُ أثَر البَولِ والغَائطِ بالأَحْجَارِ- يكونُ تَوًّا، أي: وِتراً، وأقلّه ثلاثٌ، فإنْ لمْ يَتمَّ الإنْقاءُ بثَلاثٍ، وجَبَ عليه أنْ يَزيدَ عَلى الثَّلاثِ حتَّى يَحصُلَ الإنْقاءُ، فإنْ حصَلَ بوِترٍ فَلا زيادةَ، وإنْ حصَلَ بشَفعٍ، فعليهِ زِيادةُ مَسْحهِ للإيتَارِ، وكذلك رَميُ الجِمَارِ في الحجِّ، فإنّها تُرمَى بسَبعِ حَصَياتٍ، وهي وترٌ، والسَّعيُ بينَ الصَّفا والمروةِ سبْعُ مرَّاتٍ، وهي وِترٌ، والطَّوافُ حولَ الكَعبةِ سَبعةُ أَشْواطٍ، وهي وترٌ. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا استَجمَرَ أحدُكم فَلْيستَجْمِرْ بِتَوٍّ» قيلَ: إنَّ المُرادَ بما ذَكَرَ في أوَّلِ الحديثِ هو الفِعلُ، وما ذكره هنا هو عددُ الأَحْجارِ، أو أنَّ التَّكريرَ للحثِّ والاهْتمامِ بهذا الأمرِ خاصَّةً؛ لأنَّه قد يَتهاوَنُ فيه الناس معَ تَكرُّرِه اليَوميِّ، بخلافِ غيرِه، فالجُملةُ الأُولى أُريدَ بها الإخْبارُ، والجُملةُ الثَّانيةُ طَلَبيَّةٌ، أُريدَ بها الحثُّ والاهتمامُ، بأمْرِ الاسْتِجمار والتّطهّر، لتكراره اليومي، وتَهاون بعضُ الناس فيه، وقيلَ: المرادُ بالاسْتِجمارِ هنا: البَخُورُ والتَّبخُّرُ، ويَكونُ بوَضعِ العُودِ عَلى جَمرةِ النَّار، فيُوتِرُ فيه أَيضاً. فوائد الحديث
باب: حَلْق النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجّه عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/947) باب: تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، ورواه البخاري بلفظ: «حَلَقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وطَائِفَةٌ مِن أصْحَابِهِ، وقَصَّرَ بَعْضُهُمْ». في هذا الحَديثِ يَحكي عبداللهِ بنُ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وجَماعةً مِن أصحابِه، حَلَقوا شَعرَ رُؤوسِهم، والبَعضَ الآخَرَ منهم قَصَّروا شَعْرَهم ولم يَحلِقوا، وكان ذلك في حَجَّةِ الوداعِ في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهجرةِ، فدلَّ هذا على مَشروعيَّةِ الأمرَين، إلَّا أنَّ الحلْقَ أفضَلُ مِن التَّقصيرِ بالنِّسبةِ للرِّجالِ، لأنَّه فِعلُ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولأنَّ اللهَ -عزَّوجلَّ- قدَّمَه في كِتابِه فقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (الفتح: 27). كما أنّه أبلَغُ في العِبادةِ، وأبيَنُ للخُضُوعِ والذِّلَّةِ لله -تعالى-، وأدلُّ على صِدْقِ النيَّةِ، والذي يُقَصِّرُ يُبقِي على نفْسِه شَيئًا ممَّا يَتزيَّنُ به، بخلافِ الحالِقِ، فإنَّه يَشعُرُ بأنَّه تَرَكَ ذلك للهِ -تعالَى-، وفيه إشارةٌ إلى التجَرُّدِ للهِ -عزَّ وجلَّ-، والحلْقُ كما ذكرنا: إنّما يكونُ للرِّجالِ فقطْ، أمَّا النِّساءُ فليس لهنّ إلَّا التَّقصيرُ. والحلْقُ والتَّقصيرُ، شَعيرةٌ مِن شَعائرِ الحجِّ، وبه يَتحلَّلُ المُحرِمُ مِنْ إحْرامِه، ويكونُ بعْدَ رمْيِ جَمرةِ العقَبةِ، وبعْدَ ذَبْحِ الهدْيِ إنْ كان معه، وقبْلَ طَوافِ الإفاضةِ، وفي العُمرةِ يكونُ الحلق أو التقصير، بعْدَ السَّعيِ بيْن الصَّفا والمَروةِ. فوائد الحديث ومما يستفاد من الحديث أنّ رَسولُ اللهِ -[- قد بيَّنَ للأمّة مَناسِكَ الحجِّ بأقوالِه وأفعالِه، ونَقَلَها لنا الصَّحابةُ الكرامُ -رَضيَ اللهُ عنهم- أجمعينَ. اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: مَنْ حَلَقَ قَبلَ النّحْر أو نَحَرَ قبلَ الرَّمْي
عن عبداللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَطَفِقَ نَاسٌ يَسْأَلُونَهُ، فَيَقُولُ القَائِلُ مِنْهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أَكُنْ أَشْعُرُ أَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ النَّحْرِ؟ فَنَحَرْتُ قَبْلَ الرَّمْيِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: «فَارْمِ ولَا حَرَجَ» قَال: وطَفِقَ آخَرُ يَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَشْعُرْ، أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الحَلْقِ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟ فَيَقُولُ: «انْحَرْ وَلَا حَرَجَ»، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يُسْأَلُ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَمْرٍ، مِمَّا يَنْسَى المَرْءُ، ويَجْهَلُ، مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأُمُورِ قَبْلَ بَعْضٍ، وأَشْبَاهِهَا، إِلَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: «افْعَلُوا ذَلِكَ ولَا حَرَجَ»، وعَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَوْمَ النَّحْرِ، وهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ فَقَالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ» وأَتَاهُ آخَرُ، فَقَالَ: إِنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ»، وأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: إِنِّي أَفَضْتُ إِلَى الْبَيْتِ، قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ»، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُهُ سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ، إِلَّا قَالَ: «افْعَلُوا وَلَا حَرَجَ». الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/948- 949) باب: مَنْ حلقَ قبل النّحر، أو نَحرَ قبل الرّمي.يقول عبداللَّهِ بْنَ عَمْرِو -رضي الله عنهما-: وَقَف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حجّة الوداع، بمنى يوم النّحر على ناقته -صلى الله عليه وسلم -، عند جَمْرة العَقبة بعد الزّوال لتعليم الناس بقيّة مناسك الحَجّ. جَوَاز القُعُودِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِلحَاجَةِ وقَوله: «وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ فَطَفِقَ نَاسٌ يَسْأَلُونَهُ» هَذَا دَلِيلٌ لِجَوَازِ القُعُودِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِلحَاجَةِ، قَالَ القَاضِي: «ويُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُما: وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ الجَمْرَةِ، ولَمْ يَقُلْ في هَذَا: خَطَبَ، وإِنَّما فِيهِ أَنَّهُ وَقَفَ وسُئِلَ، والثَّانِي: بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ وَقَفَ لِلْخُطْبَةِ فَخَطَبَ، وهِيَ إِحْدَى خُطَبِ الحَجِّ المَشْرُوعَة، يُعَلِّمُهُمْ فيها ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ المَنَاسِكِ.قال النووي: هذَا كَلَامُ القاضِي، وهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ، وخُطَبُ الحَجِّ المَشْرُوعَةُ عِنْدَنَا أَرْبَعٌ: أَوَّلُهَا: بِمَكَّةَ عِندَ الكَعْبَةِ في اليَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الحَجَّةِ، والثَّانِيَةُ: بِنَمِرَةَ يَومَ عَرَفَةَ، والثَّالِثَةُ: بِمِنًى يَومَ النَّحْرِ، والرَّابِعَةُ: بِمِنًى فِي الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وكُلُّهَا خُطْبَةٌ فَرْدَةٌ، وبَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، إِلَّا التِي بِنَمِرَةَ فَإِنَّها خُطْبَتَانِ، وقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وبَعْدَ الزَّوَالِ، وقَدْ ذَكَرْتُ أَدِلَّتَهَا كُلَّها مِنَ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ). قوله: «فَطَفِقَ نَاسٌ يَسْأَلُونَهُ» أي: جَعل الحجّاج يسألونه، أي: يَستفتونه في تقديم بعض الأعْمال يوم النّحر على بعض، أو أخّروا بعض الأعْمال على بعض، فَيَقُولُ القَائِلُ مِنْهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أَكُنْ أَشْعُرُ أَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ النَّحْرِ؟ لمْ أكنْ أشعر، أي: لمْ أفطن، ولمْ أعلم أنّ ذبح الهَدي يكون قبل الحَلْق، فَقالُ له - صلى الله عليه وسلم -: «انْحَرْ وَلَا حَرَجَ» أي: اذْبح ولا حَرج، أي: لا إثمَ عليك، في تأخير الذّبح عن الحَلْق، فإذا ذبَحتَ بعد الحَلق، فعملك صَحيح.قوله: «وطَفِقَ آخَرُ يَقُولُ» أي: فجاء رجلٌ آخر يسألُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، «يقول: إِنِّي لَمْ أَشْعُرْ، أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الحَلْقِ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟» يقول: لمْ أشعر، أي: لم أفطنْ ولمْ أعلم، أنّ الرّمي قبل النّحر. قوله: «فنَحرتُ قبل أنْ أرمي» أي: ذبحتُ الهدي قبل أنْ أرمي جمرة العقبة، فَقالُ له - صلى الله عليه وسلم -: «إرم ولا حرج» أي: إرم جَمرة العقبة، ولا إثمَ عليك في تقديم. الذّبح على الرّمي. «افْعَلُوا ذَلِكَ ولَا حَرَجَ» قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يُسْأَلُ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَمْرٍ، مِمَّا يَنْسَى المَرْءُ، ويَجْهَلُ، مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأُمُورِ قَبْلَ بَعْضٍ، وأَشْبَاهِهَا، إِلَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: «افْعَلُوا ذَلِكَ ولَا حَرَجَ»، وفي الحديث الثاني: «فما سُئل يومئذ» أي: فما سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في موقفه في ذلك اليوم. «عن شَيءٍ قدّم ولا أخّر» أي: عن عَملٍ مِنْ أعمال الحج في يوم النحر، قُدّم على غيره منْ هذه الأعمال، ولا عن عمل أخّر على غيره من هذه الأعمال الأَرْبَعَة، «إلا قال: افعلْ ولا حرج» أي: إلا أجاز التقديم أو التأخير، وأنّه لا إثم على فاعله.وقَوْلُه في الحديث الثاني: «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَامَ إِلَيهِ رَجُلٌ». وفي رِوَايَةٍ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ فَجَاءَ رَجُلٌ- وَفِي رِوَايَةٍ- وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَطَفِقَ نَاسٌ يَسْأَلُونَهُ وفي رِوَايَةٍ: «وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ الجَمْرَةِ» قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ بَعْضُهُم: الجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ مَوْقِفٌ وَاحِدٌ، ومَعْنَى خَطَبَ: عَلَّمَهُمْ. ما يُفيده الحديثان 1- أن السُّنّة تقديم الرّمي، ثمّ النّحر، ممّن عليه هَدْي، ثمّ الحَلْق، ثُمّ طَواف الإفاضة.2- وأنّه يجوزُ تقديمُ بعض هذه الأعْمال على بعض. 3- وأنّه لا يلزم منْ قدّم بعض هذه الأعْمال على بعض شيء، لا فِدية عليه ولا شيء. 4- وأنّ أفعالَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قد تكون للإيجَاب، وقد تكون للاسْتِحباب. اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم .. باب: تَقليدُ الهدي وإشعاره عند الإحرام
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عَنهُما- قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، وسَلَتَ الدَّمَ، وقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى البَيْدَاءِ، أَهَلَّ بِالْحَجِّ»، الحديث رواه مسلم في الحج (2/912) باب: تقليد الهَدي وإشْعاره عند الإحرام. يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عَنهُما- أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الظُّهرَ وهو خارجٌ إلى الحجِّ بذي الحُلَيْفةِ، وقد صلاها قَصراً، يَعني ركعتَينِ، وذلك لأنَّه كانَ مُسافِراً إلى مكَّةَ، وذو الحُلَيفةِ قَريةٌ بينَها وبينَ المدينةِ سِتَّةُ أمْيالٍ أو سَبعةٌ، أي: حَوالَيْ (10 كم)، وعن مكَّةَ حَوالَيْ 420 كيلومترًا، وتُسمَّى اليومَ عندَ العامَّةِ: أبيارَ عليٍّ أو آبارَ عليٍّ، وهي مِيقاتُ أهلِ المدينةِ ومَن مرَّ بها.ثمَّ دَعا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم- «بناقتِه» الَّتي هي من جُملةِ الهَديِ الَّذي سيُذبَحُ في الحرَمِ، «فأشَعرَها في صَفْحةِ» أي: في جانِبِ «سَنامِها الأَيمنِ» وهو أَعْلى ظَهرِ البَعيرِ، وإشْعارُ البَدنةِ هو أنْ يُشَقَّ أحدُ جانِبَيْ سَنامِها حتَّى يَسيلَ دَمُها، ويُجعَلَ ذلك علامةً لها تُعرَفُ بها أنَّها هَديٌ للبيت الحرام، فلا يُتَعرَّضُ لها، وإذا ضلَّتْ رُدَّتْ، وإنِ اختلَطَتْ بغيرِها تميَّزَتْ. قوله: «ثُمَّ سلَتَ الدَّمَ» قوله: «ثُمَّ سلَتَ الدَّمَ» أي: مسَحَه وأزالَهُ عنها، «وقلَّدَها» التَّقليدُ هو تَعْليقُ القَلائدِ، أوِ النَّعْلِ، ونَحوِ ذلك في عُنُقِ الهَديِ، ليَكونَ علامةً أُخْرى يُعلَمَ بها أنَّها هَديٌ.قال النووي: «وأمّا تقليدُ الغنم، فهو مذهبنا ومذهب العُلماء كافة مِنَ السّلف والخلف إلا مالكا، فإنّه لا يقول بتقليدها. قال القاضي عياض: ولعلّه لمْ يبلغه الحديث الثابت في ذلك. قلت: قد جاءتْ أحاديث كثيرة صحيحة بالتّقليد، فهي حُجّةٌ صَريحة في الرّد على من خالفها. واتفقوا على أنّ الغَنَم لا تشعر لضَعْفها عن الجرح، ولأنّه يَسْتَتر بالصُّوف. وأمّا البقرة فيستحب عند الشافعي وموافقيه الجمع فيها بين الإشعار والتقليد كالإبل. قال: وفي هذا الحديث: استحباب تقليد الإبل بنعلين، وهو مذهبنا ومذهب العلماء كافّة، فإنْ قلّدَها بغير ذلك مِنْ جُلُود أو خُيُوط مَفْتولة ونحوها، فلا بأس». انتهى. قوله: «ثمَّ ركِبَ راحلتَهُ» قوله: «ثمَّ ركِبَ راحلتَهُ» وهي الدَّابَّةُ المُعَدَّةُ للسَّفرِ، وكانتْ حينَئذٍ ناقةً تُسَمَّى القَصْواءَ، «فلمَّا استَوتْ به الرَّاحِلةُ» يَعني: لمَّا ارتَفَعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُستَوياً على ظَهرِ الرَّاحِلةِ في مِنطَقةِ «البَيداءِ» وهوَ مَوضِعٌ مُلاصِقٌ لذي الحُلَيفةِ، وهو الميقاتُ المَكانيُّ لأهلِ المدينةِ، والبَيداءُ في اللُّغةِ: هي الصَّحْراءُ التي لا شَيءَ فيها، والمقصودُ بها هنا: اسمُ المَوضِعٍ بينَ مَكَّةَ والمدينةِ، وهو مَكانٌ فوقَ عَلَمَيْ ذي الحُلَيفةِ إذا صُعِدَ مِنَ الوادي، وفي أوَّلِ البَيداءِ بِئرُ ماءٍ.فلمَّا كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم- في البَيداءِ، «أهلَّ بالحَجِّ» يَعني: أحرَمَ بالحجِّ، ورفَعَ صوتَهُ بتَلبيةِ الحَجِّ، وقد ورَدَ في الصَّحيحَينِ: عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عَنهُما-: «ما أهَلَّ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - إلَّا مِن عِندِ المَسجِدِ، يَعْني مَسجِدَ ذِي الحُلَيْفةِ». سَببَ اخْتلافِ الصَّحابةِ ولعلَّ سَببَ اخْتلافِ الصَّحابةِ -رَضيَ اللهُ عنهم- في المواضِعِ الَّتِي أهَلَّ منها رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ كُلًّا منهم أخبَرَ بما رأَى، فالنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خرَجَ مِنَ المدينَةِ حاجًّا، فلمَّا صلَّى في مَسجدِ ذِي الحُلَيْفةِ أهَلَّ بالحَجِّ، فسَمِعَ ذلك منه أقْوامٌ فحَفِظُوا عنه، ثُمَّ رَكِبَ، فلمَّا استَقلَّت به ناقتُه أهَلَّ، وأدرَكَ ذلك منه أقْوامٌ، لأنَّهم كانوا يَأْتُونَ جَماعاتٍ، فسَمِعُوه فقالوا: إنَّما أهَلَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ استَقلَّتْ به ناقتُه، ثُمَّ مضَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا عَلا على شَرَفِ البَيْداءِ أهَلَّ، وأدْرَكَ ذلك منه أقوامٌ، فقالوا: إنَّما أهَلَّ حِينَ عَلا على شَرَفِ البَيْداءِ، فنقَلَ كلٌّ مِنْهم ما سَمِعَ، وظهَرَ بذلك أنَّ الخلافَ وقَعَ في ابتِداءِ الإهْلالِ والإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ.ويجمعها: ما رَواه أبو داودَ: عنِ ابنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عَنهُما- قال: «وايمُ اللهِ، لقد أوجَبَ في مُصَلَّاه، وأهَلَّ حينَ استقَلَّتْ به ناقتُه، وأهَلَّ حينَ عَلا على شرَفِ البَيْداءِ». فوائد الحديث
الوصية بالتقوى لقد أكثر الله -عزَّ وجلَّ- في آيات الحجِّ -على قلَّتها- من الوصيَّة بالتقوى؛ لأنَّه يحصل في الحجِّ من أسباب التقوى ما لا يحصل في غيره، وذلك مع الوعي الصحيح لحقيقة الحج ومغزاه، وقد تكرَّرت الوصيَّة بتقوى الله في سياق آيات الحجِّ من سورة البقرة، ففي الآية الأولى من هذه الآيات قال الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وفي أثناء هذه الآيات قال -سبحانه-: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}، وختم -جلَّ وعلا- آيات الحجِّ بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.والتقوى هي أعظمُ وصيَّة وخيرُ زاد ليوم المعاد، وهي وصيَّة الله للأوَّلين والآخرين من خلقه، كما قال -سبحانه-: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}، وهي وصيَّة النَّبيِّ الكريم - صلى الله عليه وسلم - لأمَّته، فقد كان -صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميراً على سريَّة أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمَن معه من المسلمين خيراً، وكان كثيرَ الوصيَّة بها في خُطبه، ولَمَّا خطب الناسَ في حجَّة الوداع يوم النحر وصَّى الناسَ بتقوى الله، ولم يزل السَّلف الصالح يتواصون بها؛ وذلك لأنَّها خيرُ زاد يبلغ إلى رضوان الله، ولَمَّا قال رجل لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: اتَّق الله، أجابه عمرُ بقوله: «لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها»، والنقول عن السلف في هذا كثيرة. وللتقوى على أهلها منافعُ عظيمةٌ وثمارٌ كريمةٌ وفوائدُ جَمَّةٌ في الدنيا والآخرة، فمن ثمارها حصولُ العلم النافع، قال الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}، وقال -تعالى-: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}، ومن ثمارها الخروج من المحن وتحصيل الرّزق الطيِّب وتيسُّر الأمور، قال -تعالى-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}، وقال -سبحانه-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}، ومن ثمارها {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، و{أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} ومن ثمارها نيلُ الفلاح والفوزُ بالمغفرة، قال -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وقال -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ومن ثمارها حصولُ الرِّفعة في الدنيا والآخرة، قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وحصولُ العاقبة الحميدة، قال الله -تعالى-: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، ومن أجَلِّ ثمارها دخولُ الجنَّة والتشرُّف برؤية الله -تبارك وتعالى-، قال الله -تعالى-: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} وقوله -سبحانه-: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، وثمارُ التقوى لا تُحصَى، وفضائلُها لا تُستقصى، وأكرمُ الناس عند الله أعظمهم تقوىً له -سبحانه-، قال -تعالى-: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: البَعثُ بالهَدْي وتَقْليدها وهُو حلال
عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عبدالرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ عبداللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا، حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الحَاجِّ، حَتَّى يُنْحَرَ الْهَدْيُ، وَقَدْ بَعَثْتُ بِهَدْيِي، فَاكْتُبِي إِلَيَّ بِأَمْرِكِ. قَالَتْ عَمْرَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ، حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ. وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمَاً، فَقَلَّدَهَا.. الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/959) باب: استحباب بعث الهدي إلى الحَرَم لمن لا يُريد الذهاب بنفسه، واسْتحباب تقليده وفتل القلائد، وأنّ باعثه لا يصير مُحْرماً، ولا يَحرم عليه شيء بذلك، ورواه البخاري في الحج (1700) باب: مَنْ قلّد القَلائد بيده.
فَتْوى ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- وفي هذا الحديثِ: أخبَرَتْ عَمْرةُ بِنتُ عبدالرَّحمنِ أنَّ زِيادَ بنَ أبي سُفيانَ كَتَبَ إلى عائِشةَ -رضي الله عنها-: إنَّ عبداللهِ بنَ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- كان يُفتي: بأنَّ مَن أَهْدى هدْيًا- مِن الإبلِ أو البَقرِ، أو الغنَمِ أو المَعْزِ- للبيتِ الحَرامِ، فبَعَثَ به لِيُذبَحَ في الحجِّ، ولكنَّه لم يَتلبَّسْ بالنُّسُكِ، ولم يُسافِرْ للحجِّ، بلْ بقِيَ في مَوطنِه، فإنَّه يَحرُمُ عليه ما يَحرُمُ على الحاجِّ؟ فلا يَقرَبُ الطِّيبَ ولا النِّساءَ، ولا غيرَ ذلك مِن مَحظوراتِ الإحرامِ، ويَظَلُّ على ذلك حتَّى يُنْحَرَ هَدْيُه.فلمَّا سَمِعَتْ أمُّ المؤمنينَ عائِشةُ -رضي الله عنها- فَتْوى ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، ردَّتْ هذه الفتْوى بأنَّها مُخالِفةٌ لِما فَعَلَه رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فقدْ كانتْ تَصنَعُ القلائدَ- وهي الأطواقُ- الَّتي كانت تُوضَعُ في رِقابِ هدْيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - التي كان سيُرسِلُها، وهو غيرُ حاجٍّ وغيرُ مُتلبِّسٍ بالنُّسكِ، ثُمَّ وضَعَها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - بيَدِه الشَّريفةِ على الهدْيِ، وبعَثَ بها مع أبي بَكرٍ - رضي الله عنه - إلى الحجِّ، سَنةَ تِسعٍ مِن الهِجرةِ لَمَّا حَجَّ بالناسِ، ولمْ يَلتزِمِ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - بما يَلتزِمْ به المُحرِمُ، ولم يَحرُمْ عليه شَيءٌ أحلَّه اللهُ لغيرِ المُحرِمِ بحَجٍّ أو عُمرةٍ. «ثمّ بعَثَ بها معَ أبي» وفي رواية البخاري قالت: «ثمّ بعَثَ بها معَ أبي» تُريد بذلك أباها أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -، واستفيد من ذلك: وقت البَعث، وأنّه كان في سنة تسع عام حجّ أبي بكر بالناس، وروى مالك في «الموطأ»: عن ربيعة بن عبدالله بن الهدير: أنّه رأى رجُلاً مُتجرّداً بالعراق، فسأل عنه، فقالوا: إنّه أمر بهديه أنْ يقلّد، قال ربيعة: فلقيت عبدالله بن الزبير فذكرت له ذلك، فقال: «بِدْعةٌ وربّ الكعبة». ورواه ابن أبي شيبة.قال ابن التين: خالفَ ابنُ عباس في هذا جميع الفقهاء، واحتجت عائشة بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما روته في ذلك يَجبُ أنْ ُيصار إليه، ولعلّ ابن عباس رَجَع عنه، فتعقّبه الحافظ بقوله: وفيه قصورٌ شديدٌ، فإنّ ابن عباس لمْ ينفرد بذلك، بل ثبتَ ذلك عن جماعةٍ مِنَ الصحابة. وقال ابن المنذر: قال عمر، وعلي، وقيس بن سعد، وابن عمر، وابن عباس، والنخعي، وعطاء، وابن سيرين وآخرون: مَنْ أرسلَ الهدي وأقام، حَرُم عليه ما يحرم على المُحْرم، وقال ابن مسعود وعائشة وأنس، وابن الزبير وآخرون: لا يصير بذلك مُحْرماً، وإلى ذلك صار فقهاء الأمْصَار. اسْتقرّار الأمر على خلاف ما قال ابن عباس وجاء عن الزهري ما يدلّ على أن الأمر اسْتقرّ على خلاف ما قال ابن عباس، ففي البيهقي: عنه قال: أول مَنْ كشَفَ العَمَى عن الناس، وبيّنَ لهم السُّنّة في ذلك عائشة. فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها، قال: فلما بلغ الناس قول عائشة، أخذوا به، وتركوا فتوى ابن عباس، وبه قال الجمهور: لا يصير بتقليد الهَدي وإهْدائه مُحْرماً، ولا يجبُ عليه شيء.قال الحافظ ابن حجر: وله حالان: إمّا أنْ يَسوقَ الهَدْي، ويَقصد النُّسك، فإنّما يُقلّدها ويُشْعرها عند إحْرامه، وإمّا أنْ يَسوقه ويُقيم، فيُقلّدها مِنْ مكانه. وهو مقتضى حديث الباب. انتهى. وقال ابن التين: يحتمل أنْ يكونَ قولُ عائشة: «ثُمّ قلّدها بيدِه» بَياناً لحِفظها للأمر ومعرفتها به، ويحتمل أنْ تكونَ أرادتْ أنّه - صلى الله عليه وسلم - تَناولَ ذلك بنفسِه، وعَلمَ وقتَ التّقليد، ومع ذلك فلمْ يَمتنع مِنْ شَيءٍ يَمتنع منه المُحْرِم، لئلا يَظنّ أحَدٌ أنه اسْتباح ذلك قبل أنْ يعلم بتقليد الهدي. الحديث الثاني عنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمَاً، فَقَلَّدَهَا. في هذا الحديثِ تُخبِرُ عائشةُ -رضي الله عنها-: «أنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - أهْدَى مرَّةً غَنمًا» أي: في مَرَّة مِن مرَّاتِ إرْسالِه - صلى الله عليه وسلم - للهَديِ إلى الحرم، كانتْ غَنماً، وهو يدلُّ على جواز إهداء الغَنم إلى الحرم، ولا يلزم أنْ تكون مِنَ الإبل.وما أهداه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليس هو هدْيَ الإحْرَام، ولهذا أقام حلالًا بعدَ إرسالِه، ولم يُنقَلْ أنّه أهدَى غنماً في إحْرامِه، ولا مانع مِن إهداء مَنْ أحرمَ بالغنمِ. قولها: «وقلَّدها» أي: جَعَل في عُنُقِها قِلادةً، يُستدلُّ بها على أنَّها مِن ذَبائحِ الهَديِ. من فوائد الحديثين
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |