«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 10 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         مقاصد الحج (ليشهدوا منافع لهم) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          تأملات في مقاصد الحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          موسم التجارة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 26 )           »          ماذا تعمل في عشر ذي الحجة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          التّكبيرُ والتهليلُ والتحميد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          فقه التدرج في الإصلاح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          الغيبة عند طلاب العلم! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          خير أيام الدنيا (العشر من ذي الحجة) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          هكذا حج الصالحون! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-07-2021, 04:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,022
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى: ﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ... ﴾

قال تعالى: ﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20].

﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ "كاد" كغيرها من الأفعال نفيُها نفيٌ، وإثباتها إثبات؛ أي: يقارب البرق من شدة إضاءته ولمعانه ﴿ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾؛ أي: يذهب بأبصارهم ويزيلها بسرعة، كما قال تعالى: ﴿ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 43].

﴿ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ؛ أي: كلما أضاء لهم البرقُ مشَوْا فيه منتهزين فرصة لمعان البرق وإضاءته الخاطفة اليسيرة لا يفوتونها.

﴿ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ؛ أي: وإذا أظلم عليهم البرق بانقطاعه، وحصول الظُّلمة الشديدة بسبب ذلك ﴿ قَامُوا ﴾؛ أي: وقفوا متحيرين لا يستطيعون المشي من شدة الظلمة الحاصلة من انقطاع ضوء البرق - مع الظلمات السابقة.

﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ الواو: عاطفة، و"لو" شرطية غير عاملة، وهي حرف امتناع لامتناع.

أي: ولو شاء الله لأزال سمعهم وأبصارهم بهذه الصواعق والبرق، أو بزيادتها، أو بدون ذلك؛ ولهذا قال بعده:
﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الجملة فيها تعليل وتقرير لما قبلها، وقدم المتعلِّق وهو قوله: ﴿ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ﴾، على المتعلَّق به وهو قوله: ﴿ قَدِيرٌ ﴾؛ لبيان عموم قدرته عز وجل على كل شيء، أيًّا كان، ومهما كان هذا الشيء، فلا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44].

فكما شبَّه الله عز وجل في المَثَل الأول الناري المنافقين أو فريقًا منهم، وهم الذين آمنوا ثم كفروا - بمن استوقد نارًا، شبَّههم في هذه الآيات أو فريقًا منهم، وهم الذين لم يؤمنوا قط، في هذا المَثَلِ الثاني المائي - بأصحابِ صيِّب ومطر نازل من السماء بسرعة وكثرة، فيه ظلمات متراكمة: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر الكثيف، وفيه رعد شديد، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت، وذلك لا ينفعهم إن أراد الله إهلاكَهم؛ ولهذا قال: ﴿ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 19].

وفيه برق يكاد يزيل أبصارهم من شدة لمعانه، كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم وقفوا متحيرين من شدة الظُّلمة المضاعفة التي تعقب ذهاب ضوء البرق، مع الظلمات السابقة، فاجتمع عليهم في هذا الصيِّبِ ظلماتٌ شديدة متراكمة، ورعد قاصف، وصواعق تصُمُّ الآذان، وبرق خاطف يكاد يزيل الأبصار، فصاروا بسبب ذلك كلِّه بأشد الإزعاج والفزع والقلق والخوف من الموت، كما قال تعالى: ﴿ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ [البقرة: 19]، أو من ذهاب سمعهم، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ [البقرة: 20] بهذه الصواعق والبرق، أو بزيادة صوت الرعد والصواعق وزيادة لمعان البرق، أو بدون ذلك؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20].


فكان نصيب هؤلاء القوم من الصيِّبِ الخوفَ والفزع والقلق بسبب ما فيه من ظلمات ورعد وبرق وصواعق، ولم يفطنوا إلى ما وراء ذلك من كون هذا الصيب به الخصب وحياة الأرض والنبات والحيوان.

وهكذا حال المنافقين فيما هم فيه من ظلمات الجهل والشك والكفر والنفاق، وما هم فيه من شدة الخوف والحيرة والقلق والفزع وانزعاج القلوب أمام زواجر القرآن ووعيده ونُذُرِه، والتي تقرع قلوبهم المريضة وتفزعه،ا أشبه بالرعد القاصف والصواعق الشديدة، لا يملكون أمامها إلا أن يضعوا أصابعهم في آذانهم؛ حتى لا يسمعوا ما فيه من الزجر والوعيد، والإنذار والتهديد، فَرَقًا منهم وخوفًا، كما قال تعالى: ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ [المنافقون: 4]، وقال تعالى: ﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾ [التوبة: 57]، وكما قال تعالى عن قوم نوح عليه السلام: ﴿ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ ﴾ [نوح: 7].

كما لا يستطيعون الثبات بما لديهم من وميض إيمان ظاهر لم يداخل قلوبَهم أمام نور القرآن وبراهينه الساطعة التي تكاد تُعمي أبصارهم، فلا يجدي عنهم شيئًا وضعُ أصابعهم في آذانهم، ولا ما معهم من وميض إيمان ظاهر؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20]، كما قال تعالى عن إخوانهم الكفار: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾ [البروج: 17 - 20].

فكما كان نصيب أصحاب الصيِّب منه رعوده وبروقه وما فيه من مخاوف، دون أن يفطنوا لما وراء ذلك من منافعه، كذلك كان نصيب هؤلاء المنافقين من القرآن الكريم الذي به حياة القلوب والوجود كله إنما هو مجرد الشك والتكذيب لما جاء فيه من الحق، والفزع والانزعاج والقلق أمام نُذُره وزواجره ووعيده، وفاتهم ما فيه من الهدى، فخَسِروا الصفقتين؛ فلا أمن ولا هدى.

الفوائد والأحكام:
1- ضرب الأمثال في القرآن لتقريب المعاني بتشبيه بعض الأمور المعقولة المعنوية بأشياء حسية لزيادة الإيضاح والبيان؛ لقوله تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ الآيتين، وقوله: ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ الآيتين، وهذا من بلاغة القرآن الكريم.

2- في ضرب الأمثال في القرآن الكريم دليلٌ على صحة وثبوت الاستدلال بالقياس.

3- تشبيه حال المنافقين في اشترائهم الضلالة بالهدى وما هم فيه من الظلمات والضلال والحيرة، بحال من استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في أشد الظلمات الحسية؛ لقوله تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 17، 18].

4- في تشبيه حال المنافقين وما هم فيه من الضلال بأشد الظُّلمتين، وهي الظُّلمة الحادثة بعد ذهاب النور، دلالةٌ على شدة ما هم فيه الضلال والحيرة والكفر مما ليس عند أهل الكفر الصريح.

5- أن ما مع المنافقين من نور هو نور ظاهر فقط بحسب إيمانهم الظاهر، ولم ينفذ إلى قلوبهم، وهو مستعار كنارِ المستوقد بسبب وجودهم بين ظهرانَي المؤمنين؛ ولهذا سرعان ما يذهب وينطفئ، هذه حالهم في الدنيا وفي عرصات القيامة؛ ولهذا قال هنا: ﴿ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ [البقرة: 17]؛ أي: بمجرد ومضة الإضاءة ذهب الله بنورهم، وإذا ذهب النور فالإضاءة من باب أولى.

6- عقوبة المنافقين بذَهاب الله بنورهم وتخلِّيه عنهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [البقرة: 17].

7- سلب المنافقين كل طرق وسائل الاهتداء، فهم صُمُّ الآذان، بُكْمُ القلوب والألسن، عُمْيُ الأبصار؛ لقوله تعالى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ [البقرة: 18].

8- بقاء هؤلاء المنافقين في حيرتهم وعدم رجوعهم عن غيِّهم، وعن ما هم فيه من ظلمات الجهل والشكِّ والكفر والنفاق؛ لحرمانهم من نور الله، وانسداد أبواب الهداية لديهم؛ بسبب نفاقهم واستحسانهم ما هم عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 18]، وقوله: ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ [البقرة: 17]؛ أي: بلا عودة.

9- أن من لم يجعل الله له نورًا، فما له من نور.

10- في إفراد النور وجمع الظلمات دلالةٌ على أن طريق الحق واحد، وطرق الباطل كثيرة متشعبة.

11- تشبيه حال المنافقين وما هم فيه من شدة الخوف والقلق والحيرة والفزع وانزعاج القلوب بسبب نفاقهم أمام زواجر القرآن ووعيده ونذره، مع عدم انتفاعهم بذلك - بحال أصحاب صيِّب، مطر نازل من السماء فيه ظلمات شديدة، ورعد قاصف وصواعق تكاد تصم الآذان، وبرق يكاد يخطف الأبصار، فكان نَصيبُهم من هذا الصيِّبِ الخوفَ والفزع والقلق؛ بسبب ما فيه من ظلمات ورعد وصواعق وبرق، ولم يفطنوا إلى ما وراء ذلك من كون هذا الصيِّب به الخصب وحياة الأرض والنبات والحيوان؛ لقوله تعالى: ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾ الآيتين [البقرة: 19].

12- ضعف الإنسان أمام ظواهر الكون التي تجري بقدرة الله تعالى من المطر وظلمات السحاب والرعد والبرق والصواعق وغير ذلك، مما يوجب عليه الالتجاء إلى الله تعالى، فلا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه.


13- تهديد الكافرين من المنافقين وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 19].

14- إثبات المشيئة لله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ [البقرة: 20].

15- عموم قدرة الله تعالى على كل شيء وكمالها؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 13-07-2021, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,022
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى:﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ.. ﴾


قوله تعالى:﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة: 27].

هذه الآية تفسير وبيان لصفات الفاسقين في قوله: ﴿ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26]؛ أي: وما يُضِلُّ به إلا الفاسقين الذين من صفتهم كذا وكذا، وهذه صفات أهل الكفر من اليهود والمنافقين والمشركين، وأهل العمى عن الحق، كما قال تعالى في سورة الرعد: ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [الرعد: 25].

قوله: ﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ "الذين" اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب صفة لـ"الفاسقين".

﴿ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ النقض: حَلُّ الشيء ونكثه بعد إبرامه، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ﴾ [النحل: 92]؛ أي: حلت غَزْلَها ونكثته بعد إبرامه.

﴿ عَهْدَ اللَّهِ ما بينهم وبين الله عز وجل مما أوجبه الله عليهم من الإيمان به وبرسله وكتبه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك، ومما أوجبه الله عليهم فيما بينهم وبين الخَلْق.

ومعنى ﴿ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ﴾ أي: ينكثون ولا يُوفُون بما عاهَدوا الله عليه من الإيمان به وبرسله وكتبه، والقيام بما أوجبه عليهم من واجبات فيما بينه وبينهم، وفيما بينهم وبين الخلق.

﴿ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾؛ أي: من بعد أن أخذ الله الميثاق عليهم، كما قال تعالى فيما أخذه من ميثاقٍ على بني إسرائيل: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [البقرة: 83].

وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾ [المائدة: 12، 13].

وقال تعالى مخاطبًا المؤمنين: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [المائدة: 7].

وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "بايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المَنشَطِ والمَكرَهِ، وألا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، وأن نقوم ونقول بالحقِّ حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم..."[1].

ومبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعةٌ لله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ﴾ [الفتح: 10].

﴿ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ:"ما" اسم موصول بمعنى "الذي" يفيد العموم، و"أن" والفعلُ بعدها في تأويل مصدر في محل جر بحرف محذوف؛ أي: ويقطعون الذي أمر الله به بأن يوصل؛ أي: الذي أمر الله بوصلِه.

أي: ويقطعون كلَّ الذي أمر الله به بأن يوصل من أداء حقوق الله عز وجل بفعل أوامره وترك نواهيه، وأداء حقِّ الرسول صلى الله عليه وسلم بمحبته وطاعته واتباعه، وحق ولي الأمر بطاعته في طاعة الله تعالى، وحق الأقارب بصلتهم والإحسان إليهم كالوالدين والأولاد والأزواج، وغيرهم من الأقارب، وحق المحتاجين من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وغيرهم، وحق الجار، وحق عامة المسلمين، وحق مِلْك اليمين والمعاهدين، وحق غير المسلمين، وحق البهائم، وغير ذلك.

﴿ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ:
الإفساد ضد الإصلاح؛ أي: ويُفسِدون في الأرض إفسادًا معنويًّا بالكفر والمعاصي، والسعي بإظهار الباطل، وإبطال الحق، وإطفاء نور الإيمان، والذي يكون سببًا في الفساد الحسيِّ، وهلاك البلاد والعباد، والحرث والنسل، وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].

﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ:الإشارة: للفاسقين الذين وُصفوا بنقض عهد الله وقطع ما أمَرَ بوصله، والإفساد في الأرض، وأكد الخسران وحصره فيهم بكون الجملة اسمية معرَّفة الطرفين وبضمير الفصل "هم".

و﴿ الْخَاسِرُونَ ﴾ جمع "خاسر" و"الخاسر" الذي فاته الربح، وربما فاته الربح ورأس المال، وهذا حال هؤلاء الفاسقين، فإنهم خسروا رحمة الله.

فخسروا دينهم ودنياهم وأُخراهم، خسروا أنفسهم وأهليهم، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الشورى: 45].


[1] أخرجه البخاري في الأحكام (7199)، والنسائي في البيعة (4149)، وابن ماجه في الجهاد (2866).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09-07-2021, 04:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,022
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾


قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 21 - 25].


أثنى الله عز وجل في مطلع هذه السورة على كتابه وعظَّمه، وذكَر أقسام الناس تجاهه، فمنهم من كان لهم هدى وهم المتقون، وذكر صفاتهم وأثنى عليهم وبيَّن فلاحهم، ومنهم من لم يكن لهم هدى، بل كان عليهم عمًى، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ [فصلت: 44]، وهم فريقان: قوم كفروا وكذَّبوا به ظاهرًا وباطنًا، وهم الكفار الخلَّص، وقوم أظهَروا الإيمان وأبطَنوا الكفر، وهم المنافقون.

وبعد أن ذكر صفات الفريقين وتوعَّدهم بالعذاب العظيم والأليم، أَتْبع ذلك بأمر الناس كلِّهم بعبادة الله عز وجل وحده؛ لأنه ربُّهم الذي خلقهم، وجعل لهم الأرض فراشًا والسماء بناءً، وأنزل المطر من السماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم، فهو المستحق للعبادة دون سواه، وفي أمر الناس بعبادة الله بعد ما جاء في مطلع السورة إشارةٌ إلى ثلاثة أمور:
أولًا: أن كتاب الله عز وجل كما أنه هدى للمتقين هداية خاصة، فهو هدى للناس جميعًا هداية عامة.

ثانيًا: الترغيب للمتقين بالازدياد من التقوى والإيمان، وحث غير المؤمنين على الإيمان وإخلاص العبادة لله ونبذ الشرك والنفاق.

ثالثًا: الإشارة إلى أنه لا يهتدي بهذا الكتاب ولا ينتفع به إلا من أراد الله هدايته؛ ولهذا قدم ذكر أقسام الناس تجاه هذا الكتاب، وفي هذا تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21].

قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ "يا" حرف نداء، و"أي" منادى مبنيٌّ على الضم في محل نصب، و"ها" للتنبيه، و﴿ النَّاسُ ﴾ صفة لـ"أي" أو بدل.

وتصدير الكلام بالنداء مع الالتفات من الغَيبة إلى الخطاب يفيد التنبيه والعناية والاهتمام، وتوجيه النداء للناس يدل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم لجميع الناس.

﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الأمر للوجوب، فعبادة الربِّ عز وجل واجبةٌ على جميع الناس، وهي الهدف الذي خُلقوا من أجله، كما قال عز وجل: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

والعبادة في اللغة: التذلل والخضوع، يقال: طريق معبَّد؛ أي: مذلَّل؛ أي: ذلَّلتْه الأقدام بالسير عليه، وعبادةُ الله تتضمن غاية الذل مع غاية المحبة مع غاية التعظيم لله عز وجل، وهي في الشرع: اسم جامعٌ لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة[1].

وتطلَق على فعل التعبد، وعلى العبادة نفسها، كالصلاة والزكاة والصوم والحج وبرِّ الوالدين وصلة الأرحام وغير ذلك.

وتشمل العبادة فعلَ الواجب والمستحب، وترك المحرَّم والمكروه، بل وتشمل المباح مع النية فعلًا أو تركًا من جميع أعمال القلوب والجوارح؛ فكلها مع النية عبادات؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((وفي بُضْعِ أحدكم صدقةٌ))، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوتَه ويكون له فيها أجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ))[2].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[3]: "فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على جميع أفعاله، وكانت المباحات من صالح أعماله؛ لصلاحِ قلبه ونيته".

ولهذا قال بعض أهل العلم: "الموفَّقون عاداتهم عبادات، والمخذولون عباداتهم عادات".

والعبادة تقوم على أصلين: الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهما شرطا صلاحِ العمل.

قوله: ﴿ رَبَّكُمُ ﴾ الربُّ: هو الخالق المالك المتصرف في خلقه، وفي إضافة اسم الرب إلى ضمير المخاطبين - وهم الناس - تذكيرٌ لهم بربوبيته عز وجل لهم، ربوبية عامة ليعبدوه وحده؛ لأن الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، كما أن فيه تكريمًا لهم، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70].

﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة لـ "رب"، وهي صفة كاشفة؛ أي: كاشفة لمعنى من معاني الربوبية؛ لأنه ليس هناك ربٌّ خلق، وربٌّ لم يخلُق، فذكَّرهم أولًا بربوبيته العامة لهم، ثم ذكَّرهم بأنواع نعمه عليهم، وبدأها بذِكر نعمة خلقه لهم؛ لأنها أول نعمه عليهم ومن أعظمِها.

ومعنى ﴿ خَلَقَكُمْ ﴾ أَوجدكم وأنشأكم من العدم، كما قال تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1]؛ أي: قد أتى، وقال تعالى: ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 9].

وأصل الخلق التقدير؛ أي: تقدير الشيء في العلم قبل تكوينه، ومنه "خلق الأديم" أي: تقديره بحسب ما يراد من قِطَعه قبل قطع القطعة، قال زهير[4]:
ولأنت تَفْري ما خلَقتَ وبعـ ♦♦♦ ـضُ القومِ يخلُقُ ثم لا يَفرِي

يريد تقدير الأديم قبل قطعه، والقطع هو الفري.

قال ابن تيمية[5]: "الخلق هو الإبداع بتقدير، فتضمن تقديرها في العلم قبل تكوينها"، ويستعمل الخلق في الإنشاء والإبداع على غير مثال ولا احتذاء.

﴿ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾؛ أي: وخلَقَ الذين من قبلكم من الأمم الماضية، فهو خالق الأولين والآخرين، و"مِن" للتأكيد.

﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ "لعل" للتعليل؛ أي: لأجل أن تتقوا الله وتنجوا من عذابه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ولتكونوا من المتقين.





[1] انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/ 149).

[2] أخرجه مسلم في الزكاة (1006)، وأحمد (5/ 167)- من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

[3] في "السياسة الشرعية" ص (148).

[4] انظر: "ديوانه" ص86.

[5] انظر: "مجموع الفتاوى" (16/60).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 09-07-2021, 04:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,022
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً... ﴾










قوله تعالى: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22].







ذكر عز وجل في الآية السابقة من نِعَمِ ربوبيته عز وجل للناس نعمةَ خلقه لهم، ثم أَتْبع ذلك بذكر جعل الأرض لهم فراشًا، والسماء بناءً، وإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات به رزقًا لهم، مذكرًا لهم بوجوب عبادته، وناهيًا لهم عن اتخاذ الأنداد معه؛ لأنه الرب الخالق الرازق سبحانه، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 64].








قوله: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا ﴾ "الذي" صفة ثانية لـ"رب"، و"جعل" بمعنى خلق أو صير، وهو من الجعل الكوني، فمن نعم ربوبيته عز وجل لكم أيها الناس أنْ خلَقَ لكم الأرض وصيرها لكم فراشًا.







﴿ فِرَاشًا ﴾؛ أي: موطأة ممهدة مذلَّلة قرارًا للجلوس والنوم والاستقرار عليها، والبناء والسكن والسير فيها، وهذا من أعظم نعم الله عز وجل؛ ولهذا امتنَّ الله عز وجل على العباد بذلك، كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴾ [النبأ: 6]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا ﴾ [غافر: 64].







﴿ وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾؛ أي: سقفًا كالقبة على الأرض، وأودع فيها الشمس والقمر والنجوم لينتفعوا بها، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا ﴾ [الأنبياء: 32]، وقال تعالى: ﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴾ [النبأ: 12].







﴿ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ المراد بالسماء العلو؛ أي: وأنزل من السحاب الذي في السماء؛ أي: في العلو بين السماء والأرض، كما قال تعالى: ﴿ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 164].







﴿ مَاءً ﴾ وهو المطر، كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ﴾ [النور: 43]؛ أي: المطر.







وفي كونه ينزل من السماء فائدة ومنفعة؛ ليعم السهل والجبل، وما ارتفع من الأرض أو انخفض، كما أن في كونه ينزل على هيئة قطرات دفعًا للضرر عما ينزل عليه.







﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ ﴾ الباء للسببية؛ أي: فأخرَجَ بسببه، وفي هذا دلالة على أن الأمور مربوطة بأسبابها، وأنها لا تكون مؤثرة إلا بإرادة الله عز وجل.







﴿ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ الثمرات: جمع ثمرة؛ أي: وأخرج بسببه الكثير من الثمرات المتنوعة والمختلفة الأشكال والألوان والطعوم والفوائد والمنافع؛ كالحبوب والزروع والتمور والفواكه.







﴿ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ الرزق: العطاء؛ أي: عطاءً لكم أيها الناس، كما قال تعالى: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات: 22].







﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا؛ أي: فلا تصيروا ﴿ لِلَّهِ أَنْدَادًا ﴾الأنداد: جمع ند، وهو العدل والنظير والشبيه والمثيل؛ أي: فلا تصيروا لله نظراء وأشباهًا وشركاءَ في العبادة، والنهيُ للتحريم، بل يفيد أشد التحريم وأعظَمَه؛ لأن الشرك أعظم الذنوب وأظلَمُ الظلم، قال تعالى فيما حكاه عن لقمان أنه قال لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].







وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله ندًّا وقد خلَقَك))[1].







﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ توبيخ لهم، والجملة حالية؛ أي: والحال أنكم تعلمون أن الله ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم، وجعل الأرض لكم فراشًا، والسماء بناءً، وأنزل المطر من السماء، وأخرج به من الثمرات رزقًا لكم، فربوبيته لكم وإنعامه عليكم بما ذكر وغيره يستوجب أن تعبدوه وحده، كما قال تعالى: ﴿ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الروم: 40].







وذلك لأن المشركين يُقِرُّونَ بربوبية الله عز وجل، وأنه الخالق الرازق، كما قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [الزخرف: 87]، وقال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [العنكبوت: 61]، وقال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [لقمان: 25، الزمر: 38]، وقال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف: 9]، وقال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [العنكبوت: 63]، لكنهم ينكرون توحيد الألوهية والعبادة.







وإذا كانوا يُقرُّون بربوبية الله عز وجل، فمِن لازمِ ذلك أن يُقِروا بألوهيته فيعبدوه وحده لا شريك له، وهو أوضح دليل عقليٍّ على وحدانية الله عز وجل وتفرُّدِه بالألوهية؛ لأن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، كما أن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية.







[1] أخرجه البخاري في التفسير (4477)، ومسلم في الإيمان (86)، وأبو داود في الطلاق (2310)، والنسائي في تحريم الدم (4013)، والترمذي في التفسير (3182).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 09-07-2021, 04:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,022
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى

﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.. ﴾

قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 23، 24].

نفى الله عز وجل في مطلع هذه السورةِ الرَّيبَ عن كتابه العزيز، ثم تحدى في هاتين الآيتين من ارتابوا به، أو زعموا أنه من كلام البشر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم افتراه واختلَقَه من عند نفسه، تحدَّاهم أن يأتوا بسورة من مثله، وأنَّى لهم ذلك؟ وفي ذلك تقريرٌ لنبوَّتِه صلى الله عليه وسلم، بعد تقرير وجوب عبادة الله عز وجل وحده في الآيتين قبلهما.

قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ [البقرة: 23]: الواو استئنافية، والخطابُ لمن جعلوا لله أندادًا وارتابوا في البعث، وأنكَروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وزعموا أنه افترى القرآن واختلَقَه من عند نفسه.

﴿ فِي رَيْبٍ ﴾أي: في شكٍّ، وصاحبُ الريب والشك إما أن يكون صادقًا في البحث عن الحقِّ، فهذا حريٌّ بالتوفيق له، وإما أن يكون معرضًا غير صادق، فهذا في الغالب لا يوفَّق للحق كالمعاند.

﴿ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا؛ أي: من الذي نزلنا؛ أي: من القرآن الكريم الذي نزلناه على عبدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وفي قوله: ﴿ مِمَّا نَزَّلْنَا ﴾تعظيم لهذا المنزَّل - وهو القرآن الكريم - من وجهين: الأول: الإبهام في "ما" في قوله: ﴿ مِمَّا ﴾. الثاني: قوله: ﴿ نَزَّلْنَا ﴾؛ فكونه منزَّلًا من عند الله عز وجل يدل على عظمته.

كما أن فيه إثباتَ العلو لله عز وجل؛ لأن الإنزال يكون من أعلى إلى أسفل، فله عز وجل علوُّ الذات، فهو عالٍ بذاته فوق جميع خلقه، وله علوُّ الصفات، وعلوَّ القَدْرِ، وعلوُّ القهر.

﴿ عَلَى عَبْدِنَا؛ أي: على عبدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: على رسولنا؛ لأن العبودية لله عز وجل أفضلُ ما يوصَف به البشر وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله))[1]؛ وذلك لأن العبودية لله عز وجل هي غاية الحرية، وهي الغاية من خلق الثَّقَلينِ، ومَن لم يعبُدِ اللهَ ربَّه عبَدَ الشيطانَ، كما قال ابن القيم:
هرَبوا مِن الرِّقِّ الذي خُلِقوا له *** وبُلُـوا بِرِقِّ النفـسِ والشـيطانِ

كما قال رِبعيُّ بن عامر رضي الله عنه في معركة القادسية لرستم ملِكِ الفُرس: "جئنا لِنُخرِجَ الناس من عبادة العباد، إلى عبادة ربِّ العباد".

وقد وصف اللهُ عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أعلى وأعظم المقامات؛ مَقام قُربِه صلى الله عليه وسلم من ربه ليلة الإسراء، كما قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ [الإسراء: 1]، ووصفه في مقام العبادة، فقال تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن: 19].

كما وصفه بها هنا في مقام تكريمه بإنزال القرآن عليه، والتحدي به، والدفاع عنه، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ الآية [البقرة: 23].

كما قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]، وقال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]، وقال تعالى: ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 10].

﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾جواب الشرط "إن"، وربط بالفاء؛ لأنه جملة طلبيَّة. والسورة في اللغة مأخوذة من معنى الرِّفعة والشرف، قال النابغة الذبياني من قصيدة يمدح بها النعمان بن المنذر[2]:
ألم تَرَ أن اللهَ أعطاكَ سُورةً *** تَرى كلَّ مَلْكٍ دونَها يَتذبذَبُ


أي: أعطاك منزلة رفيعة قصَرتْ عنها منازلُ الملوك، وهي مأخوذة أيضًا من معنى الإبانة والتمام والإحاطة؛ لأنها بائنة عن السورة الأخرى، منفصلة عنها، تامة بموضوعاتها، محيطة بآياتها، إحاطة السُّور بالبلد.

والسورة من القرآن في الاصطلاح: القطعة من كلام الله تعالى في كتابه، ذات بداية ونهاية معروفة، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر.

والأمر في قوله: ﴿ فَأْتُوا ﴾ يُقصَد به التحدي؛ أي: إن كنتم في شكٍّ من هذا القرآن، وفي كونه من عند الله، وتزعمون أنه من قول البشر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم افتراه واختلَقَه من عند نفسه، فإنَّا نتحداكم بأن تأتوا بسورة واحدة ﴿ مِنْ مِثْلِهِ ﴾، "مِن" بيانية، والضمير يعود إلى المنزَّل، وهو القرآن؛ أي مِن مِثلِ القرآن، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 37، 38].

وهذا يتناول أقصر سورة في القرآن بعدد ثلاث آيات كسُورة الكوثر، كما تحداهم أن يأتوا بعَشْرِ سُوَرٍ مثله، فقال تعالى في سورة هود: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [هود: 13].

وتحداهم أن يأتوا بمثله، فقال تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [القصص: 49].

ويحتمل أن الضمير في قوله: ﴿ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أي: من مِثلِ الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من القرآن الكريم؛ لأن القرآن الكريم هو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن نبيٍّ من الأنبياء إلا قد أُعطي من الآيات ما مِثلُه آمَنَ عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُه وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة))[3].

فتحداهم الله أن يأتوا بمثلِه، أو بعَشرِ سور من مثله، أو بسورة من مثله، من حيث إعجازه في ألفاظه، وفصاحته وبلاغته، وجزالة معانيه، وصدق أخباره، وعدل أحكامه، وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام.

﴿ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ معطوف على ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ ﴾.

﴿ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾؛ أي: مما سوى الله.
والمعنى: واطلُبوا من استطعتم من المخلوقين من أعوانكم وشركائكم وغيرهم ليُعينوكم ويشاهدوكم ويشهدوا لكم، كما قال تعالى في سورة هود: ﴿ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [هود: 13].

﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؛ أي: إن كنتم صادقين في دعواكم أن القرآن ليس من عند الله، وإنما هو قول البشر، افتراه محمدٌ واختلَقه، كما تزعمون.

والجواب على هذا أنه لا يُمكِنُهم أن يأتوا بسورة من مثله، مع ما هم عليه من المناوأة للرسول صلى الله عليه وسلم وشدة العداوة له، وما هم عليه من الفصاحة والبلاغة؛ ولهذا قال بعد ذلك:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ﴾الفاء: عاطفة؛ أي: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، وهذا على سبيل التنزُّل مع الخصم، وإلا فإنَّ عدم فعلهم معلوم؛ ولهذا قال بعده: ﴿ وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾، فقطَع أطماعهم؛ أي: ولا يمكنكم أن تفعلوا، و"لن" هنا للتأبيد؛ لأن المقام مقامُ تعجيزٍ وتحدٍّ.

قال ابن كثير رحمه الله[4]: "و(لن) لنفي التأبيد؛ أي: ولن تفعلوا ذلك أبدًا، وهذه أيضًا معجزة أخرى، وهو أنه أخبَر أن هذا القرآن لا يعارَض بمثله أبدًا، وكذلك وقع الأمر؛ لم يعارَض من لدنه إلى زماننا هذا، ولا يمكن، وأنَّى يتأتَّى ذلك لأحد، والقرآنُ كلام الله خالقِ كل شيء؟ وكيف يُشبِه كلام الخالق كلام المخلوقين؟!".

والمعنى: فإن لم تستطيعوا أن تأتوا بسورة من مثله؛ لأنه لا يمكنكم ذلك، فهذا دليل واضح على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدق ما جاء به؛ ولهذا قال بعده:
﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ ﴾ وهذا هو جواب الشرط في قوله: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ﴾؛ أي: فإن لم تستطيعوا الإتيان بمثله، فواجبٌ عليكم اتقاءُ النار بتصديقه والإيمان به واتباعِه؛ إذ لا وقاية لكم من النار إلا بذلك، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [التحريم: 6].

﴿ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ صفة "النار"، و﴿ وَقُودُهَا ﴾ بفتح الواو ما توقَد به كالحطب ونحوه؛ أي: إنها توقد بدل الحطب بـ﴿ النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، والمراد بالناس الكفارُ منهم، قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴾ [الجن: 15].

والمراد بالحجارة حجارةُ الكبريت العظيمة السوداء المنتنة، شديدة الاشتعال، شديدة الحرارة، ومنها الحجارة التي يعبدونها من دون الله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 98]، وقال تعالى: ﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات: 22، 23].

وذلك لتحقير هذه المعبودات، وتحقيق شدة حسرةِ مَن عبَدوها من دون الله، حيث كانت سببًا لعذابهم، وكانوا يرجون النجاة بسببها، فكان مصيرها مصيرهم، فلم تدفع عن نفسها، فضلًا أن تدفع عنهم.

﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ؛ أي: أُرصِدت هذه النار والحجارة وهيِّئت وجهِّزت للكافرين، وبُني الفعل "أُعدَّت" لما لم يسم فاعله؛ لأن المعِد والموجِد لها ولكل شيء معلومٌ، وهو الله عز وجل.

وأظهر في مقام الإضمار فلم يقل: "أعدت لكم"؛ للتسجيل عليهم بالكفر، وأنه سبب دخولهم النار، وأنها لهم ولكل من كفر بالله وبما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي دارهم، وبها خلودهم.

ويفهم من الآية أن العصاة إن لم يعفُ الله عنهم ودخلوها، فليست لهم بدارٍ، ولا يخلدون فيها، وفي هذا ردٌّ على الخوارج ونحوِهم.

فالنار معَدة موجودة الآن، كما دلَّ على ذلك القرآنُ في مواضعَ أخرى كثيرة، ودلَّت عليه السُّنةُ المتواترة، كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عُرِضتْ عليَّ الجنةُ والنار آنفًا، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر))[5].


[1] أخرجه البخاري في الأنبياء - قول الله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [مريم: 16] (3445).

[2] انظر "ديوان النابغة الذبياني" ص(56) جمع وتحقيق أحمد عاشور.

[3] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4981)، ومسلم في الإيمان (152) - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] في "تفسيره" (1/ 89).

[5] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (540)، ومسلم في الفضائل (2359).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 09-07-2021, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,022
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى:

﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾

قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 25].

ذكر عز وجل وعيد الكافرين المكذِّبين للقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أَتْبع ذلك بالبشارة للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، ببيان ما لهم من الجنات، وما لهم فيها من ألوان النعيم، والعيش المقيم، على طريقة القرآن الكريم في الجمع بين الترغيب والترهيب؛ ليجمع الإنسان في طريقه إلى الله بين الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء.

قوله: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم ولكلِّ مَن يصلح له الخطاب؛ أي: وبشِّرْ أيها الرسول، ومن قام مقامك.

والتبشير والبشارة: الإخبار بما يسُرُّ، مأخوذ من البَشَرة؛ لأن الإنسان إذا أُخبر بما يسُرُّه استنار وجهه واتسعَت بشَرَتُه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهُه حتى كأنه قطعة قمر[1]، كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل.

والتبشير سمة ظاهرة من سمات الدين الإسلامي الحنيف، فقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن: ((بشِّرا ولا تنفِّرا، ويسِّرا ولا تعسِّرا)).

وينبغي أن يَستلهم هذا المعنى الدعاةُ والمصلحون والمربُّون، وأن يكونوا مبشِّرين لا منفِّرين، فإن رحمة الله سبقَتْ غضَبَه، وقد قال الله عز وجل لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا؛ أي: الذين صدَّقوا بقلوبهم وألسنتهم بكل ما يجب الإيمان به من أركان الإيمان الستة وغيرها.

﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؛ أي: وعملوا الأعمال الصالحات بجوارحهم؛ أي: وصدَّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة؛ لأن الإيمان اعتقادٌ وقول وعمل، وفي هذا ردٌّ على المرجئة الذين يقولون: يكفي مجرد الإيمان بلا عمل.

وفي حذف الموصوف وهي "الأعمال"، والاكتفاء بالصفة وهي "الصالحات": تنبيهٌ إلى أن المهم في الأعمال كونها صالحة.

والعمل إنما يكون صالحًا إذا توفر فيه شرطان: الأول: الإخلاص لله عز وجل؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشِّرك، مَن عمل عملًا أشرَكَ معي فيه غيري ترَكتُه وشِركَه))[2].

والشرط الثاني: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرُنا، فهو ردٌّ))[3].

وفي لفظ: ((من أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ))[4].

ويجمع الشرطين قولُ الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ [النساء: 125].

أي: ومن أحسن دينًا ممن أخلص العمل لله، وهو متَّبِع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ [لقمان: 22].

وسميت الأعمال الصالحة بهذا الاسم؛ لأن بها صلاحَ أمر الإنسان في دينه ودنياه وأخراه، وبها يكون صالحًا لجوار الرحمن في جنات النعيم[5].

﴿ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ﴾؛ أي: بأن لهم جنات، وهذا وما بعده هو المبشَّرُ به.

أي: فإن لهم عند الله جناتٍ، و"جنات" جمع "جنة"، وهي في اللغة البستان كثير الأشجار والثمار، سمي بذلك لأنه يجُنُّ ويستر مَن بداخله بأشجاره الكثيرة الملتفِّ بعضُها على بعض، كما قال تعالى: ﴿ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴾ [النبأ: 16]، والمراد بالجنات المساكن والمنازل التي أعدَّها لأوليائه المتقين وحزبه المفلحين، فيها من ألوان النعيم ما لا يعلمه إلا الله، كما قال تعالى: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطَرَ على قلب بشر))[6].

قال ابن القيم من قصيدة له طويلة في وصف الجنة ومدح نعيمها[7]:
فللهِ ما في حشوِها مِن مسرَّةٍ
وأصنافِ لذَّاتٍ بها يُتنعَّمُ

وللهِ بَرْدُ العيشِ بين خيامِها
وروضاتِها والثغرُ في الروضِ يَبسِمُ

وللهِ واديها الذي هو موعدُ ال
مزيدِ لوفدِ الحُبِّ لو كنتَ منهمُ

بذيَّالك الوادي يهيمُ صَبابةً
محبٌّ يَرى أن الصبابة مغنمُ

وللهِ أفراحُ المحبِّينَ عندما
يُخاطِبُهم مِن فوقِهم ويُسلِّمُ

وللهِ أبصارٌ ترى اللهَ جهرةً
فلا الضيمُ يغشاها ولا هي تَسأمُ

وللهِ كم مِن خيرةٍ إنْ تبسَّمتْ
أضاءَ لها نورٌ مِن الفجرِ أعظمُ

فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها
منازلُك الأولى وفيها المخيَّمُ

منابرُ مِن نورٍ هناك وفضةٌ
ومِن خالصِ العِقيانِ لا يتقصمُ

وكثبانُ مِسكٍ قد جُعِلْنَ مقاعدًا
لِمَن دون أصحابِ المنابرِ تُعلَمُ


﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [البقرة: 25] صفة لـ"جنات"؛ أي: تجري وتسيح من تحت أشجارها وقصورها وغرفها الأنهار، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [العنكبوت: 58]، وقال تعالى: ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [الزمر: 20].

وهذه الأنهار تجري بغير أخدود يصرفونها كيف شاؤوا، قال ابن القيم[8]:
أنهارُها في غير أخدودٍ جرَتْ
سبحانَ مُمسِكِها عن الفيضانِ

مِن تحتِهم تجري كما شاؤوا مفجـ
ـرة وما للنهرِ مِن نُقصانِ


يشربون منها، ويغتسلون فيها، ويتمتعون برؤيتها، وهي كما قال الله تعالى: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾ [محمد: 15].

قوله: ﴿ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ﴾ [البقرة: 25].

بعدما ذكَرَ طِيبَ المسكن، وهي الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، أَتْبع ذلك بذِكر ما لهم فيها من النعيم، وبدأ بذِكر ما لهم فيها من أنواع الثمرات والمأكل، فقال: ﴿ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا ﴾ "كلما" ظرف زمان، وفيه إشارة إلى أن رزقهم في هذه الجنات على الدوام، وهذه مقالتهم على الدوام، والمعنى: كلما أُعطُوا من الجنات ﴿ مِنْ ثَمَرَةٍ ﴾؛ أي: من أيِّ ثمرة ﴿ قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾؛ أي: هذا الذي أُعطينا من قبلُ؛ أي: شبيهه ونظيره لا عينه؛ لأنه يشبه ما سبقه في الشكل والحجم واللون ونحو ذلك؛ ولهذا قال: ﴿ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ﴾، وهذا كالتعليل والسببِ لقولهم: ﴿ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾.

و﴿ مُتَشَابِهًا ﴾ حال؛ أي: أُعطُوه وجيء إليهم به حال كونه متشابهًا؛ أي: يشبه بعضه بعضًا في الحُسن واللذة والفكاهة وكونه خيارًا كله، أو في المظهر والشكل والحجم واللون ونحو ذلك، مع الاختلاف العظيم، والفرق الشاسع، والبون الواسع في المخبر والطعم واللذة والنكهة ونحو ذلك.

قال ابن القيم[9]: "ومعناه يشبه بعضه بعضًا، ليس أوله خيرًا من آخره، ولا هو مما يعرض له ما يعرض لثمار الدنيا عند تقادُمِ الشجر وكِبَرِها من نقصان حملها، وصِغَرِ ثمارها، وغير ذلك، بل أوله مثل آخره، وآخره مثل أوله، وهو خيار كلُّه يشبه بعضه بعضًا".

وقيل: معنى قولهم: ﴿ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾؛ أي: في الدنيا.

والأول أصح وأظهر وأقوى في المعنى؛ لأن التشابه بين ثمار الجنة أعظمُ من التشابه بينها وبين ثمار الدنيا؛ ولهذا قالوا من شدة التشابه هذا القولَ.

وأيضًا ليس كل ما في الجنة - بل ولا أكثر ما فيها من الثمار - مما رُزِقَه أو مثيلَه أهلُ الدنيا.

وأيضًا فإن ما في الجنة من الثمار لا تقاس به ثمار الدنيا؛ فما في الجنة أعظمُ وأعظم، بل نِعَمُ الدنيا كلها لا تساوي شيئًا بالنسبة لنعيم الجنة، فيبعد أن يكون المعنى أن أهل الجنة كلما رُزِقوا من ثمارها قالوا: هذا الذي رُزِقنا في الدنيا، وقد أحسن القائل:

ألم تَرَ أن السيف ينقُصُ قدرُه *** إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا[10]


ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا الأسماء"، وفي رواية: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماءُ"[11].

﴿ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ:
ذكر ما لأهل الجنة من التنعم في المأكل بأنواع الثمار المتشابهة في الظاهر، المختلفة في الباطن، في الطعوم واللذة ونحو ذلك، ثم أتْبعَ ذلك بذكر ما لهم فيها من التنعم بالأزواج والفُرُش.

أي: ولهم في الجنات أزواج مطهَّرة، و"أزواج" جمع زوج، والزوج في اللغة: الشفع، ضد الوتر، ويطلق الزوج في الفصحى على الذكر والأنثى، يقال: زوج هند، ويقال: زوج محمد، وهي لغة قريش، وبها نزل القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [البقرة: 35]، وقال تعالى في حق زكريا: ﴿ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾ [الأنبياء: 90]، وقال تعالى: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ﴾ [النساء: 12].

ويقال للمرأة: "زوجة" في لغة تميم، انتحلها الفرضيون، فيقولون: هلك هالك عن زوجة، إذا كان المتوفى الرجل، ويقولون: هلك هالك عن زوج، إذا كان المتوفى المرأة.

وقد جاءت في السُّنة وفي كلام العرب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ذكر نعيم أهل الجنة: ((ولكل واحد منهم زوجتان))[12].

وقال الفرزدق[13]:
وإن الذي يَسعى يُحرِّشُ زوجتي *** كساعٍ إلى أُسْدِ الـشَّرى يَستبيلُها


وقال الآخر:
فبكى بناتي شَجْوَهنَّ وزوجتي *** والظاعنونَ إليَّ ثم تَصدَّعُوا[14]


﴿ مُطَهَّرَةٌ ﴾ طهارة مطلقة خِلْقية وخُلُقية، من جميع النجاسات الحسية؛ كالغائط والبول، والحيض والنفاس، والمخاط والبصاق، وغير ذلك من الأذى والأقذار، ومن جميع الأنجاس المعنوية؛ كالغِلِّ والحقد، والحسد والغيرة، والكراهية والبغضاء، وغيرها من أمراض القلوب، ومن الإثم والفواحش، وسوء العشرة، والأخلاق السيئة، والصفات الذميمة، ونحو ذلك، وإذا كنَّ مطهَّراتٍ طهارةً مطلقة، فهنَّ كاملات الخَلْق والخُلُق.


﴿ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ لما ذكر ما لهم من النعيم في الجنات مسكنًا ومأكلًا وأزواجًا، طَمْأَنَهم على دوام ذلك، وعدم انقطاعه عنهم؛ لأن من أعظم ما ينِّغص النِّعمَ في الدنيا توقُّعَ انقطاعها، كما قال المتنبي[15]:
أشدُّ الغمِّ عندي في سرورٍ *** تَحقَّقَ عنه صاحبُه انتقالَا


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 09-07-2021, 04:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,022
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

﴿ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾؛ أي: وهم في هذه الجنات مقيمون إقامة أبدية لا تحُول ولا تزول؛ فلا هي تزول، ولا هم يزولون عنها؛ ولهذا أكد خلودهم فيها بكون الجملة اسمية.

ولا خلاف بين أهل العلم في أبدية الجنة، وأنها لا تَفنى ولا يفنى أهلُها ولا نعيمها، وعليه توافرت الأدلة من الكتاب والسنة، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ﴾ [النساء: 57].

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه يؤتى بالموت فيُضجَع فيذبح ذبحًا على السور الذي بين الجنة والنار، ثم يقال: ((يا أهل الجنة، خلود لا موت، ويا أهل النار، خلود ولا موت))[16].

قال ابن القيم[17]: "وجمَعَ سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات، وما فيها من الأنهار والثمار، ونعيم النفس بالأزواج المطهَّرة، ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه".

الفوائد والأحكام:
1) تصدير الخطاب بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ [البقرة: 21].

2) عموم رسالته صلى الله عليه وسلم لجميع الناس؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾.

3) وجوب عبادة الله تعالى وحده، فهي حق الله على العباد؛ لقوله تعالى: ﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾ [البقرة: 21].

4) إثبات ربوبية الله العامَّةِ بجميع الخلق؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾ [البقرة: 21].

5) أن الإقرار بتوحيد الربوبية مستلزمٌ وموجب لتوحيد الألوهية؛ لقوله تعالى: ﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22].

6) إثبات أن الله عز وجل هو الخالق وحده، خلَقَ الأولينَ والآخرين، وخلق كلَّ شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [البقرة: 21]، وهذا من معاني ربوبيته عز وجل.

7) في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [البقرة: 21] قطعٌ لحبل التقليد للآباء واتباعهم فيما كانوا عليه من الشرك والعادات السيئة؛ لأن ربَّ الجميع وخالقهم هو الله وحده لا معبود بحقٍّ سواه.

8) أن الله عز وجل خلَق الخلْق؛ لأجل أن يَتَّقُوهُ بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].

9) أن من أعظم نعم ربوبية الله عز وجل على الناس: أنْ خلَقَهم، وجعل الأرض لهم فراشًا ممهدة لعيشهم عليها، وجعل السماء بناء وسقفًا للمخلوقات، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾، وقوله: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ [البقرة: 22].

10) فضلُ الله عز وجل العظيمُ، وقدرته التامة في خلق الخلق، وفي خلق الأرض وجعلها فِراشًا، وفي خلق السماء وجعلِها بناء، وفي إنزال المطر من السماء وإخراج النبات والثمرات رزقًا للعباد.

11) حكمة الله عز وجل في جعل المطر ينزل من السماء ليعُمَّ جميع الأرض، ما علا منها وارتفع، وما سفل منها وانخفض.

12) إثبات الأسباب، وأنها لا تكون مؤثِّرة إلا بأمر الله وإرادته؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ [البقرة: 22].

13) أن الرزق من الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ [البقرة: 22].

14) في إحياء الأرض بالنبات وإخراجِ الثمرات منها دليلٌ على قدرته عز وجل على البعث.

15) تحريم اتخاذ الأنداد والشركاء مع الله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22].

16) توبيخ المشركين الذين أشركوا مع الله غيرَه، وهم يعلمون أنه ربُّهم الذي خَلَقهم وخلَق الأرض والسماء، وأنزل المطر من السماء، وأخرج به الثمرات رزقًا لهم؛ مما يوجب إفرادَه وحده بالعبادة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾؛ لأن توحيد الربوبية يستلزم توحيدَ الألوهية، كما سبق بيانه.

17) أن التحريم والتوبيخ بالنسبة للعالِم أشدُّ؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، بل إن الجاهل قد يُعذَر في بعض الأحوال.

18) تحدِّي المشركين المكذِّبين للقرآن، الشاكِّين في كونه من عند الله، بالإتيان بسورة واحدة من مثله، ودعاء شهدائهم من دون الله للاستعانة بهم وإشهادهم على ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23].

19) دفاع الله عز وجل عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وإثبات صدقه فيما جاء به.

20) إثبات إعجاز القرآن الكريم، وأنه معجز بأقصرِ سورةٍ منه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ [البقرة: 23]، معجزٌ بألفاظه ومعانيه، وأخباره وأحكامه، وغير ذلك.

21) إثبات علوِّ الله عز وجل على خلقه؛ لقوله تعالى: ﴿ نَزَّلْنَا ﴾، والتنزيل يكون من أعلى إلى أسفل.

22) تعظيم القرآن الكريم، وإثبات أنه كلام الله تعالى منزَّل غير مخلوق؛ لقوله تعالى: ﴿ مِمَّا نَزَّلْنَا ﴾ [البقرة: 23].

23) تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتكريمه بوصفه بالعبودية؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلَى عَبْدِنَا ﴾ [البقرة: 23]؛ لأن العبودية لله تعالى أفضل ما يوصَف به البشر.

24) إثبات عدم قدرة المشركين ولا غيرهم على الإتيان بسورة من مثل القرآن، ونفي إمكانية أن يفعلوا ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ [البقرة: 24].

25) الوعيد والتهديد بالنار لمن كذَّب الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ ﴾ [البقرة: 24].

26) أن وَقود النار - نسأل الله العافية - الناسُ والحجارة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [البقرة: 24]، مما يوجب الحذر منها، والبعد عن أسباب دخولها.

27) في جعل الحجارة والأصنام التي عُبِدتْ من دون الله وقودًا للنار إذلالٌ لها، وإهانةٌ لمن عبَدوها، وزيادة في ندمهم، حيث عبَدوا ما لا ينفع ولا يضر، بل ما لا يستطيع الدفاع عن نفسه، وهذا على أحد القولين في المراد بالحجارة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء: 98، 99].

28) أن النار موجودة الآن؛ لقوله تعالى: ﴿ أُعِدَّتْ ﴾.

29) أن النار أُعِدَّت للكافرين، دارًا ومقرًّا لهم ومأوى ومصيرًا؛ لقوله تعالى: ﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 24].

30) أن غير الكافرين من العصاة ونحوهم ليست النار لهم بدارٍ؛ لأنهم لا يخلدون فيها، بل ربما يعفو الله عنهم ولا يدخلونها إلا تَحِلَّةَ القسَم، وفي هذا ردٌّ على من يقول بتخليد أصحاب الكبائر في النار كالخوارج ونحوهم.

31) جمَعَ القرآن بين الوعد والوعيد؛ ليجمع الإنسان في طريقه إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء؛ لقوله تعالى بعد وعيد الكافرين بالنار: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ الآية [البقرة: 25].

32) البشارة للذين آمنوا وعملوا الصالحات بما أعَدَّ الله لهم من الجنات وألوان النعيم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ الآية [البقرة: 25].

33) عناية الإسلام بالبشارة والتبشير؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: ((بشِّرا ولا تنفِّرا))[18].

34) لا بد من الجمع بين الإيمان والعمل الصالح؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾، وفي هذا الرد على المرجئة الذين يقولون: يكفي مجرد الإيمان.

35) أن المهم في الأعمال أن تكون صالحة؛ لهذا حذف الموصوف في قوله: ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾، واكتفى بالصفة وهي "الصالحات".

36) عِظَمُ ما أعَدَّ الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من الجنات المتعددة، وما فيها من الأنهار والرزق، والثمرات المتشابهة، والأزواج المطهَّرة؛ ومن أعظم ذلك الأمن من انقطاع هذا النعيم؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 25].

37) أن الجنة لا تفنى ولا يفنى نعيمُها ولا أهلها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.


[1] أخرجه البخاري في المناقب (3556)، ومسلم في التوبة (2769).

[2] أخرجه مسلم في الزهد - تحريم الرياء (2985)، وابن ماجه في الزهد (4202)- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[3] أخرجه مسلم في الأقضية - نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718)- من حديث عائشة رضي الله عنها.

[4] أخرجه البخاري في الصلح - إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (2697)، ومسلم في الأقضية، نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718)، وأبو داود في السنة (4606)، وابن ماجه في المقدمة (14)- من حديث عائشة رضي الله عنها.

[5] انظر "تيسير الكريم الرحمن" (1/ 62).

[6] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3244)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها (2824)، والترمذي في التفسير (3197)، وابن ماجه في الزهد (4328)- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[7] "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" ص (29- 32)، "إغاثة اللهفان" (1/ 71)، "طريق الهجرتين" ص (101).

[8] في "نونيته" ص (229).

[9] انظر "بدائع التفسير" (1/ 295).

[10] البيت للكميت. انظر: "مجاني الأدب" 3/65 .

[11] أخرجهما الطبري في "جامع البيان" (1/ 416) تحقيق التركي، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 66).

[12] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3245)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2834) والترمذي في صفة الجنة (2537) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[13] انظر "ديوانه" ص (605)، "لسان العرب" مادة "زوج".

[14] البيت لعبدة الطبيب انظر "ديوانه" ص (50)، "لسان العرب" مادة "زوج".

[15] انظر: "ديوانه" ص140 .

[16] أخرجه الترمذي في صفة الجنة (2557)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".

[17] انظر "بدائع التفسير" (1/ 296).

[18] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3038)، ومسلم في الأشربة (1733)، وأبو داود في الأشربة (3684)، والنسائي في الأشربة (5595)، وابن ماجه في الأشربة (3391)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 09-07-2021, 04:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,022
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... ﴾



قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 26 - 29].

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ الآية:
ضرب الله عز وجل في الآيات السابقة مثَلينِ للمنافقين فيما هم عليه من قبيح الصفات وسوء الأحوال، ثم بيَّن أنه عز وجل لا يمنعه الحياءُ من ضرب الأمثال مهما كان الشيء المضروب به المَثَلُ حقيرًا أو صغيرًا؛ لما في ضرب الأمثال من تقريب المعاني والأمور المعقولة، وبيانِ وإيضاح الحق، والموعظة، كما قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43].

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا ﴾: جملة ﴿ أَنْ يَضْرِبَ ﴾ في محل جر بحرف محذوف، و"ما" صفة لما قبلها.

أي: إن الله لا يمنعه الحياء أن يضرب مثلًا، أيَّ مثل كان، صغيرًا أو حقيرًا، أو غير ذلك؛ لأن الله عز وجل لا يستحيي من الحقِّ[1].

والمثل: الشَّبه؛ يقال: هذا مِثْلُ الشيء ومَثَلُه، كما يقال: شِبْهُه وشَبَهُه، ومنه قول كعب بن زهير:
كانت مواعيدُ عرقوبٍ لها مَثَلًا *** وما مواعيدُها إلا الأباطيلُ[2]


أي: كانت مواعيد عرقوب لها شَبَهًا.
ومعنى ﴿ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا ﴾؛ أي: أن يشبه شيئًا بشيء لبيان الحق وإيضاحه وللتذكير.
فضربُ المثل تشبيهُ أمر معنوي معقول بشيء محسوس؛ لتقريبه وبيانه.

وذلك لما في الأمثال من الحكمة والموعظة، وتحقيق الحق وبيانه، وإبطال الباطل وإزهاقه، وكأن في هذا جوابًا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة، كالذباب والعنكبوت وغير ذلك، واعترض على الله في ذلك.

﴿ بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾"بعوضة" عطف بيان لـ"ما" أو بدل.
و"البعوضة" حشرة صغيرة مهينة، يُضرَب بها المثل في الحقارة والصغر.
والمعنى: لو كان المثل حقيرًا كالبعوضة.

﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾: الفاء عاطفة، و"ما" موصولة بمعنى "الذي"؛ أي: فالذي فوق البعوضة، أي: أكبر منها كالذباب والعنكبوت، وكمستوقد النار، والصيِّب من السماء، وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ [البقرة: 17]، إلى قوله: ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [البقرة: 19] الآيتين.

وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73].

وقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 41].

ويحتمل أن معنى ﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾؛ أي: فما دونها وأقل منها في الحقارة أو الصِّغر كالنملة.

وضربُ الأمثال بتشبيه الأمور المعنوية المعقولة بالأشياء المحسوسة منهجٌ قرآني لتقريب المعاني المعقولة وبيانها، وإقامةِ الحجة على الناس، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [الزمر: 27]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ﴾ [إبراهيم: 24 - 26].


وقال تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 75، 76].

وقال تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 29].

وقال تعالى: ﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الروم: 28].

قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾: الفاء استئنافية، و"أما" في الموضعين حرفُ شرط وتفصيل.

أي: فيعلمون أن المثل الذي ضربه الله هو الحقُّ الثابت من ربِّهم الموافق للواقع، فيتفكرون فيه، ويعرفون موافقة المثل لما ضُرِب له، ويؤمنون بأنه حق، حتى لو خفي عليهم وجهُ الحكمة فيه؛ ليقينهم بأن الله لم يضربه عبثًا، ويزدادون إيمانًا وهداية؛ بسبب إيمانهم وتوفيق ربهم، وربوبيته الخاصة لهم.

﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا:الواو: عاطفة.
و"ماذا": "ما" اسم استفهام مبتدأ، و"ذا" اسم موصول بمعنى "الذي" خبر المبتدأ.

قال ابن مالك:
ومثل "ما" ذا بعد ما استفهامِ = أو مَن إذا لم تُلْغَ في الكلامِ[3]


﴿ بِهَذَا مَثَلًا:أشاروا إليه بإشارة القريب "هذا" للتحقير، و"مثلًا" تمييز.
والمعنى: وأما الذين كفروا فيقولون - إنكارًا واعتراضًا منهم على الله وعنادًا، وحيرة منهم بسبب كفرهم -: ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلًا، فيزدادون كفرًا إلى كفرهم.

﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا: هذا استئناف فيه بيان الحكمة من ضرب المثل بالشيء الحقير.

والباء في قوله: ﴿ بِهِ ﴾ في الموضعين للسببية، والضمير في الموضعين يعود إلى "المثل"؛ أي: يُضِلُّ بسبب هذا المثَلِ كثيرًا من الناس - بعدله - وهم الكفار؛ لتكذيبهم به واعتراضهم عليه، فيزدادون ضلالًا إلى ضلالهم.

ويهدي الله بسبب هذا المثَلِ كثيرًا من الناس - بفضله - وهم المؤمنون؛ بعلمهم أنه الحق من ربهم، وإيمانهم به، فيزدادون به هدى وإيمانًا
.
كما قال تعالى في سورة المدثر: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [المدثر: 31].

فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 124، 125].

﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ:
لما ذكر عز وجل أنه يُضِلُّ بالمثل كثيرًا، أَتْبع ذلك بما يدل على عدله في ذلك، وأنه لا يُضِل به إلا الفاسقين - بعدله - بسبب فسقهم، كما هدى إليه المؤمنين بفضله بسبب إيمانهم.

قوله: ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ ﴾ "ما" نافية، والباء للسببية، والضمير يعود إلى المثَل.
﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ ﴾ "إلا" أداة حصر؛ أي: وما يضل بسبب هذا المثل إلا الفاسقين.

و"الفاسقين" جمع "فاسق"، و"الفاسق" في الأصل الخارج عن الطاعة والصلاح إلى الفساد؛ ولهذا يقال للفأرة: فويسقة؛ لخروجها عن جحرها للفساد، ومنه سميت الفواسق، قال صلى الله عليه وسلم: ((خمسٌ فواسقُ يُقتَلن في الحِلِّ والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور))[4].

والمراد بـ"الفاسقين": الخارجون عن طاعة الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [الكهف: 50].

ويطلَق الفسق على المُخرِج من الدين - كما في هذه الآية - ويطلَق على ما دونه من المعاصي، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((سِبابُ المسلم فسوق، وقتالُه كفر))[5].

والمعنى: وما يُضِل بهذا المثَلِ إلا الخارجين عن طاعة الله تعالى من الكفار؛ بسبب فسقهم، كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5].


[1] كما جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سُلَيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غُسلٍ إذا احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأت الماء)).

أخرجه البخاري في العلم (130)، ومسلم في الحيض (313)، والنسائي (197)، والترمذي في الطهارة (122).

[2] انظر "ديوانه" ص (8)، "جامع البيان" (1/ 428).

[3] انظر: "الألفية" ص15.

[4] أخرجه البخاري في الحج (1828)، ومسلم في الحج (1199)، وأبو داود في المناسك (1846)، والنسائي في مناسك الحج (2828)، وابن ماجه في المناسك (3088) - من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما.

[5] سبق تخريجه.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 13-07-2021, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,022
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم


تفسير قوله تعالى:﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ



قوله تعالى:﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 28].

ذكَر الله عز وجل في الآيات السابقة عدمَ استفادة الكفار من النُّذُرِ وضرب الأمثال في القرآن الكريم، ثم أنكَر عليهم كفرَهم بالله، ووبَّخهم على ذلك في هذه الآية، فقال تعالى: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ﴾ الآية.

قوله تعالى: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتعجب، وفي الكلام التفات من الغَيبة إلى الخطاب.

أي: كيف تكفرون بالله وتنكرون تفرُّدَه بالألوهية، وكماله في صفاته وأفعاله، وقدرته التامة على البعث، وتستكبرون عن عبادته؟!

﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ الواو: حالية؛ أي: والحال أنكم كنتم أمواتًا؛ أي: عدمًا لا وجود لكم، وأجسامًا لا أرواح ولا حياة فيكم ﴿ فَأَحْيَاكُمْ ﴾ أي: فخلقكم ونفخ فيكم الأرواح وأوجد فيكم الحياة بقدرته التامة، كما قال تعالى في خطابه لزكريا عليه السلام: ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 9]، وقال عز وجل: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1]؛ أي: قد أتى على الإنسان.

وقال تعالى: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة: 7 - 9].

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، قال: ((إن أحدكم يجمع في بطن أمِّه أربعين يومًا نُطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملَك فينفخ فيه الروح))[1].


﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثانيةً بعد خروجكم إلى الدنيا بمفارقة الأرواح أجسادَكم عند انقضاء آجالكم.

﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْالحياة الآخرة التي لا موت بعدها.

وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ﴾ [الحج: 66].

وكقوله تعالى عن الكفار أنهم قالوا: ﴿ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ [غافر: 11]، وقوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الجاثية: 26].

﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ:قرأ يعقوب: "تَرجِعون" بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الجيم: ﴿ تُرْجَعُونَ ﴾؛ أي: ثم بعد إحيائكم الحياة الثانية، وبعثِكم من قبوركم إلى الله تردون، فيحاسبكم على أعمالكم ويجازيكم عليها، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 25، 26].

وإنما استدل عليهم بإحيائهم مرة ثانية ورجوعهم إليه، مع أن هذا لم يحصل بعد؛ لما نصب لهم من الآيات والأدلة الكونية والشرعية على أحقية البعث بعد الموت، وردهم إليه للحساب والجزاء، ومن أعظم الأدلة على ذلك ما ذكَرَه في هذه الآية من إحيائهم بعد أن كانوا أمواتًا؛ فإن إعادة الخلق أهون عليه من ابتدائه، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27].



[1] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3208)، ومسلم في القدر (2643)، وأبو داود في السنة (4708)، والترمذي في القدر (2137)، وابن ماجه في المقدمة (76).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 13-07-2021, 04:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,022
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم







تفسير قوله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا... ﴾


















قوله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 29].







أنكَر عز وجل على الكافرين كفرهم بالله مع أنه عز وجل أحياهم وأوجَدَهم من العدم، ثم يُميتهم ثم يُحييهم، ثم يُرَدُّون إليه ليجازيهم على أعمالهم، وفي هذا بيان قدرته التامة على الإحياء والإماتة، وبيان مِنَّتِه عز وجل على الخلق بإيجادهم من العدم، ثم أتْبع ذلك بذكر خلقه لهم ما في الأرض جميعًا، ثم خلق السموات السبع؛ تأكيدًا لبيان كمال قدرته، وتمام منَّته على العباد؛ ليشكروه ولا يكفروه، كما قال تعالى في سورة الروم: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الروم: 40].







قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾: اللام في قوله: ﴿ لَكُمْ ﴾ للتعليل والإباحة، و"ما" اسم موصول بمعنى "الذي" يفيد العموم، و"جميعًا" توكيد.







أي: هو الذي أوجَدَ لأجْلِكم الذي في الأرض كلَّه، وأباحه لكم من الأنهار والأشجار، والزروع والثمار، والحيوان والمعادن وغير ذلك.







فامتنَّ عليهم أولًا بخلقه لهم، ثم امتنَّ عليهم ثانيًا بأنْ خلَق لهم ما في الأرض جميعًا وأحَلَّه لهم؛ ليشكروه ولا يكفروه، ويعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.







وفي الآية دليل على إثبات الحكمة في أفعال الله عز وجل، وعلى أن الأصل في كل ما في الأرض الإباحةُ والطهارة، إلا ما دلَّ الدليل على تحريمه ونجاسته؛ لأن الآية سِيقتْ في معرض الامتنان.







قال السعدي[1]: "وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة؛ لأنها سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك الخبائث؛ فإن تحريمها أيضًا يؤخذ من فحوى الآية، وبيان المقصود منها، وأنه خلقها لنفعنا، فما فيه ضرر فهو خارج من ذلك، ومن تمام نعمتِه منعنا من الخبائث تنزيهًا لنا".







﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ؛ أي: ثم بعد أن خلق لنا ما في الأرض جميعًا ﴿ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ؛ أي: قصد إلى السماء، و"استوى" تأتي في القرآن الكريم على ثلاثة معانٍ: فتارة لا تُعدَّى بالحرف فيكون معناها "كمل" و"تم"؛ كما قال تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ﴾ [القصص: 14]، وتارة تعدَّى بـ"على" فتكون بمعنى "علا" و"ارتفع"؛ كقوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، وتارة تعدَّى بـ"إلى" فتكون بمعنى "قصد" كما في هذه الآية، قال ابن كثير[2]: "أي قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا تضمن معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدِّي بـ(إلى)".







﴿ إِلَى السَّمَاءِ ﴾ السماء مشتقة من السمو وهو العلو، واسم السماء يطلق على الواحد وعلى الجنس، والمراد به الجنس بقرينة قوله: ﴿ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ﴾.







والمعنى: ثم قصد إلى خلق السماء، وكانت دخانًا، كما قال عز وجل: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11].







﴿ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ: الضمير في قوله: ﴿ فَسَوَّاهُنَّ ﴾ عائد إلى السماء باعتبار الجنس.







أي: فخلقهن سبع سموات مستوية مستقيمة الخلقة منتظمة، لا تفاوت فيها ولا خلل، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ﴾ [الملك: 3].







وخلقُ الأرض قبل خلق السماء، ودَحْوُ الأرض بعد خلق السماء، كما قال تعالى في سورة فصلت: ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [فصلت: 9 - 12].







وقال تعالى في سورة النازعات: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [النازعات: 27 - 33].







﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ:قرأ قالون وأبو عمرو وأبو جعفر بسكون الهاء: "وَهْوَ"، وقرأ الباقون بضم الهاء: ﴿ وَهُوَ ﴾.







وقدم المتعلِّق وهو قوله: ﴿ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾، على المتعلَّق به وهو الخبر ﴿ عَلِيمٌ ﴾؛ لتأكيد شمول علمه عز وجل لكل شيء، ومن ذلك إحياءُ الخلق وإماتتهم، ثم إحياؤهم وردُّهم إليه ومحاسبتهم ومجازاتهم.







وخَلْق ما في الأرض لهم جميعًا، وتسوية السماوات السبع وغير ذلك مما يوجب خشيته وتقواه؛ لعلمه بكل شيء.







وكثيرًا ما يقرن عز وجل بين خلقه وإثباته عِلمَه، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]؛ لأن خلقه للمخلوقات أدلُّ دليل على علمه وحكمته وقدرته.







الفوائد والأحكام:



1- إثبات الحياء لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا ﴾ [البقرة: 26]، فنفي الحياء في هذه الحال يدل على إثباته فيما يقابلها، وعلى هذا دلَّت السُّنة؛ فعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربَّكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردَّهما صفرًا))[3].







2- ضرب الأمثال في القرآن الكريم؛ لتقريب المعاني المعقولة بتشبيهها بالأمور المحسوسة، وفي هذا دلالة على إثبات القياس وحجيته.







3- أن الله عز وجل لا يمنعه الحياءُ من ضرب الأمثال ولو بأحقر المخلوقات "البعوضة وما فوقها"؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ [البقرة: 26].







4- علم المؤمنين بفضل ما منحهم الله تعالى من الإيمان، والبصيرة بأن ما يضربه الله عز وجل من الأمثال هو الحق من ربِّهم، وإيمانهم بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 26].







5- إثبات ربوبية الله الخاصة للمؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾، وتشريفهم بإضافة اسم الرب إلى ضميرهم.







6- اعتراض الذين كفروا بسبب كفرهم على ما يضربه الله عز وجل من الأمثال وإنكارهم لذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا ﴾ [البقرة: 26].







7- أن الله عز وجل يُضِلُّ - بعدله - بما يضربه من الأمثال كثيرًا من الناس، وهم الكفار؛ لاعتراضهم عليه وإنكارهم له، فيزدادون ضلالًا إلى ضلالهم، ويهدي به - بفضله - كثيرًا من الناس، وهم المؤمنون لعلمهم أنه الحق من ربِّهم فيزدادون هدى وإيمانًا؛ لقوله تعالى: ﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ﴾ [البقرة: 26].







8- أن الله لا يضل بالمَثَل إلا الفاسقين بسبب فسقهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26]، كما أنه عز وجل يهدي به المؤمنين - بفضله - بسبب إيمانهم.







9- أن أهل الضلال كثير، وأن أهل الإيمان كثير، لكن أهل الضلال أكثر، ولعل هذا هو سبب تقديم قوله: ﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ﴾ على قوله: ﴿ وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ﴾.







10- إثبات القدَر، وأن الهداية والإضلال بيد الله تعالى، والرد على القدرية الذين يزعمون أن العباد يخلُقون أفعالهم، وأنها ليست داخلة تحت مشيئة الله؛ لقوله تعالى: ﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26].







11- أن من صفات الفاسقين الخارجين على طاعة الله تعالى وحدوده: نقض عهد الله من بعد توثيقه، وقطع ما أمر الله بصلته، والإفساد في الأرض؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 27].







12- وجوب الوفاء بعهد الله، وصلة ما أمر الله بصلته، والحذر من نقض عهد الله، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، ومن الإفساد في الأرض؛ لأن هذه الأعمال من الفسق، ومن صفات الفاسقين.







13- أن الفسق ونقض عهد الله وقطع ما أمر به أن يوصل وسائر المعاصي من الفساد المعنوي في الأرض، الذي هو سبب للفساد الحسي، بهلاك الحرث والنسل، وخراب البلاد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ﴾.







14- إثبات خسارة الفاسقين المتصفين بالصفات المذكورة، وتأكيد وحصر الخسران فيهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 27].







15- الإنكار الشديد، والتوبيخ والتعجب ممن يكفرون بالله وقد كانوا أمواتًا فأحياهم الله وأوجَدَهم، ثم يميتهم ثم يحييهم ويبعثهم، ثم إليه يرجعون للحساب والجزاء؛ لقوله تعالى: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 28].







16- نعمة الله عز وجل على الناس بإيجادهم من العدم، مما يوجب عليهم الإيمان به عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ﴾.







17- إطلاق الموت على ما قبل الخلق وقبل نفخ الروح؛ لقوله تعالى: ﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ﴾.







18- أن الموت مكتوب على جميع الخلق؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185، الأنبياء: 35، العنكبوت: 57].







19- إثبات البعث والمعاد والرجوع إلى الله تعالى للحساب والجزاء على الأعمال؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.







20- قدرة الله تعالى التامة على إحياء الخلق وإيجادهم من العدم، ثم إماتتهم، ثم إحيائهم وبعثهم للحساب والجزاء، والاستدلال على الخلق الثاني بالخلق الأول.







21- وجوب الاستعداد للقاء الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح.







22- فضل الله عز وجل ومنَّتُه على العباد بأنْ خلَق لهم ما في الأرض جميعًا وأباحه لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29]، وهذا مما يوجب الإيمان به وذِكرَه وشكره.







23- أن الأصل في كل ما خلقه الله في الأرض الإباحةُ والطهارة؛ لقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾.







24- إثبات الأفعال لله عز وجل، وأنه يفعل ما شاء متى شاء؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ﴾ [البقرة: 29]؛ أي: قصد إليها، وكما قال تعالى: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 16]، وفي الحديث: ((قدر الله وما شاء فعل))[4].







25- كمال خلق السموات وأنهن سبع سموات؛ لقوله تعالى: ﴿ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ﴾ [البقرة: 29]، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [الملك: 3، 4].







26- إثبات وتأكيد عموم عِلمِ الله بكل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29].








27- وجوب مراقبة الله تعالى في جميع الأحوال والأفعال والأقوال؛ لأنه سبحانه وتعالى بكل شيء عليمٌ.











[1] في "تيسير الكريم الرحمن" (1/ 69).




[2] في "تفسيره" (1/ 97).





[3] أخرجه أبو داود في الوتر- باب الدعاء (1488)، والترمذي في الدعوات (3551)، وابن ماجه في الدعاء- رفع اليدين في الدعاء (3865) وقال الترمذي: "حسن غريب" وصححه الألباني.




[4] أخرجه مسلم في القدر (2664)، وابن ماجه في المقدمة (79)- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 278.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 272.78 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (2.11%)]