|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الفرقان الحلقة (1081) صــ 311 لى صــ 320 الضحاك يقول في قوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) وهذه الآية مكية نزلت بمكة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) يعني: الشرك، والقتل، والزنا جميعا. لما أنزل الله هذه الآية قال المشركون من أهل مكة: يزعم محمد أن من أشرك وقتل وزنى فله النار، وليس له عند الله خير، فأنزل الله (إِلا مَنْ تَابَ) من المشركين من أهل مكة، (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) يقول: يبدّل الله مكان الشرك والقتل والزنا: الإيمان بالله، والدخول في الإسلام، وهو التبديل في الدنيا. وأنزل الله في ذلك (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) يعنيهم بذلك (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) يعني ما كان في الشرك، يقول الله لهم: (أَنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) ، يدعوهم إلى الإسلام، فهاتان الآيتان مكيتان والتي في النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) ... الآية، هذه مدنية، نزلت بالمدينة، وبينها وبين التي نزلت في الفرقان ثمان سنين، وهي مبهمة ليس منها مخرج. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تُمَيْلة، قال ثنا أبو حمزة، عن جابر، عن مجاهد، قال: سُئل ابن عباس عن قول الله جلّ ثناؤه: (يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) فقال: بُدِّلْنَ بَعْدَ حَرّهِ خَرِيفا ... وَبَعْدَ طُولِ النَّفَسِ الوَجِيفا (1) حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ... إلى قوله: (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) فقال المشركون: ولا والله ما كان هؤلاء الذين مع محمد إلا معنا، قال: فأنزل الله (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) قال: تاب من الشرك، قال: وآمن بعقاب الله ورسوله (وَعَمِلَ عَمَلا (1) هذا بيت للبيد العامري الشاعر. وروايته هكذا غامضة. ولم أجده في أصل ديوانه، وإنما وجدته في الملحق بالديوان (طبع ليدن ص 56) ، وروايته فيه كرواية السيوطي في الإتقان: وهذه الرواية أجود وأوضح، وهي: بَدّلْنَ بَعْدَ النَّفَش الوَجِيفا ... وَبَعْدَ طُولِ الحِرَّةِ الصَّرِيفا يصف لبيد جماعة من الإبل، بأنها كانت ترعى ليلا زمنًا طويلا، ثم بدلت بذلك الوجيف، وهو ضرب من سير الإبل والخيل سريع، يقال: وجف البعير والفرس وجفًا، ووجيفًا أسرع وبدلت بعد طول الاجتراء في مباركها الصريف. والاجتراء: أن يخرج دو الكرش جزءًا من الطعام ليمضغه جيدًا ثم يعيده والصريف يطلق على معان، منها اللبن ساعة يحلب، والخمر؛ والمراد به هنا صوت ناب الناقة إذا حركته، وإنما يكون ذلك إذا نالها الإعياء والكلال فكأن لبيدًا يقول تبدلت أحوالها بعد النعيم بؤسًا. صَالِحًا) قال: صدّق، (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) قال: يبدّل الله أعمالهم السيئة التي كانت في الشرك بالأعمال الصالحة حين دخلوا في الإيمان. وقال آخرون: بل معنى ذلك، فأولئك يبدل الله سيئاتهم في الدنيا حسنات لهم يوم القيامة. * ذكر من قال ذلك: حدثني أحمد بن عمرو البصري، قال: ثنا قريش بن أنس أبو أنس، قال: ثني صالح بن رستم، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) قال: تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القيامة. حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا محمد بن حازم أبو معاوية، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذرّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأعْرِفُ آَخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، وآخِرَ أَهْلِ النَّارِ دُخُولا الجَنَّةَ، قال: يُؤتَى بِرجُلٍ يَومَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ: نَحُّوا كِبَارَ ذُنُوبِهِ وسَلُوهُ عَنْ صِغَارِهَا، قال: فَيُقُالُ لَهُ: عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا، وَعَمِلْتَ كَذَا وكَذَا، قال: فيَقُولُ: يا رَبّ لَقَدْ عَمِلْتُ أشْيَاءَ ما أرَاها هاهُنَا، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال: فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ" . قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من تأوّله: فأولئك يبدل الله سيئاتهم: أعمالهم في الشرك حسنات في الإسلام، بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلى ما يرضى. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت على ما كانت عليه من القُبح، وغير جائز تحويل عين قد مضت بصفة إلى خلاف ما كانت عليه إلا بتغييرها عما كانت عليه من صفتها في حال أخرى، فيجب إن فعل ذلك كذلك أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا في الكفر بعينه إيمانا يوم القيامة بالإسلام ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة، وذلك ما لا يقوله ذو حجا. وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) يقول تعالى ذكره: وكان الله ذا عفو عن ذنوب من تاب من عباده، وراجع طاعته، وذا رحمة به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها. قوله: (وَمَنْ تَابَ) يقول: ومن تاب من المشركين، فآمن بالله ورسوله (وَعَمِلَ صَالِحًا) يقول: وعمل بما أمره الله فأطاعه، فإن الله فاعل به من إبداله سيئ أعماله في الشرك بحسنها في الإسلام، مثل الذي فعل من ذلك بمن تاب وآمن وعمل صالحا قبل نزول هذه الآية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) قال: هذا للمشركين الذين قالوا لما أنزلت (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ... إلى قوله (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان هؤلاء إلا معنا، قال: ومن تاب وعمل صالحا فإن لهم مثل ما لهؤلاء (فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) لم تُحظر التوبة عليكم. القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) } اختلف أهل التأويل في معنى الزور الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنهم لا يشهدونه، فقال بعضهم: معناه الشرك بالله. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: الشرك. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: هؤلاء المهاجرون، قال: والزور قولهم لآلهتهم، وتعظيمهم إياها. وقال آخرون: بل عني به الغناء. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن عبد الأعلى المحاربيّ قال: ثنا محمد بن مروان، عن ليث، عن مجاهد في قوله: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: لا يسمعون الغناء. وقال آخرون: هو قول الكذب. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال: الكذب. قال أبو جعفر: وأصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل في ذلك، لأنه محسَّن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق، وهو باطل، ويدخل فيه الغناء، لأنه أيضا مما يحسنه ترجيع الصوت، حتى يستحلي سامعه سماعه، والكذب أيضا قد يدخل فيه لتحسين صاحبه إياه، حتى يظنّ صاحبه أنه حق، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور. فإذا كان ذلك كذلك، فأولى الأقوال بالصواب في تأويله أن يقال: والذين لا يشهدون شيئا من الباطل لا شركا، ولا غناء، ولا كذبا ولا غيره، وكلّ ما لزمه اسم الزور، لأن الله عمّ في وصفه إياهم أنهم لا يشهدون الزور، فلا ينبغي أن يخص من ذلك شيء إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر أو عقل. وقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) اختلف أهل التأويل في معنى اللغو الذي ذُكر في هذا الموضع، فقال بعضهم: معناه: ما كان المشركون يقولونه للمؤمنين، ويكلمونهم به من الأذى. ومرورهم به كراما إعراضهم عنهم وصفحهم. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: صفحوا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: إذا أوذوا مرّوا كراما، قال: صفحوا. وقال آخرون: بل معناه: وإذا مرّوا بذكر النكاح، كفوا عنه. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن مجاهد (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: إذا ذكروا النكاح كفوا عنه. حدثني الحارث، قال: ثنا الأشيب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام بن حوشب، عن مجاهد، (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح كفوا عنه. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبي مخزوم، عن سيار (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) إذا مرّوا بالرفث كفُّوا. وقال آخرون: إذا مرّوا بما كان المشركون فيه من الباطل مرّوا منكرين له. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: هؤلاء المهاجرون، واللغو ما كانوا فيه من الباطل، يعني المشركين وقرأ (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ) وقال آخرون: عُني باللغو هاهنا: المعاصي كلها. * ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: اللغو كله: المعاصي. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم إذا مروا باللغو مرّوا كراما، واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح فسبّ الإنسان الإنسان بالباطل الذي لا حقيقة له من اللغو. وذكر النكاح بصريح اسمه مما يُستقبح في بعض الأماكن، فهو من اللغو، وكذلك تعظيم المشركين آلهتهم من الباطل الذي لا حقيقة لما عظموه على نحو ما عظموه، وسماع الغناء مما هو مستقبح في أهل الدين، فكل ذلك يدخل في معنى اللغو، فلا وجه إذ كان كل ذلك يلزمه اسم اللغو، أن يقال: عُني به بعض ذلك دون بعض، إذ لم يكن لخصوص ذلك دلالة من خبر أو عقل. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: وإذا مرّوا بالباطل فسمعوه أو رأوه، مرّوا كراما، مرورهم كراما في بعض ذلك بأن لا يسمعوه، وذلك كالغناء. وفي بعض ذلك بأن يعرضوا عنه ويصفحوا، وذلك إذا أو ذوا بإسماع القبيح من القول، وفي بعضه بأن يَنْهَوْا عن ذلك، وذلك بأن يروا من المنكر ما يغير بالقول فيغيروه بالقول. وفي بعضه بأن يضاربوا عليه بالسيوف، وذلك بأن يروا قوما يقطعون الطريق على قوم، فيستصرخهم المراد ذلك منهم، فيصرخونهم، وكلّ ذلك مرورهم كراما. وقد حدثني ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، قال: مرّ ابن مسعود بلهو مسرعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ أصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَكَرِيما" . وقيل: إن هذه الآية مكية. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت السديّ يقول: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قال: هي مكية، وإنما عني السديّ بقوله هذا إن شاء الله، أن الله نسخ ذلك بأمره المؤمنين بقتال المشركين بقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وأمرهم إذا مرّوا باللَّغو الذي هو شرك، أن يُقاتلوا أمراءه، وإذا مرّوا باللغو، الذي هو معصية لله أن يغيروه، ولم يكونوا أمروا بذلك بمكة، وهذا القول نظير تأويلنا الذي تأولناه في ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) } يقول تعالى ذكره: والذين إذا ذكَّرهم مذكِّر بحجج الله، لم يكونوا صما لا يسمعون، وعميا لا يبصرونها ولكنهم يِقَاظُ القلوب، فهماء العقول، يفهمون عن الله ما يذِّكرهم به، ويفهمون عنه ما ينبههم عليه، فيوعون مواعظه آذانا سمعته، وقلوبا وعته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يفقهون حقا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) قال: لا يفقهون، ولا يسمعون، ولا يبصرون. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علَية، عن ابن عون، قال: قلت للشعبيّ: رأيت قوما قد سجدوا ولم أعلم ما سجدوا منه أسجد (1) قال: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) قال: هذا مثل ضربه الله لهم، لم يدعوها إلى غيرها، وقرأ قول الله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ... الآية. فإن قال قائل: وما معنى قوله (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) أوَ يَخرّ الكافرون صما وعميانا إذا ذكروا بآيات الله، فَيُنْفَى عن هؤلاء ما هو صفة للكفار؟ قيل: نعم، الكافر إذا تُليت عليه آيات الله خرّ عليها أصم وأعمى، وخرّه عليها كذلك: إقامته على الكفر، وذلك نظير قول العرب: سببت فلانا، فقام يبكي، بمعنى فظلّ يبكي، ولا قيام هنالك، ولعله أن يكون بكى قاعدا، وكما يقال: نهيت فلانا عن كذا، فقعد يشتمني: ومعنى ذلك: فجعل يشتمني، وظلّ يشتمني، ولا قعود هنالك، ولكن ذلك قد جرى على ألسن العرب، حتى قد فهموا معناه. وذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول: قعد يشتمني، كقولك: قام يشتمني، وأقبل يشتمني; قال: وأنشد بعض بني عامر: لا يُقْنِعُ الجَارِيَةَ الخِضَابُ ... ولا الوِشاحانِ ولا الجِلْبابُ ... منْ دُونِ أنْ تَلْتَقِي الأرْكابُ ... وَيَقْعُدَ الأيْرُ لَهُ لُعابُ (2) (1) أي فكنت أسجد معهم. ولكنه اختصر الكلام. وكثير من هؤلاء القائلين والمجيبين يختصرون الكلام إلى حد الرمز والإشارة، اكتفاء بدلالة الحال. (2) هذه أربعة أبيات من مشطور الرجز، رواها الفراء في معاني القرآن عن بعض العرب (مصور الجامعة ص 227) قال: وسمعت العرب تقول: قعد يشتمني، كقولك: قام يشتمني، وأقبل يشتمني، وأنشد بعض العرب: * لا يقنع الجارية * الأبيات. وفي البيت الرابع: "ويقعدّ الهنُ" ... إلخ كقولك: يصير. وقوله: الأركاب، هو جمع ركب، كسبب، وهو العانة أو منبتها، أو ظاهر الفرج. قال الخليل: هو للمرأة خاصة وقال الفراء: هو للرجل والمرأة. وأنشد الفراء: "لا يقنع الجارية ..." الأبيات. وفي التهذيب: ولا يقال: ركب للرجل. وقيل: يجوز أن يقال: ركب للرجل. والهن (في رواية الفراء) : الحر. بمعنى: يصير، فكذلك قوله: (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) إنما معناه: لم يصَمُّوا عنها، ولا عموا عنها، ولم يصيروا على باب ربهم صُمًّا وعمْيانًا، كما قال الراجز: وَيَقْعَدَ الهَنُ لَهُ لُعَابُ بمعنى: ويصير. القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) } يقول تعالى ذكره: والذين يرغبون إلى الله في دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا ما تقرّ به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) يعنون: من يعمل لك بالطاعة فتقرّ بهم أعيننا في الدنيا والآخرة. حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا حزم، قال: سمعت كثيرا سأل الحسن، قال: يا أبا سعيد، قول الله: (هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) في الدنيا والآخرة؟ قال: لا بل في الدنيا، قال: وما ذاك؟ قال: المؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله. حدثنا الفضل بن إسحاق، قال: ثنا سالم بن قُتَيبة، قال: ثنا حزم، قال: سمعت الحسن فذكر نحوه. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: قرأ حضرمي (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قال: وإنما قرّة أعينهم أن يروهم يعملون بطاعة الله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن جُرَيج فيما قرأنا عليه في قوله: (هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قال: يعبدونك فيحسنون عبادتك، ولا يجرُّون الجرائر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، قوله: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قال: يعبدونك يحسنون عبادتك، ولا يجرّون علينا الجرائر. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قال: يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام. حدثنا محمد بن عون، قال: ثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، قال: ثني أبي، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نفير، عن أبيه، قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود، فقال: لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أشدّ حالة بُعث عليها نبيّ من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فَرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى ولده ووالده وأخاه كافرا، وقد فتح الله قفل قلبه بالإسلام، فيعلم أنه إن مات دخل النار، فلا تقرّ عينه، وهو يعلم أن حبيبه في النار، وإنها للتي قال الله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) ... الآية. حدثني ابن عوف، قال: ثني علي بن الحسن العسقلاني، عن عبد الله بن المبارك، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَيرٍ، عن أبيه، عن المقداد، نحوه. وقيل: هب لنا قرّة أعين، وقد ذكر الأزواج والذريات وهم جمع، وقوله: (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) واحدة لأن قوله: قرّة أعين مصدر من قول القائل: قرّت عينك قرة، والمصدر لا تكاد العرب تجمعه. وقوله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: اجعلنا أئمة يَقْتَدِي بنا من بعدنا. * ذكر من قال ذلك: حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل، قال: ثني عون بن سلام، قال: أخبرنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) يقول: أثمة يُقْتَدَى بنا. حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) أثمة التقوى ولأهله يقتدى بنا. قال ابن زيد: كما قال لإبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) . وقال آخرون: بل معناه: واجعلنا للمتقين إمامًا: نأتمّ بهم، ويأتمّ بنا من بعدنا. * ذكر من قال ذلك: حدثني ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) أئمة نقتدي بمن قبلنا، ونكون أئمة لمن بعدنا. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) قال: اجعلنا مؤتمين بهم، مقتدين بهم. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: واجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك، ويخافون عقابك إماما يأتمون بنا في الخيرات، لأنهم إنما سألوا ربهم أن يجعلهم للمتقين أئمة ولم يسألوه أن يجعل المتقين لهم إماما، وقال: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) ولم يقل أئمة. وقد قالوا: واجعلنا وهم جماعة، لأن الإمام مصدر من قول القائل: أمّ فلان فلانا إماما، كما يقال: قام فلان قياما وصام يوم كذا صياما. ومن جمع الإمام أئمة، جعل الإمام اسما، كما يقال: أصحاب محمد إمام، وأئمة للناس. فمن وحَّد قال: يأتمّ بهم الناس. وهذا القول الذي قلناه في ذلك قول بعض نحويِّي أهل الكوفة. وقال بعض أهل البصرة من أهل العربية: الإمام في قوله: (لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) جماعة، كما تقول: كلهم عُدُول. قال: ويكون على الحكاية كما يقول القائل: إذا قيل له: من أميركم، هؤلاء أميرنا، واستشهد لذلك بقول الشاعر: يا عاذِلاتي لا تُرِدْنَ مَلامَتِي ... إنَّ العوَاذلَ لَسْنَ لي بأمِيرِ (1) (1) البيت من شواهد بن هشام في المغني في حرف اللام، على أن قوله: "لا تردن ملامتي" أبلغ من: لا تلمني لأنه نهى عن السبب، والنهي عن إرادة الفعل أبلغ من النهي عن الفعل نفسه. وقال الأمير في حاشيته: قوله: "بأمير" : أخبر به عن الجمع، إما لكونه "فعيلا" يستوي فيه الواحد وغيره، قال الله تعالى: {والملائكة بعد ذلك ظهير} . أو أنه صفة لمفرد لفظًا، جمع معنى محذوف، أي بفريق أمير. فلاحظ في الإخبار معناه وفي وصفه لفظه. قلت: ولم ينسب البيت ابن هشام ولا الأمير، ولا ذكره السيوطي في شرح شواهد المغني في حرف اللام. وتوحيد الأمير في البيت نظير توحيد الإمام في قوله تعالى: {واجعلنا للمتقين إمامًا} ، وكلاهما يراد به الجمع في المعنى. قال في اللسان: وقوله تعالى: {واجعلنا للمتقين إمامًا} . قال أبو عبيدة: هو واحد يدل على الجمع. اهـ. ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشعراء الحلقة (1082) صــ 321 لى صــ 330 القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا (75) } يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفت صفتهم من عبادي، وذلك من ابتداء قوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) ... إلى قوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا) ... الآية (يُجْزَوْنَ) يقول: يُثابون على أفعالهم هذه التي فعلوها في الدنيا (الْغُرْفَةَ) وهي منزلة من منازل الجنة رفيعة (بِمَا صَبَرُوا) يقول: بصبرهم على هذه الأفعال، ومقاساة شدتها. وقوله: (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا) اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة (وَيُلَقَّوْنَ) مضمومة الياء، مشدّدة القاف، بمعنى: وتتلقاهم الملائكة فيها بالتحية. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة: "وَيَلْقَوْنَ" بفتح الياء، وتخفيف القاف. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأة الأمصار بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن أعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها "وَيَلْقَوْنَ فِيهَا" بفتح الياء، وتخفيف القاف. لأن العرب إذا قالت ذلك بالتشديد، قالت: فلان يُتَلَّقَّى بالسلام وبالخير ونحن نتلقاهم بالسلام، قرنته بالياء وقلما تقول: فلان يُلقَّى السلام، فكان وجه الكلام لو كان بالتشديد، أن يقال: ويُتَلَقَّوْنَ فيها بالتحية والسلام. وإنما اخترنا القراءة بذلك، كما تجيز أخذت بالخطام، وأخذت الخطام. وقد بيَّنا معنى التحية والسلام فيما مضى قبل، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) } يقول تعالى ذكره: أولئك يجزون الغرفة بما صبروا، خالدين في الغرفة، يعني أنهم ماكثون فيها، لابثون إلى غير أمد، حسنت تلك الغرفة قرارا لهم ومقاما. يقول: وإقامة. وقوله: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي) يقول جلّ ثناؤه لنبيه: قل يا محمد لهؤلاء الذين أرسلت إليهم: أيّ شيء يَعُدّكم، وأيّ شيء يصنع بكم ربي؟ يقال منه: عبأت به أعبأ عبئا، وعبأت الطيب أعبؤه: إذا هيأته، كما قال الشاعر: كأنَّ بِنَحْرِهِ وبمَنْكَبَيْهِ ... عَبِيرًا باتَ يَعْبَؤُهُ عَرُوسُ (1) يقول: يهيئه ويعمله يعبؤُه عبا وعبوءا، ومنه قولهم: عَبَّأت الجيش بالتشديد والتخفيف فأنا أعبئه: أُهَيِّئُهُ والعبءُ: الثقل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي) يصنع لولا دعاؤكم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي) قال: يعبأ: يفعل. وقوله: (لَوْلا دُعَاؤُكُمْ) يقول: لولا عبادة من يعبده منكم، وطاعة من يطيعه منكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ) يقول: لولا إيمانكم، وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حبَّبه إلى المؤمنين. وحدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لَوْلا دُعَاؤُكُمْ) قال: لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه وتطيعوه. (1) البيت لأبي زبيد الطائي يصف أسدًا (اللسان: عبأ) . قال: عبأ الطيب يعبؤه عبئًا: صنعه وخلطه، قال أبو زبيد يصف أسدًا: "كأن بنحره ..." البيت. ويروى: "بات يخبؤه" . وقال الفراء في معاني القرآن: وقوله: {ما يعبأ بكم ربي} : استفهام، أي ما يصنع بكم لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام؟ وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (ص 170) : ومنه قوله؛ ما عبأت بك شيئًا: أي ما عددتك شيئًا. اهـ. وقوله: (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) يقول تعالى ذكره لمشركي قريش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد كذبتم أيها القوم رسولكم الذي أرسل إليكم وخالفتم أمر ربكم الذي أمر بالتمسك به لو تمسكتم به، كان يعبأ بكم ربي، فسوف يكون تكذيبكم رسول ربكم، وخلافكم أمر بارئكم، عذابًا لكم ملازما، قتلا بالسيوف وهلاكا لكم مفنيا يلحق بعضكم بعضا، كما قال أبو ذُؤَيب الهُذَليّ: فَفاجأَهُ بِعادِيَةٍ لِزَامٍ ... كمَا يَتَفَجَّرُ الحَوْضُ اللَّقِيفُ (1) يعني باللزام: الكبير الذي يتبع بعضه بعضا، وباللقيف: المتساقط الحجارة المتهدّم، ففعل الله ذلك بهم، وصدقهم وعده، وقتلهم يوم بدر بأيدي أوليائه، وألحق بعضهم ببعض، فكان ذلك العذاب اللزام. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني مولى لشقيق بن ثور أنه سمع سلمان أبا عبد الله، قال: صليت مع ابن الزُّبير فسمعته يقرأ: فقد كذب الكافرون. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سعيد بن أدهم السدوسيّ، قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة، عن عبد المجيد، قال: سمعت مسلم بن عمار، قال: سمعت ابن عباس يقرأ هذا الحرف: فقد كذب الكافرون (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) . حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) يقول: كذب الكافرون أعداء الله. (1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي (اللسان: لقف) . قال: وحوض لقف ولقيف: تهور من أسفله واتسع، ومنه قول أبي ذؤيب:* فلم تر غير عادية لزامًا * . . . البيت قال: ويقال: الملآن. والأول: هو الصحيح. قال: والعادية: القوم يعدون على أرجلهم أي: فحملتهم لزامًا، كأنهم لزموه، لا يفارقون ما هم فيه. اهـ. وقال في (لزم) : واللزام: الملازم قال أبو ذؤيب: (البيت كروايته في لقف) ثم فسره كما فسره هناك. قال: واللقيف: المتهور من أسفله. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة رقم 26059 ص 170) : لزام: أي كثيرة بعضها في أثر بعض وبهامشه: اللقيف المتهدم، الذي سقطت حجاره بعضها على بعض. اه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود، قال: فسوف يلقون لزاما يوم بدر. حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق. قال: قال عبد الرحمن: خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم. حدثني الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، قوله: (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) قال أُبَيِّ بن كعب: هو القتل يوم بدر. حدثنا بن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عمرو، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: اللزام: يوم بدر. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) قال: هو يوم بدر. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) قال: يوم بدر. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن مَعْمر، عن منصور، عن سفيان، عن ابن مسعود، قال: اللزام، القتل يوم بدر. حُدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) الكفار كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله، فسوف يكون لزاما، وهو يوم بدر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، قال: قد مضى اللزام، كان اللزام يوم بدر، أسروا سبعين، وقتلوا سبعين. وقال آخرون: معنى اللزام: القتال. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) قال: فسوف يكون قتالا اللزام: القتال. وقال آخرون: اللزام: الموت. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) قال: موتا. وقال بعض أهل العلم بكلام العرب: معنى ذلك: فسوف يكون جزاء يلزم كل عامل ما عمل من خير أو شرّ. وقد بيَّنا الصواب من القول في ذلك. وللنصب في اللزامِ وجه آخر غير الذي قلناه، وهو أن يكون في قوله (يَكُون) مجهول، ثم ينصب اللزام على الخبر كما قيل: إذَا كان طَعْنًا بَيْنَهُمْ وَقتالا وقد كان بعض من لا علم له بأقوال أهل العلم يقول في تأويل ذلك: قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ما تَدْعون من دونه من الآلهة والأنداد، وهذا قول لا معنى للتشاغل به لخروجه عن أقوال أهل العلم من أهل التأويل. آخر تفسير سورة الفرقان، والحمد لله وحده. تفسير سورة الشعراء بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) } قال أبو جعفر: وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيما في ابتداء فواتح سور القرآن من حروف الهجاء، وما انتزع به كل قائل منهم لقوله ومذهبه من العلة. وقد بيَّنا الذي هو أولى بالصواب من القول فيه فيما مضى من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته، وقد ذكر عنهم من الاختلاف في قوله: طسم وطس، نظير الذي ذكر عنهم في: (الم) و (المر) و (المص) . وقد حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (طسم) قال: فإنه قسم أقسمه الله، وهو من أسماء الله. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (طسم) قال: اسم من أسماء القرآن. فتأويل الكلام على قول ابن عباس والجميع: إن هذه الآيات التي أنزلتها على محمد صلى الله عليه وسلم في هذه السورة لآيات الكتاب الذي أنزلته إليه من قبلها الذي بين لمن تدبره بفهم، وفكر فيه بعقل، أنه من عند الله جلّ جلاله، لم يتخرّصه محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتقوّله من عنده، بل أوحاه إليه ربه. وقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يقول تعالى ذكره: لعلك يا محمد قاتل نفسك ومهلكها إن لم يؤمن قومك بك، ويصدقوك على ما جئتهم به والبخْع: هو القتل والإهلاك في كلام العرب; ومنه قول ذي الرُّمة: ألا أيُّهَذَا الباخعُ الوَجْدُ نَفْسَهُ ... لشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المَقادِرُ (1) (1) البيت لذي الرمة، وقد تقدم الاستشهاد به في سورة الكهف (15: 194) على أن معنى البخع: القتل، فراجعه ثمة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس: (بَاخِعٌ نَفْسَكَ) : قاتل نفسك. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) قال: لعلك من الحرص على إيمانهم مخرج نفسك من جسدك، قال: ذلك البخع. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) عليهم حرصا. وأن من قوله: (أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) في موضع نصب بباخع، كما يقال: زرت عبد الله أن زارني، وهو جزاء; ولو كان الفعل الذي بعد أن مستقبلا لكان وجه الكلام في "أن" الكسر كما يقال; أزور عبد الله إن يزورني. القول في تأويل قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) } اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ) ... الآية، فقال بعضهم: معناه: فظلّ القوم الذين أنزل عليهم من السماء آية خاضعة أعناقهم لها من الذلَّة. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد في قوله: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) قال: فظلوا خاضعة أعناقهم لها. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (خَاضِعِينَ) قال: لو شاء الله لنزل عليه آية يذلون بها، فلا يلوي أحد عنقه إلى معصية الله. حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج: (أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً) قال: لو شاء الله لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بعده بمعصية. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) قال: ملقين أعناقهم. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) قال: الخاضع: الذليل. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظلت سادتهم وكبراؤهم للآية خاضعين، ويقول: الأعناق: هم الكبراء من الناس. واختلف أهل العربية في وجه تذكير (خاضعين) ، وهو خبر عن الأعناق، فقال بعض نحوييّ البصرة: يزعمون أن قوله (أعْنَاقُهُمْ) على الجماعات، نحو: هذا عنق من الناس كثير، أو ذُكِّر كما يذكَّر بعض المؤنث، كما قال الشاعر: تَمَزَّزْتُها والدّيكُ يَدْعُو صَبَاحَهُ ... إذا ما بنو نَعْشٍ دَنَوْا فَتَصَوَّبُوا (1) فجماعات هذا أعناق، أو يكون ذكره لإضافته إلى المذكر كما يؤنث لإضافته إلى (1) هذا البيت أنشده سيبويه للنابغة الجعدي، (اللسان: نعش) وقبله بيت آخر، يصف بهما الخمر، وهو قوله: وَصَهْبَاءُ لا يَخْفَى الْقَذَى وَهْيَ دُونَهُ ... تُصَفَّقُ في رأوُوقِهَا ثُمَّ تُقْطَبُ قال: وبنات نعش سبعة كواكب، أربعة منها مربعة، وثلاثة بنات نعش، الواحد: ابن نعش لأن الكوكب مذكر فيذكرونه على تذكيره. وإذا قالوا: ثلاث أو أربع ذهبوا إلى البنات، وكذلك بنات نعش الصغرى. واتفق سيبويه والفراء على ترك صرف نعش للمعرفة والتأنيث. وقيل: شبهت بحملة النعش في تربيعها. وجاء في الشعر بنو نعش، أنشد سيبويه للنابغة الجعدي: * وصهباء لا يخفي* "البيتان، الصهباء: الخمر. وقوله:" لا يخفى القذى وهي دونه "أي لا تستره إذا وقع فيها، لكونها صافية، فالقذى يرى فيها إذا وقع. وقوله: وهي دونه: يريد أن القذى إذا حصل في أسفل الإناء، رآه الرائي في الموضع الذي فوقه الخمر، والخمر أقرب إلى الرائي من القذى. يريد أنها يرى ما وراءها. وتصفق تدار من إناء إلى إناء وقوله: تمززتها: أي شربتها قليلا قليلا. وتقطب: تمزج بالماء. قال الأزهري: وللشاعر إذا اضطر أن يقول: بنو نعش، كما قال الشاعر، وأنشد البيت، ووجه الكلام: بنات نعش، كما قالوا: بنات آوى وبنات عرس، والواحد منها ابن عرس، يؤنثون جمع ما خلا الآدميين. ورواية أبي عبيدة في (مجاز القرآن ص 171) : شربت إذا ما الديك ... إلخ البيت." ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشعراء الحلقة (1083) صــ 331 لى صــ 340 المؤنث، كما قال الأعشى: وتشرقُ بالقَوْلِ الَّذِي قَدْ أذَعْتَه ... كمَا شَرَقَتْ صَدْرُ القَناةِ مِنَ الدَّم (1) وقال العجاج: لَمَّا رأى مَتْنَ السَّماء أبْعَدَتْ (2) وقال الفرزدق: إذَا الْقُنْبُضَاتُ السُّودُ طَوَّفْنَ بالضحى ... رَقَدْنَ عَلَيهِنَّ الحِجَالُ المُسَجَّفُ (3) وقال الأعشى: وإن أمرأً أهْدَى إلَيْكَ وَدُونَهُ ... مِنَ الأرْضِ يَهْماءٌ وَبَيْدَاءُ خَيْفَقُ ... لَمَحْقُوقَة أن تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ ... وأنْ تَعْلَمِي أنَّ المُعانَ المُوَفَّقُ (4) (1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (اللسان: شرق) قال: شرق الشيء شرقًا، فهو شرق: اشتدت حمرته بدم، أو بحسن لون أحمر، قال الأعشى: "وتشرق بالقول.." البيت. والبيت هو الرابع والثلاثون من قصيدة في ديوانه (طبع القاهرة ص 121) يهجو بها عمير بن عبد الله بن المنذر بن عبدان، حين جمع بينه وبين جهنام الشاعر ليهاجيه. قال شارح الديوان: "وحتى تشرق بما أذعنت من قول، كما يشرق مقدم الرمح بالدم" . وصدر القناة: أعلاها. والشاهد في البيت أنه أنث الفعل شرق بالتاء، مع أن فاعله وهو "صدر" مذكر. ولكنه لما أضيف إلى القناة وهي مؤنثة، فكأنه جعل الفعل للقناة لا لصدرها. (2) لم أجد البيت في ديوان العجاج ورؤبة. ووجدت أرجوزة من نفس القافية للزفيان ملحقة بديوان العجاج (94، 95) وليس فيها البيت. والمتن: الظهر. والشاهد في هذا الرجز أنه أنث الفعل أبعدت بالتاء، مع أن الضمير فيه راجع إلى المتن، وهو مذكر؛ لكن لما أضيف المتن إلى السماء وهي مؤنثة، فكأن الشاعر أعاد الضمير على السماء، وتناسى المتن، فأنث لذلك، وكأنه قال: "لما رأى السماء أبعدت" . وهو كالشاهد الذي قبله. (3) البيت للفرزدق (اللسان: قبض) . والقنبضة من النساء: القصيرة، والنون زائدة، والضمير في رقدن: يعود إلى نساء وصفهن بالنعمة والترف إذا كانت القنبضات السود في خدمة وتعب اهـ. يعني بالقنبضات الولائد والإماء من الخدم. والحجال: جمع حجلة، بالتحريك، وهي بيت كالقبة يستر بالثياب، ويكون له أزرار كبار. ومنه حديث: "أعروا النساء يلزمن الحجال" . وجمع الحجلة: حجل وحجال، قال الفرزدق: * رقدن عليهن الحجال المسجف * قال: الحجال، وهي جماعة، ثم قال: المسجف فذكر، لأن لفظ الحجال لفظ الواحد مثل الجراب. قال: ومثله قوله تعالى: (قال من يحيي العظام وهي رميم) ، ولم يقل رميمة. وانظر البيت أيضًا في ديوان الفرزدق (طبعة الصاوي ص 552) قال: والتسجيف: إرخاء السجفين، وهما سترا باب الحجلة للعروس وكل باب يستره ستران بينهما مشقوق، فكل شق منهما سجف. (4) البيتان لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه ص 223) من قافيته التي مطلعها: * أرقت وما هذا السهاد المؤرق * يمدح بها المحلق بن خنثم بن شداد بن ربيعة. وفي رواية البيت الأول فيه وفي خزانة الأدب الكبرى (للبغدادي 1: 551، 2: 410) أسرى، في موضع: أهدى. و "أن المعان موفق" في موضع "أن المعان الموفق" . = ومعنى أهدى من الهدية، وهذا لا يصلح إلا على أن الخطاب للناقة وكان قد أهداها الممدوح إليه، لا على أن الخطاب للمرأة المذكورة في القصيدة قبل البيت في قوله "وكم دون ليلى" وتمام رواية البيت على أنه خطاب للناقة هو: وإن امرأ أهداك بيني وبينه ... فياف تنوفات ويهماء سملق والأكثرون على رواية أسرى إليك، وأنه خطاب للمرأة، وعليه بنى الكوفيون كلامهم في الاستشهاد بالبيت. وأسرى: لغة في سرى أي سار ليلا. والموماة: الأرض التي لا ماء فيها. والبيداء واليهماء القفر. والسملق: الأرض المستوية. وقد اختلف النحويون في تخريج قوله: "المحقوقة أن تستجيبى" ، فقيل: لمحقوقة استجابتك أي استجابتك محقوقة. وعليه فالتأنيث في محقوقة للمصدر المؤنث جوازًا. وعليه أيضًا فلا شاهد في البيت. وقال الكوفيون: محقوقة خبر إن امرأ، غير جار على من هو له وهو امرأ، وإنما هو جار على المرأة المخاطبة بقوله إليك. والبصريون يوجبون إذا جرى الخبر على غير من هو له إبراز الضمير المستتر فيه، فكان حقه أن يقول: لمحقوقة أنت أن تستجيبى لصوته. ويرى الكوفيون أن إبراز الضمير المستتر في مثل هذه الحالة حكمه الجواز لا الوجوب، واستدلوا بالبيت على ترك إبرازه. ورد البصريون كلامهم بما لا محل لذكره هنا. واستشهد المؤلف بالبيت على ما استشهد به الكوفيون. قال: ويقولون: بنات نعش وبنو نعش، ويقال: بنات عِرس، وبنو عِرس; وقالت امرأة: أنا امرؤ لا أخبر السرّ، قال: وذكر لرؤبة رجل فقال: هو كان أحد بنات مساجد الله، يعني الحَصَى. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: هذا بمنزلة قول الشاعر: تَرَى أرْمَاحَهُمْ مُتَقَلديها ... إذَا صَدِئَ الحَدِيدُ على الكُماةِ (1) فمعناه عنده: فظلت أعناقهم خاضعيها هم، كما يقال: يدك باسطها، بمعنى: يدك باسطها أنت، فاكتفى بما ابتدأ به من الاسم أن يكون، فصار الفعل كأنه للأوّل وهو للثاني، وكذلك قوله: لمحقوقة أن تستجيبي لصوته إنما هو لمحقوقة أنت، والمحقوقة: الناقة، إلا أنه عطفه على المرء لما عاد بالذكر. وكان آخر منهم يقول: الأعناق: الطوائف، كما يقال: رأيت الناس إلى فلان عنقا واحدة، فيجعل الأعناق الطوائف والعصب; ويقول: يحتمل أيضا أن تكون الأعناق هم السادة والرجال الكبراء، فيكون كأنه قيل: (1) البيت ذكره ابن الأنباري في الإنصاف ولم ينسبه وكذلك لم ينسبه البغدادي في الخزانة (2: 411) وهو كالشاهد الذي قبله. قال البغدادي: الظاهر من كلام ابن الشجري في أماليه، ومن كلام ابن الأنباري في مسائل الخلاف، ومن كلام غيرهما: أن مذهب الكوفيين، جواز ترك التأكيد مطلقًا، سواء أمن اللبس أم لا. قال ابن الأنباري: احتج الكوفيون لمذهبهم بالشعر المتقدم، وبقوله: "ترى أرباقهم.." البيت. ولو كان إبراز الضمير واجبًا لقال: متقلديها هم. فلما لم يبرز الضمير دل على جوازه. وأجاب البصريون عن هذا بأنه على حذف مضاف، أي نرى أصحاب أرباقهم متقلديها. ورواية البيت في الخزانة والإنصاف: "ترى أرباقهم" في موضع "ترى أرماحهم" . وكذلك أنشده الفراء في معاني القرآن: أرباقهم (ص 228) . فظلت رءوس القوم وكبراؤهم لها خاضعين، وقال: أحب إلي من هذين الوجهين في العربية أن يقال: إن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون، فجعلت الفعل أولا للأعناق، ثم جعلت خاضعين للرجال، كما قال الشاعر: عَلى قَبْضَة مَرْجُوَّة ظَهْرُ كَفِّهِ ... فَلا المَرْءُ مُسْتَحي وَلا هُوَ طاعِمُ (1) فأنث فعل الظهر، لأن الكفّ تجمع الظهر، وتكفي منه، كما أنك تكتفي بأن تقول: خضعت لك، من أن تقول: خَضَعَتْ لك رقبتي، وقال: ألا ترى أن العرب تقول: كل ذي عين ناظر وناظرة إليك، لأن قولك: نظرتْ إليك عيني، ونظرت إليك بمعنى واحد بترك كل، وله الفعل ومرده إلى العين، فلو قلت: فظلت أعناقهم لها خاضعة، كان صوابا. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بما قال أهل التأويل في ذلك أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال، وأن يكون معنى الكلام: فظلت أعناقهم ذليلة، للآية التي ينزلها الله عليهم من السماء، وأن يكون قوله "خاضعين" مذكرا، لأنه خبر عن الهاء والميم في الأعناق، فيكون ذلك نظير قول جرير: أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الهلالِ (2) وذلك أن قوله: مرّ، لو أسقط من الكلام، لأدى ما بقي من الكلام عنه ولم يفسد سقوطه معنى الكلام عما كان به قبل سقوطه، وكذلك لو أسقطت الأعناق من (1) هذا البيت مما استشهد به الفراء في معاني القرآن (الورقة 328) قال عند قوله تعالى: (فظلت أعناقهم لها خاضعين) : الفعل للأعناق، فيقول القائل: كيف لم يقل خاضعة. وفي ذلك وجوه كلها صواب. أولها: أن مجاهدًا جعل الأعناق الرجال الكبراء، فكانت الأعناق ها هنا بمنزلة قولك: ظلت رءوسهم، رءوس القوم وكبراؤهم (لها خاضعين) ، الآية. والوجه الآخر: أن تجعل الأعناق: الطوائف، كما تقول: رأيت الناس إلى فلان عنقًا واحدًا، فتجعل الأعناق: الطوائف والعصب. وأحب إليَّ من هذين الوجهين في العربية: أن الأعناق إذا خضعت، فأربابها خاضعون، فجعلت الفعل أولا للأعناق. ثم جعلت خاضعين للرجال، كما قال الشاعر "على قبضة مرجوة.." البيت. فأنث فعل الظهر، لأن الكف تجمع الظهر، وتكفي منه. (2) البيت لجرير، وقد سبق الاستشهاد به في الجزء (12: 157) وذكره صاحب (اللسان: خضع) قال: جاز أن يخبر عن المضاف إليه كما قال الشاعر "رأت مر السنين" ، لما كانت السنون لا تكون إلا بمن أخبر عن السنين، وإن كان أضاف إليها المرور. والسرار: الليلة التي يخفى فيها الهلال آخر الشهر. ورواية "رأت مر السنين" : هي رواية الديوان (طبعة الصاوي: 426) ورواية أبي عبيدة في مجاز القرآن (ص 171) . قوله: فظلت أعناقهم، لأدى ما بقي من الكلام عنها، وذلك أن الرجال إذا ذلوا، فقد ذلت رقابهم، وإذا ذلت رقابهم فقد ذلوا. فإن قيل في الكلام: فظلوا لها خاضعين، كان الكلام غير فاسد، لسقوط الأعناق، ولا متغير معناه عما كان عليه قبل سقوطها، فصرف الخبر بالخضوع إلى أصحاب الأعناق، وإن كان قد ابتدأ بذكر الأعناق لما قد جرى به استعمال العرب في كلامهم، إذا كان الاسم المبتدأ به، وما أضيف إليه يؤدّي الخبر كل واحد منهما عن الآخر. القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) } يقول تعالى ذكره: وما يجيء هؤلاء المشركين الذين يكذّبونك ويجحدون ما أتيتهم به يا محمد من عند ربك من تذكير وتنبيه على مواضع حجج الله عليهم على صدقك، وحقيقة ما تدعوهم إليه مما يحدثه الله إليك ويوحيه إليك، لتذكرهم به، إلا أعرضوا عن استماعه، وتركوا إعمال الفكر فيه وتدبره. القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) } يقول تعالى ذكره: فقد كذب يا محمد هؤلاء المشركون بالذكر الذي أتاهم من عند الله، وأعرضوا عنه (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) يقول: فسيأتيهم أخبار الأمر الذي كانوا يسخرون منه، وذلك وعيد من الله لهم أنه محلّ بهم عقابه على تماديهم في كفرهم، وتمرّدهم على ربهم. القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) } يقول تعالى ذكره: أولم ير هؤلاء المشركون المكذّبون بالبعث والنشر إلى الأرض، كم أنبتنا فيها بعد أن كانت ميتة لا نبات فيها (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) يعني بالكريم: الحسن، كما يقال للنخلة الطيبة الحمل: كريمة، وكما يقال للشاة أو الناقة إذا غزرتا، فكثرت ألبانهما: ناقة كريمة، وشاة كريمة. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثني أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) قال: من نبات الأرض، مما تأكل الناس والأنعام. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: اخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) قال: حسن. القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) } يقول تعالى ذكره: إن في إنباتنا في الأرض من كلّ زوج كريم لآية. يقول: لدلالة لهؤلاء المشركين المكذّبين بالبعث، على حقيقته، وأن القدرة التي بها أنبت الله في الأرض ذلك النبات بعد جدوبتها، لن يُعجزه أن يُنْشر بها الأموات بعد مماتهم، أحياء من قبورهم. وقوله: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) يقول: وما كان أكثر هؤلاء المكذبين بالبعث، الجاحدين نبوتك يا محمد، بمصدقيك على ما تأتيهم به من عند الله من الذكر. يقول جلّ ثناؤه: وقد سبق في علمي أنهم لا يؤمنون، فلا يؤمن بك أكثرهم للسابق من علمي فيهم. وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) يقول: وإن ربك يا محمد لهو العزيز في نقمته، لا يمتنع عليه أحد أراد الانتقام منه. يقول تعالى ذكره: وإني إن أحللت بهؤلاء المكذبين بك يا محمد، المعرضين عما يأتيهم من ذكر من عندي، عقوبتي بتكذيبهم إياك، فلن يمنعهم مني مانع، لأني أنا العزيز الرحيم، يعني أنه ذو الرحمة بمن تاب من خلقه من كفره ومعصيته، أن يعاقبه على ما سلف من جرمه بعد توبته. وكان ابن جُرَيج يقول في معنى ذلك، ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني الحجاج، عن ابن جُرَيج قال: كلّ شيء في الشعراء من قوله (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فهو ما أهلك ممن مضى من الأمم، يقول عزيز، حين انتقم من أعدائه، رحيم بالمؤمنين، حين أنجاهم مما أهلك به أعداءه. قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك في هذا الموضع، لأن قوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) عقيب وعيد الله قوما من أهل الشرك والتكذيب بالبعث، لم يكونوا أهلكوا، فيوجه إلى أنه خبر من الله عن فعله بهم وإهلاكه. ولعلّ ابن جُرَيج بقوله هذا أراد ما كان من ذلك عقيب خبر الله عن إهلاكه من أهلك من الأمم، وذلك إن شاء الله إذا كان عقيب خبرهم كذلك. القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) } يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد إذ نادى ربك موسى بن عمران (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعني الكافرين قوم فرعون، ونصب القوم الثاني ترجمة عن القوم الأوّل، وقوله: (أَلا يَتَّقُونَ) يقول: ألا يتقون عقاب الله على كفرهم به. ومعنى الكلام: قوم فرعون فقل لهم: ألا يتقون. وترك إظهار فقل لهم لدلالة الكلام عليه. وإنما قيل: ألا يتقون بالياء، ولم يقل ألا تتقون بالتاء، لأن التنزيل كان قبل الخطاب، ولو جاءت القراءة فيها بالتاء كان صوابا، كما قيل: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ) و "سَتُغْلَبُونَ" القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) } يقول تعالى ذكره: (قال) موسى لربه (رَبِّ إِنِّي أَخَافُ) من قوم فرعون الذين أمرتني أن آتيهم (أَنْ يُكَذِّبُونِ) بقيلي لهم: إنك أرسلتني إليهم. (وَيَضِيقُ صَدْرِي) من تكذيبهم إياي إن كذّبوني. ورفع قوله: (وَيَضِيقُ صَدْرِي) عطفا به على أخاف، وبالرفع فيه قرأته عامة قرّاء الأمصار، ومعناه: وإني يضيق صدري.وقوله: (وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي) يقول: ولا ينطق بالعبارة عما ترسلني به إليهم، للعلة التي كانت بلسانه. وقوله: (وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي) كلام معطوف به على يضيق. وقوله: (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) يعني هارون أخاه، ولم يقل: فأرسل إليّ هارون ليؤازرني وليعينني، إذ كان مفهوما معنى الكلام، وذلك كقول القائل: لو نزلت بنا نازلة لفزعنا إليك، بمعنى: لفزعنا إليك لتعيننا. وقوله: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) يقول: ولقوم فرعون عليّ دعوى ذنب أذنبت إليهم، وذلك قتله النفس التي قتلها منهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) قال: قتل النفس التي قتل منهم. حدثنا القاسم، قال: ثني الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: قتْل موسى النفس. قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قَتادة، قوله: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) قال: قتل النفس. وقوله: (فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) يقول: فأخاف أن يقتلوني قودا بالنفس التي قتلت منهم. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) } يقول تعالى ذكره: (كَلا) : أي لن يقتلك قوم فرعون. (فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا) يقول: فاذهب أنت وأخوك بآياتنا، يعني بأعلامنا وحججنا التي أعطيناك عليهم. وقوله: (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) من قوم فرعون ما يقولون لكم، ويجيبونكم به. وقوله: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا) ... الآية، يقول: فأت أنت يا موسى وأخوك هارون فرعون. (فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) إليك ب (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) وقال رسول ربّ العالمين، وهو يخاطب اثنين بقوله فقولا لأنه أراد به المصدر من أرسلت، يقال: أرسلت رسالة ورسولا كما قال الشاعر: لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ ما بُحْتُ عِندَهمْ ... بِسُوءٍ وَلا أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ (1) (1) البيت في (اللسان: رسل) . وفي رواية "بليلى" في موضع "بسوء" . قال: والإرسال التوجيه، وقد أرسل إليه. والاسم الرسالة (بكسر الراء المشددة وفتحها) والرسول والرسيل. الأخيرة عن ثعلب. وأنشد: "لقد كذب الواشون. ز" البيت قال: والرسول بمعنى الرسالة يؤنث ويذكر. وفي (اللسان: رسل) رواية أخرى للبيت كرواية المؤلف، ونسبه إلى كثير. يعنى برسالة، وقال الآخر: ألا منْ مُبْلِغٌ عَنّي خُفافا ... رَسُولا بَيْتُ أهلِكَ مُنْتَهاها (1) يعني بقوله: رسولا رسالة، فأنث لذلك الهاء. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) } وفي هذا الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر عليه منه، وهو: فأتيا فرعون فأبلغاه رسالة ربهما إليه، فقال فرعون: ألم نربك فينا يا موسى وليدا، ولبثت فينا من عمرك سنين؟ وذلك مكثه عنده قبل قتل القتيل الذي قتله من القبط. (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) يعني: قتله النفس التي قتل من القبط. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ.) قال: قتل النفس. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. وإنما قيل (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) لأنها مرة واحدة، ولا يجوز كسر الفاء إذا أريد بها هذا المعنى. وذُكر عن الشعبي أنه قرأ ذلك: "وَفَعَلْتَ فِعْلَتَكَ" بكسر الفاء، وهي قراءة لقراءة القرّاء من أهل الأمصار- مخالفة. وقوله: (وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وأنت من الكافرين بالله على ديننا. (1) البيت لعباس بن مرداس (اللسان: رسل) . قال: فأنث الرسول (بعود الضمير المؤنث) حيث كان بمعنى الرسالة. وهذا البيت من المقطوعة التي منها الشاهد السابق (ص 37) وهو: "فأيي ما وأيك.." البيت. يهجو به العباس بن مرداس خفاف بن ندبة لشيء كان بينهما (خزانة الأدب للبغدادي 2: 229) . * ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) يعني على ديننا هذا الذي تعيب. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنت من الكافرين نعمتنا عليك. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) قال: ربيناك فينا وليدا، فهذا الذي كافأتنا أن قتلت منا نفسا، وكفرت نعمتنا!. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) يقول: كافرا للنعمة لأن فرعون لم يكن يعلم ما الكفر. قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد أشبه بتأويل الآية، لأن فرعون لم يكن مقرّا لله بالربوبية وإنما كان يزعم أنه هو الرب، فغير جائز أن يقول لموسى إن كان موسى كان عنده على دينه يوم قتل القتيل على ما قاله السديّ: فعلت الفعلة وأنت من الكافرين، الإيمان عنده: هو دينه الذي كان عليه موسى عنده، إلا أن يقول قائل: إنما أراد: وأنت من الكافرين يومئذ يا موسى، على قولك اليوم، فيكون ذلك وجها يتوجه. فتأويل الكلام إذن: وقتلت الذي قتلت منا وأنت من الكافرين نعمتنا عليك، وإحساننا إليك في قتلك إياه. وقد قيل: معنى ذلك: وأنت الآن من الكافرين لنعمتي عليك، وتربيتي إياك. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) } يقول تعالى ذكره: قال موسى لفرعون: فعلت تلك الفعلة التي فعلت، أي قتلت تلك النفس التي قتلت إذن وأنا من الضالين. يقول: وأنا من الجاهلين قبل أن يأتيني من الله وحي بتحريم قتله عليّ. والعرب تضع من الضلال موضع الجهل، والجهل موضع ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشعراء الحلقة (1084) صــ 341 لى صــ 350 الضلال، فتقول: قد جهل فلان الطريق وضل الطريق، بمعنى واحد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قال: من الجاهلين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. قال ابن جُرَيج: وفي قراءة ابن مسعود: "وأنا مِنَ الجَاهِلِينَ" . قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قال: من الجاهلين. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) فقال موسى: لم أكفر، ولكن فعلتها وأنا من الضالين. وفي حرف ابن مسعود: "فعلتها إذا وأنا من الجاهلين" . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قبل أن يأتيني من الله شيء كان قتلي إياه ضلالة خطأ. قال: والضلالة ههنا الخطأ، لم يقل ضلاله فيما بينه وبين الله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) يقول: وأنا من الجاهلين. وقوله (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) ... الآية، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل موسى لفرعون: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ) معشر الملأ من قوم فرعون (لَمَّا خِفْتُكُمْ) أن تقتلوني بقتلي القتيل منكم. (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا) يقول: فوهب لي ربي نبوّة وهي الحكم. كما حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط عن السديّ: (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا) والحكم: النبوّة. وقوله: (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) يقول: وألحقني بعداد من أرسله إلى خلقه، مبلغا عنه رسالته إليهم بإرساله إياي إليك يا فرعون. القول في تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) } يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ) يعني بقوله: وتلك تربية فرعون إياه، يقول: وتربيتك إياي، وتركك استعبادي، كما استعبدت بني إسرائيل نعمة منك تمنها عليّ بحقّ. وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذكر عليه عنه، وهو: وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركتني، فلم تستعبدني، فترك ذكر "وتركتني" لدلالة قوله (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) عليه، والعرب تفعل ذلك اختصارا للكلام، ونظير ذلك في الكلام أن يستحق رجلان من ذي سلطان عقوبة، فيعاقب أحدهما، ويعفو عن الآخر، فيقول المعفو عنه هذه نعمة علي من الأمير أن عاقب فلانا، وتركني، ثم حذف "وتركني" لدلالة الكلام عليه، ولأن في قوله: (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وجهين: أحدهما النصب، لتعلق "تمنها" بها، وإذا كانت نصبا كان معنى الكلام: وتلك نعمة تمنها علي لتعبدك بني إسرائيل. والآخر: الرفع على أنها ردّ على النعمة. وإذا كانت رفعا كان معنى الكلام: وتلك نعمة تمنها عليّ تعبيدك بني إسرائيل. ويعني بقوله: (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) : أن اتخذتهم عبيدا لك. يقال منه: عبدت العبيد وأعبدتهم، قال الشاعر: عَلامَ يُعْبِدنِي قَومِي وقدْ كَثُرَتْ ... فِيها أباعِرُ ما شاءُوا وَعُبْدَانُ (1) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) قال: قهرتهم واستعملتهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: (1) البيت من شواهد (اللسان: عبد) قال: تعبد الرجل (وعبده) بتشديد الباء فيهما، وأعبده: صيره كالعبد. قال الشاعر: "ختام يعبدني قومي.." البيت. تمن علي أن عبَّدت بني إسرائيل، قال: قهرت وغلبت واستعملت بني إسرائيل. حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وربيتني قبل وليدا. وقال آخرون: هذا استفهام كان من موسى لفرعون، كأنه قال: أتمنّ عليّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيدا. * ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ) قال: يقول موسى لفرعون: أتمنّ عليّ أن اتخذت أنت بني إسرائيل عبيدا. واختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعض نحويي البصرة: وتلك نعمة تمنها عليّ، فيقال: هذا استفهام كأنه قال: أتمنها علي؟ ثم فسر فقال: (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وجعله بدلا من النعمة. وكان بعض أهل العربية ينكر هذا القول، ويقول: هو غلط من قائله لا يجوز أن يكون همز الاستفهام يلقى، وهو يطلب، فيكون الاستفهام كالخبر، قال: وقد استقبح ومعه أم، وهي دليل على الاستفهام واستقبحوا: تَرُوحُ منَ الحَيّ أمْ تَبْتَكرْ ... وَماذَا يَضُرُّكَ لَوْ تَنْتظرْ? (1) قال: وقال بعضهم: هو أتروح من الحيّ، وحذف الاستفهام أوّلا اكتفاء بأم. وقال أكثرهم: بل الأوّل خبر، والثاني استفهام، وكأن "أم" إذا جاءت بعد الكلام فهي الألف، فأما وليس معه أم، فلم يقله إنسان. وقال بعض نحويي الكوفة في ذلك ما قلنا. وقال: معنى الكلام: وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين لنعمتي: أي لنعمة تربيتي لك، فأجابه فقال: نعم هي نعمة عليّ أن عبدت الناس ولم تستعبدني. وقول (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) يقول: وأيّ شيء ربّ العالمين؟ (قال) (1) البيت: لامرىء القيس بن حجر الكندي (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 115) تروح: أتروح، وتبتكر: تخرج مبكرًا. يقول: أتروح إلى أهلك آخر النهار، أم تخرج إليهم بكرة، وما الذي يعجلك عن الانتظار وهو خير لك. والبيت شاهد على أنه حذف همزة الاستفهام اكتفاء بدلالة أم عليه. وبعضهم يستقبح الحذف في هذا الموضع. ويمنعه فيما يلبس بالخبر. موسى هو (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) ومالكهن (وَمَا بَيْنَهُمَا) يقول: ومالك ما بين السموات والأرض من شيء. (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) يقول: إن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه، فكذلك فأيقنوا أن ربنا هو ربّ السموات والأرض وما بينهما. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) } يعني تعالى ذكره بقوله (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) قال فرعون لمن حوله من قومه: ألا تستمعون لما يقول موسى، فأخبر موسى عليه السلام القوم بالحواب عن مسألة فرعون إياه وقيله له (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) ليفهم بذلك قوم فرعون مقالته لفرعون، وجوابه إياه عما سأله، إذ قال لهم فرعون (أَلا تَسْتَمِعُونَ) إلى قول موسى، فقال لهم الذي دعوته إليه وإلى عبادته (رَبُّكُمْ) الذي خلقكم (وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ) فقال فرعون لما قال لهم موسى ذلك، وأخبرهم عما يدعو إليه فرعون وقومه: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) يقول: إن رسولكم هذا الذي يزعم أنه أرسل إليكم لمغلوب على عقله، لأنه يقول قولا لا نعرفه ولا نفهمه، وإنما قال ذلك ونسب موسى عدو الله إلى الجنة، لأنه كان عنده وعند قومه أنه لا رب غيره يعبد، وأن الذي يدعوه إليه موسى باطل ليست له حقيقة، فقال موسى عند ذلك محتجًّا عليهم، ومعرفهم ربهم بصفته وأدلته، إذ كان عند قوم فرعون أن الذي يعرفونه ربًّا لهم في ذلك الوقت هو فرعون، وأن الذي يعرفونه لآبائهم أربابا ملوك أخر، كانوا قبل فرعون، قد مضوا فلم يكن عندهم أن موسى أخبرهم بشيء له معنى يفهمونه ولا يعقلونه، ولذلك قال لهم فرعون: إنه مجنون، لأن كلامه كان عندهم كلاما لا يعقلون معناه، وقوله: (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا) فمعناه: الذي أدعوكم وفرعون إلى عبادته رب المشرق والمغرب وما بينهما يعني ملك مشرق الشمس ومغربها، وما بينهما من شيء لا إلى عبادة ملوك مصر الذين كانوا ملوكها قبل فرعون لآبائكم فمضوا، ولا إلى عبادة فرعون الذي هو ملكها. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) يقول: إن كان لكم عقول تعقلون بها ما يقال لكم، وتفهمون بها ما تسمعون مما يعين لكم؛ فلما أخبرهم عليه السلام بالأمر الذي علموا أنه الحق الواضح، إذ كان فرعون ومن قبله من ملوك مصر لم يجاوز ملكهم عريش مصر، وتبين لفرعون ومن حوله من قومه أن الذي يدعوهم موسى إلى عبادته، هو الملك الذي يملك الملوك. قال فرعون حينئذ استكبارا عن الحق، وتماديا في الغي لموسى: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي) يقول: لئن أقررت بمعبود سواي (لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) يقول: لأسجننك مع من في السجن من أهله. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) } يقول تعالى ذكره: قال موسى لفرعون لما عرفه ربه، وأنه رب المشرق والمغرب، ودعاه إلى عبادته وإخلاص الألوهة له، وأجابه فرعون بقوله (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) : أتجعلني من المسجونين (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) يبين لك صدق ما أقول يا فرعون وحقيقة ما أدعوك إليه؟ وإنما قال ذلك له، لأن من أخلاق الناس السكون للإنصاف، والإجابة إلى الحق بعد البيان؛ فلما قال موسى له ما قال من ذلك، قال له فرعون: فأت بالشيء المبين حقيقة ما تقول، فإنا لن نسجنك حينئذ إن اتخذت إلها غيري إن كنت من الصادقين: يقول: إن كنت محقا فيما تقول، وصادقا فيما تصف وتخبر، (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) يقول جلّ ثناؤه: فألقى موسى عصاه فتحوّلت ثعبانا، وهي الحية الذكر كما قد بيَّنت فيما مضى قبل من صفته وقوله (مُبِينٌ) يقول: يبين لفرعون والملأ من قومه أنه ثعبان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قوله: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) يقول: مبين له خلق حية. وقوله: (وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ) يقول: وأخرج موسى يده من جيبه فإذا هي بيضاء تلمع (للناظرين) لمن ينظر إليها ويراها. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثام بن عليّ، قال: ثنا الأعمش، عن المنهال، قال: ارتفعت الحية في السماء قدر ميل، ثم سفلت حتى صار رأس فرعون بين نابيها، فجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، فجعل فرعون يقول: يا موسى أسألك. بالذي أرسلك، قال: فأخذه بطنه. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) } يقول تعالى ذكره: قال فرعون لما أراه موسى من عظيم قدرة الله وسلطانه حجة عليه لموسى بحقيقة ما دعاه إليه، وصدق ما أتاه به من عند ربه (لِلْمَلإ حَوْلَهُ) يعني لأشراف قومه الذين كانوا حوله. (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) يقول: إن موسى سحر عصاه حتى أراكموها ثعبانا (عَلِيمٌ) ، يقول: ذو علم بالسحر وبصر به. (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) يقول: يريد أن يخرج بني إسرائيل من أرضكم إلى الشأم بقهره إياكم بالسحر. وإنما قال: يريد أن يخرجكم فجعل الخطاب للملإ حوله من القبط، والمعنيّ به بنو إسرائيل، لأن القبط كانوا قد استعبدوا بني إسرائيل، واتخذوهم خدما لأنفسهم ومهانا، فلذلك قال لهم: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ) وهو يريد: أن يخرج خدمكم وعبيدكم من أرض مصر إلى الشأم. وإنما قلت معنى ذلك كذلك، لأن الله إنما أرسل موسى إلى فرعون يأمره بإرسال بني إسرائيل معه، فقال له ولأخيه (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) . وقوله: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) يقول: فأي شيء تأمرون في أمر موسى وما به تشيرون من الرأي فيه؟ (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ) يقول تعالى ذكره: فأجاب فرعون الملأ حوله بأن قالوا له: أخِّر موسى وأخاه وأنظره، وابعث في بلادك وأمصار مصر حاشرين يحشرون إليك كل سحّار عليم بالسحر. القول في تأويل قوله تعالى: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) القول في تأويل قوله تعالى: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) } يقول تعالى ذكره: فجمع الحاشرون الذين بعثهم فرعون بحشر السحرة (لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يقول: لوقت واعد فرعون لموسى الاجتماع معه فيه من يوم معلوم، وذلك يوم الزينة (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) . وقيل للناس: هل أنتم مجتمعون لتنظروا إلى ما يفعل الفريقان، ولمن تكون الغلبة، لموسى أو للسحرة؟ فلعلنا نتبع السحرة، ومعنى لعل هنا كي، يقول: كي نتبع السحرة، إن كانوا هم الغالبين موسى، وإنما قلت ذلك معناها: لأن قوم فرعون كانوا على دين فرعون، فغير معقول أن يقول من كان على دين: أنظر إلى حجة من هو على خلافي لعلي اتبع ديني، وإنما يقال: أنظر إليها كي ازداد بصيرة بديني، فأقيم عليه. وكذلك قال قوم فرعون. فإياها عنوا بقيلهم: (لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) . وقيل: إن اجتماعهم للميقات الذي اتعد للاجتماع فيه فرعون وموسى كان بالإسكندرية. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) قال: كانوا بالإسكندرية، قال: ويقال: بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة يومئذ، قال: وهربوا وأسلموا فرعون وهمت به، فقال: فخذها يا موسى، قال: فكان فرعون مما يلي الناس منه أنه كان لا يضع على الأرض شيئا، قال: فأحدث يومئذ تحته، قال: وكان إرساله الحية في القبة الحمراء. القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) } يقول تعالى ذكره: (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ) فرعون لوعد لموسى وموعد فرعون (قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا) سحرنا قبلك (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ مُوسَى قال) فرعون لهم (نَعَمْ) لكم الأجر على ذلك (وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) منا. فقالوا عند ذلك لموسى: إما أن تلقي، وإما أن نكون نحن الملقين، وترك ذكر قيلهم ذلك لدلالة خبر الله عنهم أنهم قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون، على أن ذلك معناه ف (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) من حبالكم وعصيكم. (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) من أيديهم (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) يقول: أقسموا بقوّة فرعون وشدّة سلطانه، ومنعة مملكته (إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) موسى. القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) } يقول تعالى ذكره: (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ) حين ألقت السحرة حبالهم وعصيهم. (فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) يقول: فإذا عصا موسى تزدرد ما يأتون به من الفرية والسحر الذي لا حقيقة له، وإنما هو مخاييل (1) وخدعة. (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) يقول: فلما تبين السحرة أن الذي جاءهم به موسى حق لا سحر، وأنه مما لا يقدر عليه غير الله الذي فطر السموات والأرض من غير أصل، خرّوا لوجوههم سجدا لله، مذعنين له بالطاعة، مقرّين لموسى بالذي أتاهم به من عند الله أنه هو الحقّ، وأن ما كانوا يعملونه من السحر باطل، قائلين: (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الذي دعانا موسى إلى عبادته دون فرعون وملئه. (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) يقول جلّ ثناؤه: قال فرعون للذين كانوا سحرته فآمنوا: آمنتم لموسى بأن ما جاء به حق قبل أن آذن لكم في الإيمان به. (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) يقول: إن موسى لرئيسكم في السحر، وهو الذي علَّمكموه، ولذلك آمنتم به. (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عند عقابي إياكم وبال ما فعلتم، وخطأ ما صنعتم من الإيمان به. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) } (1) مخاييل: جمع مخيلة، بمعنى المظنة، وأصله مخايل. والكوفيون يزيدون في مثل هذا الجمع ياء قبل آخره، مثل دارهيم وصياريف جمعى درهم وصيرف. يقول (لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) مخالفا في قطع ذلك منكم بين قطع الأيدي والأرجل، وذلك أن أقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، ثم اليد اليسرى والرجل اليمنى، ونحو ذلك من قطع اليد من جانب، ثم الرجل من الجانب الآخر، وذلك هو القطع من خلاف (وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) فوكد ذلك بأجمعين إعلاما منه أنه غير مُسْتَبْقٍ منهم أحدا. (قَالُوا لا ضَيْرَ) يقول تعالى ذكره: قالت السحرة: لا ضير علينا; وهو مصدر من قول القائل: قد ضار فلانٌ فلانا فهو يضير ضيرا، ومعناه: لا ضرر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لا ضَيْرَ) قال: يقول: لا يضرنا الذي تقول، وإن صنعته بنا وصلبتنا. (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) يقول: إنا إلى ربنا راجعون، وهو مجازينا بصبرنا على عقوبتك إيانا، وثباتنا على توحيده، والبراءة من الكفر به. القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) } يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل السحرة: إنا نطمع: إنا نرجو أن يصفع لنا ربنا عن خطايانا التي سلفت منا قبل إيماننا به، فلا يعاقبنا بها. كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا) قال: السحر والكفر الذي كانوا فيه. (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) يقول: لأن كنا أوّل من آمن بموسى وصدقه بما جاء به من توحيد الله وتكذيب فرعون في ادعائه الربوبية في دهرنا هذا وزماننا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) قال: كانوا كذلك يومئذ أول من آمن بآياته حين رأوها. وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي) يقول: وأوحينا إلى موسى إذ تمادى فرعون في غيه وأبى إلا الثبات على طغيانه بعد ما أريناه آياتنا، أن أسر بعبادي: يقول: أن سر ببني إسرائيل ليلا من أرض مصر. (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) إن فرعون وجنده متبعوك وقومك من بني إسرائيل، ليحولوا بينكم وبين الخروج من أرضهم، أرض مصر. القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) } يقول تعالى ذكره: فأرسل فرعون في المدائن يحشر له جنده وقومه ويقول لهم (إِنَّ هَؤُلاءِ) يعني بهؤلاء: بني إسرائيل (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) يعني بالشرذمة: الطائفة والعصبة الباقية من عصب جبيرة، وشرذمة كل شيء: بقيته القليلة; ومنه قول الراجز: جَاءَ الشِّتَاءُ وقَمِيصِي أخْلاقْ ... شَرَاذِمٌ يَضْحَكُ مِنْهُ التَّوَّاقْ (1) وقيل: قليلون، لأن كل جماعة منهم كان يلزمها معنى القلة; فلما جمع جمع جماعاتهم قيل: قليلون، كما قال الكُمَيت: فَرَدَّ قَوَاصِيَ الأحْيَاء مِنْهُمْ ... فَقَدْ صَارُوا كَحَيّ وَاحدينا (2) (1) البيت في (اللسان: خلق) منسوب لراجز. قال: يقال: ثوب أخلاق، يصفون به الواحد، إذا كانت الخلوقة فيه كله، كما قالوا: برمة أعشار، وحبل أرمام، وأرض سباسب، وكذلك برمة أخلاق عن اللحياني، أي نواحيها أخلاق. وقال الراجز: "جاء الشتاء.." البيت اهـ. كأنه لما صار خلقًا كله، كان كل جزء فيه خلقًا، فجمعه باعتبار أجزائه، كما تفيده عبارة اللحياني. والتواق: اسم ولد الراجز. وفي (اللسان: شرذم) الشرذمة: القطعة من الشيء، والجمع شراذم والشرذمة: الجماعة من الناس القليلة، وفي التنزيل: (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) وثياب شراذم أي: أخلاق متقطعة وثوب شراذم أي قطع. وأنشد البيت عن ابن برى. (2) البيت للكميت (اللسان: وحد) . قال الجوهري: العرب تقول: أنتم حي واحد، وحي واحدون، كما يقال: شرذمة قليلون، وأنشد للكميت: "فرد قواصي الأحياء.." البيت. وهو يشبه كلام الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة الورقة 229) قال: وقوله: (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) يقول: عصبة قليلة، وقليلون وكثيرون. وأكثر كلام العرب أن يقولوا: قومك قليل وقومنا كثير. وقليلون وكثيرون: جائز عربي، وإنما جاز لأن القلة إنما تدخلهم جميعًا، فقيل: قليل؛ وأوثر "قليل" على "قليلين" ، وجاز الجمع إذا كانت القلة تلزم جميعهم في المعنى، فظهرت أسماؤهم على ذلك. ومثله أنتم حي واحد، وحي واحدون. ومعنى واحدون: واحد، كما قال الكميت: "فرد قواصي الأحياء.." البيت. ![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشعراء الحلقة (1085) صــ 351 لى صــ 360 وذكر أن الجماعة التي سماها فرعون شرذمة قليلين، كانوا ستّ مئة ألف وسبعين ألفا. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) ، قال: كانوا ستّ مئة وسبعين ألفا. قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عُبيدة، عن عبد الله، قال: الشرذمة: ستّ مئة ألف وسبعون ألفا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد، قال: اجتمع يعقوب وولده إلى يوسف، وهم اثنان وسبعون، وخرجوا مع موسى وهم ستّ مئة ألف، فقال فرعون (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) ، وخرج فرعون على فرس أدهم حصان على لون فرسه في عسكره ثمان مئة ألف. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد الجريري، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد، قال: وكان من أكثر الناس أو أحدث الناس عن بني إسرائيل، قال: فحدثنا أن الشرذمة الذين سماهم فرعون من بني إسرائيل كانوا ستّ مئة ألف، قال: وكان مقدمة فرعون سبعة مئة ألف، كل رجل منهم على حصان على رأسه بيضة، وفي يده حربة، وهو خلفهم في الدهم. فلما انتهى موسى ببني إسرائيل إلى البحر، قالت بنو إسرائيل. يا موسى أين ما وعدتنا، هذا البحر بين أيدينا، وهذا فرعون وجنوده قد دهمنا من خلفنا، فقال موسى للبحر: انفلق أبا خالد، قال: لا لن أنفلق لك يا موسى، أنا أقدم منك خلقا; قال: فنودي أن أضرب بعصاك البحر، فضربه، فانفلق البحر، وكانوا اثني عسر سبطا. قال الجريري. فأحسبه قال: إنه كان لكل سبط طريق، قال: فلما انتهى أول جنود فرعون إلى البحر، هابت الخيل اللهب; قال: ومثل لحصان منها فرس وديق، فوجد ريحها فاشتدّ، فاتبعه الخيل; قال: فلما تتام آخر جنود فرعون في البحر، وخرج آخر بني إسرائيل، أمر البحر فانصفق عليهم، فقالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون وما كان ليموت أبدا، فسمع الله تكذيبهم نبيه عليه السلام، قال: فرمى به على الساحل، كأنه ثور أحمر يتراءاه بنو إسرائيل. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) يعني بني إسرائيل. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) قال: هم يومئذ ستّ مئة ألف، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) قال: أوحى الله إلى موسى أن اجمع بني إسرائيل، كل أربعة أبيات في بيت، ثم اذبحوا أولاد الضأن، فاضربوا بدمائها على الأبواب، فإني سآمر الملائكة أن لا تدخل بيتا على بابه دم، وسآمرهم بقتل أبكار آل فرعون من أنفسهم وأموالهم، ثم اخبزوا خبزا فطيرا، فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي للبحر، فيأتيك أمري، ففعل; فلما أصبحوا قال فرعون: هذا عمل موسى وقومه قتلوا أبكارنا من أنفسنا وأموالنا، فأرسل في أثرهم ألف ألف وخمس مئة ألف وخمس مئة ملك مسوّر، مع كل ملك ألف رجل، وخرج فرعون في الكرش العظمى، وقال (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) قال: قطعة، وكانوا ستّ مئة ألف، مئتا ألف منهم أبناء عشرين سنة إلى أربعين. قال: ثني حجاج، عن أبي بكر بن حوشب، عن ابن عباس، قال: كان مع فرعون يومئذ ألف جبار، كلهم عليه تاج، وكلهم أمير على خيل. قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: كانوا ثلاثين ملكا ساقة خلف فرعون يحسبون أنهم معهم وجبرائيل أمامهم، يرد أوائل الخيل على أواخرها، فأتبعهم حتى انتهى إلى البحر، وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ) يقول: وإن هؤلاء الشرذمة لنا لغائظون، فذكر أن غيظهم إياهم كان قتل الملائكة من قتلت من أبكارهم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ) يقول: بقتلهم أبكارنا من أنفسنا وأموالنا. وقد يحتمل أن يكون معناه: وإنهم لنا لغائظون بذهابهم منهم بالعواريّ التي كانوا استعاروها منهم من الحليّ، ويحتمل أن يكون ذلك بفراقهم إياهم، وخروجهم من أرضهم بكره لهم لذلك. وقوله (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) بمعنى: أنهم معدون مؤدون ذوو أداة وقوّة وسلاح. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة: "وأنا لجميع حذرون" بغير ألف. وكان الفرّاء يقول: كأن الحاذر الذي يحذرك الآن، وكأن الحذر المخلوق حذرا لا تلقاه إلا حذرا; ومن الحذر قول ابن أحمر: هَلْ أُنسَأَنْ يَوْما إلى غَيْرِهِ ... إنِّي حَوَالِيٌّ وآنّي حَذِر (1) والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ، فمصيب الصواب فيه. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، قال: سمعت الأسود بن زيد يقرأ: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) قال: مقوون مؤدون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عيسى بن عبيد، عن أيوب، عن أبي العرجاء، عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرأ: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) يقول: مؤدون. (1) البيت لابن أحمر الباهلي. قاله المؤلف. ونسبه في (اللسان: حول) إلى المرار بن منقذ العدوي. قال: ويقال رجل حوالي: للجيد الرأي ذي الحيلة كما قال ابن أحمر، ويقال للمرار بن منقذ العدوي * أو تنسأن يومي إلى غيره * وقال في "حذر" : ورجل حذر وحذر (بكسر الذال وضمها) وحاذورة، وحذريان: متيقظ، شديد الحذر والفزع متحرز. وحاذر: متأهب معد، كأنه يحذر أن يفاجأ. والجمع "حذرون وحذارى" . وفي التنزيل: (وإنا لجميع حاذرون "، وقرئ" حذرون "و" حذرون ". الأخيرة بضم الذال، حكاه الأخفش. ومعنى" حاذرون "متأهبون، ومعنى" حذرون "خائفون. وقيل: معنى" حذرون "معدون. الأزهري. من قرأ (وإنا لجميع حاذرون) أي مستعدون. ومن قرأ" حذرون "فمعناه: إنا نخاف شرهم. وقال الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة، الورقة 229) : وقوله:" حاذرون، وحذرون: حدثني أبو ليلى السجستاني، عن ابن جرير قاضي سجستان، أن ابن مسعود قرأ: (وإنا لجميع حاذرون) . يقولون: مؤدون في السلاح. يقولون: ذوو أداة من السلاح. و "حذرون" وكأن الحاذر: الذي يحذرك الآن؛ وكأن "الحذر" : المخلوق حذرًا:، لا تلقاه إلا حذرًا. اهـ. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قوله: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) يقول: حذرنا، قال: جمعنا أمرنا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) قال: مؤدون معدون في السلاح والكراع. ثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج أبو معشر، عن محمد بن قيس قال: كان مع فرعون ست مئة ألف حصان أدهم سوى ألوان الخيل. حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا سليمان بن معاذ الضبي، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي رزين، عن ابن عباس أنه قرأها: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) قال: مؤدون مقوون. القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) } يقول تعالى ذكره: فأخرجنا فرعون وقومه من بساتين وعيون ماء، وكنوز ذهب وفضة، ومقام كريم. قيل: إن ذلك المقام الكريم: المنابر. وقوله (كذلك) يقول: هكذا أخرجناهم من ذلك كما وصفت لكم في هذه الآية والتي قبلها. (وأورثناها) يقول: وأورثنا تلك الجنات التي أخرجناهم منها والعيون والكنوز والمقام الكريم عنهم بهلاكهم بني إسرائيل. وقوله: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) فأتبع فرعون وأصحابه بني إسرائيل، مشرقين حين أشرقت الشمس، وقيل حين أصبحوا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثني أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) قال: خرج موسى ليلا فكسف القمر وأظلمت الأرض، وقال أصحابه: إن يوسف أخبرنا أنا سننجَى من فرعون، وأخذ علينا العهد لنخرجنّ بعظامه معنا، فخرج موسى ليلته يسأل عن قبره، فوجد عجوزا بيتها على قبره، فأخرجته له بحكمها، وكان حكمها أو كلمة تشبه هذا، أن قالت: احملني فأخرجني معك، فجعل عظام يوسف في كسائه، ثم حمل العجوز على كسائه، فجعله على رقبته، وخيل فرعون هي ملء أعنتها حضرا (1) في أعينهم، ولا تبرح، حبست عن موسى وأصحابه حتى تواروا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) قال: فرعون وأصحابه، وخيل فرعون في ملء أعنتها في رأي عيونهم، ولا تبرح، حبست عن موسى وأصحابه حتى تواروا. (1) في الأصل خضراء، والراجح أنه "حضرًا" ، وهو الأسراع في العدو. أي: يرونها مسرعة وهي لا تبرح أماكنها. القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) } يقول تعالى ذكره: فلما تناظر الجمعان: جمع موسى وهم بنو إسرائيل، وجمع فرعون وهم القبط (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي إنا لملحقون، الآن يلحقنا فرعون وجنوده فيقتلوننا، وذكر أنهم قالوا ذلك لموسى، تشاؤما بموسى. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: قلت لعبد الرحمن (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) قال: تشاءموا بموسى، وقالوا: (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) . حدثنا موسى، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ) فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد رمقهم قالوا (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالوا يَامُوسَى أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا، إنا لمدركون; البحر بين أيدينا، وفرعون من خلفنا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قال: لما انتهى موسى إلى البحر، وهاجت الريح العاصف، فنظر أصحاب موسى خلفهم إلى الريح، وإلى البحر أمامهم (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) . واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى الأعرج (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) ، وقرأه الأعرج: "إنَّا لَمُدَرَّكُونَ" كما يقال نزلت، وأنزلت. والقراءة عندنا التي عليها قرّاء الأمصار، لإجماع الحجة من القرّاء عليها. وقوله: (كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) قال موسى لقومه: ليس الأمر كما ذكرتم، كلا لن تدركوا إن معي ربي سيهدين، يقول: سيهدين لطريق أنجو فيه من فرعون وقومه. كما حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دُهم الخيل، سوى ما في جنده من شية الخيل، وخرج موسى حتى إذا قابله البحر، ولم يكن عنه منصرف، طلع فرعون في جنده من خلفهم (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي للنجاة، وقد وعدني ذلك، ولا خُلف لموعوده. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: (قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) يقول: سيكفيني، وقال: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وقوله فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) ذكر أن الله كان قد أمر البحر أن لا ينفلق حتى يضربه موسى بعصاه. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: فتقدم هارون فضرب البحر، فأبى أن ينفتح، وقال: من هذا الجبار الذي يضربني، حتى أتاه موسى فكناه أبا خالد، وضربه فانفلق. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، قال: أوحى الله فيما ذكر إلى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له، قال: فبات البحر يضرب بعضه بعضا فرقا من الله، وانتظار أمره، وأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه، فانفلق. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، ظن سليمان التيمي، عن أبي السليل، قال: لما ضرب موسى بعصاه البحر، قال: إيها أبا خالد، فأخذه إفْكَلُ. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، وحجاج عن أبي: بكر بن عبد الله وغيره، قالوا: لما انتهى موسى إلى البحر وهاجت الريح والبحر يرمي بتياره، ويموج مثل الجبال، وقد أوحى الله إلى البحر أن لا ينفلق حتى يضربه موسى بالعصا، فقال له يوشع: يا كليم الله أين أمرت؟ قال: ههنا، قال: فجاز البحر ما يواري حافره الماء، فذهب القوم يصنعون مثل ذلك، فلم يقدروا، وقال له الذي يكتم إيمانه: يا كليم الله أين أمرت؟ قال: ههنا، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه، ثم قحمه البحر فأرسب في الماء، فأوحى الله إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر، فضرب بعصاه موسى البحر فانفلق، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتلّ سرجه ولا لبده. وقوله: (فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) يقول تعالى ذكره: فكان كل طائفة من البحر لما ضربه موسى كالجبل العظيم. وذُكر أنه انفلق اثنتي عشرة فلقة على عدد الأسباط، لكل سبط منهم فرق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) يقول: كالجبل العظيم، فدخلت بنو إسرائيل، وكان في البحر اثنا عشر طريقا، في كل طريق سبط، وكان الطريق كما إذا انفلقت الجدران، فقال: كل سبط قد قتل أصحابنا; فلما رأى ذلك موسى دعا الله فجعلها قناطر كهيئة الطيقان، فنظر آخرهم إلى أولهم حتى خرجوا جميعا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، وحجاج، عن أبي بكر بن عبد الله وغيره قالوا: انفلق البحر، فكان كل فرق كالطود العظيم، اثنا عشر طريقا في كل طريق سبط، وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطا، وكانت الطرق بجدران، فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا; فلما رأى ذلك موسى، دعا الله فجعلها لهم بقناطر كهيئة الطيقان، ينظر بعضهم إلى بعض، وعلى أرض يابسة كأن الماء لم يصبها قطّ حتى عبر. قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: لما انفلق البحر لهم صار فيه كوى ينظر بعضهم إلى بعض. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق: (فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي كالجبل على نشز من الأرض. حدثني عليّ، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) يقول: كالجبل. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) قال: كالجبل العظيم. ومنه قول الأسود بن يعفر: حَلُّوا بأنْقِرَةٍ يَسيلُ عَلَيْهِمُ ... ماء الفُرَاتِ يَجيءُ مِنْ أطْوادِ (1) يعني بالأطواد: جمع طود، وهو الجبل. القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) } يعني بقول تعالى ذكره: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ) : وقرّبنا هنالك آل فرعون من البحر، وقدمناهم إليه، ومنه قوله: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) بمعنى: قربت وأُدنيت; ومنه قول العجاج: طَيّ اللَّيالي زُلَفا فَزُلَفا ... سَماوَةَ الهِلالِ حتى احْقَوْقَفَا (2) (1) البيت للأسود بن يعفر، قاله المؤلف. وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (مخطوطة الجامعة ص 172) قال: كالطود العظيم: أي الجبل. قال: "حلوا بأنقرة.." البيت وفي (اللسان: طود) : الطود: الجبل العظيم. وفي حديث عائشة تصف أباها (رضي الله عنهما) : ذاك طود منيف: أي جبل عال. والطود: الهضبة. عن ابن الأعرابي. والجمع: أطواد. اهـ. وفي رواية أبي عبيدة في مجاز القرآن: "يجيش" في موضع "يسيل" ورواية البكري في معجم ما استعجم ص 204 طبعة القاهرة: "يسيل" كرواية المؤلف. وأنقرة: موضع بظهر الكوفة، أسفل من الخورنق، كانت إياد تنزله في الدهر الأول، إذا غلبوا على ما بين الكوفة والبصرة. قال البكري: وفيه اليوم طيئ وسليح، وفي بارق إلى هيث وما يليها، كلها منازل طيئ وسليح. هذا قول عمر بن شبة. وقال غيره: أنقرة: موضع بالحيرة. وقد صرحوا بأن أنقرة هذه. غير أنقرة التي في بلاد الروم (الأناضول) وهي الآن قاعدة دولة الترك. (2) البيت من مشطور الرجز، وهما للعجاج، من أرجوزة مطولة له، وصف ارتحاله في ظلال الليل، وجملا ناجيًا حمله. (انظر اللسان: زلف. وأراجيز العرب للسيد البكري ص 52) . وقبل البيتين بيت متصل بمعناهما، وهو قوله: * ناج طواه الأين مما وجفا * قال في اللسان: يقول: منزلة بعد منزلة، ودرجة بعد درجة. وقال السيد البكري: زلفًا فزلفًا: أي درجة فدرجة. وسماوة: أي أعلى. واحقوقف: اعوج. يريد طواه السير كما تطوى الليالي الأهلة حتى تنحل (من النحول) وتعوج اهـ. وفي اللسان: الزلف (كسبب) والزلفة والزلفى: القربة، والدرجة، والمنزلة. وأزلف الشيء: قربه. وفي التنزيل (وأُزلفت الجنة للمتقين) : أي قربت. قال الزجاج: وتأويله: أي قريب دخولهم فيها، ونظرهم إليها. وقوله عز وجل: (وأزلفنا ثم الآخرين) معنى (أزلفنا) : جمعنا، وقيل: قربنا الآخرين من الغرق، وهم أصحاب فرعون، وكلاهما حسن جميل؛ لأن جمعهم تقريب بعضهم من بعض. والبيتان من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (ص 172 من مخطوطة جامعة القاهرة) . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ) قال: قرّبنا. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ) قال: هم قوم فرعون قربهم الله حتى أغرقهم في البحر. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: دنا فرعون وأصحابه بعد ما قطع موسى ببني إسرائيل البحر من البحر; فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا، قال: ألا ترون البحر فرق مني، قد تفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم، فذلك قول الله (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ) يقول: قربنا ثم الآخرين هم آل فرعون; فلما قام فرعون على الطرق، وأبت خيله أن تتقحم، فنزل جبرائيل صلى الله عليه وسلم على ماذيانة، فتشامَّتْ الحُصُن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم، وتفرد جبرائيل بمقلة من مقل البحر، فجعل يدسها في فيه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، قال: أقبل فرعون فلما أشرف على الماء، قال أصحاب موسى: يا مكلم الله إن القوم يتبعوننا في الطريق، فاضرب بعصاك البحر فاخلطه، فأراد موسى أن يفعل، فأوحى الله إليه: أن اترك البحر رَهْوا يقول: أمره على سكناته (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) إنما أمكر بهم، فإذا سلكوا طريقكم غرقتهم; فلما نظر فرعون إلى البحر قال: ألا ترون البحر فرق مني حتى تفتح لي، حتى أدرك أعدائي فأقتلهم; فلما وقف على أفواه الطرق وهو على حصان، فرأى الحصان البحر فيه أمثال الجبال هاب وخاف، وقال فرعون: أنا راجع، فمكر به جبرائيل عليه السلام، فأقبل على فرس أنثى، فأدناها من حصان فرعون، فطفق فرسه لا يقرّ، وجعل جبرائيل يقول: تقدم، ويقول: ليس أحد أحق بالطريق منك، فتشامت الحصن الماذيانة، فما ملك فرعون فرسه أن ولج على أثره; فلما انتهى فرعون إلى وسط البحر، أوحى الله إلى البحر: خذ عبدي الظَّالم وعبادي الظلمة، سلطاني فيك، فإني قد سلطتك عليهم، قال: فتغطمطت تلك الفرق من الأمواج كأنها الجبال، وضرب بعضها بعضا; فلما أدركه الغرق (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وكان جبرائيل صلى الله عليه وسلم شديد الأسف عليه لما ردّ من آيات الله، ولطول علاج موسى إياه، فدخل في أسفل البحر، فأخرج طينا، فحشاه في فم فرعون لكيلا يقولها الثانية، فتدركه الرحمة، قال: فبعث الله إليه ميكائيل يعيره: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) وقال جبرائيل: يا محمد ما أبغضت أحدا من خلق الله ما أبغضت اثنين أحدهما من الجن وهو إبليس، والآخر فرعون (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) : ولقد رأيتني يا محمد، وأنا أحشو في فيه مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها. وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ) وجمعنا، قال: ومنه ليلة المزدلفة، قال: ومعنى ذلك: أنها ليلة جمع. وقال بعضهم: وأزلفنا ثَمَّ وأهلكنا. وقوله: (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) يقول تعالى ذكره: وأنجينا موسى مما أتبعنا به فرعون وقومه من الغرق في البحر ومن مع موسى من بني إسرائيل أجمعين. وقوله: (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ) يقول: ثم أغرقنا فرعون وقومه من القبط في البحر بعد أن أنجينا موسى منه ومن معه. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) يقول تعالى ذكره: إن فيما فعلت بفرعون ومن معه تغريقي إياهم في البحر إذ كذبوا رسولي موسى، وخالفوا أمري بعد الإعذار إليهم، والإنذار لدلالة بينة يا محمد لقومك من قريش على أن ذلك سنتي فيمن سلك سبيلهم من تكذيب رسلي، وعظة لهم وعبرة أن ادكروا واعتبروا أن يفعلوا مثل فعلهم من تكذيبك مع البرهان والآيات التي قد أتيتهم، فيحلّ بهم من العقوبة نظير ما حل بهم، ولك آية في فعلي بموسى، وتنجيتي إياه بعد طول علاجه فرعون وقومه ![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشعراء الحلقة (1086) صــ 361 لى صــ 370 منه، وإظهاري إياه وتوريثه وقومه دورهم وأرضهم وأموالهم، على أني سالك فيك سبيله، إن أنت صبرت صبره، وقمت من تبليغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه قيامه، ومظهرك على مكذّبيك، ومعليك عليهم. (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) يقول: وما كان أكثر قومك يا محمد مؤمنين بما أتاك الله من الحقّ المبين، فسابق في علمي أنهم لا يؤمنون. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه ممن كفر به وكذّب رسله من أعدائه، (الرَّحِيمُ) بمن أنجى من رسله، وأتباعهم من الغرق والعذاب الذي عذب به الكفرة. القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) } يقول تعالى ذكره: واقصص على قومك من المشركين يا محمد خبر إبراهيم حين قال لأبيه وقومه: أيّ شيء تعبدون؟ (قالوا لَهُ نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) يقول: فنظلّ لها خدما مقيمين على عبادتها وخدمتها. وقد بيَّنا معنى العكوف بشواهده فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وكان ابن عباس فيما روي عنه يقول في معنى ذلك ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس، قوله: (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) قال: الصلاة لأصنامهم. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) } يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لهم: هل تسمع دعاءكم هؤلاء الآلهة إذ تدعونهم؟ واختلف أهل العربية في معنى ذلك: فقال بعض نحويي البصرة معناه: هل يسمعون منكم أو هل يسمعون دعاءكم. فحذف الدعاء، كما قال زُهَير: القائِدُ الخَيْلَ مَنْكُوبًا دَوَابِرُها ... قدْ أُحْكِمَتْ حَكماتِ القِدّ والأبَقا (1) (1) البيت لزهير بن أبي سلمى المزني، من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان (مختار الشعر الجاهلي، بشرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي 248) قال شارحه: الدوابر: الحوافر، أي تأكلها الأرض وتؤثر فيها. (وفي اللسان: دبر) : دابرة الحافر مؤخرة، وقيل: هي التي تلي مؤخر الرسغ. وجمعها: دوابر. (وأحكمت) : جعل لها حكمات. والحكمة: التي تكون على الأنف من الرسن. والقد: ما قطع من الجلد. والأبق: شبه الكتان، وقيل: هو القنب. اهـ. وفي (اللسان: حكم) : والحكمة: حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس وحنكه تمنعه عن مخالفة راكبه وحكم الفرس حكمًا (بفتح الحاء) ، وأحكمه بالحكمة: جعل للجامه حكمة، وكانت العرب تتخذها من القد والأبق، لأن قصدهم الشجاعة، لا الزينة؛ قال زهير: "القائد الخيل.." البيت. يريد قد أحكمت بحكمات القد، وبحكمات الأبق. فحذف الحكمات، وأقام الأبق مكانها. ويروي: "محكومة حكمات القد والأبقا" على اللغتين جميعًا. قال أبو الحسن: عُدِّي: "قد أحكمت" لأن فيه معنى قلدت، وقلدت متعدية إلى مفعولين، الأزهري: وفرس محكومة في رأسها حكمة، وأنشد * محكوكة حكمات القد والأبق * ابن شميل: الحكمة: خلقة تكون في فم الفرس. وقال: يريد أحكمت حكمات الأبق، فألقى الحكمات وأقام الأبق مُقامها. وقال بعض من أنكر ذلك من قوله من أهل العربية: الفصيح من الكلام في ذلك هو ما جاء في القرآن، لأن العرب تقول: سمعت زيدا متكلما، يريدون: سمعت كلام زيد، ثم تعلم أن السمع لا يقع على الأناسيّ. إنما يقع على كلامهم ثم يقولون: سمعت زيدا: أي سمعت كلامه. قال: ولو لم يقدم في بيت زهير حكمات القدّ لم يجز أن يسبق بالأبق عليها، لأنه لا يقال: رأيت الأبق، وهو يريد الحكمة. وقوله: (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) يقول: أو تنفعكم هذه الأصنام، فيرزقونكم شيئا على عبادتكموها، أو يضرّونكم فيعاقبونكم على ترككم عبادتها بأن يسلبوكم أموالكم، أو يهلكوكم إذا هلكتم وأولادكم (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) . وفي الكلام متروك استغني بدلالة ما ذكر عما ترك، وذلك جوابهم إبراهيم عن مسألته إياهم: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) فكان جوابهم إياه: لا ما يسمعوننا إذا دعوناهم، ولا ينفعوننا ولا يضرّون، يدل على أنهم بذلك أجابوه. قولهم: (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) وذلك رجوع عن مجحود، كقول القائل: ما كان كذا بل كذا وكذا، ومعنى قولهم: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) وجدنا من قبلنا ولا يضرّون، يدّل على أنهم بذلك أجابوه، قولهم من آبائنا يعبدونها ويعكفون عليها لخدمتها وعبادتها، فنحن نفعل ذلك اقتداء بهم، واتباعا لمنهاجهم. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) } يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لقومه: أفرأيتم أيها القوم ما كنتم تعبدون من هذه الأصنام أنتم وآباؤكم الأقدمون، يعني بالأقدمين: الأقدمين من الذين كان إبراهيم يخاطبهم، وهم الأوّلون قبلهم ممن كان على مثل ما كان عليه الذين كلمهم إبراهيم من عبادة الأصنام (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) . يقول قائل: وكيف يوصف الخشب والحديد والنحاس بعداوة ابن آدم؟ فإن معنى ذلك: فإنهم عدوّ لي لو عبدتهم يوم القيامة، كما قال جلّ ثناؤه (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) . وقوله: (إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ) نصبا على الاستثناء، والعدوّ بمعنى الجمع، ووحد لأنه أخرج مخرج المصدر، مثل القعود والجلوس. ومعنى الكلام: أفرأيتم كل معبود لكم ولآبائكم، فإني منه بريء لا أعبده، إلا رب العالمين. القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) } يقول: فإنهم عدوّ لي إلا ربّ العالمين (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) للصواب من القول والعمل، ويسددني للرشاد. (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) يقول: والذي يغذوني بالطعام والشراب، ويرزقني الأرزاق (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) يقول: وإذا سقم جسمي واعتل، فهو يبرئه ويعافيه. القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) } يقول: والذي يميتني إذا شاء ثم يحييني إذا أراد بعد مماتي. (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) فربي هذا الذي بيده نفعي وضرّي، وله القدرة والسلطان، وله الدنيا والآخرة، لا الذي لا يسمع إذا دعي، ولا ينفع ولا يضرّ. وإنما كان هذا الكلام من إبراهيم احتجاجا على قومه، في أنه لا تصلح الألوهة، ولا ينبغي أن تكون العبودة إلا لمن يفعل هذه الأفعال، لا لمن لا يطيق نفعا ولا ضرّا. وقيل: إن إبراهيم صلوات الله عليه، عني بقوله: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) : والذي أرجو أن يغفر لي قولي: (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وقولي لسارة: إنها أختي. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) قال: قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله: (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وقوله لسارة: إنها أختي، حين أراد فرعون من الفراعنة أن يأخذها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) قال: قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وقوله لسارة: إنها أختي. قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تُمَيلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد نحوه. ويعني بقوله (يَوْمِ الدِّينِ) يوم الحساب، يوم المجازاة. وقد بيَّنا ذلك بشواهده فيما مضى. القول في تأويل قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) } يقول تعالى ذكره مخبرا عن مسألة خليله إبراهيم إياه (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا) يقول: رب هب لي نبوّة. (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) يقول: واجعلني رسولا إلى خلقك، حتى تلحقني بذلك بعداد من أرسلته من رسلك إلى خلقك، وائتمنته على وحيك، واصطفيته لنفسك. وقوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) يقول: واجعل لي في الناس ذكرًا جميلا وثناء حسنا، باقيا فيمن يجيء من القرون بعدي. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة، قوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) قَوْلُهُ (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا) . قال: إن الله فضله بالخُلة حين اتخذه خليلا فسأل الله فقال: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) حتى لا تكذّبني الأمم، فأعطاه الله ذلك، فإن اليهود آمنت بموسى، وكفرت بعيسى، وإن النصارى آمنت بعيسى، وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكلهم يتولى إبراهيم; قالت اليهود: هو خليل الله وهو منا، فقطع الله ولايتهم منه بعد ما أقرّوا له بالنبوّة وآمنوا به، فقال: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ثم ألحق ولايته بكم فقال: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) فهذا أجره الذي عجل له، وهي الحسنة، إذ يقول: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) وهو اللسان الصدق الذي سأل ربه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) قال: اللسان الصدق: الذكر الصدق، والثناء الصالح، والذكر الصالح في الآخرين من الناس، من الأمم. القول في تأويل قوله تعالى: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) } يعني إبراهيم صلوات الله عليه بقوله: (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أورثني يا ربّ من منازل من هلك من أعدائك المشركين بك من الجنة، وأسكني ذلك. (وَاغْفِرْ لأبِي) يقول: واصفح لأبي عن شركه بك، ولا تعاقبه عليه (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) يقول: إنه كان ممن ضل عن سبيل الهدى، فكفر بك. وقد بيَّنا المعنى الذي من أجله استغفر إبراهيم لأبيه صلوات الله عليه، واختلاف أهل العلم في ذلك، والصواب عندنا من القول فيه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقوله: (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) يقول: ولا تذلني بعقابك إياي يوم تبعث عبادك من قبورهم لموقف القيامة. (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ) يقول: لا تخزني يوم لا ينفع من كفر بك وعصاك في الدنيا مال كان له في الدنيا، ولا بنوه الذين كانوا له فيها، فيدفع ذلك عنه عقاب الله إذا عاقبه، ولا ينجيه منه. وقوله: (إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) يقول: ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع إلا القلب السليم. والذي عني به من سلامة القلب في هذا الموضع: هو سلامة القلب من الشكّ في توحيد الله، والبعث بعد الممات. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن عون، قال: قلت لمحمد: ما القلب السليم؟ قال: أن يعلم أن الله حقّ، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد: (إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قال: لا شك فيه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قال: ليس فيه شكّ في الحقّ. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قال: سليم من الشرك. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قال: سليم من الشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد. حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن جوبير، عن الضحاك، في قول الله: (إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قال: هو الخالص. القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) } يعني جلّ ثناؤه بقوله: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) وأدنيت الجنة وقرّبت للمتقين، الذين اتقوا عقاب الله في الآخرة بطاعتهم إياه في الدنيا (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ) يقول: وأظهرت النار للذين غووا فضلوا عن سواء السبيل. (وقيل لِلْغَاوِينَ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) من الأنداد (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) اليوم من الله، فينقذونكم من عذابه (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) لأنفسهم، فينجونها مما يُرَاد بها؟. وقوله: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ) يقول: فرمي ببعضهم في الجحيم على بعض، وطرح بعضهم على بعض منكبين على وجوههم. وأصل كبكبوا: كببوا، ولكن الكاف كرّرت كما قيل: (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) يعني به صرّ، ونهنهني يُنهنهَني، يعني به: نههني. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال. ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (فكبكبوا) قال: فدهوروا. حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا) يقول: فجمعوا فيها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فى قوله: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا) قال: طرحوا فيها. فتأويل الكلام: فكبكب هؤلاء الأنداد التي كانت تعبد من دون الله في الجحيم والغاوون. وذُكر عن قَتادة أنه كان يقول: الغاوون في هذا الموضع. الشياطين. * ذكر الرواية عمن قال ذلك: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ) قال: الغاوون: الشياطين. فتأويل الكلام على هذا القول الذي ذكرنا عن قتادة. فكبكب فيها الكفار الذين كانوا يعبدون من دون الله الأصنام والشياطين. وقوله: (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) يقول: وكبكب فيها مع الأنداد والغاوين جنود إبليس أجمعون. وجنوده: كل من كان من تباعه، من ذرّيته كان أو من ذرّية آدم. القول في تأويل قوله تعالى: قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء الغاوون والأنداد التي كانوا يعبدونها من دون الله وجنود إبليس، وهم في الجحيم يختصمون. (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول: تالله لقد كنا في ذهاب عن الحقّ، إن كنا لفي ضلال مبين، يبين ذهابنا ذلك عنه عن نفسه، لمن تأمله وتدبره، أنه ضلال وباطل. وقوله: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) يقول الغاوون للذين يعبدونهم من دون الله: تالله إن كنا لفي ذهاب عن الحقّ حين نعدلكم برب العالمين فنعبدكم من دونه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: لتلك الآلهة. القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) } يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء الغاوين في الجحيم: (وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ) يعني بالمجرمين إبليس، وابن آدم الذي سنّ القتل. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عكرمة، قوله: (وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ) قال: إبليس وابن آدم القاتل. وقوله (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ) يقول: فليس لنا شافع فيشفع لنا عند الله من الأباعد، فيعفو عنا، وينجينا من عقابه. (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) من الأقارب. واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بالشافعين، وبالصديق الحميم، فقال بعضهم: عني بالشافعين: الملائكة، وبالصديق الحميم: النسيب. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ) قال: من الملائكة (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) قال: من الناس، قال مجاهد: صديق حميم، قال: شقيق. وقال آخرون: كل هؤلاء من بني آدم. * ذكر من قال ذلك: حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا إسحاق بن سعيد البصري المسمعي، عن أخيه يحيى بن سعيد المسمعي، قال: كان قَتادة إذا قرأ: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) قال: يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحا نفع، وأن الحميم إذا كان صالحا شفع. وقوله (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يقول: فلو أن لنا رجعة إلى الدنيا فنؤمن بالله فنكون بإيماننا به من المؤمنين. القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) } يقول تعالى ذكره: إن فيما احتجّ به إبراهيم على قومه من الحجج التي ذكرنا له لدلالة بينة واضحة لمن اعتبر، على أن سنة الله في خلقه الذين يستنون بسنة قوم إبراهيم من عبادة الأصنام والآلهة، ويقتدون بهم في ذلك ما سنّ فيهم في الدار الآخرة، من كبكبتهم وما عبدوا من دونه مع جنود إبليس في الجحيم، وما كان أكثرهم في سابق علمه مؤمنين. وإن ربك يا محمد لهو الشديد الانتقام ممن عبد دونه، ثم لم يتب من كفره حتى هلك، الرحيم بمن تاب منهم أن يعاقبه على ما كان سلف منه قبل توبته من إثم وجرم. القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) } يقول تعالى ذكره: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) رسل الله الذين أرسلهم إليهم لما (قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) فتحذروا عقابه على كفركم به، وتكذيبكم رسله. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من الله (أمِينٌ) على وحيه إلي، برسالته إياي إليكم. القول في تأويل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) } يقول تعالى ذكره: فاتقوا عقاب الله أيها القوم على كفركم به، وأطيعوني في نصيحتي لكم، وأمري إياكم باتقائه. (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) يقول: وما أطلب منكم على نصيحتي لكم وأمري إياكم باتقاء عقاب الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم، من ثواب ولا جزاء (إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) دونكم ودون جميع خلق الله، فاتقوا عقاب الله على كفركم به، وخافوا حلول سخطه بكم على تكذيبكم رسله، وأطيعون: يقول: وأطيعوني في نصيحتي لكم، وأمري إياكم بإخلاص العبادة لخالقكم. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) } يقول تعالى ذكره: قال قوم نوح له مجيبيه عن قيله لهم: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) قالوا: أنؤمن لك يا نوح، ونقرّ بتصديقك فيما تدعونا إليه، وإنما اتبعك منا الأرذلون دون ذوي الشرف وأهل البيوتات. (قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قال نوح لقومه: وما علمي بما كان أتباعي يعملون، إنما لي منهم ظاهر أمرهم دون باطنه، ولم أكَلَّفْ علم باطنهم، وإنما كلّفت الظاهر، فمن أظهر حسنا ظننت به حسنا، ومن أظهر سيئا ظننت به سيئا. يقول: إن حساب باطن أمرهم الذي خفي عني إلا على ربي لو تشعرون، فإنه يعلم سرّ أمرهم وعلانيته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) قال: هو أعلم بما في نفوسهم. القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) } يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه: وما أنا بطارد من آمن بالله واتبعني على التصديق بما جئت به من عند الله. (إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ) يقول: ما أنا إلا نذير لكم من عند ربكم أنذركم بأسه، وسطوته على كفركم به مبين: يقول: نذير قد أبان ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشعراء الحلقة (1087) صــ 371 لى صــ 380 لكم إنذاره، ولم يكتمكم نصيحته. (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) يقول: قال لنوح قومه: لئن لم تنته يا نوح عما تقول، وتدعو إليه، وتعيب به آلهتنا، لتكوننّ من المشتومين، يقول: لنشتمك. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) } يقول تعالى ذكره: قال نوح: (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) فيما أتيتهم به من الحقّ من عندك، وردّوا عليّ نصيحتي لهم. (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا) يقول: فاحكم بيني وبينهم حكما من عندك تهلك به المبطل، وتنتقم به ممن كفر بك وجحد توحيدك، وكذب رسولك. كما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا) قال: فاقض بيني وبينهم قضاء. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا) قال: يقول: اقض بيني وبينهم. (ونجني) يقول: ونجني من ذلك العذاب الذي تأتي به حكما بيني وبينهم. (وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يقول: والذين معي من أهل الإيمان بك والتصديق لي. وقوله (فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) يقول: فأنجينا نوحا ومن معه من المؤمنين -حين فتحنا بينهم وبين قومهم، وأنزلنا بأسنا بالقوم الكافرين- في الفلك المشحون، يعني في السفينة الموقرة المملوءة. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) قال: يعني الموقر. حدثنا محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا الحسين بن الحسن الأشقر، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: (المشحون) : الموقر. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) قال: المفروغ منه المملوء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: (المشحون) المفروغ منه تحميلا. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قول الله: (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) قال: هو المحمل. وقوله: (ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ) من قومه الذين كذبوه، وردوا عليه النصيحة. القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) } يقول تعالى ذكره: إن فيما فعلنا يا محمد بنوح ومن معه من المؤمنين في الفلك المشحون، حين أنزلنا بأسنا وسطوتنا، بقومه الذين كذبوه، لآية لك ولقومك المصدّقيك منهم والمكذّبيك، في أن سنتنا تنجية رسلنا وأتباعهم، إذا نزلت نقمتنا بالمكذبين بهم من قومهم، وإهلاك المكذبين بالله، وكذلك سنتي فيك وفي قومك. (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) يقول: ولم يكن أكثر قومك بالذين يصدّقونك مما سبق في قضاء الله أنهم لن يؤمنوا. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه ممن كفر به، وخالف أمره (الرَّحِيمُ) بالتائب منهم، أن يعاقبه بعد توبته. القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) } يقول تعالى ذكره: (كَذَّبَتْ عَادٌ) رسل الله إليهم. (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) عقاب الله على كفركم به. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من ربي يأمركم بطاعته، ويحذركم على كفركم بأسه، (أَمِينٌ) على وحيه ورسالته. (فَاتَّقُوا اللَّهَ) بطاعته والانتهاء إلى ما يأمركم وينهاكم (وأطيعون) فيما آمركم به من اتقاء الله وتحذيركم سطوته. (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) يقول: وما أطلب منكم على أمري إياكم باتقاء الله جزاء ولا ثوابا. (إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) يقول: ما جزائي وثوابي على نصيحتي إياكم إلا على ربّ العالمين. القول في تأويل قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) } يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) والريع: كل مكان مشرف من الأرض مرتفع، أو طريق أو واد; ومنه قول ذي الرُّمَّة: طِرَاقُ الخَوَافِي مُشْرفٌ فَوْق رِيعَةٍ ... نَدَى لَيْلِه فِي ريشِهِ يَتَرَقْرَقُ (1) وقول الأعشى: وَيهْماءُ قَفْرٍ تَجاوَزْتها ... إذَا خَبَّ فِي رِيعِها آلُهَا (2) (1) البيت لذي الرمة (اللسان: ريع) قال: والريع: الجبل، والجمع أرياع، وريوع، ورياع. وقيل: الواحدة ريعة. والجمع: رياع. وحكى ابن برى عن أبي عبيدة: الريعة: جمع ريع، خلاف قول الجوهري، قال ذو الرمة: * طراق الخوافي واقعًا فوق ريعة * والريع: السبيل، سلك أو لم يسلك. وقوله تعالى: (أتبون بكل ريع آية) . وقرئ: "بكل ريع" ، (بفتح الراء) : قيل في تفسيره: بكل مكان مرتفع. وقيل معناه: بكل فج. والفج: الطريق المتفرج في الجبال خاصة. وقيل: بكل طريق. وقال الفراء: الريع والريع (بكسر الراء وفتحها) لغتان، مثل الرير والرير. اهـ. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة 173) : (بكل ريع) ، وهو الارتفاع من الأرض، والطريق. والجمع أرياع وريعة. قال ذو الرمة: طِرَاقُ الخَوَافي مُشْرِفٌ فَوْقَ رِيعَةٍ ... نَدَى لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَق وفي (اللسان: طرق) : وطائر طراق الريش: إذا ركب بعضه بعضًا. قال ذو الرمة يصف بازيا: طِرَاقُ الخَوَافي وَاقِعٌ فَوْقَ رِيعِه ... نَدَى لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَق ويترقرق: يلمع. وكل شيء له بصيص وتلألؤ فهو رقراق. والخوافي: ما تحت القوادم في الطائر من الريش. والقوادم: جمع قادمة، وهي أربع ريشات طويلة في أول جناحه. (2) البيت نسبه المؤلف للأعشى (أعشى بني قيس بن ثعلبة) وفي ديوانه طبعة القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين (ص 163- 169) قصيدة من هذا البحر المتقارب ومن القافية نفسها، عدتها 47 بيتًا، يمدح بها إياس بن قبيصة الطائي. ولكن البيت سقط منها في نسخة الديوان، ولعله يوجد في نسخ أخرى منه قديمة واليهماء القازة لا ماء بها ولا أنيس وخب تحرك واضطراب والريع قد فسرناه في الشاهد قبل هذا، ونقلنا كلام العلماء والآل السراب وخب السراب أي تحرك ولمع وهذا الشاهد كالذي قبله يريد المؤلف أنه كل مكان مشرف من الأرض مرتفع، أو طريق أو واد وفيه لغتان ريع وريع بكسر الراء وفتحها كما قال، وكما قال غيره من أهل اللغة. وفيه لغتان: ريع ورَيع بكسر الراء وفتحها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) يقول: بكلّ شرف. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (بِكُلِّ رِيعٍ) قال: فجّ. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) قال: بكل طريق. حدثني سليمان بن عبيد الله الغيلاني، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا مسلم بن خالد، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) قال: الريع: الثنية الصغيرة. حدثني يونس، قال: أخبرنا يحيى بن حسان، عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال عكرمة: (بِكُلِّ رِيعٍ) قال: فجّ وواد، قال: وقال مجاهد (بِكُلِّ رِيعٍ) بين جبلين. قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) قال: شرف ومنظر. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، في قوله: (بِكُلِّ رِيعٍ) قال: بكلّ طريق. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (بِكُلِّ رِيعٍ) بكلّ طريق. ويعني بقوله (آية) بنيانا، علما. وقد بينا في غير موضع من كتابنا هذا، أن الآية هي الدلالة والعلامة بالشواهد المغنية عن إعادتها في هذا الموضع. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في ألفاظهم في تأويله. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) قال: الآية: علم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) قال: آية: بنيان. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: (آية) : بنيان. حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، في قوله: (بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) قال: بنيان الحمام. وقوله: (تعبثون) قال: تلعبون. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (تعبثون) قال: تلعبون. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك، يقول في قوله: (تعبثون) قال: تلعبون. وقوله: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ) اختلف أهل التأويل في معنى المصانع، فقال بعضهم: هي قصور مشيدة. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ) قال: قصور مشيدة، وبنيان مخلد. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: (مصانع) : قصور مشيدة وبنيان. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن مجاهد، قال: (مصانع) يقول: حصون وقصور. حدثني يونس، قال: أخبرنا يحيى بن حسان، عن مسلم، عن رجل، عن مجاهد، قوله: (مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) قال: أبرجة الحمام. وقال آخرون: بل هي مآخذ للماء. * ذكر من قال ذلك: حدثني الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (مصانع) قال: مآخذ للماء. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن المصانع جمع مصنعة، والعرب تسمي كل بناء مصنعة، وجائز أن يكون ذلك البناء كان قصورًا وحصونا مشيدة، وجائز أن يكون كان مآخذ للماء، ولا خبر يقطع العذر بأيّ ذلك كان، ولا هو مما يدرك من جهة العقل. فالصواب أن يقال فيه، ما قال الله: إنهم كانوا يتخذون مصانع. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) يقول: كأنكم تخلدون، فتبقون في الأرض. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) يقول: كأنكم تخلدون. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: قال في بعض الحروف (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ) كأنكم تخلدون. وكان ابن زيد يقول: "لعلكم" في هذا الموضع استفهام. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) قال: هذا استفهام، يقول: لعلكم تخلدون حين تبنون هذه الأشياء؟. وكان بعض أهل العربية يزعم أن لعلكم في هذا الموضع بمعنى "كيما" . وقوله: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) يقول: وإذا سطوتم سطوتم قتلا بالسيوف، وضربا بالسياط. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) قال: القتل بالسيف والسياط. القول في تأويل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) } يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه من عاد: اتقوا عقاب الله أيها القوم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم، وانتهوا عن اللهو واللعب، وظلم الناس، وقهرهم بالغلبة والفساد في الأرض، واحذروا سخط الذي أعطاكم من عنده ما تعلمون، وأعانكم به من بين المواشي والبنين، والبساتين والأنهار. (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ) من الله (عَظِيمٍ) . القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) } القول في تأويل قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) } يقول تعالى ذكره: قالت عاد لنبيهم هود صلى الله عليه وسلم: معتدل عندنا وعظك إيانا، وتركك الوعظ، فلن نؤمن لك ولن نصدّقك على ما جئتنا به. وقوله: (إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك; فقرأته عامة قرّاء المدينة سوى أبي جعفر، وعامة قرّاء الكوفة المتأخرين منهم: (إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ) من قبلنا: وقرأ ذلك أبو جعفر، وأبو عمرو بن العلاء: "إنْ هَذَاإلا خَلْقُ الأوّلينَ" بفتح الخاء وتسكين اللام بمعنى: ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأوّلين وأحاديثهم. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، نحو اختلاف القرَّاء في قراءته، فقال بعضهم: معناه: ما هذا إلا دين الأوّلين وعادتهم وأخلاقهم. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ) يقول: دين الأوّلين. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: (إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ) يقول: هكذا خِلْقة الأوّلين، وهكذا كانوا يحيون ويموتون. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما هذا إلا كذب الأوّلين وأساطيرهم. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ) قال: أساطير الأوّلين. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ) قال: كذبهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ) قال: إن هذا إلا أمر الأوّلين وأساطير الأوّلين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن علقمة، عن ابن مسعود: (إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ) يقول: إن هذا إلا اختلاق الأوّلين. قال ثنا يزيد بن هارون، قال. أخبرنا داود، عن الشعبيّ، عن علقمة، عن عبد الله، أنه كان يقرأ (إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ) ويقول شيء اختلقوه. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبيّ، قال: قال علقمة: (إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ) قال: اختلاق الأوّلين. وأولى القراءتين في ذلك بالصواب: قراءة من قرأ (إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ) بضم الخاء واللام، بمعنى: إن هذا إلا عادة الأوّلين ودينهم، كما قال ابن عباس، لأنهم إنما عوتبوا على البنيان الذي كانوا يتخذونه، وبطشهم بالناس بطش الجبابرة، وقلة شكرهم ربهم فيما أنعم عليهم، فأجابوا نبيّهم بأنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك، احتذاء منهم سنة من قبلهم من الأمم، واقتفاء منهم آثارهم، فقالوا: ما هذا الذي نفعله إلا خلق الأوّلين، يعنون بالخلق: عادة الأوّلين. ويزيد ذلك بيانا وتصحيحا لما اخترنا من القراءة والتأويل، قولهم: (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) لأنهم لو كانوا لا يقرُّون بأن لهم ربا يقدر على تعذيبهم، ما قالوا: (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) بل كانوا يقولون: إن هذا الذي جئتنا به يا هود إلا خلق الأوّلين، وما لنا من معذب يعذبنا، ولكنهم كانوا مقرين بالصانع، ويعبدون الآلهة، على نحو ما كان مشركو العرب يعبدونها، ويقولون إنها تقربنا إلى الله زلفى، فلذلك قالوا لهود وهم منكرون نبوته: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) ثم قالوا له: ما هذا الذي نفعله إلا عادة من قبلنا وأخلاقهم، وما الله معذبنا عليه. كما أخبرنا تعالى ذكره عن الأمم الخالية قبلنا، أنهم كانوا يقولون لرسلهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) . القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) } يقول تعالى ذكره: فكذّبت عاد رسول ربهم هودا، والهاء في قوله (فكذبوه) من ذكر هود. (فأهلكناهم) يقول: فأهلكنا عادا بتكذيبهم رسولنا. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) يقول تعالى ذكره: إن في إهلاكنا عادا بتكذيبها رسولها، لعبرة وموعظة لقومك يا محمد، المكذّبيك فيما أتيتهم به من عند ربك. يقول: وما كان أكثر من أهلكنا بالذين يؤمنون في سابق علم الله. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه من أعدائه، (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين به. القول في تأويل قوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) يقول تعالى ذكره: كذّبت ثمود رسل الله، إذ دعاهم صالح أخوهم إلى الله، فقال لهم: ألا تتقون عقاب الله يا قوم على معصيتكم إياه، وخلافكم أمره، بطاعتكم أمر المفسدين في أرض الله. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من الله أرسلني إليكم بتحذيركم عقوبته على خلافكم أمره (أمِينٌ) على رسالته التي أرسلها معي إليكم. (فَاتَّقُوا اللَّهَ) أيها القوم، واحذروا عقابه (وأطيعون) في تحذيري إياكم، وأمر ربكم باتباع طاعته. (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) يقول: وما أسألكم على نصحي إياكم، وإنذاركم من جزاء ولا ثواب. (إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) يقول: إن جزائي وثوابي إلا على ربّ جميع ما في السموات، وما في الأرض، وما بينهما من خلق. القول في تأويل قوله تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) } يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل صالح لقومه من ثمود: أيترككم يا قوم ربكم في هذه الدنيا آمنين، لا تخافون شيئا؟. (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) يقول: في بساتين وعيون ماء. (وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) يعني بالطلع: الكُفُرَّى. واختلف أهل التأويل في معنى قوله (هَضِيمٌ) فقال بعضهم: معناه اليانع النضيج. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) يقول: أينع وبلغ فهو هضيم. وقال آخرون: بل هو المتهشم المتفتت. ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشعراء الحلقة (1088) صــ 381 لى صــ 390 * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) قال محمد بن عمرو في حديثه تهشم هشيما. وقال الحارث: تهشم تهشّما. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عبد الكريم يقول: سمعت مجاهدا يقول في قوله: (وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) قال: حين تطلع يقبض عليه فيهضمه. قال ابن جُرَيج: قال مجاهد: إذا مسّ تهشّم وتفتَّت، قال: هو من الرطب هضيم تقبض عليه فتهضمه. وقال آخرون: هو الرطب اللين. * ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة قوله: (وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) قال: الهضيم: الرطب اللين. وقال آخرون: هو الراكب بعضه بعضا. * ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (طَلْعُهَا هَضِيمٌ) إذا كثر حمل النخلة فركب بعضها بعضا، حتى نقص بعضها بعضا، فهو حينئذ هضيم. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: الهضيم: هو المتكسر من لينه ورطوبته، وذلك من قولهم: هضم فلان حقه: إذا انتقصه وتحيفه، فكذلك الهضم في الطلع، إنما هو التنقص منه من رطوبته ولينه إما بمسّ الأيدي، وإما بركوب بعضه بعضا، وأصله مفعول صرف إلى فعيل. وقوله: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) يقول تعالى ذكره: وتتخذون من الجبال بيوتا. واختلفت القرّاء في قراءة قوله (فارهين) فقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة: (فارهين) بمعنى: حاذقين بنحتها. وقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة: "فَرِهِينَ" بغير ألف، بمعنى: أشرين بطرين. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على نحو اختلاف القرّاء في قراءته، فقال بعضهم: معنى فارهين: حاذقين. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثام، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح وعبد الله بن شدّاد: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) قال أحدهما: حاذقين، وقال الآخر: يتجبرون. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا مروان، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) قال: حاذقين بنحتها. حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فارهين) يقول: حاذقين. وقال آخرون: معنى فارهين: مستفرهين متجبرين. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن عبد الله بن شداد في قوله: "فَرِهِينَ" قال: يتجبرون. قال أبو جعفر: والصواب: فارهين. وقال آخرون ممن قرأه فارهين: معنى ذلك: كيسين. * ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فارهين) قال: كيسين. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد، عن الضحاك أنه قرأ (فارهين) قال: كيسين. وقال آخرون: فرهين: أشرين. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) يقول: أشرين، ويقال: كيسين. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "بيوتا فرهين" قال: شرهين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، بمثله. وقال آخرون: معنى ذلك: أقوياء. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: "وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَرِهِينَ" قال: الفره: القويّ. وقال آخرون في ذلك بما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة، في قوله: "فَرِهِينَ" قال: معجبين بصنيعكم. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قراءة من قرأها (فارهين) وقراءة من قرأ "فَرِهِينَ" قراءتان معروفتان، مستفيضة القراءة بكل واحدة منهما في علماء القرّاء، فبأتيهما قرأ القارئ فمصيب. ومعنى قراءة من قرأ (فارهين) : حاذقين بنحتها، متخيرين لمواضع نحتها، كيسين، من الفراهة. ومعنى قراءة من قرأ "فَرِهِينَ" : مرحين أشرين. وقد يجوز أن يكون معنى فاره وفره واحدا، فيكون فاره مبنيا على بنائه، وأصله من فعل يفعل، ويكون فره صفة، كما يقال: فلان حاذق بهذا الأمر وحذق. ومن الفاره بمعنى المرح قول الشاعر عديّ بن وادع العوفي من الأزد: لا أسْتَكِينُ إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ ... وَلَنْ تَرَانِي بِخَيْرٍ فارِهَ الطَّلَبِ (1) (1) البيت لعدي بن وادع الشاعر الأزدي الأعمى، (كما سماه صاحب معجم الشعراء ص 252) ، وكما في مجاز القرآن لأبي عبيدة (مصورة الجامعة ص 173) قال (وتنحتون من الجبال بيوتًا فارهين) أي مرحين. قال عدي بن وادع العفوي من العفاة بن عمرو بن فهم من الأزد: لا أسْتَكِينُ إذَا مَا أزْمَةٌ أزَمَتْ ... وَلَنْ تَرَاني بِخَيْرٍ فَارِهَ اللَّبَبِ أي مرح اللبب. قال: ويجوز: "فرهين" في معنى "فارهين" . أو هو ابن وادع العوفي، كما في (اللسان: فره) قال: الفاره: الحاذق بالشيء والفروهة والفراهة والفراهية: النشاط. وفره بالكسر: أشر وبطر، ورجل فره نشيط أشر. وفي التنزيل: (وتنحتون من الجبال بيوتًا فرهين) . فمن قرأه كذلك، فهو من هذا: شرهين بطرين. ومن قرأه: "فارهين" ، فهو من فره بالضم. قال ابن برى عند هذا الموضع: قال ابن وادع العوفي: لا أستكين إذا ما أزمة أزمت ... ولن تراني بخير فاره الطلب قال الفراء: معنى فارهين: حاذقين. اهـ. وأما "اللبب" في رواية أبي عبيدة، فلعلها الرواية الصحيحة. ومعناه: البال. يقال: إنه لرخى اللبب. وفي التهذيب: فلان في بال رخى، ولبب رخى: أي في سعة وخصب وأمن. أي مرح الطلب. وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) يقول تعالى ذكره: فاتقوا عقاب الله أيها القوم على معصيتكم ربكم، وخلافكم أمره، وأطيعون في نصيحتي لكم، وإنذاري إياكم عقاب الله ترشدوا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) } يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل صالح لقومه من ثمود: لا تطيعوا أيها القوم أمر المسرفين على أنفسهم في تماديهم في معصية الله، واجترائهم على سخطه، وهم الرهط التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض، ولا يصلحون من ثمود الذين وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) يقول: الذين يسعون في أرض الله بمعاصيه، ولا يصلحون، يقول: ولا يصلحون أنفسهم بالعمل بطاعة الله. وقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه إنما أنت من المسحورين. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) قال: من المسحورين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتاده، في قوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) قال: إنما أنت من المسحورين. وقال آخرون: معناه: من المخلوقين. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عبيد، قال: ثنا موسى بن عمرو، عن أبي صالح، عن ابن عباس، في قوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) قال: من المخلوقين. واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك، فكان بعض أهل البصرة يقول: كل من أكل من إنس أو دابة فهو مسحر، وذلك لأن له سحرا يقري ما أكل فيه، واستشهد على ذلك بقول لبيد: فَإِنْ تَسْأَلينا فِيمَ نَحْنُ فإنَّنا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الأنامِ المُسَحَّر (1) وقال بعض نحويي الكوفيين نحو هذا، غير أنه قال: أخذ من قولك: انتفخ سحرك: أي أنك تأكل الطعام والشراب، فتُسَحَّر به وتعلل. وقال: معنى قول لبيد: "من هذا الأنام المسحر" : من هذا الأنام المعلل المخدوع. قال: ويُروى أن السحر من ذلك، لأنه كالخديعة. (1) سبق الاستشهاد ببيت لبيد هذا في (15: 96) وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة الورقة 174) قال: وكل من أكل من إنس أو دابة فهو مسحر، وذلك أن له سحرًا يقرى فيه ما أكل، قال لبيد (وأنشد البيت) . وفي (اللسان: سحر) / سحره بالطعام والشراب يسحره سحرًا، وسحره: غذاه وعلله. وقيل: خدعه. والسحر: الغذاء. قال امرؤ القيس: أرَانَا مُوضِعِينَ لأَمْرِ غَيْبٍ ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالْشَّرَابِ موضعين: مسرعين. ولأمر غيب: يريد الموت وأنه قد غيب عنا وقته، ونحن نلهى عنه بالطعام والشراب والسحر: الخديعة. وقول لبيد: "فإن تسألينا.." البيت. يكون على وجهين. وقوله تعالى: (إنما أنت من المسحرين) يكون من التغذية ومن الخديعة وقال الفراء: (إنما أنت من المسحرين) : قالوا لنبي الله: لست بملك، إنما أنت بشر مثلنا. قال: والمسحر: المجوف؛ كأنه أعلم، أخذ من قولك: انتفخ سحرك، أي أنك تأكل الطعام والشراب، فتعلل به. وقيل: (من المسحرين) أي: ممن سحر مرة بعد مرة. والصواب من القول في ذلك عندي: القول الذي ذكرته عن ابن عباس، أن معناه: إنما أنت من المخلوقين الذين يعللون بالطعام والشراب مثلنا، ولست ربا ولا ملكا فنطيعك، ونعلم أنك صادق فيما تقول. والمسحر: المفعل من السحرة، وهو الذي له سحرة. القول في تأويل قوله تعالى: {مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) } يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل ثمود لنبيها صالح: (مَا أَنْتَ يَاصَالِحُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا) من بني آدم، تأكل ما نأكل، وتشرب ما نشرب، ولست بربّ ولا ملك، فعلام نتبعك؟ فإن كنت صادقا في قيلك، وأن الله أرسلك إلينا (فَأْتِ بِآيَةٍ) يعني: بدلالة وحجة على أنك محقّ فيما تقول، إن كنت ممن صدقنا في دعواه أن الله أرسله إلينا. وقد حدثنا أحمد بن عمرو البصري، قال: ثنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: ثنا داود بن أبي الفرات، قال: ثنا علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن صالحا النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه الله إلى قومه، فآمنوا به واتبعوه، فمات صالح، فرجعوا عن الإسلام، فأتاهم صالح، فقال لهم: أنا صالح، قالوا: إن كنت صادقا فأتنا بآية، فأتاهم بالناقة، فكذبوه وعقروها، فعذّبهم الله. وقوله: (قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يقول تعالى ذكره: قال صالح لثمود لما سألوه آية يعلمون بها صدقه، فأتاهم بناقة أخرجها من صخرة أو هضبة: هذه ناقة يا قوم، لها شرب ولكم مثله شرب يوم آخر معلوم، ما لكم من الشرب، ليس لكم في يوم وردها أن تشربوا من شربها شيئا، ولا لها أن تشرب في يومكم مما لكم شيئا. ويعني بالشرب: الحظّ والنصيب من الماء، يقول: لها حظّ من الماء، ولكم مثله، والشُّرْب والشَّرْب والشِّرْب مصادر كلها بالضم والفتح والكسر. وقد حُكي عن العرب سماعا: آخرها أقلها شُربا وشِربا. وقوله: (وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ) يقول: لا تمسوها بما يؤذيها من عقر وقتل ونحو ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، في قوله: (وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ) لا تعقروها. وقوله: (فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يقول: فيحل بكم من الله عذاب يوم عظيم عذابه. القول في تأويل قوله تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) } يقول تعالى ذكره، فخالفت ثمود أمر نبيها صالح صلى الله عليه وسلم، فعقروا الناقة التي قال لهم صالح: لا تمسوها بسوء، فأصبحوا نادمين على عقرها، فلم ينفعهم ندمهم، وأخذهم عذاب الله الذي كان صالح توعدهم به فأهلكهم. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) يقول: إنّ في إهلاك ثمود بما فعلت من عقرها ناقة الله وخلافها أمر نبي الله صالح لعبرة لمن اعتبر به يا محمد من قومك. (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) يقول: ولن يؤمن أكثرهم في سابق علم الله. (وَإِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (لَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه من أعدائه (الرَّحِيمُ) بمن آمن به من خلقه. القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) } يقول تعالى ذكره: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ) من أرسله الله إليهم من الرسل حين (قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ) الله أيها القوم. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من ربكم (أمِينٌ) على وحيه، وتبليغ رسالته. (فَاتَّقُوا اللَّهَ) في أنفسكم، أن يحلّ بكم عقابه على تكذيبكم رسوله (وأطيعون) فيما دعوتكم إليه أهدكم سبيل الرشاد. (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ) من أجر يقول: وما أسألكم على نصيحتي لكم ودعايتكم إلى ربي جزاء ولا ثوابا. يقول: ما جزائي على دعايتكم إلى الله، وعلى نصحي لكم وتبليغ رسالات الله إليكم، إلا على ربّ العالمين. القول في تأويل قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) } يعني بقوله: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) : أتنكحون الذكران من بني آدم في أدبارهم. وقوله: (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) يقول: وتدعون الذي خلق لكم ربكم من أزواجكم من فروجهنّ، فأحله لكم. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: "وَتَذَرُونَ ما أصْلَحَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أزْوَاجِكُمْ" . وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) قال: تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال وأدبار النساء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد بنحوه. وقوله: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) يقول: بل أنتم قوم تتجاوزون ما أباح لكم ربكم، وأحله لكم من الفروج إلى ما حرّم عليكم منها. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) قال: قوم معتدون. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) } يقول تعالى ذكره: قال قوم لوط: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ) عن نهينا عن إتيان الذكران (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) من بين أظهرنا وبلدنا. (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ) يقول لهم لوط: إني لعملكم الذي تعملونه من إتيان الذكران في أدبارهم من القالين، يعني من المبغضين، المنكرين فعله. القول في تأويل قوله تعالى: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) } يقول تعالى ذكره: فاستغاث لوط حين توعده قومه بالإخراج من بلدهم إن هو لم ينته عن نهيهم عن ركوب الفاحشة، فقال (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي) من عقوبتك إياهم على ما يعملون من إتيان الذكران. (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ) من عقوبتنا التي عاقبنا بها قوم لوط (أَجْمَعِينَ إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ) يعني في الباقين، لطول مرور السنين عليها، فصارت هرمة، فإنها أهلكت من بين أهل لوط، لأنها كانت تدلّ قومها على الأضياف. وقد قيل: إنما قيل من الغابرين لأنها لم تهلك مع قومها في قريتهم، وأنها إنما أصابها الحجر بعد ما خرجت عن قريتهم مع لوط وابنتيه، فكانت من الغابرين بعد قومها، ثم أهلكها الله بما أمطر على بقايا قوم لوط من الحجارة، وقد بيَّنا ذلك فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادتها. القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) } يقول تعالى ذكره: ثم أهلكنا الآخرين من قوم لوط بالتدمير. (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا) وذلك إرسال الله عليهم حجارة من سجيل من السماء. (فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) يقول: فبئس ذلك المطر مطر القوم الذين أنذرهم نبيهم فكذّبوه. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) يقول تعالى ذكره: إن في إهلاكنا قوم لوط الهلاك الذي وصفنا بتكذيبهم رسولنا، لعبرة وموعظة لقومك يا محمد، يتعظون بها في تكذيبهم إياك، وردهم عليك ما جئتهم به من عند ربك من الحقّ (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) في سابق علم الله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) بمن آمن به القول في تأويل قوله تعالى: كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) يقول تعالى ذكره: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ) . والأيكة: الشجر الملتفّ، وهي واحدة الأيك، وكل شجر ملتفّ فهو عند العرب أيكة; ومنه قول نابغة بني ذبيان: تَجْلُو بِقادمَتَيْ حَمَامَةِ أيْكَةٍ ... بَرَدًا أُسِفّ لِثاتُهُ بالإثْمِدِ (1) وأصحاب الأيكة: هم أهل مدين فيما ذُكر. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) يقول: أصحاب الغيضة. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) قال: الأيكة: مجمع الشجر. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس، قوله: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) قال: أهل مدين، والأيكة: الملتف من الشجر. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) قال: الأيكة: الشجر، بعث الله شعيبا إلى قومه من أهل مدين، وإلى أهل البادية، قال: وهم أصحاب ليكة، وليكة والأيكة: واحد. وقوله (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) يقول تعالى ذكره: قال لهم شعيب: (1) البيت للنابغة الذبياني زياد بن معاوية (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 185) قال شارحه: تجلو: تكشف. والقوادم: الريش المقدم في جناح الطائر. ويكون شديد السواد. شبه سواد شفتيها بالقوادم؛ وشبه بياض ثغرها ببياض البرد. واللثاث: مغارز الأسنان، ومن عاداتهم أن يذروا عليها الإثمد، ليبين بياض الأسنان. اهـ. والأيكة: الشجر الكثير الملتف. وقيل: هي الغيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر. وخص بعضهم به منبت الأثل ومجتمعه. وقال أبو حنيفة الدينوري: قد تكون الأيكة: الجماعة من الشجر، حتى من النخل. قال: والأول أعرف. والجمع أيك. ![]()
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشعراء الحلقة (1089) صــ 391 لى صــ 400 ألا تتقون عقاب الله على معصيتكم ربكم؟. (إِنِّي لَكُمْ مِنَ اللَّهِ رَسُولٌ أَمِينٌ) على وحيه. (فاتقوا) عقاب (الله) على خلافكم أمره (وأطيعون) ترشدوا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) } يقول: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ) على نصحي لكم من جزاء وثواب، ما جزائي وثوابي على ذلك (إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ) . يقول: أوفوا الناس حقوقهم من الكيل. (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) يقول: ولا تكونوا ممن نقصهم حقوقهم. القول في تأويل قوله تعالى: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ (183) } يعني بقوله (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ) وزنوا بالميزان (الْمُسْتقِيمِ) الذي لا بخس فيه على من وزنتم له. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم في الكيل والوزن. (وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ) يقول: ولا تكثروا في الأرض الفساد. قد بيَّنا ذلك كله بشواهده، واختلاف أهل التأويل فيه فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) } يقول تعالى ذكره: (واتقوا) أيها القوم عقاب ربكم (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ الْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ) يعني بالجبلة: الخلق الأوّلين. وفي الجبلة للعرب لغتان: كسر الجيم والباء وتشديد اللام، وضم الجيم والباء وتشديد اللام; فإذا نزعت الهاء من آخرها كان الضم في الجيم والباء أكثر كما قال جلّ ثناؤه: "وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جُبُلا كَثِيرًا" وربما سكنوا الباء من الجبْل، كما قال أبو ذؤيب: مَنايا يُقَرّبْنَ الحُتُوفَ لأهْلِها ... جِهارًا وَيَسْتَمْتِعْنَ بالأنس الجِبْلِ (1) وبنحو ما قلنا في معنى الجِبِلَّة قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: قوله: (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ) يقول: خلق الأوّلين. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ) قال: الخليقة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ) قال: الخلق الأوّلين، الجبلة: الخلق. وقوله: (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) يقول: قالوا: إنما أنت يا شعيب معلل تعلل بالطعام والشراب، كما نعلل بهما، ولست ملَكا. (وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا) تأكل وتشرب (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) . يقول: وما نحسبك فيما تخبرنا وتدعونا إليه، إلا ممن يكذب فيما يقول، فإن كنت صادقا فيما تقول بأنك رسول الله كما تزعم (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) يعني قطعا من السماء، وهي جمع كِسفة، جمع كذلك كما تجمع تمرة: تمرا (2) . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. (1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي (اللسان: جبل) والمنايا: جمع منية، وهي الموت. والحتوف جمع حتف، وهو الهلاك. والأنس الناس. والجبل: الأمة من الخلق. وفيه لغات، فيكون مثلث الجيم، ساكن الباء. ويكون بضم الجيم والباء وتشديد اللام. قال في اللسان: وحى جبل كثير. قال أبو ذؤيب: "منايا.." البيت. أي كثير. يقول: الناس كلهم متعة للموت، يستمتع بهم. قال ابن برى: ويروى: الجبل، بضم الجيم. قال: وكذا رواه أبو عبيدة. وقول الله عز وجل: (ولقد أضل منكم جبلا كثيرًا) : يقرأ: جبلا (بضم فسكون) عن أبي عمرو وجبلا (بضمتين) عن الكسائي. وجبلا (بكسر فسكون) عن الأعرج وعيسى بن عمر. وجبلا (بكسرتين فلام مشددة) عن أهل المدينة وجبلا (بضمتين مع التشديد) عن الحسن وابن أبي إسحاق قال: ويجوز أيضًا جبل (بكسر ففتح) جمع جبلة (بكسرة فسكون) وهو في جميع هذه الوجوه: خلقًا كثيرًا اهـ. (2) كذا في الأصل وقياس الجمع الأخير على ما قبله ليس بواضح * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (كسفا) يقول: قِطَعا. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) : جانبا من السماء. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) قال: ناحية من السماء، عذاب ذلك الكسف. القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) } يقول تعالى ذكره: قال شعيب لقومه: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) يقول: بأعمالهم هو بها محيط، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم بها جزاءكم. (فكذبوه) يقول: فكذّبه قومه. (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) يعني بالظلة: سحابة ظللتهم، فلما تتاموا تحتها التهبت عليهم نارا، وأحرقتهم، وبذلك جاءت الآثار. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن زيد بن معاوية، في قوله: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) قال: أصابهم حرّ أقلقهم في بيوتهم، فنشأت لهم سحابة كهيئة الظلة، فابتدروها، فلما تتاموا تحتها أخذتهم الرجفة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، في قوله: (عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) قال: كانوا يحفرون الأسراب ليتبردوا فيها، فإذا دخلوها وجدوها أشد حرا من الظاهر، وكانت الظلة سحابة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني جرير بن حازم أنه سمع قتادة يقول: بعث شُعيب إلى أمتين: إلى قومه أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة. وكانت الأيكة من شجر ملتف; فلما أراد الله أن يعذّبهم، بعث الله عليهم حرّا شديدا، ورفع لهم العذاب كأنه سحابة; فلما دنت منهم خرجوا إليها رجاء بردها، فلما كانوا تحتها مطرت عليهم نارا. قال: فذلك قوله: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) . حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثني سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد، قال: ثنا حاتم بن أبي صغيرة، قال: ثني يزيد الباهلي، قال: سألت عبد الله بن عباس، عن هذه الآية: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فقال عبد الله بن عباس: بعث الله عليهم ومدة وحرّا شديدا، فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا البيوت، فدخل عليهم أجواف البيوت، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرابا (1) إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة، فأظلتهم من الشمس، فوجدوا لها بردا ولذة، فنادى بعضهم بعضا، حتى إذا اجتمعوا تحتها، أرسلها الله عليهم نارا. قال عبد الله بن عباس: فذلك عذاب يوم الظلة، (إنه كان عذاب يوم عظيم) . حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: "يَوْمُ الظُّلَّةِ" قال: إظلال العذاب إياهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: (عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) قال: أظلّ العذابُ قوم شُعيب. قال ابن جُرَيج: لما أنزل الله عليهم أوّل العذاب، أخذهم منه حر شديد، فرفع الله لهم غمامة، فخرج إليها طائفة منهم ليستظلوا بها، فأصابهم منها روح وبرد وريح طيبة، فصبّ الله عليهم من فوقهم من تلك الغمامة عذابا، فذلك قوله: (عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) . حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر بن راشد، قال: ثني رجل من أصحابنا، عن بعض العلماء قال: كانوا عطلوا حدّا، فوسع الله عليهم في الرزق، ثم عطلوا حدّا، فوسع الله عليهم في الرزق، ثم عطلوا حدّا، فوسع الله عليهم في الرزق، فجعلوا كلما عطلوا حدّا وسع الله عليهم في الرزق، حتى إذا أراد إهلاكهم سلط الله عليهم حرّا لا يستطيعون أن يتقارّوا، ولا ينفعهم ظل ولا ماء، حتى ذهب ذاهب منهم، فاستظلّ تحت ظلة، فوجد روحا، فنادى أصحابه: هلموا إلى الروح، فذهبوا إليه سراعا، حتى إذا اجتمعوا ألهبها الله عليهم نارا، فذلك عذاب يوم الظلة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن ابن عباس، قال: من حدثك من العلماء ما عذاب يوم الظلة؟ فكذِّبْه. (1) هرابًا: لعله جمع هارب، ولم أجده في اللسان. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) قوم شعيب، حبس الله عنهم الظل والريح، فأصابهم حرّ شديد، ثم بعث الله لهم سحابة فيها العذاب، فلما رأوا السحابة انطلقوا يؤمونها، زعموا يستظلون، فاضطرمت عليهم نارا فأهلكتهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) قال: بعث الله إليهم ظلة من سحاب، وبعث إلى الشمس فأحرقت ما على وجه الأرض، فخرجوا كلهم إلى تلك الظلة، حتى إذا اجتمعوا كلهم، كشف الله عنهم الظلة، وأحمى عليهم الشمس، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى. وقوله: (إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يقول تعالى ذكره: إن عذاب يوم الظلة كان عذاب يوم لقوم شُعيب عظيم. القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) } يقول تعالى ذكره: إن في تعذيبنا قوم شعيب عذاب يوم الظلة، بتكذيبهم نبيهم شعيبا، لآية لقومك يا محمد، وعبرة لمن اعتبر، إن اعتبروا أن سنتنا فيهم بتكذيبهم إياك، سنتنا في أصحاب الأيكة. (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) في سابق علمنا فيهم (وَإِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (لَهُوَ الْعَزِيزُ) فى نقمته ممن انتقم منه من أعدائه (الرَّحِيمُ) بمن تاب من خلقه، وأناب إلى طاعته. القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) } يقول تعالى ذكره: وإنّ هذا القرآن (لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) والهاء في قوله (وإنه) كناية الذكر الذي فى قوله: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ) . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: هذا القرآن. واختلف القرّاء في قراءة قوله (نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ) فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة (نزل) به مخففة (الرُّوحُ الأمِينُ) رفعا بمعنى: أن الروح الأمين هو الذي نزل بالقرآن على محمد، وهو جبريل. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة. (نزل) مشددة الزاي (الرُّوحُ الأمِينُ) نصبا، بمعنى: أن رب العالمين نزل بالقرآن الروح الأمين، وهو جبريل عليه السلام. والصواب من القول فى ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان فى قرّاء الأمصار، متقاربتا المعنى، فأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن الروح الأمين إذا نزل على محمد بالقرآن، لم ينزل به إلا بأمر الله إياه بالنزول، ولن يجهل أن ذلك كذلك ذو إيمان بالله، وأن الله إذا أنزله به نزل. وبنحو الذي قلنا في أن المعني بالروح الأمين في هذا الموضع جبريل قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبى، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس. في قوله: (نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ) قال: جبريل. حدثنا الحسين، قال أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قول الله: (نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ) قال: جبريل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج قال: (الرُّوحُ الأمِينُ) جبريل. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (الرُّوحُ الأمِينُ) قال: جبريل. وقوله (عَلَى قَلْبِكَ) يقول: نزل به الروح الأمين فتلاه عليك يا محمد، حتى وعيته بقلبك. وقوله: (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) يقول: لتكون من رسل الله الذين كانوا ينذرون من أرسلوا إليه من قومهم، فتنذر بهذا التنزيل قومك المكذّبين بآيات الله. وقوله: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) يقول: لتنذر قومك بلسان عربي مبين، يبين لمن سمعه أنه عربي، وبلسان العرب نزل، والباء من قوله (بلسان) من صلة قوله: (نزلَ) ، وإنما ذكر تعالى ذكره أنه نزل هذا القرآن بلسان عربي مبين في هذا الموضع، إعلاما منه مشركي قريش أنه أنزله كذلك، لئلا يقولوا إنه نزل بغير لساننا، فنحن إنما نعرض عنه ولا نسمعه، لأنا لا نفهمه، وإنما هذا تقريع لهم، وذلك أنه تعالى ذكره قال: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) . ثم قال: لم يعرضوا عنه لأنهم لا يفهمون معانيه، بل يفهمونها، لأنه تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين بلسانهم العربيّ، ولكنهم أعرضوا عنه تكذيبا به واستكبارا (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) . كما أتى هذه الأمم التي قصصنا نبأها في هذه السورة حين كذّبت رسلها أنباء ما كانوا به يكذّبون. القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ (201) } يقول تعالى ذكره: وإن هذا القرآن لفي زبر الأوّلين: يعني في كتب الأوّلين، وخرج مخرج العموم ومعناه الخصوص، وإنما هو: وإن هذا القرآن لفي بعض زبر الأوّلين; يعني: أن ذكره وخبره في بعض ما نزل من الكتب على بعض رسله. وقوله: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) يقول تعالى ذكره: أولم يكن لهؤلاء المعرضين عما يأتيك يا محمد من ذكر ربك، دلالةٌ على أنك رسول رب العالمين، أن يعلم حقيقة ذلك وصحته علماء بني إسرائيل. وقيل: عني بعلماء بني إسرائيل في هذا الموضع: عبد الله بن سلام ومن أشبهه ممن كان قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل في عصره. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) قال: كان عبد الله بن سلام من علماء بنى إسرائيل، وكان من خيارهم، فآمن بكتاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم الله: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل وخيارهم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) قال: عبد الله بن سلام وغيره من علمائهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً) قال محمد: (أَنْ يَعْلَمَهُ) قال: يعرفه. (عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) . قال ابن جُرَيج، قال مجاهد: علماء بني إسرائيل: عبد الله بن سلام، وغيره من علمائهم. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) قال: أولم يكن للنبي آية، علامة أن علماء بني إسرائيل كانوا يعلمون أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم؟. وقوله: (وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ) يقول تعالى ذكره: ولو نزلنا هذا القرآن على بعض البهائم التي لا تنطق، وإنما قيل على بعض الأعجمين، ولم يقل على بعض الأعجميين، لأن العرب تقول إذا نعتت الرجل بالعجمة وأنه لا يفصح بالعربية: هذا رجل أعجم، وللمرأة: هذه امرأة عَجْماء، وللجماعة: هؤلاء قوم عُجْم وأعجمون، وإذا أريد هذا المعنى وصف به العربيّ والأعجمي، لأنه إنما يعني أنه غير فصيح اللسان، وقد يكون كذلك، وهو من العرب ومن هذا المعنى قول الشاعر: مِنْ وَائِلٍ لا حَيَّ يَعْدِلُهُمْ ... مِنْ سُوقَةٍ عَرَبٌ ولا عُجْمُ (1) فأما إذا أريد به نسبة الرجل إلى أصله من العجم، لا وصفه بأنه غير فصيح اللسان، (1) السوقة: الرعية التي تسوسها الملوك. يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث والمذكر. والعجم بضم العين: جمع أعجم. قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة الورقة 175) : يقال: رجل أعجم: إذا كان في لسانه عجمة، ورجل عجمي: أي من العجم. والدواب: عجم، لأنها لا تتكلم. وفي (اللسان: عجم) قال أبو إسحاق: الأعجم: الذي لا يفصح ولا يبين كلامه، وإن كان عربي النسب، كزياد الأعجم. والأنثى: عجماء، وكذلك الأعجمي. فأما العجمي فالذي من جنس العجم: أفصح أو لم يفصح، والجمع: عجم (بالتحريك) كعربي وعرب. ورجل أعجمي وأعجم: إذا كانت في لسانه عجمة، وإن أفصح بالعجمية وكلام أعجم وأعجمي: بين العجمة. وفي لتنزيل: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي) . وجمعه بالواو والنون، تقول: أحمري وأحمرون، وأعجمي وأعجمون، على حد أشعثي وأشعثين وأشعري وأشعرين وعليه قوله عز وجل: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين) فإنه يقال: هذا رجل عجميّ، وهذان رجلان عجميان، وهؤلاء قوم عَجَم، كما يقال: عربيّ، وعربيان، وقوم عرب. وإذا قيل: هذا رجل أعجميّ، فإنما نسب إلى نفسه كما يقال للأحمر: هذا أحمري ضخم، وكما قال العجاج: والدَّهْرُ بالإنسانِ دَوَّارِيُّ (1) ومعناه: دوّار، فنسبه إلى فعل نفسه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن محمد بن أبي موسى، قال: كنت واقفا إلى جنب عبد الله بن مطيع بعرفة، فتلا هذه الآية: (وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) قال: لو نزل على بعيري هذا فتكلم به ما آمنوا به (لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) حتى يفقهه عربيّ وعجميّ، لو فعلنا ذلك. حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت داود بن أبي هند، عن محمد بن أبي موسى، قال: كان عبد الله بن مطيع واقفا بعرفة، فقرأ هذه الآية (وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) قال: فقال: جملي هذا أعجم، فلو أُنزل على هذا ما كانوا به مؤمنين. (1) هذا بيت من مشطور الرجز للعجاج الراجز المشهور (اللسان: دور. وأراجيز العرب للسيد توفيق البكري 174) وهو من أرجوزة له حزينة، بدأها بقوله: بَكَيْتُ وَالْمُحْتَرِنُ البَكِيُّ ... وَإنَّمَا يَأْتي الصّبا الصَّبيُّ أطَرَبَا وَأَنْتَ قِنَّسْرِيُّ ... وَالدَّهْرُ بِالإِنْسَانِ دَوَّارِيُّ أَفْنَى الْقُرُونَ وَهْوَ قَعْسَرِيُّ ... وَبِالدَّهَاءِ يُخْتَلُ المَدْهِيّ يقول: بكيت ومن حزم كان بكاؤك. والقنسري: المسن القديم. ودواري: دائر، أي أنه يتصرف بالإنسان ويدور به أطوارًا وأحوالا. والقعسري: الشديد، يريد الدهر. ومحل الشاهد في قوله: "دواري" قال في اللسان: أي دائر به، على إضافة الشيء إلى نفسه (أي نسبته إلى نفسه، لأن دواري منسوب إلى دوار، فلفظ المنسوب إليه كلفظ المنسوب) . قال ابن سيده: هذا قول اللغويين قال الفارسي هو على لفظ النسب، وليس بنسب، ونظيره بختى وكرسي. وفي (اللسان: عجم) وينسب إلى الأعجم الذي في لسانه عجمة، فيقال: لسان أعجمي، وكتاب أعجمي، ولا يقال رجل أعجمي فتنسب إلى نفسه، إلا أن يكون أعجم وأعجمي بمعنى، مثل دوار ودواري، وجمل قعسر وقعسري؛ هذا إذا ورد وردًا لا يمكن رده. اهـ. ورُوي عن قَتادة في ذلك ما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: (وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ) قال: لو نزله الله أعجميا كانوا أخسر الناس به، لأنهم لا يعرفون بالعجمية. وهذا الذي ذكرناه عن قتادة قول لا وجه له، لأنه وجَّه الكلام أن معناه: ولو أنزلناه أعجميا، وإنما التنزيل (وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ) يعني: ولو نزلنا هذا القرآن العربي علي بهيمة من العجم أو بعض ما لا يفصح، ولم يقل: ولو نزلناه أعجميا. فيكون تأويل الكلام ما قاله. وقوله (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) يقول: فقرأ هذا القرآن على كفار قومك يا محمد الذين حتمت عليهم أن لا يؤمنوا ذلك الأعجم ما كانوا به مؤمنين. يقول: لم يكونوا ليؤمنوا به، لما قد جرى لهم في سابق علمي من الشقاء، وهذا تسلية من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن قومه، لئلا يشتد وجدُه بإدبارهم عنه، وإعراضهم عن الاستماع لهذا القرآن، لأنه كان صلى الله عليه وسلم شديدا حرصه على قبولهم منه، والدخول فيما دعاهم إليه، حتى عاتبه ربه على شدّة حرصه على ذلك منهم، فقال له: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) ثم قال مؤيسه من إيمانهم وأنهم هالكون ببعض مثلاته، كما هلك بعض الأمم الذين قص عليهم قصصهم في هذه السورة. ولو نزلناه على بعض الأعجمين يا محمد لا عليك، فإنك رجل منهم، ويقولون لك: ما أنت إلا بشر مثلنا، وهلا نزل به ملك، فقرأ ذلك الأعجم عليهم هذا القرآن، ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق، وأنه تنزيل من عندي، ما كانوا به مصدقين، فخفض من حرصك على إيمانهم به، ثم وكد تعالى ذكره الخبر عما قد حتم على هؤلاء المشركين، الذين آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من إيمانهم من الشقاء والبلاء، فقال: كما حتمنا على هؤلاء أنهم لا يؤمنون بهذا القرآن (وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ) التكذيب والكفر (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) . ويعني بقوله: سلكنا: أدخلنا، والهاء في قوله (سلكناه) كناية من ذكر قوله (مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) ، كأنه قال: كذلك أدخلنا في قلوب المجرمين ترك الإيمان بهذا القرآن. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ![]()
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء التاسع عشر تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشعراء الحلقة (1090) صــ 401 لى صــ 410 * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ) قال: الكفر (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ) . (1) حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان، عن حميد، عن الحسن، في هذه الآية: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) قال: خلقناه. قال: ثنا زيد، عن حماد بن سلمة، عن حميد، قال: سألت الحسن في بيت أبي خليفة، عن قوله (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) قال: الشرك سلكه في قلوبهم. وقوله: (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ) يقول: فعلنا ذلك؛ بهم لئلا يصدّقوا بهذا القرآن، حتى يروا العذاب الأليم في عاجل الدنيا، كما رأت ذلك الأمم الذين قص الله قصصهم في هذه السورة. ورفع قوله (لا يُؤْمِنُونَ) لأن العرب من شأنها إذا وضعت في موضع مثل هذا الموضع "لا" ربما جزمت ما بعدها، وربما رفعت فتقول: ربطت الفرس لا تنفلتْ، وأحكمت العقد لا ينحلّ، جزما ورفعا. وإنما تفعل ذلك لأن تأويل ذلك: إن لم أحكم العقد انحلّ، فجزمه على التأويل، ورفعه بأن الجازم غير ظاهر. ومن الشاهد على الجزم في ذلك قول الشاعر: لَوْ كُنْتَ إذْ جِئْتَنا حاوَلْتَ رؤْيَتَنا ... أوْ جِئْتنا ماشِيا لا يَعْرِف الفَرَس (2) وقول الآخر: (1) سقط تفسير ابن زيد لما أراد من الآية، ولعله الكفر أو الشرك، أو نحوه، أو مثله. (2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة الورقة 230) قال: وقوله: (كذلك سلكناه) تقول: سلكنا التكذيب في قلوب المجرمين كيلا يؤمنوا به حتى يروا العذاب الأليم. وإذا كان موقع كى في مثل هذا "لا" و "إن" جميعًا، صلح الجزم في "لا" والرفع. والعرب تقول: ربطت الفرس لا ينفلت: جزمًا ورفعًا وأوثقت العبد لا يفر: جزما ورفعًا؛ وإنما جزم، لأن تأويله: إن لم أربطه فر؛ فجزم على التأويل. أنشدني بعض بني عقيل: وَحَتى رَأَيْنَا أَحْسَنَ الْفِعْلِ بَيْنَنَا ... مُسَاكَتَةً لا يَفْرِقُ الشَّرَّ فَارِقُ ينشد رفعًا وجزمًا. وقال الآخر: "لو كنت إذ جئتنا.." البيت: رفعًا وجزمًا، وقوله: "لطالما حلأتماها.." الشاهد الآتي بعد من ذلك. لَطالَمَا حَلأتَمَاها لا تَرِدْ ... فَخَلِّياها والسِّجَالَ تَبْتَرِدْ (1) القول في تأويل قوله تعالى: {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) } يقول تعالى ذكره: فيأتي هؤلاء المكذّبين بهذا القرآن، العذاب الأليم بغتة، يعني فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يقول: لا يعلمون قبل ذلك بمجيئه حتى يفجأهم بغتة. (فيقولوا) حين يأتيهم بغتة (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) : أي هل نحن مؤخَّر عنا العذاب، ومُنْسأ في آجالنا لنئوب، وننيب إلى الله من شركنا وكفرنا بالله، فنراجع الإيمان به، وننيب إلى طاعته؟. وقوله: (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) يقول تعالى ذكره: أفبعذابنا هؤلاء المشركون يستعجلون بقولهم: لن نؤمن لك حتى (تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا) . القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) } (1) البيت في (اللسان: حلأ) . وروايته: قد طالما.. إلخ، قال: حلأ الإبل والماشية عن الماء تحليئًا وتحلئة: طردها أو حبسها عن الورود، ومنعها أن ترده. وكذلك حلأ القوم عن الماء. وقال ابن الأعرابي: قالت قريبة: كان رجل عاشق لمرأة فتزوجها، فجاءها النساء، فقال بعضهن لبعض * قد طالما حلأتماها لا ترد * البيت. والسجال: جمع سجل وهو الدلو الضخمة المملوءة ماء (اللسان) والبيت شاهد كالذي قبله، على أن "لا ترد" يجوز فيه الرفع والجزم على التأويل الذي ذكره الفراء. القول في تأويل قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) } يقول تعالى ذكره: ثم جاءهم العذاب الذي كانوا يوعدون على كفرهم بآياتنا، وتكذيبهم رسولنا. (مَا أَغْنَى عَنْهُمْ) يقول: أي شيء أغنى عنهم التأخير الذي أخرنا في آجالهم، والمتاع الذي متعناهم به من الحياة، إذ لم يتوبوا من شركهم، هل زادهم تمتيعنا إياهم ذلك إلا خبالا؟، وهل نفعهم شيئا؟، بل ضرهم بازديادهم من الآثام، واكتسابهم من الإجرام ما لو لم يمتعوا لم يكتسبوه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ) إلى قوله (مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) قال: هؤلاء أهل الكفر. القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) } يقول تعالى ذكره: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ) من هذه القرى التي وصفت في هذه السور (إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ) يقول: إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم بأسنا على كفرهم وسخطنا عليهم. (ذكرى) يقول: إلا لها منذرون ينذرونهم، تذكرة لهم وتنبيها لهم على ما فيه النجاة لهم من عذابنا. ففي الذكرى وجهان من الإعراب: أحدهما النصب على المصدر من الإنذار على ما بيَّنْتُ، والآخر: الرفع على الابتداء (1) كأنه قيل: ذكرى. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ. ذِكْرَى) قال: الرسل. قال ابن جُرَيج: وقوله: (ذكرى) قال: الرسل. قوله: (وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ) يقول: وما كنا ظالميهم في تعذيبناهم وإهلاكهم، لأنا إنما أهلكناهم، إذ عتوا علينا، وكفروا نعمتنا، وعبدوا غيرنا بعد الإعذار عليهم والإنذار، ومتابعة الحجج عليهم بأن ذلك لا ينبغي أن يفعلوه، فأبوا إلا التمادي في الغيّ. وقوله: (وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ) يقول تعالى ذكره: وما تنزلت بهذا القرآن الشياطين على محمد، ولكنه ينزل به الروح الأمين. (وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ) يقول: وما ينبغي للشياطين أن ينزلوا به عليه، ولا يصلح لهم ذلك. (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) يقول: وما يستطيعون أن يتنزلوا به، لأنهم لا يصلون إلى استماعه في المكان الذي هو به من السماء. (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) يقول: إن الشياطين عن سمع القران من المكان (1) يجوز أن يكون قوله تعالى (ذكرى) مرفوعًا على الابتداء والخبر محذوف، أي ذكرى لهم. ويجوز أن يكون مرفوعًا على أنه خبر عن مبتدأ، تقديره: "هم" أي المنذرون، ذكرى لهم. الذي هو به من السماء لمعزولون، فكيف يستطيعون أن يتنزلوا به. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ) قال: هذا القرآن. وفي قوله (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) قال: عن سمع السماء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، بنحوه، إلا أنه قال: عن سمع القرآن. والقرّاء مجمعة على قراءة (وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ) بالتاء ورفع النون، لأنها نون أصلية، واحدهم شيطان، كما واحد البساتين بستان. وذُكر عن الحسن أنه كان يقرأ ذلك: "وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطُونَ" بالواو، وذلك لحن، وينبغي أن يكون ذلك إن كان صحيحا عنه، أن يكون توهم أن ذلك نظير المسلمين والمؤمنين، وذلك بعيد من هذا. القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَلا تَدْعُ) يا محمد (مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) أي لا تعبد معه معبودا غيره (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) فينزل بك من العذاب ما نزل بهؤلاء الذين خالفوا أمرنا وعبدوا غيرنا. وقوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأنذر عشيرتك من قومك الأقربين إليك قرابة، وحذّرهم من عذابنا أن ينزل بهم بكفرهم. وذُكر أن هذه الآية لما نزلت، بدأ ببني جده عبد المطلب وولده، فحذّرهم وأنذرهم. *ذكر الرواية بذلك: حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا محمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما نزلت هذه الآية: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا صَفِيَّةُ بِنْتَ عِبْدِ المُطَّلِبِ، يا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ إنِّي لا أمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئا، سَلُوني مِنْ مالي ما شِئْتُمْ" . حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي ويونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) قام النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: "يا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، ويا صَفِيَّةُ ابْنَةَ عَبْدِ المُطَّلِبِ" ثم ذكر نحو حديث ابن المقدام. حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا سلامة، قال: قال عقيل: ثني الزهري، قال: قال سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) : "يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئًا، يا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئًا، يا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ الله لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئًا، سَلِينِي ما شِئْتِ، لا أُغْني عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا" . حدثني محمد بن عبد الملك، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) قال: "يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله" ثم ذكر نحو حديث يونس، عن سلامة; غير أنه زاد فيه "يا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ الله لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا" ولم يذكر في حديثه فاطمة. حدثني يونس، قال: ثنا سلامة بن روح، قال: قال عقيل: ثني ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) جمع قريشا، ثم أتاهم، فقال لهم: "هَلْ فِيكُمْ غرِيبٌ؟" فقالوا: لا إلا ابن أخت لنا لا نراه إلا منا، قال: "إنَّهُ منْكُمْ" ، فوعظهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لهم في آخر كلامه: "لا أعْرِفَنَّ مَا وَرَدَ عليَّ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ يَسُوقُونَ الآخِرَةَ، وجِئْتُمْ إليَّ تَسُوقُونَ الدُّنْيا" . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُنزل عليه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) : "يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئًا، يا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئًا، يا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رسُولِ الله لا أغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئًا، يا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي ما شِئْتِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئًا" . حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت الحجاج يحدث، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما أنزل الله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أنْقِذُوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، ألا إنَّ لَكُمْ رَحِمًا سأبلُّها ببلالها" . حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أسامة، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة، قال: لما نزلت هذه الآية: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فعم وخصّ، فقال: "يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله، يا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، يا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، يا مَعْشَرَ بِنِي هاشم، يا مَعْشَرَ بني عَبْدِ المُطَّلِبِ" ، يقول لكلهم: "أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فإني وَاللهِ ما أمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئًا، ألا إنَّ لَكُمْ رَحِمًا سأبلُّها بِبلالها" . حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: ثنا أبو عثمان، عن زهير بن عمرو وقبيصة بن مخارق: أنهما قالا أنزل الله على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) ، فحدثنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه علا صخرة من جبل، فعلا أعلاها حجرا، ثم قال: "يا آل عَبْدِ مَنافاه، يا صَباحاه، إنّي نَذِيرٌ، إنَّ مَثَلِي وَمَثَلَكُمْ مَثَل رَجُلٍ أتى الجَيْشُ، فَخَشِيَهُمْ على أهْلِهِ، فَذَهَبَ يَرْبَؤُهم (1) فَخَشِيَ أنْ يَسْبِقُوهُ إلى أهْلِهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِهِمْ: يا صَبَاحَاهُ" ! أو كما قال. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن قسامة بن زهير، قال: بلغني أنه لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) جاء فوضع أصبعه في أذنه، ورفع من صوته، وقال: "يا بَنِي عَبْدِ مَناف وَاصَبَاحَاهُ" ! قال: ثني أبو عاصم، قال: ثنا عوف، عن قسامة بن زهير، قال: أظنه عن الأشعري، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحوه. حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثنا أبو زيد الأنصاري سعد بن أوس، عن عوف، قال: قال قسامة بن زهير، حدثني الأشعري، قال: لما نزلت، ثم ذكر نحوه; إلا أنه قال: وضع أصبعيه في أذنيه. حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن نُمير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، ثم نادى: "يا صَباحاهُ" ، فاجتمع الناس إليه، فبين رجل يجيء، وبين آخر يبعث رسوله، فقال: "يا بَنِي هَاشِمٍ، يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، يا بَنِي فِهْرٍ، يا بَنِي يا بَنِي، أرَأَيْتَكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلا بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي؟" قالوا: نعم، قال: "فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" فقال أبو لهب: تبا لكم سائر اليوم، ما دعوتموني إلا لهذا؟ فنزلت: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) . حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب، قالا ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا، فقال: "يا صباحاهُ!" فاجتمعت إليه قريش، فقالوا له: (1) يقال ربأ القوم يربؤهم، وربأ لهم إذا وقف على مكان عال، ونظر بعيدًا، يرقب عدوا أو جيشًا مغيرًا، أو نحو ذلك مالك؟ فقال: "أرَأَيْتَكُمْ إنْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ العَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أوْ مُمُسِّيكُمْ ألا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي؟" قالوا: بلى، قال: "فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَاب شَدِيد" . قال أبو لهب: تبا لك، ألهذا دعوتنا أو جمعتنا!، فأنزل الله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) ... إلى آخر السورة. حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: "يا صَباحاهُ!" فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ فقالوا: محمد، فاجتمعوا إليه، فقال: "يا بَنِي فُلان، يا بَنِي فُلان، يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، يا بَنِي عَبْدِ مَنَاف" ، فاجتمعوا إليه، فقال: "أرَأَيْتَكُمْ إنْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلا تَخْرُج بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيّ؟" قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: "فإنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَاب شَدِيدٍ" ، فقال أبو لهب: تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام فنزلت هذه السورة: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) وقد تب، كذا قرأ الأعمش، إلى آخر السورة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو معاوية بن هشام، عن سفيان، عن حبيب، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام على الصفا، فقال: "يا صَباحاهُ" ! قال ثنا خالد بن عمرو، قال: ثنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، فقال: "يا صباحاه!" فجعل يعددهم: "يا بَنِي فُلان، وَيا بَنِي فُلان، ويا بَنِي عَبْدِ مَنَاف" . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عمرو بن مرّة الجَمَليّ، قال: لما نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) قال: أتى جبلا فجعل يهتف: "يا صَباحاهُ" ، فأتاه من خف من الناس، وأرسل إليه المتثاقلون من الناس رسلا فجعلوا يجيئون يتبعون الصوت ; فلما انتهوا إليه قال: "إنَّ مِنْكُمْ مَنْ جَاءَ لِيَنْظُرَ، وَمِنكُمْ مَنْ أرْسَلَ لينظر مَنِ الهاتف" ، فلما اجتمعوا وكثروا قال: "أرَأيتَْكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلا مُصَبِّحَتُكُمْ مِنْ هَذَا الجَبَلِ، أكُنْتُمْ مُصَدِّقيّ؟" قالوا: نعم، ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيَاتِ التي أُنزلْنَ، وأنذرهم كما أمر، فَجَعَلَ ينادي: "يا قُرَيْشُ، يا بَنِي هاشِمٍ" حتى قالَ: "يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، إنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بينَ يَدَيْ عَذَاب شَدَيد" . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عمرو: أنه كان يقرأ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) ورهطك المخلصين. قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، عن عبد الله بن عباس، عن عليّ بن أبي طالب: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: "يا عليُّ، إنَّ الله أمَرَنِي أنْ أُنْذِرْ عَشِيرَتِي الأقْرَبِين" ، قال: "فضقت بذلك ذرعا، وعرفت أنى متى ما أنادهم بهذا الأمر أَرَ منهم ما أكره، فصمتُّ حتى جاء جبرائيل، فقال: يا محمد، إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربك. فاصنع لنا صاعا من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عسا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب، حتى أكلمهم، وأبلغهم ما أمرت به" ، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب; فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به. فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حِذْية من اللحم (1) فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة، قال: "خذوا باسم الله" ، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة، وما أرى إلا مواضع أيديهم; وايم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم، ثم قال: "اسْقِ النَّاسَ" ، فجِئْتُهُمْ بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعا، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله; فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم، بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لَهَدَّ (2) ما سحركم به صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "الغد يا عليّ، إن هَذَا الرَّجُل قدْ سَبَقَنِي إلى ما" (1) في (اللسان: حذا) : أعطيته حذية من لحم، وحذة وفلذة، كل هذا إذا قطع طولا. اهـ. وقيل: هي القطعة الصغيرة. (2) في (اللسان: هد) وفي الحديث "أن أبا لهب قال: لهد ما سحركم صاحبكم" قال لهد: كلمة يتعجب بها، يقال: لهد الرجل: أي ما أجلده. قلت: وهو كقولنا لشد ما قال فلان، أي ما أشد قَدْ سَمِعْتَ مِنَ القَوْلِ، فَتفرّق القوم قبلَ أنْ أُكَلِّمَهُمْ فأعِدَّ لَنا مِنَ الطَّعَامِ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ، ثُمَّ اجْمَعْهُمْ لِي "، قال: ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام، فقرّبته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة، قال:" اسقهم "، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعًا، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:" يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، إنِّي والله ما أعْلَمُ شابا فِي العَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بأفْضَلَ ممَّا جئْتُكُمْ بِهِ، إنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَقَدْ أمَرَنِي الله أنْ أدْعُوكُمْ إلَيْهِ، فَأيُّكُمْ يُؤَازِرُني عَلى هَذَا الأمْرِ، عَلى أنْ يَكُونَ أخِي "وكَذَا وكَذَا؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعا، وقلت وإني لأحدثهم سنا، وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأخمشهم ساقا. أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك، فأخذ برقبتي، ثم قال:" إن هذا أخي "وكذا وكذا،" فاسمعوا له وأطيعوا "، قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع!." حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح، ثم قال: "يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، يا بَنِي عَبْدِ مَناف، يا بَنِي قُصَيّ" ، قال: ثم فخَّذ قريشا قبيلة قبيلة، حتى مرّ على آخرهم، "إنّي أدْعُوكُمْ إلى اللهِ، وأُنْذِرُكُمْ عَذَابَهُ" . حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) قال: أمر محمد أن ينذر قومه، ويبدأ بأهل بيته وفصيلته، قال: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) . حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ولما نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا فاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، يا صَفِيَّهُ بِنْتَ عَبْدِ المُطَّلِبِ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" . حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) بدأ بأهل بيته وفصيلته. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: لما نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم بني هاشم، فقال: "يا" ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 104 ( الأعضاء 0 والزوار 104) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |