«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 19 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4885 - عددالزوار : 1893708 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4453 - عددالزوار : 1219736 )           »          اللغة العربية أصل اللغات كلها كتاب الكتروني رائع (اخر مشاركة : Adel Mohamed - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »          3 ماسكات طبيعية تخلصك من تقصف الشعر.. استعدى لإجازة العيد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 88 )           »          5 ألوان ظلال مناسبة للعيون الزرقاء.. لو محتارة ومش عارفة المناسب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »          طريقة عمل عيش بذور الشيا وبذور الكتان.. خبز صحى ومشبع بدون دقيق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 85 )           »          اعرفى إزاى تختارى الصابون المناسب لنوع بشرتك.. عشان وشك ينور (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          أكلات خفيفة ولذيذة لا تزيد وزنك فى الصيف.. مشعبة وترطب الجسم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 69 )           »          6 سلوكيات مهم تعلمها لأطفالك عشان يتعاملوا بأسلوب راقٍ ومهذب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 81 )           »          6 مشروبات صيفية من غير سكر تديك طاقة وانتعاش (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22-05-2022, 10:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,220
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة: 116، 117].

قوله: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾ قرأ ابن عامر: ﴿ وَقَالُوا ﴾ بغير واو، وقرأ الباقون ﴿ وَقَالُوا ﴾ بالواو.

أي: قال اليهود والنصارى والمشركون ﴿ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾ أي: جعل الله له ولداً، فقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات الله.

كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30]، وقال تعالى عن المشركين: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ [النحل: 57].

وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي: فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي: فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً"[1].

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحد أصبر من الله على أذى يسمعه، إنهم يجعلون لله ندّاً، ويجعلون لله ولداً، وهو يرزقهم ويعافيهم"[2].

"سبحانه" تنزيهاً لنفسه عز وجل عن الولد وعن السبب المقتضي للولد، لأنه عز وجل الغني بذاته، كما قال تعالى: ﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [يونس: 68]، وقال تعالى: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ﴾ [المؤمنون: 91]، وقال تعالى حكاية لقول الجن: ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴾ [الجن: 3].

وقال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 92، 93]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ﴾ [الأنبياء: 26].

وقال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الصمد: 1- 4].

﴿ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة: 116، 117].

نزه عز وجل نفسه عن الولد ثم أبطل دعوى من ادعى ذلك ببيان عظمته وغناه عن خلقه وعدم حاجته إلى ولد، فله ما في السموات والأرض، كل له قانتون، وخلق السموات والأرض وأبدعهما على غير مثال سابق، وله القضاء التام والأمر النافذ.

قوله: ﴿ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ "بل": للإضراب وإبطال قولهم، وإثبات غناه عز وجل عن الولد وعن الخلق كلهم، "له": اللام للملك، وقدم الخبر "له" للاختصاص، و"ما": اسم موصول يفيد العموم، أي: بل له وحده جميع الذي في السموات والأرض من المخلوقات والعوالم ملكاً وخلقاً وتدبيراً.

﴿ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ أي: كل من هذه المخلوقات ﴿ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ قدم الخبر لإفادة الحصر والاختصاص، أي: له وحده.

﴿ قَانِتُونَ ﴾ أي: مطيعون خاشعون ذليلون منقادون كوناً لأمره.

وفي قوله: ﴿ قَانِتُونَ ﴾ تغليب لجانب العقلاء تشريفاً لهم؛ لأن منهم الملائكة والرسل والأنبياء والصالحون.

﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ "بديع" على وزن "فعيل" بمعنى "مفعل" أي: مبدع، أي: مبدع السموات والأرض وخالقهما وما فيهما على غير مثال سابق.

وهذا من الأدلة على استحالة أن يكون له ولد، كما قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 101].

فرتب عز وجل نفي الولد والصاحبة على قوله: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.

﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا ﴾ الواو: عاطفة، و"إذا": ظرفية شرطية، و"قضى": فعل الشرط؛ أي: وإذا أراد أمراً، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82].

"والأمر" واحد الأمور، وهو الشأن والشيء، كما قال تعالى في الآية الثانية: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾.

﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾: جملة جواب الشرط "إذا" وقرن بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، قرأ ابن عامر بنصب ﴿ فَيَكُونُ﴾ جواباً للأمر "كن" فتكون الفاء للسببية، أي: فبسبب ذلك يكون، وقرأ الباقون برفع ﴿ فَيَكُونُ﴾ وتكون الفاء للاستئناف، أي: فهو يكون.

و"إنما": أداة حصر، أي: لا يقول له إلا "كن" مرة واحدة فيكون.

و"كان" هنا تامة، أي: فيحدث ويوجد ذلك الأمر ويقع، أي: أن أمره عز وجل تام نافذ واقع بلا تأخير، فلا يعجزه أو يستعصي عليه شيء.

فالذي أبدع السموات والأرض على غير مثال سابق، والذي إذا أراد أمراً إنما يقول له كن فيكون قادر على خلق ولد بلا أب، وفي هذا رد على النصارى في زعمهم أن المسيح ابن الله؛ لأنه خلق بلا أب، كما قال تعالى ردًّا عليهم: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، فليس خلق عيسى من أم بلا أب بموجب كونه ابناً لله تعالى.

الفوائد والأحكام:
1- أنه لا أحد أشد ظلماً وتعدياً ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها حسيًّا ومعنويًّا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ﴾ [البقرة: 114].

وفي المقابل: إن من أعدل الناس وأعظمهم إيماناً من سعى في عمارة المساجد حسيًّا ومعنويًّا، كما قال تعالى﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [التوبة: 18]، وقال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ ﴾ [النور: 36، 37].

2- أن الذنوب والمعاصي تتفاوت فبعضها أعظم من بعض؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ﴾ الآية.

3- أن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه تخريب وإفساد لها.

4- عدم جواز التحجر وحجز الأماكن في المساجد، لما في ذلك من منع الناس من الصلاة في هذه الأماكن، ومن الجلوس للذكر والقراءة فيها، ولأنها أيضاً مساجد الله والناس فيها سواء.

5- تشريف الله عز وجل للمساجد؛ لأن الله عز وجل أضافها إليه فقال: ﴿ مَسَاجِدَ اللَّهِ ﴾.

6- وجوب تعظيم بيوت الله "المساجد" واحترامها وإعلاء شأنها حسيًّا ومعنويًّا.

7- وجوب تطهير المساجد مما يخل بإخلاص العبادة لله فيها كالقبور والصور ونحو ذلك؛ لأنها مساجد الله، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18].

8- البشارة للمؤمنين ووعدهم بأن العاقبة لهم، والوعيد للذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها، أن الله سيذلهم ويخزيهم، ويمنعون هم من دخولها؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ﴾ [البقرة: 114].

وقد حقق الله ذلك، فحرم الله عز وجل دخول المشركين والكفار المساجد، وأوجب على المؤمنين منعهم من ذلك.

9- الوعيد الشديد للذين يمنعون ذكر الله في المساجد ويسعون في خرابها بالخزي والذل والعار في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة؛ لشدة ظلمهم؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33] فجمع لهم بين العذاب العاجل والعذاب الآجل.

10- أن العز كل العز في طاعة الله- تعالى- وأن الذل كل الذل في معصية الله- تعالى.

11- إثبات الدار الآخرة وما فيها من الجزاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.

12- أن عذاب الآخرة أعظم من عذاب الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.

13- أن لله عز وجل وحده المشرق والمغرب والملك كله؛ خلقاً وملكاً وتدبيراً؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ [البقرة: 115].

14- أن لله عز وجل أن يوجه عباده في العبادة إلى ما شاء من مشرق أو مغرب أو غير ذلك؛ لأن له المشرق والمغرب والملك كله، والتدبير والتصرف في ذلك.

15- أن المصلي إلى القبلة أينما توجه في صلاته، فهو متوجه إلى الله سواء توجه إلى المشرق أو إلى المغرب أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115].

16- إثبات الوجه لله تعالى لقوله تعالى: ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾.

17- إثبات صفة الواسع لله عز وجل لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾، فهو واسع في مغفرته ورحمته وجوده وكرمه وعفوه وحلمه، وفي جميع صفاته، سبحانه وتعالى.

18- إثبات صفة العلم الواسع لله عز وجل لقوله تعالى: ﴿ عَلِيمٌ ﴾.

19- جرأة أهل الكفر والشرك من اليهود والنصارى ومشركي العرب على الله بنسبتهم الولد إليه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾.

20- تنزيه الله عز وجل نفسه عما وصفه به الظالمون من اتخاذ الولد؛ لقوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾، ووجوب تنزيهه عن ذلك، وعن كل نقص.

21- إثبات استغناء الله عز وجل بذاته استغناءً تاماً عن الولد وعن الخلق كلهم؛ لقوله تعالى: ﴿ لْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾.

22- تفرد الله عز وجل وحده بملك ما في السموات والأرض؛ لقوله تعالى: ﴿ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.

23- سعة وعموم ملك الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.

24- انقياد كل ما في السموات والأرض كوناً لله عز وجل وخضوعهم له؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾.

25- قدرة الله عز وجل التامة العظيمة في خلق السموات والأرض، وهذه المخلوقات العظيمة العجيبة على غير مثال سابق؛ لقوله تعالى: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.

26- نفوذ أمر الله وقضائه الكوني، وانقياد كل شيء له بلا تأخير، فلا يعجزه شيء أو يمتنع عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.

27- إثبات القول والكلام لله عز وجل بحرف وصوت، وفهم كل شيء لأمره وقوله حتى الجمادات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.

28- إثبات أن الله عز وجل يخلق الخلق بكلامه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.

قال ابن خزيمة[3]: "وعلمنا أن الله جلَّ وعلا في محكم تنزيله أنه يخلق الخلق بكلامه وقوله: ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]. فأعلمنا جل وعلا أنه يكون كل مكون من خلقه بقوله: ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، وقوله: ﴿ كُنْ ﴾ هو كلامه الذي به يكون الخلق، وكلامه عز وجل الذي به يكون الخلق غير الخلق الذي يكون مكوناً بكلامه، فافهم ولا تغلط ولا تغالط".

وقال ابن تيمية[4]: "وقد نطقت الكتب بأن الله يخلق الأشياء بكلامه، فيقول لها: ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ هكذا في القرآن والتوراة وغيرهما، لكن الخالق هو الله تعالى يخلق بكلامه ليس كلامه خالقا، ولا يقول أحد قط: إن كلام الله خلق السموات والأرض".


[1] أخرجه البخاري في التفسير (4982).

[2] أخرجه البخاري في الأدب (6099)، ومسلم في صفة القيامة (2804)، وأحمد (4/ 395، 401، 405).

[3] في "كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل" (15/ 391).

[4] في "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (4/ 272).






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 29-05-2022, 07:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,220
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ... ﴾

قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 121].

قوله: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ "الذين": اسم موصول مبني في محل رفع مبتدأ، ﴿ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾: صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، ﴿ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾: خبر المبتدأ.

والمراد بقوله: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ الآية المؤمنون من هذه الأمة من الصحابة- رضوان الله عليهم- ومن بعدهم، والكتاب هو القرآن، فلما ذكر الله عز وجل عدم رضا اليهود والنصارى عنه صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم، أتبع ذلك بما يؤنسه ويسليه ويقوي قلبه وهو أنه إن أبى اليهود والنصارى الإيمان به واتباع القرآن الكريم فإن أصحابه وأمته الذين أعطاهم الله هذا القرآن يتلونه حق تلاوته ويقومون بحقه ويتبعونه ويؤمنون به.

﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ الجملة حالية، أي: حال كونهم يتلونه حق تلاوته.

وقوله: ﴿ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ من إضافة الوصف إلى موصوفه، وهو مفعول مطلق، أي: يتلونه تلاوة حقاً، أي: التلاوة الحق.

والتلاوة تطلق على قراءته وتلاوة لفظه، قال تعالى: ﴿ تْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [العنكبوت: 45]، وعلى تلاوة معناه وتفسيره، وعلى تلاوة أحكامه باتباعها والعمل بها، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ﴾ [الشمس: 2]، أي: تبعها.

فمعنى ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ أي: يقرؤونه حق قراءته بتدبر ألفاظه وقراءته قراءة صحيحة وترتيله، كما قال تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 16 - 19]، وقال تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4].

ويتلونه حق تلاوته بتدبر معانيه وتفسيره حق التدبر.

ويتلونه حق تلاوته بتدبر أحكامه وأخباره ووعده ووعيده، حق التدبر، فيتبعون أحكامه ويعملون بها، امتثالاً لأوامره واجتناباً لنواهيه، ويصدقون أخباره ووعده ووعيده، فيرجون ما فيه من وعد ويخافون ما فيه من وعيد.

وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [النساء: 82، محمد: 24] أي: بتدبر ألفاظه ومعانيه وأحكامه، وهذا هو المراد من إنزال القرآن الكريم وغيره من كتب الله تعالى.

فمن لم يتلُ كتاب الله حق تلاوته بتدبره لفظاً ومعنى، واتباع أحكامه، وتصديق أخباره لم ينتفع بتلاوته، بل ربما كان أبعد الناس عن ذلك، ولهذا لم ينتفع الخوارج بقراءتهم القرآن، بل كان سبباً لمروقهم من الدين وخروجهم على أئمة المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: "يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"[1].

﴿ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ خبر المبتدأ "الذين"، أي: أولئك الذين يتلون القرآن حق تلاوته هم الذين يؤمنون ويصدقون به، وأشار إليهم بإشارة البعيد إشارة لعلو مرتبتهم ورفعة منزلتهم.

﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ أي: ومن يكفر بالقرآن ويكذبه ويجحده.

﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ جواب الشرط "من"، وقرن بالفاء لأنه جملة اسمية، وأشار إليهم بإشارة البعيد "أولئك" تحقيراً لهم، والخسران النقص وعدم الربح.

وأكد الخسران وحصره فيهم بكون الجملة اسمية معرفة الطرفين وبضمير الفصل "هم" أي: فأولئك هم الخاسرون لا غيرهم، والذين بلغوا الغاية في الخسران، الذين خسروا الخسارة العظمى، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15]، وقال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1- 3].

فالخسارة الكبرى والمصيبة العظمى هي الخسارة والمصيبة في الدين، التي ذهب فيها رأس المال مع الربح وكل شيء، فخسر الإنسان دينه ودنياه وأخراه، خسر نفسه وأهله وولده وماله، وقد أحسن القائل:
وكل كسر فإن الله جابره
وما لكسر قناة الدين جبران[2]





ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أهل الكتاب اليهود والنصارى فيكون المراد بالكتاب التوراة والإنجيل.

فيكون المعنى: الذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى يتبعونه حق اتباعه ﴿ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أي: يؤمنون بكتابهم الذي أنزل عليهم، وبالنبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن لدلالة كتبهم على ذلك، ويرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما جاء به لموافقته لكتبهم وتصديق كتبهم له، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴾ [الأعراف: 157]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ﴾ [القصص: 52 - 54].

﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ أي: ومن يكفر من أهل الكتاب بما أنزل عليهم ويكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [المائدة: 68].

وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"[3].

ولا مانع من حمل الآية على المعنيين، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن المراد بالكتاب في قوله: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ جنس الكتاب فيشمل التوراة والإنجيل والقرآن وغيرها من كتب الله تعالى.

[1] أخرجه البخاري في المناقب (361)، ومسلم في الزكاة (1064)، وأبو داود في السنة (4764)، والنسائي في الزكاة (2578) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

[2]البيت لأبي الفتح البستي. انظر: "ديوانه" ص80.

[3] أخرجه مسلم في الإيمان (153)- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 06-06-2022, 06:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,220
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:

﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى
قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125]

سبب النزول:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "وافقت ربي في ثلاثة: فقلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية"[1].

قوله: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ﴾ أي: واذكر يا محمد إذ جعلنا البيت، أي: حين صيرنا البيت الحرام شرعاً وقدراً ﴿ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ﴾.

و"ال" في "البيت" للعهد الذهني، أي: البيت المعهود المعروف العظيم، وهو الكعبة المشرفة، والبيت الحرام، ﴿ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ﴾ المثابة: بمعنى المرجع، أي: مكانًا يثوب الناس إليه، ويرجعون إليه من كل أقطار الدنيا للحج والعمرة والاعتكاف والعبادة والحصول على منافع دينية ودنيوية وأخروية، كما قال تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [الحج: 27، 28].

تشتاق إليه الأرواح، وتحن إليه القلوب، ولا تقضي منه وطراً، ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37].

يستقبله المسلمون بوجوههم وقلوبهم في صلواتهم في كل يوم وليلة، كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 150].

﴿ وَأَمْنًا ﴾ أي: وجعلنا البيت أمناً للناس، أي: مكان وموضع أمن يأمن الناس فيه على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فلا يحمل فيه السلاح، حتى الصيد يأمن فيه، وكذا الشجر والحشيش يأمن فيه من القطع، وحتى إن الرجل يلقى قاتل أبيه في الحرم فلا يعرض له.

﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ هذا كالتفسير لقوله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ [البقرة: 124]؛ لأنه بعض من إمامته، عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر بن الخطاب: وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله آية الحجاب، وقال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن، قلت: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه، قالت: يا عمر، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟! فأنزل الله: ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ ﴾ [التحريم: 5]الآية"[2].

قوله: ﴿ وَاتَّخِذُوا ﴾ قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على الخبر: ﴿ وَاتَّخِذُوا ﴾ أي: واتخذ الناس وصيَّروا وجعلوا، وقرأ الباقون بكسرها على الأمر ﴿ وَاتَّخِذُوا ﴾، أي: واتخذوا أنتم وصيِّروا واجعلوا.

﴿ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ "من مقام" جار ومجرور متعلق بمحذوف مفعول أول لـ"اتخذوا"، و"من": لبيان الجنس، و"مقام إبراهيم": مكان قيامه.

أي: واجعلوا وصيِّروا من مكان قيام إبراهيم في مقام قام فيه مصلى، ومن ذلك مقامه الخاص لبناء الكعبة على الحجر ليرفع قواعد البيت، كما سيأتي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند قول الله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ﴾ [البقرة: 127].

قال أبو طالب:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة
على قدميه حافياً غير ناعل[3]




ومقامه العام في كل مناسك ومشاعر الحج في عرفة والمزدلفة، ومنى، والجمرات، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وغير ذلك، والأمر للوجوب فيما هو واجب وللندب فيما هو مندوب.

﴿ مُصَلًّى ﴾: مفعول أول لـ"اتخذوا"، أي: مكان صلاة ودعاء وعبادة، ومن ذلك صلاة ركعتين خلف المقام بعد الطواف لفعله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما فرغ من الطواف تقدم إلى مقام إبراهيم وقرأ: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾، وصلى خلفه ركعتين؛ كما في حديث جابر رضي الله عنه قال: "استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم، فقرأ: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾، فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين"[4].

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين"[5].

وكان المقام ملتصقاً بالكعبة في عهده صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه فأخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا به وعضوا عليها بالنواجذ"[6]، وقال صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"[7].

﴿ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾.

العهد: الأمر المؤكد، والوصية بأمر هام، أي: أوصينا إليهما وأمرناهما أمراً مؤكداً.

﴿ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ أي: وعهدنا إلى إسماعيل، وهو إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وهو "بِكْر" إبراهيم ووحيده من جاريته هاجر القبطية، وهو أبو العرب.

وهو الذبيح على القول الصحيح، الذي أمر الله إبراهيم بذبحه، وأسلما أمرهما لله في ذلك. ففداه الله بذبح عظيم، كما قال تعالى في سورة الصافات: ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصافات: 101، 105].

﴿ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾ "أن": تفسيرية، فيها تفسير للعهد في قوله: ﴿ وَعَهِدْنَا ﴾أي: عهدنا إليهما وقلنا لهما: ﴿ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾ أي: الكعبة والمسجد الحرام، وأضافه عز وجل إلى نفسه تشريفاً وتعظيماً، كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ﴾ [إبراهيم: 37].

أي: طهرا بيتي الحرام من الأقذار والنجاسات الحسية، من الأرجاس والنجاسات المعنوية من الشرك والأصنام وعبادة الأوثان وبناء القبور ودخول المشركين ونحو ذلك، كما قال تعالى ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾ [التوبة: 28].

﴿ لِلطَّائِفِينَ ﴾ اللام للتعليل، أي: لأجل الطائفين، الذين يطوفون بالبيت، والطواف: الدوران على الكعبة تعبداً لله عز وجل.

﴿ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ معطوف على الطائفين، أي: ولأجل العاكفين والركع السجود، و﴿ وَالْعَاكِفِينَ ﴾: المقيمين فيه للعبادة، جمع عاكف، والاعتكاف: لزوم مسجدٍ لطاعة الله- تعالى.

﴿ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ "الركع": جمع راكع، و"السجود": جمع ساجد، وهم المصلون، وخص الركوع والسجود؛ لأنهما من أعظم أركان الصلاة بل هما أعظم أركان الصلاة من حيث الهيئة، كما أن القيام أفضل أركان الصلاة من حيث الذكر وهو القرآن.

وأيضاً فإنه لا يكون ركوع ولا سجود بلا قيام.

والصلاة أعظم من الطواف ومن الاعتكاف، وإنما بدأ في الآية بذكر الأخص فالأخص، فبدأ بذكر الطائفين؛ لأن الطواف خاص بالمسجد الحرام ثم ﴿ وَالْعَاكِفِينَ ﴾؛ لأن الاعتكاف خاص بالمساجد، ثم "الركع السجود"؛ لأن الصلاة تصح في كل مكان.

وفي سورة الحج ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26].

فالموصوفون بهذه الصفات هم أهل البيت، وهم المقتدون بإبراهيم عليه السلام، دون من عداهم، ممن يزعمون الاقتداء به من أهل الكتاب والمشركين وهم على خلاف ملته.

[1] أخرجه البخاري في الصلاة (402)، ومسلم في فضائل الصحابة (2399)، والترمذي في تفسير (2959) وابن ماجه في إقامة الصلاة (1009).

[2] أخرجه البخاري في تفسير سورة البقرة (4483).

[3] انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 273)، و"خزانة الأدب" (2/ 62).

[4] أخرجه مسلم في الحج- حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218)، وابن ماجه في المناسك (1905).

[5] أخرجه البخاري في الصلاة (396)، ومسلم في الحج (1234)، والنسائي في مناسك الحج (2930).

[6] أخرجه أبو داود في السنة (4607)- من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.

[7] أخرجه الترمذي في المناقب (3662)، وابن ماجه في المقدمة (97) من حديث حذيفة رضي الله عنه. وقال: "حديث حسن".





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 22-05-2022, 10:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,220
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ.... ﴾


قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 118].

قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أي: الذين ليسوا من ذوي العلم بالله وشرعه وما ينبغي له عز وجل.

واختلف في المراد بهم: فذهب طائفة من المفسرين إلى أن المراد بهم مشركو العرب، وقال بعض المفسرين: المراد بهم النصارى؛ لأن السياق معهم، وقال بعضهم: المراد بهم اليهود.

فعن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول، فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله في ذلك من قوله:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ[1].

وقال بعضهم المراد بهم: اليهود والنصارى؛ لأن السياق مع أهل الكتاب كلهم، وقال بعضهم: المراد بهم أهل الكتاب ومشركو العرب وغيرهم؛ لأن كل من تفوه بمثل هذه المقالة فهو ممن لا يعلم.

﴿ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ﴾ "لولا": حرف تحضيض قصد منه التعجيز والتعنت والعناد والمكابرة، أي: هلَّا يكلمنا الله، كما يكلم ملائكته ورسله.

﴿ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾"أو": عاطفة، أي: أو هلَّا تأتينا آية، وقولهم "آية" بالتنكير يدل على شدة مكابرتهم وجحودهم لما جاءهم من الآيات فكأنهم لم تأتهم أية آية، ولقد جاءهم على أيدي الرسل وألسنتهم من الآيات العظيمة ما تقوم به الحجة عليهم، وأعظم ذلك القرآن الكريم، كما قال تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ﴾ [الدخان: 33].

قال أبو الطيب[2]:
وكيف يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل




وكما قيل:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم[3]




وهم يعنون بقولهم: ﴿ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾ الآيات التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة، ويطلبونها تعنتاً لا استرشاداً؛ جرأة على الله - عز وجل - ومحادة لرسله، كقول اليهود: ﴿ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [البقرة: 55].

وقول النصارى: ﴿ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [المائدة: 112].

وقول مشركي العرب: ﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 90 - 95].

وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 21]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 124].

﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ الكاف: للتشبيه بمعنى "مثل" أي: مثل قولهم هذا قال الذين من قبلهم من الأمم السابقة قبلهم، كما قال تعالى مخاطباً نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [النساء: 153].

﴿ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي: تشابهت قلوب هؤلاء الذين لا يعلمون وقلوب الذين من قبلهم، أي: تشابهت قلوب الآخرين والأولين في الكفر والعتو والعناد ورد الحق وتكذيب الرسل؛ ولهذا تشابهت أقوالهم، كما قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذاريات: 52، 53].

لأن القلوب عليها مدار صلاح الأعمال والأقوال أو فسادها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"[4].

وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيت لقلبه، كما قال تعالى: ﴿ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [فصلت: 43].

﴿ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ هذا فيه رد على مقالة أهل الجهل والكفر والتعنت والعناد ﴿ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾ بأنه عز وجل قد بين الآيات بما تقوم به الحجة على الخلق، ويهتدي به أهل اليقين، كما قال تعالى ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ [العنكبوت: 51].

﴿ قَدْ للتحقيق، ﴿ بَيَّنَّا ﴾ أظهرنا وفصلنا، ﴿ الْآيَاتِ جمع آية، وهي العلامة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ ﴾ [البقرة: 248] أي: علامة ملكه.

والآيات قسمان:
القسم الأول: آيات كونية أيد الله عز وجل بها رسله ومنها آيات ظاهرة في الكون.

والقسم الثاني: آيات شرعية؛ أنزلها الله تعالى في كتبه على رسله عليهم الصلاة والسلام، أعظمها وأفضلها القرآن الكريم المعجز بأقصر سورة منه.

وكل هذه الآيات دالة على عظمة الخالق واستحقاقه للعبادة دون سواه، وعلى صدق رسله عليهم الصلاة والسلام، وصدق ما جاؤوا به من الوحي وأن فيه هداية البشر وصلاحهم وسعادتهم في أمر دينهم ودنياهم.

قال صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة"[5].

﴿ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾"الإيقان" و"اليقين" هو العلم والإيمان والتصديق الجازم بالله عز وجل وكل ما يجب الإيمان به، الموجب للعمل، الذي لا يخالجه شك، وفي التعبير بالمضارع في قوله: ﴿ يُوقِنُونَ ﴾"دلالة على التجدد والاستمرار، وأن ذلك كان خُلُقاً لهم.

والمعنى: أن بيان الآيات وإظهارها إنما يستفيد منه أهل اليقين والعلم والإيمان الجازم، أما من عداهم، فكما قال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف: 105]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ 96 وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96، 97].

المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»

[1] أخرجه الطبري في "جامع البيان" (2/ 474)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 15).

[2] انظر: "ديوانه" ص220.

[3] البيت للبوصيري. انظر: "ديوانه" ص247.

[4] أخرجه البخاري في الإيمان- فصل من استبرأ لدينه (52) ومسلم في المساقاة- أخذ الحلال وترك الحرام (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

[5] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4981)، ومسلم في الإيمان (152) - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 22-05-2022, 10:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,220
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾

قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ [البقرة: 119].

ذكر عز وجل في الآية السابقة قول الذين لا يعلمون: لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، كما قال الذين من قبلهم وتشابه قلوبهم في الكفر والحسد والمكابرة والعناد، ورد عليهم بقوله تعالى: ﴿ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 118]، ثم أتبع ذلك بقوله: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ [البقرة: 119].

وفي هذا تأكيد لبيان الآيات، أي: إنا أرسلناك بالحق بالآيات البينات بشيراً ونذيراً.

قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ﴾ تكلم عز وجل عن نفسه بضمير العظمة "إنا". و"نا" لأنه العظيم سبحانه وتعالى، والخطاب للنبي وفيه إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، أي: إنا أرسلناك يا محمد أي: بعثناك، ولم يذكر المرسل إليه لإفادة العموم؛ لأنه مرسل إلى الناس كافة، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28] وقال عز وجل مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158].

﴿ بِالْحَقِّ ﴾الباء للملابسة، والمصاحبة، أي: إنا أرسلناك متلبسا بالحق، ومصحوباً بالحق، أي: أن رسالتك حق، وما جئت به وهو القرآن حق، قال تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﴾ [الفتح: 29]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].

والحق: الثابت المستقر، ضد الباطل الزاهق الزائل، كما قال تعالى: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81].

وهو أيضاً الصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ [الأنعام: 115].

﴿ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾حالان، أي: حال كونك بشيراً ونذيراً، أي: بشيراً للمؤمنين بالجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، والفوز بالجنة،والنجاة من النار، كما قال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [البقرة: 25] وقال تعالى: ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 21].

والبشير المخبر بما يسر، مأخوذ من البشرة؛ لأن الإنسان إذا أخبر بما يسره اتسعت بشرته واستنار وجهه، كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، قال: وكنا نعرف ذلك منه"[1].

﴿ وَنَذِيرًا ﴾ للكافرين من النار والشقاء والعذاب، والنذير: هو المحذر المخوف من الشر.

والرسول صلى الله عليه وسلم محذر ومخوف من عذاب الله تعالى وعقابه، كما قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [سبأ: 46].

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً، فقال: رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعته طائفة، فأدلجوا على مهلهم، فنجوا، وكذبته طائفة، فصبَّحهم الجيش فاجتاحهم"[2].

وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الساعة كفرسي رهان، ومثلي مثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه: أُتيتم، أُتيتم، ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ذلك"[3].

وكما قال "لَقيطِ الأيادي" منذراً ومحذراً قومه من عواقب غزو كسرى من قصيدة كتبها لهم بعنوان: "صرخة غيور":
أبلغ إياداً وخلِّل في سراتهم
أني أرى الرأيَ إن لم يُعصَ قد نصعا
يا قوم لا تأمنوا إن كنتمُ غُيَرًا
على نسائكم كسرى وما جمعا
هذا كتابي إليكم والنذير معاً
لمن رأى رأيَه منكم ومن سمعا
وقد بذلت لكم نصحي بلا دخلٍ
فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا[4]


فمهمته صلى الله عليه وسلم بيان الحق، والشهادة على الخلق، والبشارة للمؤمنين، والإنذار للكافرين، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45، 46].

كما أنه صلى الله عليه وسلم مكلف بالعمل كغيره من الرسل والأنبياء، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 65، 66].

﴿ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ قرأ نافع ويعقوب بفتح التاء وجزم اللام "ولا تَسألْ" على اعتبار أن "لا" ناهية والفعل مبني للفاعل أي: ولا تسأل يا محمد عن أصحاب الجحيم، فبئس الحال حالهم، حال لا يتصورها الإنسان، ولا يحيط بها الوصف من شدة وفظاعة ما هم فيه من العذاب.

وقرأ الباقون: ﴿ وَلَا تُسْأَلُ ﴾برفع الفعل على اعتبار "لا" نافية، والفعل مبني لما لم يسم فاعله، أي: ولا تُسأل يا محمد عن أصحاب الجحيم، وهم الذين كفروا بك، وقد بلغت رسالة ربك؛ لأن مهمتك تبليغ الرسالة والبشارة للمؤمنين والإنذار للكافرين وليس عليك هداية الخلق، ولا حسابهم، فذلك إلى الله عز وجل، كما قال تعالى: ﴿ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [المائدة: 99]، وقال تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [الرعد: 40]، وقال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 21 - 26]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].

وأصحاب الجحيم، أي: ملازموها وأهلها، وسموا أصحاب الجحيم لملازمتهم إياها كما يلازم الصاحب صاحبه، و"الجحيم": اسم من أسماء النار، أي النار المتأججة العظيمة الشديدة الحرارة التي يعلو بعضها بعضاً.

وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وبيان حدود مهمته، ووعيد وتهديد للكافرين المخالفين المعاندين.

المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»

[1] أخرجه البخاري في المناقب 3556، ومسلم في التوبة 2769، والترمذي في التفسير.

[2]أخرجه البخاري في الرقاق- الانتهاء من المعاصي (6482)، ومسلم في الفضائل (2283) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

[3] أخرجه أحمد (5 /331)، وانظر: "تفسير ابن كثير" (7 /444).

[4] انظر: "ديوان لقيط الإيادي" (ص4)، "الحماسة البصرية" (1 /89)، "الذخائر والعبقريات" (2 /222)، "موسوعة الشعر الإسلامي" (1 /522).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 22-05-2022, 10:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,220
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].

قوله: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى ﴾ الواو: عاطفة، و"لن": حرف نفي ونصب، والرضا: ضد الغضب، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، و"لا" في قوله: ﴿ وَلَا النَّصَارَى ﴾ زائدة من حيث الإعراب، مؤكدة من حيث المعنى؛ للتنصيص على أن كل طائفة منهم لن ترضى عنه بانفرادها، وليس المراد أنهم لن يرضوا عنه حال كونهم مجتمعين فقط.

أي: لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى مهما تألفتهم وحاولت رضاهم؛ لشدة تعنتهم وعنادهم وبغيهم وحسدهم وكفرهم، وكان صلى الله عليه وسلم أول أمره يحب أن يتألف اليهود، كما يحب موافقتهم فيما لم ينه عنه، ثم بعد ذلك أُمر بمخالفتهم.

﴿ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ "حتى" للغاية، والفعل "تتبع" منصوب بها، أو بأن المقدرة بعدها، أي: حتى أن تتبع ملتهم، أي: دينهم الذي كانوا عليه، فاليهود لن يرضوا عنك حتى تكون يهودياً، والنصارى لن يرضوا عنك حتى تكون نصرانياً؛ لأن كل فريق منهم يرى أنه هو الذي على الحق.

وفيه تيئيس من إسلامهم، وتنبيه إلى أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز وقوعه منه عليه السلام.

﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ أكد الجملة بثلاثة مؤكدات: إنَّ، والقصر، وضمير الفصل "هو" أي: قل لهم يا محمد: ليس الهدى ما أنتم عليه من التحريف والتبديل، بل إن هدى الله وحده هو الهدى، مما جاءكم من الحق في كتبكم، ومن ذلك البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيجاب تصديقه واتباعه، وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى في الكتاب والسنة، وما سوى ذلك فهو ضلال، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ﴾ [التوبة: 33]، الفتح: 28، الصف: 9]، وقال تعالى: ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ [يونس: 32]، وأمر عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24].

فمن اهتدى بهدى الله فهو المهتدي، ومن اهتدى بغير هدى الله فهو ضال.

قال ابن كثير[1]: "أي: قل يا محمد: إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل".

﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ الواو: استئنافية، واللام موطئة للقسم، والتقدير: والله لئن اتبعت أهواءهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والضمير الهاء في ﴿ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ يعود إلى اليهود والنصارى، أي: والله لئن اتبعت أهواء اليهود والنصارى.

والهوى هو الرأي الناشئ عن شهوة لا عن دليل، وفي هذا دليل على أنهم ليسوا على هدى، بل اتباع هوى وعلى ضلال، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 77].

﴿ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ أي: بعد الذي جاءك من العلم بالكتاب والسنة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ [النساء: 113].

﴿ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ جواب القسم، و"ما": نافية، "لك": جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ﴿ مِنَ اللَّهِ ﴾: جار ومجرور متعلق بالخبر المحذوف.

﴿ مِنَ ﴾ زائدة إعرابًا، مؤكدة من حيث المعنى للنفي.

﴿ وَلِيٍّ ﴾ مجرور لفظاً مرفوع محلاً مبتدأ مؤخر، والولي: هو الذي يتولى غيره بجلب النفع والخير له.

﴿ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ معطوف على ما قبله، و"لا": زائدة إعراباً مؤكدة للنفي من حيث المعنى، و"النصير" هو الذي ينصر غيره بدفع الضر والشر عنه.

والمعنى: ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من الوحي ما لك من الله أيُّ ولي يتولاك، فيجلب لك النفع والخير، وما لك من الله أيُّ نصير ينصرك فيدفع عنك الضر والشر، فلا أحد يتولاك، ولا أحد ينصرك إذا الله تخلى عنك، أي: فلا أحد يجلب لك رحمته، ولا أحد يدفع عنك عذابه.

وحاشاه صلوات الله وسلامه عليه أن يتبع أهواءهم بعد الذي جاءه من العلم، وتحذيره من ذلك لا يدل على وقوعه منه، بل ولا على جواز وقوعه منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ فيما يتعلق بتبليغ رسالة ربه.

وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ [الأحزاب: 1].

وفي الآية تحذير وتهديد لأمته أن يتبعوا أهواء أهل الكتاب بعد ما علموا من الكتاب والسنة.

[1] في "تفسيره" (1/235).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 29-05-2022, 08:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,220
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى: ﴿ بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ....


قوله تعالى: ﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 122، 123].

هذا تذكير لبني إسرائيل بما سلف من نعمه؛ استعطافاً لقلوبهم علّها أن تلين وتقبل الحق، وبهذا خُتم الحجاج مع أهل الكتاب في هذه السورة وهو تأكيد لما سبق في قوله تعالى:
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 47، 48]

وقد سبق الكلام على هاتين الآيتين ويحسن الوقوف عند قوله هنا: ﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾ مقارناً بقوله في الآية السابقة: ﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾.

قوله: ﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾وفي الآية السابقة: ﴿ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ أي: ولا يقبل من أي نفس فداء ولا يؤخذ منها مقابل تخليصها من عذاب الله.

وقوله: ﴿ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾ أي: ولا تنفع نفساً شفاعة من شفع لها لتنجو من العذاب أو تحصل على الثواب؛ لأن من شرط الشفاعة رضى الله عن المشفوع له؛ لقوله تعالى: ﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ [الأنبياء: 28].

وفي الآية السابقة: ﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ أي: ولا يقبل من نفسٍ عن نفس شفاعة؛ لأنه لا أحد يشفع لأحد إلا بإذن الله عز وجل، كما قال تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ﴾ [الأنبياء: 28]، وقال تعالى: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 26].

فالشفاعة في ذلك اليوم لا تقبل ولا تنفع إلا ما خص من ذلك مما توفر فيه إذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع له- كما دل الكتاب والسنة على ذلك[1].

الفوائد والأحكام:
1- شدة عتو وعناد واستكبار أهل الكفر والشرك والجهل وجرأتهم على الله ومجادلتهم بالباطل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾ [البقرة: 118].

2- أن كل من لم يعرف لله عز وجل وما ينبغي له فهو جاهل غير عالم وإن كان محسوباً من ذوي العلم؛ لأن حقيقة العلم ولبه وأصله العلم بالله عز وجل وتعظيمه والقيام بما يجب له؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.

3- تكذيب أهل الكفر والجهل لما جاءهم من الآيات الكونية والشرعية؛ لقولهم: ﴿ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾، ولقد جاءهم من الآيات ما يليِّن الصم الصلاب لو أنزل عليها، كما قال تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ﴾ [الدخان: 33].

4- في قول المكذبين من المشركين وغيرهم: ﴿ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ﴾ [البقرة: 118]دلالة على أنهم يقرون بأن الله يتكلم بحرف وصوت، فهم في هذا خير ممن ينفون الكلام عن الله ويقولون: إن كلام الله هو المعنى القائم في النفس، كما قيل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا[2]



5- مجادلة المكذبين من الأمم السابقة رسلهم بالباطل، وتكذيبهم ما جاؤوهم به من الآيات؛ لقوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾.

6- تشابه قلوب المكذبين من الأولين والآخرين، واجتماعهم على رد الحق وتكذيب الآيات والمجادلة بالباطل؛ لقوله تعالى: ﴿ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾.

7- أن الأقوال تابعة لما في القلوب وتنبئ عما فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ فتشابهت أقوالهم لتشابه قلوبهم.

8- تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت قلبه، ببيان أن ما قاله المكذبون من قومه قال مثله المكذبون للرسل قبله، فليست المصيبة مصيبته وحده، بل هي كذلك مصيبة الرسل قبله، والمصائب كالتكاليف إذا عمت خفت، كما قال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [هود: 120].

9- إبطال دعوى المكذبين في قولهم: ﴿ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ﴾؛ لأن مفهوم هذا أنه لم تأتهم آيات؛ فرد الله عليهم بقوله: ﴿ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾.

10- أن الله عز وجل أقام الحجة على الخلق ببيان الآيات.

11- تعظيم الله عز وجل لنفسه؛ لأنه العظيم سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ ﴾، وقوله: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ﴾.

12- أنه لا ينتفع ببيان الآيات ويتبينها إلا أهل اليقين والتصديق الجازم؛ لقوله تعالى: ﴿ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾، فيزداد بالآيات إيمانهم ويقينهم وعلمهم.

13- أن أهل الشك والريب لا تتبين لهم الآيات ولا ينتفعون بها، كما قال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف: 105].

14- تأكيد بيانه عز وجل للآيات والرد على القائلين: ﴿ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ أي: إنا أرسلناك بالحق بالآيات البينات بشيراً ونذيراً.

15- إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، وتشريفه بخطاب الله عز وجل له؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ﴾.

16- أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم بيان الحق وتبليغ رسالة ربه، والبشارة لمن آمن وأطاع الله، والإنذار لمن كفر وعصى الله؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾،

17- أن ما جاء به الرسول عليه السلام هو الحق؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ ﴾ وما سواه فهو باطل وضلال.

18- أن الأولى تقديم التبشير على التخويف والإنذار؛ لقوله تعالى: ﴿ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ فقدم البشارة على الإنذار وقد قال عز وجل في الحديث القدسي: "إن رحمتي سبقت أو تسبق غضبي"[3].

19- أن اعتدال النفس البشرية وصلاحها واستقامتها في الجمع لها بين البشارة والإنذار؛ لتجمع بين الخوف والرجاء؛ لأن من غلب جانب الخوف قد يقنط وييئس من رحمة الله تعالى، ومن غلب جانب الرجاء قد يأمن من مكر الله.

20- أن هداية الخلق بيد الله، وليس ذلك إليه صلى الله عليه وسلم، ولا يُسأل عنها، ولا عن ضلال من ضل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾.

21- شدة عذاب أهل النار؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾، والقراءة بالبناء للفاعل أدل على هذا المعنى: ﴿ وَلَا تُسْأَلُ ﴾ أي: ولا تسألْ عن أصحاب الجحيم، أي: عن حالهم وشدة عذابهم.

22- خلود أهل النار فيها وملازمتهم لها؛ لقوله تعالى: ﴿ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾.

23- أن الجزاء من جنس العمل، فلشدة عتو هؤلاء المكذبين وعنادهم وجرأتهم على الله ومجادلتهم بالباطل بقولهم: ﴿ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾ جوزوا بأشد عذاب الجحيم.

24- عنصرية اليهود والنصارى فهم لا يرضون إلا عن من اتبع دينهم، وإن كان الحق خلاف ما هم عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ أي: لن يرضى عنك اليهود حتى تكون يهودياً، ولن يرضى عنك النصارى حتى تكون نصرانياً.

25- حرص أهل الكتاب على إدخال الناس في دينهم، والواقع يشهد لهذا فإرساليات التبشير بالنصرانية تجوب كثيراً من بلاد العالم وخاصة في البلاد الفقيرة مثل أفريقيا وغيرها لشراء الذمم، وإدخال الناس في النصرانية الباطلة المحرفة، ويبذلون في سبيل ذلك جهوداً مضنية وتضحيات جسيمة مادية ومعنوية تقصر عنها بكثير، بل لا تكاد تقارن بها جهود المسلمين في الدعوة إلى الإسلام الذي هو الدين الحق، مصداق قول عمر رضي الله عنه: "اللهم إليك أشكو جلد الفاجر وعجز الثقة"[4].

26- في قوله تعالى: ﴿ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ إشارة إلى أن الكفر ملة واحدة ضد الإسلام.

27- أن هدى الله هو الهدى، فمن اهتدى به فهو المهتدي؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾.

28- أن ما عدا هدى الله فهو ضلال؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾.

29- الإشارة لنسخ الإسلام للأديان السابقة؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾.

30- التحذير من اتباع أهواء اليهود والنصارى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾، وفي الآية الثانية: ﴿ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 145].

31- أن اليهود والنصارى ليسوا على هدى بل أتباع هوى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾، ولو لم يكونوا أتباع هوى لآمنوا بما أنزل عليهم وبما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

32- أن اتباع الهوى بعد العلم أشد وأعظم ضلالاً وظلماً؛ لقيام الحجة، وانتفاء العذر؛ لقوله تعالى: ﴿ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾، وفي الآية الثانية: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ [البقرة: 145].

33- أن ما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي في الكتاب والسنة من العلم، بل هو أصل العلوم؛ لقوله تعالى: ﴿ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾.

34- أن من اتبع أهواء أهل الكتاب بعد ما جاءه من العلم فلا أحد يتولاه من دون الله، ولا أحد ينصره فيدفع عنه عذاب الله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾.

35- أن من لم يتوله الله ولم ينصره فليس له من دونه ولي ولا ناصر.

36- أن الله عز وجل أنزل الكتب لتتلى وتتبع ويعمل بما فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ لَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾.

37- أن المؤمن بالقرآن حقاً من يتلوه ويتبعه ويعمل بما فيه؛ لقوله تعالى: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾، فمن لم يتله ويعمل به فليس بمؤمن.

38- أن الإيمان بالقرآن يزيد ويكتمل بتمام تلاوته والعمل به، وينقص بنقصان ذلك.

39- امتنان الله عز وجل على من آتاهم الكتاب وتلوه حق تلاوته وقاموا بحقه، وثناؤه عليهم، وبيان علو مرتبتهم؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [البقرة: 121].

40- أن من كفر بالقرآن أو بغيره من كتب الله أو بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بغيره من رسل الله عز وجل فهو الخاسر الخسارة العظمى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 121].

41- أن الخسارة الكبرى والمصيبة العظمى الخسارة في الدين.

42- تأكيد وجوب ذكر نعمة الله عز وجل على بني إسرائيل ومن ذلك تفضيلهم على عالمي زمانهم؛ لقوله تعالى: ﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾.

43- إثبات يوم القيامة وشدته، ووجوب اتقائه، والاستعداد له بتقوى الله والعمل الصالح؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا ﴾.

44- تحذير بني إسرائيل يوم القيامة وأهواله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا ﴾.

45- لا نجاة لأحد من أهوال يوم القيامة وعذابه إلا بتقوى الله عز وجل فلا نفس تغني عن نفس شيئاً ولا تقبل منها فدية ولا تنفعها شفاعة، ولا ناصر لها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾.

46- إثبات أصل الشفاعة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾، فالشفاعة ثابتة ممن أذن الله له بالشفاعة، كشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف، وشفاعة المؤمنين بعضهم لبعض، وغير ذلك، لكنها لا تنفع إلا لمن رضي الله عنه.
ففي هذه الآية نفى نفع الشفاعة إلا لمن رضي الله عنه، وفي قوله: ﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ نفى قبول الشفاعة إلا لمن أذن الله له بها.

47- اختلاف أحوال القيامة عن أحوال الدنيا، فالناس في الدنيا يتعاونون، ويقدم الإنسان فدية ويتخلص في بعض المواقف، ويشفع بعض الناس لبعض، وينصر بعضهم بعضاً كما قال قائلهم:
أخاك أخاك إن من لا أخا له
كساع إلى الهيجاء بدون سلاح[5]


أي: انصر أخاك، أما في القيامة فهيهات ذلك كله.
* * * *




[1] راجع ما تقدم في الكلام على الآية (48) من هذه السورة.

[2] البيت ينسب للأخطل. انظر: "شذور الذهب" ص35.

[3] أخرجه البخاري في التوحيد (7422)، ومسلم في التوبة (2751)، والترمذي في الدعوات (2543)، وابن ماجه في المقدمة (189)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] ذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (28/ 68، 254).

[5] البيت لمسكين الدارمي. انظر: "ديوانه" ص29.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 29-05-2022, 08:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,220
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ....


قال الله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 124 - 126].

بعد اختتام الآيات في تذكير بني إسرائيل، أتبع عز وجل ذلك بالتذكير بنعمة الله عز وجل على إبراهيم وعلى ذريته، بجعله إماماً للناس، وجعل البيت مثابة للناس وأمنا وموئلاً للأرزاق، ومجبى للثمرات.

قال الله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾.

قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾ الواو: استئنافية، و"إذ": ظرفية شرطية بمعنى "حين" أي: واذكر يا محمد للمشركين ولأهل الكتاب وللناس جميعاً حين ابتلى إبراهيم، ربه و"إبراهيم": مفعول مقدم، و"ربه": فاعل مؤخر.

وإبراهيم هو نبي الله ورسوله وخليله- عليه الصلاة والسلام- وهو إبراهيم ابن آزر كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ﴾ [الأنعام: 74]، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125].

وهو الأب الثالث للأنبياء، فالأب الأول: آدم عليه السلام، قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الأعراف: 26]، والثاني: نوح عليه السلام، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: 77]، والأب الثالث: إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الحج: 78].

ويقال له: "أبو الأنبياء"؛ لأن كل من جاء بعده من الأنبياء هم من ذريته من كان منهم من العرب أو من بني إسرائيل.

وإبراهيم عليه السلام أحد أولي العزم، بل وأفضلهم بعد محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7].

والابتلاء: الامتحان، أي: امتحنه بكلمات.

وفي إضافة اسم الرب إلى ضمير إبراهيم عليه السلام تكريم وتشريف له؛ لأن المراد بالربوبية هنا الربوبية الخاصة بل خاصة الخاصة.

وقوله: ﴿ بِكَلِمَاتِ ﴾ "كلمات" جمع كلمة، وهي كلمات شرعية وكونية.

فالكلمات الشرعية: ما أوحاه الله إليه وشرعه له من توحيد الله واجتناب الشرك وأداء المناسك، والقيام بأوامر الله واجتناب نواهيه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ والآيات بعدها، ومن ذلك الكوكب والقمر والشمس، كما جاء في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا ﴾ [الأنعام: 75، 76].

والكلمات الكونية ما امتحنه به وقدَّره عليه، من ذلك الهجرة من بلده إلى الشام، وإلقائه في النار، وأمره بالختان، وأمره بذبح ابنه، ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾ [الصافات: 106]، وهو في ذلك كله صابر محتسب.

قال ابن كثير[1]: "وقوله تعالى: ﴿ بِكَلِمَاتِ ﴾ أي: بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات تطلق ويراد بها الكلمات القدرية، كقوله تعالى عن مريم عليها السلام: ﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12].

وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]، أي: كلماته الشرعية، وهي إما خبر صدق وإما طلب عدل، إن كان أمراً أو نهياً، ومن ذلك هذه الآية: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾".

﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ الفاء تدل على الفورية والمبادرة من إبراهيم عليه السلام في إتمامهن.

أي: فأكملهن بالقيام بما أوجب الله عليه فيهن شرعاً، فعلاً لما أمره الله به، واجتناباً لما نهاه عنه، وصبراً واحتساباً على ما قدره الله عليه، كما قال تعالى: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: 37]، أي: تمم ما أمر به.

﴿ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ أي: قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام مجازاة له على إتمامه الكلمات، و"جعل" هنا بمعنى "صير" تنصب مفعولين الأول هنا الكاف، والثاني "إماماً".

أي: إني مصيرك كوناً وشرعاً للناس كلهم إماماً.

أي: قدوة في التَّوحيد والإخلاص لله تعالى والبراءة من الشرك، والقيام بأمر الله وفي الخير كله؛ ولهذا لم يأت بعده نبي إلا كان مأموراً باتباع ملته الحنيفية.

كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120 - 123].

﴿ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ أي: قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ أي: واجعل من ذريتي أئمة في الدين.

و"من" يحتمل أن تكون لبيان الجنس، أي: اجعل ذريتي كلهم أئمة، كما في قول عباد الرحمن: ﴿ ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ [الفرقان: 74]، أي: اجعلهم كلهم قرة أعين.

ويحتمل أن تكون "من" للتبعيض، أي: اجعل بعض ذريتي أئمة؛ لأن البعض قد لا يكون أهلاً لذلك، كما جرت بذلك سنن الله الكونية، ولهذا قال الله له: ﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾.

وإنما سأل إبراهيم عليه السلام لذريته الإمامة في الدين نصحاً لهم وشفقة عليهم ومحبة للخير لهم؛ لأن الإمامة في الدين أفضل درجة يتنافس فيها المتنافسون، كما قال عباد الرحمن في دعائهم: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].

والذرية تطلق إطلاقاً عاماً فيدخل فيها أولاد الرجل وأولاد أولاده من ذكور وإناث وإن نزلوا، وتطلق الذرية عند الفقهاء إطلاقاً خاصاً على أولاد الرجل وأولاد بنيه بمحض الذكور دون أولاد البنات، فلو قال رجل: "أوقفت هذا المال على ذريتي" لم يدخل فيهم أولاد البنات.

وإنما دخل عيسى بن مريم- عليه الصلاة والسلام- مع ذرية إبراهيم في قوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ﴾ الآية، مع أنه ابن بنت؛ لأنه لا أب له، قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنعام: 83 - 85].

﴿ قَالَ ﴾، أي: قال الله عز وجل: ﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، قرأ حمزة وحفص ﴿ عَهْدِي ﴾ بإسكان الياء، وقرأ الباقون بفتحها ﴿ عَهْدِي ﴾، و"لا": نافية، و"ينال": فعل مضارع مرفوع بالضمة، أي: لا يصيب.

﴿ عَهْدِي ﴾: فاعل، أي: تعهدي إليك بهذا، والعهد: الوعد المؤكد، وسمى عز وجل وعده عهداً؛ لأنه لا يخلف وعده.

و﴿ الظَّالِمِينَ ﴾: مفعول به، أي: الظالمين بالشرك والكفر، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].

أي: لا تصيب ولا يشمل تعهدي لك بالإمامة الظالمين من ذريتك بالشرك والكفر، فلا يكون أحد منهم إماماً، ومفهوم هذا أن غير الظالم سينال الإمامة، لكن مع إتيانه بأسبابها.

والمعنى: سأجعل من ذريتك أئمة، لكن لا يصيب ولا يشمل عهدي الظالمين منهم بالكفر والشرك، فلا يكون منهم إماماً يقتدى به.

فينال عهده عز وجل الرسل وأتباعهم المؤمنين، ولا ينال الظالمين من أهل الكتاب والمشركين وغيرهم، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 161]، وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 67، 68].

قال ابن كثير[2]: "لما جعل الله إبراهيم إماماً سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته فأجيب إلى ذلك، وأخبر أنه سيكون من أمته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب إلى طلبه قول الله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [العنكبوت: 27]، فكل نبي أرسله الله، وكل كتاب أنزل الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه".

[1] في "تفسيره" (1/ 237).

[2] في "تفسيره" (1/ 240).






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 06-06-2022, 06:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,220
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ... ﴾

قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 126].

قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﴾ أي: واذكر حين قال إبراهيم داعياً ربه عز وجل ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ﴾، أي: يا رب، فـ"رب": منادى منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، وحرف النداء محذوف للعلم به وللبداءة مباشرة باسم "الرب" والتيمن والتبرك به.

فدعا عليه السلام باسم الرب الذي له الخلق والملك والتدبير.

﴿ اجْعَلْ هَذَا ﴾ "هذا": مفعول أول لـ"جعل"، و﴿ بَلَدًا ﴾ مفعوله الثاني، أي: صيِّر هذا الوادي وهذا المكان، وهو المكان الذي أسكن فيه هاجر وابنها إسماعيل، كما في قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾ [إبراهيم: 37].

﴿ بَلَدًا آمِنًا ﴾ فدعا أن يكون الوادي والمكان بلداً، وأن يكون آمنا.

وقال هنا: "بلداً" بالتنكير لأن هذا الدعاء كان قبل بناء البيت وقبل أن يكون الوادي بلداً مسكوناً، وقال في سورة إبراهيم: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ﴾ [الآية: 35] بالتعريف؛ لأن هذا الدعاء كان- والله أعلم- بعد بناء البيت وبعد أن كان الوادي بلداً مسكوناً، كما قال تعالى في سورة التين: ﴿ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 3]، وقال في سورة البلد: ﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ [البلد: 1، 2].

و"البلد" اسم للمكان المسكون كالمدينة والقرية.

﴿ آمِنًا ﴾: صفة لـ "بلداً"، أي: مكان وموضع أمن من الخوف فلا يرعب أهله.

وقد أجاب الله دعوة إبراهيم عليه السلام، فجعل مكة بلداً آمنا شرعاً وقدراً، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [آل عمران: 97]، وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 67]، وقال تعالى: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 3، 4]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].

ومن أراده بسوء قصمه الله كما فعل بأبرهة وأصحاب الفيل.

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح"[1].

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة، ما بين لابتيها لا يقطع عضاها، ولا يصاد صيدها"[2].

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها"[3].

وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف على المدينة قال: "اللهم إني أحرم ما بين لابتيها مثل ما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم..." الحديث[4].

وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة"[5].

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف"[6].

وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها. فقال العباس إلا الإذخر؛ فإنه لقينهم ولبيوتهم. فقال: إلا الإذخر"[7].

وفي حديث أبي شريح العدوي: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس... الحديث"[8].

ولا منافاة بين هذين الحديثين وما في معناهما من الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم حرمها؛ لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها، وأنها لم تزل بلداً حراماً عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها؛ ولهذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 91].

﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾: بعد أن دعا إبراهيم عليه السلام ربه بجعل مكة بلداً آمنا أتبع ذلك بدعوة أخرى وهي أن يرزق أهله من الثمرات؛ لأن النعمة لا تتم إلا بتوفر الأمن والرزق؛ ولهذا امتن الله عز وجل على قريش بقوله تعالى: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 3، 4].

ومعنى ﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ أي: وأعط أهله من الثمرات، والرزق: العطاء.

﴿ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ بدل من قوله: (أهله) بدل بعض من كل، فخصص دعوته بالرزق بمن آمن من أهل الحرم بالله واليوم الآخر.

و"من": موصولة، و"آمن": صلة الموصول، أي: الذي آمن منهم.

والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.

﴿ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ أي: وآمن باليوم الآخر؛ يوم القيامة، وما فيه من البعث والحساب والأهوال، والجزاء على الأعمال، بالجنة أو النار.

وسمي بـ "اليوم الآخر" لأنه لا يوم بعده والإيمان بالله لا يتم إلا بالإيمان بشرعه، ومن ذلك بقية أركان الإيمان وهي: الإيمان بالملائكة والكتب والرسل، وبالقدر خيره وشره، وغير ذلك مما أوجب الله الإيمان به.

كما يتضمن ذلك أركان الإسلام الخمسة وكل ما أوجب الله القيام به؛ لأن الإيمان والإسلام إذا أفرد أحدهما تضمن الآخر.

وهذا الدعاء من جوامع كلم النبوة فإنه لا قوام للحياة ولا لأمور الدنيا والدين إلا بالأمن والرزق.

﴿ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ ﴾ القائل هو الله عز وجل، وقوله: ﴿ وَمَنْ كَفَرَ ﴾معطوف على قوله: ﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ﴾أي: قال الله: وأرزق من كفر، أو: ومن كفر أرزقه أيضاً، فعم بالرزق من آمن ومن كفر، كما قال تعالى: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20].

فخص إبراهيم بالدعوة بالرزق من آمن فقط، وأجيب بتكفله عز وجل برزق الجميع من آمن ومن كفر، وهذا بخلاف دعوة إبراهيم السابقة لما قال الله له: ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ [البقرة: 124]، ﴿ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ [البقرة: 124] فعمم إبراهيم بهذه الدعوة، وأجيب بتخصيصها بغير الظالمين بقوله تعالى: ﴿ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124].

﴿ فَأُمَتِّعُهُ ﴾ قرأ ابن عامر بإسكان الميم وتخفيف التاء: ﴿ فَأُمْتِعُهُ ﴾، وقرأ الباقون بفتح الميم وتشديد التاء: ﴿ فَأُمَتِّعُهُ ﴾، أي: فأعطيه ما يتمتع به من مسكن ومأكل ومشرب وملبس وغير ذلك من متاع الدنيا الزائل.

﴿ قَلِيلًا ﴾: صفة لظرف محذوف، أي: فأمتعه زماناً قليلاً، أي: زماناً قصيراً ؛ لأن عمر الإنسان مهما طال فهو قصير، ولأن الدنيا كلها بالنسبة للآخرة قليل.

وأيضاً فأمتعه متاعاً أو تمتعاً قليلاً، فيكون "قليلاً" صفة لمصدر محذوف، أي: متاعاً قليلاً من حيث عين المتاع.

فمهما أوتي الإنسان من الدنيا وملذاتها فذلك قليل بالنسبة للآخرة، كما قال تعالى: ﴿ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38]، وقال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ﴾ [الروم: 55]، وقال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ [يونس: 45]، وقال تعالى: ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الأحقاف: 35].

وقال تعالى: ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ﴾ [المؤمنون: 112، 113]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 52]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ﴾ [طه: 102 - 104].

وقال صلى الله عليه وسلم: "وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها"[9].

ومع قصر عمر الإنسان في هذه الدنيا، وقلة ما يحصل له من متاعها، فذلك مشوب بالكبد والكدر، كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4].

وكما قيل:
لا طيب للعيش ما دامت منغَّصة
لذَّاتُهُ بادِّكَارِ الموتِ والهَرَمِ[10]




إضافة إلى نزع البركة من العمر ومما يحصل عليه الإنسان من الدنيا بالنسبة لأهل الكفر والمعاصي.

﴿ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ﴾ ذكر الله الوعيد بالعذاب بعد ذكر الوعد بالمتاع احتراساً من أن يغتر الكافر فيظن أن تخويله بالنعم في الدنيا دليل على رضى الله تعالى عنه، وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [لقمان: 23، 24]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [يونس: 69، 70]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النحل: 116، 117].

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102] "[11].

ومعنى ﴿ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ﴾ أي: ثم ألجئه وأكرهه وأدفعه وأسوقه إلى عذاب النار، كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ﴾ [الطور: 13]؛ أي: يدفعون بشدة وقوة، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ﴾ [القمر: 48]، وقال تعالى: ﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ [ق: 21].

﴿ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ الواو: استئنافية: و"بئس": فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي، أي: وبئس المصير هي، أي: النار، و"المصير" المرجع والمآل والمآب.

المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»

[1] أخرجه مسلم في الحج (1356).

[2] أخرجه مسلم في الحج (1362) وأبو داود في المناسك (2039).

[3] أخرجه البخاري في الأنبياء (3367)، ومسلم في الحج (1345)، والترمذي في المناقب (3922).

[4] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2893)، ومسلم في الحج (1365).

[5] أخرجه البخاري في البيوع (2129)، ومسلم في الحج (1360).

[6] أخرجه مسلم في الحج (1374).

[7] أخرجه البخاري في الحج (1834)، ومسلم في الحج- تحريم مكة وصيدها (1353)، وأبو داود في المناسك (2017)، والنسائي في مناسك الحج (2892)، والترمذي في السير (1590)، وابن ماجه في الجهاد (773).

[8] أخرجه البخاري في العلم (104)، ومسلم في الحج (1354)، والنسائي في فضائل الحج (2876)، والترمذي في الحج (809).

[9] أخرجه البخاري في الجهاد- فضل رباط يوم في سبيل الله (2892)، والترمذي في فضائل الجهاد (1648)، وابن ماجه في الزهد (2377) – من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

[10] البيت مجهول القائل. انظر: "أوضح المسالك" (1/ 242).

[11] أخرجه البخاري في الجهاد- فضل رباط يوم في سبيل الله (2892)، والترمذي في فضائل الجهاد (1648)، وابن ماجه في الزهد (2377)- من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 06-06-2022, 06:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,220
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ.... ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]

عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في حديثه الطويل في قصة مجيء إبراهيم عليه السلام بهاجر وابنها إسماعيل، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد- وفي آخره أن إبراهيم عليه السلام قال: "يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك عز وجل. قال: أوتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً- وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها- قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "[1].

قوله: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ، أي: واذكر يا محمد حين يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، والتعبير بالمضارع ﴿ يَرْفَعُ لاستحضار الصورة والحالة كأنها تشاهد.

و ﴿ الْقَوَاعِدَ : جمع قاعدة، وقواعد البيت أسسه التي يقوم عليها، ورفعها إبرازها من الأرض لتقوم عليها الجدران.

﴿ مِنَ الْبَيْتِ "من": بيانية، أي: من البيت الحرام "الكعبة".

وفي اختياره مادة الرفع بدل الإطالة، مع تعريف "القواعد" و"البيت" تنويه بهذا العمل العظيم، وتشريف وتعظيم للبيت الحرام والكعبة المشرفة.

قال ابن القيم[2]: "ولم يقل قواعد البيت لما في إبهام القواعد، ولما في تبيينها بعد ذلك من الإيضاح، وتفخيم حال المبهم بما ليس في الإضافة".

﴿ وَإِسْمَاعِيلُ : معطوف على إبراهيم، وأخَّر ذكر إسماعيل- والله أعلم- للإشارة إلى التفاوت في عمل كل منهما؛ فإبراهيم هو الأصل فهو الذي يبني، وإسماعيل يعينه ويناوله الحجارة.

عن عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تَرَيْ أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم" فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت"[3].

﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا الجملة في محل نصب مقول القول، أي: وهما يقولان: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا أي: حال كونهما يقولان: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ، أي: يا ربنا، وحذفت منه ياء النداء لكثرة الاستعمال، وللتبرك بالبداءة باسم الرب عز وجل.

﴿ تَقَبَّلْ مِنَّا أي: يقول كل منهما: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ، وتقبل الله تعالى للعمل أن يتلقاه بالرضا، ويرضا عن فاعله، فيثيبه على عمله بالأجر العظيم.

ولم يذكر مفعول "تقبل" ليعم رفع بناء البيت وغيره من القرب والطاعات.

﴿ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الجملة تعليلية، مؤكدة بـ"إنَّ" والضمير المنفصل "أنت" أي: ندعوك، ونسألك أن تتقبل منا؛ لأنك أنت السميع العليم، تسمع دعاءنا، وتعلم حالنا وسرنا وعلانيتنا، لا يسمع دعاءنا، ولا يعلم حالنا سواك.

فجمعا- عليهما الصلاة والسلام- بين رفع قواعد البيت والإخلاص لله تعالى في العمل، وبين دعاء الله وخوفه ورجائه، والإشفاق من عدم القبول كما حكى الله تعالى عن المؤمنين المخلصين في قوله: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ [المؤمنون: 60] أي: خائفة ألا يتقبل منهم، كما في حديث عائشة- رضي الله عنها، حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذكورين في هذه الآية: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا، يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات"[4].

و﴿ السَّمِيعُ : اسم من أسماء الله عز وجل على وزن "فعيل" يدل على أنه ذو السمع الواسع الذي يسع جميع الأصوات، والذي هو صفة ذاتية ثابتة لله عز وجل، كما قال تعالى لموسى وهارون: ﴿ نَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46]، وقال تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى ﴾ [الزخرف: 80]، وقال تعالى: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [المجادلة: 1].

ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل:﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾ إلى آخر الآية"[5].

قال ابن القيم[6]:
وهو السميع يرى ويسمع كل ما
في الكون من سر ومن إعلان
ولكل صوت منه سمع حاضر
فالسر والإعلان مستويان
والسمع منه واسع الأصوات لا
يخفى عليه بعيدها والداني


كما يدل "السميع" على أنه سبحانه السميع بمعنى المستجيب للدعاء، كما قال إبراهيم- عليه الصلاة والسلام: ﴿ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 39]، وقال زكريا عليه السلام: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38] أي: مستجيب الدعاء. ومن ذلك قول المصلي: "سمع الله لمن حمده"[7]؛ يعني: استجاب لمن حمده، والسمع بمعنى الاستجابة من الصفات الفعلية المتعلقة بالمشيئة، فمن شاء استجاب له، ومن شاء لم يستجب له.

و ﴿ الْعَلِيمُ : اسم من أسماء الله عز وجل على وزن "فعيل" يدل على أنه ذو العلم الواسع العظيم الذي وسع كل شيء، كما قال تعالى: ﴿ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98].

قال ابن القيم[8]:
وهو العليم أحاط علماً بالذي
في الكون من سر ومن إعلان
وبكل شيء علمه سبحانه
فهو المحيط وليس ذا نسيان
وكذاك يعلم ما يكون غداً وما
قد كان والموجود في ذا الآن
وكذاك أمر لم يكن لو كا
ن كيف يكون ذا إمكا


[1] أخرجه البخاري في الأنبياء (3364).

[2] انظر "بدائع التفسير" (1/ 338).

[3] أخرجه البخاري في الحج (1583)، ومسلم في الحج (1333)، والنسائي في مناسك الحج (2900).

[4] أخرجه الترمذي في التفسير (3175)، وابن ماجه في الزهد (4198).

[5] أخرجه البخاري معلقاً في التوحيد- باب ﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ "فتح الباري" (13/ 372)، وأخرجه موصولاً النسائي في الطلاق (3460)، وابن ماجه في المقدمة- فيما أنكرت الجهمية (188)، وأحمد (6/ 46).

[6] في "النونية" ص (146).

[7] أخرجه البخاري في الأذان (689)، ومسلم في الصلاة (4) وأبو داود في الصلاة (601)، والنسائي في الإمامة (794)، والترمذي في الصلاة (361)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (876)- من حديث أنس رضي الله عنه.

[8] في "النونية" ص (146- 147).






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 301.48 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 295.60 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.95%)]