غصون رمضانية - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح صحيح مسلم الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 794 - عددالزوار : 81375 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 60 - عددالزوار : 16655 )           »          حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          أندلسييو مدينة فاس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          أهلا يا رمضان شهر الإقبال على الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5055 - عددالزوار : 2237620 )           »          القائد المغولي الكبير تيمور لنك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          أفضل الكلام وأحبه إلى الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12 - عددالزوار : 335 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4638 - عددالزوار : 1515807 )           »          كيف نستعدُ لرمضانَ كما ينبغي؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > ملتقى اخبار الشفاء والحدث والموضوعات المميزة > رمضانيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

رمضانيات ملف خاص بشهر رمضان المبارك / كيف نستعد / احكام / مسابقات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 28-02-2023, 09:43 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: غصون رمضانية

غصون رمضانية (11) صيام اللسان


عبدالله بن عبده نعمان العواضي





اللسان عضو صغير ذو خطر كبير:
إن اللّسان صغيرٌ جِرمُهُ وله *** جُرمٌ كبيرٌ كما قد قيل في المثل[1]
فهو يُعلي صاحبه أو يُدنيه، ويحبّبه أو يقليه، ويعزه أو يذله، وينفعه أو يضره، ويبعده أو يقرّبه، ويربِحه أو يخسره. فبنطق اللسان يدخل الإنسان الإسلام أو يخرج منه، وبه يثقل ميزانه أو ينخفض، وبه يدخل الجنة أو يدخل النار. وبه تزيد حسناته أو تزيد سيئاته، وبه يزيد أصدقاؤه أو يزيد أعداؤه، وبه يزيد ماله أو تزيد خسارته.

وبنطق اللسان يُعرف عقلُ الإنسان من حمقه، وعلمه من جهله، وفصاحته من عيه، وصدقه من كذبه، وعفته من فحشه، وحلمه من طيشه؛ فاللسان مرآة العقول والقلوب، " إنَّ اللسانَ رسولُ القلبِ للبشرِ"[2].
يدل على جهل الفتى فضلُ نطقه
ونطقُ أخي العقل الرصين قليل

وإنّ لسان المرء ما لم يكن له
حصاة على عوراته لدليل[3]


إن النطق – الذي جُعل اللسان وسيلة له - مِنَّة سامقة، وهِبة باذخة، أُعطيها الإنسان ليصل به إلى منافعه، ويدفع به مضاره. فهو الحاسة التي اختص بها الإنسان عن سائر الحيوان فغدت الوسيلة التعبيرية العظمى التي يعبر بها الإنسان عما يجيش في نفسه، وينقل عبرها ما يريد أن يُفهمه غيره بكل سهولة، بخلاف الأبكم؛ فإنه متى أراد أن يفهم غيره مراده استخدم أصواتًا متنوعة، وحركات متعددة، مع صحبة المشقة في ذلك.

فلما كان اللسان في هذا المكان السامي صار محلاً للحسنات والسيئات، وغدا ما يفوه به من الخير والشر مدونًا في صحيفة الإنسان يحاسب عليها عند لقاء ربه، قال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وقال: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12].

فمن حسنات اللسان: " النطق بالشهادتين، وتلاوة القرآن، والدعاء والذكر، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعلم العلم النافع وتعليمه، وغير ذلك.
ومن سيئات اللسان: النطق بكلمات الكفر والنفاق والزندقة، والإساءة إلى الناس من كذب وغيبة ونميمة واستهزاء وفحش، وغير ذلك.

إن الإنسان يواجه مشقة شديدة في زمّ لسانه، وتقويم عوجه، ومراقبة ما يتكلم به، ولكن مع قوة الإيمان وحصافة العقل والتعود يسهل الأمر.
عوّد لسانك قولَ الخير تحظ به
إن اللسان لما عوّدت معتادُ

موكل بتقاضي ما سننتَ له
في الخير والشر فانظر كيف ترتادُ[4]



فمن استطاع أن يكون سيدَ لسانه، وقائد بيانه فلم يفه لسانه إلا بصواب القول؛ سَلِم دينه، وارتاح ضميره، وكُفي عواقب القول غير المرضي، وأمِنَ حُرَقَ الندامات، فالعاقل يتذوق الكلام قبل إخراجه، كما يتذوق الطعام قبل ابتلاعه، ويرجّ عقله قبل الحديث كما يرج مشروبات الدواء، ومشروبات الغذاء قبل الاستعمال.

فإذا لم يجد المرء مجالاً لقول الخير فليلذْ بحصن الصمت، فالعي في الباطل فصاحة في ميزان الحق؛ لهذا دعت الشريعة الغراء كما نصح الحكماء بالفيئة إلى السكوت إلا في الحق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)[5].
سجنُ اللسان هو السلامة للفتى
من كلّ نازلةٍ لها استئصال

إنّ اللسان إذا حللت عقاله
ألقاك في شنعاء ليس تقال[6]



إن من رحمة الله وفضله على عباده المؤمنين أن وهبهم دورة تدريبية- لمن لم يَسِر عليها من قبل- يتدربون فيها على إمساك اللسان عن كل سوء، وذلك في رمضان المبارك فهو موسم للصيام الحسي والمعنوي للجوارح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور، والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)[7].

وقال عليه الصلاة والسلام: (قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)[8].

فالمسلم مأمور في رمضان أن يُصيم لسانه عن كل قول مشين في حق الله تعالى، أو حق الرسول عليه الصلاة والسلام، أو حق الدين، أو حق الخلق، ابتداء أو رداً.
إن من المشاهد المؤسفة أن يُرى بعض الصائمين في رمضان كثيرَ الذكر، كثير التلاوة، كثير الإحسان بالمال في رمضان، لكنه ذرِبُ اللسان على الناس الأقربين والأبعدين، تخرج كلماته إلى الناس شظايا تحرق الأسماع، وتجرح القلوب، حتى عُدّت جراحات اللسان عند الشرفاء أشد من جراحات السنان؛ ولذلك عبر الشعراء عن ذلك،
فقال أحدهم:
وَقَدْ يُرْجَى لِجُرْحِ السَّيْف بُرْءٌ *** وَجُرْحُ الَّدهْرِ مَا جَرَحَ اللَّسانُ [9]
وقال آخر:
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا التِئَامٌ *** وَلا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ الِّلسَانُ[10]
وقال آخر:
وجرحُ اللسان كجرح اليد[11]
وقال آخر:
والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر[12].
وعلى المسلم كذلك أن يزين لسانه بكل قول حسن من العبادات والأخلاق القولية الحسنة التي يؤدي بها حق الخالق، وحق المخلوق.
احفظ لسانك واحتفظ من شرّه
إنّ اللسان هو العدوّ الكاشحُ

وزنِ الكلام إذا نطقتَ بمجلس
فيه يلوح لك الصواب اللائح

والصمتُ من سعد السعود بمطلع
تحيا به والنطق سعد الذابح[13]


فمن صام لسانه شهرَ رمضان كله كما صامت بطنه فقد ربح ربحًا جزيلاً، فذاق في الدنيا حلاوة الصيام، ويرجى له في الآخرة وافر الإكرام.


[1] البيت لابن المقري، جواهر الأدب، للهاشمي (2/ 34).

[2] شطر بيت لابن عربي، ديوان محيي الدين بن عربي (ص: 433).

[3] غرر الخصائص الواضحة، للوطواط (ص: 96).

[4] الجليس الصالح والأنيس الناصح، للمعافى بن زكريا (ص: 128).

[5] متفق عليه.

[6] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للتلمساني (2/ 139).

[7] رواه البخاري.

[8] رواه البخاري.


[9] فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، للبكري (ص: 24).

[10] فصل المقال في شرح كتاب الأمثال (ص: 24).

[11] شطر بيت لامرئ القيس، البيان والتبيين، للجاحظ (ص: 96).

[12] شطر بيت للأخطل، أدب الخواص، للوزير المغربي (ص: 5).

[13] غرر الخصائص الواضحة، للوطواط (ص: 95).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 28-02-2023, 09:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: غصون رمضانية

غصون رمضانية (12) صيام السمع


عبدالله بن عبده نعمان العواضي









أطلَّ الإنسان على هذه الحياة وعلى كَتَده جرابُ أمانات استُودِعها؛ ليحفظها، ويقوم بحقوقها، فإن نثرها متخففًا منها؛ هرعًا إلى شهواته ثقلَ عليه الحساب، وخسر عند السؤال يوم المآب.




ومن تلك الأمانات: أمانة السمع، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36].




لقد أعطى الله الإنسان هبةَ السمع إنعامًا عليه؛ لتكون وسيلة إلى تحصيل العلوم، واستنارة الفهوم، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78].




يمشي الإنسان في أحضان هذه الحياة، ويتقلب بين أكنافها فتتوارد إلى سمعه أصوات مختلفة يهتز ببعضها، وينقبض من أخرى، فيسمع الأصوات المحبوبة فيصغي إليها، ويلتذ بسماعها، فينعم باله، وينشرح قلبه، وتنبسط نفسه.




وتصل إلى سمعه الأصوات المكروهة فيمجها، ويعرض عنها، ويتخذ الموقف المناسب إزاءها.




فيسمع آيات القرآن الكريم – ولا سيما إذا كانت بصوت عذب - تتحدر على أذنيه تحدّرَ الجمان فيجد لتلك الحروف الندية نغمة رائعة تتسلسل بها الحياة إلى القلب فيطرب لها فرحًا، فينشط إلى تلبية نداء تلك الحروف الهادية: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18].




ولسماع القرآن العظيم تأثير عظيم على النفوس؛ ولهذا كان الكفار يصفونه بالسحر؛ لقوة انجذاب السامعين إليه، حتى كانوا يتواصون بعدم سماعه، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]، فكم أسلم في القديم والحديث من الناس لسماع آيات هذا الكتاب العظيم.




وبهذه النعمة - نعمة السمع - تصل إلى الإنسان أحكام الدين، فيعرف الحلال فيتبعه، ويعلم الحرام فيجتنبه، وبه يتلذذ بوصول كلام والديه وأولاده ومن يحب.




وبهذه النعمة ينصرف إلى هذا الكتاب المفتوح - الكون - فيسمع تسبيحه في حفيف أشجاره، وتغريد أطياره، وخرير أنهاره، وانهلال أمطاره، وهزيز رياحه، وهزيم رعوده، ويسمع ناطق الكون وصامته، على اختلاف لغاته، وتعدد نغماته. فيقول:



فيَا عَجَبَاً كيفَ يُعصى الإلهُ

أمْ كيفَ يجحدهُ الجاحِدُ!





وفِي كلِّ شيءٍ لَهُ آيةٌ

تَدُلّ على أنّهُ الواحِدُ[1]






فما أعظم نعمة السمع التي يتقلب الإنسان في نعيمها وقد لا يشعر بعظمها، إلا إذا ضعُفت أو فُقِدت!.




بيد أن هناك سامعين لم يعرفوا قدر هذه الأمانة؛ فأعرضوا عن أداء حقها، فسخروها في سماع الباطل، وتتبع السوء: من جنوحٍ محبٍّ إلى استماع الانحرافات العقدية، والاعوجاجات الأخلاقية؛ بغية تشرّبها، ومن انصراف إلى استماع لهوٍ يدعو إلى الرذيلة، ويشغل عن الفضيلة، ومن ميل إلى متابعة أصوات النساء؛ تلذذاً بها، كما قال بشار الأعمى:



يا قومِ أذْنِي لِبْعضِ الحيِّ عاشقةٌ

والأُذْنُ تَعْشَقُ قبل العَين أَحْيانا






فأسمعينيَ صوتاً مطرباً هزجاً

يزيد صبًّا محبّاً فيكِ أشجانا[2]








وكما قالت أعرابية:



وما الحبُّ إلاَّ سمعُ أُذنٍ ونظرةٌ

ووجبةُ قلبٍ عن حديثٍ وعنْ ذكرِ



ولوْ كانَ شيءٌ غيرهُ فنيَ الهوَى

وأبلاهُ مَن يهوى ولوْ كانَ مِن صخرِ[3]








ومتى ما وصلت تلك الأصوات النابية إلى آذان واعية زرعتها في القلب المريض فأشرِب حبَّها، فأينع نباتها على الجوارح ثمراتٍ مرّة من الأعمال والأقوال السيئة.




إن رمضان إذا أشرق نجمُه في النفوس شعشعَ فيها أنوارَ المعرفة لنعم الله تعالى، فسخر العبد الموفق ما وهبه الله منها في مرضاته، فيلتفت إلى سمعه ليشاركه في الصوم، فيهدي إليه الأصوات النافعة، ويحول بينه وبين سماع الأصوات المضرة، فإذا جاءت أصوات الحق كان " أَسْمَع مِنْ سِمْعٍ"[4] لها، وإن وردت أصوات الباطل أعرض عنها، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 55].




ففي هذا الشهر الكريم يزين سمعه ويصغيه إلى سماع القرآن وقلبُه حاضر؛ ليثمر ذلك السماع الجامع لأركان الفائدة التدبرَ والخشية وزيادة الإيمان، والإقبال على العمل الصالح، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، وقال: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]. ويحليه بسماع الموعظة، وكلماتِ النور التي تهديه إلى الصراط المستقيم.




ويحليه بسماع الأخبار والعلوم الطيبة التي تزيده من الله تعالى قربة، وفي الحياة معرفة، فإذا ورد سمعَه الغثُ والسمين من المسموعات وأراد تفريغ ما سمع في آذان الناس انتقى من ذلك الصوابَ فحدّث به، ودفن مسموع الباطل في طي النسيان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع) [5]. ولا يحدث بعد إلا بما يتأكد من سماعه؛ خشية أن يخطئ في الحديث؛ بسبب خطأ وصول المعلومات إلى أذنيه، كما قالت العرب: " أَسَاءَ سَمْعاً فأَساءَ جَابَةً" [6].




ويجعل بينه وبين سماع ما يجرح الصوم، ويصيب الديانة في مقتل، خندقًا من ورع وإعراض، كاستماع الحروف المظلمة التي تدعو إلى انحراف القلب والفكر عن الجادة المستقيمة، وكاستماع الغيبة والنميمة، والفحش والبذاء، والطعن في الأعراض، والكذب والبهتان، والغناء والخنا، والدعوة إلى الرذيلة.




قال مسكين الدارمي:







ويُصمّ عما كان بينهما

سمعي وما بي غيرُه وقر[7]








وقال معن بن أوس:



لعمرك ما أهويتُ كفّي لريبةٍ

ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي



ولا قادني سمعي ولا بصري لها

ولا دلّني رأيي عليها ولا عقلي [8]








وقال الآخر:



توخَّ من الطُّرق أوساطها

وعَدِّ عن الجانبِ المشتبَه



وسمعَكَ صُنْ عن سماع القبي

ح كصون اللّسان عن اللّفظ به



فإنَّكَ عند استماع القبيح

شريك لقائله فانتبه[9]








[1] ديوان أبي العتاهية (ص: 45).




[2] ديوان بشار بن برد (ص: 1057).




[3] الزهرة، لابن داود الأصبهاني (ص: 1).




[4] مثل عربي، ومعناه ينظر في مجمع الأمثال، للميداني (1/ 352).




[5] رواه مسلم.




[6] قصة المثل في مجمع الأمثال، للميداني (1/ 330).




[7] التذكرة الحمدونية، لابن حمدون (1/ 190).




[8] أمالي القالي (ص: 241).




[9] الكشكول، للعاملي (1/ 174).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 01-03-2023, 02:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: غصون رمضانية



غصون رمضانية (13) رسول القلب


عبدالله بن عبده نعمان العواضي




البصر نورٌ وهبه الله تعالى للإنسان ينير له دروبَ الحياة، فيرى به مصالح دنياه وأخراه، يشاهد بهذه النعمة السابغة صفحات هذا الكون المفتوح وعليه شواهد إبداع الخالق، ودلائل عظمة تصويره وقدرته، تلك المشاهد الآسرة للأبصار المتأملة تنطق بصمتها، وتعظ بسكونها، وتهدي إلى بارئها بروعة تكوينها، ودقة تلوينها، ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 185]. إذا فتح الإنسان عينيه فنظر أمامه فسيقابل ذكرى ظاهرة، وإلى خلفه فسيُلفي آية باهرة، وعن يمينه فسيجد براهين قاطعة، وعن شماله فسيرى حجة دامغة، وإلى فوقه فسيسمو إلى عبرة كاملة، وإلى تحت قدميه فسيلحظ أدّلة دامغة.



قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 6 - 8]، وقال: ﴿ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 18 - 20].



يتنقل البصر في جوانب الحياة فيرى مصارع أهل العناد، ومكارم الصالحين من العباد، فيعرف أيَّ الطريقين يسلك، ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 137].



ويرجع إلى نفسه فيتأمل بعينيه المبصرتين كيف خلقه الله وسواه وعدله، وينظر إلى والديه فيتنعم بالنظر إليهما، وإلى زوجه فيتمتع بمشاهدة روضة فؤاده التي جعل الله بينه وبينها مودة ورحمة، ويلتفت إلى أولاده ثمرات قلبه فيملأ عينيه بالنظر إليهم، ويجلس مع أحبابه وأُلاّفه فتجتمع له معهم نِعم الجلوس والسماع والمشاهدة.



يحمل المصحف بين يديه فيغسل عينيه بنوره سورةً سورة وآية آية وكلمة كلمة، ثم ينطلق إلى أعمال دنياه ونورُ بصره يفسح له الطريق ليقضي مآربه. ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ﴾ [البلد: 8].



فلله ما أعظم هاتين الحبيبتين! وما أقلَّ شكرنا لهما!؛ لهذا عظم أجر من فقدهما فاحتسبهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)[1]. يريد عينيه.



ولكن هذه النعمة العظيمة صرفها كثير من أهلها إلى مساخط المنعم بها!!، فنظر بها بعض الناس إلى معالم الشرك والإلحاد وأدبياتهما فأشركوا بالله وألحدوا، وتتبع بها آخرون عورات المسلمين، وسرحها آخرون في صور المردان والنسوان، وقرأ بها آخرون الحروف المظلمة للدين والدنيا.



ومن هنا انطلقت السهام إلى القلب فغدا مأوى للفساد، ومهيعًا للخراب، فسكنت فيه الشياطين فأسدلت فيه حجبَ الظلمات، وهجّرت منه أنوار الهداية، حتى عششت فيه غربان الظلام وهاماتُه.



والسبب في هذا المآل المردي أن بين القلب والعين ارتباطًا وثيقًا، وسببًا متصلاً؛ فالقلب هو الملك خلف أسوار الظاهر، ومبعوثُه إلى خارج قصره هو العين التي ائتمنها على منقولاتها إليه، فما جاءه منها تقبله فأثر فيه صلاحًا وفساداً.



رمى اللهُ في عينيْ بثينةَ بالقذَى

وفي الغرّ مِن أنيابِها بالقوادحِ




رمتْني بسهمٍ ريشهُ الكحلُ لمْ يضرْ

ظواهرَ جلدي فهوَ في القلبِ جارِحي[2].








إن العين إذا فسدت جرّت على القلب الويلات، وساقت إليه الحسرات؛ لأنها إذا انطلقت إلى الحرام ارتدّت سهمًا مسمومًا يمرض القلب أو يقتله، وحينها يزفر القلب الآهات، ويتأوه من شده الوجع، وعجزِ الوصول إلى المبتغى!



وكنتَ متى أرسلت طرفك رائداً

لقلبك يوماً أتعبتك المناظر




رأيت الذي لا كلّه أنت قادرٌ

عليه ولا عن بعضه أنت صابر[3].








وقد كان أمرُ السلامة إليه لو قيّد رسوله عن مستنقعات الحرام، وقصره على رياض الحلال!

وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُه ♦♦♦ فَمَنِ المُطالَبُ والقَتيلُ القاتِلُ؟![4].



إذا دخل رمضان الذي يراد منه صلاحُ القلب واستقامته كان من المتعين على المسلم أن يحجب بصره بجفون الغض له عن مواطن الحرام؛ فإن ذلك سيساعد على حياة القلب وإشراقه ورفده بجنى السعادة والراحة.



قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 30، 31].





من أطلق الطَّرْفَ اجتنى شَهْوَةً

وحارسُ الشَّهوةِ غضُّ البَصَرْ




والطّرْفُ للقلبِ لسانٌ فإنْ

أرادَ نطقاً فليكرَّ النَّظَرْ[5].








أما إذا أطلق الصائم بصره من حصون العفة، وأخرجه من جفون النزاهة فأرسله من علياء الحذر إلى وهادِ الخطر فأصبح يسرح في مناجع الفساد الفكري قارئًا في كتاب أو مجلة أو صحيفة، أو مشاهداً في قناة أو صفحة الكترونية، أو أضحى يتنقل بين مفاتن النساء جامعًا حطب الفتنة، أو أمسى يتابع أحوال المسلمين الصالحين متجسسًا عليهم لإيقاعهم في حبائل الشر؛ فإن صومه سيصاب بجروح بليغة، فلا يجد معها لذة الصيام، ولا نعمة رمضان، والسبب أن قلبه اشتعل بسعير الشبهة، وتأجج بسعار الشهوة.





لا تكثرنَّ تأمُّلاً

وامْلِكْ عَلَيْك عنانَ طَرْفِكْ




فَلرُبَّما أرسلتَه

فَرَمَاكَ في ميدانِ حَتْفِكْ[6].








فمن كان وافرَ العقل في رمضان فليجعل أمام عينيه سياجًا من الورع دون الحرمات، وليبعد نفسه عن سوق الشبهات والشهوات الواردة إلى القلب عبر قناة العين، فمن زنت عيناه، فليسارع إلى العفاف والكف، وليخلع لباس الذنب، وليغسل جنابة النظر الحرام بدمع الندم الغزير الذي يغسل مجاري الشيطان، ويطفئ وهج النيران الذي قدحت زنادَهما العينان، وليلبس كساء التوبة لينال الغفران.



قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة: فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)[7].





[1] رواه البخاري.




[2] ديوان جميل بثينة (ص: 18).




[3] ديوان المتنبي (ص: 120).




[4] عيون الأخبار، لابن قتيبة (ص: 381).





[5] بهجة المجالس وأنس المجالس، لابن عبد البر (ص: 179).




[6] بهجة المجالس وأنس المجالس، لابن عبد البر (ص: 179).




[7] متفق عليه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 01-03-2023, 02:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: غصون رمضانية

غصون رمضانية (14) سلاح المؤمن


عبدالله بن عبده نعمان العواضي








تتقاطر على الإنسان في هذه الحياة جيوشُ المكاره جيشًا تلو جيش، فمنها ما يقيم ويأبى المغادرة، ولا تنجع معه وفود الوساطات، ولا عوامل التهدئة، ولا الحلول البشرية. ومنها ما يلم به، وينزل به ضيفًا غير مقيم، ولكن تختلف مُدد إقامته طولاً وقصراً.




فكم يعاني الإنسان في ليله ونهاره من الأوجاع والآلام، وكم يبقى في أيدي الهموم والأحزان، حتى يطول ليله، ويظلم نهاره:



وليلٍ كموج البحر أرخى سدولهُ

عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي




ألا أيّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلي

بصُبْحٍ وما الإصْباحَ مِنك بأمثَلِ[1]









ويجافي النوم عينيه، ويستضيفه السهاد لديه:

نام الخَليُّ من الهُمومِ وبات لِي ♦♦♦ ليلٌ أُكَابِدُه وهَمٌّ مُضْلِعُ [2]

♦♦♦





مَن تستضفْه الهمومُ لم يَنَمِ

إلاَّ كَنومِ المريض ذي السّقم




ولا يزَلْ قلبُه يكابِد ما

تُولد فيه الهمومُ من ألم[3]









وكم تلجّ به الأشواق والحنين لشيء يروم وصاله، ودون لقائه خرط القتاد:



تمادى البعدُ دونهمُ فأمستْ

دموعُ العين لجّ بها التّمادي




لقد مُنع الرقادُ فبتُّ ليلي

تجافيني الهمومُ عن الوِساد[4]








وكم يطوّق مسارَّ الإنسان الخوفُ والاضطراب، فيظل مِقلاقًا يترنّح على قارب صغير في بحر هائج كبير.




وكم من أمانٍ تُرجى وطال طريق بلوغها، وكم من مخاوف مازالت أنياب بؤسها مكشرة لم يولد المخلِّص منها. وبين رجاء الفرج ونيل المنى يظل الإنسان أعزل محتاجًا إلى سلاح ماضٍ يدفع به ما يكره، ويصل به إلى ما يبغي.



إنَّ القلوبَ رواجفٌ

من أن يمسَّكَ شوكُ حاطبْ








فجعلتها سوراً عليـ

ـكَ من الحوادثِ والنوائبْ[5]









فكان دعاء الإنسان ربه تعالى دون غيره هو ذاك السلاح الذي لا ينبو، والسهم الذي لا يطيش، والعدة الحربية التي لا يستطاع حظرها، ولا يمكن تحديد مداها، ولا يثقل حملها، ولا تقف أمام إصابتها -إذا قبلها الله- كلّ الدفاعات البشرية، فهو عابر الحدود، وهادم السدود، وممزق الحصون الجائرة، ومعجز الموانع البشرية القادرة.




لكن هذا السلاح الفتاك لا يحسن استعماله كل إنسان؛ " فإن السيف بضاربه:



إن السيوف مع الذين قلوبهم

كقلوبهن إذا التقى الجمعان




تلقى الحسامَ على جراءة حدّه

مثل الجبان بكف كل جبان[6]









فالدعاء يفتقر إلى شروط وآداب تحمله على معارج القبول حتى يتحقق المأمول، فالداعي المخلص، الحاضر القلب، الآكل من الطيبات، المختار للأوقات والأحوال المناسبة، الصابر على دوام الطلب يوشك أن يصل إلى هدفه:



لا تَيْأَسَنَّ وإنْ طالَتْ مُطالبَةٌ

إذا استعنَت بصبر أن ترى فَرَجا








أَخْلِقْ بذي الصبرِ أن يحظَى بحاجته

ومُدْمِنِ القَرْعِ للأبواب أن يَلِجَا[7]










إن للدعاء في رمضان الصيامِ خصوصيةً تجعل المسلم يسارع إلى بسط طلباته بين يدي ربه الكريم فيه، فالنفس في هذا الشهر منكسرة، والروح إلى القُرَب شفافة، والعبد الصالح على باب الله منيب مخبت، والزمان شريف، ورحمات الله فيه منهمرة؛ لذلك كانت الدعوة قريبة الإجابة ليلاً ونهاراً، فينبغي للعبد أن يغتنم هذه الأحوال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم)[8].




وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة – يعني: في رمضان - وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة) [9].




فيا من انبسطت في ساحته البلايا، وضيقت عليه سعةَ الدنيا، وأدمع عيونه وأسهرها مرُّ الشكوى، ولم يجد لها من دون الله كاشفة، ويامن طال زمن حَمل آماله، وأمضّه انتظار ميلادها السعيد، ويامن لجأ إلى الخلق لحاجته فلم تقضَ على أيديهم حاجته، هذا باب الدعاء يفتح مصراعيه في وجه المتوجعين والراجين والمردودين، فاطرقوا الباب طرقَ موقن موحد، وألحوا ولا تستحسروا فأنتم تطرقون باب غني كريم، قدير رحيم، سميع قريب ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].





[1] ديوان امرئ القيس (ص: 5).




[2] الأغاني، للأصفهاني (4/ 309).




[3] البيتان لطاهر بن الحسين الأغاني (20/ 109).




[4] ديوان كثير عزة (ص: 73).





[5] المنتحل، للثعالبي (ص: 78).




[6] البيتان لأبي الطيب، شرح ديوان المتنبي (2/ 130).




[7] الأبيات لمحمد بن بشر، الأغاني، للأصفهاني (14/ 43).




[8] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وهو صحيح.




[9] رواه البزار، وقال الألباني: صحيح لغيره.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 01-03-2023, 02:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: غصون رمضانية

غصون رمضانية (15) أيادي الندى


عبدالله بن عبده نعمان العواضي









حينما تعبِس الأرض بالجدب فإنها تضحك ببكاء السماء، وعندما تُقرن الأحوال بأغلال الشدة فإنها تُطلق بأيادي العطاء، فالغيث غيثان: غيث السماء، وغيث الكرماء، والغيث يذكر بالغيث:



فيا قبر معنٍ كيف واريتَ جودَه

وقد كان منه البر والبحر مترعا





فتى عيشَ في معروفه بعد موته

كما كان بعد السيل مجراه مرتعا[1]










الجود تاج يتلألأ على رؤوس أهل السماحة، يَهدي إلى ملوكٍ بين الناس بلا ممالك، فيجذب بريقُه العافين، أو ينطلق بلمعانه إلى المعوزين، فيخلع عنهم أسمالَ الحاجة، ويلبسهم حلل الكفاية أو الغنى، فيكسو وجوههم بالبسمة، وقلوبهم بالفرحة، وألسنتهم بالثناء والدعاء.



أوليتني نعمًا أبوح بشكرها

وكفيتني كلَّ الامور بأسرها




فلأشكرنك ما حييتُ وإن أمتْ

فلتشكرنّك أعظمي في قبرها[2]










فأكرمْ بتلك اليد السخية التي تطلق خيرها في وديان المعروف: فتنجد ملهوفًا من حَيْن، وتنجي غريقًا في دين، وتمسح دمعة يتيم، وتفرح أرملة، وتداوي بؤس محتاج، وتعين على نوائب الحق، وتنقّب عن الذين غشاهم الحياء بجلبابه، وسترهم الخجل خلف بابه، ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273].




وأحسنْ بذلك اِلمعطاء الذي فجر ينابيع الندى ففاض بالنوال قبل السؤال، فأروى بنميره الرقراق أرضًا يحب الله أن تُسقى، وأحيا بسخائه الفياض بلاداً يحب الله أن تحيا، فمتى هبّت على الناس عواصفُ الضراء دفعها بيد السخاء، ومتى دجت معايشَهم الظُلَم بدّدها بنور الكرم.

ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه ♦♦♦ كما زان متنَ الهندواني رونق[3].




يبذل المؤمن سمحُ الكفين ما يفنى ليربح ما يبقى، ويقدم ذخائر الدنيا لينال ذخائر الدنيا والآخرة، فكم من أيدٍ رُفعت داعية له، وألسنةٍ نطقت ثناء عليه، وكم دفع الله تعالى عنه من مصيبة كانت به محدقة، وكم فرج الله عنه كربة كانت له مطوّقة، وكم أطفأت صدقاته من غضب الرب تعالى.




قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول ابن آدم: (مالي مالي، قال: وهل لك يا ابن آدم، من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت )؟ [4].




وفي المثل: " الرَّبَاحُ مَعَ السَّمَاح"[5].



أَلبستني نعماً على نِعمِ

ورفعتَ لي علماً على علمِ




وَعَلَوْتَ بي حتّى مَشَيتُ على

بُسطٍ مِنَ الأعناقِ وَالقِمَمِ




فلأَشكرنّ نداك ما شكرَتْ

خُضرُ الرّياضِ صَنَائِعَ الدِّيَمِ




فالحمد يبقي ذكرَ كلّ فتى

وَيُبِينُ قَدْرَ مَوَاقِعِ الكَرَمِ




وَالشّكْرُ مَهْرٌ للصّنِيعَةِ إنْ

طُلِبَتْ مُهُورُ عَقَائِلِ النِّعَمِ[6]










يسخو أرباب الكرم من أهل الإيمان على الخلق طالبين بسخائهم ثواب من أعطاهم سبحانه وحده، ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾[الإنسان: 9] ، ولا يصحب جودَهم غرورٌ ولا مفاخرة، ولا يكدر إفضالَهم منٌّ ولا أذى، ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 263].




إن المسلم يعلم أن المال عارية مستردة، ووديعة جعلها الله عنده، ورزق ناله بفضل الله لا باستحقاق نفسه، وأن تكرّمه في ميادين الخير يباركه وينميه، ويثاب عليه يوم القيامة ثوابًا جزيلاً، وأن المرء تحت ظل صدقته يوم القيامة، فهذه المحفزات وأمثالها تدعوه إلى البذل والعطاء في سبل الحق، وعلى قدر يقين المسلم بذلك تكون سماحته.




لقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم جواداً كريمًا - مع قلة ذات يده -، فإذا جاء رمضان زاد بسط عنان الكرم لديه، فصار طلق اليدين، كثير الأيادي، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة)[7].






هُوَ اليَمُّ مِنْ أَي النَّواحي أتيتَهُ

فلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ سَاحِلُهْ




تعوَّدَ بسط الكفِّ حتى لو انَّه

ثناها لقبضٍ لمْ تُجبهُ أنامِلُهْ




ولو لم يكنْ في كفِهِ غيرُ روحِهِ

لجادَ بها، فليتقِ اللهَ سائلُهْ[8]










إن شهر رمضان هو شهر الجود، فيحب الله تعالى من المسلم أن ينفق فيه، ويتقرب إليه بقربة الكرم؛ فكرم الله تعالى في رمضان يتضاعف، فيحب من عباده أن يكونوا كرماء بين خلقه.




والمسلم الحريص ينبغي أن يكون له في هذا الشهر الكريم نصيب وافر من السخاء: زكاة، وصدقة، وصلة، وهدية، فيؤدي ما أوجب الله عليه من الزكاة - إن وجبت عليه فيه -، وينظر بكرم جمّ إلى ذي قرابته، وإلى القراء والمحتاجين، ويفطّر الصائمين، ويشارك في أعمال البر القائمة على المال، بقدر استطاعته، ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7]. فرمضان لأرباب المال فرصة سانحة، وتجارة رابحة، ولأهل البخل غنيمة ضائعة، وصفقة خاسرة، فـ" رُبَّ شَبْعَانَ مِنَ النِّعَمِ غَرْثَانُ مِنَ الكَرَمِ"[9].





[1] الأبيات للحسين بن مطير الاسدي، البيان والتبيين، للجاحظ (ص: 501).





[2] المستطرف، للأبشيهي (1/ 508).




[3] ديوان الاعشى (33/ 3).




[4] رواه مسلم.




[5] مجمع الأمثال، للميداني (1/ 301).




[6] ديوان الشريف الرضي (ص: 1633).




[7] متفق عليه.




[8] ديوان أبي تمام (ص: 15).




[9] مجمع الأمثال، للميداني (1/ 310).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 01-03-2023, 02:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: غصون رمضانية

غصون رمضانية (16) سوق رمضان


عبدالله بن عبده نعمان العواضي








رسخ في أذهان كثير من المسلمين اليوم أن رمضان موسمُ مجاعة عامة، يُقبل على الناس بشبح الجوع والظمأ المرعب، ولا ينجي من هوله إلا التدرعُ بالاستعداد الغذائي المتنوع الذي يُدّخر بين يدي رمضان، وعلى أقل الأحوال أن يكون لدى الإنسان رصيد مالي كبير لشراء تلك الأغذية الكثيرة مع أيام رمضان ولياليه.




فمن لم يكن له واحد من هذين الاستعدادين - وكان ممن يجعلون رمضان للتوسع في الطعام والشراب - حضره بثُّه، وطفقت سحائبُ الغم والهم تحلِّق فوق رأسه، ولا تبرح عنه حتى يجد، أو يرحل رمضان!




ولهذا من كان هذا حاله - من قلة المؤونة وخواء الوفاض -؛ فإنه يَكره دخولَ رمضان، ولعله بلسان حاله يقول:

يا ليت بيني وبين الشهر منقَطَعًا ♦♦♦ من الزمان لأُلقيْ عنيَ القلقا!




فمن أجل ذلك المفهوم المتمكن خطأً في تصور بعض الناس يسارع التجار قبل حلول الشهر الكريم بزيادة جلب الأغذية العامة والخاصة برمضان وعرضها في الأسواق، فيهرع السابقون لشراء كميات كبيرة متعددة الألوان والاستعمال وتخزينها في البيوت، وأما المقتصدون فيشترونها مع ليالي رمضان وأيامه، أما الظالمون لأنفسهم - فيما استقر عند أهل التصور السابق - فهم الذين يقللون من الطعام والشراب والخروج إلى الأسواق في رمضان عما كان قبله!!




ولسيطرة المفهوم السابق عن رمضان في أذهان ذلك الجمع الكبير تضيق جنبات الأسواق ذرعًا بشدة الزحام؛ لكثرة توافد الناس الشُّراة قبيل شهر الصيام بأيام، كما تختنق رحابها كذلك في زمان رمضان بهواة الشراء، والهاربين من ثقل الصيام، وبالمتجولين ذوي المآرب الأخرى.




ولأن زمن رمضان زمنٌ نفيس لا تطاوع العاقلَ نفسُه في نثره في الأسواق؛ صار ينبغي أن يكون الخروج إلى تلك الوجهة محدوداً؛ حفظًا للوقت الشريف من الهدر، وحرصًا على حماية جسد الصيام من سهام الجرح، فمن كُفي الخروج إلى ذلك بغيره ليظل منشغلاً بوظائف رمضان فقد رزق خيراً كثيراً.




فإذا دعت الضرورة أو الحاجة إلى خروج المسلم إلى السوق في رمضان فليكن ذلك ضمن إطار معين من الضوابط التي تحفظ له دينه عمومًا، وشرفَ رمضان خصوصًا.




فمن ذلك: أن يجمع ما تفرق من مطالبه في وقت واحد؛ حتى لا يتعدد خروجه، ولتكن المشتريات الغذائية مما لا يعكر صفوَ الصيام كالكثير منها والمثير، وأن يختار الوقت الذي لا تعمره وظيفة رمضانية كتسوق بعض الناس زمن صلاة التراويح أو القيام، وأن يصطفي الوقت الذي يجد من نفسه إعياء عقب جدٍّ كبير في عبادة من العبادات، أما الوقت الذي يحس فيه بالنشاط والإقبال على الطاعة فليجعله وقفًا على قربة يتقرب بها في هذا الموسم الخصب، هذا إذا تيسر ذلك، وأن يقتنص الزمان الذي يخف فيه الزحام، والمكان الذي تقل فيه مظاهر الفتنة، وأن ينتقي أطيب الطعام وأحلّه، لا ما حرم منه، أو كان فيه شبهة، ﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 19]، وأن يكون صادقًا أمينًا في شرائه؛ حتى لا ينبِت جسمَ صيامه من حرام، فلا يأخذ ما لا يحل له أخذه، ولا يمنع ما يجب عليه إعطاؤه، وأن يصطحب معه عقلَه الوافر؛ لأنه إذا ولج السوق سيجد ما لذ وطاب من المأكولات التي تزينت وجُلِيت لإغراء المشترين، وكأنها تقول لهم: " هَيْتَ لَكَ"، فإذا جذبه الإغراء والمنظر البهيج فأطلق لشهوته العنان فاشترى كل ما اشتهى - خصوصًا في نهار الصيام - فإنه سيعود إلى بيته حاملاً الخسارة معه، المتمثلة في كثرة ما دُفع من المال، وكثرة الطعام والشراب التي تفقده النشاط للعبادة، هذا إذا أكل ما اشترى؛ لأن المتسوق الصائم قد يشتري ما لا يأكل؛ لكون النفس الصائمة تنفتح على أشياء كثيرة من المطعومات والمشروبات التي تجدها في السوق، ولكنها تنغلق في المنزل وتكتفي بالقليل من الكثير المجلوب، فما أحسن الطعامَ للنفس أمام البائع، ولكن ما أسوأه أمام الطاعم في البيت!، أما صاحب العقل الحصيف فسيقول لتلك الأصناف المتجمِّلة: " مَعَاذَ اللّهِ"؛ فراحةُ صيامي أحب إلي من راحة بطني؛ فلذلك لا يشتري كلَّ ما يشتهي؛ لأن طمع النفس لا حدود له، بيد أنها إذا عوِّدت على كبح جماحها قنعت ورضيت.




قال حاتم:

وإنّكَ مَهْما تُعْطِ بَطْنَكَ سُؤلَهُ ♦♦♦ وفَرْجَكَ نالا مُنتهَى الذّمّ أجمعَا [1]




وقال الآخر:



إذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّمَا اشْتَهَتْ

وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إلَى كُلِّ بَاطِلِ




وَسَاقَتْ إلَيْهِ الإِثْمَ وَالْعَارَ لِلَّذِي

دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ حَلاوَةِ عَاجِلِ[2]








وقال البوصيري:

والنفسُ كالطفلِ إن تهملهُ شَبَّ على ♦♦♦ حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم [3]




لهذا فالعاقل يشتري - بلا إسراف - ما يمكن استعماله من غير اضطرار إلى التخلص من سائره إلى المزابل.




وعليه كذلك أن لا يكثِر التطواف في السوق، بل يقصر نفسه على الزمان والمكان اللذين يجد فيهما حاجته، فمتى قضى وطره فليعجل الرجوع إلى أهله، و" حَسْبُكَ مِنَ القِلاَدَةِ مَا أحَاط بِالعُنُقِ"،[4] كما قيل. وعليه أيضًا أن يُسيم طَرفَه في أماكن الحاجة، لا في أماكن الشهوة؛ لأن من سام بصره في الرياض الأنيقة الممنوعة ليشبع نهمته المحظورة عاد إلى بيته بفؤاد جريح خميص، وخاطر مكدود ساهم، وذهن كاسف مفرّق، وقد كان غضُّ بصره عن تلك المراعي أسلمَ لقلبه وعقله وصيامه؛ لأن الصيام يظل برّاقًا صقيلاً مادام بعيداً عن فتن الشهوات فإذا سيق إليها تعكر وتكدر.




أما الحديث عن السوق للمرأة فهو حديث ذو شجون؛ لأن بعض جروح صيام الصائمين الخارجين إلى الأسواق تأتي من قبل كثرة المتسوقات اللاتي يجرحن قلوب الرجال بتبرجهن وسفورهن وتكسر مشيتهن، وإغراء لباسهن وحديثهن وحركاتهن.




فالمرأة درة ثمينة، يجب صونها عن العيون المرسلة، وبيضةُ خدر لا يرام خباؤها لغير أهلها، فبيتها مملكتها الموقَّرة، وعزتها الموفّرة، قال تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33] ، فإذا ساق إليها غيرُها حاجاتِها فما الداعي لخروجها إلى الأسواق المختلطة ومزاحمة الرجال؟!. لكن إذا لم تجد من يكفيها ضرورتها أو حاجتها من السوق خرجت إليه والحياء يلّفها من كل جانب، ويحرسها من كل صائل، فتمشي إليه مشي المكره المضطر، لا مشي المحب المختار، ويتدلى عليها جلبابها الساتر الذي لا يسرق أنظارَ النُّظار إليه؛ لضيقه أو وصفه، أو رقته أو زينته، أو بريقه أو عطره، وتخرج معلِمةً وليَّ أمرها الذي لا يقدر على توفير حاجتها بزمان خروجها ومكانه، مختارةً الوقت والمكان اللذين لا يكثر الزحام فيهما، ولا يُخشى عليها منهما، خافضةً صوتها، غاضة بصرها، غير خالية بالبائع في دكان البيع وحدهما، مبتعدةً عن الخروج في الليل إلا مع زوج أو ذي محرم. وهذه الضوابط ونحوها تساق لمصلحة المرأة، وحفظها من كل ريبة، كما أن فيها إبعاداً للرجال عن الفتنة، ومن رأت المخالفة ستعرف قدر هذه المنائر في ظلمات الدوائر.




فلتكن المرأة على درجة عالية من الرقي العقلي والديني والأخلاقي؛ ليعصمها من فتنة نفسها، وفتنة غيرها، وما أجملَ حين نسمع بوجود أسواق خاصة بالنساء: بائعات ومشتريات!




إن على أولياء النساء أن لا يرخوا عن النساء أعنة الحزم ليدرجن إلى الأسواق متى شئن وكيف شئن؛ فليس من الرجولة والحزم أن ينام الرجل الغيور عن خروج نسائه وحدهن إلى الأسواق، ويقضين الساعات الطوال، وربما كان ذلك في الليل، فهذا لا يليق به، إنما يليق بغيره،


وخلِّ الهُويْنى للضَّعِيفِ ولاتكُنْ ♦♦♦ نؤوماً فإنَّ الحزم ليس بنائم [5].





[1] ديوان حاتم الطائي (ص: 43).




[2] غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، للسفاريني (2/ 360).




[3] ديوان البوصيري (ص: 238).




[4] مجمع الأمثال، للميداني (1/ 196).




[5] ديوان بشار بن برد (ص: 1015).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 01-03-2023, 02:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: غصون رمضانية

غصون رمضانية (17) مطبخ رمضان


عبدالله بن عبده نعمان العواضي










للمطبخ في رمضان حكاية مؤلمة، وتسلسل سردي ممضٌّ للروح، ومظلِمٌ للقلب، ومرهِق لصُرَّة المال، ومجهِدٌ لأبدان الطواهي، ومردُّ ذلك إلى كثرة استهلاك الطعام والشراب في هذا الشهر دون بقية شهور العام، ومع الكثرة الكمية، ثمتَ كثرة نوعية مختلفة الطعوم والألوان.




وما بهذا المظهر المحزنِ أُمرَ الصائمُ في رمضان، بل الصيام الصحيح الذي نُدِب إليه هو الصيام الذي تخمص فيه البطن، وتشبع فيه الروح، ويشرق فيه اللبُّ ليلاً ونهاراً، ومن ثَم يعيش المطبخ في إجازة جزئية يصرف أهله فيها جُلّ وقتهم في المسابقة إلى جوائز رمضان الربانية.




لكن الحال في عصرنا انقلبت لدى بعض الناس رأسًا على عقب، فصار رمضان شهرَ البسط في كثرة المطبوخ والمُعدِّ من الأطعمة والأشربة المتعددة التي تستقبلها بحفاوة بطونُ الصائمين، وهذا ينساق بلا ريب إلى الفتور، والنوم الكثير، ولسان حال من كان هذا شأنه:



إنما الشهر طعام

وشراب ومنامُ



فإذا فاتك هذا

فعلى الشهر السلامُ!







ولا شك أن الامتلاء وكثرة الانشغال بالمطبخ توفيراً وإعداداً، وتخلصًا من فضلاته له ضرائب مكلفة على الأرواح والأبدان، فالروح في رمضان بدل أن تنطلق في سماء التألق التعبدي؛ لخفة البدن من المفطرات ونتائجها صارت تحلق في آفاق المطبخ ولا تتجاوز سقفه؛ لثقل البدن وكثافته بما يُطعم ويُشرب.




وبدل أن تنشط النفس إلى اغتنام أنفاس الشهر الكريم بالمسابقة إلى الخيرات، والانتعاش إلى القربات، أضحت تتلفع بأثواب الكسل السابغة، والشرودِ عن تدبر القرآن تلاوة وسماعًا، والنفور عن الاستمرار في فضائل الأعمال، وبدل أن يكون صيام رمضان سببًا لصحة البدن، وتخلصه من الفضلات التي تضره بسبب زيادة الطعام قبل رمضان، كما قال الحكماء: "صوموا تصحوا"؛ غدا بعض الناس يعانون مشكلات صحية في الجهاز الهضمي وغيره، ناتجة عن التخمة، وتوافدِ الأنواع المتباينة من الأطعمة والأشربة على المعدة، وبدل أن يكون الصيام -إذا استمر- وِجاءً للشهوة، وتخفيفًا من وهجها، أضحى بعض الصائمين يشكو سُعارها ونتائجها في رمضان أكثر من غيره!، ولو صام من هذا حاله عن تلك الكثرة لتحقق له ما أخبر به عليه الصلاة والسلام في قوله: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)[1].




فلهذا نقول: ينبغي للمسلم الحريص على خير رمضان أن تكون له سياسة خاصة متبعة في إدارة شؤون المطبخ خلال الشهر الكريم ينفذها هو وأهله، كلٌّ حسب مهمته، تنطلق هذه السياسة الحكيمة من قاعدة معرفة الحِكم والغايات التي شرع لأجلها صيام رمضان.




ومن ذلك: أن على الزوج أو رب البيت أن لا يكثر من شراء المواد الغذائية من أجل استعمالها في رمضان، كما أن على الزوجة أو من تقوم بالطبخ أن لا تطيل قائمة المطالب الغذائية، بل تقتصر على القليل الكافي منها، فإن أكثرت فعلى الزوج أن يصطفي منها ما يناسب الهدف السابق، ولا حرج في تعدد أنواع الطعام وتجديدها، ولكن بقلة وعدم إسراف.




وعلى الطاهية أن تنظّم أوقات طبخها وما يتبعه من تنظيف وتصفيف للآنية، وتختار الأزمنة المناسبة لطبخها؛ حتى لا تحرم نفسها فضائل رمضان؛ لأن المرأة مطالبة بالمنافسة على الزمن الشريف مثل الرجل، ومن الغبن الفاحش، والظلم الظاهر أن تقضي المرأة أكثر وقتها في المطبخ طاهية ومنظفة؛ بسبب كثرة ما تطبخ، وقد تسرف بعض النساء في الطبخ وتفتنّ في تعديد أحجامه وطعومه وألوانه؛ إرضاء لزوجها، وهذه نية حسنة، ولكن الأحسن منها أن تفتنّ في طاعات ربها، وتسارع إلى مراضيه في هذا الشهر، وعلى الأزواج مراعاة هذا الحق الشرعي للزوجات، فلا يرهقونهن بكثرة الطبخ الذي يفوّت عليهن فضل رمضان؛ لأن الطبخ القليل سيوفر لها وقتًا ونشاطًا تصرفه في القربات.




وعلى المرأة في المطبخ أن تحتسب طبخها، وتجعله قربة إلى الله تعالى؛ فالمباحات تتحول إلى عبادات بصلاح النية، كما أن المرأة الراغبة في شرف زمن رمضان أن تستغل وقتها في المطبخ بكثرة ذكر الله تعالى، وقراءة القرآن-إذا كانت حافظة-، أو سماعه وسماع الدروس والمحاضرات النافعة من أجهزة التسجيل، فإذا حضرت الصلاة تركت انشغالها بالمطبخ ولبّت نداء الله فانشغلت بأداء حقه قبل أداء حقوق الأسرة، ومن التقصير أن تؤخر بعض النساء الصلوات بسبب الانشغال بالمطبخ.




ومن التنبيهات المهمة أنه إذا تبقى من الطعام والشراب شيء يمكن الاستفادة منه فلا ينبغي رميه إلى القمامة، بل يحفظ إلى وجبة قادمة، أو يُهدى إلى الجيران، أو يتصدق به على المحتاجين؛ لأن هناك بطونًا تشكو الطوى تنتظر من أهل التخمة شيئًا تقيم به أودها.




فمن اعتاد في رمضان على التوسع في المآكل والمشارب فليقف قليلاً ويغير اتجاه سيره إلى صراط الاقتصاد والتخفف الذي يضمن له الوصول إلى فائدة الصيام المرجوة، وإلى توفير المال، والصحة، والراحة، والنشاط، وهذا التحول الصحيح وإن كان صعبًا على بعض النفوس التي مردت على الإسراف، لكنه مع المجاهدة والزمّ الحكيم للنفس تصير هذه الحال لها عادة، كما قال الأول:



صبرت عَنْ اللَّذّات حتّى تولّتِ

وألزمتُ نفسي هجرها فاسْتَمَرّتِ



وكانت عَلَى الأيام نفسي عزيزةً

فلما رأتْ عزمي عَلَى الذلّ ذلّتِ




وَمَا النَّفْسُ إِلاَّ حيثُ يجعلها الفتى

فإن طمِعَتْ تاقتْ وإلاّ تسلَّتِ[2]








[1] متفق عليه.




[2] ذم النفس والهوى، لعبد الهادي وهبي (ص: 42).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 01-03-2023, 02:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: غصون رمضانية

غصون رمضانية (18) شرك الإعلام


عبدالله بن عبده نعمان العواضي










الإعلام المعاصر - على اختلاف أنواعه - وسيلة من وسائل السيطرة على أفكار الناس وسلوكهم؛ وذلك لما يمتلكه من قوة الوسائل المؤثرة على المتلقين عامة كانت أو خاصة، ولِما يلقاه من شغف الجمهور به، وإدمانهم الشديد على متابعة ما فيه، وهذا ما أكسبه جموحَ السيطرة، ونفوذ السلطة؛ ولهذا عدّوه السلطة الرابعة، فأصبح المتلقي له طوعَ العِنان يمتطيه إلى حيث يشاء.



والكارثة ليست هنا، وإنما الكارثة أن أغلبه طوع يدي شياطين الإنس، الذين يوسوسون في صدور الناس، وينخرون في عقولهم، ويهدونهم إلى صراط الجحيم، وذلك ببث الفساد العقدي والأخلاقي والعملي في قوالب حسنة تستهوي المشاهد أو السامع أو القارئ، ويكيلون الإطراء لأهله، ويسلطون أضواء التمجيد عليهم؛ دعوة للاقتداء بهم، وفي المقابل يحاربون الحق وأهله حربًا شعواء، ويعتبرون الحق الفكري أو السلوكي انحرافًا عن الجادة، وتخلفًا ورجعية، ويصمِون أهله بالألقاب المنفرة، والتُّهم المحذرة منهم! حتى جُعل الكفر حريةَ تعبير، والفاحشة ترفيهًا وحرية شخصية، والصدق كذباً، والكذب صدقاً، والحق باطلاً، والباطل حقاً، والخبيث طيباً، والطيب خبيثاً، والبطولة تهمة، والانحرافات السلوكية نجومية!



على حد قول ابن الرومي:



تقول هذا مُجاجُ النحل تمدحهُ

وإن تعِبْ قلت ذا قَيْء الزنابير



مدحاً وذماً وما جاوزتَ وصفَهما

سحرُ البيان يُري الظلماءَ كالنور[1]






ولقوة القواعد التي ينطلق منها، وبراعة الآلة التأثيرية التي يتمتع بها؛ غدا ساحراً يتصرف في تصورات كثير من الناس وأخلاقهم، حينما فقدوا رُقية دفع السحر، والتمييز بين الغيث والسمين، وعدموا دروعَ الدين المتين، والخلق الرزين، اللذين يردان صولة ذلك العدو الفتاك.



من القضايا البديهية اليوم أن الإعلام السيئ هو الاستعمار المعاصر الذي ينصب شراك الهلاك بصور مغرية؛ لكي يصيد العقول؛ ليقوم بصياغتها حسب ما يريد؛ لتتجه بعد ذلك إلى المجتمع؛ لتفريغ شحنة تلك البضاعة العفنة فيه.



فلله كم صادت مصايدُه من قلوب كانت معمورة بالفضيلة، فصارت مغمورة في مستنقعات الرذيلة، ولله كم سبت من عقول كانت بالتصور الصحيح مشرقة، فأمست في التصورات الخاطئة مظلمة، فضلّت وأضلت.



وما الإعلام حين يضلّ إلا

فخاخٌ للعقول وللقلوب



وأغبى الناس من يسعى إليها

ليعلق في الندامة والكروبِ






لقد أدرك شياطين الإعلام عظمةَ رمضان، وما يحلّي الناس به من الفضائل التي يحاربها، وما يخليهم عن الرذائل التي جنّد آلته لنشرها، فأقسموا للصائمين قسم أستاذهم: ﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17]، فجأوا بحدهم وحديدهم لمحاربة خيرات رمضان، ولكن: ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الإسراء: 64].



فراحوا يعدون للصائمين - قبل مجيء رمضان بأشهر - ما يفسد عليهم صومهم من الأفلام والمسلسلات والبرامج والفلاشات، فيعرضون ما يخدش حجاب الحياء، وما يمزق ستار الأخلاق الحسنة، وما يهد جدار العقيدة الصحيحة. وهناك طائفة إعلامية أخرى قد لا يكونون شياطين، لكنهم لصوص في مساليخ متصدقين، حيث يجهزون لأهل رمضان البرامج الترفيهية الكثيرة التي تسرق عليهم وقتهم الثمين، فتصرفهم عن وظائف رمضان لتأسرهم في شاشة تلفاز أو حاسوب أو جوال.



فيصير حال الأسير بين الشياطين واللصوص مثل ذلك الأعرابي الذي تزوج امرأتين فندم فقال:



فقلت أصيرُ بينهما خروفاً

أنعَّمُ بين أكرم نعجتينِ



فصرتُ كنعجة تُضحي وتمسي

تداولُ بين أخبث ذئبتينِ![2]






إن من أضحى صيامه نهبًا بين الشياطين واللصوص فقد ضيع على نفسه غنيمة رمضان التي أهداها الله إليه، فغدا له فيئًا أفاءه الله عليه من الزمان، ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، ودخل معركة مع أولئك الأعداء بلا عدد ولا عدة فانقلب بنقمة وسوء، مظلمَ العقل، قاسيَ القلب، دامي الخلُق، ذابل الروح، مسلوبَ نفيسِ الزمن، كاسف البال، وقد كان يمكنه أن يصير في رمضان منعّمَ العقل والقلب والروح، سليمًا من هذه الجروح، ولكن:



فأصبح كالبازي المنتّفِ ريشُه

يرى حسراتٍ كلما طار طائرُ




وقد كان دهراً في الرياض منعمًا

على كل ما يهوى من الصيد قادر




إلى أن أصابته من الدهر نكبة

إذا هو مقصوص الجناحين حاسر[3].








إن من المشاهد التي تجلب الأسى أن ينشغل قلةٌ من المسلمين بخيرات رمضان، وينصرف الجمع الغفير عن نفيس الأوقات إلى العكوف أمام القنوات، حتى في ليالي العشر الأخيرة، بل في الثلث الأخير من الليل منها، فشتان بين العاكفين بين يدي رب العباد، والعاكفين بين يدي أهل الفساد والإفساد!



إن المسلم الموفّق إذا نزل عليه رمضان ضيفًا كريماً انشغل به، ولم ينشغل عنه، وهذا من كرم الضيافة، وآداب المضيف، فمن اللؤم -عرفًا- انصراف صاحب المنزل عن النازل به إلى غيره؛ فلهذا فالصائم الموفق فورَ وصول رمضان يفتح له أبواب الروح والقلب لينزل فيها، وتنشغل جوارحه بخدمته، كما يغلق أبواق الإعلام الملهي عن إكرام الضيف، ويقول لذلك الإعلام المباح الذي يتابعه قبل رمضان؛ إيثاراً لرمضان:



ونعجةٍ من نِعاج الرملِ خاذلةٍ

كأن مَأْقِيهَا بالحسنِ مكحولُ




ودَّعتها في مُقامي ثم قلت لها

حياكِ ربك إني عنكِ مشغولُ[4]








أو يقول:

تألّق البرق نجديًا فقلتُ له: ♦♦♦ يا أيها البرق إني عنك مشغولُ[5]

أما الإعلام الفاسد الذي يسوق له الأوابد فهو صائم عنه الدهرَ كله، وليس في رمضان فقط، فهو منه أحذر من قِرِلَّى[6]، وبينه وبينه مقاطعة دائمة، وحمى لا يُتجاوز، فهو يفر منه، ولا يفر إليه، كحال غيره.



وبعد هذا، فمن الإنصاف أن نقول: إن في حشا الغثاء الكثير إعلامًا هادفًا منفصلاً، ويمكن أن يخدم الصائم بالدروس الرمضانية، والفتاوى، والتوجيهات والنصائح، فهذا مورد عذب، ومغنى أنيق، وروض ممرع، ينبغي أن ينتجعه وينزل فيه؛ ليأخذ منه ما يحتاجه، ولا يجاوز الحاجةَ إلى التخمة؛ لأن ذلك قد يلهيه عن التلاوة والصلاة وغيرهما من وظائف الشهر الكريم؛ لأن ما أنبت الربيع قد يَقتل حبَطًا أو يُلِم[7].





[1] ديوان ابن الرومي (ص: 2269).




[2] الحماسة المغربية، للجرّاوي (ص: 126).




[3] طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 283).




[4] الأغاني، للأصفهاني (16/ 251).




[5] البيت لأعرابي، الحماسة البصرية، للبصري (ص: 145).





[6] القرلى: طائر من طير الماء شديد الحزم والحذر، يطير في الهواء وينظر بإحدى عينيه إلى الأرض، وفي أسجاع ابنة الخُسِّ: كن حذِراً كالقِرِلىَّ: إن رأى خيراً تَدَلَّى، وإن رأى شراً تَولَّى. مجمع الأمثال، للميداني (1/ 228).




[7] الحبط- بفتح المهملة والموحدة والطاء مهملة أيضاً-: انتفاخ البطن من كثرة الأكل يقال: حبطت الدابة تحبط حبطًا إذا أصابت مرعى طيبًا فأمعنت في الأكل حتى تنتفخ فتموت،: و"يلم" -بضم أوله- أي: يقرب من الهلاك". فتح الباري، لابن حجر(11/ 247)




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 02-03-2023, 09:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: غصون رمضانية

غصون رمضانية (19) البيت الرمضاني


عبدالله بن عبده نعمان العواضي







في غمرة مطالب العصر الحاضر التي أخذت على المسلم مساحةً رحبة من التفكير والجهد والوقت؛ تحصل الغفلة - تامة أو قاصرة - عن حقٍّ يجب أن يعطيه المرء جزءًا من الزمن والرعاية؛ لكون هذا الحق مطلبًا دينيًا، ومطلبًا حياتيًا، تترتب عليه آثار حاضرة، وآثار مستقبلية. هذا الحق هو: حق الأسرة: زوجة وأولاداً، من التربية والتقويم، والحماية والعناية.


قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].


وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها)[1].


وهذا الحق قد يتغافل الحريص الصالح عن بعض جوانبه المستحبة - وهو حاضر على باله -؛ لانشغاله بأعماله - وقد تكون دينية - فيريد أن يوليه مزيداً من الاعتناء، ولكن تتعلق به جواذبُ الأعمال فتحول بينه وبين ما يشتهي، كما قال صخر:
أَهُمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ♦♦♦ وقد حِيل بين العَير والنزوانِ[2]


ومع تكاثر الظباء على خراش لا بد من العناية الإيمانية والتربوية بالأسرة؛ لأن هذا حق لها يؤول إلى سعادة الجميع في الدنيا والآخرة.


فصلاح الأولاد ثمرٌ ينبت في حقل الأسرة؛ إذ البيوت حقول تجارب، فإن أحسن الوالدان الرعاية لهذا الثمر بسقَ وأينع، وأورقَ إيّما إيراق، وإن أساءا ذَبُلَ هذا النشء وانحرف في حاضره ومستقبله، فكانت الثمرة المُرّة على الجميع:
ويَنشأُ ناشئ الفتيانِ مِنّا
على ما كانَ عَوّدَهُ أبُوه

وما دانَ الفتى بحِجًا ولكنْ
يُعَلّمُهُ التّدَيّنَ أقرَبُوه[3]



وفي هبوب مواسم الخير ينبغي لرب الأسرة أن يستضيف بعض أنسامها العبقة إلى بيته؛ ليتطيب البيت كله، ومن أعظم هذه المواسم، وأنعم هذه النسائم: موسم رمضان المبارك.


فمن أحب أسرته فليدخل عليهم شهر الصيام برياض طاعاته الخضيلة، وأفنانِ ثمراته المتهدلة، وأطايب قرباته الزكية، ويكون ذلك بعمل برنامج رمضاني يقوم على ركيزتين: ركيزة التخلية، وركيزة التحلية، فبرنامج التخلية يتم بإبعاد كل سبب يؤثر وجودُه على روح الصيام، وتكدير جوّه النقي، مثل: وسائل الإعلام المفسدة، وكثرة اللعب والعبث وهدر الوقت، والإسراف في الفضول من طعام وشراب ونوم وكلام واجتماعات طويلة في غير طاعة.


وبرنامج التحلية يتم بعمل الوسائل التي تعين على ربح رمضان، والقيامِ بالأعمال الصالحة العامة والخاصة التي يزخر بها الشهر الكريم - وهذا بعد الحفاظ على الواجبات، والابتعاد عن المحرمات.


فمن بنود برنامج التحلية: توجيه الأسرة إلى معرفة فضل رمضان، وأهمية الطاعة فيه، والمسارعة إلى الخير في لياليه وأيامه، سواء جاء ذلك من الأب أو الأم إذا كانا ذوي علم أم استعانا بالكتب والدروس المسجلة، وعمل برنامج يومي يتناسب مع أحوال جميع أهل البيت؛ حتى لا تكون هناك فوضى وقتية تقضي على النشاط، وتبعد عن العمل، وتعويد الصغار على الصيام، وتشجيعهم عليه ولو بالجوائز، فعن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: (من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ومن أصبح صائمًا فليصم)، قالت: فكنا نصومه بعد ونصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار)[4].


وكذلك مراقبة سير التلاوة لأفراد الأسرة من أجل التقويم والتحفيز، واصطحاب الأطفال إلى المسجد؛ لتعويدهم على صلاة الجماعة، ورؤيتهم المصلين، وحضور حلقات العلم، مع تعليمهم آداب المساجد قبل الذهاب إليها، والسماح لهم بجزء يسير من الوقت لمتابعة بعض البرامج المذاعة أو المشاهدة التي تخدم الصيام، ولا تجرحه ولا تلهي عنه، وتحذير نساء البيت من أن تتغفلهن بعض النسوة عن خير رمضان بتضييع الوقت بكثرة الكلام والمراسلة، والطعن في أعراض الناس بالغيبة والنميمة والاستهزاء.


فالبيت المسلم إذا سار على نحو هذا وأمثاله من البرامج النافعة في رمضان التي دعا إليها الإسلام في خطاباته العامة فستظله سحب الخير، وتمطر عليه غيث الهدى، فيخرج نباته بإذنه ربه: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 58]. بخلاف البيوت التي لا تعرف في رمضان إلا الإسراف في الشراب والطعام، وكثرة السهر ليلاً والنوم نهاراً، والاعتكاف أمام الشاشات التي تفسد الدين والخلُق، واللهو عن الخيرات بالتلهي بالمفسدات، فالأب له ما يشغله عن أسرته، والأم لها برنامج رمضاني مع النساء تذهب به ثقل الصوم، والأولاد في وادي هواياتهم، وكل في فلك يسبحون!، فمثل هذا البيت الذي اجتمع على الضياع، وتفرق عن الصواب ماذا ينتظره في نهاية الشهر الكريم؟! ولمن ستكون جوائز الصائمين، وكرامات العابدين؟!
فشتانَ بين الهدى والعمى ♦♦♦ وشتان نورُ الضحى والعتَمْ[5]
•••
سَهِرْنَا على حِفْظِ الغَرامِ ونمتُمُ ♦♦♦ وَلَيسَ سَواءً ساهِرُونَ ونُوّمُ[6]



[1] متفق عليه.

[2] الكامل في اللغة و الأدب، للمبرد (4/ 51).

[3] ديوان أبي العلاء المعري (ص: 1458).

[4] متفق عليه.

[5] البيت لابن حزم، تاريخ الأدب الأندلسي (ص: 318).

[6] ديوان بهاء الدين (ص: 445).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 02-03-2023, 09:55 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: غصون رمضانية

غصون رمضانية (20) الحبس المحمود


عبدالله بن عبده نعمان العواضي








في زحمة الحياة، وفي ضجيجها المستمر يتفرق القلب، وتغمره القسوة، وتتوزعه متاهات الهموم المعيشية، فتعلوه الظلمات، وتميله الشهوات، ويلجّ في وادي الغفلة السحيق، فيصير مريضًا، أو قاسيًا، أو مقفلاً، أو مطبوعًا عليه، أو ميتًا. وصاحبه إذا لم يتداركه هوى به إلى الهاوية، وندم على تركه علاجَه حتى فات الأوان. لكن المؤمن الحصيف يظل حارسًا لقلبه، مرابطًا على تخومه، مترصدًا لعدوه، يتفقد أحواله فينة بعد فينة، ويترقب الفرص التي تُغسل فيها القلوب، وتُزاح عنها حُجب الغفلة، وترتفع فيها درجات الإيمان، وتستوي في مغانيها سوقُ اليقين، وتتفرع في رحابها غصون الحياة، فتجني الجوارحُ ثمرَ العمل الشّهي، واستقامةَ الحال يوم أن استقام سيدُ الأعضاء.



وفي هبوب رمضان الخير تَنسم نسمةٌ زكية تحمل فرصةً عظيمة يُلَمّ فيها شعثُ القلب بعد ذلك الشَّعاع الكثير، هذه الفرصة هي: الاعتكاف في بيت من بيوت الله تعالى تحبس فيه النفس عن مشاغل الدنيا ومذاهلها. هذا الحبس الذي تولع به الأرواح المتقية، وتظل تنتظره طوال العام بشوق؛ لما تجده فيه من لذة المناجاة، وطيب الملاقاة، وحلاوة الضراعة، وسعادة الأُنس بالله تعالى، وفرح الخلوة للعبادة الكثيرة الخاشعة في خير زمان، وخير مكان.



في تلك الليالي المنيرة، وأيامها المشرقة ينتصر المعتكف الصادق على هوى نفسه، وهوى أهله، وهوى من له ببقائه في خضم الدنيا مصلحة، فيخرج بقلبه وروحه إلى زمزم رمضان؛ ليتضلع من نميره العذب فيكون طعامَ طُعم، وشفاء سقم.



في ذلك المكان الطاهر البهي يجد زمنًا يخلو فيه بربه، فيناجيه ويدعوه، ويعبده ويرجوه، ويبوح له بحاجاته، وأشواقه:

وأخرج من بين البيوت لعلّني *** أحدّثُ عنك النفسَ بالليل خاليًا[1]



في تلك الحال من السمو الروحي تتجلى عظمة العبادة الخالصة، ويذوق العابد ألذَّ ما في الحياة، ويعرف أن الحياة إنما هي هُنا، وأن ما سواها مرض أو موت.



حبيبي يا هوى نفسي وروحي

طبيبي يا شفاْ قلبي المُعنَّى!



أتيتُك والمُنى شوقًا لِيلُفِي

فؤادي في لقائك ما تمنّى






في تلك الزاوية المنفردة يحسّ العبد المنيب تحت خبائه باتساع الحياة مع الله تعالى، وضيقها مع البشر، ويرى الغباء ماثلاً في الانصراف عن هذا الأفق الرحب إلى ما يشغل الروح عن بارئها، والجوارح عن أسباب راحتها، ويقول: أين نحن من هذا النعيم الذي نستطيع أن نجد فيه الحياة الحقيقية لو أردنا، لماذا أعرضنا عنه، وذهبنا نبحث عن الراحة في مضايق الشقاء، وننقب عن السعادة في دياجير الظلماء؟!



أين الذين اسودت الدنيا في وجوههم، وكستهم المصائبُ أثوابَ الأحزان والهموم؟ فرّوا إلى الله تجدوا الفرج، وتروا المخرج، أخرجوا من سَمِّ الخيط إلى الفضاء الأرحب ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات: 50].



طَامِنْ حَشَاكَ فَإِنَّ دَهْرَكَ مُوقِعٌ

بِكَ مَا تُحِبُّ مِنَ الأَمُورِ وَتَكْرَهُ



وَإِذَا حَذرْتَ مِنَ الأُمُورِ مُقَدّراً

فَفَرَرْتَ مِنه فنحْوَهُ تتوجَّهُ[2]






إن الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان سُنة نبوية فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعلها أصحابه، وفعلها ويفعلها الصالحون من بعدهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح، ثم يدخله) [3].



فمن تيّسر له فعلُه فلا يفوّت على نفسه هذا الخير؛ فهو غُنم كبير في وقت يسير، ومن لم يقدر عليه كله فلا يترك بعضه، ولو ساعات قليلة يحلق بها في جوّ الصفاء الروحي.



ولكن الذي يروم تحقيقَ مقاصد الاعتكاف، والوصولَ إلى أهدافه المنشودة عليه أن يختار المكان الذي يخشع فيه، ويقلّ فيه الضجيج ولقاءُ الناس، ويستطيع فيه اعتزالَ الناس ليخلو بربه متفكراً ومتأملاً، وتاليًا ومتدبراً، ومتضرعًا وداعيًا، وذاكراً وباكيًا على تفريطه، ومشتاقًا إلى لقاء ربه.



وبعد هذه الرحلة الإيمانية التي حاز فيها المعتكف الصالح على شحنة إيمانية عالية يعود إلى أهله وقد تجدد إيمانه، وتلألأت أنواره، فيفرح مرتين: مرة بإتمام طاعته، ومرة بلقاء أهله ومحبيه.



والمعتكف الفائز لا ينسى تلك الليالي المقمرة، والأيام النضرة التي عاشها بين أحضان الاعتكاف؛ فلذلك يجعلها نبراسًا له يضيء طريقه في مستقبل أيامه، ويعدّ ذلك الزمن المبارك النَّدي الذي عاشه هناك قدوةً يميل إليه ولا يميل عنه:

قال حبيب بن أوس:

وكانَ أغضَّ في عيني وأندى *** على كبدي من الزهرِ الجنيِّ [4]

وقال غيره:

وعهدي به عذبَ الجَنَى ناعمَ الذُّرى *** تَطِيبُ وتنَدى بالعشيِّ أصائلُهْ[5]






[1] ديوان مجنون ليلى (ص: 141)




[2] البيتان لابن الرومي، شرح كتاب الأمثال (ص: 454).




[3] رواه البخاري.




[4] ديوان أبي تمام (ص: 402).




[5] أمالي القالي (ص: 191).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 206.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 200.28 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (2.84%)]