سلسلة شرح الأربعين النووية - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         منهاج السنة النبوية ( لابن تيمية الحراني )**** متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 467 - عددالزوار : 124754 )           »          المرور بين يدي المصلي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          نصيحة لمن ترك الجمعة والجماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الزيادة في الصلاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3093 - عددالزوار : 353255 )           »          تحريم الخوف دون الطبيعي من غير الله تبارك وتعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الصدقات تطفئ غضب الرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          السلام النفسي في فريضة الحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          الدرس السابع والعشرون: حقوق الزوجة على زوجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          الإسلام كرَّم الإنسان ودعا إلى المساواة بين الناس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 24-10-2024, 05:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,349
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ

الحديث 11: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ))

عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت


عناصر الخطبة:
رواية الحديث.

المعنى الإجمالي للحديث.

المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبةالأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب، سِبْطِ[1] رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته[2]رضي الله عنهما قال: حفِظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَرِيبُك))[3].

عباد الله: هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم، ومعدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعد الدين والشريعة، وقد سبق معنا معناه في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الحلال بيِّنٌ، وإن الحرام بيِّنٌ، وبينهما أمور مُشتبهات لا يعلَمُهُنَّ كثير من الناس، فمن اتَّقى الشُّبهات استبرأ لدينه، وعِرْضِهِ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام))[4] ، فهما معًا أصلٌ في الأخذ باليقين وترك المشتبهات، وأصل في الوَرَعِ والبعد عن الشكوك.

فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟


نستفيد من الحديث لواقعنا ما يأتي:
1- البعد عن الشُّبُهات؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يريبك))؛ أي: ابتعد عن الأمور المشكوك فيها، وخُذْ بالأمور المتيقَّن منها، وبهذا نحفظ أنفسنا من الوقوع في الحرام، ونحفظ عِرْضَنا من ألسنة الناس، وتحصُل طمأنينة للقلب، ونتخلَّق بخُلُقِ الوَرَعِ.

والوَرَعُ هو الكفُّ عن الشُّبهات وما يؤدي إلى الحرام، وقال بعض أهل العلم: "الورع ترك ما لا بأسَ به مخافةَ ما به بأس، أو هو ترك المباح خشيةَ الوقوع في الممنوع"؛ مثل: ترك التعامل مع شخص أمواله مختلطة دخل فيها الحلال والحرام، فإن السلامة في ترك التعامل معه، أو أطعمة مشكوك في احتوائها على بعض المحرَّمات؛ كالكحول أو لحم الخنزير، فالسلامة في ترك تناولها، دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك، وقِسْ على هذا أمورًا كثيرةً.

2- أمثلة من ورع السلف الصالح وتركهم للشُّبهات: سلف هذه الأمة الصالح كانوا يتميزون بخلق الورع، وأذكر لكم بعض النماذج؛ علَّنا نقتفي أثرهم ونتشبه بهم.

من ورع النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطةً على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقةً، فألقيها))[5] ، فيه دليل على تحريم الصدقة على النبي عليه السلام مطلقًا، سواء كانت فرضًا أو تطوعًا؛ لعموم اللفظ؛ قال المهلب: "إنما تركها صلى الله عليه وسلم تورُّعًا وليس بواجب؛ لأن الأصل أن كل شيء في بيت الإنسان على الإباحة"[6].

من ورع الصحابة رضوان الله عليهم؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان لأبي بكر غلام يُخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجِهِ، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية، وما أُحسِن الكَهانة، إلا أني خدعته، فلقِيَني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه"[7].

ومن الورع في قصص الصالحين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اشترى رجلٌ من رجلٍ عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرَّةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خُذ ذهبك مني، إنما اشتريتُ منك الأرض، ولم أبْتَعْ منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بِعْتُك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلامَ الجاريةَ وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا))[8] ، فليسأل كل واحد منا نفسه لو وجد في شيء اشتراه ذهبًا أو نقودًا، كيف سيتصرف؟

فاللهم زيِّنَّا بخُلُقِ الوَرَعِ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى؛ أما بعد عباد الله:
فنستفيد كذلك أن:
3- مدار الفتوى فيما لا دليل عليه على القلب؛ في هذا الحديث إشارة إلى أن الإنسان فيما لم يدل عليه الدليل يرجع في ذلك إلى نفسه ويستفتيها، أو إذا استوت الأمور وكانت حينئذٍ من المتشابهات، فإن الإنسان يرجع في ذلك إلى ما يجده في نفسه؛ فقد يعطيك المفتي - مثلًا - رخصةً في معاملة ربوية بناءً على الضرورة التي بيَّنتَها له، ولكن في قرارة نفسك أنك لست من أهل الضرورة، فلا تعمل بهذه الفتوى، واعمل بما أفتاك قلبك؛ لأن قلب المؤمن ينظر بنور الله إذا كان قويَّ الإيمان؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوابصةَ: ((جئت تسأل عن البِرِّ والإثم؟ قال: قلت: نعم، قال: فجمع أصابعه فضرب بها صدره، وقال: استفْتِ نفسك، استفْتِ قلبك يا وابصة - ثلاثًا - البِرُّ ما اطمأنَّت إليه النفس، واطمأنَّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفْتَوك))[9] ، أما في حالة معرفة الدليل، أو في إمكان الحصول عليه، فلا بد من الوقوف على الدليل.

فاللهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، آمين.
(تتمة الدعاء).

[1] أي: ابن بنته فاطمة رضي الله عنها.

[2] وذلك لسرور النبي صلى الله عليه وسلم به وإقباله عليه.

[3] رواه الترمذي، رقم: 2518، وقال: حديث صحيح، والنسائي، رقم: 5201.

[4] رواه مسلم، رقم: 1718.

[5] رواه البخاري، رقم: 2432.

[6] فتح الباري شرح صحيح البخاري: 4/294.

[7] رواه البخاري، رقم: 3842.

[8] رواه البخاري، رقم: 3472.

[9] رواه الدارمي، رقم: 2575، وصححه الألباني في تحقيق صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، ص: 55.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 15-11-2024, 09:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,349
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ

الحديث 12: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ))

عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت


عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.

الخطبةالأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حُسْنِ إسلام الْمَرْءِ تركُه ما لا يَعْنِيه))[1].

عباد الله: هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم، ومعدود من أصول الأدب؛ قال الإمام الجليل أبو محمد عبدالله بن أبي زيد، إمام المالكية بالمغرب في زمنه: "جِماع آداب الخير يتفرع من أربعة أحاديث؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فَلْيَقُل خيرًا أو ليصمت))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه))، وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له الوصية: ((لا تغضب))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه))"[2].

والمعنى الإجمالي للحديث يفيد أن من كمال محاسن إسلام المسلم وتمام إيمانه، ابتعاده عما لا يخصه، ولا يُهِمُّه، وما لا يفيده من الأقوال والأفعال، وعدم تدخله في شؤون غيره، وعدم تطفُّلِهِ على غيره فيما لا ينفعه ولا يفيده.

فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟
نستفيد من الحديث لواقعنا ما يأتي:
1- ترك ما لا يعني من درجات الإحسان، ودليلٌ على كمال الإسلام؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء))؛ أي: من تمام وكمال دينه، ومن جماله وحسنه، تركه ما لا يعنيه من الفضول في الأقوال والأفعال، والابتعاد عما لا يعني مما حرَّم الله عز وجل، وما كرهه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما لا يُحتاج إليه من فُضول المباحات من الكلام والأفعال والأحوال؛ فمما لا يعني الإنسان ليس محصورًا في الأمور الدنيوية، بل إن مما لا يعنيه أيضًا، ما هو متعلق بأمور أُخْرَوِيَّة؛ كحقائق الغيب، وتفاصيل الحِكَمِ في الخَلْقِ والأمر، ومنها السؤال والبحث عن مسائل مقدَّرة ومفترضة لم تقع، أو لا تكاد تقع، أو لا يُتصوَّر وقوعها.

2- عدم ترك ما لا يعني سببُ الكثير من المشاكل: كم من أناس تتبَّعوا زوجًا وزوجته حتى فرَّقوا بينهما! فكم من غِيبة أو نميمة أو قذف بغير بيِّنة، أو عمل سحر أو غير ذلك من الموبقات كان سببًا في التفريق بين الأحِبَّة، وسببًا في الكثير من الخصومات!

قال حماد بن سلمة: باع رجل عبدًا وقال للمشتري: ما فيه عيب إلا النميمة، قال: رضيت، فاشتراه"، فانظروا كيف هوَّن من أمر النميمة وهي من الاشتغال بما لا يعني، فكيف كانت النتيجة؟ قال حماد: فمكث الغلام النمَّام أيامًا، ثم قال لزوجة مولاه: إن سيدي لا يُحبُّكِ، وهو يريد أن يتسرَّى عليكِ، فخُذي الْمُوسَى واحلِقي من شعر قَفاه عند نومه شعراتٍ حتى أسحُرَه عليها فيحبكِ، ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلًا وتريد أن تقتلك، فتناوَمَ لها حتى تعرف ذلك، فتناوم لها فجاءت المرأة بالموسى، فظنَّ أنها تريد قتله، فقام إليها فقتلها، فجاء أهل المرأة، فقتلوا الزوج، ووقع القتال بين القبيلتين[3]، أرأيتم إلى نتائج الدخول فيما لا يعني؟ وشواهد الخصومات بين الأُسَرِ والعمَّال، وفي المدارس بين التلاميذ، وبين الأقارب والجيران وغيرها، سببها عدم ترك ما لا يعني، والاشتغال بالفضول في الأقوال والأفعال.

فمن تكلم في الغير بما يكره، فقد اعتدى على عِرْضِهِ، وتدخَّل فيما لا يعنيه، فعليه أن يعلم بأن لسانه مراقَب؛ قال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال له: ((اكْفُفْ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله، أَوْ إنَّا لَمَأْخُوذُون بما نتكلم؟ قال: ثكِلتك أمُّك يا معاذ، وهل يكُبُّ الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخِرِهم - إلا حصائدُ ألسنتهم؟))[4]؛ قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "من عدَّ كلامه من عمله، قلَّ كلامه فيما لا يعنيه".

فاللهم إنا نعوذ بك من الاشتغال بما لا يعنينا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن لآثارهم اقتفى؛ أما بعد عباد الله:
فنستفيد كذلك أن:
3- من حسن إسلام المرء الدخولُ فيما يعنيه؛ وهذا بالمفهوم المخالف من الحديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم القائل هذا الحديث لم يسكت عما يعنيه، وعلينا اقتفاء أثره في ذلك، فكان صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام؛ تطبيقًا لقول ربه: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وحاول المشركون إسكاتَه بالإغراء أحيانًا، وبالتهديد أحيانًا أخرى، فما استطاعوا، ورسم له ربُّه منهجًا واضحًا في الآية السابقة، وفي قوله: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، فيتعين على المؤمنين تبليغُ دينِ ربِّهم للعالمين، فهو مما يعنيهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يقدِّم النصيحة لمن يحتاجها؛ كما رأينا في حديث: ((الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم))[5]، وصحَّح للمسيء صلاتَه، وعند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم ((رأى خاتمًا من ذهب في يد رجلٍ، فنزعه فطرحه، وقال: يعمِد أحدكم إلى جمرةٍ من نار فيجعلها في يده، فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله، لا آخُذه أبدًا، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم))[6].

وكان يتدخل للصلح بين المتخاصمين، ويتدخل في أمور أخرى؛ ومن أمثلتها قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كلَّ يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة، وتُعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتُميط الأذى عن الطريق صدقة))[7].

فالحاصل أنه لا يجب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ترك الواجبات وحتى المستحَبَّات، ويقرر علماؤنا في قواعدهم أنه: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فحينما فُرضت الصلاة والحج مثلًا، بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بسُنَّتِهِ القولية والعملية كيفية أداء الصلاة والحج، ولم يتأخر عن البيان.

فاللهم وفِّقنا لعدم السكوت عما لا ينبغي، آمين.


(تتمة الدعاء).

[1] رواه مالك في الموطأ، رقم: 3352، والترمذي، رقم: 2518، وقال: حديث غريب، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع، رقم: 5911.

[2] شرح النووي على مسلم: 2 /19.

[3] إحياء علوم الدين: 3 /158.

[4] رواه الترمذي، رقم: 2616، وقال: حديث حسن صحيح.

[5] رواه مسلم، رقم: 1718.

[6] رواه مسلم، رقم: 2090.

[7] رواه مسلم، رقم: 1009.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 15-11-2024, 09:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,349
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ

حديث: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ))

عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت


عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.

الخطبةالأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عن أبي حمزة أنسِ بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم، حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه))[1].

عباد الله: هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم، ومعدودٌ من أصول الأدب، كما ينصُّ على الضابط لمعاملة الآخرين، ويفيد عمومًا أن ما يحبه الإنسان لنفسه من قول أو فعل، فعليه أن يُحِبَّه للآخرين، وما يكرهه لنفسه من قول أو فعل، فعليه أن يكرهه للآخرين، وأن يعامل الناس كما يُحِبُّ أن يعاملوه.

فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟
نستفيد من الحديث لواقعنا ما يأتي:
1-الفهم الصحيح لمعنى (لا يؤمن أحدكم)؛ قال العلماء: ليس المراد ذهاب الإيمان كليةً، وإنما المراد نفي كمال الإيمان؛ أي: لا يؤمن إيمانًا تامًّا بحيث يبلغ حقيقة الإيمان ونهايته، وهذا النفي معروف في كلام العرب، وكلام الناس كما نقول في الكلام الدارج: (نتا ماشي بنادم)، وتقول العرب: "فلان ليس بإنسان"[2]، فالمقصود نفي صفة من صفاته، وهنا نفي صفة من صفات الإيمان فيه؛ وهي: عدم حبِّه للناس مثل ما يحب لنفسه، فأصبح ناقصًا لافتقاده صفة: أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهذا يدلُّكم على أن الإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي.

2- يجب نشر المحبة بين أفراد المجتمع، وتركُ الحقد والحسد، والكراهية والأنانية: لا يمكن لحقود أو حاسد، أو مُحِبٍّ لذاته أن يُحِبَّ لأخيه ما يحب لنفسه؛ لأن تلك الأمراض تُورِث الكراهية والبغضاء بين الناس؛ ولذلك يرتقي في مدارج الإيمان من يحب الخير للناس، ويبذل ما في وسعه وطاقته لنفعهم، ويُحزنه آلام إخوانه، فيمرض لمرضِهم، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم.

وهذ لا يقتصر على إخوانه في الإيمان، بل في الإنسانية، فيحب للكافرِ دخولَه في الإسلام، كما يحب لأخيه الثباتَ على الدين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بالهداية للمشركين، فقد حاصر أهلَ الطائف فجاءه أصحابه فقالوا: يا رسولَ الله، أحرقتنا نِبالُ ثقيفٍ، فادْعُ الله عليهم فقال: ((اللهم اهدِ ثقيفًا))[3]، كما أن المؤمن يدعو بالهداية للعُصاة، ويحب لهم التوبة؛ كما فرِح الصحابة رضوان الله عليهم بنزول توبة الثلاثة الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك؛ قال تعالى: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118].

قال كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين نزلت توبتهم: "وآذَنَ - أي أعلَم - رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبة الله علينا حين صلَّى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب نحو صاحبيَّ مبشِّرون، وركض رجل إليَّ فرسًا، وسعى ساعٍ من أسْلَمَ، حتى أوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمِعت صوته يبشرني، نزعت ثوبي، فكسوتهما إياه بشارةً، والله ما أملك يومئذٍ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبِستُهما، ثم انطلقتُ أتيمَّمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقَّاني الناس يبشرونني بالتوبة، يقولون: لِيَهْنِكَ توبةُ الله عليك، حتى دخلت المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيدالله، فحيَّاني وهنَّأني، ووالله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب بن مالك لا ينساها لطلحةَ، قال كعب: فلما سلَّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ووجهه يبرُق من السرور: ((أبْشِرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك))[4]، وهكذا فرِح الرسول صلى الله عليه وسلم وفرِح الصحابة بنزول توبتهم؛ لأنهم يُحِبُّون لإخوانهم مثل ما يحبون لأنفسهم.

فاللهم اجعلنا ممن يحبون لإخوانهم مثل ما يحبون لأنفسهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن لآثارهم اقتفى؛ أما بعد عباد الله:
فنستفيد كذلك:
3- التشبُّهُ بالسلف الصالح في هذه الخَصلة العظيمة، وقد سبق معنا فرح الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة بنزول توبة الثلاثة الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك؛ ومن نماذج الاقتداء كذلك:
حبُّه صلى الله عليه وسلم لصحابته ما يحب لنفسه: عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أبا ذرٍّ، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يتيم))[5]؛ قال ابن رجب رحمه الله: "وإنما نهاه عن ذلك؛ لِما رأى من ضعفه، وهو صلى الله عليه وسلم يحب هذا لكل ضعيف، وإنما كان يتولى أمور الناس؛ لأن الله قوَّاه على ذلك، وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم"[6].

وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "ما ناظرتُ أحدًا قطُّ فأحببتُ أن يُخطئ"[7]، ويقول: "وددت أن الناس تعلَّموا هذه الكتب ولم ينسبوها إليَّ"[8]، فانظروا - رحمكم الله - إلى تواضع هذا الإمام، وحبِّه لخصمه إصابةَ الحق كما يحب لنفسه، فأين علماؤنا وطلبة العلم من هذا الخُلُقِ؟ حتى أصبح الانتصار للنفس والمذهب هو ديدن أكثرهم، إلا من رحم ربك، وقليلٌ ما هم.

وكان محمد بن واسع يبيع حمارًا له، فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيتُه لم أبِعْهُ، وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه[9]، وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين، فأين هذا ممن يبيع سلعةً ثم يسكت عن عيوبها، فهل تحب أن يعاملك الناس بالمثل؟

فاللهم أوْرِثْنا خُلُقَ أسلافنا في التواضع والمحبة، آمين.


(تتمة الدعاء).

[1] رواه البخاري، رقم: 13، ومسلم، رقم: 45.

[2] فتح الباري: 1/ 57.

[3] رواه الترمذي، رقم: 3942.

[4] سيرة ابن هشام: 2/ 535، 536.

[5] رواه مسلم، رقم: 1826.

[6] جامع العلوم والحِكم: 1/ 305.

[7] رواه ابن حبان في صحيحه: 5/ 496.

[8] رواه ابن حبان في صحيحه: 5/ 496.

[9] رواه مسلم، رقم: 1826.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 15-11-2024, 09:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,349
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ

الحديث 14: ((لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ...))

عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت


عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبةالأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحِلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاثٍ: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارِق للجماعة))[1].

عباد الله: هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم، ومتعلِّق بأخطر الأشياء؛ وهو الدماء، ويؤكِّد على أن الأصل في الدماء العِصمةُ؛ كما في حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ: دَمُهُ، وماله، وعِرْضُه))[2]، كما يُبيِّن عقوبة مقترفي الجرائم المذكورة لحماية المجتمع ووقايته؛ وهي حدُّ القتل، وحد الزاني المحصَن، وحد الرِّدَّة، وتطبيق هذه الحدود مردُّه إلى أولياء الأمور، وليس لآحاد الناس، فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟

نستفيد من الحديث لواقعنا ما يلي:
1- تشريع حد الزنا لحفظ الأعراض: الذي تزوَّج وإن طلَّق أو طُلِّقت يُسمَّى عند الفقهاء بالثَّيب، وأجمعوا على أنه إذا زنى يُرجم بالحجارة حتى الموت، وقد ثبت في السُّنَّة أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا والغامدية لمَّا زَنَيَا، وكان مما نزل من القرآن ثم نُسِخ نَسْخَ التلاوة دون الحكم ما رُوِيَ عن زرٍّ، قال: ((قال لي أُبَيُّ بن كعب: يا زرُّ، كأيِّن تقرأ سورة الأحزاب؟ قال: قلت: كذا وكذا آيةً، قال: إن كانت لَتُضاهي سورة البقرة، وإن كنَّا لنقرأ فيها: والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتةَ نكالًا من الله ورسوله، فرُفع فيما رُفع))[3]، والشيخ والشيخة: الثيب والثيبة، أما الزاني البِكر؛ فحكمه واضح في قوله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 2]، ولو طبَّقنا هذا التشريع الربانيَّ، لَحُفِظتِ الأعراض، ولما انتشر الزنا والخيانات الزوجية، وما ينجُم عنها من اختلاط الأنساب، وظهور أبناء الزنا، وما يترتب عن وجودهم من تكلفة لاحتضانهم، ومن مشكلات نفسية لهم عند كِبَرِهم والسؤال عن نسبهم.

2- تشريع القِصاص لحفظ الأنْفُسِ: قتل النفس بغير وجه حقٍّ جُرمٌ عظيم عند الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ: دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُه))[4]، وهو من كبائر الذنوب؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]، هذا في عذاب الآخرة، أما في الدنيا، فالقِصاص إذا لم يرضَ أولياء المقتول بالدِّيَةِ، أو العفو عن القاتل؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 178، 179]، وقال تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [المائدة: 45]، فلو طُبِّق القِصاص في واقعنا، لأمِنَ الناس على أنفسهم وأرواحهم، واستراح الناس من فظائع الجرائم التي يرتكبها الأفراد والعصابات، وهذا التشريع الربانيُّ يدحض مزاعمَ دُعاة إلغاء عقوبة الإعدام؛ لأن الجزاء ينبغي أن يكون من جنس العمل، وهم ينظرون إلى العطف على الجاني وحقه في الحياة، وينسَون حقَّ الضحية وحقه في العيش، فما أعدل تشريع الإسلام!

فاللهم اجعلنا ممن يحتكمون إلى كتابك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن لآثارهم اقتفى؛ أما بعد عباد الله:
فنستفيد كذلك:
3- تشريع حد الرِّدَّة لحفظ الدين، فمن دخل في الإسلام ثم ارتد عنه وترك جماعة المسلمين، فقد أجمع أهل العلم أنه يُقتَل؛ بدليل هذا الحديث: ((التارك لدينه المفارِق للجماعة))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من بدَّل دينه فاقتلوه))[5]، وبدليل قتال أبي بكر رضي الله عنه للمرتدين الذين ارتدوا بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو طبَّقنا هذا التشريع الرباني لَقطعنا الطريق على المجاهرين بالكفر، والملاحدة، وقُمنا بصيانة الدين من تلاعب اللادينيين.

ويجدر التنبيه في الختام أن المسلم قد يُقتَل - حال تطبيق حدود الله - من طرف وليِّ أمر المسلمين بغير هذه الثلاثة؛ ومنها:
اللواط: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من وجدتموه يعمل عَمَلَ قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به))[6] ؛ حتى لا تنتشر هذه الآفة بين المسلمين.

العصابات المحاربون: لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 33، 34].

الساحر: وهو عند أبي حنيفة ومالك وأحمد أنه يكفُر بسِحْرِه، فهو في حكم المرتدِّ.

من يريد تفريق وحدة المسلمين: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أتاكم وأمرُكم جميع على رجل واحد، يريد أن يشُقَّ عصاكم، أو يفرِّق جماعتكم، فاقتلوه))[7].

عباد الله: دمُ المسلم الذي لا يحل إلا بحقِّه عند الله أصبح في زماننا من أرخص الدماء، كما ترَون في فلسطين وغيرها من البُلدان؛ نتيجة ضعف المسلمين وترك دينهم وتفرقهم، فأصبحوا أذلاء بين الأمم، ولا عزَّةَ لهم إلا بالرجوع إلى دينهم حتى يجمع الله شملهم، ويأخذوا بأسباب القوة.

فاللهم انصر دينك وأعزَّ أولياءك، آمين.
(تتمة الدعاء).

[1] رواه البخاري، رقم: 6878، ومسلم، رقم: 1676.

[2] رواه مسلم، رقم: 2564.

[3] رواه أبو داود الطيالسي، رقم: 2564.

[4] رواه مسلم، رقم: 2564.

[5] رواه البخاري، رقم: 3017.

[6] رواه أبو داود، رقم: 4462.

[7] رواه مسلم، رقم:1852.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 30-11-2024, 10:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,349
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سلسلة شرح الأربعين النووية

الحديث 15: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر..."

عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت


عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبةالأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]،﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]،﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أعاذني الله وإياكم من النار.

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"[1].

عباد الله، هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، واشتمل على أمور ثلاثة جمعت مكارم الأخلاق؛ وهي: قول الخير أو الصمت، وإكرام الجار، وإكرام الضيف. والالتزام بها دليل كمال الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن معنى نفي الإيمان في الحديث ليس نفي الإيمان بالكلية؛ وإنما نفي كماله وتمامه، أو المبالغة؛ كما لو قلت لابنك: إن كنت ابني فأطعني؛ للمبالغة في حثِّه على الطاعة، وفي جميع الحالات فهو ابنك حتى ولو لم يطعك.


فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟


نستفيد من الحديث لواقعنا ما يلي:
1- التكلُّم بالخير أو الصمت: قالصلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". ومن قول الخير إفشاء السلام والنصيحة، قال الشافعي رحمه الله في معنى الحديث: "إذا أراد أن يتكلم فليفكر، فإن ظهر له أنه لا ضرر عليه تكَلَّم، وإن ظهر له فيه ضرر أوشك فيه أمسك"[2]. فينبغي إذن التفكير قبل الكلام، فإن علم أنه لا يترتب عليه مفسدة ولا يجرُّ إلى مُحرَّم ولا مكروه؛ فليتكلَّم، وإن كان مباحًا فالسلامة في السكوت؛ لئلا يجر المباح إلى المحرم والمكروه [3].


قال الشافعي رحمه الله:
إذا رمت أن تحيا سليمًا من الرَّدَى
ودينُك موفورٌ وعرضك صين
فلا ينطقَنَّ منك اللسانُ بسوأة
فكلك سوءات وللناس ألسن
وعيناك إن أبْدَتْ إليك معائبًا
فَدَعْها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
ودينُك موفورٌ وعرضك صين


وقد سبق معنا في الحديث الثاني عشر"من حُسْن إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يعنيه"، الحديث عن فضيلة ابتعاد المسلم عما لا يخصه ولا يهمه وما لا يفيده من الأقوال والأفعال، وعدم تدخُّله في شؤون غيره، ومنها في هذا الحديث الصمت والسكوت عما ليس فيه خير؛ كالكلام الفاحش والغيبة والكذب وقول الزور.


2- إكرام الجار: قالصلى الله عليه وسلم: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"، فالجار الذي يجاورك في المسكن أو العمل كأصحاب الدكاكين، أو جاورك في مركب أو في حافلة أو طائرة. فإذا كان الجار من أقربائك فله ثلاثة حقوق: حق الجوار، والقرابة، والإسلام، وإن كان مسلمًا غير قريب فله حق الجوار والإسلام، وإن كان غير مسلم فله حق الجوار.


ومن حقوقه إكرامه كما في الحديث، وإكرام الجار يكون بـ:
الأمن من شرورك:قالصلى الله عليه وسلم: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه"[4]؛ أي: لا يسلم جاره من كيده وآذاه، كالذي يرمي بالقمامة أمام منزله، أو يزعجه برفع صوت التلفاز مثلًا، أو يترك أطفاله يقلقون راحته، أو غير ذلك، أو يعتدي على عرضه بالتحرش ببناته أو زوجته. عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك" قال: قلت له: إن ذلك لعظيم، قال: قلت: ثم أي؟ قال: "ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قال: قلت: ثم أي؟ قال: "ثم أن تزاني حليلة جارك"[5]. وهذالأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكُّنه منها على وجه لا يتمكَّن غيره منه كان في غاية من القبح.


الانتفاع بك: كأن تُسلِّم إذا مررت عليه، أو تهدي له إذا كان غنيًّا، أو تتصدَّق عليه إذا كان فقيرًا، وتشاركه في أفراحه وأحزانه، وتسأل عنه إذا غاب عنك، وتعوده إذا مرض، وتُسخِّر سيارتك مثلًا لقضاء بعض أغراضه، وأوجه إكرامه كثيرة.


فاللهم اجعلنا ممن يتكلمون بالخير، ويكرمون جيرانهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن لآثارهم اقتفى، أما بعد:
عباد الله، نستفيد كذلك:
3-إكرام الضيف؛ قالصلى الله عليه وسلم: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفهفإذا جاءك ضيف فأكرمه، والإكرام يكون بالطعام من غير إسراف، قال تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[الأعراف: 31]، وبعض الناس لا يفهم من الإكرام إلا الإسراف. ولا بأس ببعض التكلف، كما فعل إبراهيم عليه السلام مع أضيافه قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ [هود: 69].

ومن إكرامه إيثاره على نفسك وأبنائك في المأكل والمشرب، وعدم ترك الأبناء يقلقون راحته، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يضم أو يضيف هذا"، فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ضحك الله الليلة، أو عجب، من فعالكما" فأنزل الله: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9][6].


وعلى الضيف احترام زمن الضيافة والكرم؛ وهي ثلاثة أيام فقط، وألا يحرج أهل البيت، وألا يتدخل فيما لا يعنيه كما رأينا في الحديث الثاني عشر، ولا يتجسَّس على أهل البيت فللبيوت أسرار.


فاللهم اجعلنا ممن يكرمون ضيفهم، آمين. (تتمة الدعاء).

[1] رواه البخاري، رقم: 6878، ومسلم، رقم: 1676.

[2] شرح النووي على مسلم: 2/ 19.

[3] فتح الباري: 10/ 532.

[4] رواه البخاري، رقم: 6016.

[5] رواه مسلم، رقم: 86.

[6] رواه البخاري، رقم: 3798.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 15-12-2024, 08:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,349
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سلسلة شرح الأربعين النووية

عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت


سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ

الحديث 16: لا تغضب


عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أعاذني الله وإياكم من النار.

عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصِني، قال: لا تغضب، فردَّد مرارًا، قال: لا تغضب))[1].

عباد الله، هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم، الذي أوجز وصيته لهذا الصحابي في كلمة جامعة؛ وهي: ((لا تغضب))؛ قال الخطابي: "معنى قوله: ((لا تغضب))، اجتَنِبْ أسبابَ الغضب، ولا تتعرض لِما يجلبه، وأما نفس الغضب فلا يتأتَّى النهي عنه؛ لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجِبْلَةِ"[2]، والغضب جِماع الشرِّ، والتحرُّز منه جماع الخير، وهو ينشأ بدافع النفس للانتقام، أو دفع الأذى؛ ما يتولد عنه الكثير من الشرور؛ كالقتل والضرب، والسب والنطق بالكلام الفاحش، وغيرها، وهو نقيض الرضا والسَّكِينة والطمأنينة.

فما الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟
نستفيد من الحديث لواقعنا ما يأتي:
1- الغضب المذموم وعلاجه: وهو الذي نهى عنه وحذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي وردت، ومنها هذا الحديث، وهو خُلُقٌ سيئ؛ لأنه يُخرِج العقل والدين من سياستهما، فلا يبقى للإنسان مع ذلك نظرٌ ولا فِكْرٌ ولا اختيار.

ومن أمثلته: الغضب لأجل الدنيا والمصالح، والغضب للنفس، أو الغضب عصبيةً أو للقبيلة، أو الحزب أو الجماعة، أو للأسرة والأقارب، فتجد الغضبان يغضب لأتفه الأسباب، فتنتفخ أوداجه وتحمرُّ عيناه، ويُطلِق للسانه العِنان في السَّبِّ والشتم والقذف، وربما يؤذي المغضوبَ عليه بالضرب أو القتل، وكم من غاضب حوَّل العيش داخل الأُسرة إلى جحيم، وربما طلَّق زوجته فيندم، لكن حيث لا ينفع الندم! ويزداد الأمر سوءًا إذا ظنَّ الغاضبُ أنه قوِيٌّ بتصرفاته، ويستطيع فرض احترامه، ونفسه التي بين جنبيه ضعيفٌ أمامها؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصُّرَعَةِ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))[3]؛ أي: ليس الشديد الذي يصرع الناس بقوته البدنية، أو يمارس فنون القتال والمصارعة، ولكن الشديد الذي يضبط نفسه، فلا ينطق إلا بما يوافق الحق والصواب.

ويُعالَج الغضب:
بدعاء الله عز وجل على إذهاب غضبك في غير محله؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60].

بملازمة ذكر الله عز وجل، أكْثِرْ من قراءة القرآن، ومن التسبيح والتهليل وغيرها من الأذكار؛ لأنها تُطَمْئِنُ القلب؛ قال تعالى: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].

بلزوم الصالحين والرفقة الطيبة؛ لأن مجالستهم سَكِينة، بخلاف مجالسة الرفقة السيئة التي تتوفر عندها دواعي الغضب المذموم وكثرته.

بالتعوُّذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأنه مصدر الغضب من خلال وسوسته؛ عن سليمان بن صرد، قال: ((استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فغضِب أحدهما، فاشتد غضبه حتى انتفخ وجهه وتغيَّر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لَأعلمُ كلمةً، لو قالها لذهب عنه الذي يجد، فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم وقال: تعوَّذ بالله من الشيطان، فقال: أترى بي بأسٌ؟ أمجنونٌ أنا؟ اذهب))[4].

بتغيير الوضع الذي أنت عليه حال غضبك؛ فإن كنت تمشي فتوقَّف، وإن كنت واقفًا فاجلس، وإن كنت جالسًا فاضطجع؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا غضِب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع))[5]، وغيرها من الأسباب المشروعة.

فاللهم إنا نعوذ بك من الغضب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه، ومن لآثارهم اقتفى؛ أما بعد عباد الله:
فنستفيد كذلك أن هناك:
2- الغضب المحمود؛ وهو أن يكون لله عز وجل عندما تُنتهك حرماته، والغضب على أعدائه من الكفار والمنافقين، والطغاة والمتجبرين؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [التوبة: 73]، ومنه غضب الله عز وجل كغضبه على المنافقين والمشركين؛ كقوله تعالى: ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [الفتح: 6].

كيف لمن يسمع الدين والملة تُسَبُّ ولا يحرك ساكنًا، وإذا سُبَّ هو أو أحد أقربائه، انتفض انتفاضة الثور؟! وكيف لمن يرى أو يسمع نبيه صلى الله عليه وسلم يُستهزَأ به، وتُنشر له رسوم مسيئة، أو نفي سنته بدعوى الاقتصار على القرآن، ثم لا يغضب؟ وكيف لمن عنده أبناء لا يُصلُّون ثم لا يغضب ولا يحرك ساكنًا؟! أو يرى زوجته أو ابنته تخرج سافرةً، ولا يأمر أو ينهى؟ وكيف لمن يرى إخوانه يُقتلون ويُذبحون ويجوعون، وأعراض المؤمنات تُنتهك، ولا يغضب ولا ينفر بما يستطيع؟ والله عز وجل يقول: ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 41].

فالغضب إذا كان في محله، فهو مطلوب لحماية الدين والأنْفُسِ والأعراض، وانظروا كيف غضب أناس من المشركين حينما حُوصِرَ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون ومَن معهم مِن أقربائهم مِنَ المشركين في الشِّعب بدافع العصبية، وقالوا: "يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبَس الثياب، وبنو هاشم هَلْكَى، لا يُباع ولا يُبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تُشَقُّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة"[6]، فسَعَوا لنقضها، فقيمة الغضب المحمود تنفع لإزالة الظلم، ووضع الأمور في نصابها.

فاللهم اجعلنا ممن يغضب لك، آمين.


(تتمة الدعاء).

[1] رواه البخاري، رقم: 6116.

[2] فتح الباري: 10 /520.

[3] رواه البخاري، رقم: 6114، ومسلم، رقم: 2609.

[4] رواه البخاري، رقم: 6048.

[5] رواه أبو داود، رقم: 4782.

[6] سيرة ابن هشام: 1 /376، والقائل هو زهير بن أبي أميَّة.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 26-12-2024, 08:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,349
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سلسلة شرح الأربعين النووية

عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت




سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ

الحديث 17: ((اتَّقِ اللهِ حَيْثُمَا كُنْتَ...))




عناصر الخطبة:
رواية الحديث.

المعنى الإجمالي للحديث.

المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عن أبي ذرٍّ جندب بن جنادة، وأبي عبدالرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتَّقِ الله حيثما كنتَ، وأتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالِقِ الناس بخُلُقٍ حسن))[1].

عباد الله: هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم، وهو يدعو إلى تقوى الله، وفِعْلِ الحسنة بعد السيئة مباشرةً، والتخلُّق بالخلق الحسن مع الناس، فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟

نستفيد من الحديث لواقعنا ما يأتي:
1- الوصية بتقوى الله تعالى: والتقوى هي أن تُطيع الله فتفعل ما أمرك به، وتجتنب ما نهاك عنه، وبذلك تجعل بينك وبين الله وقاية، وهي وصية الله للأولين والآخرين؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131]، والنبي صلى الله عليه وسلم يفتتح خُطَبَه بالتذكير بالتقوى ويقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا قال: ((اتَّقِ الله حيثما كنت))؛ أي: اتَّقِ الله في سرِّك وعلانيتك، اتَّقِ الله في البرِّ والبحر، في البيع والشراء، في الدار، في الطريق، في المدرسة، في السيارة، في السفر، فهو أمرٌ بالإحساس بمراقبة الله في كل زمان ومكان.

فمن يتَّقِ الله أمام الناس، ثم إذا كان خاليًا انتهك المحرمات، ومن يتَّقِ الله في رمضان، فإذا خرج عصى ربه، ومن يتَّقِ الله أمام الصالحين، وإذا كان مع رفقة سيئة سايرهم في باطلهم؛ هؤلاء جميعًا ومن على شاكلتهم لم يُطبِّقوا الوصية النبوية.

2- الوصية بفعل الحسنة بعد السيئة مباشرةً: قال صلى الله عليه وسلم: ((وأتْبِعِ السيئة الحسنة تَمْحُها))، وهي من التقوى أيضًا فممحاة السيئات فِعْلُ العمل الصالح بعدها، لمن وفَّقه الله لذلك، فالإنسان ليس بمعصوم، وقد تصْدُرُ منا أخطاء ومعاصٍ، ومن رحمة الله بنا أن أرشدنا إلى طريقة للتخلص من الذنوب والآثام؛ قال تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]، ووَرَدَ في سبب نزولها عن ابن مسعود رضي الله عنه، ((أن رجلًا أصاب من امرأة قُبْلةً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114]، فقال الرجل: يا رسول الله، أَلِي هذا؟ قال: لجميع أُمَّتي كلهم))[2].

أنواع الشرك؛ كالحلف بغير الله، والذهاب عند الكُهَّان والمشعوذين سيئة، والحلف بالله بعدها، والندم، والعزم على عدم العودة إلى الكُهَّان حسنة وتوبة.

تَرْكُ الصلاة بالكُلية أو التهاون في أوقاتها سيئة، والقيام بها، والمحافظة على أوقاتها حسنة وتوبة؛ قال تعالى: ﴿ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103].

الاشتغالُ بالعمل أو البيع وقت النداء للجمعة سيئة، والسعي للصلاة وترك البيع وما يُلهي عن الصلاة حسنة وتوبة؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9].

خروج المرأة بدون حجاب سيئة وجاهلية، والتستُّر بعد التبرُّج حسنة وتوبة.

السرقة سيئة، وإرجاع المسروق لصاحبه حسنة وتوبة.

شرب الخمر وجميع أنواع المخدِّرات والتدخين سيئة، وتركها والابتعاد عن الرفقة السيئة حسنة وتوبة، وعلى هذا القياس.

فاللهم اجعلنا من عبادك المتقين الذين يُتبِعون السيئةَ الحسنةَ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن لآثارهم اقتفى؛ أما بعد عباد الله:
فمن المستفادات كذلك:
3- الوصية بالتخلُّق بالخُلُق الحسن مع الناس: قال صلى الله عليه وسلم: ((وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسن))، والخلق الحسن من تقوى الله، وخَصلة من أعمال الحسنات، ومن الخُلُقِ الحسن مع الناس:
مخالطتهم والصبر على أذاهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، أعظمُ أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم))[3] ؛ لأن الذي يخالط الناس لا بد له من أذِيَّةٍ، يسمع كلامًا يؤذيه، لا بد أن يرى فعلًا يؤذيه، لا بد أن يُهان، لكن يصبر على أذاهم ويصابر، ويقول: الذي لا يأتي اليوم يأتي غدًا؛ ويستحضر دائمًا قول الله عز وجل: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وأمَرَ الله نبيَّه بالصبر على أذى المشركين؛ فقال له: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ﴾ [ق: 39]؛ ولذلك وصفه ربه بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].

أن تنفعهم بما تستطيع، وتكُفَّ أذاك عنهم؛ فتُعاملهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي، كبشاشة الوجه؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة))[4] ، ولُطفُ الكلام، والقول الجميل المؤنِس للجليس، وقد يحسُن المزح أحيانًا إذا كان فيه مصلحة، لكن لا ينبغي الإكثار منه، وإنما بقدر الْمِلْحِ في الطعام، وتتجنب السخريةَ منهم، أو غشَّهم في المعاملة، أو أكل أموالهم بالباطل، وغيرها، والخلاصة تفقَّه في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من كل جوانبها، فتعرف كيف تأدَّب مع ربه؟ وكيف تأدب مع الناس؟ وكيف تأدب مع أزواجه؟ وكيف تأدب مع الحيوان؟ وكيف تأدب مع البيئة؟ وكيف تأدب مع غير المسلمين؟ وصاحَبَ الأخيار، وتجنَّب رفقاء السوء؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله، فلينُظر أحدكم من يخالل))[5].

فاللهم حسِّن أخلاقنا، آمين.
(تتمة الدعاء).

[1] رواه مسلم، رقم: 1955.

[2] رواه البخاري برقم: 4687.

[3] رواه ابن ماجه برقم: 4032.

[4] رواه البخاري في الأدب المفرد برقم: 891.

[5] رواه أحمد في المسند برقم: 8417.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 26-12-2024, 08:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,349
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سلسلة شرح الأربعين النووية

عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت



سلسلة شرح الأربعين النووية

الحديث 18: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»


عناصر الخطبة:
رواية الحديث.

المعنى الإجمالي للحديث.

المستفادات من الحديث والربط بالواقع.

الخطبةالأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أعاذني الله وإياكم من النار.

عن أبي يعلى شداد بن أوس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتُم فأحسِنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليُحِدَّ أحدكم شفرته، فليُرِحْ ذبيحته»[1].

عباد الله، هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، قال الإمام النووي رحمه الله: "وهذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام"[2]؛ لإشارة النبي صلى الله عليه وسلم لعموم الإحسان وشموليته.


فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟


نستفيد من الحديث لواقعنا ما يلي:
1-الإحسان إلى ما يُذبح أو يُقتل: قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح»، والمعنى: أحسنوا هيئة القتل والذبح لما يجوز قتله أو ذبحه من الدوابِّ، ومن تأمل في آداب الذبح في الإسلام فكلها إحسان، ومن ذلك:
1- الذبح بآلة حادة إحسان؛ قال صلى الله عليه وسلم: «وليُحِدَّ أحدكم شفرته، فليُرِح ذبيحته»، أساليب الذبح عند مَن يدَّعي الرفق بالحيوان بشعة، لا تقرها شريعة ولا خلق ولا دين؛ كالصعق بالكهرباء، والضرب حتى يفقد الحيوان وعيه، والذبح من القفا في اتجاه الحلق، وغيرها -والحمد لله في بلادنا لا يوجد هذا- وعلى جاليتنا في الغرب الحرص على الذبح وفق الشريعة الإسلامية. والحكمة من شحذ السكين –كما في الحديث- هو إراحة الذبيحة بسرعة الإمرار عليها، فتموت سريعًا، وهذا هو جانب الرحمة بالحيوان في شريعة الإسلام.

2- إحداد السكين بعيدًا عن أعين البهيمة إحسان؛ في الحديث الصحيح أن رجلًا أضجع شاةً وهو يحد شفرته، فقال له النبيصلى الله عليه وسلم: «أتريد أن تميتها موتات؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟»[3].

3- سوق الذبيحة إلى مذبحها برفق إحسان؛ وتجنب جرها بالعنف، أو الضرب. وللعلم فإن الحديث يؤكد أن توتُّر الحيوان قبل ذبحه يؤدي إلى انخفاض ضغط دمه بدرجة ملحوظة، ومن ثمَّ بقاء الدم في عروقها مما يؤثر على جودة اللحم.

4- عرض الماء عليها قبل الذبح إحسان؛ فلعلها أن تكون عطشانةً فتشرب، وذكروا علةً في ذلك فقالوا: عندما تكون شاربةً للماء تنتفخ قليلًا، وهذا يساعد على سهولة سلخ الجلد.

5- عدم قطع شيء منها حتى تبرد وتزهق روحها إحسان؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما -وإن ضعَّفه أهل العلم- لكن معناه يوافق مقصود الشارع، ويوافق الحديث الصحيح السابق في الإحسان، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذبيحة أن تُفْرَس قبل أن تموت"[4]، وقد صرح المالكية بكراهية ذلك، فأين هؤلاء ممن يفترسون الحيوانات قبل موتها بأظفارهم؟ وأين من يتسلون بالعجول ويغرسون فيها الآلات الحادة، أمام مرأى الناس، ويسمون ذلك رياضةً؟ فاللهم إنا نبرأ إليك من هذه الرياضة التي تُعَذِّب الحيوان.

6- إضجاعها على شقها الأيمن عند الذبح إحسان؛ والحكمة من ذلك تسهيل الأمر على الذابح في أخذ السكين باليمين، وإمساك رأسها باليسار، وسرعة الإجهاز عليها.

7- توجيه الذبيحة (أي مكان الذبح) لجهة القبلة إحسان؛ والحكمة من ذلك أنها جهة الرغبة إلى طاعة الله عز شأنه، كما نفعل في الصلاة.

8- التسمية قبل الذبح إحسان؛ قال تعالى:﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام: 118]، وقال:﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121].


فاللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن لآثارهم اقتفى. أما بعد:
عباد الله، من المستفادات كذلك:
2- عموم الإحسان في كل شيء؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء». الإحسان قد يأتي بمعنيين:
إيصال النفع للآخرين؛ فمن الإحسان الذي كتبه الله: الإحسان للوالدين، قال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]، والإحسان للأقارب والجيران بمختلف أنواعهم، قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾ [النساء: 36]، والإحسان في القول للناس، قال تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]، والإحسان لليتيم والسائل، قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾ [الضحى: 9، 10]، وغيرها من أنواع الإحسان والنفع للناس.


ويأتي بمعنى الإتقان؛ فمن الإحسان إتقان الوضوء: قال صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره»[5]، وإتقان الصلاة إحسان كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسيءصلاته بالإعادة، وتجويد القرآن إحسان قال صلى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم»[6]، وإتقان العمل والمهنة إحسان، قالصلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه»[7]. وهكذا في كل أمور الحياة.


فاللهم اجعلنا ممن يحسنون في أعمالهم كلها، آمين. (تتمة الدعاء).

[1] رواه مسلم، رقم: 1955.

[2] شرح النووي على مسلم: 13/ 107.

[3] رواه الحاكم في المستدرك برقم: 7563، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه".

[4] السلسلة الضعيفة: 4717.

[5] رواه مسلم: 245.

[6] رواه البخاري: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع الكرام البررة».

[7] رواه البيهقي في شعب الإيمان: 4929.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 12-01-2025, 08:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,349
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سلسلة شرح الأربعين النووية

عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت




سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ

الحديث 19: ((احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ...))




عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.

الخطبةالأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عن أبي العباس عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قال: كنتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: ((يا غلامُ، إني أعلمك كلماتٍ، احفَظِ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمَّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَتِ الأقلام، وجفَّت الصحف))[1]، وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرَّف إليه في الرخاء، يعْرِفْك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليُصيبك، وما أصابك لم يكن ليُخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفَرَجَ مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا))[2].

عباد الله، هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن رجب رحمه الله: "هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمةً، وقواعدَ كليةً من أهم أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبَّرت هذا الحديث، فأدهشني وكِدتُ أطِيشُ، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهُّم لمعناه"[3].

فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟

نستفيد من الحديث لواقعنا ما يأتي:
1- من حفِظ الله يحفظه الله: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((احفَظِ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك))، وقوله: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرَّف إليه في الرخاء، يَعْرِفْك في الشدة))؛ أي: مَن حفِظ أوامره بفعلها، ونواهيَه باجتنابها، وحدودَه بعدم التعدي عليها، وحقوقه بالقيام بها؛ حفِظَه الله؛ كقوله تعالى: ﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 32، 33]، وقوله في المحافظة على الصلاة: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [المعارج: 34]، وقوله في حفظ الفُرُوج: ﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ﴾ [الأحزاب: 35]، والشواهد كثيرة معلومة، فهذا شرط وجوابه؛ حفِظه الله في دينه ودنياه، وحفِظه في نفسه وأولاده وماله، وغيرها من أنواع الحفظ؛ فالجزاء من جنس العمل.

كقوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ [البقرة: 40]، والوفاء بعهد الله هو الإيمان به، والعمل بشرائعه، ووفاء الله بعهده هو تحقيق الوعد بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.

وقوله في الذكر: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرتُه في ملأ خيرٍ منهم، وإن تقرَّب إليَّ بشبرٍ، تقرَّبت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا، تقرَّبت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي، أتيتُه هرولةً))[4].

وقوله في سنن النصر على الأعداء: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، ونصر الله يكون بنصر نبيِّه ودينه، وقتال الكفار، ونصره للمؤمنين بالغلبة على الكفار، وتثبيت أقدامهم في الحرب؛ ولذلك قال في رواية الترمذي: ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفَرَج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)).

2- الدعاء والاستعانة لا تكون إلا بالله: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله))؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]، وقال تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، فمن سأل قضاء الحوائج من المقبورين، أو سأل الناس ما لا يقدر عليه إلا اللهُ؛ كالشفاء والرزق، فهو في ضلال مبين؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ﴾ [الأحقاف: 5].

فاللهم احفظنا بحفظك، واسترنا بسترك، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن لآثارهم اقتفى؛ أما بعد عباد الله:
فمن المستفادات كذلك:
3- الإيمان بالقضاء والقدر: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((واعلم أن الأُمَّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام، وجفَّت الصحف))، وقوله: ((واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليُصيبك، وما أصابك لم يكن ليُخطئك))، فأقدار الخير والشر كُتبت قبل خلق السماوات والأرض؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنةٍ، قال: وعرشه على الماء))[5].

فلماذا النياحة عند موت قريب، أو لطم الخدود، أو شق الثوب، أو التمرغ في التراب؟ فهذا كله وأمثاله عند وقوع قدر الموت يدل على عدم الرضا بالأقدار المؤلمة؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني؛ فإنك لم تُصَب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوَّابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى))[6] ، وعلى هذا القياس في كل ما يصيب الإنسان من شرٍّ، عليه الصبر، وما يصيبه من خير، عليه الشكر؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].

فاللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين الراضين بقضائك، آمين.
(تتمة الدعاء).

[1] رواه الترمذي، رقم: 2516، وقال: حديث حسن صحيح.

[2] انظر: مسند أحمد، رقم: 2803.

[3] جامع العلوم والحكم: 1/ 462.

[4] رواه البخاري، برقم: 7405.

[5] رواه مسلم، برقم: 2653.

[6] رواه البخاري، برقم: 1283.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 26-01-2025, 03:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,349
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سلسلة شرح الأربعين النووية

عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت




سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ

الحديث 20: ((إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ...))


عناصر الخطبة:
رواية الحديث.

المعنى الإجمالي للحديث.

المستفادات من الحديث والربط بالواقع.

الخطبةالأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أعاذني الله وإياكم من النار.

عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تَسْتَحِ فاصنع ما شئت))[1].

عباد الله: هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يدعو إلى خُلُق الحياء، الذي هو خلق الأنبياء، وهو خلق عظيم يبعث على ترك القبيح، والتحلي بالفضائل، وعدم التقصير في أداء الحقوق، والأمر هنا ليس للوجوب بمعنى: اصنع ما تريد من الشرور والآثام إذا لم تستحِ، ولكنه خرج مخرج التهديد والوعيد، بمعنى: إذا لم يكن عندك حياء، فاعمل ما شئت؛ فإنك معاقَب على صنيعك؛ كقوله تعالى: ﴿ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [فصلت: 40]، فليس المعنى: اعمل ما شئت، ولكن تهديد ووعيد.

وقد يقصد بالأمر هنا الإباحة؛ أي: إذا أردت فِعْلَ أمرٍ ولم تستحِ في فعله من الله ولا رسوله، ولا الناس، لجوازه؛ فافْعَلْه.

فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟

نستفيد من الحديث لواقعنا ما يلي:
1- إرث الأنبياء قبلنا يُستفاد منه: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى...))، فاستدل النبي صلى الله عليه وسلم بما كانت عليه النبوة الأولى من أمر الحياء، فبقِيَ إلى قيام الساعة، ويعبِّر عنه العلماء بشرع مَن قبلنا، وينبغي أن يُعلَم أن ما ثبت في شريعة من الشرائع، فهو من شريعة الإسلام في أمور ثلاثة:
في العقائد: قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، فالدعوة إلى عبادة الله دعوةُ كلِّ الرسل، وهكذا في باقي المعتقدات.

في الأخلاق: قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما بُعِثْتُ لأُتمِّمَ صالح الأخلاق))[2]، فالأخلاق الصالحة كالصدق والأمانة والحياء أمَرَ بها الأنبياء، وضدها الكذب والخيانة نهى عنها الأنبياء.

في الأخبار: كالإخبار عن الدَّجَّال؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما بُعِث نبيٌّ إلا أنذر أُمَّتَه الأعورَ الكذَّاب، ألَا إنه أعور، وإن ربَّكم ليس بأعورَ، وإن بين عينيه مكتوب كافر))[3]، أو إخبار الرسل بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم قبله، فعدمُ التصديق تكذيبٌ للأنبياء.

2- الحياء كله خير ومن الإيمان: قال صلى الله عليه وسلم: ((الحياء لا يأتي إلا بخير))[4]، وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: ((مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على رجلٍ، وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنك لَتستحيي، حتى كأنه يقول: قد أضرَّ بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعْهُ؛ فإن الحياء من الإيمان))[5]، فمدح النبي صلى الله عليه وسلم خُلُقَ الحياء، الذي يجب أن يتحلَّى به الرجال والنساء على السواء؛ لأنه يمنع المرء من الوقوع في الآثام، وفي الحديث أن: ((الحياء شعبة من الإيمان))[6] ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أشدَّ حياءً من العذراء في خِدرْها))[7] ، وكان موسى عليه السلام ((رجلًا حَيِيًّا ستِّيرًا، لا يُرى من جِلْدِهِ شيءٌ استحياءً منه، فآذاه مَن آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستُّر، إلا من عَيبٍ بجلده))[8].

وقد يظن بعض الناس أن الحياء منافٍ للرجولة، وأنه من طِباع النساء، وهذا فهم خاطئ؛ لأن من استحيا من الناس أن يرَوه يأتي الفجور، ويرتكب المحارم؛ عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((لَأعلَمَنَّ أقوامًا من أُمَّتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثالِ جبال تِهامة بيضًا، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثورًا، قال ثوبان: يا رسول الله، صِفْهم لنا، جلِّهم لنا؛ ألَّا نكون منهم، ونحن لا نعلم، قال: أمَا إنهم إخوانكم، ومن جِلدتِكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خَلَوا بمحارم الله انتهكوها))[9].

والمجتمع الذي ينتشر فيه الحياء تقِلُّ فيه الشرور والمعاصي؛ قال مجاهد: "إن المسلم لو لم يُصِب من أخيه إلا أن حياءه منه يمنعه من المعاصي، لكفاه"[10].

فاللهم ارزقنا خُلُقَ الحياء والستر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن لآثارهم اقتفى؛ أما بعد عباد الله:
فسؤال أخير:
3- هل استحيينا من الله حقَّ الحياء؟
هذا الذي يسمع المؤذن ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فيُسارع لاستجابة المنادي، فاز بالخير، والمتخلِّف إذا لم تكن امرأةً أو صاحبَ عذرٍ مقبول، فلا حياء له، فليسارع إلى التوبة ولزوم الجماعة، أو الشروع في الصلاة، إن كان من التاركين لها.

وهذه التي تخرج مُتبرِّجة، أو تذهب إلى الشواطئ والمسابح المختلطة بلِباس السباحة – زعموا - فيطلع الناسُ على عورتها - امرأةٌ منزوعةُ الحياء.

والذي - أو التي - يُمسك الهاتف، أو أمام شاشة التلفاز، وينظر إلى ما حرم الله من النظر إليه، بعيدٌ عن الحياء، كبُعدِ السماء عن الأرض؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ [النور: 30، 31]؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من قلَّ حياؤه قلَّ وَرَعُه، ومن قل ورعه مات قلبه"[11].

والخلاصة: أن من قصَّر في حقٍّ من الحقوق، سواء كان حقًّا لله، أو حقًّا للعباد، أو حقًّا للحيوان، أو حقًّا للبيئة، أو غيرها من الحقوق، فقد أضاع حق الحياء، ويجب علينا أن نستحي من الله حق الحياء؛ عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استَحْيُوا من الله حقَّ الحياء، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حقَّ الحياء أن تحفظَ الرأس وما وعى، والبطنَ وما حوى، ولْتذْكُرِ الموت والبِلى، ومن أراد الآخرة تَرَكَ زينة الدنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله حق الحياء))[12].
فاللهم اجعلنا ممن يستحي منك حق الحياء، آمين.
(تتمة الدعاء).

[1] رواه البخاري، رقم: 6120.

[2] رواه البخاري، رقم: 7405.

[3] رواه البخاري، رقم: 7405.

[4] رواه البخاري، رقم: 6117.

[5] رواه البخاري، رقم: 6118.

[6] رواية البخاري، رقم: 9، قال: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ)).

[7] رواه البخاري، رقم: 3562.

[8] رواه البخاري، رقم: 3404.

[9] رواه ابن ماجه، رقم: 4245.

[10] حلية الأولياء: 3/ 280.

[11] مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا: 20.

[12] رواه الترمذي، رقم: 6117.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 189.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 183.66 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (3.09%)]