تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى - الصفحة 25 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وصف جنات النعيم وأهلها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          القليل الذي يصنع الكثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          {حتى يغيروا ما بأنفسهم} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الهدوء لغة الأرواح الجميلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          غض البصر: العبادة المهجورة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          عند الغضب يرحل الأدب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          فوائد من طلب العلم وتعليمه والدعوة إليه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          العناية بالشَّعر في السنة النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          البشرة الجافة والتشققات الجلدية في السنة النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          تخليل الأصابع حماية من الفطريات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #241  
قديم 09-02-2023, 04:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,356
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 211 الى صــ 218
الحلقة (241)

يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا

قوله تعالى : ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا قال ابن إسحاق : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم : يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق قالوا : ما نعرف ذلك يا محمد . وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر ؛ فأنزل الله عز وجل فيهم يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها إلى آخر الآية .

قوله تعالى : مصدقا لما معكم نصب على الحال . من قبل أن نطمس وجوها الطمس استئصال أثر الشيء ؛ ومنه قوله تعالى : فإذا النجوم طمست . ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان . ويقال في الكلام : طسم يطسم ويطسم بمعنى طمس ؛ يقال : طمس الأثر وطسم أي امحى ، كله لغات ؛ ومنه قوله تعالى : ربنا اطمس على أموالهم أي أهلكها ؛ عن ابن عرفة . ويقال : طمسته فطمس لازم ومتعد . وطمس الله [ ص: 211 ] بصره ، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين ؛ ومنه قوله تعالى : ولو نشاء لطمسنا على أعينهم يقول أعميناهم .

واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية ؛ هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين . أو ذلك عبارة عن الضلال في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ قولان . روي عن أبي بن كعب أنه قال : من قبل أن نطمس من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده . يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة . وقال قتادة : معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء . أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب ؛ هذا معناه عند أهل اللغة . وروي عن ابن عباس وعطية العوفي : أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا ؛ فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى . وقال مالك رحمه الله : كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال : والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي . وكذلك فعل عبد الله بن سلام ، لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال : يا رسول الله ، ما كنت أدرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي . فإن قيل : كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم ؛ فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين . وقال المبرد : الوعيد باق منتظر . وقال : لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة .

قوله تعالى : ( أو نلعنهم ) أي أصحاب الوجوه كما لعنا أصحاب السبت أي نمسخهم قردة وخنازير ؛ عن الحسن وقتادة . وقيل : هو خروج من الخطاب إلى الغيبة وكان أمر الله مفعولا أي كائنا موجودا . ويراد بالأمر المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول ؛ فالمعنى أنه متى أراده أوجده . وقيل : معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به .

قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا : إن الله يغفر الذنوب جميعا فقال له رجل : يا رسول الله والشرك ! فنزل إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة . ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه . فقال [ ص: 212 ] محمد بن جرير الطبري : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه ، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى . وقال بعضهم : قد بين الله تعالى ذلك بقوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم فاعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر . وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر " الفرقان " . قال زيد بن ثابت : نزلت سورة " النساء " بعد " الفرقان " بستة أشهر ، والصحيح أن لا نسخ ؛ لأن النسخ في الأخبار يستحيل . وسيأتي بيان الجمع بين الآي في هذه السورة وفي " الفرقان " إن شاء الله تعالى . وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قال : هذا حديث حسن غريب .

قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود . واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم ؛ فقال قتادة والحسن : ذلك قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقولهم : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقال الضحاك والسدي : قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا ، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب . وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة : تقديمهم الصغار للصلاة ؛ لأنهم لا ذنوب عليهم . وهذا يبعد من مقصد الآية . وقال ابن عباس : ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا . وقال عبد الله بن مسعود : ذلك ثناء بعضهم على بعض . وهذا أحسن ما قيل ؛ فإنه الظاهر من معنى الآية ، والتزكية : التطهير والتبرية من الذنوب .

الثانية : هذه الآية وقوله تعالى : فلا تزكوا أنفسكم يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه ، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه ، وإنما العبرة بتزكية الله له . وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي برة ؛ فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم ، وسميت برة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم فقالوا : بم نسميها ؟ فقال : سموها زينب . فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية [ ص: 213 ] الإنسان نفسه ، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية ؛ كزكي الدين ومحيي الدين وما أشبه ذلك ، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا .

الثالثة : فأما تزكية الغير ومدحه له ؛ ففي البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر ، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ويحك قطعت عنق صاحبك . وفي الحديث الآخر قطعتم ظهر الرجل حين وصفوه بما ليس فيه . وعلى هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : احثوا التراب في وجوه المداحين إن المراد به المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم ، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه ؛ فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح ، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه . وهذا راجع إلى النيات والله يعلم المفسد من المصلح . وقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب ، ولا أمر بذلك . كقول أبي طالب :


وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وكمدح العباس وحسان له في شعرهما ، ومدحه كعب بن زهير ، ومدح هو أيضا أصحابه فقال : ( إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع ) . وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا : عبد الله ورسوله فمعناه لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي ، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه ، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا . وهذا يقتضي أن من رفع امرأ فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم ؛ لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 214 ] ولا يظلمون فتيلا الضمير في " يظلمون " عائد على المذكورين ممن زكى نفسه وممن يزكيه الله عز وجل . وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية . والفتيل الخيط الذي في شق نواة التمرة ؛ قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد . وقيل : القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة . وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك والسدي : هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما ؛ فهو فعيل بمعنى مفعول . وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشيء وتصغيره ، وأن الله لا يظلمه شيئا . ومثل هذا في التحقير قوله تعالى : ولا يظلمون نقيرا وهو النكتة التي في ظهر النواة ، ومنه تنبت النخلة ، وسيأتي . قال الشاعر يذم بعض الملوك :


تجمع الجيش ذا الألوف وتغزو ثم لا ترزأ العدو فتيلا
انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال : انظر كيف يفترون على الله الكذب في قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه . وقيل : تزكيتهم لأنفسهم ؛ عن ابن جريج . وروي أنهم قالوا : ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد . والافتراء الاختلاق ؛ ومنه افترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه . وفريت الشيء قطعته . وكفى به إثما مبينا نصب على البيان . والمعنى تعظيم الذنب وذمه . العرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم .

قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يعني اليهود . يؤمنون بالجبت والطاغوت اختلف أهل التأويل في تأويل الجبت والطاغوت ؛ فقال ابن عباس وابن جبير [ ص: 215 ] وأبو العالية : الجبت الساحر بلسان الحبشة ، والطاغوت الكاهن . وقال الفاروق عمر رضي الله عنه : الجبت السحر والطاغوت الشيطان . ابن مسعود : الجبت والطاغوت هاهنا كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب . عكرمة : الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف ؛ دليله قوله تعالى : يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت . قتادة : الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن . وروى ابن وهب عن مالك بن أنس : الطاغوت ما عبد من دون الله . قال : وسمعت من يقول إن الجبت الشيطان ؛ ذكره النحاس . وقيل : هما كل معبود من دون الله ، أو مطاع في معصية الله ؛ وهذا حسن . وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه ، فأبدلت التاء من السين ؛ قاله قطرب . وقيل : الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه . وقول مالك في هذا الباب حسن ؛ يدل عليه قوله تعالى : أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها . وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطرق والطيرة والعيافة من الجبت . الطرق الزجر ، والعيافة الخط ؛ خرجه أبو داود في سننه . وقيل : الجبت كل ما حرم الله ، الطاغوت كل ما يطغي الإنسان . والله أعلم .

قوله تعالى : ويقولون للذين كفروا أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد . وذلك أن كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش فتعاقدوا وتعاهدوا ليجتمعن على قتال محمد ؛ فقال أبو سفيان : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أميون لا نعلم ، فأينا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق . نحن أم محمد ؟ فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد .

قوله تعالى : أم لهم نصيب من الملك أي ألهم ؟ والميم صلة . نصيب حظ من الملك وهذا على وجه الإنكار ؛ يعني ليس لهم من الملك شيء ، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا لبخلهم وحسدهم . وقيل : المعنى بل ألهم نصيب ؛ فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني . وقيل : هي عاطفة على محذوف ؛ لأنهم أنفوا من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم . والتقدير : أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك ؟ . فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أي يمنعون الحقوق . خبر الله عز وجل عنهم بما يعلمه منهم . والنقير : النكتة في ظهر النواة ، عن ابن عباس وقتادة وغيرهما . وعن ابن عباس أيضا : النقير : [ ص: 216 ] ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض . وقال أبو العالية : سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال : هذا النقير . والنقير : أصل خشبة ينقر وينبذ فيه ؛ وفيه جاء النهي ثم نسخ . وفلان كريم النقير أي الأصل . و " إذا " هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها ، ولو نصب لجاز . قال سيبويه : " إذا " في عوامل الأفعال بمنزلة " أظن " في عوامل الأسماء ، أي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها ، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت ؛ كقولك : أنا أزورك فيقول مجيبا لك : إذا أكرمك . قال عبد الله بن عنمة الضبي :


اردد حمارك لا يرتع بروضتنا إذا يرد وقيد العير مكروب
نصب لأن الذي قبل " إذن " تام فوقعت ابتداء كلام . فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك . زيد إذا يزورك ألغيت ؛ فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجوز فيها الإعمال والإلغاء ؛ أما الإعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة ، فيجوز في غير القرآن فإذا لا يؤتوا . وفي التنزيل وإذا لا يلبثون الإسراء : وفي مصحف أبي " وإذا لا يلبثوا " . وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو لا يكون إلا بعد كلام يعطف عليه ، والناصب للفعل عند سيبويه إذا لمضارعتها " أن " ، وعند الخليل أن مضمرة بعد إذا . وزعم الفراء أن إذا تكتب بالألف وأنها منونة . قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول : أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذا بالألف ؛ إنها مثل لن وإن ، ولا يدخل التنوين في الحروف .
قوله تعالى : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا

فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : أم يحسدون يعني اليهود . الناس يعني النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . حسدوه على النبوة وأصحابه على الإيمان به . وقال قتادة قلت : [ ص: 117 ] " الناس " : العرب ، حسدتهم اليهود على النبوة . الضحاك : حسدت اليهود قريشا ؛ لأن النبوة فيهم . والحسد مذموم وصاحبه مغموم وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ؛ رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن : ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد ؛ نفس دائم ، وحزن لازم ، وعبرة لا تنفد . وقال عبد الله بن مسعود : لا تعادوا نعم الله . قيل له : ومن يعادي نعم الله ؟ قال : الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، يقول الله تعالى في بعض الكتب : الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي . ولمنصور الفقيه :


ألا قل لمن ظل لي حاسدا أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في حكمه
إذا أنت لم ترض لي ما وهب
ويقال : الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء ، وأول ذنب عصي به في الأرض ؛ فأما في السماء فحسد إبليس لآدم ، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل . ولأبي العتاهية في الناس :


فيا رب إن الناس لا ينصفونني فكيف ولو أنصفتهم ظلموني
وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه وإن شئت أبغي شيئهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم وإن أنا لم أبذل لهم شتموني
وإن طرقتني نكبة فكهوا بها وإن صحبتني نعمة حسدوني
سأمنع قلبي أن يحن إليهمو وأحجب عنهم ناظري وجفوني
وقيل : إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك . ولرجل من قريش :


حسدوا النعمة لما ظهرت فرموها بأباطيل الكلم
وإذا ما الله أسدى نعمة لم يضرها قول أعداء النعم
ولقد أحسن من قال :


اصبر على حسد الحسو د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى : ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين . إنه إنما أراد بالذي من الجن إبليس والذي [ ص: 218 ] من الإنس قابيل ؛ وذلك أن إبليس كان أول من سن الكفر ، وقابيل كان أول من سن القتل ، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد . وقال الشاعر :


إن الغراب وكان يمشي مشية فيما مضى من سالف الأحوال
حسد القطاة فرام يمشي مشيها فأصابه ضرب من التعقال


الثانية : قوله تعالى : فقد آتينا ثم أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما . قال همام بن الحارث : أيدوا بالملائكة . وقيل : يعني ملك سليمان ؛ عن ابن عباس . وعنه أيضا : المعنى أم يحسدون محمدا على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك . واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء . والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم : لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك ؛ فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان يوبخهم ، فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألف امرأة ؟ قالوا : نعم ثلاثمائة مهرية ، وسبعمائة سرية ، وعند داود مائة امرأة . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألف عند رجل ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة ؟ فسكتوا . وكان له يومئذ تسع نسوة .

الثالثة : يقال : إن سليمان عليه السلام كان أكثر الأنبياء نساء . والفائدة في كثرة تزوجه أنه كان له قوة أربعين نبيا ، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا . ويقال : إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة ؛ لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من جهة الأب وقبيلة من جهة الأم ؛ فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عونا له على أعدائه . ويقال : إن كل من كان أتقى فشهوته أشد ؛ لأن الذي لا يكون تقيا فإنما يتفرج بالنظر والمس ، ألا ترى ما روي في الخبر : ( العينان تزنيان واليدان تزنيان ) . فإذا كان في النظر والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع ، والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا . وقال أبو بكر الوراق : كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب ؛ ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #242  
قديم 09-02-2023, 04:35 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,356
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 219 الى صــ 226
الحلقة (242)



الرابعة : قوله تعالى : فمنهم من آمن به يعني بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه تقدم ذكره وهو [ ص: 219 ] المحسود . ومنهم من صد عنه أعرض فلم يؤمن به . وقيل : الضمير في به راجع إلى إبراهيم . والمعنى : فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من صد عنه . وقيل : يرجع إلى الكتاب . والله أعلم .
قوله تعالى : إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا

قد تقدم معنى الإصلاء أول السورة . وقرأ حميد بن قيس " نصليهم " بفتح النون أي نشويهم . يقال : شاة مصلية . ونصب ( نارا ) على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار .

كلما نضجت جلودهم يقال : نضج الشيء نضجا ونضجا ، وفلان نضيج الرأي محكمه . والمعنى في الآية : تبدل الجلود جلودا أخر . فإن قال من يطعن في القرآن من الزنادقة : كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه ؟ قيل له : ليس الجلد بمعذب ولا معاقب ، وإنما الألم واقع على النفوس ؛ لأنها هي التي تحس وتعرف فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس . يدل عليه قوله تعالى : ليذوقوا العذاب وقوله تعالى : كلما خبت زدناهم سعيرا . فالمقصود تعذيب الأبدان وإيلام الأرواح . ولو أراد الجلود لقال : ليذقن العذاب . مقاتل : تأكله النار كل يوم سبع مرات . الحسن : سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم : عودوا فعادوا كما كانوا . ابن عمر : إذا احترقوا بدلت لهم جلود بيض كالقراطيس . وقيل : عنى بالجلود السرابيل ؛ كما قال تعالى : وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران سميت جلودا للزومها جلودهم على المجاورة ؛ كما يقال للشيء الخاص بالإنسان : هو جلدة ما بين عينيه . وأنشد ابن عمر رضي الله عنه :


يلومونني في سالم وألومهم وجلدة بين العين والأنف سالم
فكلما احترقت السرابيل أعيدت . قال الشاعر :

كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها فويل لتيم من سرابيلها الخضر
[ ص: 220 ] فكنى عن الجلود بالسرابيل . وقيل : المعنى أعدنا الجلد الأول جديدا ؛ كما تقول للصائغ : صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره ؛ فيكسره ويصوغ لك منه خاتما . فالخاتم المصوغ هو الأول إلا أن الصياغة تغيرت والفضة واحدة . وهذا كالنفس إذا صارت ترابا وصارت لا شيء ثم أحياها الله تعالى . وكعهدك بأخ لك صحيح ثم تراه بعد ذلك سقيما مدنفا فتقول له : كيف أنت ؟ فيقول : أنا غير الذي عهدت . فهو هو ، ولكن حاله تغيرت . فقول القائل : أنا غير الذي عهدت ، وقوله تعالى : ( غيرها ) مجاز . ونظيره قوله تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض وهي تلك الأرض بعينها إلا أنها تغير آكامها وجبالها وأنهارها وأشجارها ، ويزاد في سعتها ويسوى ذلك منها ؛ على ما يأتي بيانه في سورة " إبراهيم " عليه السلام . ومن هذا المعنى قول الشاعر :

فما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت أعرف وقال الشعبي : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : ألا ترى ما صنعت عائشة . ذمت دهرها ، وأنشدت بيتي لبيد :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتلذذون مجانة ومذلة ويعاب قائلهم وإن لم يشغب فقالت : رحم الله لبيدا فكيف لو أدرك زماننا هذا ! فقال ابن عباس : لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت " عاد " دهرها ؛ لأنه وجد في خزانة " عاد " بعدما هلكوا بزمن طويل سهم كأطول ما يكون من رماح ذلك الزمن عليه مكتوب : بلاد بها كنا ونحن بأهلها إذ الناس ناس والبلاد بلاد البلاد باقية كما هي إلا أن أحوالها وأحوال أهلها تنكرت وتغيرت . إن الله كان عزيزا أي لا يعجزه شيء ولا يفوته . حكيما في إيعاده عباده . وقوله في صفة أهل الجنة وندخلهم ظلا ظليلا يعني كثيفا لا شمس فيه . الحسن : وصف بأنه ظليل ؛ لأنه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك . وقال الضحاك : يعني ظلال الأشجار وظلال قصورها الكلبي : ظلا ظليلا يعني دائما .
[ ص: 221 ] قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع . وقد اختلف من المخاطب بها ؛ فقال علي بن أبي طالب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب وابن زيد : هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة ، فهي للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه ، ثم تتناول من بعدهم . وقال ابن جريج وغيره : ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن أبي طلحة الحجبي العبدري من بني عبد الدار ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وكانا كافرين وقت فتح مكة ، فطلبه العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية ؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان ، وأخرج مقام إبراهيم ونزل عليه جبريل بهذه الآية . قال عمر بن الخطاب : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية ، وما كنت سمعتها قبل منه ، فدعا عثمان وشيبة فقال : خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم . وحكى مكي : أن شيبة أراد ألا يدفع المفتاح ، ثم دفعه ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : خذه بأمانة الله . وقال ابن عباس : الآية في الولاة خاصة في أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ويردوهن إلى الأزواج . والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات . وهذا اختيار الطبري . وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك ، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه ؛ والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى . وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها أو قال : ( كل شيء إلا الأمانة - والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع ) . ذكره أبو نعيم الحافظ في الحلية . وممن قال إن الآية عامة في الجميع البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب قالوا : الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع ، وقال ابن عباس : لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة .

قلت : وهذا إجماع . وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار ؛ قاله ابن المنذر . والأمانة مصدر بمعنى المفعول فلذلك جمع . ووجه النظم بما تقدم [ ص: 222 ] أنه تعالى أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقولهم : إن المشركين أهدى سبيلا ، فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات ؛ فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا . وأمهاتها في الأحكام : الوديعة واللقطة والرهن والعارية . وروى أبي بن كعب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك . أخرجه الدارقطني . ورواه أنس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في " البقرة " معناه . وروى أبو أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع : العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم . صحيح أخرجه الترمذي وغيره . وزاد الدارقطني : فقال رجل : فعهد الله ؟ قال : ( عهد الله أحق ما أدي ) . وقال بمقتضى هذه الآية والحديث في رد الوديعة وأنها مضمونة على كل حال كانت مما يغاب عليها أو لا يغاب تعدى فيها أو لم يتعد - عطاء والشافعي وأحمد وأشهب . وروي أن ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما ضمنا الوديعة . وروى ابن القاسم عن مالك أن من استعار حيوانا أو غيره مما لا يغاب عليه فتلف عنده فهو مصدق في تلفه ولا يضمنه إلا بالتعدي . وهذا قول الحسن البصري والنخعي ، وهو قول الكوفيين والأوزاعي قالوا : ومعنى قوله عليه السلام : العارية مؤداة هو كمعنى قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها . فإذا تلفت الأمانة لم يلزم المؤتمن غرمها لأنه مصدق فكذلك العارية إذا تلفت من غير تعد ؛ لأنه لم يأخذها على الضمان ، فإذا تلفت بتعديه عليها لزمه قيمتها لجنايته عليها . وروي عن علي وعمر وابن مسعود أنه لا ضمان في العارية . وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا ضمان على مؤتمن . واحتج الشافعي فيما استدل به بقول صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم لما استعار منه الأدراع : أعارية مضمونة أو عارية مؤداة ؟ فقال : ( بل عارية مؤداة ) .

الثانية : قوله تعالى : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل قال الضحاك : بالبينة على المدعي واليمين على من أنكر . وهذا خطاب للولاة والأمراء والحكام ، ويدخل في ذلك بالمعنى جميع الخلق كما ذكرنا في أداء الأمانات . قال صلى الله عليه وسلم : إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما [ ص: 223 ] ولوا . وقال : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عنه والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته . فجعل في هذه الأحاديث الصحيحة كل هؤلاء رعاة : وحكاما على مراتبهم ، وكذلك العالم الحاكم ؛ لأنه إذا أفتى حكم وقضى وفصل بين الحلال والحرام ، والفرض والندب ، والصحة والفساد ، فجميع ذلك أمانة تؤدى وحكم يقضى . وقد تقدم في البقرة القول في ( نعما )

قوله تعالى : إن الله كان سميعا بصيرا وصف الله تعالى نفسه بأنه سميع بصير يسمع ويرى ؛ كما قال تعالى : إنني معكما أسمع وأرى فهذا طريق السمع . والعقل يدل على ذلك ؛ فإن انتفاء السمع والبصر يدل على نقيضيهما من العمى والصمم ، إذ المحل القابل للضدين لا يخلو من أحدهما ، وهو تعالى مقدس عن النقائص ويستحيل صدور الأفعال الكاملة من المتصف ، بالنقائص ؛ كخلق السمع والبصر ممن ليس له سمع ولا بصر . وأجمعت الأمة على تنزيهه تعالى عن النقائص وهو أيضا دليل سمعي يكتفى به مع نص القرآن في مناظرة من تجمعهم كلمة الإسلام . جل الرب تبارك وتعالى عما يتوهمه المتوهمون ويختلقه المفترون الكاذبون سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا فيه ثلاث مسائل :

الأولى : لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات وأن يحكموا بين الناس بالعدل ، تقدم في هذه الآية إلى الرعية فأمر بطاعته جل وعز أولا ، وهي [ ص: 224 ] امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه ، ثم بطاعة الأمراء ثالثا ؛ على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم . قال سهل بن عبد الله التستري : أطيعوا السلطان في سبعة : ضرب الدراهم والدنانير ، والمكاييل والأوزان ، والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد . قال سهل : وإذا نهى السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي ، فإن أفتى فهو عاص وإن كان أميرا جائرا . وقال ابن خويز منداد : وأما طاعة الطاعة أئمة المسلمين في غير معصية سلطان فتجب فيما كان له فيه طاعة ، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية ؛ ولذلك قلنا : إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم ، ويجب الغزو معهم متى غزوا ، والحكم من قبلهم ، وتولية الإمامة والحسبة ؛ وإقامة ذلك على وجه الشريعة . وإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم ، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يخافوا فيصلى معهم تقية وتعاد الصلاة .

قلت : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : حق على الإمام أن يحكم بالعدل ، ويؤدي الأمانة ؛ فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه ؛ لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل ، ثم أمر بطاعته . وقال جابر بن عبد الله ومجاهد : " أولو الأمر " أهل القرآن والعلم ؛ وهو اختيار مالك رحمه الله ، ونحوه قول الضحاك قال : يعني الفقهاء والعلماء في الدين . وحكي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة . وحكي عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة . وروى سفيان بن عيينة عن الحكم بن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد فقال : هن حرائر . فقلت بأي شيء ؟ قال بالقرآن . قلت : بأي شيء في القرآن ؟ قال : قال الله تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وكان عمر من أولي الأمر ؛ قال : عتقت ولو بسقط . وسيأتي هذا المعنى مبينا في سورة " الحشر " عند قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا . وقال ابن كيسان : هم أولو العقل والرأي الذين يدبرون أمر الناس .

قلت : وأصح هذه الأقوال الأول والثاني ؛ أما الأول فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم . وروى الصحيحان عن ابن عباس قال : نزل يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية . قال أبو عمر : وكان في عبد الله بن حذافة دعابة معروفة ؛ ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا ؛ فلما أوقدوها أمرهم [ ص: 225 ] بالتقحم فيها ، فقال لهم : ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي ؟ ! وقال : من أطاع أميري فقد أطاعني . فقالوا : ما آمنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار ! فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم وقال : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال الله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم . وهو حديث صحيح الإسناد مشهور . وروى محمد بن عمرو بن علقمة عن عمر بن الحكم بن ثوبان أن أبا سعيد الخدري قال : كان عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة . وذكر الزبير قال : حدثني عبد الجبار بن سعيد عن عبد الله بن وهب عن الليث بن سعد قال : بلغني أنه حل حزام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع . قال ابن وهب : فقلت لليث ليضحكه ؟ قال : نعم كانت فيه دعابة . قال ميمون بن مهران ومقاتل والكلبي : " أولوا الأمر " أصحاب السرايا . وأما القول الثاني فيدل على صحته قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول . فأمر تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة ؛ ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا ، وامتثال فتواهم لازما . قال سهل بن عبد الله رحمه الله : لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء ؛ فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم ، وإذا استخفوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم . وأما القول الثالث فخاص ، وأخص منه القول الرابع . وأما الخامس فيأباه ظاهر اللفظ وإن كان المعنى صحيحا ، فإن العقل لكل فضيلة أس ، ولكل أدب ينبوع ، وهو الذي جعله الله للدين أصلا وللدنيا عمادا ، فأوجب الله التكليف بكماله ، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه ؛ والعاقل أقرب إلى ربه تعالى من جميع المجتهدين بغير عقل وروى هذا المعنى عن ابن عباس . وزعم قوم أن المراد بأولي الأمر علي والأئمة المعصومون . ولو كان كذلك ما كان لقوله : فردوه إلى الله والرسول معنى ، بل كان يقول فردوه إلى الإمام وأولي الأمر ، فإن قوله عند هؤلاء هو المحكم على الكتاب والسنة . وهذا قول مهجور مخالف لما عليه الجمهور . وحقيقة الطاعة امتثال الأمر ، كما أن المعصية ضدها وهي مخالفة الأمر . والطاعة مأخوذة من أطاع إذا انقاد ، والمعصية مأخوذة من عصى إذا اشتد . و " أولو " واحدهم " ذو " على غير قياس كالنساء والإبل والخيل ، كل واحد اسم الجمع ولا واحد له من لفظه . وقد قيل في واحد الخيل : خائل وقد تقدم .

[ ص: 226 ] الثانية : قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء أي تجادلتم واختلفتم ؛ فكأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها . والنزع الجذب . والمنازعة مجاذبة الحجج ؛ ومنه الحديث وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن . وقال الأعشى :

نازعتهم قضب الريحان متكئا وقهوة مزة راووقها خضل الخضل النبات الناعم والخضيلة الروضة . في شيء أي من أمر دينكم . فردوه إلى الله والرسول أي ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته ، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ؛ هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة ، وهو الصحيح . ومن لم ير هذا اختل إيمانه ؛ لقوله تعالى : إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . وقيل : المعنى قولوا الله ورسوله أعلم ؛ فهذا هو الرد . وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . والقول الأول أصح ؛ لقول علي رضي الله عنه : ما عندنا إلا ما في كتاب الله وما في هذه الصحيفة ، أو فهم أعطيه رجل مسلم . ولو كان كما قال هذا القائل لبطل الاجتهاد الذي خص به هذه الأمة والاستنباط الذي أعطيها ، ولكن تضرب الأمثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب . قال أبو العالية : وذلك قوله تعالى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم . نعم ، ما كان مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه فذلك الذي يقال فيه : الله أعلم . وقد استنبط علي رضي الله عنه مدة أقل الحمل - وهو ستة أشهر - من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وقوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر ؛ ومثله كثير . وفي قوله تعالى : ( وإلى الرسول ) دليل على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما فيها . قال صلى الله عليه وسلم : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم أخرجه مسلم . وروى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #243  
قديم 09-02-2023, 04:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,356
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى






تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 227 الى صــ 234
الحلقة (243)


وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول : أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها [ ص: 227 ] لمثل القرآن أو أكثر . وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب بمعناه وقال : حديث حسن غريب . والقاطع قوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة الآية . وسيأتي .

الثالثة : قوله تعالى : ذلك خير أي ردكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير من التنازع . وأحسن تأويلا أي مرجعا ؛ من آل يئول إلى كذا أي صار . وقيل : من ألت الشيء إذا جمعته وأصلحته . فالتأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ لا إشكال فيه ؛ يقال : أول الله عليك أمرك أي جمعه . ويجوز أن يكون المعنى وأحسن من تأويلكم .
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا

روى يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال : كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة ، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة . ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم ؛ لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم ؛ فلما اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة ؛ فأنزل الله تعالى في ذلك : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك يعني المنافق . وما أنزل من قبلك يعني اليهودي . يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت إلى قوله : ويسلموا تسليما وقال الضحاك : دعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وهو الطاغوت ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال : كان بين رجل من المنافقين يقال له بشر وبين يهودي خصومة ؛ فقال اليهودي : انطلق بنا إلى محمد ، وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله الطاغوت أي ذو الطغيان فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما رأى ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي . فلما خرجا قال المنافق : لا أرضى ، انطلق بنا إلى أبي بكر ؛ فحكم لليهودي فلم يرض ذكره الزجاج وقال : انطلق بنا إلى عمر فأقبلا على عمر فقال اليهودي : إنا صرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى [ ص: 228 ] أبي بكر فلم يرض ؛ فقال عمر للمنافق : أكذلك هو ؟ قال : نعم . قال : رويدكما حتى أخرج إليكما . فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد ، وقال : هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله ؛ وهرب اليهودي ، ونزلت الآية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت الفاروق . ونزل جبريل وقال : إن عمر فرق بين الحق والباطل ؛ فسمي الفاروق . وفي ذلك نزلت الآيات كلها إلى قوله : ويسلموا تسليما وانتصب : ضلالا على المعنى ، أي فيضلون ضلالا ؛ ومثله قوله تعالى : والله أنبتكم من الأرض نباتا . وقد تقدم هذا المعنى مستوفى . " صدودا " اسم للمصدر عند الخليل ، والمصدر الصد . والكوفيون يقولون : هما مصدران .
قوله تعالى : فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا

أي فكيف يكون حالهم ، أو فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة أي من ترك الاستعانة بهم ، وما يلحقهم من الذل في قوله : فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا . وقيل : يريد قتل صاحبهم بما قدمت أيديهم وتم الكلام . ثم ابتدأ يخبر عن فعلهم ؛ وذلك أن عمر لما قتل صاحبهم جاء قومه يطلبون ديته ويحلفون ما نريد بطلب ديته إلا الإحسان وموافقة الحق . وقيل : المعنى ما أردنا بالعدول عنك في المحاكمة إلا التوفيق بين الخصوم ، والإحسان بالتقريب في الحكم . ابن كيسان : عدلا وحقا ؛ نظيرها وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى . فقال الله تعالى مكذبا لهم أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم قال الزجاج : معناه قد علم الله أنهم منافقون . والفائدة لنا : اعلموا أنهم منافقون . فأعرض عنهم قيل : عن عقابهم . وقيل : عن قبول اعتذارهم وعظهم أي خوفهم . قيل في [ ص: 229 ] الملا . وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي ازجرهم بأبلغ الزجر في السر والخلاء . الحسن : قل لهم إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلتكم . وقد بلغ القول بلاغة ؛ ورجل بليغ يبلغ بلسانه كنه ما في قلبه . والعرب تقول : أحمق بلغ وبلغ ، أي نهاية في الحماقة . وقيل : معناه يبلغ ما يريد وإن كان أحمق . ويقال : إن قوله تعالى : فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم نزل في شأن الذين بنوا مسجد الضرار ؛ فلما أظهر الله نفاقهم ، وأمرهم بهدم المسجد حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم : ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله وموافقة الكتاب .
قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما

قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول " من " زائدة للتوكيد . إلا ليطاع فيما أمر به ونهى عنه . بإذن الله " بعلم الله . وقيل : بتوفيق الله . ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك روى أبو صادق عن علي قال : قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام ، فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثا على رأسه من ترابه ؛ فقال : قلت يا رسول الله فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله فوعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله عليك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية ، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي . فنودي من القبر إنه قد غفر لك . ومعنى لوجدوا الله توابا رحيما أي قابلا لتوبتهم ، وهما مفعولان لا غير .
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما

فيه خمس مسائل :

الأولى : قال مجاهد وغيره : المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت وفيهم نزلت . وقال الطبري : قوله فلا رد على ما تقدم ذكره ؛ تقديره فليس الأمر [ ص: 230 ] كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله : وربك لا يؤمنون . وقال غيره : إنما قدم لا على القسم اهتماما بالنفي وإظهارا لقوته ، ثم كرره بعد القسم تأكيدا للتهمم بالنفي ، وكان يصح إسقاط لا الثانية ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ويذهب معنى الاهتمام . و " شجر " معناه اختلف واختلط ؛ ومنه الشجر لاختلاف أغصانه . ويقال لعصي الهودج : شجار ؛ لتداخل بعضها في بعض . قال الشاعر :

نفسي فداؤك والرماح شواجر والقوم ضنك للقاء قيام وقال طرفة :

وهم الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأمر الشجر وقالت طائفة : نزلت في الزبير مع الأنصاري ، وكانت الخصومة في سقي بستان ؛ فقال عليه السلام للزبير : اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك . فقال الخصم : أراك تحابي ابن عمتك ؛ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير : اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ونزل : فلا وربك لا يؤمنون . الحديث ثابت صحيح رواه البخاري عن علي بن عبد الله عن محمد بن جعفر عن معمر ، ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الزهري . واختلف أهل هذا القول في الرجل الأنصاري ؛ فقال بعضهم : هو رجل من الأنصار من أهل بدر . وقال مكي والنحاس : هو حاطب بن أبي بلتعة . وقال الثعلبي والواحدي والمهدوي : هو حاطب . وقيل : ثعلبة بن حاطب . وقيل غيره : والصحيح القول الأول ؛ لأنه غير معين ولا مسمى ؛ وكذا في البخاري ومسلم أنه رجل من الأنصار . واختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي . كما قال مجاهد ؛ ثم تتناول بعمومها قصة الزبير . قال ابن العربي : وهو الصحيح ؛ فكل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو كافر ، لكن الأنصاري زل زلة فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه ، وأنها كانت فلتة وليست لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم . وكل من لم يرض بحكم الحاكم وطعن فيه ورده فهي ردة يستتاب . أما إن طعن في الحاكم نفسه لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه وسيأتي بيان هذا في آخر سورة " الأعراف " إن شاء الله تعالى .

الثانية : وإذا كان سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من الحديث ففقهها أنه عليه السلام [ ص: 231 ] سلك مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال : اسق يا زبير لقربه من الماء ثم أرسل الماء إلى جارك . أي تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك . فحضه على المسامحة والتيسير ، فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك وغضب ؛ لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلا ، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال : آن كان ابن عمتك ؟ بمد همزة " أن " المفتوحة على جهة الإنكار ؛ أي أتحكم له علي لأجل أنه قرابتك ؟ . فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضبا عليه ، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له . وعليه لا يقال : كيف حكم في حال غضبه وقد قال : ( لا يقضي القاضي وهو غضبان ) ؟ فإنا نقول : لأنه معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام ، بدليل العقل الدال على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى فليس مثل غيره من الحكام . وفي هذا الحديث إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم وإن ظهر الحق . ومنعه مالك ، واختلف فيه قول الشافعي . وهذا الحديث حجة واضحة على الجواز ؛ فإن اصطلحوا وإلا استوفى لذي الحق حقه وثبت الحكم .

الثالثة : واختلف أصحاب مالك في صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل ؛ فقال ابن حبيب : يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به ، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى الكعبين من القائم فيه أغلق مدخل الماء ، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه ، فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط . وهكذا فسره لي مطرف وابن الماجشون . وقاله ابن وهب . وقال ابن القاسم : إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولا يحبس منه شيئا في حائطه . قال ابن حبيب : وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلي وهم أعلم بذلك ؛ لأن المدينة دارهما وبها كانت القضية وفيها جرى العمل .

الرابعة : روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب : يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل . قال أبو عمر : " لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه ، وأرفع أسانيده ما ذكره محمد بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى . وذكر عبد الرزاق عن أبي حازم القرطبي عن أبيه عن جده عن [ ص: 232 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن يحبس على كل حائط حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل . وغيره من السيول كذلك . وسئل أبو بكر البزار عن حديث هذا الباب فقال : لست أحفظ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يثبت . قال أبو عمر : في هذا المعنى - وإن لم يكن بهذا اللفظ حديث ثابت مجتمع على صحته . رواه ابن وهب عن الليث بن سعد ويونس بن يزيد جميعا عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما النخل ؛ فقال الأنصاري : سرح الماء ؛ فأبى عليه ، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم " وذكر الحديث . قال أبو عمر : وقوله في الحديث : ( يرسل ) وفي الحديث الآخر إذا بلغ الماء الكعبين لم يحبس الأعلى يشهد لقول ابن القاسم . ومن جهة النظر أن الأعلى لو لم يرسل إلا ما زاد على الكعبين لا يقطع ذلك الماء في أقل مدة ، ولم ينته حيث ينتهي إذا أرسل الجميع ، وفي إرسال الجميع بعد أخذ الأعلى منه ما بلغ الكعبين أعم فائدة وأكثر نفعا فيما قد جعل الناس فيه شركاء ؛ فقول ابن القاسم أولى على كل حال . هذا إذا لم يكن أصله ملكا للأسفل مختصا به ، فإن ما استحق بعمل أو بملك صحيح أو استحقاق قديم وثبوت ملك فكل على حقه على حسب ما كان من ذلك بيده وعلى أصل مسألته . وبالله التوفيق .

الخامسة : قوله تعالى : ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت أي ضيقا وشكا ؛ ومنه قيل للشجر الملتف : حرج وحرجة ، وجمعها حراج . وقال الضحاك : أي إثما بإنكارهم ما قضيت . ويسلموا تسليما أي ينقادوا لأمرك في القضاء . وقال الزجاج : تسليما مصدر مؤكد ؛ فإذا قلت : ضربت ضربا فكأنك قلت لا أشك فيه ؛ وكذلك ويسلموا تسليما أي ويسلموا لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا .
قوله تعالى : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما

[ ص: 233 ] سبب نزولها ما روي أن ثابت بن قيس بن شماس تفاخر هو ويهودي ؛ فقال اليهودي : والله لقد كتب علينا أن نقتل أنفسنا فقتلنا ، وبلغت القتلى سبعين ألفا ؛ فقال ثابت : والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا . وقال أبو إسحاق السبيعي : لما نزلت ولو أنا كتبنا عليهم الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي . قال ابن وهب قال مالك : القائل ذلك هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ؛ وهكذا ذكر مكي أنه أبو بكر . وذكر النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وذكر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي . وذكر أبو الليث السمرقندي : أن القائل منهم عمار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن قيس ، قالوا : لو أن الله أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الإيمان أثبت في قلوب الرجال من الجبال الرواسي . ولو حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره ؛ فأخبر الله سبحانه أنه لم يكتب ذلك علينا رفقا بنا لئلا تظهر معصيتنا . فكم من أمر قصرنا عنه مع خفته فكيف بهذا الأمر مع ثقله ! لكن أما والله لقد ترك المهاجرون مساكنهم خاوية وخرجوا يطلبون بها عيشة راضية . ما فعلوه أي القتل والخروج إلا قليل منهم قليل بدل من الواو ، والتقدير ما فعله أحد إلا قليل . وأهل الكوفة يقولون : هو على التكرير ما فعلوه ما فعله إلا قليل منهم . وقرأ عبد الله بن عامر وعيسى بن عمر " إلا قليلا " على الاستثناء . وكذلك هو في مصاحف أهل الشام . الباقون بالرفع ، والرفع أجود عند جميع النحويين . وقيل : انتصب على إضمار فعل ، تقديره إلا أن يكون قليلا منهم . وإنما صار الرفع أجود لأن اللفظ أولى من المعنى ، وهو أيضا يشتمل على المعنى . وكان من القليل أبو بكر وعمر وثابت بن قيس كما ذكرنا . وزاد الحسن ومقاتل عمارا وابن مسعود وقد ذكرناهما . ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم أي في الدنيا والآخرة . وأشد تثبيتا أي على الحق . وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما أي ثوابا في الآخرة . وقيل : اللام لام الجواب ، وإذا دالة على الجزاء ، والمعنى لو فعلوا ما يوعظون به لآتيناهم .

قوله تعالى : [ ص: 234 ] ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما

فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : ومن يطع الله والرسول لما ذكر تعالى الأمر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه لأنعم عليهم ، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله . وهذه الآية تفسير قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم وهي المراد في قوله عليه السلام عند موته اللهم الرفيق الأعلى . وفي البخاري عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فعلمت أنه خير . وقالت طائفة : إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري - الذي أري الأذان - : يا رسول الله ، إذا مت ومتنا كنت في عليين لا نراك ولا نجتمع بك ؛ وذكر حزنه على ذلك فنزلت هذه الآية . وذكر مكي عن عبد الله هذا وأنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده ؛ فعمي مكانه . وحكاه القشيري فقال : اللهم أعمني فلا أرى شيئا بعد حبيبي حتى ألقى حبيبي ؛ فعمي مكانه . وحكى الثعلبي : أنها نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه ، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه ، يعرف في وجهه الحزن ؛ فقال له : يا ثوبان ما غير لونك فقال : يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع ، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك ؛ لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك ، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية . ذكره الواحدي عن الكلبي .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #244  
قديم 09-02-2023, 04:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,356
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 235 الى صــ 242
الحلقة (244)


وأسند عن مسروق قال : قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا ، فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا ؛ فأنزل الله تعالى : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين . وفي طاعة الله طاعة رسوله ولكنه ذكره تشريفا لقدره وتنويها باسمه صلى الله عليه وسلم [ ص: 235 ] وعلى آله .

فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم أي هم معهم في دار واحدة ونعيم واحد يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم ، لا أنهم يساوونهم في الدرجة ؛ فإنهم يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدنيا والاقتداء . وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله ، وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول . قال الله تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل . والصديق فعيل ، المبالغ في الصدق أو في التصديق ، والصديق هو الذي يحقق بفعله ما يقول بلسانه . وقيل : هم فضلاء أتباع الأنبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق كأبي بكر الصديق . وقد تقدم في البقرة اشتقاق الصديق ومعنى الشهيد . والمراد هنا بالشهداء عمر وعثمان وعلي ، والصالحين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين . وقيل : والشهداء القتلى في سبيل الله . والصالحين صالحي أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قلت : واللفظ يعم كل صالح وشهيد ، والله أعلم . والرفق لين الجانب . وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته ؛ ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض . ويجوز " وحسن أولئك رفقاء " . قال الأخفش : رفيقا منصوب على الحال وهو بمعنى رفقاء ؛ وقال : انتصب على التمييز فوحد لذلك ؛ فكأن المعنى وحسن كل واحد منهم رفيقا . كما قال تعالى : ثم نخرجكم طفلا أي نخرج كل واحد منكم طفلا . وقال تعالى : ينظرون من طرف خفي وينظر معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم : خير الرفقاء أربعة ولم يذكر الله تعالى هنا إلا أربعة فتأمله .

الثانية : في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه ؛ وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون ، ثم ثنى بالصديقين ولم يجعل بينهما واسطة . وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر الصديق رضي الله عنه صديقا ، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا ، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق وأنه ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يتقدم بعده أحد . والله أعلم .

الثالثة : قوله تعالى : ذلك الفضل من الله أخبر تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة [ ص: 236 ] بطاعتهم بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه . خلافا لما قالت المعتزلة : إنما ينال العبد ذلك بفعله . فلما امتن الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله ، وكان لا يجوز لأحد أن يثني على نفسه بما لم يفعله دل ذلك على بطلان قولهم . والله أعلم .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا

فيه خمس مسائل :

الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم هذا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله وحماية الشرع . ووجه النظم والاتصال بما قبل أنه لما ذكر طاعة الله وطاعة رسوله ، أمر أهل الطاعة بالقيام بإحياء دينه وإعلاء دعوته ، وأمرهم ألا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسسوا إلى ما عندهم ، ويعلموا كيف يردون عليهم ، فذلك أثبت لهم فقال : خذوا حذركم فعلمهم مباشرة الحروب . ولا ينافي هذا التوكل بل هو مقام عين التوكل كما تقدم في " آل عمران " ويأتي . والحذر والحذر لغتان كالمثل والمثل . قال الفراء : أكثر الكلام الحذر ، والحذر مسموع أيضا ؛ يقال : خذ حذرك ، أي احذر . وقيل : خذوا السلاح حذرا ؛ لأنه به الحذر والحذر لا يدفع القدر . وهي :

الثانية : خلافا للقدرية في قولهم : إن الحذر يدفع ويمنع من مكائد الأعداء ، ولو لم يكن كذلك ما كان لأمرهم بالحذر معنى . فيقال لهم : ليس في الآية دليل على أن الحذر يمنع من القدر شيئا ؛ ولكنا تعبدنا بألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة ؛ ومنه الحديث اعقلها وتوكل . وإن كان القدر جاريا على ما قضي ، ويفعل الله ما يشاء ، فالمراد منه طمأنينة النفس ، لا أن ذلك ينفع من القدر وكذلك أخذ الحذر . والدليل على ذلك أن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا فلو كان يصيبهم غير ما قضى عليهم لم يكن لهذا الكلام معنى .

الثالثة : قوله تعالى : فانفروا ثبات يقال : نفر ينفر ( بكسر الفاء ) نفيرا . ونفرت الدابة تنفر ( بضم الفاء ) نفورا ؛ المعنى : انهضوا لقتال العدو . واستنفر الإمام الناس دعاهم إلى النفر ، أي للخروج إلى قتال العدو . والنفير اسم للقوم الذين ينفرون ، وأصله من النفار والنفور [ ص: 237 ] وهو الفزع ؛ ومنه قوله تعالى : ولوا على أدبارهم نفورا أي نافرين . ومنه نفر الجلد أي ورم . وتخلل رجل بالقصب فنفر فمه أي ورم . قال أبو عبيد : إنما هو من نفار الشيء من الشيء وهو تجافيه عنه وتباعده منه . قال ابن فارس : النفر عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة . والنفير النفر أيضا ، وكذلك النفر والنفرة ، حكاها الفراء بالهاء . ويوم النفر : يوم ينفر الناس عن منى .

( ثبات ) معناه جماعات متفرقات . ويقال : ثبين يجمع جمع السلامة في التأنيث والتذكير . قال عمرو بن كلثوم :


فأما يوم خشيتنا عليهم فتصبح خيلنا عصبا ثبينا
فقوله تعالى : ( ثبات ) كناية عن السرايا ، الواحدة ثبة وهي العصابة من الناس . وكانت في الأصل الثبية . وقد ثبيت الجيش جعلتهم ثبة ثبة . والثبة : وسط الحوض الذي يثوب إليه الماء أي يرجع قال النحاس : وربما توهم الضعيف في العربية أنهما واحد ، وأن أحدهما من الآخر ؛ وبينهما فرق ، فثبة الحوض يقال في تصغيرها : ثويبة ؛ لأنها من ثاب يثوب . ويقال في ثبة الجماعة : ثبية . قال غيره : فثبة الحوض محذوفة الواو وهو عين الفعل ، وثبة الجماعة معتل اللام من ثبا يثبو مثل خلا يخلو . ويجوز أن يكون الثبة بمعنى الجماعة من ثبة الحوض ؛ لأن الماء إذا ثاب اجتمع ؛ فعلى هذا تصغر به الجماعة ثويبة فتدخل إحدى الياءين في الأخرى . وقد قيل : إن ثبة الجماعة إنما اشتقت من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه في حياته وجمعت محاسن ذكره فيعود إلى الاجتماع .

الرابعة : قوله تعالى : أو انفروا جميعا معناه الجيش الكثيف مع الرسول عليه السلام ؛ قاله ابن عباس وغيره . ولا تخرج السرايا إلا بإذن الإمام ليكون متجسسا لهم ، عضدا من ورائهم ، وربما احتاجوا إلى درئه . وسيأتي حكم السرايا وغنائمهم وأحكام الجيوش ووجوب النفير في " الأنفال " و " براءة إن شاء الله تعالى .

الخامسة : ذكر ابن خويز منداد : وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : انفروا خفافا وثقالا وبقوله : إلا تنفروا يعذبكم ؛ ولأن يكون انفروا خفافا وثقالا منسوخا بقوله : فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وبقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة أولى ؛ لأن فرض الجهاد تقرر على الكفاية ، فمتى سد الثغور بعض المسلمين أسقط الفرض عن [ ص: 238 ] الباقين . والصحيح أن الآيتين جميعا محكمتان ، إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعين الجميع ، والأخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها .
قوله تعالى : وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما قوله تعالى : وإن منكم لمن ليبطئن يعني المنافقين . والتبطئة والإبطاء التأخر ، تقول : ما أبطأك عنا ؛ فهو لازم . ويجوز بطأت فلانا عن كذا أي أخرته ؛ فهو متعد . والمعنيان مراد في الآية ؛ فكانوا يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم . والمعنى أن من دخلائكم وجنسكم وممن أظهر إيمانه لكم . فالمنافقون في ظاهر الحال من أعداد المسلمين بإجراء أحكام المسلمين عليهم . واللام في قوله ( لمن ) لام توكيد ، والثانية لام قسم ، ومن في موضع نصب ، وصلتها ليبطئن لأن فيه معنى اليمين ، والخبر منكم . وقرأ مجاهد والنخعي والكلبي " وإن منكم لمن ليبطئن " بالتخفيف ، والمعنى واحد . وقيل : المراد بقوله وإن منكم لمن ليبطئن بعض المؤمنين ؛ لأن الله خاطبهم بقوله : وإن منكم وقد فرق الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين بقوله وما هم منكم وهذا يأباه مساق الكلام وظاهره . وإنما جمع بينهم في الخطاب من جهة الجنس والنسب كما بينا لا من جهة الإيمان . هذا قول الجمهور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ، والله أعلم . يدل عليه قوله :فإن أصابتكم مصيبة أي قتل وهزيمة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا يعني بالقعود ، وهذا لا يصدر إلا من منافق ؛ لا سيما في ذلك الزمان الكريم ، بعيد أن يقوله مؤمن . وينظر إلى هذه الآية ما رواه الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عن المنافقين إن أثقل صلاة عليهم صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا الحديث . في رواية ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها يعني صلاة العشاء . يقول : لو لاح شيء من الدنيا يأخذونه وكانوا على يقين منه لبادروا إليه . وهو معنى قوله : ولئن أصابكم فضل من الله أي غنيمة وفتح ليقولن هذا المنافق قول نادم حاسد يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما كأن لم يكن بينكم وبينه مودة فالكلام فيه تقديم وتأخير . وقيل : المعنى ليقولن كأن لم يكن بينكم وبينه مودة [ ص: 239 ] أي كأن لم يعاقدكم على الجهاد . وقيل : هو في موضع نصب على الحال . وقرأ الحسن " ليقولن " بضم اللام على معنى " من " ؛ لأن معنى قوله لمن ليبطئن ليس يعني رجلا بعينه . ومن فتح اللام أعاد فوحد الضمير على لفظ من . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم كأن لم تكن بالتاء على لفظ المودة . ومن قرأ بالياء جعل مودة بمعنى الود . وقول المنافق يا ليتني كنت معهم على وجه الحسد أو الأسف على فوت الغنيمة مع الشك في الجزاء من الله . ( فأفوز ) جواب التمني ولذلك نصب . وقرأ الحسن " فأفوز " بالرفع على أنه تمنى الفوز ، فكأنه قال : يا ليتني أفوز فوزا عظيما . والنصب على الجواب ؛ والمعنى إن أكن معهم أفز . والنصب فيه بإضمار " أن " لأنه محمول على تأويل المصدر ؛ التقدير يا ليتني كان لي حضور ففوز .

قوله تعالى : فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : فليقاتل في سبيل الله الخطاب للمؤمنين ؛ أي فليقاتل في سبيل الله الكفار ( الذين يشرون ) أي يبيعون ، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عز وجل بالآخرة أي بثواب الآخرة .

الثانية : قوله تعالى : ومن يقاتل في سبيل الله شرط . فيقتل أو يغلب عطف عليه ، والمجازاة فسوف نؤتيه أجرا عظيما . ومعنى فيقتل فيستشهد . أو يغلب يظفر فيغنم . وقرأت طائفة " ومن يقاتل " " فليقاتل " بسكون لام الأمر . وقرأت فرقة " فليقاتل " بكسر لام الأمر . فذكر تعالى غايتي حالة المقاتل واكتفى بالغايتين عما بينهما ؛ ذكره ابن عطية .

الثالثة : ظاهر الآية يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة وذكر الحديث . وفيه عن عبد الله بن [ ص: 240 ] عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم . فقوله : نائلا ما نال من أجر أو غنيمة يقتضي أن لمن يستشهد من المجاهدين أحد الأمرين ؛ إما الأجر إن لم يغنم ، وإما الغنيمة ولا أجر ، بخلاف حديث عبد الله بن عمرو ، ولما كان هذا قال قوم : حديث عبد الله بن عمرو ليس بشيء ؛ لأن في إسناده حميد بن هانئ وليس بمشهور ، ورجحوا الحديث الأول عليه لشهرته . وقال آخرون : ليس بينهما تعارض ولا اختلاف . و " أو " في حديث أبي هريرة بمعنى الواو ، كما يقول الكوفيون وقد دلت عليه رواية أبي داود فإنه قال فيه : ( من أجر وغنيمة ) بالواو الجامعة . وقد رواه بعض رواة مسلم بالواو الجامعة أيضا . وحميد بن هانئ مصري سمع أبا عبد الرحمن الحبلي وعمرو بن مالك ، وروى عنه حيوة بن شريح وابن وهب ؛ فالحديث الأول محمول على مجرد النية والإخلاص في الجهاد ؛ فذلك الذي ضمن الله له إما الشهادة ، وإما رده إلى أهله مأجورا غانما ، ويحمل الثاني على ما إذا نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم ، فلما انقسمت نيته انحط أجره ؛ فقد دلت السنة على أن للغانم أجرا كما دل عليه الكتاب فلا تعارض . ثم قيل : إن نقص أجر الغانم على من يغنم إنما هو بما فتح الله عليه من الدنيا فتمتع به وأزال عن نفسه شظف عيشه ؛ ومن أخفق فلم يصب شيئا بقي على شظف عيشه والصبر على حالته ، فبقي أجره موفرا بخلاف الأول . ومثله قوله في الحديث الآخر : فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا - منهم مصعب بن عمير - ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها .
قوله تعالى : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله حض على الجهاد ، وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب ، [ ص: 241 ] ويفتنونهم عن الدين ؛ فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده ، وإن كان في ذلك تلف النفوس . وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال ؛ وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها . قال مالك : واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم . وهذا لا خلاف فيه ؛ لقوله عليه السلام ( فكوا العاني ) وقد مضى في " البقرة " . وكذلك قالوا : عليهم أن يواسوهم فإن المواساة دون المفاداة . فإن كان الأسير غنيا فهل يرجع عليه الفادي أم لا ؛ قولان للعلماء ، أصحهما الرجوع .

الثانية : قوله تعالى : والمستضعفين عطف على اسم الله عز وجل ، أي وفي سبيل المستضعفين ، فإن خلاص المستضعفين من سبيل الله . وهذا اختيار الزجاج وقاله الزهري . وقال محمد بن يزيد : أختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين فيكون عطفا على السبيل ؛ أي وفي المستضعفين لاستنقاذهم ؛ فالسبيلان مختلفان . ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون بقوله عليه السلام : اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين . وقال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين . في البخاري عنه إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان فقال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله ، أنا من الولدان وأمي من النساء .

الثالثة : قوله تعالى : من هذه القرية الظالم أهلها القرية هنا مكة بإجماع من المتأولين . ووصفها بالظلم وإن كان الفعل للأهل لعلقة الضمير . وهذا كما تقول : مررت بالرجل الواسعة داره ، والكريم أبوه ، والحسنة جاريته . وإنما وصف الرجل بها للعلقة اللفظية بينهما وهو الضمير ، فلو قلت : مررت بالرجل الكريم عمرو لم تجز المسألة ؛ لأن الكرم لعمرو فلا يجوز أن يجعل صفة لرجل إلا بعلقة وهي الهاء . ولا تثنى هذه الصفة ولا تجمع ، لأنها تقوم مقام الفعل ، فالمعنى أي التي ظلم أهلها ولهذا لم يقل الظالمين . وتقول : مررت برجلين كريم أبواهما حسنة جاريتاهما ، وبرجال كريم آباؤهم حسنة جواريهم . واجعل لنا من لدنك أي من عندك . وليا أي من يستنقذنا واجعل لنا من لدنك نصيرا أي ينصرنا عليهم .
قوله تعالى : الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا

[ ص: 242 ] قوله تعالى : الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله أي في طاعته والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت قال أبو عبيدة والكسائي : الطاغوت يذكر ويؤنث . قال أبو عبيد : وإنما ذكر وأنث لأنهم كانوا يسمون الكاهن والكاهنة طاغوتا . قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله وسئل عن الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال : كانت في جهينة واحدة وفي أسلم واحدة ، وفي كل حي واحدة . قال أبو إسحاق : الدليل على أنه الشيطان قوله عز وجل : فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا أي مكره ومكر من اتبعه . ويقال : أراد به يوم بدر حين قال للمشركين لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم على ما يأتي .
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا روى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا : يا نبي الله ، كنا في عز ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة ؟ فقال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم . فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا ، فنزلت الآية . أخرجه النسائي في سننه ، وقاله الكلبي . وقال مجاهد : هم يهود . قال الحسن : هي في المؤمنين ؛ لقوله : يخشون الناس أي مشركي مكة كخشية الله فهي على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة . قال السدي : هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه . وقيل : هو وصف للمنافقين ؛ والمعنى يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله . أو أشد خشية أي عندهم وفي اعتقادهم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #245  
قديم 09-02-2023, 04:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,356
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 243 الى صــ 250
الحلقة (245)



قلت : وهذا أشبه بسياق الآية ، لقوله : وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب أي هلا ، ولا يليها إلا الفعل . ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم [ ص: 243 ] يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة ، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين ، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة ، على ما هو معروف من سيرتهم رضي الله عنهم . اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه ، ولا انشرح بالإسلام جنانه ، فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص ، وهو الذي تنفر نفسه عما يؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة . والله أعلم .

قوله تعالى : قل متاع الدنيا قليل ابتداء وخبر . وكذا والآخرة خير لمن اتقى أي المعاصي ؛ وقد مضى القول في هذا في " البقرة " ومتاع الدنيا منفعتها والاستمتاع بلذاتها وسماه قليلا لأنه لا بقاء له . وقال النبي صلى الله عليه وسلم مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة ثم راح وتركها وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة " مستوفى .
قوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا

فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت شرط ومجازاة ، و " ما " زائدة وهذا الخطاب عام وإن كان المراد المنافقين أو ضعفة المؤمنين الذين قالوا : لولا أخرتنا إلى أجل قريب أي إلى أن نموت بآجالنا ، وهو أشبه المنافقين كما ذكرنا ، لقولهم لما أصيب أهل أحد ، قالوا : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فرد الله عليهم أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه . وواحد البروج برج ، وهو البناء المرتفع والقصر العظيم . قال طرفة يصف ناقة :


كأنها برج رومي تكففها بان بشيد وآجر وأحجار
وقرأ طلحة بن سليمان " يدرككم " برفع الكاف على إضمار الفاء ، وهو قليل لم يأت إلا في الشعر نحو قوله :




من يفعل الحسنات الله يشكرها
أراد فالله يشكرها .

[ ص: 244 ] واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج ، فقال الأكثر وهو الأصح . إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية ، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة ، فمثل الله لهم بها . وقال قتادة : في قصور محصنة . وقاله ابن جريج والجمهور ، ومنه قول عامر بن الطفيل للنبي صلى الله عليه وسلم : هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ وقال مجاهد : البروج القصور . ابن عباس : البروج الحصون والآطام والقلاع . ومعنى مشيدة مطولة ، قاله الزجاج والقتبي . عكرمة : المزينة بالشيد وهو الجص . قال قتادة : محصنة . والمشيد والمشيد سواء ، ومنه وقصر مشيد والتشديد للتكثير . وقيل المشيد المطول ، والمشيد المطلي بالشيد . يقال : شاد البنيان وأشاد بذكره . وقال السدي : المراد بالبروج بروج في السماء الدنيا مبنية . وحكى هذا القول مكي عن مالك وأنه قال ألا ترى إلى قوله تعالى : والسماء ذات البروج و جعل في السماء بروجا ولقد جعلنا في السماء بروجا . وحكاه ابن العربي أيضا عن ابن القاسم عن مالك . وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : في بروج مشيدة معناه في قصور من حديد . قال ابن عطية : وهذا لا يعطيه ظاهر اللفظ .

الثانية : هذه الآية ترد على القدرية في الآجال ، لقوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة فعرفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلا بد من مفارقة الروح الجسد ، كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به . وقالت المعتزلة : إن المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش . وقد تقدم الرد عليهم في " آل عمران " ويأتي فوافقوا بقولهم هذا الكفار والمنافقين .

الثالثة : اتخاذ البلاد وبناؤها ليمتنع بها في حفظ الأموال والنفوس ، وهي سنة الله في عباده . وفي ذلك أدل دليل على رد قول من يقول : التوكل ترك الأسباب ، فإن اتخاذ البلاد من أكبر الأسباب وأعظمها وقد أمرنا بها ، واتخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدة وزيادة في التمنع . وقد قيل للأحنف : ما حكمة السور ؟ فقال : ليردع السفيه حتى يأتي الحكيم فيحميه .

الرابعة : وإذا تنزلنا على قول مالك والسدي في أنها بروج السماء ، فبروج الفلك اثنا عشر برجا مشيدة من الرفع ، وهي الكواكب العظام . وقيل للكواكب بروج لظهورها ، من برج يبرج إذا ظهر وارتفع ؛ ومنه قوله : ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وخلقها الله تعالى [ ص: 245 ] منازل للشمس والقمر وقدره فيها ، ورتب الأزمنة عليها ، وجعلها جنوبية وشمالية دليلا على المصالح وعلما على القبلة ، وطريقا إلى تحصيل آناء الليل وآناء النهار لمعرفة أوقات التهجد وغير ذلك من أحوال المعاش .

قوله تعالى : وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله أي إن يصب المنافقين خصب قالوا : هذا من عند الله . وإن تصبهم سيئة أي جدب ومحل قالوا : هذا من عندك ، أي أصابنا ذلك بشؤمك وشؤم أصحابك . وقيل : الحسنة : السلامة والأمن ، والسيئة : الأمراض والخوف . وقيل : الحسنة : الغنى ، والسيئة : الفقر . وقيل : الحسنة : النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر ، والسيئة : البلية والشدة والقتل يوم أحد . وقيل : الحسنة : السراء ، والسيئة : الضراء . هذه أقوال المفسرين وعلماء التأويل - ابن عباس وغيره - في الآية . وأنها نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنها لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . قال ابن عباس : ومعنى من عندك أي بسوء تدبيرك . وقيل : من عندك بشؤمك ، كما ذكرنا ، أي بشؤمك الذي لحقنا ، قالوه على جهة التطير . قال الله تعالى قل كل من عند الله أي الشدة والرخاء والظفر والهزيمة من عند الله ، أي بقضاء الله وقدره . فمال هؤلاء القوم يعني المنافقين لا يكادون يفقهون حديثا أي ما شأنهم لا يفقهون أن كلا من عند الله .
قوله تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا

قوله تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك أي ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة فبفضل الله عليك وإحسانه إليك ، وما أصابك من جدب وشدة فبذنب أتيته عوقبت عليه . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته . أي ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم ، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم ؛ أي من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم . قاله الحسن والسدي وغيرهما ؛ كما قال تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء . وقد قيل : الخطاب للإنسان والمراد به الجنس ؛ كما قال تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر أي إن الناس لفي [ ص: 246 ] خسر ، ألا تراه استثنى منهم فقال إلا الذين آمنوا ولا يستثنى إلا من جملة أو جماعة . وعلى هذا التأويل يكون قوله ما أصابك استئنافا . وقيل : في الكلام حذف تقديره يقولون ؛ وعليه يكون الكلام متصلا ؛ والمعنى فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا حتى يقولوا ما أصابك من حسنة فمن الله . وقيل : إن ألف الاستفهام مضمرة ؛ والمعنى أفمن نفسك ؟ ومثله قوله تعالى : وتلك نعمة تمنها علي والمعنى أوتلك نعمة ؟ وكذا قوله تعالى : فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي أي أهذا ربي ؟ قال أبو خراش الهذلي :


رموني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أراد " أهم " فأضمر ألف الاستفهام وهو كثير وسيأتي . قال الأخفش " ما " بمعنى الذي . وقيل : هو شرط . قال النحاس : والصواب قول الأخفش ؛ لأنه نزل في شيء بعينه من الجدب ، وليس هذا من المعاصي في شيء ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة . وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي وابن مسعود " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك " فهذه قراءة على التفسير ، وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن ، والحديث بذلك عن ابن مسعود وأبي منقطع ؛ لأن مجاهدا لم ير عبد الله ولا أبيا . وعلى قول من قال : الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر ، والسيئة ما أصابهم يوم أحد ؛ أنهم عوقبوا عند خلاف الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهره ولا يبرحوا من مكانهم ، فرأوا الهزيمة على قريش والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم ، فنظر خالد بن الوليد - وكان مع الكفار يومئذ - ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انكشف من الرماة فأخذ سرية من الخيل ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم ، ولم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرماة إلا صاحب الراية ، حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف حتى استشهد مكانه ؛ على ما تقدم في " آل عمران " بيانه . فأنزل الله تعالى نظير هذه الآية وهو قوله تعالى : أولما أصابتكم مصيبة يعني يوم أحد قد أصبتم مثليها يعني يوم بدر قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم . ولا يجوز أن تكون الحسنة هاهنا الطاعة والسيئة المعصية كما قالت القدرية ؛ إذ لو كان كذلك لكان ما أصبت كما قدمنا ، إذ هو بمعنى الفعل عندهم والكسب عندنا ، وإنما تكون الحسنة الطاعة والسيئة المعصية في نحو قوله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها [ ص: 247 ] وأما في هذه الآية فهي كما تقدم شرحنا له من الخصب والجدب والرخاء والشدة على نحو ما جاء في آية " الأعراف " وهي قوله تعالى : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون . وبالسنين بالجدب سنة بعد سنة ؛ حبس المطر عنهم فنقصت ثمارهم وغلت أسعارهم . فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه أي يتشاءمون بهم ويقولون هذا من أجل اتباعنا لك وطاعتنا إياك ؛ فرد الله عليهم بقوله : ألا إنما طائرهم عند الله يعني أن طائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضر من الله تعالى لا صنع فيه لمخلوق ؛ فكذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم أنهم يضيفونه للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله كما قال : ألا إنما طائرهم عند الله وكما قال تعالى : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله أي بقضاء الله وقدره وعلمه ، وآيات الكتاب يشهد بعضها لبعض . قال علماؤنا : ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته ؛ كما قال تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة وقال تعالى : وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال .

مسألة : وقد تجاذب بعض جهال أهل السنة هذه الآية واحتج بها ؛ كما تجاذبها القدرية واحتجوا بها ، ووجه احتجاجهم بها أن القدرية يقولون : إن الحسنة ها هنا الطاعة ، والسيئة المعصية ؛ قالوا : وقد نسب المعصية في قوله تعالى : وما أصابك من سيئة فمن نفسك إلى الإنسان دون الله تعالى ؛ فهذا وجه تعلقهم بها . ووجه تعلق الآخرين منها قوله تعالى : قل كل من عند الله قالوا : فقد أضاف الحسنة والسيئة إلى نفسه دون خلقه . وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعا ؛ لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية ، وليست كذلك لما بيناه . والله أعلم . والقدرية إن قالوا ما أصابك من حسنة أي من طاعة فمن الله فليس هذا اعتقادهم ؛ لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل المسيء . وأيضا فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول : ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ؛ لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا ، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل [ ص: 248 ] غيره . نص على هذه المقالة الإمام أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحز الغلاصم في إفحام المخاصم .

قوله تعالى : وأرسلناك للناس رسولا مصدر مؤكد ، ويجوز أن يكون المعنى ذا رسالة وكفى بالله شهيدا نصب على البيان والباء زائدة ، أي كفى الله شهيدا على صدق رسالة نبيه وأنه صادق .
قوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا قوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله أعلم الله تعالى أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة له . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصانيفي رواية . ومن أطاع أميري ، ومن عصى أميري .

قوله تعالى : ومن تولى أي أعرض . فما أرسلناك عليهم حفيظا أي حافظا ورقيبا لأعمالهم ، إنما عليك البلاغ . وقال القتبي : محاسبا ؛ فنسخ الله هذا بآية السيف وأمره بقتال من خالف الله ورسوله .
قوله تعالى : ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون أي أمرنا طاعة ، ويجوز " طاعة " بالنصب ، أي نطيع طاعة ، وهي قراءة [ ص: 249 ] نصر بن عاصم والحسن والجحدري . وهذا في المنافقين في قول أكثر المفسرين ؛ أي يقولون إذا كانوا عندك : أمرنا طاعة ، أو نطيع طاعة ، وقولهم هذا ليس بنافع ؛ لأن من لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة ، لأن الله تعالى لم يحقق طاعتهم بما أظهروه ، فلو كانت الطاعة بلا اعتقاد حقيقة لحكم بها لهم ؛ فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها . فإذا برزوا أي خرجوا من عندك بيت طائفة منهم فذكر الطائفة لأنها في معنى رجال . وأدغم الكوفيون التاء في الطاء ؛ لأنهما من مخرج واحد ، واستقبح ذلك الكسائي في الفعل وهو عند البصريين غير قبيح . ومعنى بيت زور وموه . وقيل : غير وبدل وحرف ؛ أي بدلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما عهده إليهم وأمرهم به . والتبييت التبديل ؛ ومنه قول الشاعر الأسود بن يعفر :


أتوني فلم أرض ما بيتوا وكانوا أتوني بأمر نكر لأنكح أيمهم منذرا
وهل ينكح العبد حر لحر
آخر الأسود بن عامر الطائي


بيت قولي عبد الملي ك قاتله الله عبدا كفورا
وبيت الرجل الأمر إذا دبر ليلا ؛ قال الله تعالى : إذ يبيتون ما لا يرضى من القول . والعرب تقول : أمر بيت بليل إذا أحكم . وإنما خص الليل بذلك لأنه وقت يتفرغ فيه . قال الشاعر :


أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
ومن هذا بيت الصيام . والبيوت : الماء يبيت ليلا . والبيوت : الأمر يبيت عليه صاحبه مهتما به ؛ قال الهذلي :


وأجعل فقرتها عدة إذا خفت بيوت أمر عضال
والتبييت والبيات أن يأتي العدو ليلا . وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا ؛ كما يقال : ظل بالنهار . وبيت الشيء قدر . فإن قيل : فما وجه الحكمة في ابتدائه بذكر جملتهم ثم قال : بيت طائفة منهم ؟ قيل : إنما عبر عن حال من علم أنه بقي على كفره ونفاقه ، وصفح عمن علم أنه سيرجع عن ذلك . وقيل : إنما عبر عن حال من شهد وحار في أمره ، وأما من سمع وسكت فلم يذكره . والله أعلم . والله يكتب ما يبيتون أي يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه . وقال الزجاج : المعنى ينزله عليك في الكتاب . وفي هذه الآية دليل على أن [ ص: 250 ] مجرد القول لا يفيد شيئا كما ذكرنا ؛ فإنهم قالوا : طاعة ، ولفظوا بها ولم يحقق الله طاعتهم ولا حكم لهم بصحتها ؛ لأنهم لم يعتقدوها . فثبت أنه لا يكون المطيع مطيعا إلا باعتقادها مع وجودها .

قوله تعالى : فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا أفلا يتدبرون القرآن قوله تعالى : فأعرض عنهم أي لا تخبر بأسمائهم ؛ عن الضحاك ، يعني المنافقين . وقيل : لا تعاقبهم . ثم أمره بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه . ويقال : إن هذا منسوخ بقوله تعالى : يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ثم عاب المنافقين بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر فيه وفي معانيه . تدبرت الشيء فكرت في عاقبته . وفي الحديث لا تدابروا أي لا يولي بعضكم بعضا دبره . وأدبر القوم مضى أمرهم إلى آخره . والتدبير أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته . ودلت هذه الآية وقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه . فكان في هذا رد على فساد قول من قال : لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب . وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال وإبطال التقليد ، وفيه دليل على إثبات القياس .

قوله تعالى : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا أي تفاوتا وتناقضا ؛ عن ابن عباس وقتادة وابن زيد . ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات ومقادير السور والآيات . وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت . وقيل : المعنى لو كان ما تخبرون به من عند غير الله لاختلف . وقيل : إنه ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير ، إما في الوصف واللفظ ؛ وإما في جودة المعنى ، وإما في التناقض ، وإما في الكذب . فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره ؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف ولا ردا له في معنى ، ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #246  
قديم 09-02-2023, 04:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,356
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 251 الى صــ 258
الحلقة (246)



قوله تعالى : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا

[ ص: 251 ] قوله تعالى : وإذا جاءهم أمر من الأمن في إذا معنى الشرط ولا يجازى بها وإن زيدت عليها " ما " وهي قليلة الاستعمال . قال سيبويه . والجيد ما قال كعب بن زهير :


وإذا ما تشاء تبعث منها مغرب الشمس ناشطا مذعورا
يعني أن الجيد لا يجزم بإذا ما كما لم يجزم في هذا البيت ، وقد تقدم في أول " البقرة " .

والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم أو الخوف وهو ضد هذا أذاعوا به أي أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته . فقيل : كان هذا من ضعفة المسلمين ؛ عنالحسن ؛ لأنهم كانوا يفشون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويظنون أنهم لا شيء عليهم في ذلك . وقال الضحاك وابن زيد : وهو في المنافقين فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف .

قوله تعالى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه . أو أولوا الأمر وهم أهل العلم والفقه ؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما . السدي وابن زيد : الولاة . وقيل : أمراء السرايا . لعلمه الذين يستنبطونه منهم أي يستخرجونه ، أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه وما ينبغي أن يكتم . والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته . والنبط : الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر . وسمي النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما في الأرض . والاستنباط في اللغة الاستخراج ، وهو يدل على الاجتهاد إذا عدم النص والإجماع كما تقدم .

قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته رفع بالابتداء عند سيبويه ، ولا يجوز أن يظهر الخبر عنده . والكوفيون يقولون : رفع بلولا . لاتبعتم الشيطان إلا قليلا في هذه الآية ثلاثة أقوال ؛ قال ابن عباس وغيره : المعنى أذاعوا به إلا قليلا منهم لم يذع ولم يفش . وقاله جماعة من النحويين : الكسائي والأخفش وأبو عبيد وأبو حاتم والطبري . وقيل : المعنى لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم ؛ عن الحسن وغيره ، واختاره الزجاج قال : لأن هذا الاستنباط الأكثر يعرفه ؛ لأنه استعلام خبر . واختار الأول الفراء قال : لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره ، والإذاعة تكون في بعض دون بعض . قال الكلبي عنه : فلذلك استحسنت [ ص: 252 ] الاستثناء من الإذاعة . قال النحاس : فهذان قولان على المجاز ، يريد أن في الكلام تقديما وتأخيرا . وقول ثالث بغير مجاز : يكون المعنى ولولا فضل الله عليكم ورحمته بأن بعث فيكم رسولا أقام فيكم الحجة لكفرتم وأشركتم إلا قليلا منكم فإنه كان يوحد . وفيه قول رابع - قال الضحاك : المعنى لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ، أي إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حدثوا أنفسهم بأمر من الشيطان إلا قليلا ، يعني الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . وعلى هذا القول يكون قوله إلا قليلا مستثنى من قوله لاتبعتم الشيطان . قال المهدوي : وأنكر هذا القول أكثر العلماء ، إذ لولا فضل الله ورحمته لاتبع الناس كلهم الشيطان .
قوله تعالى : فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا

قوله تعالى : فقاتل في سبيل الله هذه الفاء متعلقة بقوله ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما فقاتل في سبيل الله أي من أجل هذا فقاتل . وقيل : هي متعلقة بقوله : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله . فقاتل . كأن هذا المعنى : لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك ؛ لأنه وعده بالنصر . قال الزجاج : أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده ؛ لأنه قد ضمن له النصرة . قال ابن عطية : " هذا ظاهر اللفظ ، إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة مدة ما ؛ فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه ؛ أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له ؛ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك . ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده ؛ ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي . وقول أبي بكر وقت الردة : ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي . وقيل : إن هذه الآية نزلت في موسم بدر الصغرى ؛ فإن أبا سفيان لما انصرف من أحد واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم موسم بدر الصغرى ؛ فلما جاء الميعاد خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا فلم يحضر أبو سفيان ولم يتفق قتال . وهذا على معنى ما قاله مجاهد كما تقدم في " آل عمران " . ووجه النظم على هذا والاتصال بما قبل أنه وصف المنافقين بالتخليط وإيقاع [ ص: 253 ] الأراجيف ، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وبالجد في القتال في سبيل الله وإن لم يساعده أحد على ذلك .

قوله تعالى : لا تكلف إلا نفسك ( تكلف ) مرفوع لأنه مستقبل ، ولم يجزم لأنه ليس علة للأول . وزعم الأخفش أنه يجوز جزمه . " إلا نفسك " خبر ما لم يسم فاعله ؛ والمعنى لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به .

قوله تعالى : وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : وحرض المؤمنين أي حضهم على الجهاد والقتال . يقال : حرضت فلانا على كذا إذا أمرته به . وحارض فلان على الأمر وأكب وواظب بمعنى واحد .

الثانية : قوله تعالى : عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا إطماع ، والإطماع من الله عز وجل واجب . على أن الطمع قد جاء في كلام العرب على الوجوب ؛ ومنه قوله تعالى : والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين . وقال ابن مقبل :


ظني بهم كعسى وهم بتنوفة يتنازعون جوائز الأمثال
قوله تعالى : والله أشد بأسا أي صولة وأعظم سلطانا وأقدر بأسا على ما يريده . وأشد تنكيلا أي عقوبة ؛ عن الحسن وغيره . قال ابن دريد : رماه الله بنكلة ، أي رماه بما ينكله . قال : ونكلت بالرجل تنكيلا من النكال . والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان . قال :


وارم على أقفائهم بمنكل بصخرة أو عرض جيش جحفل


الثالثة : إن قال قائل : نحن نرى الكفار في بأس وشدة ، وقلتم : إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد ؟ قيل له : قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد ؛ فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى ، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال وكفى الله المؤمنين القتال وبالحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة ، ففطن بهم المسلمون فخرجوا فأخذوهم أسرى ، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح ، وهو المراد بقوله تعالى : وهو الذي كف أيديهم عنكم على ما يأتي . وقد ألقى الله في قلوب الأحزاب الرعب وانصرفوا من غير قتل ولا قتال ؛ كما قال تعالى [ ص: 254 ] وكفى الله المؤمنين القتال . وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم ، فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين ، مع أنه قد دخل من اليهود والنصارى العدد الكثير والجم الغفير تحت الجزية صاغرين وتركوا المحاربة داخرين ، فكف الله بأسهم عن المؤمنين . والحمد لله رب العالمين .
قوله تعالى : من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : من يشفع أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد ؛ ومنه الشفيع ؛ لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا . ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة . وناقة شفيع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها . والشفع ضم واحد إلى واحد . والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك ؛ فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك ، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له .

الثانية : واختلف المتأولون في هذه الآية ؛ فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم ؛ فمن يشفع لينفع فله نصيب ، ومن يشفع ليضر فله كفل . وقيل : الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة ، والسيئة في المعاصي . فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر ، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم ، وهذا قريب من الأول . وقيل : يعني بالشفاعة الحسنة الدعاء للمسلمين ، والسيئة الدعاء عليهم . وفي صحيح الخبر : ( من دعا بظهر الغيب استجيب له وقال الملك آمين ولك بمثل ) . هذا هو النصيب ، وكذلك في الشر ؛ بل يرجع شؤم دعائه عليه . وكانت اليهود تدعو على المسلمين . وقيل : المعنى من يكن شفعا لصاحبه في الجهاد يكن له نصيبه من الأجر ، ومن يكن شفعا لآخر في باطل يكن له نصيبه من الوزر . وعن الحسن أيضا : الحسنة ما يجوز في الدين ، والسيئة ما لا يجوز فيه . وكأن هذا القول جامع . والكفل الوزر والإثم ؛ عن الحسن وقتادة . السدي وابن زيد هو النصيب . واشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط . يقال : اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه . ويقال له : اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر [ ص: 255 ] كله بل استعمل نصيبا من الظهر . ويستعمل في النصيب من الخير والشر ، وفي كتاب الله تعالى يؤتكم كفلين من رحمته . والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يشفع ؛ لأنه تعالى قال من يشفع ولم يقل يشفع . وفي صحيح مسلم اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب .

الثالثة : قوله تعالى : وكان الله على كل شيء مقيتا ( مقيتا ) معناه مقتدرا ؛ ومنه قول الزبير بن عبد المطلب :


وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا
أي قديرا . فالمعنى إن الله تعالى يعطي كل إنسان قوته ؛ ومنه قوله عليه السلام : كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت . على من رواه هكذا ، أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره ؛ ذكره ابن عطية . يقول منه : قته أقوته قوتا ، وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت . وحكى الكسائي : أقات يقيت . وأما قول الشاعر :

. . . إني على الحساب مقيت فقال فيه الطبري : إنه من غير هذا المعنى المتقدم ، وإنه بمعنى الموقوف . وقال أبو عبيدة : المقيت الحافظ . وقال الكسائي : المقيت المقتدر . وقال النحاس : وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت ، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان . وقال الفراء : المقيت الذي يعطي كل رجل قوته . وجاء في الحديث : كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت و " يقيت " ذكره الثعلبي : وحكى ابن فارس في المجمل : المقيت المقتدر ، والمقيت الحافظ والشاهد ، وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة . والله أعلم .
قوله تعالى : وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا

[ ص: 256 ] فيه اثنتا عشرة مسألة :

الأولى : قوله تعالى : وإذا حييتم بتحية التحية تفعلة من حييت ؛ الأصل تحيية مثل ترضية وتسمية ، فأدغموا الياء في الياء . والتحية السلام . وأصل التحية الدعاء بالحياة . والتحيات لله ، أي السلام من الآفات . وقيل : الملك . قال عبد الله بن صالح العجلي : سألت الكسائي عن قوله " التحيات لله " ما معناه ؟ فقال : التحيات مثل البركات ؛ فقلت : ما معنى البركات ؟ فقال : ما سمعت فيها شيئا . وسألت عنها محمد بن الحسن فقال : هو شيء تعبد الله به عباده . فقدمت الكوفة فلقيت عبد الله بن إدريس فقلت : إني سألت الكسائي ومحمدا عن قول " التحيات لله " فأجاباني بكذا وكذا ؛ فقال عبد الله بن إدريس : إنهما لا علم لهما بالشعر وبهذه الأشياء ؟ ! التحية الملك ؛ وأنشد الشاعر عمرو بن معدي كرب :


أؤم بها أبا قابوس حتى أنيخ على تحيته بجندي
وأنشد ابن خويز منداد :


أسير به إلى النعمان حتى أنيخ على تحيته بجندي
يريد على ملكه . وقال آخر :


ولكل ما نال الفتى قد نلته إلا التحيه
وقال القتبي : إنما قال " التحيات لله " على الجمع ؛ لأنه كان في الأرض ملوك يحيون بتحيات مختلفات ؛ فيقال لبعضهم : أبيت اللعن ، ولبعضهم : اسلم وانعم ، ولبعضهم : عش ألف سنة . فقيل لنا : قولوا التحيات لله ؛ أي الألفاظ التي تدل على الملك ، ويكنى بها عنه لله تعالى . ووجه النظم بما قبل أنه قال : إذا خرجتم للجهاد كما سبق به الأمر فحييتم في سفركم بتحية الإسلام ، فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ، بل ردوا جواب السلام ؛ فإن أحكام الإسلام تجري عليهم .

الثانية : واختلف العلماء في معنى الآية وتأويلها ؛ فروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أن هذه الآية في تشميت العاطس والرد على المشمت . وهذا ضعيف ؛ إذ ليس في الكلام دلالة على ذلك ، أما الرد على المشمت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية ، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك عنه . والله أعلم . وقال ابن خويز منداد : وقد يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب ؛ فمن وهب له هبة على الثواب فهو بالخيار إن شاء ردها وإن شاء قبلها وأثاب عليها قيمتها .

[ ص: 257 ] قلت : ونحو هذا قال أصحاب أبي حنيفة ، قالوا : التحية هنا الهدية ؛ لقوله تعالى : أو ردوها ولا يمكن رد السلام بعينه . وظاهر الكلام يقتضي أداء التحية بعينها وهي الهدية ، فأمر بالتعويض إن قبل أو الرد بعينه ، وهذا لا يمكن في السلام . وسيأتي بيان حكم الهبة للثواب والهدية في سورة " الروم " عند قوله : وما آتيتم من ربا إن شاء الله تعالى . والصحيح أن التحية هاهنا السلام ؛ لقوله تعالى : وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله . وقال النابغة الذبياني :


تحييهم بيض الولائد بينهم وأكسية الإضريج فوق المشاجب
أراد : ويسلم عليهم . وعلى هذا جماعة المفسرين . وإذا ثبت هذا وتقرر ففقه الآية أن يقال : أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها ، ورده فريضة ؛ لقوله تعالى : فحيوا بأحسن منها أو ردوها . واختلفوا إذا رد واحد من جماعة هل يجزئ أو لا ؛ فذهب مالك والشافعي إلى الإجزاء ، وأن المسلم قد رد عليه مثل قوله . وذهب الكوفيون إلى أن رد السلام من الفروض المتعينة ؛ قالوا : والسلام خلاف الرد ؛ لأن الابتداء به تطوع ورده فريضة . ولو رد غير المسلم عليهم لم يسقط ذلك عنهم فرض الرد ، فدل على أن رد السلام يلزم كل إنسان بعينه ؛ حتى قال قتادة والحسن : إن المصلي يرد السلام كلاما إذا سلم عليه ولا يقطع ذلك عليه صلاته ؛ لأنه فعل ما أمر به . والناس على خلافه . احتج الأولون بما رواه أبو داود عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يجزئ من الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم . وهذا نص في موضع الخلاف . قال أبو عمر : وهو حديث حسن لا معارض له ، وفي إسناده سعيد بن خالد ، وهو سعيد بن خالد الخزاعي مدني ليس به بأس عند بعضهم ؛ وقد ضعفه بعضهم منهم أبو زرعة وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وجعلوا حديثه هذا منكرا ؛ لأنه انفرد فيه بهذا الإسناد ؛ على أن عبد الله بن الفضل لم يسمع من عبيد الله بن أبي رافع ؛ بينهما الأعرج في غير ما حديث . والله أعلم . واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام : يسلم القليل على الكثير . ولما أجمعوا على أن الواحد يسلم على الجماعة ولا يحتاج إلى تكريره على عداد الجماعة ، كذلك يرد الواحد عن الجماعة وينوب عن الباقين كفروض الكفاية . وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم . قال علماؤنا : وهذا يدل على أن الواحد يكفي في الرد ؛ لأنه لا يقال أجزأ عنهم إلا فيما قد وجب . والله أعلم .

[ ص: 258 ] قلت : هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد ؛ وفيه قلق .

الثالثة : قوله تعالى : فحيوا بأحسن منها أو ردوها رد الأحسن أن يزيد فيقول : عليك السلام ورحمة الله ؛ لمن قال : سلام عليك . فإن قال : سلام عليك ورحمة الله ؛ زدت في ردك : " وبركاته " . وهذا هو النهاية فلا مزيد . قال الله تعالى مخبرا عن البيت الكريم رحمة الله وبركاته على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . فإن انتهى بالسلام غايته ، زدت في ردك الواو في أول كلامك فقلت : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته . والرد بالمثل أن تقول لمن قال السلام عليك : عليك السلام ، إلا أنه ينبغي أن يكون السلام كله بلفظ الجماعة ، وإن كان المسلم عليه واحدا . روى الأعمش عن إبراهيم النخعي قال : إذا سلمت على الواحد فقل : السلام عليكم ، فإن معه الملائكة . وكذلك الجواب يكون بلفظ الجمع ؛ قال ابن أبي زيد : يقول المسلم : السلام عليكم ، ويقول الراد : وعليكم السلام ، أو يقول : السلام عليكم كما قيل له ؛ وهو معنى قوله أو ردوها ولا تقل في ردك : سلام عليك .

الرابعة : والاختيار في التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق ؛ قال الله تعالى : سلام على إل ياسين . وقال في قصة إبراهيم عليه السلام : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت . وقال مخبرا عن إبراهيم : سلام عليك . وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خلق الله عز وجل آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك - قال - فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله - قال - فزادوه ورحمة الله - قال - فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن .

قلت : فقد جمع هذا الحديث مع صحته فوائد سبعا : الأولى : الإخبار عن صفة خلق آدم . الثانية : أنا ندخل الجنة عليها بفضله . الثالثة : تسليم القليل على الكثير . الرابعة : تقديم اسم الله تعالى . الخامسة : الرد بالمثل لقولهم : السلام عليكم . السادسة : الزيادة في الرد . السابعة : إجابة الجميع بالرد كما يقول الكوفيون . والله أعلم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #247  
قديم 09-02-2023, 04:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,356
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 259 الى صــ 266
الحلقة (247)




[ ص: 259 ] الخامسة : فإن رد فقدم اسم المسلم عليه لم يأت محرما ولا مكروها ؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال للرجل الذي لم يحسن الصلاة وقد سلم عليه : وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصل . وقالت عائشة : وعليه السلام ورحمة الله ؛ حين أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل يقرأ عليها السلام . أخرجه البخاري . وفي حديث عائشة من الفقه أن الرجل إذا أرسل إلى رجل بسلامه فعليه أن يرد . كما يرد عليه إذا شافهه . وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبي يقرئك السلام ؛ فقال : عليك وعلى أبيك السلام . وقد روى النسائي وأبو داود من حديث جابر بن سليم قال : لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : عليك السلام يا رسول الله ؛ فقال : لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ولكن قل السلام عليك . وهذا الحديث لا يثبت ؛ إلا أنه لما جرت عادة العرب بتقديم اسم المدعو عليه في الشر كقولهم : عليه لعنة الله وغضب الله . قال الله تعالى : وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين . وكان ذلك أيضا دأب الشعراء وعادتهم في تحية الموتى ؛ كقولهم :


عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
وقال آخر وهو الشماخ :


عليك سلام من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق
نهاه عن ذلك ، لا أن ذاك هو اللفظ المشروع في حق الموتى ؛ لأنه عليه السلام ثبت عنه أنه سلم على الموتى كما سلم على الأحياء فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون . فقالت عائشة : قلت يا رسول الله ، كيف أقول إذا دخلت المقابر ؟ قال : قولي السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين الحديث ؛ وسيأتي في سورة " ألهاكم " إن شاء الله تعالى .

قلت : وقد يحتمل أن يكون حديث عائشة وغيره في السلام على أهل القبور جميعهم إذا دخلها وأشرف عليها ، وحديث جابر بن سليم خاص بالسلام على المرور المقصود بالزيارة . والله أعلم .

[ ص: 260 ] السادسة : من السنة تسليم الراكب على الماشي ، والقائم على القاعد ، والقليل على الكثير ؛ هكذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يسلم الراكب فذكره فبدأ بالراكب لعلو مرتبته ؛ ولأن ذلك أبعد له من الزهو ، وكذلك قيل في الماشي مثله . وقيل : لما كان القاعد على حال وقار وثبوت وسكون فله مزية بذلك على الماشي ؛ لأن حاله على العكس من ذلك . وأما تسليم القليل على الكثير فمراعاة لشرفية جمع المسلمين وأكثريتهم . وقد زاد البخاري في هذا الحديث ( ويسلم الصغير على الكبير ) . وأما تسليم الكبير على الصغير فروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى التسليم على الصبيان ؛ قال : لأن الرد فرض والصبي لا يلزمه الرد فلا ينبغي أن يسلم عليهم . وروي عن ابن سيرين أنه كان يسلم على الصبيان ولكن لا يسمعهم . وقال أكثر العلماء : التسليم عليهم أفضل من تركه . وقد جاء في الصحيحين عن سيار قال : كنت أمشي مع ثابت فمر بصبيان فسلم عليهم ، وذكر أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم ، وحدث أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بصبيان فسلم عليهم . لفظ مسلم . وهذا من خلقه العظيم صلى الله عليه وسلم ، وفيه تدريب للصغير وحض على تعليم السنن ورياضة لهم على آداب الشريعة فيه ؛ فلتقتد .

السابعة : وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين . وأما المتجالات والعجز فحسن للأمن فيما ذكرناه ؛ هذا قول عطاء وقتادة ، وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء . ومنعه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم وقالوا : لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن رد السلام فلا يسلم عليهن . والصحيح الأول لما خرجه البخاري عن سهل بن سعد قال : كنا نفرح بيوم الجمعة . قلت ولم ؟ قال : كانت لنا عجوز ترسل إلي بضاعة - قال ابن مسلمة : نخل بالمدينة - فتأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير ، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله : وما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة . تكركر أي تطحن ؛ قاله القتبي .

الثامنة : والسنة في السلام والجواب الجهر ؛ ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي ، وعندنا تكفي إذا كان على بعد ؛ روى ابن وهب عن ابن مسعود قال : السلام اسم من أسماء الله عز وجل وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم ؛ فإن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم ، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم [ ص: 261 ] وأطيب . وروى الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث قال : إذا سلم الرجل على القوم كان له فضل درجة ، فإن لم يردوا عليه ردت عليه الملائكة ولعنتهم . فإذا رد المسلم عليه أسمع جوابه ؛ لأنه إذا لم يسمع المسلم لم يكن جوابا له ؛ ألا ترى أن المسلم إذا سلم بسلام لم يسمعه المسلم عليه لم يكن ذلك منه سلاما ، فكذلك إذا أجاب بجواب لم يسمع منه فليس بجواب . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا سلمتم فأسمعوا وإذا رددتم فأسمعوا وإذا قعدتم فاقعدوا بالأمانة ولا يرفعن بعضكم حديث بعض . قال ابن وهب : وأخبرني أسامة بن زيد عن نافع قال : كنت أساير رجلا من فقهاء الشام يقال له عبد الله بن زكريا فحبستني دابتي تبول ، ثم أدركته ولم أسلم عليه ؛ فقال : ألا تسلم ؟ فقلت : إنما كنت معك آنفا ؛ فقال : وإن صح ؛ لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسايرون فيفرق بينهم الشجر فإذا التقوا سلم بعضهم على بعض .

التاسعة : وأما الكافر فحكم الرد عليه أن يقال له : وعليكم . قال ابن عباس وغيره : المراد بالآية : وإذا حييتم بتحية فإذا كانت من مؤمن فحيوا بأحسن منها وإن كانت من كافر فردوا على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال لهم : ( وعليكم ) . وقال عطاء : الآية في المؤمنين خاصة ، ومن سلم من غيرهم قيل له : عليك ؛ كما جاء في الحديث .

قلت : فقد جاء إثبات الواو وإسقاطها في صحيح مسلم ( عليك ) بغير واو وهي الرواية الواضحة المعنى ، وأما مع إثبات الواو ففيها إشكال ؛ لأن الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سآمة ديننا ؛ فاختلف المتأولون لذلك على أقوال : أولاها أن يقال : إن الواو على بابها من العطف ، غير أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا ، كما قال صلى الله عليه وسلم . وقيل : هي زائدة . وقيل : للاستئناف . والأولى أولى . ورواية حذف الواو أحسن معنى وإثباتها أصح رواية وأشهر ، وعليها من العلماء الأكثر .

العاشرة : واختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين ؛ وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة تمسكا بعموم الآية وبالأمر بالرد عليهم في صحيح السنة . وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب ؛ فإن رددت فقل : عليك . واختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم : علاك السلام . أي ارتفع عنك . واختار بعض علمائنا السلام ( بكسر السين ) يعني به الحجارة . وقول مالك وغيره في ذلك كاف شاف كما جاء في الحديث ، وسيأتي في سورة " مريم " القول في ابتدائهم بالسلام عند قوله [ ص: 262 ] تعالى إخبارا عن إبراهيم في قوله لأبيه سلام عليك . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم . وهذا يقتضي إفشاءه بين المسلمين دون المشركين . والله أعلم .

الحادية عشرة : ولا يسلم على المصلي فإن سلم عليه فهو بالخيار إن شاء رد بالإشارة بإصبعه وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يرد . ولا ينبغي أن يسلم على من يقضي حاجته فإن فعل لم يلزمه أن يرد عليه . دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحال فقال له : إذا وجدتني أو رأيتني على هذه الحال فلا تسلم علي فإنك إن سلمت علي لم أرد عليك . ولا يسلم على من يقرأ القرآن فيقطع عليه قراءته ، وهو بالخيار إن شاء رد وإن شاء أمسك حتى يفرغ ثم يرد ، ولا يسلم على من دخل الحمام وهو كاشف العورة ، أو كان مشغولا بما له دخل بالحمام ، ومن كان بخلاف ذلك سلم عليه .

الثانية عشرة : قوله تعالى : إن الله كان على كل شيء حسيبا معناه حفيظا . وقيل : كافيا ؛ من قولهم : أحسبني كذا أي كفاني ، ومثله حسبك الله . وقال قتادة : محاسبا كما يقال : أكيل بمعنى مواكل . وقيل : هو فعيل من الحساب ، وحسنت هذه الصفة هنا ؛ لأن معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجيء به . روى النسائي عن عمران بن حصين قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فسلم ، فقال : السلام عليكم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : عشر ، ثم جلس ، ثم جاء آخر فسلم فقال : السلام عليكم ورحمة الله ؛ فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : عشرون ، ثم جلس وجاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ثلاثون . وقد جاء هذا الخبر مفسرا وهو أن من قال لأخيه المسلم : سلام عليكم كتب له عشر حسنات ، فإن قال : السلام عليكم ورحمة الله كتب له عشرون حسنة . فإن قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له ثلاثون حسنة ، وكذلك لمن رد من الأجر . والله أعلم .
قوله تعالى : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا

[ ص: 263 ] قوله تعالى : الله لا إله إلا هو ابتداء وخبر . واللام في قوله ليجمعنكم لام القسم ؛ نزلت في الذين شكوا في البعث فأقسم الله تعالى بنفسه . وكل لام بعدها نون مشددة فهو لام القسم . ومعناه في الموت وتحت الأرض إلى يوم القيامة وقال بعضهم : إلى صلة في الكلام ، معناه ليجمعنكم يوم القيامة . وسميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين جل وعز ؛ قال الله تعالى : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين . وقيل : سمي يوم القيامة لأن الناس يقومون من قبورهم إليها ؛ قال الله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا وأصل القيامة الواو . ومن أصدق من الله حديثا نصب على البيان ، والمعنى لا أحد أصدق من الله . وقرأ حمزة والكسائي " ومن أزدق " بالزاي . الباقون : بالصاد ، وأصله الصاد إلا أن لقرب مخرجها جعل مكانها زاي .
فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا

قوله تعالى : فما لكم في المنافقين فئتين فئتين أي فرقتين مختلفتين . روى مسلم عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كان معه ، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين ؛ فقال بعضهم : نقتلهم . وقال بعضهم : لا ؛ فنزلت فما لكم في المنافقين فئتين . وأخرجه الترمذي فزاد : وقال : ( إنها طيبة ) وقال : ( إنها تنفي الخبيث كما تنفي النار خبث الحديد ) قال : حديث حسن صحيح . وقال البخاري : ( إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة ) . والمعني بالمنافقين هنا عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا ؛ كما تقدم في " آل عمران " . وقال ابن عباس : هم قوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة ، قال الضحاك : وقالوا إن ظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد عرفنا ، وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا . فصار المسلمون فيهم فئتين قوم يتولونهم وقوم يتبرءون منهم ؛ فقال الله عز وجل : فما لكم في المنافقين فئتين . وذكر أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أنها نزلت في قوم جاءوا إلى المدينة وأظهروا الإسلام ؛ فأصابهم [ ص: 264 ] وباء المدينة وحماها ؛ فأركسوا فخرجوا من المدينة ، فاستقبلهم نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما لكم رجعتم ؟ فقالوا : أصابنا وباء المدينة فاجتويناها ؛ فقالوا : ما لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة ؟ فقال بعضهم : نافقوا . وقال بعضهم : لم ينافقوا ، هم مسلمون ؛ فأنزل الله عز وجل : فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا الآية . حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ، ثم ارتدوا بعد ذلك ، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها ، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون ؛ فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم .

قلت : وهذان القولان يعضدهما سياق آخر الآية من قوله تعالى : حتى يهاجروا ، والأول أصح نقلا ، وهو اختيار البخاري ومسلم والترمذي . وفئتين نصب على الحال ؛ كما يقال : ما لك قائما ؟ عن الأخفش . وقال الكوفيون : هو خبر ( ما لكم ) كخبر كان وظننت ، وأجازوا إدخال الألف واللام فيه وحكى الفراء : " أركسهم ، وركسهم " أي ردهم إلى الكفر ونكسهم ؛ وقاله النضر بن شميل والكسائي : والركس والنكس قلب الشيء على رأسه ، أو رد أوله على آخره ، والمركوس المنكوس . وفي قراءة عبد الله وأبي رضي الله عنهما " والله ركسهم " . وقال ابن رواحة :


أركسوا في فتنة مظلمة كسواد الليل يتلوها فتن
أي نكسوا . وارتكس فلان في أمر كان نجا منه . والركوسية قوم بين النصارى والصابئين . والراكس الثور وسط البيدر والثيران حواليه حين الدياس . أتريدون أن تهدوا من أضل الله أي ترشدوه إلى الثواب بأن يحكم لهم بحكم المؤمنين . تجد له سبيلا أي طريقا إلى الهدى والرشد وطلب الحجة . وفي هذا رد على القدرية وغيرهم القائلين بخلق هداهم وقد تقدم .
[ ص: 265 ] ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا فيه خمس مسائل :

الأولى : ودوا لو تكفرون أي تمنوا أن تكونوا كهم في الكفر والنفاق شرع سواء ؛ فأمر الله تعالى بالبراءة منهم فقال : فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا ؛ كما قال تعالى : ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا والهجرة أنواع : منها الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت هذه واجبة أول الإسلام حتى قال : لا هجرة بعد الفتح . وكذلك هجرة المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات ، وهجرة من أسلم في دار الحرب فإنها واجبة . وهجرة المسلم ما حرم الله عليه ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه . وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن . وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم فلا يكلمون ولا يخالطون حتى يتوبوا ؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كعب وصاحبيه .فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم يقول : إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم . حيث وجدتموهم عام في الأماكن من حل وحرم . والله أعلم . ثم استثنى وهي

الثانية : فقال إلا الذين يصلون أي يتصلون بهم ويدخلون فيما بينهم من الجوار والحلف ؛ المعنى : فلا تقتلوا قوما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد فإنهم على عهدهم ثم انتسخت العهود فانتسخ هذا . هذا قول مجاهد وابن زيد وغيرهم ، وهو أصح ما قيل في معنى الآية . قال أبو عبيد : يصلون ينتسبون ؛ ومنه قول الأعشى :

[ ص: 266 ]
إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل وبكر سبتها والأنوف رواغم
يريد إذا انتسبت . قال المهدوي : وأنكره العلماء ؛ لأن النسب لا يمنع من قتال الكفار وقتلهم . وقال النحاس : وهذا غلط عظيم ؛ لأنه يذهب إلى أن الله تعالى حظر أن يقاتل أحد بينه وبين المسلمين نسب ، والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الأولين أنساب ، وأشد من هذا الجهل بأنه كان ثم نسخ ؛ لأن أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له " براءة " وإنما نزلت " براءة " بعد الفتح وبعد أن انقطعت الحروب . وقال معناه الطبري .

قلت : حمل بعض العلماء معنى ينتسبون على الأمان ؛ أي إن المنتسب إلى أهل الأمان آمن إذا أمن الكل منهم ، لا على معنى النسب الذي هو بمعنى القرابة . واختلف في هؤلاء الذين كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق ؛ فقيل : بنو مدلج . عن الحسن : كان بينهم وبين قريش عقد ، وكان بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد . وقال عكرمة : نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد . وقيل : خزاعة . وقال الضحاك عن ابن عباس : أنه أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة ، كانوا في الصلح والهدنة .

الثالثة : في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين ، على ما يأتي بيانه في " الأنفال " " وبراءة " إن شاء الله تعالى .

الرابعة : أو جاءوكم حصرت صدورهم أي ضاقت . وقال لبيد :


أسهلت وانتصبت كجذع منيفة جرداء يحصر دونها جرامها
أي تضيق صدورهم من طول هذه النخلة ؛ ومنه الحصر في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم . والحصر الكتوم للسر ؛ قال جرير :


ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا حصرا بسرك يا أميم ضنينا




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #248  
قديم 09-02-2023, 04:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,356
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 267 الى صــ 274
الحلقة (248)



ومعنى " حصرت " " قد حصرت " فأضمرت " قد " ، قال الفراء : وهو حال من المضمر المرفوع في جاءوكم كما تقول : جاء فلان ذهب عقله ، أي قد ذهب عقله . وقيل : هو خبر بعد خبر قاله الزجاج . أي جاءوكم ثم أخبر فقال : حصرت صدورهم فعلى هذا يكون حصرت بدلا من جاءوكم كما قيل : حصرت في موضع خفض على النعت لقوم . وفي حرف أبي " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم " ليس فيه أو جاءوكم . وقيل : تقديره أو جاءوكم رجالا أو قوما حصرت صدورهم ؛ فهي صفة [ ص: 267 ] موصوف منصوب على الحال . وقرأ الحسن " أو جاءوكم حصرة صدورهم " نص على الحال ، ويجوز رفعه على الابتداء والخبر . وحكى " أو جاءوكم حصرات صدورهم " ، ويجوز الرفع . وقال محمد بن يزيد : حصرت صدورهم هو دعاء عليهم ؛ كما تقول : لعن الله الكافر ؛ وقاله المبرد . وضعفه بعض المفسرين وقال : هذا يقتضي ألا يقاتلوا قومهم ؛ وذلك فاسد ؛ لأنهم كفار وقومهم كفار . وأجيب بأن معناه صحيح ، فيكون عدم القتال في حق المسلمين تعجيزا لهم ، وفي حق قومهم تحقيرا لهم . وقيل : أو بمعنى الواو ؛ كأنه يقول : إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقة صدورهم عن قتالكم والقتال معكم فكرهوا قتال الفريقين . ويحتمل أن يكونوا معاهدين على ذلك فهو نوع من العهد ، أو قالوا نسلم ولا نقاتل ؛ فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للإسلام . والأول أظهر . والله أعلم . أو يقاتلوا في موضع نصب ؛ أي عن أن يقاتلوكم .

الخامسة : قوله تعالى : ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يقدرهم على ذلك ويقويهم إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي ، وإما ابتلاء واختبارا كما قال تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ، وإما تمحيصا للذنوب كما قال تعالى : وليمحص الله الذين آمنوا ولله أن يفعل ما يشاء ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء . ووجه النظم والاتصال بما قبل أي اقتلوا المنافقين الذين اختلفتم فيهم إلا أن يهاجروا ، وإلا أن يتصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم ، وإلا الذين جاءوكم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم .
قوله : ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا

قوله تعالى : ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم معناها معنى الآية الأولى . قال قتادة : نزلت في قوم من تهامة طلبوا الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده وعند قومهم .

[ ص: 268 ] مجاهد : هي في قوم من أهل مكة . وقال السدي : نزلت في نعيم بن مسعود كان يأمن المسلمين والمشركين . وقال الحسن : هذا في قوم من المنافقين . وقيل : نزلت في أسد وغطفان قدموا المدينة فأسلموا ثم رجعوا إلى ديارهم فأظهروا الكفر .

قوله تعالى : كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها قرأ يحيى بن وثاب والأعمش " ردوا " بكسر الراء ؛ لأن الأصل " رددوا " فأدغم وقلبت الكسرة على الراء . إلى الفتنة أي الكفر أركسوا فيها . وقيل : أي ستجدون من يظهر لكم الصلح ليأمنوكم ، وإذا سنحت لهم فتنة كان مع أهلها عليكم . ومعنى أركسوا فيها أي انتكسوا عن عهدهم الذين عاهدوا . وقيل : أي إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه .
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما

فيه عشرون مسألة :

قوله تعالى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ هذه آية من أمهات الأحكام . والمعنى ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ؛ فقوله : " وما كان " ليس على النفي وإنما هو على التحريم والنهي ، كقوله : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط ؛ لأن ما نفاه الله فلا يجوز وجوده ، كقوله تعالى : ما كان لكم أن تنبتوا شجرها . فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها أبدا . وقال قتادة : المعنى ما كان له ذلك في عهد الله . وقيل : ما كان له ذلك فيما سلف ، كما ليس له الآن ذلك بوجه ، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول وهو الذي يكون فيه " إلا " بمعنى " لكن " والتقدير ما كان [ ص: 269 ] له أن يقتله ألبتة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا ؛ هذا قول سيبويه والزجاج رحمهما الله . ومن الاستثناء المنقطع قوله تعالى : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن : وقال النابغة :


وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
فلما لم تكن " الأواري " من جنس أحد حقيقة لم تدخل في لفظه . ومثله قول الآخر أبو خراش الهذلي :


أمسى سقام خلاء لا أنيس به إلا السباع ومر الريح بالغرف
وقال آخر :


وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
وقال آخر :


وبعض الرجال نخلة لا جنى لها ولا ظل إلا أن تعد من النخل
أنشده سيبويه ؛ ومثله كثير ، ومن أبدعه قول جرير :


من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ على الأرض إلا ذيل مرط مرحل
كأنه قال : لم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد . ونزلت الآية بسبب قتل عياش بن أبي ربيعة الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة العامري لحنة كانت بينهما ، فلما هاجر الحارث مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر بإسلامه ، فلما أخبر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنه قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت ، ولم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت الآية . وقيل : هو استثناء متصل ، أي وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ولا يقتص منه إلا أن يكون خطأ ؛ فلا يقتص منه ؛ ولكن فيه كذا وكذا . ووجه آخر وهو أن يقدر كان بمعنى استقر ووجد ؛ كأنه قال : وما وجد [ ص: 270 ] وما تقرر وما ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحيانا ؛ فيجيء الاستثناء على هذين التأويلين غير منقطع . وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد وبشاعة شأنه ؛ كما تقول : ما كان لك يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيا ؟ إعظاما للعمد والقصد مع حظر الكلام به ألبتة .

وقيل : المعنى ولا خطأ . قال النحاس : ولا يجوز أن تكون إلا بمعنى الواو ، ولا يعرف ذلك في كلام العرب ولا يصح في المعنى ؛ لأن الخطأ لا يحظر . ولا يفهم من دليل خطابه جواز قتل الكافر المسلم فإن المسلم محترم الدم ، وإنما خص المؤمن بالذكر تأكيدا لحنانه وأخوته وشفقته وعقيدته . وقرأ الأعمش " خطاء " ممدودا في المواضع الثلاثة . ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى يربطها عدم القصد ؛ مثل أن يرمي صفوف المشركين فيصيب مسلما . أو يسعى بين يديه من يستحق القتل من زان أو محارب أو مرتد فطلبه ليقتله فلقي غيره فظنه هو فقتله فذلك خطأ . أو يرمي إلى غرض فيصيب إنسانا أو ما جرى مجراه ؛ وهذا مما لا خلاف فيه . والخطأ اسم من أخطأ خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمد ؛ فالخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء . ويقال لمن أراد شيئا ففعل غيره : أخطأ ، ولمن فعل غير الصواب : أخطأ . قال ابن المنذر : قال الله تبارك وتعالى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إلى قوله تعالى : ودية مسلمة إلى أهله فحكم الله جل ثناؤه في المؤمن يقتل خطأ بالدية ، وثبتت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأجمع أهل العلم على القول به .

الثانية : ذهب داود إلى القصاص بين الحر والعبد في النفس ، وفي كل ما يستطاع القصاص فيه من الأعضاء ؛ تمسكا بقوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس إلى قوله تعالى : والجروح قصاص ، وقوله عليه السلام : المسلمون تتكافأ دماؤهم فلم يفرق بين حر وعبد ؛ وهو قول ابن أبي ليلى . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في النفس فيقتل الحر بالعبد ، كما يقتل العبد بالحر ، ولا قصاص بينهما في شيء من الجراح والأعضاء . وأجمع العلماء على أن قوله تعالى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ أنه لم يدخل فيه العبيد ، وإنما أريد به الأحرار دون العبيد ؛ فكذلك قوله عليه السلام : المسلمون تتكافأ دماؤهم أريد به الأحرار خاصة . والجمهور على ذلك وإذا لم يكن قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس فالنفس أحرى بذلك ؛ وقد مضى هذا في " البقرة " .

[ ص: 271 ] الثالثة : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة أي فعليه تحرير رقبة ؛ هذه الكفارة التي أوجبها الله تعالى في كفارة القتل والظهار أيضا على ما يأتي . واختلف العلماء فيما يجزئ منها ، فقال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم : الرقبة المؤمنة هي التي صلت وعقلت الإيمان ، لا تجزئ في ذلك الصغيرة ، وهو الصحيح في هذا الباب قال عطاء بن أبي رباح : يجزئ الصغير المولود بين مسلمين . وقال جماعة منهم مالك والشافعي : يجزئ كل من حكم له بحكم في الصلاة عليه إن مات ودفنه . وقال مالك : من صلى وصام أحب إلي . ولا يجزئ في قول كافة العلماء أعمى ولا مقعد ولا مقطوع اليدين أو الرجلين ولا أشلهما ، ويجزئ عند أكثرهم الأعرج والأعور . قال مالك : إلا أن يكون عرجا شديدا . ولا يجزئ عند مالك والشافعي وأكثر العلماء أقطع إحدى اليدين أو إحدى الرجلين ، ويجزئ عند أبي حنيفة وأصحابه . ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون المطبق ولا يجزئ عند مالك الذي يجن ويفيق ، ويجزئ عند الشافعي . ولا يجزئ عند مالك المعتق إلى سنين ، ويجزئ عند الشافعي . ولا يجزئ المدبر عند مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي ، ويجزئ في قول الشافعي وأبي ثور ، واختاره ابن المنذر . وقال مالك : لا يصح من أعتق بعضه ؛ لقوله تعالى : فتحرير رقبة . ومن أعتق البعض لا يقال حرر رقبة وإنما حرر بعضها . واختلفوا أيضا في معناها فقيل : أوجبت تمحيصا وطهورا لذنب القاتل ، وذنبه ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم . وقيل : أوجبت بدلا من تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل ، فإنه كان له في نفسه حق وهو التنعم بالحياة والتصرف فيما أحل له تصرف الأحياء . وكان لله سبحانه فيه حق ، وهو أنه كان عبدا من عباده يجب له من أمر العبودية صغيرا كان أو كبيرا حرا كان أو عبدا مسلما كان أو ذميا ما يتميز به عن البهائم والدواب ، ويرتجى مع ذلك أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه ، فلم يخل قاتله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا ، والمعنى الذي وصفنا ، فلذلك ضمن الكفارة . وأي واحد من هذين المعنيين كان ، ففيه بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ فالقاتل عمدا مثله ، بل أولى بوجوب الكفارة عليه منه ، على ما يأتي بيانه ، والله أعلم .

الرابعة : قوله تعالى : ودية مسلمة الدية ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه . مسلمة مدفوعة مؤداة ، ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدية ، وإنما في الآية إيجاب الدية مطلقا ، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل ، وإنما أخذ ذلك من السنة ، ولا شك أن إيجاب المواساة على العاقلة خلاف قياس الأصول في الغرامات وضمان المتلفات ، والذي وجب على العاقلة لم يجب تغليظا ، ولا أن وزر القاتل عليهم ولكنه مواساة محضة .

[ ص: 272 ] واعتقد أبو حنيفة أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل ديوانه . وثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الدية مائة من الإبل ، ووداها صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن سهل المقتول بخيبر لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن ، فكان ذلك بيانا على لسان نبيه عليه السلام لمجمل كتابه . وأجمع أهل العلم على أن على أهل الإبل مائة من الإبل واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإبل ؛ فقالت طائفة : على أهل الذهب ألف دينار ، وهم أهل الشام ومصر والمغرب ؛ هذا قول مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه ، في القديم . وروي هذا عن عمر وعروة بن الزبير وقتادة . وأما أهل الورق فاثنا عشر ألف درهم ، وهم أهل العراق وفارس وخراسان ؛ هذا مذهب مالك على ما بلغه عن عمر أنه قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم . وقال المزني : قال الشافعي الدية الإبل ؛ فإن أعوزت فقيمتها بالدراهم والدنانير على ما قومها عمر ألف دينار على أهل الذهب واثنا عشر ألف درهم على أهل الورق . وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري : الدية من الورق عشرة آلاف درهم . رواه الشعبي عن عبيدة عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألف شاة ، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة . قال أبو عمر : في هذا الحديث ما يدل على أن الدنانير والدراهم صنف من أصناف الدية لا على وجه البدل والقيمة ؛ وهو الظاهر من الحديث عن عثمان وعلي وابن عباس . وخالف أبو حنيفة ما رواه عن عمر في البقر والشاء والحلل . وبه قال عطاء وطاوس وطائفة من التابعين ، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين . قال ابن المنذر : وقالت طائفة : دية الحر المسلم مائة من الإبل لا دية غيرها كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم . هذا قول الشافعي وبه قال طاوس . قال ابن المنذر : دية الحر المسلم مائة من الإبل في كل زمان ، كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم . واختلفت الروايات عن عمر رضي الله عنه في أعداد الدراهم وما منها شيء يصح عنه لأنها مراسيل ، وقد عرفتك مذهب الشافعي وبه نقول .

الخامسة : واختلف الفقهاء في أسنان دية الإبل ؛ فروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل : ثلاثون بنت مخاض ، وثلاثون بنت لبون ، وثلاثون حقة ، وعشر بني لبون . قال الخطابي : هذا الحديث لا أعرف أحدا قال به من الفقهاء ، وإنما قال أكثر العلماء : دية الخطأ أخماس . كذا [ ص: 273 ] قال أصحاب الرأي والثوري ، وكذلك مالك وابن سيرين وأحمد بن حنبل إلا أنهم اختلفوا في الأصناف ؛ قال أصحاب الرأي وأحمد : خمس بنو مخاض ، وخمس بنات مخاض ، وخمس بنات لبون ، وخمس حقاق ، وخمس جذاع . وروي هذا القول عن ابن مسعود . وقال مالك والشافعي : خمس حقاق ، وخمس جذاع ، وخمس بنات لبون ، وخمس بنات مخاض ، وخمس بنو لبون . وحكي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة والليث بن سعد . قال الخطابي : ولأصحاب الرأي فيه أثر ، إلا أن راويه عبد الله بن خشف بن مالك وهو مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث . وعدل الشافعي عن القول به . لما ذكرنا من العلة في راويه ، ولأن فيه بني مخاض ولا مدخل لبني مخاض في شيء من أسنان الصدقات . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة القسامة أنه ودى قتيل خيبر مائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض . قال أبو عمر : وقد روى زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطأ أخماسا ، إلا أن هذا لم يرفعه إلا خشف بن مالك الكوفي الطائي وهو مجهول ؛ لأنه لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الطائي الجشمي من بني جشم بن معاوية أحد ثقات الكوفيين .

قلت : قد ذكر الدارقطني في سننه حديث خشف بن مالك من رواية حجاج بن أرطأة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ مائة من الإبل ؛ منها عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بني مخاض . قال الدارقطني : " هذا حديث ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث من وجوه عدة ؛ أحدها أنه مخالف لما رواه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه بالسند الصحيح عنه ، الذي لا مطعن فيه ولا تأويل عليه ، وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه وبمذهبه وفتياه من خشف بن مالك ونظرائه ، وعبد الله بن مسعود أتقى لربه وأشح على دينه من أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقضي بقضاء ويفتي هو بخلافه ؛ هذا لا يتوهم مثله على عبد الله بن مسعود وهو القائل في مسألة وردت عليه لم يسمع فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولم يبلغه عنه فيها قول : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله ورسوله ، وإن يكن خطأ فمني ؛ ثم بلغه بعد ذلك أن فتياه فيها وافق قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثلها ، فرآه أصحابه عند ذلك فرح فرحا شديدا لم يروه فرح مثله ، لموافقة فتياه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . فمن كانت هذه صفته وهذا حاله فكيف يصح عنه أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ويخالفه .

[ ص: 274 ] ووجه آخر : وهو أن الخبر المرفوع الذي فيه ذكر بني المخاض لا نعلمه رواه إلا خشف بن مالك عن ابن مسعود وهو رجل مجهول لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الجشمي وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف ، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان راويه عدلا مشهورا ، أو رجلا قد ارتفع عنه اسم الجهالة ، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعدا ؛ فإذا كانت هذه صفته ارتفع عنه حينئذ اسم الجهالة ، وصار حينئذ معروفا . فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد وانفرد بخبر وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه عليه غيره . والله أعلم .

ووجه آخر : وهو أن حديث خشف بن مالك لا نعلم أحدا رواه عن زيد بن جبير عنه إلا الحجاج بن أرطأة ، والحجاج رجل مشهور بالتدليس وبأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه ؛ وترك الرواية عنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعيسى بن يونس بعد أن جالسوه وخبروه ، وكفاك بهم علما بالرجل ونبلا . وقال يحيى بن معين : حجاج بن أرطأة لا يحتج بحديثه . وقال عبد الله بن إدريس : سمعت الحجاج يقول لا ينبل الرجل حتى يدع الصلاة في الجماعة . وقال عيسى بن يونس : سمعت الحجاج يقول : أخرج إلى الصلاة يزاحمني الحمالون والبقالون . وقال جرير : سمعت الحجاج يقول : أهلكني حب المال والشرف . وذكر أوجها أخر ؛ منها أن جماعة من الثقات رووا هذا الحديث عن الحجاج بن أرطأة فاختلفوا عليه فيه . إلى غير ذلك مما يطول ذكره ؛ وفيما ذكرناه مما ذكروه كفاية ودلالة على ضعف ما ذهب إليه الكوفيون في الدية ، وإن كان ابن المنذر مع جلالته قد اختاره على ما يأتي . وروى حماد بن سلمة حدثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة أن ابن مسعود قال : دية الخطأ خمسة أخماس : عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بني لبون ذكور . قال الدارقطني : هذا إسناد حسن ورواته ثقات ، وقد روي عن علقمة عن عبد الله نحو هذا .

قلت : وهذا هو مذهب مالك والشافعي أن الدية تكون مخمسة . قال الخطابي : وقد روي عن نفر من العلماء أنهم قالوا دية الخطأ أرباع ؛ وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري ، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه ؛ إلا أنهم قالوا : خمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض . وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب . قال أبو عمر : أما قول مالك والشافعي فروي عن سليمان بن يسار وليس فيه عن صحابي شيء ؛ ولكن عليه عمل أهل المدينة . وكذلك حكى ابن جريج عن ابن شهاب .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #249  
قديم 09-02-2023, 05:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,356
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 275 الى صــ 282
الحلقة (249)



[ ص: 275 ] قلت : قد ذكرنا عن ابن مسعود ما يوافق ما صار إليه مالك والشافعي . قال أبو عمر : وأسنان الإبل في الديات لم تؤخذ قياسا ولا نظرا ، وإنما أخذت اتباعا وتسليما ، وما أخذ من جهة الأثر فلا مدخل فيه للنظر ؛ فكل يقول بما قد صح عنده من سلفه ؛ رضي الله عنهم أجمعين .

قلت : وأما ما حكاه الخطابي من أنه لا يعلم من قال بحديث عمرو بن شعيب فقد حكاه ابن المنذر عن طاوس ومجاهد ، إلا أن مجاهدا جعل مكان بنت مخاض ثلاثين جذعة . قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول . يريد قول عبد الله وأصحاب الرأي الذي ضعفه الدارقطني والخطابي ، وابن عبد البر قال : لأنه الأقل مما قيل ؛ وبحديث مرفوع رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم يوافق هذا القول .

قلت : وعجبا لابن المنذر ؟ مع نقده واجتهاده كيف قال بحديث لم يوافقه أهل النقد على صحته ! لكن الذهول والنسيان قد يعتري الإنسان ، وإنما الكمال لعزة ذي الجلال .

السادسة : ثبتت الأخبار عن النبي المختار محمد صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة ، وأجمع أهل العلم على القول به . وفي إجماع أهل العلم أن الدية في الخطأ على العاقلة دليل على أن المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة حيث دخل عليه ومعه ابنه : إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه العمد دون الخطأ . وأجمعوا على أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة . واختلفوا في الثلث ؛ والذي عليه جمهور العلماء أن العاقلة لا تحمل عمدا ولا اعترافا ولا صلحا ، ولا تحمل من دية الخطأ إلا ما جاوز الثلث وما دون الثلث في مال الجاني . وقالت طائفة : عقل الخطأ على عاقلة الجاني ، قلت الجناية أو كثرت ؛ لأن من غرم الأكثر غرم الأقل . كما عقل العمد في مال الجاني قل أو كثر ؛ هذا قول الشافعي .

السابعة : وحكمها أن تكون منجمة على العاقلة ، والعاقلة العصبة . وليس ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها من العاقلة . ولا الإخوة من الأم بعصبة لإخوتهم من الأب والأم ، فلا يعقلون عنهم شيئا . وكذلك الديوان لا يكون عاقلة في قول جمهور أهل الحجاز . وقال الكوفيون : يكون عاقلة إن كان من أهل الديوان ؛ فتنجم الدية على العاقلة في ثلاثة أعوام على ما قضاه عمر وعلي ؛ لأن الإبل قد تكون حوامل فتضر به . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها دفعة واحدة لأغراض ؛ منها أنه كان يعطيها صلحا وتسديدا . ومنها أنه كان يعجلها تأليفا . فلما تمهد الإسلام قدرتها الصحابة على هذا النظام ؛ قاله ابن العربي . وقال أبو عمر : أجمع العلماء [ ص: 276 ] قديما وحديثا أن الدية على العاقلة لا تكون إلا في ثلاث سنين ولا تكون في أقل منها . وأجمعوا على أنها على البالغين من الرجال . وأجمع أهل السير والعلم أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام ، وكانوا يتعاقلون بالنصرة ؛ ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك حتى جعل الديوان . واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقول به . وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر ديوان ، وأن عمر جعل الديوان وجمع بين الناس ، وجعل أهل كل ناحية يدا ، وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو .

الثامنة : قلت : ومما ينخرط في سلك هذا الباب ويدخل في نظامه قتل الجنين في بطن أمه ؛ وهو أن يضرب بطن أمه فتلقيه حيا ثم يموت ؛ فقال كافة العلماء : فيه الدية كاملة في الخطأ وفي العمد بعد القسامة . وقيل : بغير قسامة . واختلفوا فيما به تعلم حياته بعد اتفاقهم على أنه إذا استهل صارخا أو ارتضع أو تنفس نفسا محققة حي ، فيه الدية كاملة ؛ فإن تحرك فقال الشافعي وأبو حنيفة : الحركة تدل على حياته . وقال مالك : لا ، إلا أن يقارنها طول إقامة . والذكر والأنثى عند كافة العلماء في الحكم سواء . فإن ألقته ميتا ففيه غرة : عبد أو وليدة . فإن لم تلقه وماتت وهو في جوفها لم يخرج فلا شيء فيه . وهذا كله إجماع لا خلاف فيه . وروي عن الليث بن سعد وداود أنهما قالا في المرأة إذا ماتت من ضرب بطنها ثم خرج الجنين ميتا بعد موتها : ففيه الغرة ، وسواء رمته قبل موتها أو بعد موتها ؛ المعتبر حياة أمه في وقت ضربها لا غير . وقال سائر الفقهاء : لا شيء فيه إذا خرج ميتا من بطنها بعد موتها . قال الطحاوي محتجا لجماعة الفقهاء بأن قال : قد أجمعوا والليث معهم على أنه لو ضرب بطنها وهي حية فماتت والجنين في بطنها ولم يسقط أنه لا شيء فيه ؛ فكذلك إذا سقط بعد موتها .

التاسعة : ولا تكون الغرة إلا بيضاء . قال أبو عمرو بن العلاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : في الجنين غرة عبد أو أمة - لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى لقال : في الجنين عبد أو أمة ، ولكنه عنى البياض ؛ فلا يقبل في الدية إلا غلام أبيض أو جارية بيضاء ، لا يقبل فيها أسود ولا سوداء . واختلف العلماء في قيمتها ؛ فقال مالك : تقوم بخمسين دينارا أو ستمائة درهم ؛ نصف عشر دية الحر المسلم ، وعشر دية أمه الحرة ؛ وهو قول ابن شهاب وربيعة وسائر أهل المدينة . وقال أصحاب الرأي : قيمتها خمسمائة درهم . وقال الشافعي : سن الغرة سبع سنين أو ثمان سنين ؛ وليس عليه أن يقبلها معيبة . ومقتضى مذهب مالك أنه مخير بين إعطاء غرة أو عشر دية الأم ، من الذهب عشرون دينارا إن كانوا أهل ذهب ، ومن الورق - إن كانوا أهل ورق - [ ص: 277 ] ستمائة درهم ، أو خمس فرائض من الإبل . قال مالك وأصحابه : هي في مال الجاني ؛ وهو قول الحسن بن حي . وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما ، هي على العاقلة . وهو أصح ؛ لحديث المغيرة بن شعبة أن امرأتين كانتا تحت رجلين من الأنصار - في رواية فتغايرتا - فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها ، فاختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلان فقالا : ندي من لا صاح ولا أكل ، ولا شرب ولا استهل فمثل ذلك يطل ؟ ! فقال : أسجع كسجع الأعراب ؟ فقضى فيه غرة وجعلها على عاقلة المرأة . وهو حديث ثابت صحيح ، نص في موضع الخلاف يوجب الحكم . ولما كانت دية المرأة المضروبة على العاقلة كان الجنين كذلك في القياس والنظر . واحتج علماؤنا بقول الذي قضي عليه : كيف أغرم ؟ قالوا : وهذا يدل على أن الذي قضي عليه معين وهو الجاني . ولو أن دية الجنين قضى بها على العاقلة لقال : فقال الذي قضى عليهم . وفي القياس أن كل جان جنايته عليه ، إلا ما قام بخلافه الدليل الذي لا معارض له ؛ مثل إجماع لا يجوز خلافه ، أو نص سنة من جهة نقل الآحاد العدول لا معارض لها ، فيجب الحكم بها ، وقد قال الله تعالى : ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى

العاشرة : ولا خلاف بين العلماء أن الجنين إذا خرج حيا فيه الكفارة مع الدية . واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتا ؛ قال مالك : فيه الغرة والكفارة . وقال أبو حنيفة والشافعي : فيه الغرة ولا كفارة . واختلفوا في ميراث الغرة عن الجنين ؛ فقال مالك والشافعي وأصحابهما : الغرة في الجنين موروثة عن الجنين على كتاب الله تعالى ؛ لأنها دية . وقال أبو حنيفة وأصحابه : الغرة للأم وحدها ؛ لأنها جناية جني عليها بقطع عضو من أعضائها وليست بدية . ومن الدليل على ذلك أنه لم يعتبر فيه الذكر والأنثى كما يلزم في الديات ، فدل على أن ذلك كالعضو . وكان ابن هرمز يقول : ديته لأبويه خاصة ؛ لأبيه ثلثاها ولأمه ثلثها ، من كان منهما حيا كان ذلك له ، فإن كان أحدهما قد مات كانت للباقي منهما أبا كان أو أما ، ولا يرث الإخوة شيئا .

الحادية عشرة : قوله تعالى : إلا أن يصدقوا أصله " أن يتصدقوا " فأدغمت التاء في الصاد . والتصدق الإعطاء ؛ يعني إلا أن يبرئ الأولياء ورثة المقتول القاتلين مما أوجب لهم من الدية عليهم . فهو استثناء ليس من الأول . وقرأ أبو عبد الرحمن ونبيح " إلا أن تصدقوا " بتخفيف الصاد والتاء . وكذلك قرأ أبو عمرو ، إلا أنه شدد الصاد . ويجوز على هذه القراءة [ ص: 278 ] حذف التاء الثانية ، ولا يجوز حذفها على قراءة الياء . وفي حرف أبي وابن مسعود " إلا أن يتصدقوا " وأما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم ؛ لأنه أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه ، فعليه أن يخلص آخر لعبادة ربه وإنما تسقط الدية التي هي حق لهم . وتجب الكفارة في مال الجاني ولا تتحمل .

الثانية عشرة : قوله تعالى : فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن هذه مسألة المؤمن يقتل في بلاد الكفار أو في حروبهم على أنه من الكفار . والمعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وعكرمة ومجاهد والنخعي : فإن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد أمن وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم فلا دية فيه ؛ وإنما كفارته تحرير الرقبة . وهو المشهور من قول مالك ، وبه قال أبو حنيفة . وسقطت الدية لوجهين : أحدهما : أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقووا بها . والثاني : أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة ، فلا دية ؛ لقوله تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وقالت طائفة : بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط ؛ فسواء كان القتل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ولم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه كفارته التحرير ولا دية فيه ، إذ لا يصح دفعها إلى الكفار ، ولو وجبت الدية لوجبت لبيت المال على بيت المال ؛ فلا تجب الدية في هذا الموضع وإن جرى القتل في بلاد الإسلام . هذا قول الشافعي وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو ثور . وعلى القول الأول إن قتل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة .

قلت : ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال : لا إله إلا الله ؛ فطعنته فوقع في نفسي من ذلك ، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقال لا إله إلا الله وقتلته ! قال : قلت يا رسول الله ، إنما قالها خوفا من السلاح ؛ قال : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ . فلم يحكم عليه صلى الله عليه وسلم بقصاص ولا دية . وروي عن أسامة أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات ، وقال : أعتق رقبة ولم يحكم بقصاص ولا دية . فقال علماؤنا : أما سقوط القصاص فواضح إذ لم يكن القتل عدوانا ؛ وأما سقوط الدية فلأوجه ثلاثة :

الأول : لأنه كان أذن له في أصل القتال فكان عنه إتلاف نفس محترمة غلطا كالخاتن [ ص: 279 ] والطبيب .

الثاني : لكونه من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين تكون له ديته ؛ لقوله تعالى : فإن كان من قوم عدو لكم كما ذكرنا .

الثالث : أن أسامة اعترف بالقتل ولم تقم بذلك بينة ولا تعقل العاقلة اعترافا ، ولعل أسامة لم يكن له مال تكون فيه الدية . والله أعلم .

الثالثة عشرة : قوله تعالى : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة ؛ قاله ابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي . واختاره الطبري قال : إلا أن الله سبحانه وتعالى أبهمه ولم يقل وهو مؤمن ، كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب . وإطلاقه ما قيد قبل يدل على أنه خلافه . وقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم أيضا : المعنى وإن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم ، فكفارته التحرير وأداء الدية . وقرأها الحسن : " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن " . قال الحسن : إذا قتل المسلم الذمي فلا كفارة عليه . قال أبو عمر : وأما الآية فمعناها عند أهل الحجاز مردود على قوله : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ثم قال تعالى : وإن كان من قوم يريد ذلك المؤمن . والله أعلم . قال ابن العربي : والذي عندي أن الجملة محمولة حمل المطلق على المقيد .

قلت : وهذا معنى ما قال الحسن وحكاه أبو عمر عن أهل الحجاز . وقوله فدية مسلمة على لفظ النكرة ليس يقتضي دية بعينها . وقيل : هذا في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين النبي عليه السلام عهد على أن يسلموا أو يؤذنوا بحرب إلى أجل معلوم : فمن قتل منهم وجبت فيه الدية والكفارة ثم نسخ بقوله تعالى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين

الرابعة عشرة : وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ؛ قال أبو عمر : إنما صارت ديتها - والله أعلم - على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل ، وشهادة امرأتين بشهادة رجل . وهذا إنما هو في دية الخطأ ، وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله عز وجل : النفس بالنفس . و الحر بالحر كما تقدم في " البقرة " .

[ ص: 280 ] الخامسة عشرة : روى الدارقطني من حديث موسى بن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت أبي يقول إن أعمى كان ينشد في الموسم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول :
يا أيها الناس لقيت منكرا هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا
خرا معا كلاهما تكسرا
وذلك أن الأعمى كان يقوده بصير فوقعا في بئر ، فوقع الأعمى على البصير فمات البصير ؛ فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى . وقد اختلف العلماء في رجل يسقط على آخر فيموت أحدهما ؛ فروي عن ابن الزبير : يضمن الأعلى الأسفل ، ولا يضمن الأسفل الأعلى . وهذا قول شريح والنخعي وأحمد وإسحاق . وقال مالك في رجلين جر أحدهما صاحبه حتى سقطا وماتا : على عاقلة الذي جبذه الدية . قال أبو عمر : ما أظن في هذا خلافا - والله أعلم - إلا ما قال بعض المتأخرين من أصحابنا وأصحاب الشافعي : يضمن نصف الدية ؛ لأنه مات من فعله ، ومن سقوط الساقط عليه . وقال الحكم وابن شبرمة : إن سقط رجل على رجل من فوق بيت فمات أحدهما ، قالا : يضمن الحي منهما . وقال الشافعي في رجلين يصدم أحدهما الآخر فماتا ، قال : دية المصدوم على عاقلة الصادم ، ودية الصادم هدر . وقال في الفارسين إذا اصطدما فماتا : على كل واحد منهما نصف دية صاحبه ؛ لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه ؛ وقال عثمان البتي وزفر . وقال مالك والأوزاعي والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه في الفارسين يصطدمان فيموتان : على كل واحد منهما دية الآخر على عاقلته . قال ابن خويز منداد : وكذلك عندنا السفينتان تصطدمان إذا لم يكن النوتي صرف السفينة ولا الفارس صرف الفرس . وروي عن مالك في السفينتين والفارسين . على كل واحد منهما الضمان لقيمة ما أتلف لصاحبه كاملا .

السادسة عشرة : واختلف العلماء من هذا الباب في تفصيل دية أهل الكتاب ؛ فقال مالك وأصحابه : هي على النصف من دية المسلم ، ودية المجوسي ثمانمائة درهم ، ودية نسائهم على النصف من ذلك . روي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وعمرو بن شعيب وقال به أحمد بن حنبل . وهذا المعنى قد روى فيه سليمان بن بلال ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية اليهودي والنصراني على النصف من دية المسلم . وعبد الرحمن هذا قد روى عنه الثوري أيضا . وقال ابن عباس والشعبي والنخعي : المقتول من أهل العهد خطأ لا [ ص: 281 ] تبالي مؤمنا كان أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم ؛ وهو قول أبي حنيفة والثوري وعثمان البتي والحسن بن حي ؛ جعلوا الديات كلها سواء ، المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي ، وهو قول عطاء والزهري وسعيد بن المسيب . وحجتهم قوله تعالى : فدية وذلك يقتضي الدية كاملة كدية المسلم . وعضدوا هذا بما رواه محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قصة بني قريظة والنضير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ديتهم سواء دية كاملة . قال أبو عمر : هذا حديث فيه لين وليس في مثله حجة . وقال الشافعي : دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ، ودية المجوسي ثمانمائة درهم ؛ وحجته أن ذلك أقل ما قيل في ذلك ، والذمة بريئة إلا بيقين أو حجة . وروي هذا القول عن عمر وعثمان ، وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وأبو ثور وإسحاق .

السابعة عشرة : قوله تعالى : فمن لم يجد أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها . فصيام شهرين أي فعليه صيام شهرين . متتابعين حتى لو أفطر يوما استأنف ؛ هذا قول الجمهور . وقال مكي عن الشعبي : إن صيام الشهرين يجزئ عن الدية والعتق لمن لم يجد . قال ابن عطية : وهذا القول وهم ؛ لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل . والطبري حكى هذا القول عن مسروق .

الثامنة عشرة : والحيض لا يمنع التتابع من غير خلاف ، وإنها إذا طهرت ولم تؤخر وصلت باقي صيامها بما سلف منه ، لا شيء عليها غير ذلك إلا أن تكون طاهرا قبل الفجر فتترك صيام ذلك اليوم عالمة بطهرها ، فإن فعلت استأنفت عند جماعة من العلماء ؛ قاله أبو عمر . واختلفوا في المريض الذي قد صام من شهري التتابع بعضها على قولين ؛ فقال مالك : وليس لأحد وجب عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله تعالى أن يفطر إلا من عذر أو مرض أو حيض ، وليس له أن يسافر فيفطر . وممن قال يبني في المرض سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة وطاوس . وقال سعيد بن جبير والنخعي والحكم بن عيينة وعطاء الخراساني : يستأنف في المرض ؛ وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والحسن بن حي ؛ وأحد قولي الشافعي ؛ وله قول آخر : أنه يبني كما قال مالك . وقال ابن شبرمة : يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب ، كصوم رمضان . قال أبو عمر : حجة من قال يبني لأنه معذور في قطع التتابع لمرضه ولم يتعمد ، وقد تجاوز الله عن غير المتعمد . وحجة من قال يستأنف لأن التتابع فرض لا يسقط لعذر ، وإنما يسقط المأثم ؛ قياسا على الصلاة ؛ لأنها ركعات متتابعات فإذا قطعها عذرا استأنف ولم يبن .

[ ص: 282 ] التاسعة عشرة : قوله تعالى : توبة من الله نصب على المصدر ، ومعناه رجوعا . وإنما مست حاجة المخطئ إلى التوبة لأنه لم يتحرز وكان من حقه أن يتحفظ . وقيل : أي فليأت بالصيام تخفيفا من الله تعالى عليه بقبول الصوم بدلا عن الرقبة ؛ ومنه قوله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم أي خفف ، وقوله تعالى : علم أن لن تحصوه فتاب عليكم .

الموفية عشرين : وكان الله أي في أزله وأبده . عليما بجميع المعلومات حكيما فيما حكم وأبرم .
قوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما

فيه سبع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : ومن يقتل " من " شرط ، وجوابه فجزاؤه وسيأتي . واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل ؛ فقال عطاء والنخعي وغيرهما : هو من قتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها . وقالت فرقة : المتعمد كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك ، وهذا قول الجمهور .

الثانية : ذكر الله عز وجل في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد وقد اختلف العلماء في القول به ، فقال ابن المنذر : أنكر ذلك مالك ، وقال : ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ . وذكره الخطابي أيضا عن مالك وزاد : وأما شبه العمد فلا نعرفه . قال أبو عمر : أنكر مالك والليث بن سعد شبه العمد ؛ فمن قتل عندهما بما لا يقتل مثله غالبا كالعضة واللطمة وضربة السوط والقضيب وشبه ذلك فإنه عمد وفيه القود . قال أبو عمر : وقال بقولهما جماعة من الصحابة والتابعين . وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن هذا كله شبه العمد . وقد ذكر عن مالك وقاله ابن وهب وجماعة من الصحابة والتابعين .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #250  
قديم 09-02-2023, 05:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,356
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 283 الى صــ 290
الحلقة (250)



قال ابن المنذر : وشبه العمد يعمل به عندنا . وممن أثبت شبه العمد الشعبي والحكم وحماد والنخعي وقتادة وسفيان الثوري وأهل [ ص: 283 ] العراق والشافعي ، وروينا ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما .

قلت : وهو الصحيح ؛ فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها في أهبها ، فلا تستباح إلا بأمرين لا إشكال فيه ، وهذا فيه إشكال ؛ لأنه لما كان مترددا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد ؛ فالضرب مقصود والقتل غير مقصود ، وإنما وقع بغير القصد فيسقط القود وتغلظ الدية . وبمثل هذا جاءت السنة ؛ روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها . وروى الدارقطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العمد قود اليد والخطأ عقل لا قود فيه ومن قتل في عمية بحجر أو عصا أو سوط فهو دية مغلظة في أسنان الإبل . وروي أيضا من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عقل شبه العمد مغلظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه . وهذا نص . وقال طاوس في الرجل يصاب في ماء الرميا في القتال بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة يودى ولا يقتل به من أجل أنه لا يدرى ، من قاتله . وقال أحمد بن حنبل : العميا هو الأمر الأعمى للعصبية لا تستبين ما وجهه . وقال إسحاق : هذا في تحارج القوم وقتل بعضهم بعضا . فكأن أصله من التعمية وهو التلبيس ؛ ذكره الدارقطني

مسألة : واختلف القائلون بشبه العمد في الدية المغلظة ، فقال عطاء والشافعي : هي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة . وقد روي هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري ؛ وهو مذهب مالك حيث يقول بشبه العمد ، ومشهور مذهبه أنه لم يقل به إلا في مثل قصة المدلجي بابنه حيث ضربه بالسيف . وقيل : هي مربعة [ ص: 284 ] ربع بنات لبون ، وربع حقاق ، وربع جذاع ، وربع بنات مخاض . هذا قول النعمان ويعقوب ؛ وذكره أبو داود عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي . وقيل : هي مخمسة : عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة ؛ هذا قول أبي ثور . وقيل : أربعون جذعة إلى بازل عامها وثلاثون حقة ، وثلاثون بنات لبون . وروي عن عثمان بن عفان وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهري . وقيل : أربع وثلاثون خلفة إلى بازل عامها ، وثلاث وثلاثون حقة ، وثلاث وثلاثون جذعة ؛ وبه قال الشعبي والنخعي ، وذكره أبو داود عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي .

الثالثة : واختلفوا فيمن تلزمه دية شبه العمد ؛ فقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور : هو عليه في ماله . وقال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي : هو على العاقلة . قال ابن المنذر : قول الشعبي أصح ؛ لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الجنين على عاقلة الضاربة .

الرابعة : أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد وأنها في مال الجاني ؛ وقد تقدم ذكرها في " البقرة " . وقد أجمعوا على أن على القاتل خطأ الكفارة ؛ واختلفوا فيها في قتل العمد ؛ فكان مالك والشافعي يريان على قاتل العمد الكفارة كما في الخطأ . قال الشافعي : إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى . وقال : إذا شرع السجود في السهو فلأن يشرع في العمد أولى ، وليس ما ذكره الله تعالى في كفارة العمد بمسقط ما قد وجب في الخطأ . وقد قيل : إن القاتل عمدا إنما تجب عليه الكفارة إذا عفي عنه فلم يقتل ، فأما إذا قتل قودا فلا كفارة عليه تؤخذ من ماله . وقيل تجب . ومن قتل نفسه فعليه الكفارة في ماله . وقال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي : لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى . قال ابن المنذر : وكذلك نقول ؛ لأن الكفارات عبادات ولا يجوز التمثيل . وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضا يلزمه عباد الله إلا بكتاب أو سنة أو إجماع ، وليس مع من فرض على القاتل عمدا كفارة حجة من حيث ذكرت .

الخامسة : واختلفوا في الجماعة يقتلون الرجل خطأ ؛ فقالت طائفة : على كل واحد منهم الكفارة ؛ كذلك قال الحسن وعكرمة والنخعي والحارث العكلي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي . وقالت طائفة : عليهم كلهم كفارة واحدة ؛ هكذا قال أبو ثور ، وحكي ذلك عن الأوزاعي . وفرق الزهري بين العتق والصوم ؛ فقال في الجماعة يرمون بالمنجنيق فيقتلون رجلا : عليهم كلهم عتق رقبة ، وإن كانوا لا يجدون فعلى كل واحد منهم صوم شهرين متتابعين .

[ ص: 285 ] السادسة : روى النسائي : أخبرنا الحسن بن إسحاق المروزي - ثقة قال : حدثنا خالد بن خداش قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا . وروي عن عبد الله قال : قال رسول الله : أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء . وروى إسماعيل بن إسحاق عن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس أنه سأل سائل فقال : يا أبا العباس ، هل للقاتل توبة ؟ فقال له ابن عباس كالمتعجب من مسألته : ماذا تقول ! مرتين أو ثلاثا . ثم قال ابن عباس : ويحك ! أنى له توبة ! سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه وتعالى رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل تعست ويذهب به إلى النار . وعن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نازلت ربي في شيء ما نازلته في قتل المؤمن فلم يجبني .

السابعة : واختلف العلماء في قاتل العمد هل له من توبة ؟ فروى البخاري عن سعد بن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت فيها إلى ابن عباس ، فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم هي آخر ما نزل وما نسخها شيء . وروى النسائي عنه قال : سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة ؟ قال : لا . وقرأت عليه الآية التي في الفرقان : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر قال : هذه آية مكية نسختها آية مدنية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه . وروي عن زيد بن ثابت نحوه ، وإن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر ، وفي رواية بثمانية أشهر ؛ ذكرهما النسائي عن زيد بن ثابت . وإلى عموم هذه الآية مع هذه الأخبار عن زيد وابن عباس ذهبت المعتزلة وقالوا : هذا مخصص عموم قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ورأوا أن الوعيد نافذ حتما على كل قاتل ؛ فجمعوا بين الآيتين بأن قالوا : التقدير ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدا . وذهب جماعة من العلماء منهم . عبد الله بن عمر - وهو أيضا مروي عن زيد وابن عباس - إلى أن له توبة . روى يزيد بن هارون قال : أخبرنا أبو مالك [ ص: 286 ] الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة ؟ قال : لا ، إلا النار ؛ قال : فلما ذهب قال له جلساؤه : أهكذا كنت تفتينا ؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة ؛ قال : إني لأحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا . قال : فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك . وهذا مذهب أهل السنة وهو الصحيح ، وإن هذه الآية مخصوصة ، ودليل التخصيص آيات وأخبار . وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن صبابة ؛ وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن صبابة ؛ فوجد هشاما قتيلا في بني النجار فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه وأرسل معه رجلا من بني فهر ؛ فقال بنو النجار : والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي الدية ؛ فأعطوه مائة من الإبل ؛ ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مقيس على الفهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة كافرا مرتدا ، وجعل ينشد :


قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع حللت به وتري وأدركت ثورتي
وكنت إلى الأوثان أول راجع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أؤمنه في حل ولا حرم . وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة . وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير وعلماء الدين فلا ينبغي أن يحمل على المسلمين ، ثم ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر قوله : إن الحسنات يذهبن السيئات ، وقوله تعالى : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده وقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . والأخذ بالظاهرين تناقض فلا بد من التخصيص . ثم إن الجمع بين آية " الفرقان " وهذه الآية ممكن فلا نسخ ولا تعارض ، وذلك أن يحمل مطلق آية " النساء " على مقيد آية " الفرقان " فيكون معناه فجزاؤه كذا إلا من تاب ؛ لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل والموجب وهو التواعد بالعقاب . وأما الأخبار فكثيرة كحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه : تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه . رواه الأئمة أخرجه الصحيحان . وكحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي قتل مائة نفس . أخرجه مسلم في صحيحه وابن ماجه في سننه وغيرهما إلى غير ذلك من الأخبار الثابتة . ثم إنهم قد [ ص: 287 ] أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل ، ويقر بأنه قتل عمدا ، ويأتي السلطان الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قودا ، فهذا غير متبع في الآخرة ، والوعيد غير نافذ عليه إجماعا على مقتضى حديث عبادة ؛ فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم قوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ودخله التخصيص بما ذكرنا ، وإذا كان كذلك فالوجه أن هذه الآية مخصوصة كما بينا ، أو تكون محمولة على ما حكي عن ابن عباس أنه قال : متعمدا معناه مستحلا لقتله ؛ فهذا أيضا يئول إلى الكفر إجماعا . وقالت جماعة : إن القاتل في المشيئة تاب أو لم يتب ؛ قاله أبو حنيفة وأصحابه . فإن قيل : إن قوله تعالى : فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه دليل على كفره ؛ لأن الله تعالى لا يغضب إلا على كافر خارج من الإيمان . قلنا : هذا وعيد ، والخلف في الوعيد كرم ؛ كما قال :


وإني متى أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقد تقدم .

جواب ثان : إن جازاه بذلك ؛ أي هو أهل لذلك ومستحقه لعظيم ذنبه . نص على هذا أبو مجلز لاحق بن حميد وأبو صالح وغيرهما . وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا وعد الله لعبد ثوابا فهو منجزه وإن أوعد له العقوبة فله المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه . وفي هذين التأويلين دخل ، أما الأول - فقال القشيري : وفي هذا نظر ؛ لأن كلام الرب لا يقبل الخلف إلا أن يراد بهذا تخصيص العام ؛ فهو إذا جائز في الكلام . وأما الثاني : وإن روي أنه مرفوع فقال النحاس : وهذا الوجه الغلط فيه بين ، وقد قال الله عز وجل : ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا ولم يقل أحد : إن جازاهم ؛ وهو خطأ في العربية لأن بعده وغضب الله عليه وهو محمول على معنى جازاه .

وجواب ثالث : فجزاؤه جهنم إن لم يتب وأصر على الذنب حتى وافى ربه على الكفر بشؤم المعاصي . وذكر هبة الله في كتاب " الناسخ والمنسوخ " أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وقال : هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر فإنهما قالا هي محكمة . وفي هذا الذي قاله نظر ؛ لأنه موضع عموم وتخصيص لا موضع نسخ ؛ قاله ابن عطية .

قلت : هذا حسن ؛ لأن النسخ لا يدخل الأخبار إنما المعنى فهو يجزيه . وقال النحاس في " معاني القرآن " له : القول فيه عند العلماء أهل النظر أنه محكم وأنه يجازيه إذا لم يتب ، فإن تاب فقد بين أمره بقوله : وإني لغفار لمن تاب فهذا لا يخرج عنه ، والخلود لا يقتضي [ ص: 288 ] الدوام قال الله تعالى : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد الآية . وقال تعالى : يحسب أن ماله أخلده وقال زهير :


ألا لا أرى على الحوادث باقيا ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا
وهذا كله يدل على أن الخلد يطلق على غير معنى التأبيد ؛ فإن هذا يزول بزوال الدنيا . وكذلك العرب تقول : لأخلدن فلانا في السجن ؛ والسجن ينقطع ويفنى ، وكذلك المسجون . ومثله قولهم في الدعاء : خلد الله ملكه وأبد أيامه . وقد تقدم هذا كله لفظا ومعنى . والحمد لله .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا

فيه إحدى عشرة مسألة :

الأولى : قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا هذا متصل بذكر القتل والجهاد . والضرب : السير في الأرض ؛ تقول العرب : ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره ؛ مقترنة بفي . وتقول : ضربت الأرض دون " في " إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك . وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين مروا في سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ؛ فحمل عليه أحدهم فقتله . فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم شق عليه ونزلت الآية . وأخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس قال : قال ابن عباس : كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال : السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غنيمته ؛ فأنزل الله تعالى ذلك إلى قوله : عرض الحياة الدنيا تلك الغنيمة . قال : قرأ ابن عباس " السلام " . في غير البخاري : وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته [ ص: 289 ] إلى أهله ورد عليه غنيماته . واختلف في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة ، فالذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنف أبي داود والاستيعاب لابن عبد البر أن القاتل محلم بن جثامة ، والمقتول عامر بن الأضبط فدعا عليه السلام على محلم فما عاش بعد ذلك إلا سبعا ثم دفن فلم تقبله الأرض ثم دفن فلم تقبله ثم دفن ثالثة فلم تقبله ؛ فلما رأوا أن الأرض لا تقبله ألقوه في بعض تلك الشعاب ؛ وقال عليه السلام : إن الأرض لتقبل من هو شر منه . قال الحسن : أما إنها تحبس من هو شر منه ولكنه وعظ القوم ألا يعودوا . وفي سنن ابن ماجه عن عمران بن حصين قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا ، فمنحوهم أكتافهم فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح فلما غشيه قال : أشهد أن لا إله إلا الله ؛ إني مسلم ؛ فطعنه فقتله ؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هلكت ! قال : وما الذي صنعت ؟ مرة أو مرتين ، فأخبره بالذي صنع . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه فقال : يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما في قلبه ؟ قال : لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه . فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات فدفناه ، فأصبح على وجه الأرض . فقلنا : لعل عدوا نبشه ، فدفناه ثم أمرنا غلماننا يحرسونه فأصبح على ظهر الأرض . فقلنا : لعل الغلمان نعسوا ، فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض ، فألقيناه في بعض تلك الشعاب . وقيل : إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني ثم الفزاري من بني مرة من أهل فدك . وقال ابن القاسم عن مالك . وقيل : كان مرداس هذا قد أسلم من الليلة وأخبر بذلك أهله ؛ ولما عظم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر على أسامة حلف عند ذلك ألا يقاتل رجلا يقول : لا إله إلا الله . وقد تقدم القول فيه . وقيل : القاتل أبو قتادة . وقيل : أبو الدرداء . ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم الذي ذكرناه . ولعل هذه الأحوال جرت في زمان متقارب فنزلت الآية في الجميع . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على أهل المسلم الغنم والجمل وحمل ديته على طريق الائتلاف والله أعلم . وذكر الثعلبي أن أمير تلك السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي . وقيل : المقداد حكاه السهيلي .

الثانية : قوله تعالى : " فتبينوا " أي : تأملوا . و " تبينوا " قراءة الجماعة ، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، وقالا : من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبيت ؛ يقال : تبينت الأمر وتبين الأمر بنفسه ، فهو متعد ولازم . وقرأ حمزة " فتثبتوا " من التثبت بالثاء مثلثة وبعدها باء بواحدة " وتبينوا " في هذا أوكد ؛ لأن الإنسان قد يتثبت ولا يبين . وفي إذا معنى الشرط ، فلذلك دخلت الفاء في قوله فتبينوا . وقد يجازى بها كما قال :

[ ص: 290 ]
وإذا تصبك خصاصة فتجمل
والجيد ألا يجازى بها كما قال الشاعر :


والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع
والتبين التثبت في القتل واجب حضرا وسفرا ولا خلاف فيه ، وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة التي فيها نزلت الآية وقعت في السفر .

الثالثة : قوله تعالى : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا السلم والسلم ، والسلام واحد ، قاله البخاري . وقرئ بها كلها . واختار أبو عبيد القاسم بن سلام " السلام " . وخالفه أهل النظر فقالوا : " السلم " هاهنا أشبه ؛ لأنه بمعنى الانقياد والتسليم ، كما قال عز وجل : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء فالسلم الاستسلام والانقياد . أي لا تقولوا لمن ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم لست مؤمنا . وقيل : السلام قول السلام عليكم ، وهو راجع إلى الأول ؛ لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده ، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك . قال الأخفش : يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا . والسلم ( بشد السين وكسرها وسكون اللام ) الصلح .

الرابعة : وروي عن أبي جعفر أنه قرأ " لست مؤمنا " بفتح الميم الثانية ، من آمنته إذا أجرته فهو مؤمن .

الخامسة : والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له جاز له قتله ؛ فإن قال : لا إله إلا الله لم يجز قتله ؛ لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله : فإن قتله بعد ذلك قتل به . وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام وتأولوا أنه قالها متعوذا وخوفا من السلاح ، وأن العاصم قولها مطمئنا ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاصم كيفما قالها ؛ ولذلك قال لأسامة : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا أخرجه مسلم . أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب ؟ وذلك لا يمكن فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه . وفي هذا من الفقه باب عظيم ، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 397.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 391.79 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.47%)]