تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 28 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الإسلام يدعو لحرية التملك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          آثار مدارس الاستشراق على الفكر العربي والإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          الاستشراق والقرآنيون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          عقيدة التوحيد، وعمل شياطين الشرك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          منهج شياطين الإنس في الشرك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          وسواس غريب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          فقدت العذرية أثناء ممارسة العادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          العزلة والرهاب الاجتماعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          أخفيت على زوجتي مرضي النفسي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          اضطراب الهوية الجنسية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13-10-2022, 09:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1677 الى صـ 1684
الحلقة (271)






ولئن قلنا: إنه لا يدل على الرفع بالوجه التام، غير أنا نتنزل ونقول: ما دام في هذه المرة تغيرت هيئته ووجهه ولباسه، واجتمع بالأنبياء وسمع من الغمامة هذا الصوت، فلا أقل من أن يكون ذلك مقدمة لرفعه ومقياسا ومبدأ لتقويته وإيناسا، واليهود لم يتحققوا من أنفسهم أنه هو المسيح، بل اعتمدوا على قول يهوذا كما تقدم لك، ويهوذا قوله قول فرد، وغير صالح للاحتجاج؛ للاحتمالات والأدلة التي ذكرناها لك، فلم يبق في قول الفرقتين حجة [ ص: 1677 ] أن المصلوب هو المسيح - عليه السلام - لا شبهه، وأناجيلهم حالها معلوم لديك، وبيان اشتباههم المحكي لك في القرآن لا يخفى عليك. انتهى.

وهنا سؤال يورده بعض النصارى وهو: أن عيسى - عليه السلام - إذا كان لم يصلب حقيقة، وإنما صلب رجل ألقي عليه شبهه، ورفع هو إلى السماء، فلم لم يخبر الحواريين بذلك قبل رفعه أو بعده؟

والجواب: أن عيسى - عليه السلام - لم يخبر بذلك لعلمه بأن أناسا سيفترون عليه ويقولون بألوهيته، فأبهم الأمر ليكون ذلك أدل على كونه عبدا من عبيد الله، لا يقدر على جلب نفع ولا دفع ضر، بخلاف ما لو أخبر بأنه لا يصلب، أو لم يصلب، وأن المصلوب شبهه، فإنه ربما كان ذلك مقويا لشبهة أولئك الجماعة، ولعدم كون هذه المسألة من المسائل الاعتقادية في الأصل، إذ لو اعتقد أحد قبل إرسال نبينا - عليه الصلاة والسلام - بصلب عيسى لم يضره ذلك، لكن لما ورد نبينا الذي لا ينطق عن الهوى أبان خطأ النصارى في الوجهين:

أحدهما: اعتقاد أن عيسى إله.

والآخر: اعتقاد أنه قد قتل وصلب.

وأبان أنه عبد من عبيد الله تعالى، تولاه بالرسالة، واصطفاه، وحفظه من أيدي أعدائه وحماه، كذا في "منية الأذكياء في قصص الأنبياء".
فصل

في سقوط دعواهم التواتر في أمر الصلب

قال القرافي: اعلم أن النصارى قالوا: إنهم واليهود أمتان عظيمتان طبقوا مشارق الأرض ومغاربها، وكلهم يخبر أن المسيح عليه السلام صلب، وهم عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب، والإنجيل أيضا مخبر عن الصلب، فإن جوزتم كذبهم وكذب ما يدعي أنه الإنجيل، وإن مثل هؤلاء ممكن تواطؤهم على الكذب - لزم المحال من وجوه:

أحدها: أنه يتعذر عليكم - أيها المسلمون - جعل القرآن متواترا.

وثانيها: أن قاعدة التواتر تبطل بالكلية؛ [ ص: 1678 ] فإن غاية خبر التواتر يصل إلى مثل هذا.

وثالثها: أن إنكار الأمور المتواترة جحد للضرورة فلا يسمع، فلو قال إنسان: الخبر عن وجود بغداد ودمشق كذب، لم يسمع ذلك منه، وعد خارجا عن دائرة العقلاء، وحينئذ يتعين أن القول بالصلب حق، وأن إخبار المسلمين والقرآن عن عدم ذلك مشكل.

والجواب من وجوه:

أحدها: أن جميع النصارى واليهود يوردون هذا السؤال ولا يعلمون حقيقة التواتر ولا شروطه، وإنما فهم ذلك وغيره هذه الأمة المحمدية والملة الإسلامية لعلو قدرها وشرفها واختصاصها بمعاقد العلوم وأزمتها دون غيرها، كما هو مسلم عند كل دري (كذا) منصف.

وها نحن نوضح ذلك - إن شاء الله تعالى - فنقول: إن التواتر له شروط:

الشرط الأول: أن يكون المخبر عنه أمرا محسوسا، ويدل على اعتبار هذا الشرط أن الأمة العظيمة قد تخبر عن القضايا الجسيمة وهي باطلة، كإخبار المعطلة عن عدم الصانع، والفلاسفة عن قدم العالم، مع بطلان ذلك عند أمم كثيرة، وسببه أن مجال النظر يكثر فيه وقوع الخطأ، فلا يثق الإنسان بالخبر عن العقليات، حتى ينظر فيجد البرهان العقلي يعضد ذلك الخبر، فحينئذ يقطع بصحة ذلك الخبر، أما الأمور المحسوسة مثل المبصرات ونحوها فشديدة البعد على الخطأ، وإنما يقع الخلل من التواطؤ على الكذب، فإذا كان المخبرون يستحيل تواطؤهم على الكذب حصل القطع بصحة الخبر.

الشرط الثاني: استواء الطرفين والواسطة، وتحرير هذا الشرط أن المخبرين لنا إذا كانوا يستحيل تواطؤهم على الكذب وكانوا هم المباشرين لذلك الأمر المحسوس، المخبر عنه - حصل العلم بخبرهم.

وإن لم يكن المخبر لنا هو المباشر لذلك الأمر المحسوس، بل ينقلون عن غيرهم أنه أخبرهم بذلك - فلا بد أن يكون الغير المباشر عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب، فإنه إن جاز الكذب عليه - وهو أصل هؤلاء المخبرين لنا، فإذا لم يبق الأصل لم يبق المفرع عليه - فلا يلزم من كون المخبر لنا يستحيل تواطؤهم على الكذب حصول العلم بخبرهم؛ لجواز فساد أصلهم [ ص: 1679 ] المعتمدين عليه، فيتعين أن يكون الأصل عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب، فهذا معنى قولنا: (استواء الطرفين) في كونهما عددا يستحيل تواطؤهما على الكذب شرط.

فإن كان المخبر لنا عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأصلهم الذي ينقلون عنه كذلك، لكن أصلهم لم يباشر ذلك الأمر المحسوس، بل ينقل عن غيره أيضا - فأصل ذلك الأصل يجب أن يكون عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب أيضا؛ لما تقدم، وفي هذه الصورة حصل طرفان وواسطة، فالطرفان المخبر لنا، والمباشر الأول الواسطة الذي بينهما، فيجب استواء الطرفين والواسطة، والوسائط تكثرت في كونهم عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب، فينقسم بهذا التحرير التواتر إلى طرف فقط، وإلى طرفين بلا وساطة، وإلى طرفين وواسطة، والثلاثة أقسام مشتركة في هذا الشرط.

فإذا تقرر حقيقة التواتر فنقول: الحس إنما يتعلق بأن هذا مصلوب على هذه الخشبة، وأما أنه عيسى - عليه السلام - نفسه أو غيره فهذا لا يفيده الحس البتة، بل إنما يعلم بقرائن الأحوال إن وجدت، أو بأخبار الأنبياء - عليهم السلام - عن الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا.

والذي يدل على أن الحس لا يفرق بين المتماثلات أنا لو وضعنا في إناء رطلا من الماء مثلا، وأريناه لإنسان، ثم رفعنا ذلك الماء ووضعنا فيه رطلا آخر من ذلك الماء ثم أريناه ذلك الإنسان، وقلنا له: هذا الماء هو عين الماء الأول أو مثله؟ فإنه إذا أنصف يقول: الذي أدركه بحسي أن هذا ماء بالضرورة، أما أنه عين الأول أو غيره مماثلا له فلا أعلم؛ لكون الحس لا يحيط بذلك، هذا في المائعات.

وكذلك كف من تراب، أو أوراق الأشجار، أو أنواع الحبوب، كالحنطة مثلا، إذا أخذ منها حفنتان ونحو ذلك، وكذلك الحيوانات الوحشية والطيور شديدة الالتباس على الحس إذا اتحد النوع في اللون والسن والغلظ، وإنما كثرت الفروق في الحيوانات الإنسية كالفرس ونحوها.

مطلب:

وسر ذلك أن أسباب النشأة في الوحشية مشتركة بالمياه والمراعي والبراري، والحيوان [ ص: 1680 ] الإنسي يختلف ذلك فيه - بحسب مقتنيه - اختلافا كثيرا، فينشأ بحسب دواعي بني آدم في السعة والضيق، وإيثار نوع من العلف على غيره، ومكان مخصوص على غيره، وإلزام الحيوان أنواعا من الأعمال والرياضة دون غيرها، فيختلف الحيوان الإنسي بحسب ذلك، ثم يتصل ذلك بالنطف في التوليد، مضافا إلى ما يحصل للولد من داعية مريبة فيعظم الاختلاف، والحيوان الوحشي سلم عن جميع ذلك، فتشابهت أفراد نوعه، ولا يكاد الحس يفرق بين اثنين منه البتة.

فإذا تقرر أن الحس لا سلطان له على الفرق بين المثلين، ولا التمييز بين الشيئين، فيجب القطع أن كون المصلوب هو خصوص عيسى - عليه السلام - دون شبهه أو مثله - ليس مدركا بالحس، وإذا لم يكن مدركا بالحس جاز أن يخرق الله تعالى العادة لعيسى - عليه السلام - شبهه في غيره، كما خرق له العادة في إحيائه الموتى وغيرها، ثم يرفعه ويصونه عن إهانة أعدائه، وهو اللائق بكريم آلائه، في إحسانه لخاصة أنبيائه وأوليائه.

وإذا جوز العقل مثل هذا - مع أن الحس لا مدخل له في ذلك - بقي إخبار القرآن الكريم عن عدم الصلب سالما عن المعارض، مؤيدا بكل حجة، وسقط السؤال بالكلية.

وثانيها: سلمنا أن الحس يتعلق بالتفرقة بين المثلين، والتمييز بين الشبهين، ولكن لا نسلم أن العدد المباشر للصلب كانوا بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، ويدل على أنهم ليسوا كذلك أن الحواريين فروا عنه؛ لأنه لو وجد أحد منهم لقتله اليهود، فحينئذ عدد التواتر متعذر من جهة شيعة النصارى عن أسلافهم، لا يفيد علما بل هو ظن وتخمين لا عبرة به، لذلك قال الله سبحانه في قرآنه المبين: وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه أي: هم لا يتيقنون ذلك، بل يحزرون بالظن والتخمين.

وأما من جهة الملة اليهودية فلأن المباشر منهم للصلب إنما هو الوزعة وأعوان الولاة، وذلك في مجرى العادة يكون نفرا قليلا، كالاثنين أو الثلاثة، ونحوها يجوز عليهم الكذب ولا يفيد خبرهم العلم بكون العادة، وخرج الصلب عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب يفتقر إلى نقل متواتر، فإنه لو وقع ونقل بأخبار الآحاد لم يحصل لنا [ ص: 1681 ] علم بالصلب؛ فإن المتواترات إذا نقلت بأخبار الآحاد سقط اعتبارها في إفادة العلم؛ لجواز كذب الناقل، فلا يكون عدد التواتر حاصلا في نفس الأمر، والنصارى واليهود إنما يعتمدون على التوراة والإنجيل، ولا يوجد يهودي ولا نصراني على وجه الأرض يروي التوراة والإنجيل عدلا عن عدل إلى موسى وعيسى - عليهما السلام - وإذا تعذرت عليهم رواية العدل عن العدل فأولى أن يتعذر التواتر، ولم يبق في الكتابين إلا أخبار وتواريخ بعيدة الزمان جدا، بحيث إن التواريخ الإسلامية أصح منها؛ لقرب عهدها، مع أنه لا يجوز الاعتقاد في فروع الديانات على شيء من التواريخ، فضلا عن أصول الأديان، وإذا ظهر أن مستند هاتين الأمتين العظيمتين في العدد في غاية الضعف - كانت أخبارها في نفسها في غاية الضعف؛ لأن الفرع لا يزيد على الأصل.

وثالثها: أن نصوص الإنجيل مشعرة بعدم صلب عيسى - عليه السلام - بخصوصه، كما نقلنا بعضها آنفا.

وقال في "تخجيل الأناجيل": فيقال للنصارى: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواترا أم آحادا؟ فإن زعموا أنه آحاد لم يقم بذلك حجة، ولم يثبت العلم الضروري؛ إذ الآحاد لم يأمن عليهم فيها السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب، وإذا كان الآحاد يعرض عليهم ذلك فلا يحتج بهم في القطعيات.

وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم: شرط التواتر استواء الطرفين فيه والوسط، وهو أن ينقل الجم الغفير عن الجم الغفير الذين شاهدوا المشهود به، وهو المصلوب، وعلموا أنه هو ضرورة، فإن اختل شيء من ذلك فلا تواتر، فإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل المسيح وصلبه بهذه الصفة - أكذبتهم نصوص أناجيلهم التي بأيديهم؛ إذ قال لهم نقلتها الذين دونوها لهم وعليها معولهم: إنه لما أخذ فقتل كان في شرذمة يسيرة من تلاميذه، فلما أقبل عليه هربوا بأسرهم، ولم يتبعه إلا بطرس من بعيد، ولما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته، فقالت: هذا كان مع يسوع، فحلف أنه لا يعرف يسوع بقوله، وخادعهم حتى تركوه، وذهب ولم يكد يذهب، [ ص: 1682 ] وأن شابا آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به، فترك إزاره بأيديهم وذهب عريانا، فهؤلاء أصحابه وأتباعه، لم يحضر منهم ولا رجل واحد بشهادة أناجيلهم.

وأما أعداؤه اليهود - الذين تزعم النصارى أنهم حضروا الأمر - فلم يبلغوا عدد التواتر، بل كانوا آحادا وأفرادا؛ لأن عموم الناس الذين حضروا لا يرون إلا شخصا على خشبة ومعه لصان مصلوبان، ولا شك أن هيئتهم وصفتهم متغيرة عن الحالة التي قبل أخذهم.

وأما المشايخ ونحوهم فلم يعرفوه أيضا، ففي الإصحاح الثاني والعشرين من "إنجيل لوقا" ما لفظه: فلما كان النهار اجتمع مشايخ الشعب ورؤساء الكهنة وأدخلوه إلى مجمعهم، وقالوا له: إن كنت أنت المسيح فقل لنا: فقال لهم: إن قلت لكم لم تؤمنوا لي، وإن سألتكم لم تجيبوني ولم تخلوني. انتهى.

وهذا يحتمل أنهم يسألونه عن ذاته أو عن رسالته، على أنا لو سلمنا كثرة عددهم وصدق معرفتهم يمكن تواطؤهم على الكذب؛ لأنهم لما لم يجدوه هو، ولم يعلموا محل المسيح، وكان ذلك من تلاميذه، واستحلوا قتله أيضا - أشاعوا أنه هو المسيح؛ ليترك الناس متابعته، ولئلا يتخذوا المسيح نبيا، وصمموا أنهم إذا وجدوا المسيح بعد هذا أيضا يعملون به كما عملوا بصاحبه، ويؤيد هذا أنهم جعلوا على القبر حراسا لئلا ينبش القبر ويرى أنه غير المسيح.

ومما يزيد الأمر وضوحا قول "إنجيل متى" في (الإصحاح الثامن والعشرين): أن مريم لما جاءت لزيارة القبر رأت ملكا قد نزل من السماء برجة عظيمة، فدحرج الحجر عن فم القبر، وجلس عنده، فكاد الحراس أن يموتوا من هيبته، وبادروا من فورهم إلى المشايخ فأعلموهم بالقصة، فأرشاهم المشايخ برشوة أن يستروا القصة وأن يشيعوا أن التلاميذ سرقوه ونحن نيام، فما يؤمنكم أن تكون هذه العصابة من اليهود؟ كما أنهم ستروا الآية التي ذكرتم، صلبوا شخصا من أتباعه وأوهموا الناس أنه المسيح، فإذا تبين عدم الاحتجاج بإجماع اليهود والنصارى الآن على صلبه، فنرجع إلى القرائن العقلية والنقلية.

فأما العقل فلا يجوز أن الإله القادر على كل شيء يقتله أذل عباده، وهم اليهود، ويضربونه ويعملون به ما هو محرر [ ص: 1683 ] في أناجيل النصارى المضطربة المحرفة المكتوبة بعد رفعه بسنين عديدة وأعوام مديدة، مع أنه يفر منهم مرات كثيرة، ويستغيث ويطلب من الله تعالى تأخير أجله بقوله: أجز عني هذه الكاس، ويصرخ ويقول: إلهي! إلهي! لم تركتني؟ ويسلم روحه، وعند الصلب يطلب منهم الماء لكثرة عطشه، فيعطوه خلا بدله، وأي خلاص لعباده في هذه الحالة، وهو بزعمهم أتى ليخلص العالم من الخطيئة، بل صار موقعا لهم في الإثم بسبب عدم إيمانهم به، فكيف يكون مخلصا بنفسه؟!

وأما النقل، فقد تبين لك تهافت أناجيلهم واضطرابها، والدلالة على عدم المعرفة به، وعدم وجوده في قبره، والأعظم من ذلك عند كل ذي عقل سليم قوله تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم

وأما قول متى في (الإصحاح السابع والعشرين): فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من الأجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا للكثيرين - فهو قول بهت ومحال، لا يخفى بطلانه على ذوي العقول من النساء والرجال؛ لأنه لو كان صحيحا لأطبق الناس على نقله، ولم يتفق إخفاء مثله، ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع، فحيث داموا على الجحد له والتكذيب دل على كذب ما نقله عباد الصليب، وإذا كان اليهود أعطوا دراهم رشوة - كما علمت سابقا - لحراس القبر حتى لا يخبروا القائد وسائر الناس بملك نزل من السماء على قبر يسوع؛ كي لا يظن براءته مما نسب إليه أعداؤه، فكيف تكون هذه الآيات العظيمة؟! وتقوم الأموات من قبورها؟! ويدخلون المدينة ؟! ولا يكون ذلك حجة على من لا يؤمن به إذ ذاك؟! وأيضا ما معنى تفتح القبور وقيام القديسين من قبورهم؟ فهل كان استبشارا بمصابه؟ فهم إذ ذاك ليسوا من أحبابه، أو كان جزعا على مماته؟ وخرجوا إعانة له قبل فواته؟ فواعجبا لرب أحياهم بعد أن كانوا رفات، ولم يعينوه حتى قضى ومات، وأحيى الرمم، وصرخ عند تسليم الروح [ ص: 1684 ] ولم يقدر على إبراء ما فيه من جروح، وليت شعري ما عمل هؤلاء القديسون؟ أبقوا في المدينة المقدسة؟ أم كروا إلى قبورهم فهم راجعون؟ وهل التأم الهيكل والصخور؟ أم دامت على انشقاقها إلى كثير من الدهور؟

فإن قيل: إنما لم يشتهر ذلك؛ لأن أصحاب المسيح لم يحضر منهم أحد خوفا من اليهود، والذين شاهدوا هذه الآيات من اليهود تواطؤوا على الكتمان حسدا وبغيا - قلنا: مثل هذه الآيات العظيمة إذا وقعت علمها من حضر ومن غاب، من الأعداء والأحباب؛ لأنها آيات نهارية، ومعجزات تشتهر في البرية، ويتناقلها أهل البلدان، وتبقى مؤرخة بكل لسان، في سائر الملل بكل أرض وزمان، فعلم بالضرورة أن هذه الأقوال مما اخترعها وحررها أئمة الضلال؛ ليخدعوا بها ضعفاء العقول، ويتوصلوا إلى جذب الدنيا بالكذب على هذا الرسول. انتهى.

وقال الإمام ابن حزم - رحمه الله – في كتابه "الملل" عند الكلام على النصارى: ومما يعترض به علينا اليهود والنصارى ومن ذهب إلى إسقاط الكواف (جمع كافة) من سائر الملحدين: أن قال قائلهم: قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح - عليه السلام - قد صلب وقتل، وجاء القرآن بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل ولم يصلب. فقولوا لنا كيف كان هذا؟!

فإن جوزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل - فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه.

فإن قلتم: اشتبه عليهم، فلم يتعمدوا نقل الباطل فقد جوزتم التلبيس على الكواف، فلعل كافتكم أيضا ملتبس عليها، فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم.

وقولوا لنا: كيف فرض الإقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله؟

فإن قلتم: كان الفرض على الناس الإقرار بصلبه وجب من قولكم "الإقرار" أن الله تعالى فرض على الناس الإقرار بالباطل، وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتدين به، وفي هذا ما فيه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 13-10-2022, 09:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1685 الى صـ 1692
الحلقة (272)




وإن قلتم: كان الفرض عليكم الإنكار لصلبه فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب [ ص: 1685 ] الكواف، وفي هذا إبطال قول كافتكم، بل إبطال جميع الشرائع، بل إبطال كل خبر كان في العالم عن كل بلد وملك ونبي وفيلسوف وعالم، ووقعتم، وفي هذا ما فيه.

قال أبو محمد - رضي الله عنه -: هذه الإلزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة والاضمحلال بحمد الله تعالى. ونحن مبينون ذلك بالبراهين الضرورية بيانا لا يخفى على من له أدنى فهم بحول الله تعالى وقوته.

فنقول وبالله التوفيق: إن صلب المسيح - عليه السلام - لم يقله قط كافة، ولا صح بالخبر قط؛ لأن الكافة التي يلزم قبول نقلها هي: إما الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لتنابذ طرقهم، وعدم التقائهم، وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة، أو رجع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعدا.

وإما أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على سنن ما تواطؤوا عليه، فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه، فما نقله أحد أهل هاتين الصفتين عن مثل إحداهما، وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة، فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها، ويضطر خبرها سامعها إلى تصديقه، وسواء كانوا عدولا أو فساقا أو كفارا ولا يقطع على صحته إلا ببرهان، فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح - عليه السلام - فوجدناه كواف عظيمة صادقة بلا شك في نقلها جيلا بعد جيل إلى الذين ادعوا مشاهدة صلبه، فإن هنالك تبدلت الصفة ورجعت إلى شرط مأمورين مجتمعين، مضمون منهم الكذب، وقبول الرشوة على قول الباطل.

والنصارى مقرون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهارا؛ خوف العامة، وإنما أخذوه ليلا عند افتراق الناس عن الفصح، وأنه لم يبق في الخشبة إلا ست ساعات من النهار، وأنه أنزل إثر ذلك، وأنه لم يصلب إلا في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخار، ليس موضعا معروفا بصلب من يصلب، ولا موقوفا لذلك، وأنه بعد هذا كله رشي الشرط على أن يقولوا إن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك، وإن مريم المجدلانية - وهي امرأة من العامة - لم تقدم على حضور موضع صلبه، بل كانت واقفة على بعد تنظر، هذا كله في نص الإنجيل عندهم، فبطل أن يكون صلبه منقولا بكافة، بل بخبر يشهد ظاهره [ ص: 1686 ] على أنه مكتوم متواطأ عليه.

وما كان الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم، غيبا عن ذلك المشهد، هاربين بأرواحهم مستترين. وأن "شمعون الصفا" غرر ودخل دار "قيقان" الكاهن أيضا بضوء النهار فقال له: أنت من أصحابه ؟ فانتفى وجحد، وخرج هاربا عن الدار. فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النفس عليه على أن نظن به الصدق، فكيف أن ينقله كافة؟ وهذا معنى قوله تعالى: ولكن شبه لهم إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق الذين دبروا هذا الباطل، وتواطؤوا عليه، هم شبهوا على من قلدهم، فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه، وهم كاذبون في ذلك، عالمون أنهم كذبة، ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة لبطلت النبوات كلها؛ إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة، ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها، ولأمكن أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس، وفيمن يجالس، وفي حيث هو فلعله نائم، أو مشبه على حواسه، وفي هذا خروج إلى السخف وقول السفسطائية والحماقة.

وقد شاهدنا نحن مثل ذلك، وذلك أننا أنذرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر، فرأيت أنا وغيري نعشا فيه شخص مكفن، وقد شاهد غسله شيخان جليلان حكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة في بيت، وخارج البيت أبي رحمه الله وجماعة عظماء البلد، ثم صلينا في ألوف من الناس عليه، ثم لم يلبث شهورا نحو السبعة حتى ظهر حيا، وبويع بعد ذلك بالخلافة، ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بين يديه، ورأيته، وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام.

قال أبو محمد - رضي الله عنه -: وأما قوله: قد جوزتم التمويه على الكافة، فقد بينا أنها لم تكن كافة قط، وحتى لو صح أنها كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس؟ فهو ضرورة لا يحمل على الممكنات، فلو صح أنها كانت كافة لكان خبر الله تعالى أنه شبه لهم حاكما على حواسهم ومحيلا لها، كخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من قريش ، وقد حجب الله سبحانه أبصارهم عنه فلم يروه.

وأما ما لم يأت خبر عن [ ص: 1687 ] الله عز وجل بأنه شبه على الكافة فلا يجوز أن يقال ذلك؛ لأنه قطع على المحال وإحالة طبيعة، وإحالة الطبائع لا تدخل في الممكن، إلا أن يأتي بذلك يقين عن الله عز وجل، فيلزم قبوله، وأما التشبيه على الواحد والاثنين ونحو ذلك فإنه جائز، وكذلك فقد العقل والسخافة يجوز ذلك على الواحد والاثنين ونحو ذلك، ولا يجوز على الجماعة كلها.

وقوله تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم إنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليدا لأسلافهم من النصارى واليهود أنه - عليه السلام - قتل وصلب، فهؤلاء شبه لهم القول، أي: أدخلوا في شبهة منه، وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت، وشرطهم المدعون أنهم قتلوه وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك، وإنما أخذوا من أمكنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس، ثم أنزلوه ودفنوه؛ تمويها على العامة التي شبه الخبر لها.

ثم نقول لليهود النصارى بعد أن بينا بحول الله وقوته بيان ما شنعوه في هذه المسألة: إن كوافكم قد نقلت عن بعض أنبيائكم فسوقا ووطء إماء، وهو حرام عندكم، وعن هارون - عليه السلام - أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته والرقص أمامه، وقد نزه الله تعالى الأنبياء - عليهم السلام - عن عبادة غيره، وعن الأمر بذلك، وعن كل معصية ورذيلة، فإذا جوزوا كلهم هذا على أنبياء منهم موسى - عليه السلام - وسائر أنبيائهم - كان كل ما أمروهم به مع جنس عمل العجل والرقص والأمر بعبادته، ومن جنس وطء الإماء وسائر ما نسبوه إلى داود وسليمان - عليهما السلام - وسائر أنبيائهم، لا سيما وهم يقرون بأن العجل كان يخور بطبعه.

وأما نحن فجوابنا في هذا كله بأن ليس شيء منه نقل كافة، ولكن نقل آحاد كذبوا فيه، وأما خوار العجل فإنما هو على ما روينا عن ابن عباس - رضي الله عنه - من أنه إنما كان صفير الريح تدخل من فيه وتخرج من دبره، لا أنه خار بطبعه قط، وحتى لو صح أنه خار بطبعه لكان ذلك من أجل القوة التي كانت في القبضة التي قبضها السامري من أثر جبريل - عليه السلام - والذي يعتمد عليه فهو قول ابن عباس - رضي الله عنه - الذي ذكرناه، وبالله تعالى التوفيق.

[ ص: 1688 ] وأما قوله: كيف كان الفرض قبل ورود النص ببطلان صلبه؟ الإقرار بصلبه أم الإنكار له؟ فهذه قسمة فاسدة شغبية، قد حذر منها الأوائل كثيرا، ونبه عليها أهل المعرفة بحدود الكلام، وذلك أنهم أوجبوا فرضا ثم قسموه على قسمين: إما فرض بإنكار، وإما فرض بإقرار، وأضربوا عن القسم الصحيح فلم يذكروه، وهذا لا يرضى به لنفسه إلا جاهل أو سخيف مغابط غابن لنفسه، غاش لمن اغتر به.

وإن الحقيقة ههنا أن يقول: هل يلزم الناس قبل ورود القرآن فرض بالإقرار بصلب المسيح أو بإنكار صلبه، أو لم يلزمهم فرض بشيء من ذلك؟ فهذه هي القسمة الصحيحة والسؤال الصحيح.

وحق الجواب أنه لم يلزم الناس قط قبل ورود القرآن فرض بشيء من ذلك، لا بإقرار ولا بإنكار، وإنما كان خبرا لا يقطع العذر ولا يوجب العلم الضروري، ممكن صدق قائله، فقد قتل أنبياء كثيرة، وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك، وهو بمنزلة شيء مغيب في دار، فيقال لهذا المعرض بهذا السؤال الفاسد: ما الفرض على الناس فيما في هذه الدار؟ الإقرار بأن فيها رجلا أم الإنكار لذلك؟ فهذا كله لا يلزم منه شيء، ولم ينزل الله عز وجل كتابا قبل القرآن بفرض إقرار بصلب المسيح - صلى الله عليه وسلم - ولا بإنكاره، وإنما ألزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بصلبه.

فإن قالوا: قد نقل الحواريون صلبه وهم أنبياء وعدول، قيل لهم وبالله التوفيق: الناقلون لنبوتهم وأعلامهم ولقولهم بصلبه - عليه السلام - هم الناقلون عنهم الكذب في نسبه والقول بالتثليث الذي من قال به فهو كاذب على الله تعالى، مفتر عليه، كافر به، فإن كان الناقل لذلك عنهم صادقا أو كانوا كافة فما كان "يوحنا " و" متى " و" بولس " إلا كفارا كاذبين، وما كانوا قط من صالحي الحواريين.

وإن كان ناقل ما ذكرنا عنهم كاذبا فالكاذب لا يقوم بنقله حجة، فبطل التمويه المتقدم، والحمد لله رب العالمين.
[ ص: 1689 ] فصل

أخذ بعض نصارى هذا العصر يتذبذب في الاعتقاد، فطفق يرد على المسيحيين قولهم بتثليث الآلهة، وأنه مضاد لصريح نصوص الوحي، أخذ يسلم بحقية القرآن وكذا التوراة والإنجيل الموجودين، وأنهما لم يحرفا تحريفا جوهريا، واعتقد بصلب المسيح يقينا، وصار يناقش المفسرين فيما فسروا به الآية المذكورة، أعني آية الصلب، زاعما أن المنفي عن اليهود فيها هو نسبة الفعل لهم؛ توبيخا لتهكمهم وازدرائهم، ورد فعل الصلب إليه تعالى، وقد توسع في هذا الموضوع وألف كتابا سماه "المعتقد الصحيح في صلب السيد المسيح".

ولما كان مبحثه غريبا جدا أردت أن أورد هنا بعض تمويهاته في رسالته، وأعقبها بما فوق عليه من سهام ردود تهافته.

قال في أول رسالته: إن التباس فهم آية الصلب هو غالبا في تقدير نائب الفاعل لفعل (شبه لهم) فإنا إن قدرنا نائب الفاعل مصدرا مأخوذا من الفعل السابق المذكور في الآية: وما قتلوه وما صلبوه وكان التقدير: شبه لهم أنهم قتلوه وأنهم صلبوه، أو شبه لهم قتلهم له وصلبهم إياه، والمعنى أنه مثل أو خيل لهم أنهم كانوا هم القاتلين وهم الصالبين - انحلت المسألة تقريبا، وزالت كل صعوبة تأويل؛ حيث إن السيد المسيح لم يقتل أصلا، ولا صلب قهرا، أو مات جبرا، أو اضطرارا، بل هو من نفسه (على زعمه) قدم ذاته للصلب عن رغبته واختياره ورضاه، فكأن اليهود لم يفعلوا شيئا بقدرتهم ومجرد إرادتهم، حتى يحق لهم الافتخار بأنهم قتلوه.

وأما إن قدر المسيح نائب الفاعل لـ(شبه) تعقدت المسألة وضاع السياق اللغوي؛ لأنه لا وجه - لغويا - في الآية يثبت وقوع الصلب على رجل آخر غيره، إذ لم يذكر صريحا ولا إشارة.

ثم ذكر في الفصل السادس أن القرآن العزيز لم يؤنب النصارى - ولا مرة - على ضلال [ ص: 1690 ] اعتقادهم بصلب المسيح وموته وقيامته، ولا كذب الإنجيل أو الحواريين، ولا لام الذين آمنوا بصلب المسيح، حال كونه نبههم مرارا على غير ضلالات عندهم.

وذكر فيه أيضا: لم ترد أحاديث صحيحة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنفي صلبه، وفيه أيضا: إن هذه الآية يصح تأويلها إيجابيا طبقا لما في الإنجيل، بما أن عدة آيات أخرى قرآنية مجانسة لها أولت بخلاف ظاهرها اللفظي، كأفعال المبايعة والرمي والموت والحياة وما أشبه ذلك، التي نسبت صريحا لغير فاعلها الظاهر.

وقال في الفصل العاشر: أما قولنا: إن القرآن العزيز قصد نفي نسبة فعل الصلب لليهود وإسناده لله حقيقة - فهو استناد على قوله: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال: 17]، وقوله: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم [الفتح: 10] فهنا الفاعل الظاهر حسا وفعلا إنما هو الرسول محمد - عليه الصلاة والسلام - ولكن الفاعل الحقيقي إنما هو الله الفاعل كل شيء في الكل.

ثم قال: وربما يعترض أنه ذكر في الآية نفسها أن الله رمى، وأنه تعالى هو المبايع، فنقول: كذلك في آي الصلب وإخباره مرارا عديدة صرح في الإنجيل أن الفاعل والمسلم والبازل والحاكم والآذن في أمر الصلب إنما هو الله جل جلاله.

ثم قال: نقول أخيرا: إن آية الصلب القرآنية هي صحيحة في ذاتها تماما وكمالا، ومطابقة أشد المطابقة لما ورد في نفس القرآن بهذا الشأن، ولكل فحوى أسفار الميثاقين أو العهدين، [ ص: 1691 ] بكل بيان، إنما تفسيرها بمطلق النفي كان وما زال غلطا وضد الحقيقة والذوق اللغوي، وضد ما جانسها في الآي الأخرى من نفس القرآن، ومن نصوص سائر الكتب المنزلة، ولا سيما الإنجيل، الذي زبدته وروحه وقوامه وخلاصته هي كون المسيح صلب ومات وقام وعرج إلى السماء، وأرسل البارقليط الآخر الرسول محمدا مبلغ القرآن العظيم، الحاوي روح الصدق والحق، والمذكر بكل ما قال المسيح في الإنجيل الشريف.

ثم قال: إن إنكار أمر الصلب أو إثباته ليس من الأركان في الدين عند المحمديين، ولا هو محرم قطعا الاختلاف في تفسير بعض آيات، وقد وجد ويوجد عدة اختلافات عند اليهود والنصارى والمسلمين، وليس ذلك محرما إلا إذا آل لإنكار أو لإفساد نفس الآيات، أو إيقاع الشبهة على ذات نصوص الوحي، ففي آية الصلب ليس شيء من ذلك، بل بالعكس تأييد كل النصوص الإلهية.

هذا خلاصة ما أورده في رسالته، وقد رد عليه من الفضلاء المسلمين عدد وافر، في تآليف بديعة، منها كتاب "السيوف البتارة" اعتمد مؤلفها في إيراد حججها على التواريخ الإفرنجية المعول عليها، فإن الإفرنج أعرف من غيرهم بحقيقة ما يهمهم، وأبعد من مظنة التشيع في شهادتهم على أنفسهم في أمر دينهم.

قال رعاه الله: يعلم الواقف على حقائق التاريخ أن مسألة الصلب من أهم المسائل التي ولدت الشقاق والنفرة فيما بين النصارى عموما ونصارى مصر والشام في الأجيال الأولى خصوصا؛ فإنهم كانوا غالبا يرفضون حصول الصلب رفضا باتا؛ لأن بعضهم كان يعتبره إهانة لشرف المسيح ، ونقصا فاضحا، والبعض الآخر كان يجحده ارتكانا على الأدلة التاريخية، وهؤلاء الجاحدون للصلب طوائف كثيرة، منها: الساطرنيوسيون والمركيونيون والبارديسيانيون والتاتيانيسيون والكاربوكراتيون والمانيسيون والبارسكاليونيون والبوليسيون؛ إذ كلهم اعتقدوا - مع كثيرين غيرهم - بأنه لا يمكنهم أن يسلموا بنوع من الأنواع أن المسيح سمر [ ص: 1692 ] فعلا، أو مات على الصليب حقيقة، حتى استخفوا بالصليب والصلب.

وقال بعض المؤرخين الأفاضل: إن الخلاف الذي وقع بين النصارى في مبدأ الأمر الذي كان سببا في انسلاخ جملة طوائف وتشتتها واعتبارها في رأي آخرين مارقة من الدين، ولكن هذه الطوائف المضطهدة المهضومة كانت أفكارها منطبقة على الأصول النصرانية عقلا ونقلا، بخلاف أفكار مضطهديهم - فإن هذه الطوائف بنت على ألوهية عيسى - عليه الصلاة والسلام – أنه لا يجوز أن يمتهن، واستنتجت من هذا أنه لم يصلب قطعا، وأن ألفاظ التوجع والتضجر - التي نسبتها إليه كتب النصارى المتأخرين - لم يتفوه بها ولا تصح نسبتها إليه.

وبالجملة إن الشخص المصلوب غير عيسى قطعا، وأنه - عليه الصلاة والسلام - لم تسلط عليه أيدي مضطهديه، بل رفع إلى السماء، ومن القائلين بهذه الأفكار الدوسيتية والمرسيونية والفلنطانيائية وغير خاف - أنه حتى على فرض البنوة فقط - لا يمكن عقلا أن يتصور صلبه. انتهى.

ويؤيد هذا ما قاله الباحث الشهير ( الموسيو إدوار سيوس ) أحد أعضاء (الانستيتو دي فرنس) في باريس، المشهور بمعارضته المسلمين في كتابه (عقيدة المسلمين في بعض المسائل النصرانية) صحيفة (49): إن القرآن ينفي قتل عيسى وصلبه، ويقول بأنه ألقي شبهه على غيره، فغلط اليهود فيه وظنوا أنهم قتلوه، وإن ما قاله القرآن موجود عند طوائف النصرانية منهم الباسيليديون كانوا يعتقدون - بغاية السخافة - أن عيسى وهو ذاهب لمحل الصلب ألقي شبهه على سيمون السيرناي تماما، وألقي شبه سيمون عليه، ثم أخفى نفسه ليضحك استهزاء على مضطهديه الغالطين، ومنهم السيرنتيون فإنهم قرروا أن أحد الحواريين صلب بدل عيسى، وقد عثر على فصل من كتب الحواريين، وإذا كلامه نفس كلام الباسيليديين وقد صرح " إنجيل القديس برنابا" باسم الذي صلب بدل عيسى قال: إنه يهوذا. انتهى.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 13-10-2022, 09:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1693 الى صـ 1700
الحلقة (273)






ولم يرد المؤرخ المترجم كلامه على هذا الإنجيل إلا بدعوى أنه كلام لا يعول [ ص: 1693 ] عليه، وهذا الرد من رجل صدر نفسه للرد على المسلمين غير كاف، فيستفاد من جميع ما ذكر أن جما غفيرا من طوائف النصارى - ذوات البال والأهمية - كانت تنبذ عقيدة صلب المسيح نبذا، وتفندها تفنيدا، وما زالوا كذلك حتى جاء الإسلام فدخلوا فيه أفواجا؛ لإنكار القرآن ما أنكروه من الصلب وغيره.

وبالجملة فإن أغلب الشعوب الشرقية - قبل الفتح الإسلامي -رفضت القتل والصلب، حتى قال ياسيليوس الباسليدي : إن نفس حادثة القيامة - المدعى بها بعد الصلب الموهوم - هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب، ومن المعلوم أن نصارى الشام هم الذين وقعت هذه الحادثة بينهم، فهم أقرب الناس إلى العلم بحقيقتها، وكذلك من جاورهم من نصارى المصريين وغيرهم؛ لحصول الجوار وقرب المسافة، فكيف لا تكون شهادتهم هي عين الصواب؟!

وبذلك يتبين أن دعوى (صاحب جريدة شهادة الحق) الإجماع على الصلب وانفراد القرآن الشريف بنفيه - غير مسلمة، مع وجود هذه الطوائف المنازعة في الصلب.

وقد صرح القرآن بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث لتصديق ما بين يديه من الحق وتبيين ما اختلف فيه طوائف النصارى مع اليهود، والنصارى مع بعضهم بعضا، ولو حكمنا التاريخ لشهد لهؤلاء الناس وبرر أقوالهم، وذلك أن أهل فلسطين كانوا يعبدون الأوثان ويخالفون بني إسرائيل في ديانتهم، فكان من مبادئهم - العاملين عليها في سياستهم العمومية - بذل المجهود وإفراغ الوسع في معاكسة عقائد اليهود؛ لإدخالهم في الديانة الوثنية وتقويض دعائم الشريعة الموسوية، والضغط على شعائرهم الملية.

يشهد لهذا أقوال الكاتب الشهير ( أرنست رنان ) العضو في (الأكاديمية الفرنساوية) المنفرد بالإجادة والشهرة في رسالة نشرت في جريدة العاملين في 15 مارس 1893، معنونة بـ(اليهود تحت حكم الرومان) حيث قال:

إن كل المناصب ذوات المرتب الباهظ كانت تعطي غنيمة باردة لليهود الذين يطرحون دينهم ظهريا، ويجعلون شعائرهم الملية شينا، ويعتنقون ديانة الرومان الوثنية، فكان من [ ص: 1694 ] ضغط الرومان، ومن تزلف اليهود إليهم، ومن أطماعهم إلى الرتب والألقاب - أن ارتد غالب سواد اليهود وعبدوا جوبيتر الألومبي ، وكان الواحد منهم يخفي الاختتان بعملية شاقة جدا (ذكرها سلس المؤرخ الروماني الشهير) ثم يتزيى بزي الرومان ويسحب ذيوله تيها وإعجابا بنفسه وبعوائد الرومان، وازدراء واحتقارا لبني جلدته وذوي ملته؛ فرحا بلقمة يلتقمها، أو مرتبة يتربع في دستها، وما زالت اليهود تترومن، حتى إن الأحبار غادروا الهيكل والمجامع، واشتغلوا بملاعب الرومان الرياضية.

وأخيرا آل الأمر - قبل وجود عيسى عليه السلام - إلى إدخال صنمهم الأكبر ووضعه في محل تقريب القربان نفسه، بحيث إن القربانات كانت تعمل أمامه، حتى كادت معالم اليهودية أن تنمحي من صحيفة الوجود، ووقع ذلك سيئ الوقع وأثر أردأ تأثير في نفوس البقية القليلة من اليهود التي اعتصمت بدينها. انتهى.

وبهذا يعلم مقدار ضغط الرومان على اليهود لمحو آثار دينهم من الوجود، فليس من المعقول أن الحكومة - وهي ما ترى من الكراهة الدينية لليهود - تجيبهم إلى ما طلبوا من تنفيذ أمر الصلب، أو تعيره أدنى ذرة من الأهمية، خصوصا والحاكم الروماني على فلسطين في ذلك الوقت كان يكره اليهود كما يكره أن يلقى في النار، وهم يكرهونه أشد من ذلك، دليلنا على ذلك ما كتبه المسيو رنان المذكور في كتابه المشهور المسمى "حياة المسيح" حينما تكلم على شكاية اليهود من عيسى بدعوى أنه غير التوراة، وكان ذلك - على زعمهم - ليستوجب قتله، حيث قال: إن حاكم فلسطين المسمى ( بونسيوس ) الملقب (بيلاطس) أظهر عدم عنايته بمنازعات اليهود الداخلية وشكاويهم وخصوماتهم، بل كان يعتبر أن هذه الأعمال صادرة عن عقول مختلفة وأفكار معتلة.

وبالإجمال كان يكره اليهود وهم يكرهونه أشد من كراهته لهم؛ لأنهم كانوا يجدونه قاسيا ذا أنفة وكبر، غير مكترث بهم، ولقد رموه وعابوه بجنايات لا يسعها عقل عاقل، والمتمسكون بدينهم منهم رأوا أن غرض بيلاطس هذا سحق أثر الشريعة الموسوية سحقا ومحوها محوا، وتعصبهم الأعمى وكراهتهم [ ص: 1695 ] الدينية له جعلاه يأنف من أفكارهم، فإنه كان يميل كل الميل إلى الأحكام الوضعية الرومانية، التي كانت نهاية فخر كل روماني في ذلك الحين، وكان يرى أفكار اليهود سخيفة تقهقرية؛ لأنه كلما هم بجلب النافع العام، وسن مشروع يضمن الراحة والرفاهية - قام الأحبار عن آخرهم وعارضوه بتفسير التوراة التي كانت تسد في وجهه أبواب التحسين والتغيير، فلم يعتن بجرح حواسهم ومس شرفهم ومعالمهم الدينية، وعاملهم بالقسوة والكبر وعدم تنفيذ رغباتهم، فانشغب الأمر ودام الفشل.

وأخيرا اضطرت الحكومة إلى إقالته من منصبه بسبب قيامة اليهود عليه، ولقد كانت نفس بيلاطس تضيق، وصدره يحرج عند مجيء شكوى ضد عيسى - عليه الصلاة والسلام - حيث كان لا يسمح بتنفيذ أمر القتل عليه، وعيسى ضد اليهود، ويعيب التوراة كما يقولون، فكان ذلك عن رغبة الحاكم، وجل ما يتمنى، فكيف يكون هو الآمر والمنفذ لقتله؟ مع أنه كان قادرا على تنفيذ رغباته المضادة لليهود على خط مستقيم، والحقيقة أن بيلاطس كان ميالا كل الميل لخلاص السيد المسيح من هؤلاء الظلمة، ولعله رأى ما فيه من جميل الشيم والأخلاق الكريمة الطاهرة فراقه ذلك، زيادة عن كراهته لليهود، فعمل على خلاصه من الصلب، كما يتضح من "إنجيل متى" 27 و 24 و"لوقا" 23 و 12و"يوحنا" 13 - 23 وفي بعض آيات الإنجيلين أن عيسى سوعد من زوجة بيلاطس الحاكم القائلة (كما هو مذكور في "إنجيل متى" 27 و 19): إياك وهذا البار؛ لأني تألمت اليوم كثيرا في حلم من أجله، ولعلها رأته فبهرها كماله ووقاره وحشمته وبلوغه الغاية في الأدب والشمائل الطاهرة.

والظاهر أنها رأت هذا الشاب البريء المبجل من إحدى نوافذ قصرها المطلة على أفنية هيكل سليمان - عليه السلام - فظهر لها بكماله الحقيقي، فاستفظعت إهدار دم هذا البريء الوقور، وكيفما كان السبب فالذي لا يشك فيه أحد أن بيلاطس كان محبا لعيسى - عليه السلام - حبا شديدا، ولذلك سأله بكمال اللطف والأدب ليفرغ ما في وسعه لتبرئته. انتهى.

[ ص: 1696 ] فيؤخذ من كلام (رنان) أن الحاكم المنوط به الأمر والتنفيذ كان مضادا للصلب، فلا غرابة في عدم حصوله للمسيح - عليه السلام - وتبديله بآخر، وكراهة هذا الحاكم لليهود مشهورة لا تحتاج لزيادة إيضاح، حتى إن ترتوليانوس أحد آباء الكنيسة النصرانية جزم بأن بيلاطس الحاكم كان نصرانيا في الباطن.

وفي الجزء الأول من تاريخ الديانة النصرانية لمؤلفه ( ملمن ): إن تنفيذ الحكم كان في وقت الغلس وإسدال ثوب الظلام، فيستنتج من ذلك أيضا إمكان استبدال السيد المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس، منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم، كما اعتقد بعض الطوائف، وصدقهم القرآن، ولقد جرى على هذا الرأي جماعة من المؤرخين المهمين كـ(المسيوشارل بيكا) و(أرنست دي بونس) وغيرهما، فإن الأول قال: إن مسألة صلب المسيح كلها مبتكرة مخترعة لا غير؛ لتوافق اعتقادات قديمة، مآلها أن الله لا يسكن غضبه إلا بسفك دم القربان من بني آدم، وكانت اليهود تقدم أولادها قربانا للذبح؛ استجلابا لإسكان غضب الخالق وجلب رضاه.

ويقول: إنهم ربما أكلوا لحوم القربان الآدمي وشربوا دمه، ولما قامت الأنبياء في بني إسرائيل واضطهدت هذه العادة الشنعاء بدل ذبح الآدمي قربانا بذبح الحيوان، وأطال المسيو (بيكار) في شرح ارتباط تضحية سيدنا عيسى - عليه الصلاة والسلام - مع هذه العوائد القديمة، فأفاد أن نفس الصليب كان مستعملا رمزا عن شيء عندهم اسمه (اللنجام) وهو عبارة عن خشبتين متصلبتين متداخلتين في بعضهما.

وأما المسيو ( أرنست دي بونس الألماني ) فإنه قال في كتابه المسمى بـ"النصرانية الحقة" صحيفة 142 ما معناه: إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومن شابهه، من الذين لم يروا المسيح - عليه الصلاة والسلام - لا من أصول النصرانية الأصلية.

فوضح وضوح الشمس لذي عينين أن التاريخ - فضلا عن كونه لم يثبت مسألة الصلب [ ص: 1697 ] والقتل - يرجح نفي حصوله رجحانا لا يكاد يفارق اليقين الحقيقي، ومعلوم أن أخذ الأمور التاريخية في هذا الصدد عن طوائف مصر والشام أولى؛ لأنهم أبناء جلدتها، وأدرى بحوادث بلادهم الحقيقية، فيؤخذ من كل ذلك:

أولا: أن كافة الظروف التي حصل فيها تنفيذ الحكم كانت مساعدة لتخليص المسيح - عليه الصلاة والسلام - وبالأخص اضطهاد الحكومة الرومانية للعقائد الموسوية، وعدم الاعتناء بها لا يسهل تنفيذها.

ثانيا: وقت الغلس الذي حصل فيه ذلك الصلب الموهوم.

وكان يمكننا لدرس هذا الموضوع التكلم على جملة مسائل تفند دعوى الصلب تفنيدا لا مزيد عليه، ومن ضمنها أن نصارى اليوم تدعي أن سيدنا عيسى - عليه الصلاة والسلام - حكم عليه من مجمع اليهود بالقتل بسبب تغييره لأحكام التوراة، ومن المعلوم أن الحكم في ذلك الموضوع الرجم لا الصلب، فهذا مما يرتكن عليه مثل المسيو ( شارل بيكار ) في ادعائه أن النصارى الحديثين احتاجوا لعلامة الصليب رمزا لبعض عقائد كانوا يريدون إدخالها في الديانة، وهي مسألة الفدا. انتهى كلام صاحب السيوف البتارة.

ولما اطلع عليها ذلك النصراني المذبذب المردود عليه، أعياه الرد من الطريقة التاريخية، فأخذ يرد عليها تشبثا بأسباب واهية، فعد كل من رفض الصلب من نصارى الأيام الأول هرطوقيا، أي: مارقا من الدين، ورمى أصحاب التواريخ من أهل أوروبا الذين وافقوا المسلمين في عدم حصول الصلب بأنهم كفرة الإفرنج، ثم تمسك بالأناجيل الأربعة الرسمية، وقال: إنه لا يمكنه أن يزيف شيئا منها ما دامت شاهدة - من أولها إلى آخرها - بحصول الصلب حقيقة، وأنه يلزم حينئذ تأويل ما جاء في القرآن المجيد حتى يصل للوفاق.

فعاد صاحب "السيوف البتارة" وألف رسالة ثانية في شهادة علماء الإفرنج بحفظ القرآن وتحريف ما سواه، تكملة للأول، فتوسع - جزاه الله خيرا - في هذا الموضوع ثم قال (في الكلام على الإنجيل) ما لفظه: أما الإنجيل فإنه أبعد عن الصحة من التوراة بكثير؛ إذ [ ص: 1698 ] لا يفهم أحد للآن كيف تعدد الإنجيل الأصلي إلى نسخ شتى متباينة؟! ولأي مرجح استحسنت منها النصارى الحاليون أربعة أناجيل، مختلفة كل الاختلاف، متضاربة كل التضارب؟! ولا يدرى لماذا عدلوا عن "إنجيل برنابا" مثلا الذي وافق القرآن قبل ظهوره في المسائل التي أبتها الكتب الحالية، فإنا نجد هذا الإنجيل يخبر أن السيد المسيح : نبي، عبد، مخلوق، ليس بإله، وأنه لم يصلب، وفيه البشارة بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - مذكورا بلفظه (كذا) وهاك ما قاله السيد المسيح في الإنجيل المذكور: (وإني وإن كنت بريا، لكن بعض الناس لما قالوا في حقي: إنه الله وابن الله - كره الله هذا القول، واقتضت مشيئته بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة علي ولا يستهزؤون، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا، ويظن كل شخص أني صلبت، لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس).

وقد استشهد العلامة (سيل) الإنكليزي المشهور في أوروبا بترجمة المصحف الشريف بهذه الآية الإنجيلية، تفسيرا لقوله تعالى في سورة آل عمران: ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين [آل عمران: 54].

وإنجيل برنابا أثبته العلماء قبل الإسلام بنحو ثلاثمائة سنة، حتى إن العالم الإنكليزي (تولاند) قال: وعلى النصرانية السلام بمجرد رؤيته هذا الإنجيل، ثم قال: قال العلامة ( هيردر ) وجماعة آخرون: إن الإنجيل الأصلي كان واحدا، إلا أنه لم يكتب، بل قاله المسيح مشافهة، ورواه الحواريون عنه للناس شفاهيا أيضا، فحفظ الخلق منه بعض أقوال أضافوا إليها ما استحسنوه من السير والقصص، ونقصوا منها ما لم يوافق أذواقهم، وما زالت تنتقل الروايات المختلفة من شخص إلى آخر، ومن زمن إلى غيره حتى تشعبت، وكتب أخيرا منها أناجيل شتى، فاختارت الكنائس منها أربعة جعلتها الرسمية.

[ ص: 1699 ] ثم قال مؤلف "السيوف البتارة": فوضح وضوحا تاما لذي بصيرة أن الحجة على دعوى صلب المسيح قد سقطت سقوطا لا تقوم بعده أبدا، سواء من جهة التاريخ الصحيح الذي دحضها وخذل مدعيها بأجلى برهان، أو من جهة الأناجيل المعتبرة عندهم؛ لذهاب أصلها أدراج الرياح بثبوت التحريف والتغيير لها.

ثم قال: وأما قوله (يعني المذبذب) بأن طوائف النصارى الرافضة للصلب هراقطة - فغريب؛ لأنهم مثله في العقيدة لا يمتازون إلا بإنكارهم الصلب الحقيقي للمسيح، وهل الاقتصار في الرد من باحث على قوله (كفرة) يعد من باب نقض الدليل بالدليل وتزييف الحجة بالحجة؟ أو من باب المكابرة في المحسوس والانقطاع عن المناظرة للعجز الواضح، وإذا جاز إطلاق (كفرة) على هؤلاء وهم أمناء النصرانية واليهودية - جاز أن تصف بهذه الصفة كل يهودي ونصراني، وحينئذ لا يصح احتجاجك بإجماعهم ولا بشيء من آرائهم، وتكون في ردك بكلمة (هراقطة - كفرة) أشبه بمن اقتصر في مناظرة خصمه على كلمة (لا) فقط، فهو يكررها ولا يسأم من الرد بها.

ثم قال: فقد برح الخفاء، وانكشف الغطاء، وبان للقراء أن لا إجماع بين النصارى أنفسهم على حصول الصلب منذ تكلم الناس فيه حتى الآن، وتفرقت فيه آراؤهم أيدي سبا، وذهبوا فيه كل مذهب، فلا تكاد تجد قولا لأحدهم في أي عصر إلا وهو مضاد لأقوال آخرين منهم على خط مستقيم، حتى لا ترى إلا غوغاء وجلبة المناقضات، فلم يتفقوا على كيفية الصلب ولا على معناه ولا على المراد منه، ولا اجتمع فيه رأيان، كان ذلك من باب التقليد والتسليم، الذي لا يقام عليه دليل أعظم من أن يقال: إن الدين ينبغي أن لا يفهم ولا يدخل معناه السري تحت تصور، هذا مع أن الصلب عند النصارى هو قلب دينهم (كما يقولون) وأساس معتقدهم، حتى كأنه بمنزلة التوحيد عند المسلمين، ومع أن نفي الصلب عندنا ليس من الأصول التي انبنى عليها ديننا في شيء، بل لا تخرج مسألته عن كونها من قصص الأولين، كالإخبار عن [ ص: 1700 ] نوح وإبراهيم وموسى ، مما سبق لنحو الوعظ والاعتبار - فلم يهجس بخلد مسلم منذ وجد الإسلام إلى يومنا هذا أن عيسى - صلى الله عليه وسلم - صلب أو قتل، ولم يخرق إجماع المسلمين على ذلك واحد منهم في كل عصر ومكان، وما ذلك إلا لضبط القرآن الكريم وصيانته، ولو حكمنا غير متدين في هذه المسألة، ونظر لأهميتها عند النصارى، مع عدم قدرتهم على إثباتها، ولفرعيتها عند المسلمين، مع إجماعهم على نفيها إجماعا لا مثيل له في العالم - لانبهر من همة المسلمين في ضبط وحفظ كتابهم، وثباتهم في صغير الأمر وكبيره، وتمنى أن تتدلى الأنجم الزهر؛ ليصوغ منها عقود ثناء ومدح لهم على عنايتهم بدينهم إلى هذا الحد الذي لا نظير له، ولم يسعه إلا أن يقلب أكف الأسف، ويعض بنان الندم على تزعزع دين غيرهم، لدرجة أن أعظم أصل فيه لا يثبت إلا في مخيلات بعض المقلدين، من غير استناد على دليل نقلي صحيح، أو عقلي مسلم، حتى قام عقلاؤهم نافضين غبار التقليد، ناشدين الحقيقة، فانجلت لكثير منهم عن تدمير هذا البناء التقليدي، والرجوع إلى ما ثبت بالدليل في ديانة غيرهم.

ومما هو جدير بالتنبه له أن بولس الذي عزا إليه كل محققي التاريخ من الإفرنج وغيرهم أنه وحده المخترع لمسائل الصلب والفداء، وألوهية عيسى إلى غير ذلك - قد أبان أن الصلب والقتل ليسا حقيقيين، كما جاء في رسالته لأهل غلاطية، حيث قال: أنتم الذين رسم يسوع المسيح بينكم مصلوبا، وقال في رسالته لأهل رومية: نحن نقوم بشبه موته، إلى أن قال: فدفنا معه بالمعمودية؛ لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضا بارتفاعه، عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه ... إلخ.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 13-10-2022, 09:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1701 الى صـ 1708
الحلقة (274)




فيستفاد من مجموع أقوال بولس هذه أن المسيح لم يصلب ولم يقتل حقيقة، وإنما ذلك مجاز عن الشبه المقتول المصلوب، كما جاء في إنجيل برنابا، وقد يدعوك حب التمسك بهذه المسألة إلى أن تؤول كلام بولس بما لا يحتمله اللفظ والسياق، وأنت لاه عن أنه متى وقع الاحتمال سقط الاستدلال، وإنما أتينا بكلامه تنزلا معك على التسليم الجدلي بصحة ما روي عنه في رسالته لأهل غلاطية، فنقول: حتى على [ ص: 1701 ] فرض صحة ما روي عن بولس نفسه فإنه يشهد لنفي الصلب والقتل، لا لحصولهما حقيقة.

هذا ولو قارنت دعوى الصلب والفداء بما جاء في التوراة من قولها: (الشرير فدية الصديق) لكان معناه - على مقتضى زعمك - أن عيسى شر بالإضافة لكل أحد، وهذا لا يجوز لا عقلا ولا شرعا، فوجب - أخذا من عبارة التوراة - أن يكون المصلوب شريرا فداء لصديق، هو عيسى - عليه الصلاة والسلام - كما جاء في إنجيل برنابا . انتهى ملخصا.

ولن يعدم الحق أنصارا، والباطل خزيا وانكسارا.
فصل

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رضي الله عنه - في كتابه "الفرقان" وهو من آخر مصنفاته، صنفه بقلعة دمشق، ما لفظه: (فإن قيل): فإذا كان في كتب الأناجيل التي عندهم أن المسيح صلب، وأنه بعد الصلب بأيام أتى إليهم، وقال لهم: أنا المسيح، ولا يقولون إن الشيطان تمثل على صورته - فالشيطان ليس هو لحم وعظم، وهذا أثر المسامير، أو نحو هذا الكلام - فأين الإنجيل الذي قال الله عز وجل فيه: وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله [المائدة: 47] وقال قبل هذا: وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الفاسقون [المائدة: 46 - 47] وقال قبل هذا: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنـزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء [ ص: 1702 ] [المائدة: 43 - 44] وقال أيضا: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم [المائدة: 66] وقال أيضا: قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين [المائدة: 68] وهذا أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لأهل الكتاب - الذين بعث إليهم - وهو من كان في وقتهم، ومن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة، لم يؤمر أن يقول ذلك لمن قد تاب منهم.

وكذلك قوله: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله [المائدة: 43] إخبار عن اليهود الموجودين، وأن عندهم التوراة فيها حكم الله، وكذلك قوله: وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه [المائدة: 47] هو أمر من الله على لسان محمد لأهل الإنجيل، ومن لا يؤمر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - قيل قبل هذا: إنه قد قيل: ليس في العالم نسخة بنفس ما أنزل الله في التوراة والإنجيل بل ذلك مبدل، فإن التوراة انقطع تواترها، والإنجيل إنما أخذ عن أربعة، ثم من هؤلاء من زعم أن كثيرا مما في التوراة والإنجيل باطل ليس من كلام الله، ومنهم من قال: بل ذلك قليل، وقيل: لم يحرف أحد شيئا من حروف الكتب، وإنما حرفوا معانيها بالتأويل.

وهذان القولان قال كلا منهما كثير من المسلمين، والصحيح القول الثالث، وهو أن في الأرض [ ص: 1703 ] نسخا صحيحة، وبقيت إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسخا كثيرة محرفة، ومن قال: إنه لا يحرف شيء من النسخ فقد قال ما لا يمكنه نفيه.

ومن قال: جميع النسخ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حرفت فقد قال ما يعلم أنه خطأ، والقرآن يأمرهم أن يحكموا بما أنزل الله في التوراة والإنجيل، ويخبر أن فيهما حكمه، وليس في القرآن خبر أنهم غيروا جميع النسخ، وإذا كان كذلك فنقول: هو سبحانه قال: وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه [المائدة: 47] وما أنزله الله هو ما تلقوه عن المسيح ، فأما حكايته لحاله بعد أن رفع فهو مثلها في التوراة ذكر وفاة موسى - عليه السلام - ومعلوم أن هذا الذي في التوراة والإنجيل من الخبر عن موسى وعيسى بعد توفيهما ليس هو مما أنزله الله ومما تلقوه عن موسى وعيسى ، بل هو مما كتبوه مع ذلك التعريف بحال توفيهما، وهذا خبر محض من الموجودين بعدهما عن حالهما، ليس هو مما أنزله الله عليهما، ولا هو مما أمرا به في حياتهما، ولا مما أخبرا به الناس.

وكذلك: لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليكم من ربكم [المائدة: 68] وقوله: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم [المائدة: 66] فإن إقامة الكتاب العمل بما أمر الله به في الكتاب، ومن التصديق بما أخبر به على لسان الرسول.

وما كتبه الذين نسخوه من بعد وفاة الرسول ومقدار عمره ونحو ذلك - ليس هو مما أنزله [ ص: 1704 ] الله على الرسول، ولا مما أمر به، ولا أخبر به، وقد يقع مثل هذا في الكتب المصنفة، يصنف الشخص كتابا، فيذكر ناسخه في آخره عمر المصنف ونسبه وسنه، ونحو ذلك مما ليس هو من كلام المصنف، ولهذا أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن، وأن لا يكتب في المصحف غير القرآن، فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا (آمين) ولا غير ذلك.

والمصاحف القديمة - والتي كتبها أهل العلم - على هذه الصفة، وفي المصاحف من قد كتب ناسخها أسماء السور والتخميس والتعشير والوقف والابتداء، وكتب في آخر المصحف تصديقه، ودعا وكتب اسمه ونحو ذلك، وليس هذا من القرآن، فهكذا ما في الإنجيل من الخبر عن صلب المسيح وتوفيه ومجيئه بعد رفعه إلى الحواريين - ليس هو مما قاله المسيح ، وإنما هو مما رآه من بعده، والذي أنزله الله هو ما سمع من المسيح المبلغ عن الله.

فإن قيل: فإذا كان الحواريون قد اعتقدوا أن المسيح صلب، وأنه أتاهم بعد أيام، وهم الذين نقلوا عن المسيح الإنجيل والدين، فقد دخلت الشبهة.

قيل: الحواريون - وكل من نقل عن الأنبياء - إنما يجب أن يقبل منهم ما نقلوه عن الأنبياء، فإن الحجة في كلام الأنبياء، وما سوى ذلك فموقوف على الحجة، إن كان حقا قبل وإلا رد، ولهذا كان ما نقله الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن والحديث يجب قبوله، لا سيما المتواتر، كالقرآن وكثير من السنن.

وأما ما قالوه: فما أجمعوا عليه فإجماعهم معصوم، وما تنازعوا فيه رد إلى الله والرسول، وعمر قد كان أولا أنكر موت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رد ذلك عليه أبو بكر ، وقد تنازعوا في دفنه حتى فصل أبو بكر بالحديث الذي رواه، وتنازعوا في [ ص: 1705 ] تجهيز جيش أسامة، وتنازعوا في قتال مانعي الزكاة، فلم يكن هذا قادحا فيما نقلوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والنصارى ليسوا متفقين على صلب المسيح ، ولم يشهد أحد منهم صلبه، فإن الذي صلب إنما صلبه اليهود، ولم يكن أحد من أصحاب المسيح حاضرا، وأولئك اليهود الذين صلبوه قد اشتبه عليهم المصلوب بالمسيح، وقد قيل: إنهم عرفوا أنه ليس هو المسيح ، ولكن هم كذبوا وشبهوا على الناس، والأول هو المشهور، وعليه جمهور الناس، وحينئذ [ ص: 1706 ] فليس عند النصارى خبر عمن يصدقونه بأنه صلب، ولكن عمدتهم على ذلك الشخص الذي جاء الشيطان بعد أيام وقال: أنا المسيح ، وذاك شيطان، وهم يعترفون بأن الشياطين كثيرا ما تجيء ويدعي (كذا) إنه نبي أو صالح، ويقول: أنا فلان النبي والصالح، ويكون شيطانا، وفي ذلك حكايات متعددة مثل حكاية الراهب الذي جاءه جاء وقال: أنا المسيح جئت لأهديك، فعرف أنه الشيطان، فقال: أنت قد بلغت الرسالة، ونحن نعمل بها، فإن جئت اليوم بشيء يخالف ذلك لم نقبل منك.

فليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صلب، كما قال تعالى: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [النساء: 157] وأضاف الخبر عن قتله إلى اليهود بقوله: وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله [النساء: 157] فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة؛ إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح.

ومن جوز قتله فهو كمن قتله، فهم في هذا القول كاذبون، وهم آثمون، وإذا قالوه فخرا لم يحصل لهم الفخر؛ لأنهم لم يقتلوه، وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا: يا رسول الله! فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه .

[ ص: 1707 ] وقوله: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه قيل: هم اليهود والنصارى والآية تعم الطائفتين.

وقوله: لفي شك منه من قتله، وقيل: منه، أي: في شك منه، هل صلب أم لا؟ كما اختلفوا فيه، فقالت اليهود: هو ساحر، وقالت النصارى: إنه إله، فاليهود والنصارى اختلفوا هل صلب أم لا؟ وهم في شك من ذلك ما لهم به من علم، فإذا كان هذا في الصلب، فكيف في الذي جاء بعد الرفع وقال: إنه هو المسيح؟

فإن قيل: كان الحواريون الذين أدركوه قد حصل هذا في إيمانهم، فأين المؤمنون به الذي قال فيهم: وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا [آل عمران: 55] وقوله: فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [الصف: 14]؟ قيل: ظن من ظن منهم أنه صلب لا يقدح في إيمانه، إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح ، بل هو مقر بأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - فاعتقاده بعد هذا أنه صلب لا يقدح في إيمانه، فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين، وغاية الصلب أن يكون قتلا له، وقتل النبي لا يقدح في نبوته، وقد قتل بنو إسرائيل كثيرا من الأنبياء. قال تعالى: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير [آل عمران: 146] [ ص: 1708 ] الآية. وقال تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [آل عمران: 143] وكذلك اعتقاد من اعتقد منهم أنه جاء بعد الرفع وكلمهم، هو مثل اعتقاد كثير من مشايخ المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءهم في اليقظة؛ فإنهم لا يكفرون بذلك، بل هذا كان يعتقده من هو أكثر الناس اتباعا للسنة وأتباعا لها، وكان في الزهد والعبادة أعظم من غيره، وكان يأتيه من يظن أنه رسول الله، فهذا غلط منه لا يوجب كفره، فكذلك ظن من ظن من الحواريين أن ذلك هو المسيح لا يوجب خروجهم عن الإيمان بالمسيح ، ولا يقدح فيما نقلوه عنه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 13-10-2022, 09:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1709 الى صـ 1714
الحلقة (275)




وعمر لما كان يعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ، وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه - لم يكن [ ص: 1709 ] هذا قادحا في إيمانه، وإنما كان غلطا ورجع عنه. وقوله تعالى: ما لهم به من علم إلا اتباع الظن هو ذم لهم على اتباع الظن بلا علم. انتهى كلام ابن تيمية رضي الله عنه.

ولإمام الأدباء شرف الدين البوصيري رحمه الله قصيدة في هذا المقام، نظمها في سلك ما تقدم تكملة للمرام، قال -قدس سره -:


جاء المسيح من الإله رسولا فأبى أقل العالمين عقولا قوم رأوا بشرا كريما فادعوا
من جهلهم لله فيه حلولا وعصابة ما صدقته وأكثرت
بالإفك والبهتان فيه القيلا لم يأت فيه مفرط ومفرط
بالحق تجريحا ولا تعديلا فكأنما جاء المسيح إليهم
ليكذبوا التوراة والإنجيلا فاعجب لأمته التي قد صيرت
تنزيهها لإلهها التنكيلا وإذا أراد الله فتنة معشر
وأضلهم رأوا القبيح جميلا هم بجلوه بباطل فابتزه
أعداؤه بالباطل التبجيلا وتقطعوا أمر العقائد بينهم
زمرا ألم تر عقدها محلولا هو آدم في الفضل إلا أنه
لمن يعط حال النفخة التكميلا أسمعتموا أن الإله لحاجة
يتناول المشروب والمأكولا؟ وينام من تعب ويدعو ربه
ويروم من حر الهجير مقيلا ويمسه الألم الذي لم يستطع
صرفا له عنه ولا تحويلا [ ص: 1710 ] يا ليت شعري حين مات بزعمهم
من كان بالتدبير عنه كفيلا؟ هل كان هذا الكون دبر نفسه
من بعده أم آثر التعطيلا؟ زعموا الإله فدى العبيد بنفسه
وأراه كان القاتل المقتولا اجزوا اليهود بصلبه خيرا ولا
تجزوا (يهوذا) الآخذ البرطيلا أيكون قوم في الجحيم ويصطفي
منهم كليما ربنا وخليلا وإذا فرضتم أن عيسى ربكم
أفلم يكن لفدائكم مبذولا؟ وأجل روحا قامت الموتى به
عن أن يرى بيد اليهود قتيلا فدعوا حديث الصلب عنه ودونكم
من كتبكم ما وافق التنزيلا شهد الزبور بحفظه ونجاته
أفتجعلون دليله مدخولا؟ أيكون من حفظ الإله مضيعا
أو من أشيد بنصره مخذولا؟ أيجوز قول منزه لإلهه:
سبحان قاتل نفسه مقتولا؟ أو جل من جعل اليهود بزعمكم
شوك القتاد لرأسه إكليلا ومضى لحبل صليبه مستسلما
للموت مكتوف اليدين ذليلا كم ذا أبكتكم ولم تستنكفوا
أن تسمعوا التبكيت والتخجيلا ضل النصارى في المسيح وأقسموا
لا يهتدون إلى الرشاد سبيلا


وهي سابغة الذيل، كلها من هذا النفس البديع.
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائح اليهود وقبائح أفعالهم، وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى - عليه السلام - وبين أنه ما حصل لهم ذلك المقصود، وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجل المراتب - بين تعالى تحقيق ما أثبته في الآية السابقة من القطع بكذبهم، مثبتا أنهم في مبالغتهم في عداوته سيكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره، الذي منه التصديق بمحمد - صلى الله عليه وسلم - مؤكدا له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له بقوله:

[ ص: 1711 ] القول في تأويل قوله تعالى:

وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا [159]

وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته أي: ما أحد من أهل الكتاب يدرك نزول عيسى - عليه السلام - في آخر الزمان إلا ليؤمنن به قبل موته، أي: موت عيسى - عليه السلام - أي: لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان يؤيد الله به دين الإسلام، حتى يدخل فيه جميع أهل الملل. إشارة إلى أن موسى - عليه السلام - إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زمانا طويلا - فالنبي الذي ينسخ شريعة موسى - وهو عيسى عليهما السلام - هو الذي يؤيد الله به هذا النبي العربي في تجديد شريعته، وتمهيد أمره، والذود عن دينه، ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة، وأتباع مستكثرة. أمر قضاه الله تعالى في الأزل، فاقصروا أيها اليهود.

فمعنى الآية إذن - والله أعلم -: إنه ما من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى - عليه السلام - على شك إلا وهو يوقن بعيسى - عليه السلام - قبل موته، بعد نزوله من السماء أنه ما قتل وما صلب، ويؤمن به عند زوال الشبهة، أفاده البقاعي .

روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا له من الدنيا وما فيها ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا

[ ص: 1712 ] وأخرجه مسلم أيضا، وابن مردويه، وزاد بعد قوله (قبل موته): موت عيسى ابن مريم ، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.

ورواه الإمام أحمد، عن حنظلة، عن أبي هريرة أيضا مرفوعا ولفظه: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب، وتجمع له الصلاة، ويعطى المال حتى لا يقبل، ويضع الخراج، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما .

قال: وتلا أبو هريرة: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال: يؤمن به قبل موت عيسى ، فلا أدري هذا كله حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أو شيء قاله أبو هريرة .

ورواه أحمد أيضا، عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة وفيه: ويهلك الله في زمانه الملل كلها [ ص: 1713 ] غير الإسلام، ويمكث أربعين سنة، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون .

وفي حديث النواس بن سمعان عند مسلم : فينزل عند المنارة شرقي دمشق .

وقد ذكر الحافظ ابن كثير هنا الأحاديث المتواترة في نزوله - عليه السلام - من رواية أبي هريرة، وابن مسعود، وعثمان بن أبي العاص، وأبي أمامة، والنواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجمع بن جارية، وأبي سريحة حذيفة بن أسيد - رضي الله عنهم - وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه من أنه بالشام، بل بدمشق عند المنارة الشرقية، وأن ذلك يكون عند إقامة صلاة الصبح.

قال ابن كثير : وقد بنيت في هذه الأعصار - في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة - منارة للجامع الأموي، بيضاء من حجارة منحوتة، عوضا عن المنارة التي هدمت بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - وكان أكثر عمارتها من أموالهم، وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - وهذا إخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم – بذلك. انتهى.

قلت: وقد اشتهرت هذه المنارة بمئذنة عيسى.

وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" عن بعض السلف أن عيسى - عليه السلام - بعد نزوله يدفن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرته، فالله أعلم.

والتأويل المذكور في الآية رواه ابن جرير ، عن سعيد بن جبير والعوفي، كلاهما عن ابن عباس .

[ ص: 1714 ] وروى ابن أبي حاتم بسنده، عن الضحاك ، عن ابن عباس في الآية قال: يعني اليهود خاصة، وبه إلى الحسن : يعني النجاشي وأصحابه.

وبه إليه قال: إن الله رفع إليه عيسى ، وهو باعثه - قبل يوم القيامة - مقاما يؤمن به البر والفاجر.

وكذا قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد.

قال ابن كثير : وهذا القول هو الحق.

وروي عن ابن عباس أيضا، ومحمد ابن الحنفية، ومجاهد ، وعكرمة، ومحمد بن سيرين، والضحاك، وجويبر أن المعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت ذلك الكتابي عند الغرغرة، حين لا ينفعه الإيمان، ذهابا إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل؛ لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه.

قال عكرمة: قال ابن عباس : لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، ولو عجل بالسلاح.

قال الزمخشري : فإن قلت: ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت: فائدته الوعيد، وليكون علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم - بعثا لهم وتنبيها على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به، وليكون إلزاما للحجة لهم. انتهى.

قال الأصبهاني: ويدل على صحة هذا التأويل قراءة أبي بن كعب - رضي الله عنه -: (إلا ليؤمنن به قبل موتهم) بضم النون وإلحاق ميم الجمع.

والأسانيد إلى ابن عباس في هذا التأويل كلها صحيحة، كما قاله ابن كثير .

وثمة وجه آخر: وهو أن الضمير الأول للنبي - صلى الله عليه وسلم- والثاني: للكتابي. رواه ابن جرير ، عن عكرمة قال: لا يموت النصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1715 ] وتلا الآية.

قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب - بعد نزول عيسى عليه السلام - إلا آمن به قبل موته، أي: قبل موت عيسى عليه السلام.

قال ابن كثير : ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك. فأخبر الله تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه، وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية (يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف).

فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم.

ثم قال: فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى: أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد - عليهما السلام - فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له، إذا كان قد شاهد الملك، كما قال تعالى في أول هذه السورة: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن [النساء: 18]، وقال تعالى: فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده الآية.

ويوم القيامة يكون أي: عيسى عليه السلام: عليهم أي: على أهل الكتاب: شهيدا أي: بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء، [ ص: 1716 ] وبعد نزوله إلى الأرض.

قال قتادة : يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله، وأقر بعبوديته لله عز وجل، وهذا كقوله تعالى: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس إلى قوله: العزيز الحكيم [المائدة: 116].
القول في تأويل قوله تعالى:

فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا [160]

فبظلم أي: بسبب ظلم عظيم، فالتنوين للتفخيم، وهو جامع لتفصيل نقض الميثاق وما عطف عليه مما استحلوه بعد أن حرمته التوراة.

من الذين هادوا أي: تلبسوا باليهودية، وفيه تعظيم ظلمهم أيضا؛ إذ صدر عنهم بعدما ادعوا أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق.

حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم قال ابن كثير : هذا التحريم قد يكون قدريا، بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم، وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم، فحرموها على أنفسهم تضييقا وتنطعا. ويحتمل أن يكون شرعيا، بمعنى أنه تعالى حرم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك، كما قال تعالى: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قل فأتوا بالتوراة [آل عمران: 93].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 13-10-2022, 09:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1717 الى صـ 1724
الحلقة (276)





أي: ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة من لحوم الإبل وألبانها، ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال في سورة الأنعام: [ ص: 1717 ] وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون [الأنعام: 146] أي: إنما حرمنا عليهم ذلك لطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه.

ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته بقوله تعالى: وبصدهم عن سبيل الله أي: الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم كثيرا أي: ناسا كثيرا، أو صدا كثيرا، فهم صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق، وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خلقا من الأنبياء، وكفروا بعيسى ومحمد ، صلى الله عليهما وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى:

وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما [161]

وأخذهم الربا وقد نهوا عنه أي: في التوراة وأكلهم أموال الناس بالباطل بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة.

وأعتدنا للكافرين منهم أي: من اليهود المصرين على الكفر، لا لمن تاب وآمن من بينهم عذابا أليما وجيعا يخلص إلى قلوبهم.
[ ص: 1718 ] القول في تأويل قوله تعالى:

لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما [162]

لكن الراسخون في العلم منهم أي: الثابتون في العلم المستبصرون فيه، كعبد الله بن سلام.

قال الرازي : الراسخون في العلم: الثابتون فيه، وهم في الحقيقة المستدلون؛ لأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك، وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة، فالراسخون هم المستدلون والمؤمنون أي: من الأميين اللاحقين بهم في الرسوخ بصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمنون بما أنـزل إليك من القرآن وما أنـزل من قبلك على سائر الأنبياء؛ لاطلاعهم على كمالات المنزل عليك، وأنه صدق ما أنزل من قبلك، فلا بد من الإيمان به أيضا والمقيمين الصلاة قال ابن كثير : هكذا هو في مصاحف الأئمة، وكذا هو في مصحف أبي بن كعب .

قال الزمخشري : ارتفاع (الراسخون) على الابتداء، و يؤمنون خبره و والمقيمين نصب على المدح؛ لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام، وذب المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من يلحق بهم.

[ ص: 1719 ] وقيل: هو عطف على: بما أنـزل إليك أي: يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء.

وفي مصحف عبد الله (والمقيمون) بالواو، وهي قراءة مالك بن دينار ، والجحدري ، وعيسى الثقفي .

وجوز عطف (المقيمين) على الضمير في (منهم) وعطفه على الضمير في و(إليك) والكتاب أنزل للنبي ولأتباعه، قال تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم [يونس: 57] كذا في حواشي الشذور.

وقد أشار الزمخشري بقوله: (كانوا أبعد همة) إلى رد ما نقل أن عثمان - رضي الله عنه - لما فرغ من المصحف أتي به إليه، فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش لم يوجد فيه هذا.

قال الحافظ السخاوي: هذا الأثر ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع؛ لأن عثمان - رضي الله عنه - جعل للناس إماما يقتدون به، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟! وقد كتب مصاحف سبعة وليس فيها اختلاف قط، إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع، كيف يقيمه غيرهم؟!

[ ص: 1720 ] وتأول قوم اللحن في كلامه (على تقدير صحته عنه) بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله:


منطق رائع وتلحن أحيا نا وخير الكلام ما كان لحنا


[ ص: 1721 ] أي: المراد به الرمز، بحذف بعض الحروف خطا، كألف (الصابرين) مما يعرفه القراء إذا رأوه، وكذا زيادة بعض الحروف، كذا في "عناية الراضي".

والمؤتون الزكاة رفعه بالعطف على: الراسخون أو على الضمير في: " يؤمنون " أو على أنه مبتدأ، والخبر: أولئك سنؤتيهم والوجوه المذكورة تجري في " المقيمين " على قراءة الرفع. والمؤمنون بالله واليوم الآخر يعني: والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب، وإنما قدم الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع؛ لأنه المقصود في هذا المقام، لأنه لبيان حال أهل الكتاب وإرشادهم، وهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك ويتركون بعضه، فبين لهم ما يلزمهم ويجب عليهم.

أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما يعني الجنة؛ لجمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح.

لطيفة:

في الآية وجوه من الإعراب، أحسنها ما اعتمده أبو السعود ، من أن جملة: أولئك سنؤتيهم إلخ ... خبر للمبتدأ الذي هو: الراسخون وما عطف عليه، وأن جملة: يؤمنون بما أنـزل إلخ ... حال من " المؤمنون " مبينة لكيفية إيمانهم، أو اعتراض مؤكد لما قبله.

قال: وهذا أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك؛ حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم، ووعد الآخرون بالأجر العظيم، كأنه قيل إثر قوله تعالى: وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما لكن المؤمنون منهم سنؤتيهم أجرا عظيما.

وأما ما جنح إليه الجمهور من جعل قوله تعالى: يؤمنون بما أنـزل إلخ .. خبرا للمبتدأ، ففي كمال السداد، خلا أنه غير متعرض لتقابل الطرفين.
[ ص: 1722 ] القول في تأويل قوله تعالى:

إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا [163]

إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وذكر تعالى بعده أنهم لا يسألون استرشادا، ولكن للتعنت واللجاج، وبين أنواعا من فضائحهم - أشار إلى رد شبهتهم، فاحتج عليهم بأنه ليس بدعا من الرسل، وأمره في الوحي كسائر الأنبياء الذين يوافقون على نبوتهم، ولم ينزل على كل واحد منهم كتاب بتمامه مثل ما أنزل على موسى ، وإذا لم يكن هذا من شرط النبوة - وضح أن سؤالهم محض تعنت.
تنبيه:

قيل: بدأ بنوح ؛ لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام، والحلال والحرام، وفي "العناية" بدأ به تهديدا لهم؛ لأنه أول نبي عوقب قومه، لا أنه أول مشرع كما توهم.

وظاهر الآية يدل على أن من قبل نوح لم يكن يوحى له كما أوحي لنبينا - صلى الله عليه وسلم - لا أنه غير موحى إليه أصلا كما قيل. انتهى.

وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهم أولاد يعقوب عليهم السلام.

وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا
[ ص: 1723 ] القول في تأويل قوله تعالى:

ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [164]

ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل أي: في السور المكية.

ورسلا لم نقصصهم عليك أي: لم نسمهم لك في القرآن، وقد أحصى بعض المدققين أنبياء اليهود والنصارى ورسلهم فوجد عددهم لا يتجاوز الخمسين.

روي في عدتهم أحاديث تكلم في أسانيدها، منها:

حديث أبي ذر : إن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر صححه ابن حبان، وخالفه ابن الجوزي فذكره في "موضوعاته" واتهم به إبراهيم بن هاشم ، وقد تكلم فيه غير واحد.

وكلم الله موسى تكليما يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة؛ لأن تأكيد (كلم) بالمصدر يدل على تحقيق الكلام، وأن موسى - عليه السلام - سمع كلام الله بلا شك، لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر، فلا يقال: أراد الحائط يسقط إرادة، وهذا رد على من يقول: إن الله خلق كلاما في محل، فسمع موسى ذلك الكلام.

قال الفراء : العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإنسان كلاما، بأي طريق وصل، لكن لا تحققه بالمصدر، وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام، فدل قوله تعالى: (تكليما) على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة.

قال بعضهم: كما أن الله تعالى خص موسى - عليه السلام - بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحا في نبوة غيره من الأنبياء - فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحا في نبوة من أنزل عليه كتابه منجما من الأنبياء، كذا في "اللباب".
تنبيه:

يحسن في هذا المقام إيراد عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام ؛ فإنها من أعظم مسائل الدين، وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين، واضطربت فيها الأقوال، وكثرت بسببها الأهوال، وأثارت فتنا، وجلبت محنا، وكم سجنت إماما، وبكت [ ص: 1724 ] أقواما، وتشعبت فيها المذاهب، واختلفت فيها المشارب، ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة، المقتفين لأثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضي الله عنهم.

فنقول: قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية - عليه رحمة الرحيم السلام - في كتابه إلى جماعة العارف عدي بن مسافر ما نصه:

فصل

ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان، مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات، فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود، هكذا قال غير واحد من السلف.

روي عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار - وكان من التابعين الأعيان - قال: ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك: القرآن الذي أنزله الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله لا كلام غيره - وإن تلاه العباد وبلغوه بحركاتهم وأصواتهم - فإن الكلام لمن قاله مبتدئا، لا لمن قاله مبلغا مؤديا، قال الله تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [التوبة: 6] وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى: بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ [البروج: 21 - 22] وقال تعالى: يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة [البينة: 2 - 3] وقال: إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون [الواقعة: 77 - 78].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 13-10-2022, 10:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1725 الى صـ 1732
الحلقة (277)





والقرآن: كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه. كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله، وإعراب الحروف هو من تمام الحروف، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [ ص: 1725 ] من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات .

وقال أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه.

ثم قال رحمه الله: والتصديق بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الله يتكلم بصوت وينادي آدم - عليه السلام - بصوت، إلى أمثال ذلك من الأحاديث، فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة.

وقال أئمة السنة: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق؛ حيث تلي، وحيث كتب، فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن: إنها مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل، ولا يقال: غير مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد، ولم يقل أحد قط من أئمة السلف: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة، بل أنكروا على على من قال: ( لفظ العبد بالقرآن مخلوق).

وأما من قال: إن المداد قديم - فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة، قال الله تعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا [الكهف: 109] فأخبر أن المداد يكتب به كلماته.

وكذلك من قال: (ليس القرآن في المصحف، وإنما في المصحف مداد وورق وحكاية وعبارة) فهو مبتدع ضال، بل القرآن الذي أنزله الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو ما بين الدفتين، والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء.

وكذلك من زاد على السنة فقال: إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة - مبتدع ضال، كمن قال: إن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت - فإنه أيضا مبتدع منكر للسنة، وكذلك من زاد وقال: إن المداد قديم - فهو ضال، كمن قال: ليس في المصاحف كلام الله.

وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون: إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط كلام الله - فهو بمنزلة من يقول: ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه، هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة.

وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة، نفيا وإثباتا، وإنما حدثت [ ص: 1726 ] هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل.

فإن من قال: إن المداد الذي تنقط به الحروف وتشكل به قديم - فهو ضال جاهل.

ومن قال: إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن - فهو ضال مبتدع.

بل الواجب أن يقال: هذا القرآن العربي هو كلام الله، وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها، كما دخلت معانيه، ويقال: وما بين اللوحين جميعه كلام الله، فإن كان المصحف منقوطا مشكولا أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله، فإن كان غير منقوط ولا مشكول - كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة - كان أيضا ما بين اللوحين هو كلام الله، فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظي لا حقيقة له، ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه.

وسئل رحمه الله تعالى عن رجلين تباحثا فقال أحدهما: القرآن حرف وصوت، وقال الآخر: ليس هو بحرف ولا صوت، وقال أحدهما: النقط التي في المصحف والشكل من القرآن، وقال الآخر: ليس ذلك من القرآن، فما الصواب في ذلك؟

فأجاب - رضي الله عنه -: الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس، ويخلطون الحق بالباطل، فالذي قال: إن القرآن حرف وصوت ، إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يقرأ للمسلمين هو كلام الله، الذي نزل به الروح الأمين على محمد خاتم النبيين والمرسلين، وأن جبرئيل سمعه من الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه من جبرئيل ، والمسلمون سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: قل نـزله روح القدس من ربك بالحق [النحل: 102] وقال: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منـزل من ربك بالحق [الأنعام: 114] - فقد أصاب في ذلك.

[ ص: 1727 ] فإن هذا مذهب سلف الأمة وأئمتها، والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع.

ومن قال: إن القرآن العربي لم يتكلم الله به، وإنما هو كلام جبرئيل أو غيره، عبر به عن المعنى القائم بذات الله، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما - فهو قول باطل من وجوه كثيرة.

فإن هؤلاء يقولون: إنه معنى واحد قائم بالذات، وإن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد، وإنه لا يتعدد ولا يتبعض، وإنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وبالعبرانية كان توراة، وبالسريانية كان إنجيلا، فيجعلون معنى آية الكرسي وآية الدين، و: قل هو الله أحد [الإخلاص: 1] و: تبت يدا أبي لهب [المسد: 1] والتوراة والإنجيل وغيرهما - معنى واحدا، وهذا قول فاسد بالعقل والشرع، وهو قول أحدثه ابن كلاب ، لم يسبقه إليه غيره من السلف.

وإن أراد قائل بالحرف والصوت أن الأصوات المسموعة من القراء، والمداد الذي في المصاحف قديم أزلي - أخطأ وابتدع، وقال ما يخالف العقل والشرع؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: زينوا القرآن بأصواتكم فبين أن الصوت صوت القارئ، والكلام كلام الباري، كما قال تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [التوبة: 6].

فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون [ ص: 1728 ] كلام الله لا كلام غيره، كما ذكر الله ذلك.

وفي السنن عن جابر بن عبد الله قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض نفسه على الناس في الموقف فقال: ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي .

قالوا لأبي بكر الصديق لما قرأ عليهم: الم غلبت الروم هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله تعالى.

والناس إذا بلغوا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله: إنما الأعمال بالنيات - يعلمون أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه، والمحدث بلغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فالقرآن أولى أن يكون كلام الله، إذا بلغته الرسل عنه، وقرأه الناس بأصواتهم، والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه، ونادى موسى بصوت نفسه، كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وصوت العبد ليس هو صوت الرب، ولا مثل صوته، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

وقد نص أئمة الإسلام - أحمد ومن قبله من الأئمة - على ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله ينادي بصوت، وإن القرآن كلامه تكلم بحروف وصوت، ليس منه شيء كلاما لغيره، لا جبرئيل ولا غيره، وأن العباد يقولونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ، والكلام كلام الباري.

وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز [ ص: 1729 ] بين صوت العبد وصوت الرب، بل يجعل هذا هو هذا، فينفيهما جميعا، ويثبتهما جميعا، فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربي كلام الله، وأن يكون مناديا لعباده بصوته، وأن يكون القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله، كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله، ثم جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا، لا فرق بين القديم والحادث، وهذا مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني، الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل؛ حيث جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا لا حقيقة له عند التحقيق، وإذا أثبت جعل صوت الرب هو صوت العبد، أو سكت عن التمييز بينهما، مع قوله: إن الحروف متعاقبة في الوجود، مقترنة في الذات، قديمة أزلية الأعيان، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد، ويتحد بصفته، فقال في نوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل.

وقد علم أن نفي الفرق والمباينة بين الخالق وصفاته والمخلوق وصفاته - خطأ وضلال، لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد، ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - حروفه ومعانيه، وأنه ينادي عباده بصوته، ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد، وعلى أنه ليس بشيء من أصوات العباد، ولا مداد المصاحف قديما، بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين، مقروء بألسنتهم، محفوظ بقلوبهم، وهو كلام الله، والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط؛ لأنهم كانوا عربا لا يلحنون، ثم لما حدث اللحن نقط الناس المصاحف وشكلوها.

فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز، وإن كتبت بنقط وشكل جاز، ولم يكره في أظهر قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وحكم النقط والشكل حكم الحروف، فإن الشكل يبين إعراب القرآن، كما يبين النقط الحروف، والمداد الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط مخلوق، وكلام الله العربي الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط وبغير شكل ونقط - ليس بمخلوق، وحكم الإعراب حكم الحروف، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه، بل هو تابع للحروف المنقوطة، والشكل والنقط لا يستقل بنفسه، بل هو تابع للحروف [ ص: 1730 ] المرسومة، فلهذا لا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام، بل القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله: معانيه وحروفه وإعرابه.

والله تكلم بالقرآن العربي الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - والناس يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله، وهو القرآن العربي الذي أنزل على نبيه، سواء كتب بشكل ونقط أو بغير شكل ونقط، والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق، والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل، غير مخلوق، والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين؛ لأن كلام الله مكتوب فيها، واحترام النقط والشكل - إذا كتب المصحف مشكلا منقوطا - كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين، كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين.

ولهذا قال أبو بكر وعمر: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه، فجميعه كلام الله.

فلا يقال: بعضه كلام الله وبعضه ليس بكلام الله، وهو سبحانه نادى موسى بصوت سمعه موسى ، فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن، كما قال تعالى: هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى [النازعات: 15 - 16] والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة، وقد قال تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [النساء: 163 - 164] فقد فرق الله بين إيحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى، فمن قال: إن موسى لم يسمع صوتا بل ألهم معناه - لم يفرق بين موسى وغيره، وقد قال تعالى: [ ص: 1731 ] تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات [البقرة: 253] وقال تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم [الشورى: 51] فقد فرق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب، كما كلم الله موسى، فمن سوى بين هذا وهذا كان ضالا.

وقد قال الإمام أحمد - رحمه الله - وغيره: لم يزل الله متكلما إذا شاء، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، يتكلم بشيء بعد شيء، كما قال تعالى: فلما أتاها نودي يا موسى [طه: 11] فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك، وقال تعالى: فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين [الأعراف: 22] فهو سبحانه ناداهما حين ذاقا الشجرة، ولم ينادهما قبل ذلك، وكذلك قال تعالى: ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم [الأعراف: 11] بعد أن خلق آدم وصوره، ولم يأمرهم قبل ذلك، وكذا قوله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [آل عمران: 59] فأخبر أنه قال له: كن فيكون [آل عمران: 59] [ ص: 1732 ] بعد أن خلقه من تراب.

ومثل هذا الخبر في القرآن كثير، يخبر أنه تكلم في وقت معين، ونادى في وقت معين، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله [البقرة: 158] قال: نبدأ بما بدأ الله به فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة.

والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين.

ثم قالت طائفة: هو معنى واحد، وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي، والخبر بكل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وهذا القول مخالف للشرع والعقل.

وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان، لازمة لذات الله، لم تزل لازمة لذاته، وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معا، أزلا وأبدا، لم تزل ولا تزال، لم يسبق منها شيء شيئا، وهذا أيضا مخالف للشرع والعقل.

وقالت طائفة: إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه في الأزل كان متكلما بالنداء الذي سمعه موسى ، وإنما تجدد استماع موسى ، لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس، بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى، ولكن تلك الساعة سمع النداء، وهؤلاء وافقوا الذين قالوا: إن القرآن مخلوق في أصل قولهم، فإن أصل قولهم: إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية، فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته، وقالوا: هذه حوادث، والرب لا تقوم به الحوادث، فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 13-10-2022, 10:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1733 الى صـ 1740
الحلقة (278)




[ ص: 1733 ] واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم، وأخطأوا في ذلك، فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا، وادعوا أن الرب لم يكن قادرا في الأزل على كلام يتكلم به، ولا فعل يفعله، وأنه صار قادرا بعد أن لم يكن قادرا، بغير أمر حدث، أو يغيرون العبارة فيقولون: لم يزل قادرا، لكن يقولون: إن المقدور كان ممتنعا، وإن الفعل صار ممكنا له، بعد أن صار ممتنعا عليه، من غير تجدد شيء، وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا: كان قادرا في الأزل على ما يمكن، فيما لا يزال على ما لا يمكن في الأزل، فيجمعون بين النقيضين؛ حيث يثبتونه قادرا في حال كون المقدور عليه ممتنعا عندهم، ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل، وبين عينيه كما لم يفرق الفلاسفة بين هذا وهذا، بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه، فضلوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول.

فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم، بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث، بعد أن لم يكن، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته، كما تدل على ذلك الدلائل القطعية، والفاعل بمشيئته لا يكون شيء من مفعوله لازما، بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء، بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازما لذاته، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة، فكيف بالفاعل بالإرادة؟! وما يذكر بأن المعلول يقارن علته إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط، فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط، بل قد يقارنه، كما تقارن الحياة العلم، وأما ما كان فاعلا - سواء سمي علة أو لم يسم - فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين. والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته، ولا يعرف العقلاء فاعلا قط يلتزمه مفعول معين. وقول القائل (حركت يدي فتحرك الخاتم) هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين.

ولأنه لو كان العالم قديما لكان فاعله موجبا بذاته في الأزل، ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه، ولو كان كذلك لم يحدث شيئا من الحوادث، وهذا خلاف المشاهدة، وإن كان هو سبحانه لم يزل قادرا على الكلام والفعل، بل لم يزل متكلما [ ص: 1734 ] إذا شاء، فاعلا لما يشاء، ولم يزل موصوفا بصفات الكمال، منعوتا بنعوت الجلال والإكرام، والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب، وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته، وفيه من الإحسان ما دل على رحمته، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته، وفيه من الحوادث ما دل على قدرة الرب تعالى، مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته - فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود، لا نقص فيه، منزه عن كل نقص، وهو سبحانه ليس له كفؤ في شيء من أموره، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل، منزه فيها عن التشبيه والتمثيل، ومنزه عن النقائص مطلقا، فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل، وكماله من لوازم ذاته المقدسة، لا يستفيده من غيره، بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء، وما جعله فيهم من صفات الأحياء، وخالق صفات الكمال أحق بها من لا كفؤ له فيها.

وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله أن الجهمية والمعتزلة لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم - اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثا؛ بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده، والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام، بل كان ذلك ممتنعا عليه، وكان معطلا عن ذلك، وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادرا في الأزل على الفعل فيما لا يزال، مع امتناع الفعل عليه في الأزل، فيجمعون بين النقيضين؛ حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته. إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أولا، والأزل لا أول له، والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين، ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث وهو الفعل المعين والمفعول المعين، وبين ما لا يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام، بل هذا يكون دائما، وإن كان كل من آحاده حادثا كما يكون دائما في المستقبل، وإن كان كل من آحاده فانيا بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائما، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصحيح النقل، ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك، لم ينازع فيه إلا شرذمة من المتفلسفة، كابن سينا [ ص: 1735 ] وأمثاله الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديما واجب الوجود بغيره، فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء، مع مخالفتهم لسلفهم، أرسطو وأتباعه، فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك، وإن قالوا بقدم الأفلاك، وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين؛ بناء على إثبات علة غاية لحركة الفلك، بتحرك الفلك للنسبة بها، لم يثبتوا له فاعلا مبتدعا، ولم يثبتوا ممكنا قديما واجبا بغيره.

وهم - وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم - فهم يسلمون لجمهور العقلاء أن ما كان ممكنا بذاته فلا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم، فاحتاجوا أن يقولوا: كلامه مخلوق منفصل عنه.

وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له، لكن قالوا: تقوم به الأمور الاختيارية، فقالوا: إنه في الأزل لم يكن متكلما، بل ولا كان الكلام مقدورا له، ثم صار متكلما بلا حدوث حادث، بكلام يقوم به، وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم.

وطائفة قالت: إذا كان القرآن غير مخلوق فلا يكون إلا قديم العين، لازما لذات الرب، فلا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم منهم من قال: هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض، ومنهم من قال: إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات، وهؤلاء أيضا وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته، وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية، وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض، ولن يأتي يوم القيامة، ولم يناد موسى حين ناداه، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات، ولا تفرحه توبة التائبين، وقالوا في قوله: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون [التوبة: 105] ونحو ذلك: أنه لا يراها إذا وجدت، بل إما أنه لم يزل رائيا لها، وإما أنه لم يتجدد شيء موجود، بل تعلق معدوم.

إلى أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة، مع مخالفة صريح العقل، والذي ألجأهم لذلك موافقتهم للجهمية على أصل قولهم: في أنه سبحانه [ ص: 1736 ] لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام، وخالفوا السلف والأئمة في قولهم: لم يزل الله متكلما إذا شاء، ثم افترقوا أحزابا أربعة كما تقدم: الخلقية، والحدوثية، والاتحادية والاقترانية.

وشر من هؤلاء الصائبة والفلاسفة الذين يقولون: إن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته، لا قديم النوع ولا قديم العين، ولا حادث ولا مخلوق، بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء، ويقولون: إنه كلم موسى من سماء عقله.

وقد يقولون: إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات، فإنه إنما يعلمها على وجه كلي، ويقولون - مع ذلك -: إنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله، وقولهم: (يعلم نفسه ومفعولاته) حق، كما قال تعالى: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك: 14] لكن قولهم مع ذلك: (إنه لا يعلم الأعيان المعينة) جهل وتناقض، فإن نفسه المقدسة معينة، والأفلاك معينة، وكل موجود معين، فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئا من الموجودات، إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وهم إنما ألجأهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال للباري تعالى، إن هؤلاء يقولون: إن الحوادث تقوم بالقديم، وإن الحوادث لا أول لها، لكن نفوا ذلك عن الباري؛ لاعتقادهم أنه لا صفة له، بل هو وجود مطلق، وقالوا: إن العلم نفس عين العالم، والقدرة نفس عين القادر، والعلم والعالم شيء واحد، والمريد والإرادة شيء واحد، فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، وجعلوا الصفات هي الموصوف.

ومنهم من يقول: بل العلم كل المعلوم، كما يقوله الطوسي صاحب "شرح الإشارات" فإنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه، وابن سينا أقرب إلى الصواب، لكنه تناقض مع ذلك؛ حيث نفى قيام الصفات به، وجعل الصفة عين الموصوف، وكل صفة هي الأخرى، ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول: معاني الكلام شيء واحد.

لكنهم [ ص: 1737 ] ألزموا قولهم لأولئك فقالوا: إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئا واحدا جاز أن يكون العلم هو القدرة، والقدرة على الإرادة، فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه، ثم قالوا: وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى جاز أن تكون الصفة هي الموصوف.

فجاء ابن عربي وابن سبعين والقونوي ونحوهم فقالوا: إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى، والصفة هي الموصوف - جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق هو الموجود الممكن المحدث المخلوق.

فقالوا: إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق، وقالوا: الوجود واحد، ولم يفرقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين، كما لم يفرق أولئك بين الكلام الواحد بالعين والكلام الواحد بالنوع، وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد، الذي قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه، وقالوا: هو يتكلم بحرف وصوت قديم - قالوا أولا: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا تسبق الباء السين، بل لما نادى موسى فقال: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني إني أنا الله رب العالمين كانت الهمزة والنون وما بينهما موجودا في الأزل، يقارن بعضها بعضا، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله. ثم قال فريق منهم: إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القراء.

وقال بعضهم: بل المسموع صوتان: قديم ومحدث. وقال بعضهم: أشكال المداد قديمة أزلية. وقال بعضهم: محل المداد قديم أزلي. وحكي عن بعضهم أنه قال: المداد قديم أزلي.

وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم، ولا يفهمون معناه، بل منهم من يظن أنه قديم في علمه، ومنهم من يظن أن معناه متقدم على غيره، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق، ومنهم من لا يميز بين ما يقول، فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات. ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات، وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل.

والصواب في هذا الباب وغيره مذهب سلف الأمة وأئمتها: أنه [ ص: 1738 ] سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حين أتى، لم يناده قبل ذلك، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم، وقدرته لا تماثل قدرتهم، وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال - باطلة، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات – باطلة.

وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، وقد بسطناها في "الواجب الكبير" والله أعلم بالصواب.

(وقال تقي الدين أيضا في مقالة له في هذا البحث): أول من أظهر إنكار التكليم والمخالة الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، وأمر علماء الإسلام كالحسن البصري وغيره بقتله، فضحى به خالد بن عبد الله القسري ، أمير العراق بواسط، فقال: أيها الناس ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه.

وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان، فأنكر أن يكون الله يتكلم، ثم نافق المسلمين فأقر بلفظ الكلام، وقال: كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر، ودخل بعض أهل الكلام أو الجدل - من المنتسبين إلى الإسلام من المعتزلة ونحوهم - في بعض مقالة الصابئة والمشركين، متابعة للجعد والجهم.

وكان مبدأ ذلك أن الصابئة في الخلق على قولين: منهم من يقول: إن السماوات مخلوقة بعد أن لم تكن، كما أخبرت بذلك الرسل وكتب الله تعالى. ومنهم من ابتدع فقال: بل هي قديمة أزلية، لم تزل موجودة بوجود الأول واجب الوجود بنفسه، ومنهم من قد ينكر الصانع بالكلية، ولهم مقالات كثيرة الاضطراب في الخلق والبعث والمبدأ والمعاد؛ لأنهم لم يكونوا معتصمين بحبل من الله تعالى [ ص: 1739 ] يجمعهم، والظنون لا تجمع الناس في مثل هذه الأمور، التي تعجز الآراء عن درك حقائقها إلا بوحي من الله تعالى.

وهم إنما يناظر بعضهم بعضا بالقياس المأخوذ مقدماته من الأمور الطبيعية السفلية، وقوى الطبائع الموجودة في التراب والماء والهواء والحيوان والمعدن والنبات، ويريدون بهذه المقدمات السفلية أن ينالوا معرفة الله، وعلم ما فوق السماوات، أول الأمر وآخره، وهذا غلط بين، اعترف أساطينهم بأن هذا غير ممكن، وأنهم لا سبيل لهم إلى إدراك اليقين، وأنهم إن يتبعون إلا الظن.

فلما كان حال هذه الصائبة المبتدعة الضالة ومن أضلوه من اليهود والنصارى، وكان قد اتصل كلامهم ببعض من لم يهتد بهدى الله الذي بعث به رسله من أهل الكلام والجدل - صاروا يريدون أن يأخذوا مآخذهم، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا: يا رسول الله! فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا فارس والروم؟

فاحتجوا على حدوث العالم بنحو من مسالك هذه الصابئة، وهو الكلام في الأجسام والأعراض، بأن تثبت الأعراض، ثم يثبت لزومها للأجسام، ثم حدوثها، ثم يقال: ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، واعتمد كثير من أهل الجدل على هذا في إثبات حدوث العالم. فلما رأوا أن الأعراض التي هي الصفات تدل عندهم على حدوث الموصوف الحامل للأعراض - التزموا نفيها عن الله؛ لأن ثبوتها مستلزم حدوثه، وبطلان دليل حدوث العالم الذي اعتقدوا أن لا دليل سواه، بل ربما اعتقدوا أنه لا يصح إيمان أحد إلا به - [ ص: 1740 ] معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهؤلاء يخالفون الصابئة الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم، وبأن النبوة كمال يفيض على نفس النبي؛ لأن هؤلاء المتكلمين أكثر حقا وأتبع للأدلة العقلية والسمعية؛ لما تنورت به قلوبهم من نور الإسلام والقرآن، وإن كانوا قد ضلوا في كثير مما جاء به الرسل، لكن هم خير من أولئك من وجوه أخرى وافقوا فيها، فوافقوا أولئك على أن الله لم يتكلم.

كما وافقوهم على أنه لا علم له ولا قدرة ولا صفة من الصفات، ورأوا أن إثباته متكلما يقتضي أن يكون جسما، والجسم حادث؛ لأنه من الصفات الدالة على حدوث الموصوف، بل هو عندهم أدل على حدوث المتكلم من غيره؛ لأنه يفتقر من المخارج إلى ما لا يفتقر إليه غيره، ولأن فيه من الترتيب والتقديم والتأخير ما ليس في غيره، ولما رأوا أن الرسل اتفقت على أنه متكلم، والقرآن مملوء من إثبات ذلك - صاروا تارة يقولون: متكلم مجازا لا حقيقة، وهذا قولهم الأول لما كانوا في بدعتهم على الفطرة، قبل أن يدخلوا في المعاندة والجحود، ثم إنهم رأوا هذا شنيعا فقالوا: بل هو متكلم حقيقة.

وربما حكى بعض متكلميهم الإجماع، وليس عندهم كذلك، بل حقيقة قولهم وأصله عند من عرفه وابتدعه: إن الله ليس بمتكلم، وقالوا: المتكلم من فعل الكلام، ولو في محل منفصل عنه، ففسروا المتكلم في اللغة بمعنى لا يعرف في لغة العرب ولا غيرهم، لا حقيقة ولا مجازا، وهذا قول من يقول: القرآن مخلوق. وهو أحد قولي الصابئة الذين يوافقون الرسل في حدوث العالم، وهو وإن كفر بما جاءت به الرسل فليس هو في الكفر مثل القول الأول، لأن هؤلاء لا يقولون: إن الله أراد أن يبعث رسولا معينا، وأن ينزل عليه هذا الكلام الذي خلقه، وأنكروا أن يكون متكلما على الوجه الذي دلت عليه الكتب الإلهية، واتفقت عليه أهل الفطرة السليمة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 13-10-2022, 10:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1741 الى صـ 1748
الحلقة (279)





ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة وبين المؤمنين أتباع الرسل - الخلاف، فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل من وصف الله بالكلام والتكليم، واختلفوا في كتاب الله، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، واتبع المؤمنون ما أنزل إليهم من ربهم من أن الله تكلم بالقرآن، وأنه [ ص: 1741 ] كلم موسى تكليما، وأنه يتكلم، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه كما فعل الأولون، بل ردوا تحريف أولئك ببصائر الإيمان، الذي علموا به مراد الرسل من إخبارهم برسالة الله وكلامه. وتبعوا هذا القرآن والحديث وإجماع السلف من الصحابة والتابعين وسائر أتباع الأنبياء، وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى.

حتى كان ابن المبارك إمام المسلمين يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وكان قد كثر ظهور هؤلاء الذين هم فروع المشركين، ومن اتبعهم من مبدلة الصابئين، ثم مبدلة اليهود والنصارى في أوائل المائة الثانية وأوائل الثالثة، في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون بسبب تعريب كتب الروم المشركين الصابئين، الذين كانوا قبل النصارى، ومن أشبههم من فارس والهند ، وظهرت علوم الصابئين المنجمين ونحوهم.

وقد تقدم أن أهل الكلام المبتدع في الإسلام هم من فروع الصابئين، كما يقال: المعتزلة مخانيث الفلاسفة. فظهرت هذه المقالة في أهل العلم والكلام، وفي أهل السيف والإمارة، وصار في أهلها من الخلفاء والأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء - ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الذين اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولم يبدلوا ويبتدعوا، وذلك لقصور وتفريط من أكثرهم في معرفة حقيقة ما جاء به الرسول وأتباعه.
فصل

فجاء قوم من متكلمي الصفاتية الذين نصروا أن الله له علم وقدرة وبصر وحياة بالمقاييس العقلية المطابقة للنصوص النبوية، وفرقوا بين الصفات القائمة بالجواهر فجعلوها أعراضا وبين الصفات القائمة بالرب فلم يسموها أعراضا؛ لأن العرض ما لا يدوم وما لا يبقى، أو ما يقوم بمتحيز أو جسم، وصفات الرب لازمة دائمة ليست من جنس الأعراض القائمة بالأجسام، وهؤلاء - أهل الكلام القياسي من الصفاتية - فارقوا أولئك المبتدعة المعطلة الصابئة في كثير من أمورهم، وأثبتوا الصفات التي قد يستدل بالقياس العقلي عليها، كالصفات [ ص: 1742 ] السبع، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، ولهم نزاع في السمع والبصر والكلام، هل هو من الصفات العقلية أو الصفات النبوية الخبرية السمعية؟

ولهم اختلاف في البقاء والقدم، وفي الإدراك الذي هو إدراك المشمومات والمذوقات والملموسات، ولهم أيضا اختلاف في الصفات السمعية القرآنية الخبرية؟ كالوجه واليد، فأكثر متقدميهم أو كلهم يثبتها، وكثير من متأخريهم لا يثبتها، وأما ما لا يرد إلا في الحديث فأكثرهم لا يثبتها.

ثم منهم من يصرف النصوص عن دلالتها لأجل ما عارضها من القياس العقلي عنده، ومنهم من يفوض معناها، وليس الغرض هنا تفصيل مقالات الناس فيما يتعلق بسائر الصفات، وإنما المقصود القول في رسالة الله وكلامه الذي بلغته رسله، فكان هؤلاء بينهم وبين أهل الوراثة النبوية قدر مشترك بما ملكوه من الطرق الصائبة في أمر الخالق وأسمائه وصفاته، فصار في مذهبهم في الرسالة تركيب من الوراثتين، لبسوا حق ورثة الأنبياء بباطل ورثة أتباع الصابئة، كما كان في مذهب أهل الكلام المحض المبتدع كالمعتزلة تركيب، وليس بين الأثارة النبوية وبين الأثارة الصابئة، لكن أولئك أشد اتباعا للأثارة النبوية وأقرب إلى مذاهب أهل السنة من المعتزلة ونحوهم من وجوه كثيرة، ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثير من أهل الفقه والحديث والتصوف، لوجوه:

أحدها: كثرة الحق الذي يقولونه وظهور الأثارة النبوية عندهم.

الثاني: لبسهم ذلك بمقاييس عقلية بعضها موروث عن الصابئة، وبعضها مما ابتدع في الإسلام، واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم، وظنهم أنه لم يكن التمسك بالأثارة النبوية من أهل العقل والعلم إلا على هذا الوجه.

الثالث: ضعف الأثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات والموضحة لسبيل الهدى عندهم.

الرابع: العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث، تارة يرون ما يعلمون صحته، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور.

فلما كان هذا منهاجهم، وقالوا: إن القرآن غير مخلوق لما دل على ذلك من النصوص وإجماع [ ص: 1743 ] السلف.

ولما رأوا أنه مستقيم على الأصل الذي قرروه في الصفات، ورأوا أن التوفيق بين النصوص النبوية السمعية وبين القياس العقلي لا يستقيم إلا أن يجعلوا القرآن معنى قائما بنفس الله تعالى كسائر الصفات، كما جعله الأولون من باب المصنوعات المخلوقات، لا قديما كسائر الصفات، ورأوا أنه ليس إلا مخلوقا أو قديما - فإن إثبات قسم ثالث قائم بالله يقتضي حلول الحوادث بذاته، وهو دليل على حدوث الموصوف، ويبطل لدلالة حدوث العالم، ثم رأوا أنه لا يجوز أن يكون معاني كثيرة، بل إما معنى واحدا عند طائفة، أو معاني أربعة عند طائفة، والتزموا على هذا أن حقيقة الكلام هي المعنى القائم بالنفس، وأن الحروف والأصوات ليست من حقيقة الكلام، بل دالة عليه، فتسمى باسمه إما مجازا عند طائفة أو حقيقة بطريق الاشتراك عند طائفة، وإما مجازا في كلام الله حقيقة في غيره عند طائفة.

وخالفهم الأولون وبعض من يستن أيضا، وقالوا: لا حقيقة للكلام إلا الحروف والأصوات، وليس وراء ذلك معنى إلا العلم ونوعه، أو الإرادة ونوعها، فصار النزاع بين الطائفتين، وادعى هؤلاء أن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام إضافية، ليست أنواعا له وأقساما، وأن كلام الله معنى واحد، إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وبالعبرية فهو توراة، وبالسريانية فهو إنجيل.

وقال لهم أكثر الناس: هذا معلوم الفساد بالضرورة، كما قال الأولون: إنه خلق الكلام في الهواء فصار متكلما به، وإن المتكلم من أحدث الكلام ولو في ذات غير ذاته. وقال لهم أكثر الناس: إن هذا معلوم الفساد بالضرورة.

وقال الجمهور من جميع الطوائف: إن الكلام اسم لللفظ والمعنى جميعا، كما أن الإنسان المتكلم اسم للروح والجسم جميعا، وإنه إذا أطلق على أحدهما فبقرينة، وإن معاني الكلام متنوعة ليست منحصرة في العلم والإرادة كتنوع ألفاظه، وإن كانت المعاني أقرب إلى الاتحاد والاجتماع، والألفاظ أقرب إلى التعدد والتفرق، والتزم هؤلاء أن حروف القرآن مخلوقة، وإن لم يكن عندهم المعنى الذي هو كلام الله مخلوقا.

وفرقوا بين كتاب الله وكلامه، فقالوا: كتاب الله هو الحروف وهو مخلوق، وكلام الله [ ص: 1744 ] هو معناها غير مخلوق، وهؤلاء والأولون متفقون على خلق القرآن الذي قال الأولون: إنه مخلوق، واختلف هؤلاء أين خلقت هذه الحروف؟ هل خلقت في الهواء أو في نفس جبرئيل، أو أن جبرئيل هو الذي أحدثها أو محمد؟!

وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل، وما جاء عنهم من الكتب والأثارة من العلم، وهم المتبعون للرسالة اتباعا محضا، لم يشوبوه بما يخالفه من مقالة الصابئين، وهو أن القرآن كله كلام الله، لا يجعلون بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله.

والقرآن هو القرآن الذي يعلم المسلمون أنه القرآن، حروفه ومعانيه، والأمر والنهي هو اللفظ والمعنى جميعا، ولهذا كان الفقهاء المصنفون في أصول الفقه من جميع الطوائف - الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية - إذا لم يخرجوا عن مذاهب الأئمة والفقهاء، إذا تكلموا في الأمر والنهي - ذكروا ذلك، وخالفوا من قال: إن الأمر هو المعنى المجرد.

ويعلمون أهل الأثارة النبوية، أهل السنة والحديث، وعامة المسلمين الذين هم جماهير أهل القبلة أن قوله تعالى: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [البقرة: 1 - 2] ونحو ذلك هو كلام الله لا كلام غيره، وكلام الله هو ما تكلم به، لا ما خلقه في غيره ولم يتكلم هو به.

(وسئل تقي الدين أيضا): ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - فيمن يقول: الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له معنى، بينوا لنا ذلك بيانا شافيا ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد، أثابكم الله بمنه.

(فأجاب رحمه الله): الحمد لله، من قال: إن الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، وأراد أنه مبائن له ومنفصل عنه - فهذا خطأ وضلال، وهو من يقول: إن القرآن مخلوق، فإنهم يزعمون أن الله لا تقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره، ويوهمون الناس بقولهم: العلم غير العالم، والقدرة غير القادر، والكلام غير المتكلم.

ثم يقولون: وما كان [ ص: 1745 ] غير الله فهو مخلوق، وهذا تلبيس منهم، فإن لفظ (الغير) يراد به ما يجوز مبائنته للآخر ومفارقته له، وعلى هذا فلا يجوز أن يقال: علم الله غيره ولا كلامه غيره، ولا يقال: إن الواحد من العشرة غيرها، وأمثال ذلك.

وقد يقال بلفظ (الغير) ما ليس هو الآخر، وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف، ولكن على هذا المعنى لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته – مخلوقا؛ لأن صفاته ليست هي الذات، لكن قائمة بالذات، والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله، وليس الاسم اسما لذات لا صفات لها، بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها، والصواب في مثل هذا أن يقال: الكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس مبائنا منه، بل أسمعه لجبرئيل ونزله به على محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منـزل من ربك بالحق ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره. بل يقال - كما قال السلف -: إنه كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود.

فقولهم (منه بدا) رد على من قال (إنه مخلوق في بعض الأجسام، ومن ذلك المخلوق ابتدأ) فبينوا أن الله هو المتكلم به، ومنه بدا، لا من بعض المخلوقات.

(وإليه يعود) أي: فلا يبقى في الصدور منه آية، ولا في المصاحف حرف.

وأما القرآن فهو كلام الله، فمن قال: إن القرآن الذي هو كلام الله غير الله - فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال: إن الكلام غير المتكلم.

وكذلك من قال: إن الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به - فخطؤه ظاهر.

وكذلك: إن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون - فقد أخطأ، وإن أراد بالقرآن مصدر (قرأ يقرأ قراءة وقرآنا) وقال: أردت القراءة غير المقروء، فلفظ القراءة مجمل، قد يراد بالقراءة القرآن، وقد يراد بالقراءة المصدر، فمن جعل القراءة التي هي المصدر، قال: القارئ غير المقروء، كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي هو يقول، وأراد بـ(الغير) أنه ليس هو إياه - فقد صدق، فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة، ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف [ ص: 1746 ] والمعاني، ولهذا يجعل القول قسيما للفعل تارة، وقسيما منه أخرى.

فالأول كما يقال: الإيمان قول وعمل. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم- : إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست - أو حدثت - به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم .

ومنه قوله تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10]. ومنه قوله تعالى: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل [يونس: 61]. وأمثال ذلك فيما يفرق فيه بين القول والعمل.

وأما دخول القول في العمل ففي مثل قوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [الحجر: 92 - 93] وقد فسروه بقوله: لا إله إلا الله.

ولما سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله [ ص: 1747 ] مع قوله: الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان، أفضلها وأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ونظائر ذلك متعددة.

وقد تنوزع فيمن حلف لا يعمل عملا، إذا قال قولا كالقراءة، هل يحنث ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره؛ بناء على هذا، فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها وإلا وقع فيها نزاع واضطراب، والله سبحانه وتعالى أعلم.

انتهى كلام تقي الدين رحمه الله تعالى.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "الرد على الجهمية": سألت أبي عن قوم يقولون (لما كلم الله موسى ): لم يتكلم بصوت، فقال أبي: بلى، تكلم - جل ثناؤه – بصوت. هذه الأحاديث نرويها كما جاءت.

وقال أبي: حديث ابن مسعود : إذا تكلم الله تعالى سمع له صوت [ ص: 1748 ] كمر السلسلة على الصفوان.

قال: وهذه الجهمية تنكره، وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس. ثم قال: حدثنا المحاربي ، عن الأعمش، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عبيد الله قال: إذا تكلم الله تبارك وتعالى بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا.

وقال السفاريني في "شرح العقيدة": روي في إثبات الحرف والصوت أحاديث تزيد على أربعين حديثا، وأخرج الإمام أحمد غالبها، واحتج به.

وأخرج الحافظ ابن حجر أيضا في "شرح البخاري " واحتج بها البخاري وغيره من أئمة الحديث، على أن الحق سبحانه يتكلم بحرف وصوت، وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه، واعتمدوا على ذلك، منزهين الله تعالى عما لا يليق بجلاله، من شبهات الحدوث وسمات النقص، كما قالوا في سائر الصفات، معتمدين على ما صح عندهم من صاحب الشريعة، المعصوم في أقواله، الذي لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم.

وقال الإمام الواسطي ابن شيخ الحرمين الشافعي في "عقيدته": إنني كنت برهة من الدهر متحيرا في ثلاث مسائل: مسألة الصفات، ومسألة الفوقية، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد. وكنت متحيرا في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك، من تأويل الصفات وتحريفها، أو إمرارها والوقوف فيها، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، فأجد النصوص في كتاب الله وسنة رسوله ناطقة مبينة لحقائق هذه الصفات، وكذلك في إثبات العلو والفوقية، وكذلك في الحرف والصوت، ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم، منهم من تأول الاستواء بالقهر والاستيلاء، وتأول [ ص: 1749 ] النزول بنزول الأمر، وتأول اليدين بالنعمتين والقدرتين، وتأول القدم بقدم صدق عند ربهم، وأمثال ذلك.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 13-10-2022, 10:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1749 الى صـ 1756
الحلقة (280)




ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله معنى قائما بالذات، بلا حرف ولا صوت، ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم.

وممن ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة، مثل بعض فقهاء الأشعرية الشافعيين؛ لأني على مذهب الشافعي - رحمه الله تعالى - عرفت فرائض ديني وأحكامه، فأجد مثل هؤلاء الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال، وهم شيوخي، ولي فيهم الاعتقاد التام؛ لعلمهم وفضلهم، ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها، وأجد الكدر والظلمة منها، وأجد ضيق الصدر، وعدم انشراحه مقرونا بها، فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره، المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره، وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول؛ مخافة الحصر والتشبيه.

ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني، وأجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صرح بها، مخبرا عن ربه، واصفا له بها، ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص ويؤولها كما تأولها هؤلاء الفقهاء المتكلمون.

ثم قال: والذين أولوا ما أولوا هو أنهم ما فهموا في صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوقين، فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه، وعطلوا ما وصف الحق به نفسه، ولو علموا أن هذه الصفات هي كلها ثابتة له - كما يليق بجلاله وعظمته، لا على ما نعقل من صفات المخلوقين - لسلموا من التشبيه والتأويل المؤدي إلى التعطيل.

ثم قال: ومسألة الحرف والصوت تساق هذا المساق؛ فإن الله تعالى قد تكلم بالقرآن المجيد بجميع حروفه، فقال تعالى: المص [الأعراف: 1] وقال: ق والقرآن المجيد [ق: 1]، وكذلك [ ص: 1750 ] جاء في الحديث: فينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب.

وفي الحديث: لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف .

فهؤلاء ما فهموا [ ص: 1751 ] من كلام الله إلا ما فهموه من كلام المخلوقين، قالوا: إذا قلنا بالحرف فإن ذلك يؤدي إلى القول بالجوارح واللهوات، وكذلك إذا قلنا بالصوت أدى ذلك إلى الحلق والحنجرة، فعملوا بهذا من التخبيط كما عملوا فيما تقدم من الصفات.

والتحقيق هو أن الله تعالى تكلم بالحروف كما يليق بجلاله وعظمته فإنه قادر، والقادر لا يحتاج إلى جوارح ولا إلى لهوات، وكذلك له صوت يليق به يسمع، ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والخنجرة، فكلام الله كما يليق به، وصوته كما يليق به، ولا ننفي الحرف والصوت عن كلامه سبحانه؛ لافتقارهما منا إلى الجوارح واللهوات، فإنهما في جناب الحق لا يفتقران إلى ذلك، وهذا ينشرح الصدر له، ويستريح الإنسان به من التعسف والتكلف بقوله: هذا عبارة عن ذلك.

فإن قيل: هذا الذي يقرؤه القارئ هو عين قراءة الله وعين تكلمه هو؟ قلنا: لا، بل القارئ يؤدي كلام الله، والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئا، لا إلى من قاله مؤديا مبلغا.

ولفظ القارئ في غير القرآن مخلوق، وفي القرآن لا يتميز اللفظ المؤدي عن الكلام المؤدى عنه، ولهذا منع السلف من قول: (لفظي بالقرآن مخلوق) لأنه لا يتميز، كما منعوا عن قول: (لفظي بالقرآن غير مخلوق) فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق وفي التلاوة مسكوت عنه؛ كيلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن. وما أمر السلف بالسكوت عنه يجب السكوت عنه، والله الموفق والمعين.
تنبيه:

قال في "العناية": القراءة المشهورة في الآية رفع الجلالة الشريفة، وقرئ بنصبها في الشواذ. انتهى.

قال الحافظ ابن كثير : روى الحافظ أبو بكر بن مردويه أن رجلا جاء إلى أبي بكر بن عياش ، فقال: سمعت رجلا يقرأ: (وكلم الله موسى تكليما) فقال أبو بكر : ما قرأ هذا إلا كافر. قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب ، وقرأ يحيى بن وثاب على [ ص: 1752 ] أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي على علي بن أبي طالب ، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وكلم الله موسى تكليما

وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش - رحمه الله - على من قرأ كذلك؛ لأنه حرف لفظ القرآن ومعناه، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلم موسى - عليه السلام - أو يكلم أحدا من خلقه، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ: (وكلم الله موسى تكليما) فقال له: يا ابن الخنا! كيف تصنع بقوله تعالى: ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه [الأعراف: 143] يعني أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل.
القول في تأويل قوله تعالى:

رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما [165]

رسلا أي: كل هؤلاء النبيين أرسلناهم رسلا مبشرين بالجنة لمن آمن ومنذرين من النار لمن كفر لئلا لكيلا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة أي: معذرة يعتذرون بها قائلين: لولا أرسلت إلينا رسولا فيبين لنا شرائعك، ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك؛ لقصور القوة البشرية عن إدراك جزئيات المصالح، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها، كما في قوله عز وجل: ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك [طه: 134] الآية.

وإنما سميت حجة [ ص: 1753 ] مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجة في فعل من أفعاله، بل له أن يفعل ما يشاء كما يشاء - للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى - بمقتضى كرمه ورحمته لعباده - بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مرد لها، ولذلك قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الإسراء: 15] أفاده أبو السعود .

وفي الصحيحين عن المغيرة: لا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين .

وقوله تعالى: بعد الرسل أي: بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب [ ص: 1754 ] متعلق بـ(حجة) أو بمحذوف وقع صفة لها، وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل، كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الإسراء: 15] وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة الله تعالى لا تثبت إلا بالسمع.

وكان الله عزيزا يعني في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله: حكيما في بعث الرسل للإنذار.
تنبيه:

أشارت الآية إلى بيان حاجة البشر إلى إرسال الرسل ، وإلى وظيفتهم - عليهم السلام - قال العلامة السيد محمد عبده، مفتي مصر في "رسالة التوحيد" في هذا المبحث: أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم والكتاب للتراسل - أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعد لها - بمحض فضله - بعض من يصطفيه من خلقه؟ وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه أو ذهبت بعقله جلالته وعظمه، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين، نهاية الشاهد وبداية الغائب، فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها، ثم يتلقون من أمره عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته الرفيعة بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قدر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة، تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم، في ذلك [ ص: 1755 ] الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله، ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة، ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات، حتى تقوم بهم الحجة ويتم الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلا من لدنه إلى خلقه، مبشرين ومنذرين.

لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد على كل حي بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيرا ولا جليلا من خلقه - يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام المواهب التي اختص بها غيره - أن ينقذه من حيرته، ويخلصه من التخبط في أهم حياتيه، والضلال في أفضل حاليه.

يقول قائل: ولم لم يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم؟ ولم يضع فيها الانقياد إلى العمل؟ وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل، والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإنساني، ذلك النوع، على ما به، وما دخل في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدا لكل حال بطبعه، وأن يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال، فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات لم يكن هو ذلك النوع، بل كان إما حيوانا آخر كالنحل والنمل، أو ملكا من الملائكة، ليس من سكان هذه الأرض.

ثم قال: إن كان الإنسان قد فطر على أن يعيش في جملة، ولم يمنح مع تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل - مثلا - من الإلهام الهادي إلى ما يلزم لذلك، وإنما ترك إلى فكره يتصرف فيه، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته، ولم يفض عليه - مع ذلك الشعور - عرفانه بذات ذلك القاهر ولا صفاته، وإنما ألقي به في مطارح النظر تحمله الأفكار في مجاريها، وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري، وفي كل ذلك الويل على جامعته، [ ص: 1756 ] والخطر على وجوده، أفهل مني هذا النوع بالنقص، ورزئ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود؟ نعم، هو كذلك، لولا ما أتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه.

الإنسان عجيب في شأنه: يصعد بقوة عقله إلى أعلى مراتب الملكوت، ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت، ويسامي بقوته ما يعظم عن أن يسامى من قوى الكون الأعظم، ثم يصغر ويتضاءل وينحط إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع متى عرض له أمر ما، لم يعرف سببه ولم يدرك منشأه، ذلك لسر عرفه المستبصرون، واستشعرته نفوس الناس أجمعين.

من ذلك الضعف قيد إلى هواه، ومن تلك الضعة أخذ بيده إلى شرف سعادته، أكمل الواهب الجواد لجملته ما اقتضته حكمته في تخصيص نوعه، بما يميزه عن غيره أن ينقص من أفراده، وكما جاد على كل شخص بالعقل المصرف للحواس؛ لينظر في طلب اللقمة، وستر العورة، والتوقي من الحر والبرد - جاد على الجملة بما هو أمس بالحاجة في البقاء، وآثر في الوقاية من غوائل الشقاء، وأحفظ لنظام الاجتماع الذي هو عماد كونه بالإجماع، من عليه بالنائب الحقيقي عن المحبة، بل الراجع بها إلى النفوس التي أقفرت منها، لم يخالف سنته فيه، من بناء كونه على قاعدة التعليم والإرشاد، غير أنه أتاه مع ذلك من أضعف الجهات فيه، وهي جهة الخضوع والاستكانة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 9 ( الأعضاء 0 والزوار 9)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 487.72 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 481.84 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.21%)]