تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله - الصفحة 29 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         اسم الله (الستير) سبحانه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          أسعار الذهب .. ما العوامل التي تتحكم بها ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الجمل الندية من ألقاب المسائل الفقهية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 1029 )           »          عيناك والقراءة السليمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          أهمية التربية الاجتماعية في بناء الإنسان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          مهارات المستقبل بروح هويتنا .. التوازن بين متطلبات العصر وجذورنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          المسؤولية الأخلاقية .. تكامل وتفاعل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          يوم المعلم .. تذكير بقدسية الرسالة وتحديات الواقع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          تاريخ الطباعة العربية في العالم حتى نهاية القرن التاسع عشر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 3 )           »          البرهان والتفكير طريق للحقيقة وبناء الايمان وتأسيس التدين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 29-12-2019, 07:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (281)
تفسير السعدى
سورة الاسراء
من الأية(42) الى الأية(48)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الاسراء


" قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا " (42)

ومن الأدلة على ذلك, هذا الدليل العقلي الذي ذكره هنا فقال: " قُلْ " للمشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر: " لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ " أي: على موجب زعمهم وافترائهم " إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا " أي: لاتخذوا سبيلا إلى الله بعبادته, والإنابة إليه, والتقرب وابتغاء الوسيلة.
فكيف يجعل العبد الفقير, الذي يرى شدة افتقاره لعبودية ربه, إلها مع الله؟! هل هذا إلا من أظلم الظلم وأسفه السفه؟!!.
فعلى هذا المعنى, تكون هذه الآية كقوله تعالى: " أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ " .
وكقوله تعالى: " وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ " .
ويحتمل أن المعنى في قوله " قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا " أي: لطلبوا السبيل, وسعوا في مغالبة الله تعالى.
فإما أن يعلوا عليه فيكون من علا وقهر, هو الرب الإله.
فأما وقد علموا أنهم يقرون أن آلهتهم, التي يدعون من دون الله مقهورة مغلوبة, ليس لها من الأمر شيء, فلم اتخذوها وهي بهذه الحال؟ فيكون هذا كقوله تعالى: " مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ " .

" سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا " (43)
" سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى " أي: تقدس وتنزه وعلت أوصافه " عَمَّا يَقُولُونَ " من الشرك به, واتخاذ الأنداد معه " عُلُوًّا كَبِيرًا " فعلا قدره, وعظم, وجلت كبرياؤه, التي لا تقادر, أن يكون معه آلهة, فقد ضل من قال ذلك, ضلالا مبينا, وظلم ظلما كبيرا.
لقد تضاءلت لعظمته المخلوقات العظيمة, وصغرت لدى كبريائه, السماوات السبع, ومن فيهن, والأرضون السبع, ومن فيهن " والأرض جميعا, قبضته يوم القيامة, والسماوات مطويات بيمينه " .
وافتقر إليه, العالم العلوي والسفلي, فقرا ذاتيا, لا ينفك عن أحد منهم في وقت من الأوقات.
هذا الفقر بجميع وجوهه, فقر من جهة الخلق, والرزق, والتدبير.
وفقر من جهة الاضطرار, إلى أن يكون معبوده ومحبوبه, الذي إليه يتقربون وإليه في كل حال يفزعون.
ولهذا قال:

" تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا " (44)
" تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ " من حيوان ناطق, وغير ناطق, ومن أشجار, ونبات, وجامد, وحي وميت " إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ " بلسان الحال, ولسان المقال.
" وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ " أي: تسبيح باقي المخلوقات, التي على غير لغتكم.
بل يحيط بها علام الغيوب.
" إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا " حيث لم يعاجل بالعقوبة, من قال فيه قولا, تكاد السماوات والأرض تتفطر منه وتخر له الجبال.
ولكنه أمهلهم, وأنعم عليهم, وعافاهم, ورزقهم, ودعاهم إلى بابه, ليتوبوا من هذا الذنب العظيم, ليعطيهم الثواب الجزيل, ويغفر لهم ذنبهم.
فلولا حلمه ومغفرته, لسقطت السماوات على الأرض, ولما ترك على ظهرها من دابة.

" وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا "(45)
يخبر تعالى, عن عقوبته للمكذبين بالحق الذين ردوه, وأعرضوا عنه, أنه يحول بينهم وبين الإيمان فقال: " وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ " الذي فيه الوعظ والتذكير, والهدى والإيمان, والخير, والعلم الكثير.
" جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا " يسترهم عن فهمه حقيقة, وعن التحقق بحقائقه, والانقياد إلى ما يدعو إليه من الخير.

" وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا " (46)
" وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً " أي: أغطية وأغشية, لا يفقهون معها القرآن, بل يسمعونه سماعا تقوم به عليهم الحجة.
" وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا " أي: صمما عن سماعه.
" وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ " داعيا لتوحيده, ناهيا عن الشرك به.
" وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا " من شدة بغضهم له, ومحبتهم لما هم عليه من الباطل.
كما قال تعالى " وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ " .

" نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " (47)
" نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ " أي: إنما منعناهم من الانتفاع عند سماع القرآن, لأننا نعلم أن مقاصدهم سيئة, يريدون أن يعثروا على أقل شيء, ليقدحوا به.
وليس استماعهم لأجل الاسترشاد, وقبول الحق, وإنما هم متعمدون على عدم اتباعه.
ومن كان بهذه الحالة, لم يفده الاستماع شيئا, ولهذا قال: " إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى " أي: متناجين " إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ " في مناجاتهم: " إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا " فإذا كانت هذه مناجاتهم الظالمة فيما بينهم, وقد بنوها على أنه مسحور, فهم جازمون أنهم غير معتبرين لما قال, وأنه يهذى, لا يدري ما يقول.

" انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " (48)
قال تعالى: " انْظُرْ " متعجبا " كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ " التي هي أضل الأمثال, وأبعدها عن الصواب.
" فُضِّلُوا " في ذلك, أو صارت سببا لضلالهم لأنهم بنوا عليها أمرهم, والمبني على فاسد, أفسد منه.
" فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا " أي: لا يهتدون أي اهتداء, فنصيبهم الضلال المحض, والظلم الصرف



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 29-12-2019, 07:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (282)
تفسير السعدى
سورة الاسراء
من الأية(49) الى الأية(56)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الاسراء


" وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا " (49)

يخبر تعالى عن قول المنكرين للبعث, وتكذيبهم به, واستبعادهم بقولهم: " أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا " أي: أجسادا بالية " أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا " أي: لا يكون ذلك, وهو محال بزعمهم.
فجهلوا أشد الجهل, حيث كذبوا رسول الله, وجحدوا آيات الله, وقاسوا قدرة خالق السماوات والأرض, بقدرهم الضعيفة العاجزة.
فلما رأوا أن هذا ممتنع عليهم, لا يقدرون عليه, جعلوا قدرة الله كذلك.
فسبحان من جعل خلقا من خلقه, يزعمون أنهم أولو العقول والألباب, مثالا في جهل.
أظهر الأشياء, وأجلاها, وأوضحها براهين, وأعلاها ليرى عباده, أنه ما ثم إلا توفيقه وإعانته, أو الهلاك والضلال.
" رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ " .

" قل كونوا حجارة أو حديدا " (50)
ولهذا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم, أن يقول لهؤلاء المنكرين للبعث استبعادا: " قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ " أي: يعظم " فِي صُدُورِكُمْ " لتسلموا بذلك على زعمكم, من أن تنالكم قدرة الله, أو تنفذ فيكم مشيئته.
فإنكم غير معجزين الله, في أي حالة تكونون, وعلى أي وصف تتحولون.
وليس في أنفسكم, تدبير في حالة الحياة, وبعد الممات.
فدعوا التدبير والتصريف, لمن هو على كل شيء قدير, وبكل شيء محيط.
" فَسَيَقُولُونَ " حين تقيم عليهم الحجة في البعث: " مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " فكما فطركم, ولم تكونوا شيئا مذكورا, فإنه سيعيدكم خلقا جديدا " كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ " .
" فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ " أي: يهزونها, إنكارا وتعجبا, مما قلت.
" وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ " أي: متى وقت البعث, الذي تزعمه على قولك؟ ولا إقرار منهم لأصل البعث, بل ذلك سفه منهم, وتعجيز.
" قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا " فليس في تعيين وقته فائدة.
وإنما الفائدة والمدار, على تقريره, والإقرار به, وإثباته, وإلا فكما هو آت, فإنه قريب.

" يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا " (52)
" يَوْمَ يَدْعُوكُمْ " للبعث والنشور, وينفخ في الصور " فَتَسْتَجِيبُون َ بِحَمْدِهِ " أي: تنقادون لأمره, ولا تستعصون عليه.
وقوله " بحمده " أي: هو المحمود تعالى, على فعله, ويجزي به العباد, إذا جمعهم ليوم التناد.
" وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا " من سرعة وقوعه, وأن الذي مر عليكم من النعيم, كأنه ما كان.
فهذا الذي يقول عنه المنكرون: " متى هو " ؟ يندمون غاية الندم, عند وروده, ويقال لهم: " هذا الذي كنتم به تكذبون " .
\

" وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا "(53)
وهذا من لطفه بعباده, حيث أمرهم بأحسن الأخلاق, والأعمال, والأقوال, الموجبة للسعادة, في الدنيا والآخرة فقال: " وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " وهذا أمر بكل كلام يقرب إلى الله, من قراءة, وذكر, وعلم, وأمر بمعروف, ونهي عن منكر, وكلام حسن لطيف, مع الخلق, على اختلاف مراتبهم ومنازلهم.
وأنه إذا دار الأمر بين أمرين حسنين, فإنه يأمر بإيثار أحسنهما, إن لم يمكن الجمع بينهما.
والقول الحسن, داع لكل خلق جميل, وعمل صالح, فإن من ملك لسانه, ملك جميع أمره.
وقوله: " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ " أي: يسعى بين العباد, بما يفسد عليهم دينهم ودنياهم.
فدواء هذا, أن لا يطيعوه في الأقوال غير الحسنة, التي يدعوهم إليها.
وأن يلينوا فيما بينهم, لينقمع الشيطان, الذي ينزغ بينهم, فإنه عدوهم الحقيقي, الذي ينبغي لهم أن يحاربوه, فإنه يدعوهم " ليكونوا من أصحاب السعير " .
وأما إخوانهم, فإنهم وإن نزغ الشيطان فيما بينهم, وسعى في العداوة, فإن الحزم كل الحزم, السعي في ضد عدوهم, وأن يقمعوا أنفسهم الأمارة بالسوء, التي يدخل الشيطان من قبلها, فبذلك يطيعون ربهم, ويستقيم أمرهم, ويهدون لرشدهم.

" ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا " (54)
" رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ " من أنفسكم, فلذلك لا يريد لكم إلا ما هو الخير, ولا يأمركم إلا بما فيه مصلحة لكم, وقد تريدون شيئا والخير في عكسه.
" إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ " فيوفق من شاء لأسباب الرحمة, ويخذل من شاء, فيضل عنها, فيستحق العذاب.
" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا " تدبر أمرهم, وتقوم بمجازاتهم, وإنما الله, هو الوكيل, وأنت مبلغ هاد, إلى صراط مستقيم

" وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا "(55)
" وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " من جميع أصناف الخلائق, فيعطي كلا منهم, ما يستحقه, وتقتضيه حكمته, ويفضل بعضهم على بعض, في جميع الخصال الحسية, والمعنوية, كما فضل بعض النبيين المشتركين بوحيه, على بعض, بالفضائل, والخصائص الراجعة إلى ما من به عليهم, من الأوصاف الممدوحة, والأخلاق المرضية, والأعمال الصالحة, وكثرة الأتباع, ونزول الكتب على بعضهم, المشتملة على الأحكام الشرعية, والعقائد المرضية.
كما أنزل على داود زبورا, وهو الكتاب المعروف.
فإذا كان تعالى قد فضل بعضهم على بعض, وآتى بعضهم كتبا, فلم ينكر المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم, ما أنزله الله عليه وما فضله به من النبوة والكتاب.

" قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا " (56)
يقول تعالى " قُلْ " للمشركين بالله الذين اتخذوا من دونه أندادا يعبدونهم, كما يعبدون الله, ويدعونهم كما يدعونه, ملزما لهم بتصحيح ما زعموه واعتقدوه إن كانوا صادقين.
" ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ " آلهة " مِنْ دُونِهِ " فانظروا هل ينفعونكم, أو يدفعون عنكم الضر.
" فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ " من مرض, أو فقر, أو شدة ونحو ذلك, فلا يدفعونه بالكلية.
" وَلَا " يملكون أيضا " تَحْوِيلًا " له من شخص إلى آخر, من شدة إلى ما دونها.
فإذا كانوا بهذه الصفة فلأي شيء تدعونهم من دون الله؟ فإنهم لا كمال لهم, ولا فعال نافعة.
فاتخاذهم آلهة نقص في الدين والعقل, وسفه في الرأي.
ومن العجب, أن السفه عند الاعتياد والممارسة, وتلقيه عن الآباء الضالين بالقبول, يراه صاحبه, هو الرأي السديد, والعقل المفيد.
ويرى إخلاص الدين لله الواحد الأحد المنعم بجميع النعم الظاهرة والباطنة, هو السفه, والأمر المتعجب منه, كما قال المشركون: " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب " .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 29-12-2019, 07:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (283)
تفسير السعدى
سورة الاسراء
من الأية(57) الى الأية(63)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الاسراء

" أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا " (57)
ثم أخبر أيضا, أن الذين يعبدونهم من دون الله, في شغل شاغل عنهم, باهتمامهم بالافتقار إلى الله, وابتغاء الوسيلة إليه فقال: " أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ " من الأنبياء والصالحين والملائكة " يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ " أي: يتنافسون في القرب من ربهم, ويبذلون ما يقدرون عليه, من الأعمال الصالحة, المقربة إلى الله تعالى: " وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ " فيجتنبون كل ما يوصل إلى العذاب.
" إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا " أي: هو الذي ينبغي شدة الحذر منه والتوقي من أسبابه.
وهذه الأمور الثلاثة, الخوف, والرجاء, والمحبة, التي وصف الله بها هؤلاء المقربين عنده, هي الأصل, والمادة في كل خير.
فمن تمت له, تمت له أموره, وإذا خلا القلب منها, ترحلت عنه الخيرات, وأحاطت به الشرور.
وعلامة المحبة, ما ذكره الله, أن يجتهد العبد في كل محل يقربه إلى الله وينافس في قربه بإخلاص الأعمال كلها لله, والنصح فيها, وإيقاعها في أكمل الوجوه المقدور عليها.
فمن زعم أنه يحب الله بغير ذلك, فهو كاذب.

" وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا " (58)
أي: ما من قرية من القرى المكذبة للرسل, إلا, لا بد أن يصيبهم هلاك يوم القيامة, أو عذاب شديد, كتاب كتبه الله, وقضاء أبرمه, لا بد من وقوعه.
فليبادر المكذبون بالإنابة إلى الله, وتصديق رسله, قبل أن تتم عليهم كلمة العذاب, ويحق عليهم القول.

" وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا " (59)
يذكر تعالى رحمته, بعدم إنزاله الآيات, التي اقترحها المكذبون, وأنه ما منعه أن يرسلها, إلا خوفا من تكذيبهم لها.
فإذا كذبوا بها, عاجلهم العقاب, وحل بهم من غير تأخير, كما فعل بالأولين الذين كذبوا بها.
ومن أعظم الآيات, الآية التي أرسلها الله إلى ثمود, وهي الناقة العظيمة الباهرة, التي كانت تصدر عنها جميع القبيلة بأجمعها, ومع ذلك, كذبوا بها, فأصابهم ما قص الله علينا في كتابه.
وهؤلاء كذلك, لو جاءتهم الآيات الكبار, لم يؤمنوا.
فإنه ما منعهم من الإيمان, خفاء ما جاء به الرسول واشتباهه, هل هو حق أو باطل؟ فإنه قد جاء ومعه من البراهين الكثيرة, بما دل على صحة ما جاء به, الموجب لهداية من طلب الهداية فغيرها مثلها, فلا بد أن يسلكوا بها, ما سلكوا بغيرها, فترك إنزالها والحالة هذه, خير لهم وأنفع.
وقوله: " وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا " أي: لم يكن القصد بها أن تكون داعية وموجبة للإيمان, الذي لا يحصل إلا بها.
بل المقصود منها, التخويف والترهيب, ليرتدعوا عن ما هم عليه.

" وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " (60)
" وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ " علما وقدرة, فليس لهم ملجأ يلجأون إليه, ولا ملاذ, يلوذون به عنه.
وهذا كاف لمن له عقل في الانكفاف عما يكرهه الله الذي أحاط بالناس.
" وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً " أكثر المفسرين على أنها ليلة الإسراء.
" وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ " التي ذكرت " فِي الْقُرْآنِ " وهي شجرة الزقوم, التي تنبت في أصل الجحيم.
والمعنى, إذا كان هذان الأمران, قد صارا فتنة للناس, حتى استلج الكفار بكفرهم, وازداد شرهم, وبعض من كان إيمانه ضعيفا, رجع عنه بسبب أن ما أخبرهم به من الأمور, التي كانت ليلة الإسراء, ومن الإسراء من المسجد الحرام, إلى المسجد الأقصى, كان خارقا للعادة.
والإخبار بوجود شجرة, تنبت في أصل الججم أيضا, من الخوارق فهذا الذي أوجب لهم التكذيب.
فكيف لو شاهدوا الآيات العظيمة والخوارق الجسيمة؟!! أليس ذلك أولى أن يزداد بسببه شرهم؟! فلذلك رحمهم الله وصرفها عنهم.
ومن هنا تعلم أن عدم التصريح في الكتاب والسنة, بذكر الأمور العظيمة, التي حدثت في الأزمنة المتأخرة, أولى وأحسن.
لأن الأمور التي لم يشاهد الناس لها نظيرا, ربما لا تقبلها عقولهم, فيكون ذلك ريبا في قلوب بعض المؤمنين, ومانعا, يمنع من لم يدخل الإسلام, ومنفرا عنه.
بل ذكر الله ألفاظا عامة, تتناول جميع ما يكون, والله أعلم.
" وَنُخَوِّفُهُمْ " بالآيات " فَمَا يَزِيدُهُمْ " التخويف " إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا " وهذا أبلغ ما يكون في التحلي بالشر ومحبته, وبغض الخير وعدم الانقياد له.

" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا " (61)
ينبه تبارك وتعالى عباده, على شدة عداوة الشيطان, وحرصه على إضلالهم, وأنه لما خلق الله آدم, استكبر عن السجود له, و " قَالَ " متكبرا: " أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا " أي من طين, وبزعمه, أنه خير منه, لأنه خلق من نار.
وقد تقدم فساد هذا القياس الباطل, من عدة أوجه.

" قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا " (62)
فلما تبين لإبليس تفضيل الله لآدم " قَالَ " مخاطبا لله: " أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ " أي: لأستأصلنهم بالإضلال, ولأغوينهم " إِلَّا قَلِيلًا " عرف الخبيث, أنه لا بد أن يكون منهم من يعاديه, ويعصيه.
" قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا "(63)
فقال الله له: " اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ " واختارك على ربه ووليه الحق.
" فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا " أي: مدخرا لكم, موفرا جزاء أعمالكم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 29-12-2019, 07:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (284)
تفسير السعدى
سورة الاسراء
من الأية(64) الى الأية(70)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الاسراء

" واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا "(64)

ثم أمره الله أن يفعل كل ما يقدر عليه من إضلالهم فقال: " وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ " ويدخل في هذا كل داع إلى المعصية.
" وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ " ويدخل فيه كل راكب وماش في معصية الله, فهو من خيل الشيطان ورجله.
والمقصود أن الله ابتلى العباد بهذا العدو المبين, الداعي لهم إلى معصية الله, بأقواله وأفعاله.
" وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ " وذلك شامل لكل معصية, تعلقت بأموالهم وأولادهم, من منع الزكاة والكفارات, والحقوق الواجبة وعدم تأديب الأولاد, وتربيتهم على الخير, وترك الشر, وأخذ الأموال بغير حقها, أو وضعها بغير حقها, أو استعمال المكاسب الردية.
بل ذكر كثير من المفسرين, أنه يدخل في مشاركة الشيطان في الأموال والأولاد, ترك التسمية عند الطعام والشراب والجماع.
وأنه إذا لم يسم الله في ذلك, شارك فيه الشيطان, كما ورد فيه الحديث.
" وَعِدْهُمْ " الوعود المزخرفة التي لا حقيقة لها, ولهذا قال: " وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا " أي: باطلا مضمحلا, كأن يزين لهم المعاصي والعقائد الفاسدة, ويعدهم عليها الأجر, لأنهم يظنون أنهم على الحق.
وقال تعالى: " الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا " .

" إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " (65)
ولما أخبر عما يريد الشيطان أن يفعل بالعباد, وذكر ما يعتصم به من فتنته, وهو عبودية الله, والقيام بالإيمان والتوكل قال: " إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ " أي: تسلط وإغواء, بل الله يدفع عنهم - بقيامهم بعبوديته - كل شر, ويحفظهم من الشيطان الرحيم, ويقوم بكفايتهم.
" وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا " لمن توكل عليه, وأدى ما أمر به.

" ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما " (66)
يذكر تعالى: نعمته على العباد, بما سخر لهم من الفلك, والسفن, والمراكب, وألهمهم كيفية صنعتها.
وسخر لها البحر الملتطم, يحملها على ظهره, لينتفع العباد بها في الركوب والحمل للأمتعة, والتجارة.
وهذا من رحمته بعباده, فإنه لم يزل بهم رحيما رءوفا, يؤتيهم من كل ما تعلقت به إرادتهم ومنافعهم.

" وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا " (67)
ومن رحمته الدالة على أنه, وحده المعبود, دون ما سواه, أنهم إذا مسهم الضر في البحر, فخافوا من الهلاك, لتراكم الأمواج, ضل عنهم ما كانوا يدعون من دون الله, في حال الرخاء من الأحياء, والأموات, فكأنهم لم يكونوا يدعونهم في وقت من الأوقات لعلمهم أنهم ضعفاء, عاجزون عن كشف الضر, وصرخوا بدعوة فاطر الأرض والسماوات, الذي يستغيث به في شدائدها, جميع المخلوقات, وأخلصوا له الدعاء والتضرع في هذه الحال.
فلما كشف الله عنهم الضر, ونجاهم إلى البر, ونسوا ما كانوا يدعون إليه من قبل, أشركوا به, من لا ينفع, ولا يضر, ولا يعطي, ولا يمنع, وأعرضوا عن الإخلاص لربهم ومليكهم.
وهذا من جهل الإنسان وكفره, فإن الإنسان كفور للنعم.
إلا من هدى الله فمن عليه بالعقل السليم, واهتدى إلى الصراط المستقيم.
فإنه يعلم, أن الذي يكشف الشدائد, وينجي من الأهوال, هو الذي يستحق أن يفرد, وتخلص له سائر الأعمال, في الشدة, والرخاء, واليسر والعسر.
وأما من خذل, ووكل إلى عقله الضعيف, فإنه لم يلحظ وقت الشدة إلا مصلحته الحاضرة, وإنجاءه في كل تلك الحال.
فلما حصلت له النجاة, وزالت عنه المشقة, ظن بجهله, أنه قد أعجز الله ولم يخطر بقلبه, شيء من العواقب الدنيوية, فضلا عن أمور الآخرة.

" أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا " (68)
ولهذا ذكرهم الله بقوله: " أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا " .
أي: فهو على كل شيء قدير, إن شاء أنزل عليكم عذابا, من أسفل منكم بالخسف, أو من فوقكم بالحاصب, وهو: العذاب الذي يحصيهم, فيصبحوا هالكين.
فلا تظنوا أن الهلاك لا يكون إلا في البحر.

" أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا " (69)
وإن ظننتم ذلك, فلستم آمنين من " أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ " أي: ريحا شديدة جدا تقصف ما أتت عليه.
" فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا " أي: تبعة ومطالبة, فإن الله لم يظلمكم مثقال ذرة.

" ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " (70)
وهذا من كرمه عليهم وإحسانه, الذي لا يقادر قدره, حيث كرم بني آدم بجميع وجوه الإكرام.
فكرمهم بالعلم والعقل, وإرسال الرسل, وإنزال الكتب.
وجعل منهم الأولياء والأصفياء, وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة.
" وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ " على الركاب, من الإبل, والبغال, والحمير, والمراكب البرية.
" وَالْبَحْرِ " في السفن والمراكب " وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ " من المآكل والمشارب, والملابس, والمناكح.
فما من طيب تتعلق به حوائجهم, إلا وقد أكرمهم الله به, ويسره لهم غاية التيسير.
" وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا " بما خصهم به من المناقب, وفضلهم به من الفضائل, التي ليست لغيرهم من أنواع المخلوقات.
أفلا يقومون بشكر من أولى النعم, ودفع النقم, ولا تحجبهم النعم عن المنعم فيشتغلوا بها عن عبادة ربهم, بل ربما استعانوا بها على معاصيه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 01-01-2020, 04:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (286)
تفسير السعدى
سورة الاسراء
من الأية(79) الى الأية(86)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الاسراء

" ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " (79)

وقوله " وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ " أي: صل به في سائر أوقاته.
" نَافِلَةً لَكَ " أي: لتكون صلاة الليل, زيادة لك في علو القدر, ورفع الدرجات.
بخلاف غيرك, فإنها تكون كفارة لسيئاته.
ويحتمل أن يكون المعنى: أن الصلوات الخمس فرض عليك, وعلى المؤمنين.
بخلاف صلاة الليل, فإنها فرض عليك بالخصوص, ولكرامتك على الله أن جعل وظيفتك أكثر من غيرك, وليكترثوا بك, وتنال بذلك, المقام المحمود, وهو المقام الذي, يحمدك فيه, الأولون والآخرون, مقام الشفاعة العظمى, حين يتشفع الخلائق بآدم, ثم بنوح, ثم إبراهيم, ثم موسى, ثم عيسى.
وكلهم يعتذر ويتأخر عنها, حتى يستشفعوا بسيد ولد آدم, ليرحمهم الله, من هول الموقف, وكربه.
فيشفع عند ربه, فيشفعه, ويقيمه مقاما, يغبطه به, الأولون والآخرون.
وتكون له المنة على جميع الخلق.

" وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا " (80)
وقوله: " وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ " أي: اجعل مداخلي ومخارجي كلها, في طاعتك, وعلى مرضاتك, وذلك لتضمنها الإخلاص, وموافقتها الأمر.
" وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا " أي: حجة ظاهرة, وبرهانا قاطعا على جميع ما آتيه, وما أذره.
وهذا أعلى حالة, ينزلها الله العبد, أن تكون أحواله كلها خيرا, ومقربة له إلى ربه, وأن يكون له - على كل حالة من أحواله - دليل ظاهر, وذلك متضمن للعلم النافع, والعمل الصالح, للعلم بالمسائل والدلائل.

" وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " (81)
وقوله: " وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ " والحق هو: ما أوحاء الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, فأمره الله أن يقول ويعلن, قد جاء الحق الذي لا يقوم له شيء, وزهق الباطل أي: اضمحل وتلاشى.
" إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " أي: هذا وصف الباطل, ولكنه قد يكون له صولة ورواج, إذا لم يقابله الحق, فعند مجيء الحق, يضمحل الباطل, فلا يبقى له حراك.
ولهذا لا يروج الباطل, إلا في الأزمان, والأمكنه الخالية من العلم بآيات الله وبيناته

" وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " (82)
وقوله: " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ " إلى " إِلَّا خَسَارًا " .
أي: فالقرآن مشتمل على الشفاء والرحمة.
وليس ذلك لكل أحد, وإنما ذلك للمؤمنين به, المصدقين بآياته, العاملين به.
وأما الظالمون بعدم التصديق به, أو عدم العمل به, فلا تزيدهم آياته إلا خسارا.
إذ به تقوم عليهم الحجة.
فالشفاء الذي تضمنه القرآن, عام لشفاء القلوب, من الشبه, والجهالة, والآراء الفاسدة والانحراف السيئ, والقصود الرديئة.
فإنه مشتمل على العلم اليقين, الذي تزول به كل شبهة وجهالة.
والوعظ والتذكير, الذي يزول به كل شهوة, تخالف أمر الله.
ولشفاء الأبدان من آلامها وأسقامها.
وأما الرحمة, فإن ما فيه من الأسباب والوسائل, التي يحث عليها, متى فعلها العبد, فاز بالرحمة والسعادة الأبدية, والثواب العاجل والآجل.

" وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا " (83)
هذه طبيعة الإنسان, من حيث هو, إلا من هداه الله.
فإن الإنسان - عند إنعام الله عليه - يفرح بالنعم, ويبطر بها, ويعرض, وينأى بجانبه عن ربه, فلا يشكره, ولا يذكره.
" وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ " كالمرض ونحوه " كَانَ يَئُوسًا " من الخير, قد قطع ربه رجاءه, وظن أن ما هو فيه, دائم أبدا.
وأما من هداه الله, فإنه - عند النعم - يخضع لربه, ويشكر نعمته, وعند الضراء, يتضرع, ويرجو من الله عافيته, وإزالة ما يقع فيه, وبذلك يخف عليه البلاء.

" قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا " (84)
أي: " قُلْ كُلٌّ " من الناس " يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ " أي: على ما يليق به من الأحوال.
إن كانوا من الصفوة الأبرار, لم يشاكلهم إلا عملهم لرب العالمين.
ومن كانوا من غيرهم من المخذولين لم يناسبهم إلا العمل للمخلوقين, ولم يوافقهم إلا ما وافق أغراضهم.
" فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا " فيعلم من يصلح للهداية, فيهديه, ومن لا يصلح لها فيخذله ولا يهديه

" ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " (85)
وهذا متضمن لردع من يسأل المسائل, التي يقصد بها التعنت والتعجيز, ويدع السؤال عن المهم, فيسألون عن الروح, التي هي من الأمور الخفية, التي لا يتقن وصفها وكيفيتها, كل أحد, وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد.
ولهذا أمر الله رسوله, أن يجيب سؤالهم بقوله: " قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي " أي: من جملة مخلوقاته, التي أمرها أن تكون فكانت.
فليس في السؤال عنها, كبير فائدة, مع عدم علمكم بغيرها.
وفي هذه الآية دليل, على أن المسئول إذا سئل عن أمر, الأولى به أن يعرض عن إجابة السائل عما سأل عنه, ويدله على ما يحتاج إليه, ويرشده إلى ما ينفعه.

" ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا " (86)
يخبر تعالى أن القرآن والوحي, الذي أوحاه إلى رسوله, رحمة منه عليه, وعلى عباده, وهو أكبر النعم على الإطلاق على رسوله, فإن فضل الله عليه كبير, لا يقادر قدره.
فالذي تفضل به عليك, قادر على أن يذهب به, ثم لا تجد رادا يرده, ولا وكيلا بتوجه عند الله فيه.
فلتغتبط به, ولتقر به عينك, ولا يحزنك تكذيب المكذبين, ولا استهزاء الضالين.
فإنهم عرضت عليهم أجل النعم, فردوها, لهوانهم على الله, وخذلانه لهم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 01-01-2020, 04:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (287)
تفسير السعدى
سورة الاسراء
من الأية(87) الى الأية(111)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الاسراء


" قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " (88)
وهذا دليل قاطع, وبرهان ساطع, على صحة ما جاء به الرسول وصدقه.
حيث تحدى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله, وأخبر أنهم لا يأتون بمثله, ولو تعاونوا كلهم على ذلك لم يقدروا عليه.
ووقع كما أخبر الله, فإن دواعي أعدائه المكذبين به, متوفرة على رد ما جاء به, بأي وجه كان, وهم أهل اللسان والفصاحة.
فلو كان عندهم أدنى تأهل, وتمكن من ذلك, لفعلوه.
فعلم بذلك, أنهم أذعنوا غاية الإذعان, طوعا وكرها, وعجزوا عن معارضته.
وكيف يقدر المخلوق من تراب, الناقص من جميع الوجوه, الذي ليس له علم, ولا قدرة, ولا إرادة, ولا مشيئة, ولا كلام ولا كمال, إلا من ربه أن يعارض كلام رب الأرض والسماوات, المطلع على سائر الخفيات, الذي له الكمال المطلق, والحمد المطلق, والمجد العظيم, الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادا, والأشجار كلها أقلام, لنفذ المداد, وفنيت الأقلام, ولم تنفد كلمات الله.
فكما أنه ليس أحد من المخلوقين, مماثلا لله في أوصافه, فكلامه من أوصافه, التي لا يماثله فيها أحد.
فليس كمثله شيء, في ذاته, وأسمائه, وصفاته, وأفعاله تبارك وتعالى.
فتبا لمن اشتبه عليه كلام الخالق بكلام المخلوق, وزعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم, افتراه على الله واختلقه من نفسه.

" ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا " (89)
يقول تعالى: " وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ " أي: نوعنا فيه المواعظ والأمثال, وثنينا فيه المعاني, التي يضطر إليها العباد, لأجل أن يتذكروا ويتقوا.
فلم يتذكر إلا القليل منهم, الذين سبقت لهم من الله, سابقة السعادة, وأعانهم الله بتوفيقه.
وأما أكثر الناس, فأبوا إلا كفورا لهذه النعمة, التي هي أكبر من جميع النعم, وجعلوا يتعنتون عليه باقتراح آيات, غير آياته, يخترعونها من تلقاء أنفسهم الظالمة الجاهلة.

" وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " (90)
فيقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي أتى بهذا القرآن المشتمل على كل برهان وآية: " لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا " أي أنهارا جارية.
" أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ " فتستغنى بها عن المشي في الأسواق والذهاب والمجيء.
" أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا " أي: قطعا من العذاب.
" أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا " أي جميعا, أو مقابلة ومعاينة, يشهدون لك بما جئت به.
" أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ " أي: مزخرف بالذهب وغيره.
" أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ " رقيا حسيا.
ومع هذا " وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ " .
ولما كانت هذه تعنتات, وتعجيزات, وكلام أسفه الناس وأظلمهم, المتضمنة لرد الحق, وسوء أدب مع الله, وأن الرسول صلى الله عليه وسلم, هو الذي يأتي بالآيات - أمره الله أن ينزهه فقال: " قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي " عما تقولون علوا كبيرا, وسبحانه أن تكون أحكامه وآياته تابعة لأهوائهم الفاسدة, وآرائهم الضالة.
" هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا " ليس بيده شيء من الأمر.

" وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا " (93)
وهذا السبب, الذي منع أكثر الناس من الإيمان, حيث كانت الرسل, التي ترسل إليهم من جنسهم بشرا.
وهذا من رحمته بهم, أن أرسل إليهم بشرا منهم, فإنهم لا يطيقون التلقي من الملائكة.
" قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ " يثبتون على رؤية الملائكة, والتلقي عنهم " لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا " ليمكنهم التلقي عنه.
" قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا " .
فمن شهادته لرسوله ما أيده به من المعجزات, وما أنزل عليه من الآيات, ونصره على من عاداه وناوأه.
فلو تقول عليه بعض الأقاويل, لأخذ منه باليمين, ثم لقطع منه الوتين.
فإنه خبير بصير, لا تخفى عليه من أحوال العباد خافية.

" ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا " (97)
يخبر تعالى أنه المنفرد بالهداية والإضلال.
فمن يهده, فييسره لليسرى ويجنبه العسرى, فهو المهتدي على الحقيقة.
ومن يضلله, فيخذله, ويكله إلى نفسه, فلا هادي له من دون الله.
وليس له ولي ينصره من عذاب الله, حين يحشرهم الله على وجوههم خزيا, عميا, وبكما, لا يبصرون, ولا ينطقون.
" مَأْوَاهُمْ " أي مقرهم ودارهم " جَهَنَّمُ " التي جمعت كل هم, وغم, وعذاب.
" كُلَّمَا خَبَتْ " أي: تهيأت للانطفاء " زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا " أي: سعرناها بهم لا يفتر عنهم العذاب ولا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها, ولم يظلمهم الله تعالى بل جازاهم بما كفروا بآياته وأنكروا البعث الذي أخبرت به الرسل ونطقت به الكتب وعجزوا ربهم فأنكروا تمام قدرته.
" وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا " أي: لا يكون هذا لأنه في غاية البعد عن عقولهم الفاسدة.

" أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا " (99)
" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " وهي أكبر من خلق الناس.
" قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ " بلى, إنه على ذلك قدير.
ولكنه قد " وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ " ولا شك, وإلا فلو شاء لجاءهم به بغتة, ومع إقامته الحجج والأدلة على البعث.
" فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا " ظلما منهم وافتراء.

" قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا "(100)
" قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي " التي لا تنفذ ولا تبيد.
" إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ " أي: خشية أن ينفد ما تنفقون منه, مع أنه من المحال أن تنفد خزائن الله, ولكن الإنسان مطبوع على الشح والبخل.

" ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا " (101)
أي: لست أيها الرسول المؤيد بالآيات, أول رسول كذبه الناس.
فلقد أرسلنا قبلك, موسى بن عمران الكليم, إلى فرعون وقومه, وآتيناه " تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ " كل واحدة منها, تكفي لمن قصده اتباع الحق كالحية, والعصا, والطوفان والجراد, والقمل والضفادع, والدم, واليد, وفلق البحر.
فإن شككت في شيء من ذلك " فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ " مع هذه الآيات " إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا " .

" قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا " (102)
" قَالَ " له موسى " لَقَدْ عَلِمْتَ " يا فرعون " مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ " الآيات " إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ " منه لعباده, فليس قولك هذا, بالحقيقة, وإنما قلت ذلك, ترويجا على قومك, واستخفافا لهم.
" وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا " أي ممقوتا ملقى في العذاب لك والذم واللعنة.

" فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا " (103)
" فَأَرَادَ " فرعون " أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ " أي: يجليهم ويخرجهم منها.
" فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا " وأورثنا بني إسرائيل أرضهم وديارهم.

" وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " (104)
ولهذا قال: " وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا " أي: جميعا, ليجازى كل عامل بعمله.
" وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا " (105)
أي: وبالحق أنزلنا هذا القرآن الكريم, لأمر العباد, ونهيهم, وثوابهم, وعقابهم.
" وَبِالْحَقِّ نَزَلَ " أي: بالصدق والعدل, والحفظ من كل شيطان رجيم.
" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا " من أطاع الله بالثواب العاجل والآجل.
" وَنَذِيرًا " لمن عصى الله, بالعقاب العاجل والآجل.
ويلزم من ذلك, بيان ما يبشر به وينذر.

" وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " (106)
أي: وأنزلنا هذا القرآن مفرقا, فارقا بين الهدى والضلال, والحق والباطل.
" لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ " أي: على مهل, ليتدبروه, ويتفكروا في معانيه, ويستخرجوا علومه.
" وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا " أي: شيئا فشيئا, مفرقا في ثلاث وعشرين سنة.
" ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " .
فإذا تبين أنه الحق, الذي لا شك فيه ولا ريب, بوجه من الوجوه.

" قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا " (107)
" قُلْ " لمن كذب به, وأعرض عنه: " آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا " .
فليس لله حاجة فيكم, ولستم بضاريه شيئا, وإنما ضرر ذلك عليكم.
فإن لله عبادا غيركم, وهم الذين آتاهم الله العلم النافع: " إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا " أي: يتأثرون به غاية التأثر, ويخضعون له.
" وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا " عما لا يليق بجلاله, مما نسبه إليه المشركون.
" إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا " بالبعث والجزاء بالأعمال " لَمَفْعُولًا " لا خلف فيه ولا شك.
" وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ " أي: على وجوههم " يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ " القرآن " خُشُوعًا " .
وهؤلاء كالذين من الله عليهم من مؤمني أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وغيره, ممن أسلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم, بعد ذلك.

" قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا " (110)
بقول تعالى لعباده: " ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ " أي: أيهما شئتم.
" أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى " أي: ليس له اسم غير حسن, أي: حتى ينهى عن دعائه به, أي اسم دعوتموه به, حصل به المقصود, والذي ينبغي أن يدعى في كل مطلوب, مما يناسب ذلك الاسم.
" وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ " أي: قراءتك " وَلَا تُخَافِتْ بِهَا " فإن في كل من الأمرين محذووا.
أما الجهر, فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه, سبوه, وسبوا من جاء به.
وأما المخافتة, فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء.
" وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ " أي: اتخذ بين الجهر والإخفات " سَبِيلًا " أي: تتوسط فيما بينهما.

" وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا " (111)
" وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ " الذي له الكمال, والثناء, والحمد, والمجد من جميع الوجوه, المنزه عن كل آفة ونقص.
" الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ " بل الملك كله لله الواحد القهار.
فالعالم العلوي والسفلي, كلهم مملوكون لله, ليس لأحد من الملك شيء.
" وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ " أي: لا يتولى أحدا من خلقه, ليتعزز به ويعاونه.
فإنه الغني الحميد, الذي لا يحتاج إلى أحد من المخلوقات, في الأرض ولا في السماوات, ولكنه يتخذ - إحسانا منه إليهم ورحمة بهم " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " .
" وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا " أي عظمه وأجله بالإخبار بأوصافه العظيمة, وبالثناء عليه, بأسمائه الحسنى, وبتحميده بأفعاله المقدسة, وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده, لا شريك له, وإخلاص الدين كله له.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 01-01-2020, 04:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (288)
تفسير السعدى
سورة الكهف
من الأية(1) الى الأية(10)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الكهف


" الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا " (1)
الحمد هو الثناء عليه بصفاته, التي هي كلها صفات كمال, وبنعمه الظاهرة والباطنة, الدينية والدنيوية.
وأجل نعمه على الإطلاق, إنزاله الكتاب العظيم على عبده ورسوله, محمد صلى الله عليه وسلم.
فحمد نفسه, وفي ضمنه, إرشاد العباد ليحمدوه على إرسال الرسول إليهم, وإنزال الكتاب عليهم.
ثم وصف هذا الكتاب بوصفين مشتملين, على أنه الكامل من جميع الوجوه.
وهما نفي العوج عنه, وإثبات أنه مقيم مستقيم.
فنفي العوج, يقتضي أنه ليس في أخباره كذب, ولا في أوامره ونواهيه, ظلم ولا عبث.
وإثبات الاستقامة, يقتضي أنه لا يخبر ولا يأمر إلا بأجل الأخبارات وهي الأخبار, التي تملأ القلوب معرفة وإيمانا وعقلا, كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله, ومنها الغيوب المتقدمة والمتأخرة.
وأن أوامره ونواهيه, تزكي النفوس وتطهرها وتنميها وتكملها, لاشتمالها على كمال العدل والقسط, والإخلاص, والعبودية لله رب العالمين, وحده لا شريك له.
وحقيق بكتاب موصوف.
بما ذكر, أن يحمد الله نفسه على إنزاله, وأن يتمدح إلى عباده به.

" قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا "(2)
وقوله " لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ " أي: لينذر بهذا القرآن الكريم, عقابه الذي عنده, أي: قدره وقضاءه, على من خالف أمره, وهذا يشمل عقاب الدنيا, وعقاب الآخرة.
وهذا أيضا, من نعمه أن خوف عباده, وأنذرهم, ما يضرهم ويهلكهم.
كما قال تعالى - لما ذكر في هذا القرآن وصف النار, قال: " ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون " .
فمن رحمته بعباده, أن قيض العقوبات الغليظة على من خالف أمره, وبينها لهم, وبين لهم الأسباب الموصلة إليها.
" وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا " أي: وأنزل الله على عبده الكتاب, ليبشر المؤمنين به, وبرسله, وكتبه, الذين كمل إيمانهم.
فأوجب لهم عمل الصالحات, وهي: الأعمال الصالحة, من واجب, ومستحب, التي جمعت الإخلاص والمتابعة.
" أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا " وهو الثواب الذي رتبه الله على الإيمان والعمل الصالح.
وأعظمه وأجله, الفوز برضا الله ودخول الجنة, التي فيها, ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
وفي وصفه بالحسن, دلالة على أنه لا مكدر فيه, ولا منغص, بوجه من الوجوه.
إذ لو وجد فيه شيء من ذلك, لم يكن حسنه تاما.

" ماكثين فيه أبدا " (3)
ومع ذلك فهذا الأجر الحسن " مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا " لا يزول عنهم, ولا يزولون عنه, بل نعيمهم في كل وقت متزايد.
وفي ذكر التبشير, ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به.
وهو: أن هذا القرآن, قد اشتمل على كل عمل صالح, موصل لما تستبشر به النفوس, وتفرح به الأرواح.

" وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا " (4)
" وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا " من اليهود والنصارى, والمشركين, الذين قالوا هذه المقالة الشنيعة, فإنهم لم يقولوها عن علم ولا يقين, لا علم منهم, ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم, بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس.
" كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ " أي: عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها.
وأي شناعة أعظم من وصفه, بالاتخاذ للولد, الذي يقتضي نقصه, ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية, والإلهية, والكذب عليه؟!! " فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا " .
ولهذا قال هنا: " إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا " أي: كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء.
وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج, والانتقال من شيء إلى أبطل منه.
فأخبر أولا: أنه " مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ " والقول على الله بلا علم, لا شك في منعه وبطلانه.
ثم أخبر ثانيا, أنه قول قبيح شنيع فقال: " كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ " .
ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح, وهو: الكذب المنافي للصدق.

" فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " (6)
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم, حريصا على هداية الخلق, ساعيا في ذلك أعظم السعي, فكان صلى الله عليه وسلم, يفرح ويسر بهداية المتدين, ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين, شفقة منه صلى الله عليه وسلم, عليهم ورحمة بهم, أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء, الذين لا يؤمنون بهذا القرآن, كما قال في الأخرى.
" ولعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين " .
وقال " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " وهنا قال " فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ " أي: مهلكها, غما وأسفا عليهم, وذلك أن أجرك, قد وجب على الله.
وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا, لهداهم.
ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار, فلذلك خذلهم, فلم يهتدوا.
فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم, ليس فيه فائدة لك.
وفي هذه الآية ونحوها عبرة.
فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله, عليه التبليغ, والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية, وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه, مع التوكل على الله في ذلك, فإن اهتدوا فبها ونعمت, وإلا فلا يحزن ولا يأسف.
فإن ذلك مضعف للنفس, هادم للقوى, ليس فيه فائدة, بل يمضي على فعله, الذي كلف به وتوجه إليه.
وما عدا ذلك, فهو خارج عن قدرته.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله له: " إنك لا تهدي من أحببت " وموسى عليه السلام يقول: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي " الآية, فمن عداهم من باب أولى وأحرى, قال تعالى: " فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر " .

" إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " (7)
يخبر تعالى, أنه جعل جميع ما على وجه الأرض, من مآكل لذيذة, ومشارب, وملابس طيبة, وأشجار, وأنهار, وزروع, وثمار, ومناظر بهيجة, ورياض أنيقة, وأصوات شجية, وصور مليحة, وذهب وفضة, وخيل وإبل ونحوها, الجميع جعله الله زينة لهذه الدار, فتنة واختبارا.
" لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا " أي: أخلصه وأصوبه, ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات, فانية مضمحلة, وزائلة منقضية.
وستعود الأرض, صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها, وانقطعت أنهارها, واندرست أشجارها, وزال نعيمها.
وهذة حقيقة الدنيا, قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين, وحذرنا من الاغترار بها.
ورغبنا في دار يدوم نعيمها, ويسعد مقيمها, كل ذلك رحمة بنا.
فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها, من نظر إلى ظاهر الدنيا, دون باطنها.
فصحبوا الدنيا, صحبة البهائم, وتمتعوا بها تمتع السوائم, لا ينظرون في حق ربهم, ولا يهتمون لمعرفته.
بل همهم تناول الشهوات, من أي وجه حصلت, وعلى أي حالة اتفقت.
فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت, قلق لخراب ذاته, وفوات لذاته, لا لما قدمت يداه, من التفريط والسيئات.
وأما من نظر إلى باطن الدنيا, وعلم المقصود منها ومنه, فإنه يتناول منها, ما يستعين به على ما خلق له, وانتهز الفرصة في عمره الشريف.
فجعل الدنيا منزل عبور, لا محل حبور, وشقة سفر, لا منزل إقامة.
فبذل جهده في معرفة ربه, وتنفيذ أوامره, وإحسان العمل.
فهذا بأحسن المنازل عند الله, وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم, وسرور وتكريم.
فنظر إلى باطن الدنيا, حين نظر المغتر إلى ظاهرها, وعمل لآخرته, حين عمل البطال لدنياه.
فشتان ما بين الفريقين, وما أبعد الفرق بين الطائفتين!!

" أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا "(9)
وهذا الاستفهام بمعنى النفي, والنهي.
أي: لا تظن أن قصة أصحاب الكهف, وما جرى لهم, غريبة على آيات الله, وبديعة في حكمته, وأنه لا نظير لها, ولا مجانس لها.
بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة, ما هو كثير, من جنس آياته في أصحاب الكهف, وأعظم منها.
فلم يزل الله يرى عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم, ما يتبين به الحق من الباطل والهدى من الضلال.
وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب, بل هي من آيات الله العجيبة.
وإنما المراد, أن جنسها كثير جدا, فالوقوف معها وحدها, في مقام العجب والاستغراب, نقص في العلم والعقل.
بل وظيفة المؤمن, التفكر بجميع آيات الله, التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها, فإنها مفتاح الإيمان, وطريق العلم والإيقان.
وإضافتهم إلى الكهف, الذي هو الغار في الجبل الرقيم, أي: الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم, لملازمتهم له دهرا طويلا.

" إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا " (10)
ثم ذكر قصتهم مجملة, وفصلها بعد ذلك فقال: " إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ " أي: الشباب.
" إِلَى الْكَهْفِ " يريدون بذلك, التحصن والتحرز, من فتنة قومهم لهم.
" فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً " أي تثبتنا بها وتحفظنا من الشر وتوفقنا للخير " وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا " أي: يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد, وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا.
فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة, إلى محل يمكن الاستخفاء فيه, وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم, وعدم اتكالهم على أنفسهم, وعلى الخلق.
فلذلك استجاب الله دعاءهم, وقيض لهم, ما لم يكن في حسابهم قال: " فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ " أي أنمناهم " سِنِينَ عَدَدًا " وهي: ثلثمائة سنة, وتسع سنين, وفي النوم المذكور حفظ لقلوبهم من الاضطراب والخوف, وحفظ لهم من قومهم


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 01-01-2020, 04:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (289)
تفسير السعدى
سورة الكهف
من الأية(11) الى الأية(21)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الكهف


" ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا " (12)
" ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ " أي: من نومهم " لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا " أي: لنعلم أيهم أحصى لمقدار مدتهم, كما قال تعالى: " وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ " الآية, وفي العلم بمقدار لبثهم, ضبط للحساب, ومعرفة لكمال قدرة الله تعالى, وحكمته, ورحمته.
فلو استمروا على نومهم, لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك, من قصتهم.

" نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى " (13)
هذا شروع في تفصيل قصتهم, وأن الله يقصها على نبيه بالحق والصدق, الذي ما فيه شك ولا شبهة بوجه من الوجوه.
" إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ " وهذا من جموع القلة, يدل ذلك على أنهم دون العشرة.
" آمَنُوا " بالله وحده لا شريك له من دون قومهم.
فشكر الله لهم إيمانهم, فزادهم هدى.
أي: بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان, زاد الله من الهدى, الذي هو العلم النافع, والعمل الصالح, كما قال تعالى: " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى " .

" وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا " (14)
" وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ " أي صبرناهم وثبتناهم, وجعلنا قلوبهم مطمئنة في تلك الحالة المزعجة, وهذا من لطفه تعالى بهم وبره, أن وفقهم للإيمان والهدى, والصبر والثبات, والطمأنينة.
" إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " أي: الذي خلقنا ورزقنا, ودبرنا وربانا, هو خالق السماوات والأرض, المنفرد بخلق هذه المخلوقات العظيمة, لا تلك الأوثان والأصنام, التي لا تخلق ولا ترزق, ولا تملك نفعا ولا ضرا, ولأ موتا ولا حياة ولا نشورا, فاستدلوا بتوحيد الربوبية, على توحيد الإلهية, ولهذا قالوا: " لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا " أي: من سائر المخلوقات " لَقَدْ قُلْنَا إِذًا " أي: إن دعونا معه آلهة, بعد ما علمنا أنه الرب, الإله الذي لا تجوز, ولا تنبغي العبادة, إلا له " شَطَطًا " أي: ميلا عظيما عن الحق, وطريقا بعيدة عن الصواب.
فجمعوا بين الإقرار بتوحيد الربوبية, وتوحيد الإلهية, والتزام ذلك, وبيان أنه الحق, وما سواه باطل.
وهذا دليل على كمال معرفتهم بربهم, وزيادة الهدى من الله لهم.

" هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " (15)
لما ذكروا ما من الله به عليهم من الإيمان والهدى والتقوى, التفتوا إلى ما كان عليه قومهم, من اتخاذ الآلهة من دون الله, فمقتوهم, وبينوا أنهم ليسوا على يقين من أمرهم, بل في غاية الجهل والضلال فقالوا: " لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ " أي: بحجة وبرهان, على ما هم عليه من الباطل, ولا يستطيعون سبيلا إلى ذلك, وإنما ذلك, افتراء منهم على الله, وكذب عليه.
وهذا أعظم الظلم, ولهذا قال: " فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا "

" وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا " (16)
أي: قال بعضهم لبعض, إذ حصل لكم اعتزال قومكم في أجسامكم وأديانكم, فلم يبق إلا النجاء من شرهم والتسبب بالأسباب المفضية لذلك لأنه لا سبيل لهم إلى قتالهم, ولا إلى بقائهم بين أظهرهم, وهم على غير دينهم.
" فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ " أي انضموا إليه واختفوا فيه " يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا " .
وفيما تقدم, أخبر أنهم دعوه بقولهم " ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا " , فجمعوا بين التبري من حولهم وقوتهم, والالتجاء إلى الله, في صلاح أمرهم, ودعائه بذلك, وبين الثقة بالله أنه سيفعل ذلك.
لا جرم أن الله نشر لهم من رحمته, وهيأ لهم من أمرهم مرفقا.
فحفظ أديانهم وأبدانهم, وجعلهم من آياته على خلقه, ونشر لهم من الثناء الحسن, ما هو من رحمته بهم, ويسر لهم كل سبب, حتى المحل الذي ناموا فيه, كان على غاية ما يمكن من الصيانة, ولهذا قال: " وَتَرَى الشَّمْسَ " إلى قوله " مِنْهُمْ رُعْبًا " .

" وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا " (17)
أي: حفظهم الله من الشمس, فيسر لهم غارا إذا طلعت الشمس, تميل عنه يمينا, وعند غروبها, تميل عنه شمالا, فلا ينالهم حرها فتفسد أبدانهم بها.
" وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ " أي: من الكهف أي: مكان متسع, وذلك ليطرقهم الهواء, والنسيم, ويزول عنهم الوخم, والتأذي بالمكان الضيق, خصوصا مع طول المكث.
وذلك من آيات الله, الدالة على قدرته ورحمته, وإجابة دعائهم وهدايتهم, حتى في هذه الأمور, ولهذا قال: " مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي " أي: لا سبيل إلى نيل الهداية, إلا من الله, فهو الهادي المرشد لمصالح الدارين.

" وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا " (19)
يقول تعالى: وكذلك بعثناهم من نومهم الطويل, ليتساءلوا بينهم, أي: ليتباحثوا للوقوف على الحقيقة, من مدة لبثهم.
" قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ " وهذا مبني على ظن القائل.
وكأنهم وقع عندهم اشتباه.
في طول مدتهم, فلهذا " قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ " .
فردوا العلم إلى المحيط علمه بكل شيء, جملة وتفصيلا.
ولعل الله تعالى - بعد ذلك - أطلعهم على مدة لبثهم, لأنه بعثهم ليتساءلوا بينهم, وأخبر أنهم تساءلوا, وتكلموا بمبلغ ما عندهم, وصار آخر أمرهم, الاشتباه.
فلا بد أن يكون قد أخبرهم: يقينا, علمنا ذلك من حكمته في بعثهم, وأنه لا يفعل ذلك عبثا.
ومن رحمته بمن طلب علم الحقيقة في الأمور المطلوب علمها, وسعى لذلك ما أمكنه, فإن الله يوضح له ذلك, وبما ذكر فيما بعده من قوله.
" وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا " .
فلولا أنه حصل العلم بحالهم, لم يكونوا دليلا على ما ذكر.
ثم إنهم لما تساءلوا بينهم, وجرى منهم ما أخبر الله به, أرسلوا أحدهم بورقهم, أي: بالدراهم, التي كانت معهم, ليشتري لهم طعاما يأكلونه, من المدينة, التي خرجوا منها, وأمروه أن يتخير من الطعام أزكاه أي: أطيبه وألذه, وأن يتلطف في ذهابه وشرائه وإيابه, وأن يختفي في ذلك, ويخفي حال إخوانه, ولا يشعرن بهم أحدا.
وذكروا المحذور من اطلاع غيرهم عليها, وظهورهم عليهم, أنهم بين أمرين.
إما الرجم بالحجارة, فيقتلونهم أشنع قتلة, لحنقهم عليهم وعلى دينهم.
وإما أن يفتنوهم عن دينهم, ويردوهم في ملتم.
وفي هذه الحال, لا يفلحون أبدا, بل يحشرون في دينهم ودنياهم وأخراهم.
وقد دلت هاتان الآيتان, على عدة فوائد.
منها: الحث على العلم, وعلى المباحثة فيه, لكون الله بعثهم لأجل ذلك.
ومنها: الأدب فيمن اشتبه عليه العلم, أن يرده إلى عالمه, وأن يقف عند حده.
ومنها: صحة الوكالة في البيع وللشراء, وصحة الشركة في ذلك.
ومنها: جواز أكل الطيبات, والمطاعم اللذيذة, إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه لقوله " فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ " .
وخصوصا إذا كان الإنسان لا يلائمه إلا ذلك.
ولعل هذا عمدة كثير من المفسرين, القائلين بأن هؤلاء, أولاد ملوك لكونهم أمروه بأزكى الأطعمة, التي جرت عادة الأغنياء الكبار بتناولها.
ومنها: الحث على التحرز, والاستخفاء, والبعد عن مواقع الفتن في الدين, واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان.
وعلى إخوانه في الدين.
ومنها: شدة رغبة هؤلاء الفتية في الدين, وفرارهم من كل فتنة, في دينهم وتركهم أوطانهم في الله.
ومنها: ذكر ما اشتمل عليه الشر, من المضار والمفاسد, الداعية لبغضه, وتركه.
وأن هذه الطريقة, هي طريقة المؤمنين المتقدمين, والمتأخرين لقولهم: " وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا " .

" وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا " (21)
يخبر تعالى, أنه أطلع الناس على حال أهل الكهف.
وذلك - والله أعلم - بعدما استيقظوا, وبعثوا أحدهم, يشتري لهم طعاما, وأمروه بالاستخفاء والإخفاء.
فأراد الله أمرا, فيه صلاح للناس, وزيادة أجر لهم, وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله, المشاهدة بالعيان, على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد, بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم.
فمن مثبت للوعد والجزاء, ومن ناف لذلك.
فجعل قصتهم, زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين, وحجة على الجاحدين, وصار لهم أجر هذه القضية.
وشهر الله أمرهم, ورفع قدرهم حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم.
" فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا " الله أعلم بحالهم ومآلهم.
وقال من غلب على أمرهم - وهم الذين لهم الأمر: " لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا " أي: نعبد الله تعالى فيه, ونتذكر به أحوالهم, وما جرى لهم.
وهذة الحالة محظورة, نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم, وذم فاعليها ولا يدل ذكرها هنا, على عدم ذمها, فإن السياق في شأن أهل الكهف والثناء عليهم, وأن هؤلاء وصل بهم الحال إلى أن قالوا: ابنوا عليهم مسجدا بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم, وحذرهم من الاطلاع عليهم, فوصلت الحال إلى ما ترى.
وفي هذه القصة, دليل على أن من فر بدينه من الفتن, سلمه الله منها.
وأن من حرص على العافية, عافاه الله.
ومن أوى إلى الله, آواه الله, وجعله هداية لغيره.
ومن تحمل الذل في سبيله وابتغاء مرضاته, كان آخر أمره وعاقبته, العز العظيم, من حيث لا يحتسب " وما عند الله خير للأبرار " .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 01-01-2020, 04:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (290)
تفسير السعدى
سورة الكهف
من الأية(22) الى الأية(31)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الكهف



" سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا " (22)
يخبر تعالى, عن اختلاف أهل الكتاب, في عدة أصحاب الكهف, اختلافا, صادرا عن رجمهم بالغيب, وتقواهم بما لا يعلمون, وأنهم فيهم على ثلاثة أقوال: منهم: من يقول: ثلاثة, رابعهم كبهم, ومنهم من يقول: خمسة, سادسهم كلبهم.
وهذان القولان, ذكر الله بعدهما أن هذا رجم منهم بالغيب فدل على بطلانهما.
ومنهم من يقول: سبعة, وثامنهم كلبهم.
وهذا والله أعلم هو الصواب, لأن الله أبطل الأولين, ولم يبطله فدل على صحته.
وهذا من الاختلاف, الذي لا فائدة تحته, ولا يحصل بمعرفة عددهم, مصلحة للناس, دينية, ولا دنيوية, ولهذا قال تعالى: " قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ " وهم الذين, أصابوا الصواب وعلموا إصابتهم.
" فَلَا تُمَارِ " تجادل وتحاج فيهم " إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا " أي: مبنيا على العلم واليقين, ويكون أيضا فيه فائدة.
وأما المماراة المبنية على الجهل والرجم بالغيب, أو التي لا فائدة فيها.
إما أن يكون الخصم معاندا, أو تكون المسئلة لا أهمية فيها, ولا تحصل فائدة دينية بمعرفتها, كعدد أصحاب الكهف ونحو ذلك, فإن في كثرة المناقشات فيها, والبحوث المتسلسلة, تضييعا للزمان, وتأثيرا في مودة القلوب بغير فائدة.
" وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ " أي: في شأن أهل الكهف " مِنْهُمْ " أي: من أهل الكتاب " أَحَدًا " وذلك لأن مبنى كلامهم فيهم على الرجم بالغيب والظن, الذي لا يغني من الحق شيئا.
ففيها دليل على المنع من استفتاء من لا يصلح للفتوى, إما لقصوره في الأمر المستفتى فيه, أو لكونه لا يبالي بما تكلم به, وليس عنده ورع يحجزه.
وإذا نهى عن استفتاء هذا الجنس, فنهيه هو عن الفتوى, من باب أولى وأحرى.
وفي الآية أيضا, دليل على أن الشخص, قد يكون منهيا عن استفتائه في شيء, دون آخر.
فيستفتى فيما هو أهل له.
بخلاف غيره, لأن الله لم ينه عن استفتائهم مطلقا, إنما نهى عن استفتائهم في قصة أصحاب الكهف, وما أشبهها.

" ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا " (23)
هذا النهي كغيره, وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صل الله عليه وسلم فإن الخطاب عام للمكلفين.
فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة " إني فاعل ذلك " من دون أن يقرنه بمشيئة الله, وذلك لما فيه من المحذور, وهو: الكلام على الغيوب المستقبلة, التي لا يدري, هل يفعلها أم لا؟ وهل تكون أم لا؟ وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا.
وذلك محذور محظور, لأن المشيئة كلها لله " وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين " ولما في ذكر مشيئة الله, من تيسير الأمر وتسهيله, وحصول البركة فيه, والاستعانة من العبد لربه, ولما كان العبد بشرا, لا بد أن يسهو عن ذكر المشيئة, أمره الله أن يستثنى بعد ذلك, إذا ذكر, ليحصل المطلوب, وينفع المحذور.
ويؤخذ من عموم قوله " وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ " الأمر بذكر الله عند النسيان, فإنه يزيله, ويذكر العبد ما سها عنه.
وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله, أن يذكر ربه, ولا يكونن من الغافلين.
ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة, وعدم الخطأ, في أقواله وأفعاله, أمره الله أن يقول: " عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا " .
فأمره أن يدعو الله ويرجوه, ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد.
وحري بعبد, تكون هذه حاله, ثم يبذل جهده, ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد, أن يوفق لذلك, وأن يأتيه المعونة من ربه, وأن يسدده في جميع أموره.

" ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا " (25)
لما نهاه الله عن استفتاء أهل الكتاب, في شأن أهل الكهف - لعدم علمهم بذلك, وكان الله, عالم الغيب والشهادة, العالم بكل شيء - أخبره الله بمدة لبثهم, وأن علم ذلك, عنده وحده, فإنه من غيب السماوات والأرض, وغيبها مختص به.
فما أخبر به عنها على ألسنة رسله, فهو الحق اليقين, الذي لا شك فيه.
وما لا يطلع رسله عليه, فإن أحدا من الخلق, لا يعلمه.
وقوله: " أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ " تعجب من كل سمعه وبصره, وإحاطتهما بالمسموعات والمبصرات, بعدما أخبر بإحاطة علمه بالمعلومات.
ثم أخبر عن انفراده بالولاية العامة والخاصة, فهو الولي الذي يتولى تدبير جميع الكون, الولي لعباده المؤمنين, يخرجهم من الظلمات إلى النور وييسرهم لليسرى, ويجنبهم العسرى, ولهذا قال: " مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ " .
أي: هو الذي تولى أصحاب الكهف, بلطفه وكرمه, ولم يكلهم إلى أحد من الخلق.
" وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا " وهذا يشمل الحكم الكوني القدري, والحكم الشرعي الديني, فإنه الحاكم في خلقه, قضاء وقدرا, وخلقا وتدبيرا والحاكم فيهم, بأمره ونهيه, وثوابه وعقابه.

" واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا "(27)
ولما أخبر أنه تعالى, له غيب السماوات والأرض, فليس لمخلوق إليها طريق, إلا عن الطريق التي يخبر بها عباده, وكان هذا القرآن, قد اشتمل على كثير من الغيوب, أمر تعالى بالإقبال عليه فقال: " واتل " إلى قوله " ملتحد " .
التلاوة, هي الاتباع أي: اتبع ما أوحى الله إليك بمعرفة معانيه وفهمها, وتصديق أخباره, وامتثال أوامره ونواهيه, فإنه الكتاب الجليل, الذي لا مبدل لكلماته, أي: لا تغير ولا تبدل لصدقها وعدلها, وبلوغها من الحسن, فوق كل غاية " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " .
فلكمالها, استحال عليها التغيير والتبديل.
فلو كانت ناقصة, لعرض لها ذلك, أو شيء منه.
وفي هذا, تعظيم للقرآن, في ضمنه, الترغيب على الإقبال عليه.
" وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا " أي: لن تجد من دون ربك, ملجأ تلجأ إليه, ولا معاذا تعوذ به.
فإذا تعين أنه وحده, الملجأ في كل الأمور, تعين أن يكون هو المألوه المرغوب إليه, في السراء والضراء, المفتقر إليه في جميع الأحوال, المسئول في جميع المطالب.

" واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا " (28)
يأمر تعالى نبيه محمدا, صلى الله عليه وسلم, وغيره أسوته, في الأوامر والنواهي أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين " الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ " أي: أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله.
فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها.
ففيها الأمر, بصحبة الأخيار, ومجاهدة النفس على صحبتهم, ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد, ما لا يحصى.
" وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ " أي: لا تجاوزهم بصرك, وترفع عنهم نظرك.
" تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " فإن هذا ضار غير نافع, وقاطع عن المصالح الدينية.
فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا, فتصير الأفكار والهواجس فيها وتزول من القلب, الرغبة في الآخرة, فإن زينة الدنيا, تروق للناظر, وتسحر القلب, فيغفل القلب عن ذكر الله, ويقبل على اللذات والشهوات فيضيع وقته, وينفرط أمره, فيخسر الخسارة الأبدية, والندامة السرمدية ولهذا قال: " وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا " غفل عن الله, فعاقبه بأن أغفله عن ذكره.
" وَاتَّبَعَ هَوَاهُ " أي: صار تبعا لهواه, حيث ما اشتهت نفسه فعله, وسعى في إدراكه, ولو كان فيه هلاكه وخسرانه, فهو قد اتخذ إلهه هواه كما قال تعالى: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم " الآية.
" وَكَانَ أَمْرُهُ " أي: مصالح دينه ودنياه " فُرُطًا " أي: ضائعة معطلة.
فهذا قد نهى الله عن طاعته, لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به, ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به.
ودلت الآية, على أن الذي ينبغي أن يطاع, ويكون إماما للناس, من امتلأ قلبه بمحبة الله, وفاض ذلك على لسانه, فلهج بذكر الله, واتبع مراضي ربه, فقدمها على هواه, فحفظ بذلك ما حظ من وقته, وصلحت أحواله, واستقامت أفعاله, ودعا الناس إلى ما من الله به عليه.
فحقيق بذلك, أن يتبع ويجعل إماما.
والصبر, المذكور في هذه الآية, هو الصبر على طاعة الله, الذي هو أعلى أنواع الصبر, وبتمامه يتم باقي الأقسام.
وفي الآية, استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي النهار, لأن الله مدحهم بفعله.
وكل فعل مدح الله فاعله, دل ذلك على أن الله يحبه, وإذا كان يحبه فإنه يأمر به, ويرغب فيه.

" وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا " (29)
أي: قل للناس يا محمد: هو الحق من ربكم.
أي: قد تبين الهدى من الضلال, والرشد من الغي, وصفات أهل السعادة, وصفات أهل الشقاوة, وذلك بما بينه الله على لسان رسوله.
فإذا بان واتضح, ولم يبق فيه شبهة.
" فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ " أي: لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين, بحسب توفيق العبد, وعدم توفيقه.
وقد أعطاه الله مشيئة, بها يقدر على الإيمان والكفر, والخير والشر فمن آمن, فقد وفق للصواب, ومن كفر, فقد قامت عليه الحجة, وليس بمكره على الإيمان كما قال تعالى " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " .
ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال: " إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ " بالكفر والفسوق والعصيان " نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا " أي: سورها المحيط بها.
فليس لهم منفذ, ولا طريق, ولا مخلص منها, تصلاهم النار الحامية.
" وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا " أن يطلبوا الشراب, ليطفئ ما نزل بهم من العطش الشديد.
" يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ " أي: كالرصاص المذاب, أو كعكر الزيت, من شدة حرارته.
" يَشْوِي الْوُجُوهَ " أي: فكيف بالأمعاء والبطون, كما قال تعالى " يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد " .
" بِئْسَ الشَّرَابُ " الذي يراد ليطفئ العطش, ويدفع بعض العذاب, فيكون زيادة في عذابهم, وشدة عقابهم.
" وَسَاءَتْ " النار " مُرْتَفَقًا " وهذا ذم لحالة النار, أنها ساءت المحل, الذي يرتفق به.
فإنها ليست فيها ارتفاق, وإنما فيها العذاب العظيم الشاق الذي لا يفتر عنهم ساعة, وهم فيه مبلسون قد أيسوا من كل خير, ونسيهم الرحيم في العذاب, كما نسوه.

" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " (30)
ثم ذكر الفريق الثاني فقال: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " أي: جمعوا بين الإيمان بالله وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر والقدر, خيره, وشره, وعمل الصالحات, من الواجبات والمستحبات " إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا " .
وإحسان العمل, أن يريد العبد العمل لوجه الله, متبعا في ذلك شرع الله.
فهذا العمل لا يضيعه الله, ولا شيئا منه, بل يحفظه للعاملين, ويوفيهم من الأجر, بحسب عملهم وفضله وإحسانه, وذكر أجرهم بقوله:

" أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا " (31)
" أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ " .
أي: أولئك الموصوفون بالإيمان والعمل الصالح, لهم الجنات العاليات التي قد كثرت أشجارها, فأجنت من فيها, وكثرت أنهارها, فصارت تجري من تحت تلك الأشجار الأنيقة, والمنازل الرفيعة.
وحليتهم فيها, الذهب, ولباسهم فيها الحرير الأخضر من السندس, وهو الغليظ من الديباج, والإستبرق, وهو: ما رق منه.
متكئين فيها على الأرائك وهي: السرر المزينة, المجملة بالثياب الفاخرة فإنها لا تسمى أريكة, حتى تكون كذلك.
وفي اتكائهم على الأرائك, ما يدل على كمال الراحة, وزوال النصب والتعب, وكون الخدم يسعون عليهم بما يشتهون, وتمام ذلك, الخلود الدائم والإقامة الأبدية.
فهذه الدار الجليلة " نِعْمَ الثَّوَابُ " للعاملين " وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا " يرتفقون بها, ويتمتعون بما فيها, مما تشتهيه الأنفس, وتلذ الأعين, من الحبرة والسرور, والفرح الدائم, واللذات المتواترة, والنعم المتوافرة.
وأي مرتفق, أحسن من دار, أدنى أهلها, يسير في ملكه ونعيمه, وقصوره وبساتينه, ألفى سنة ولا يرى فوق ما هو فيه من النعيم.
قد أعطى جميع أمانيه ومطالبه, وزيد من المطالب, ما قصرت عنه الأماني.
ومع ذلك, فنعيهم على الدوام, متزايد في أوصافه وحسنه.
فنسأل الله الكريم, أن لا يحرمنا خير ما عنده, من الإحسان, بشر ما عندنا من التقصير والعصيان.
ودلت الآية الكريمة وما أشبهها, على أن الحلية, عامة للذكور والإناث, كما ورد في الأخبار الصحيحة لأنه أطلقها في قوله " يُحَلَّوْنَ " وكذلك الحرير ونحوه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 04-01-2020, 04:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,384
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (291)
تفسير السعدى
سورة الكهف
من الأية(32) الى الأية(50)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الكهف

" واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا " (32)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: اضرب للناس مثل هذين الرجلين الشاكر لنعمة الله, والكافر لها, وما صدر من كل منهما, من الأقوال والأفعال, وما حصل بسبب ذلك, من العقاب العاجل, والآجل, والثواب ليعتبروا بحالهما, ويتعظوا بما حصل عليهما, وليس معرفة أعيان الرجلين, وفي أي زمان أو مكان هما, فيه فائدة أو نتيجة.
فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط, والتعرض لما سوى ذلك, من التكلف.
فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة الله الجليلة, جعل الله له جنتين أي: بستانين حسنين, من أعناب.
" وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ " أي: في هاتين الجنتين من كل الثمرات, وخصوصا أشرف الأشجار, العنب, والنخل.
فالعنب, وسطها, والنخل, قد حف بذلك, ودار به, فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه, وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح, التي تكمل لها الثمار, وتنضج وتتجوهر.
ومع ذلك, جعل بين تلك الأشجار زرعا.
فلم يبق عليهما إلا أن يقال: كيف ثمار هاتين الجنتين؟ وهل لهما ماء يكفيهما؟ فأخبر تعالى أن كلا من الجنتين آتت أكلها أي: ثمرها وزرعها ضعفين أي: متضاعفا وأنها لم " تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا " أي: لم تنقص من أكلها أدنى شيء.
ومع ذلك, فالأنهار في جوانبها سارحة, كثيرة غزيرة.
" وَكَانَ لَهُ " أي لذلك الرجل " ثَمَرٌ " أي عظيم كما يفيده التنكير أي: قد استكملت جنتاه ثمارهما, وارجحنت أشجارهما, ولم تعرض لهما آفة أو نقص.
فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحرث, ولهذا اغتر هذا الرجل, وتبجح وافتخر, ونسي آخرته.

" وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا "(34)
أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن, وهما يتحاوران, أي يتراجعان الكلام بينهما في بعض المجريات المعتادة, مفتخرا عليه: " أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا " فخر بكثرة ماله, وعزة أنصاره, من عبيد, وخدم, وأقارب, وهذا جهل منه.
وإلا فأي افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية, ولا صفة معنوية.
وإنما هو بمنزله فخر الصبي بالأماني, التي لا حقائق تحتها.
ثم لم يكفه هذا الأفتخار على صاحبه, حتى يحكم, بجهله وظلمه, وظن لما دخل جنته.
ف " قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ " أي: تنقطع وتضمحل " هَذِهِ أَبَدًا " .
فاطمأن إلى هذه الدنيا, ورضى بها, وأنكر البعث, فقال: " وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي " على ضرب المثل " لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا " أي ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين, وهذا لا يخلو من أمرين.
إما أن يكون عالما بحقيقة الحال, فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره.
وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة, فيكون من أجهل الناس, وأبخسهم حظا من العقل.
فأي تلازم بين عطاء الدنيا, وعطاء الآخرة, حتى يظن بجهله, أن من أعطى في الدنيا, أعطى في الآخرة.
بل الغالب, أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه, ويوسعها على أعدائه, الذين ليس لهم في الآخرة نصيب.
والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال, ولكنه قال هذا الكلام, على وجه التهكم والاستهزاء, بدليل قوله: " وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ " .
فإثبات أن وصفه الظلم, في حال دخوله, الذي جرى منه, من القول ما جرى, يدل على تمرده وعناده.

" قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا " (37)
أي: قال له صاحبه المؤمن - ناصحا له, ومذكرا له حاله الأولى, التي أوجده الله فيها في الدنيا " مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا " .
فهو الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد والإمداد, وواصل عليك النعم, ونقلك من طور إلى طور, حتى سواك رجلا, كامل الأعضاء والجوارح المحسوسة, والمعقولة.
وبذلك يسر لك الأسباب, وهيأ لك ما هيأ, من نعم الدنيا.
فلم تحصل لك الدنيا, بحولك وقوتك, بل بفضل الله تعالى عليك.
فكيف يليق بك أن تكفر بالله الذي خلقك من تراب, ثم من نطفة ثم سواك رجلا, وتجهل نعمته, وتزعم أنه لا يبعثك, وإن بعثك أنه يعطيك خيرا من جنتك, هذا مما لا ينبغي ولا يليق.
ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن, حاله واستمراره على كفره وطغيانه, قال - مخبرا عن نفسه, على وجه الشكر لربه, والإعلان بدينه, عند ورود المجادلات والشبه: " لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا " .
فأقر بربوبية ربه, وانفراده فيها, والتزام طاعته وعبادته, وأنه لا يشرك به أحدا من المخلوقين.
ثم أخبر أن نعمة الله عليه, بالإيمان والإسلام, ولو مع قلة ماله وولده أنها, هي النعمة الحقيقية, وأن ما عداها, معرض للزوال والعقوبة عليه والنكال, فقال: " إِنْ تَرَنِي أَنَا أَقَلَّ " إلى " وَخَيْرٌ عُقْبًا " .

" فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا " (40)
أي: قال للكافر صاحبه المؤمن: أنت - وإن فخرت علي بكثرة مالك وولدك, ورأيتني أقل منك مالا وولدا - فإن ما عند الله, خير وأبقى.
وما يرجى من خيره وإحسانه, أفضل من جميع الدنيا, التي يتنافس فيها المتنافسون.
" فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا " أي: على جنتك التي طغيت بها وغرتك " حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ " أي: عذابا, بمطر عظيم أو غيره.
" فَتُصْبِحَ " بسبب ذلك " صَعِيدًا زَلَقًا " أي: قد اقتلعت أشجارها, وتلفت ثمارها, وغرق ذرعها, وزال نفعها.
" أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا " الذي مادتها منه " غَوْرًا " أي: غائرا في الأرض " فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا " أي: غائرا لا يستطاع الوصول إليه, بالمعاول ولا بغيرها.
وإنما دعا على جنته المؤمن, غضبا لربه, لكونها غرته وأطغته, واطمأن إليها, لعله ينيب, ويراجع رشده, ويتبصر في أمره.

" وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا " (42)
فاستجاب الله دعاه " وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ " أي: أصابه عذاب, أحاط به, واستهلكه, فلم يبق منه شيء.
والإحاطة بالثمر, يستلزم تلف جميع أشجاره, وثماره, وزرعه.
فندم كل الندامة, واشتد لذلك أسفه, " فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا " أي على كثرة نفقاته الدنيوية عليها, حيث اضمحلت وتلاشت, فلم يبق لها عوض, وندم أيضا على شركه, وشره, ولهذا قال: " وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا " .

" ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا " (43)
قال الله تعالى: " وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا " .
أي: لما نزل العذاب بجنته, ذهب عنه ما كان يفتخر به من قوله لصاحبه: " أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا " فلم يدفعوا عنه من العذاب شيئا, أشد ما كان إليهم حاجة, وما كان بنفس منتصرا.
وكيف ينتصر, أو يكون له انتصارا, على قضاء الله وقدره, الذي إذا أمضاه وقدره, لو اجتمع أهل السماء والأرض على إزالة شيء منه, لم يقدروا؟!! ولا يستبعد من رحمة الله ولطفه, أن صاحب هذه الجنة, التي أحيط بها, تحسنت حاله, ورزقه الله الإنابة إليه, وراجع رشده, وذهب تمرده وطغيانه, بدليل أنه أظهر الندم على شركه بربه, وأن الله أذهب عنه ما يطغيه, وعاقبه في الدنيا, وإذا أراد الله بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا.
وفضل الله لا تحيط به الأوهام والعقول, ولا ينكره إلا ظالم جهول.

" هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا " (44)
" هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا " أي: في تلك الحال التي أجرى الله فيها العقوبة على من طغى, وآثر الحياة الدنيا, والكرامة لمن آمن, وعمل صالحا, وشكر الله, ودعا غيره, لذلك تبين وتوضح, أن الولاية الحق, لله وحده.
فمن كان مؤمنا به تقيا, كان له وليا, فأكرمه بأنواع الكرامات, ودفع عنه الشرور والمثلات, ومن لم يؤمن بربه, ولا يتولاه, خسر دينه ودنياه, فثوابه الدنيوي والأخروي, خير ثواب يرجى ويؤمل.
ففي هذه القصة العظيمة, اعتبار بحال الذي أنعم الله عليه نعما دنيوية, فألهته عن آخرته وأطغته, وعصى الله فيها, أن مآلها الانقطاع والاضمحلال.
وأنه وإن تمتع بها قليلا, فإنه يحرمها طويلا.
وأن العبد, ينبغي له - إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده - أن أن يضيف النعمة إلى موليها ومسديها, وأن يقول: " ما شاء الله, لا قوة إلا بالله " ليكون شاكرا, متسببا لبقاء نعمته عليه, لقوله: " وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " .
وفيها, الإرشاد إلى التسلي عن لذات الدنيا وشهواتها, بما عند الله من الخير لقوله: " إِنْ تَرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ " .
وفيها أن المال والولد لا ينفعان, إن لم يعينا على طاعة الله كما قال تعالى: " وما أموالكم ولا أودلادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا " .
وفيه الدعاء بتلف مال ما كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه.
خصوصا إن فضل نفسه بسببه, على المؤمنين, وفخر عليهم وفيها, أن ولاية الله وعدمها, إنما تتضح نتيجتها, إذا انجلى الغبار وحق الجزاء, ووجد العاملون أجرهم فـ " هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا " أي: عاقبة ومالا.

" واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا " 45)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أصلا, ولمن قام بوراثته بعده تبعا: اضرب للناس مثل الحياة الدنيا, ليتصوروها حق التصور, ويعرفوا ظاهرها وباطنها, فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية, ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار.
وأن مثل هذه الحياة الدنيا, كمثل المطر, ينزل على الأرض, فيختلط نباتها, أو تنبت من كل زوج بهيج.
فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين, وتفرح المتفرجين, وتأخذ بعيون الغافلين.
إذ أصبحت هشيما, تذروه الرياح, فذهب ذلك النبات الناضر, والزهر الزاهر, والمنظر البهي.
فأصبحت الأرض غبراء ترابا, قد انحرف عنها النظر, وصدف عنها البصر, وأوحشت القلب.
كذلك هذه الدنيا, بينما صاحبها, قد أعجب بشبابه, وفاق فيها على أقرانه وأترابه, وحصل درهمها ودينارها, واقتطف من لذته أزهارها, وخاض في الشهوات في جميع أوقاته, وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه, إذ أصابه الموت أو التلف لماله.
فذهب عنه سروره, وزالت لذته وحبوره, واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته, وماله, وانفرد بصالح, أو سيئ أعماله.
هنالك يعض الظالم على يديه, حين يعلم حقيقة ما هو عليه, ويتمنى العود إلى الدنيا, لا ليستكمل الشهوات, بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات, بالتوبة والأعمال الصالحات.
فالعاقل الجازم الموفق, يعرض على نفسه هذه الحالة, ويقول لنفسه: " قدري أنك قد مت, ولا بد أن تموتي, فأي الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه الدار, والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة أم العمل, لدار أكلها دائم وظلها ظليل, وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه, وربحه من خسرانه.
ولهذا أخبر تعالى, أن المال والبنين, زينة الحياة الدنيا, أي: ليس وراء ذلك شيء.
وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره, الباقيات الصالحات.
وهذا يشمل جميع الطاعات, الواجبة, والمستحبة, من حقوق الله, وحقوق عباده, من صلاة, وزكاة, وصدقة, وحج, وعمرة, وتسبيح, وتحميد, وتهليل, وقراءة, وطلب علم نافع, وأمر بمعروف, ونهي عن منكر, وصلة رحم, وبر والدين, وقيام بحق الزوجات, والمماليك, والبهائم, وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق, كل هذا من الباقيات الصالحات, فهذه خير عند الله ثوابا, وخير أملا.
فثوابها يبقى, ويتضاعف على الآباد, ويؤمل أجرها وبرها ونفعها, عند الحاجة.
فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون, ويستبق إليها العاملون, ويجد في تحصيلها المجتهدون.
وتأمل, كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها ذكر أن الذي فيها نوعان.
نوع من زينتها, يتمتع به قليلا, ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه, بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون.
ونوع يبقى لصاحبه على الدوام, وهي الباقيات الصالحات.
" وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا "
يخبر تعالى عن حال يوم القيامة, وما فيه من الأهوال المقلقة, والشدائد المزعجة فقال: " وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ " أي: يزيلها عن أماكنها, يجعلها كثيبا, ثم يجعلها كالعهن المنفوش ثم تضمحل وتتلاشى, وتكون هباء منبثا, وتبرز الأرض, فتصير قاعا صفصفا, لا عوج فيه ولا أمتا.
ويحشر الله جميع الخلق, على تلك الأرض, فلا يغادر منهم أحدا.
بل يجمع الأولين والآخرين, من بطون الفلوات, وفغور البحار, ويجمعهم بعدما تفرقوا, ويعيدهم, بعد ما تمزقوا, خلقا جديدا.
فيعرضون عليه صفا, ليستعرضهم, وينظر في أعمالهم, ويحكم فيهم, بحكمه العدل, الذي لا جور فيه ولا ظلم, ويقول لهم: " لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة " أي, بلا مال, ولا أهل, ولا عشيرة, ما معهم إلا الأعمال, التي عملوها, والمكاسب في الخير والشر, التي كسبوها كما قال تعالى: " وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ " .
وقال هنا, مخاطبا للمنكرين للبعث, وقد شاهدوه عيانا: " بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا " أي: أنكرتم الجزاء على الأعمال, ووعد الله, ووعيده فها, قد رأيتموه وذقتموه.
فحينئذ تحضر كتب الأعمال التي كتبها الملائكة الأبرار.
فتطير لها القلوب, وتعظم من وقعها, الكروب, وتكاد لها الصم الصلاب تذوب, ويشفق منها المجرمون.
فإذا رأوها مسطرة عليهم أعمالهم, محصى عليهم أقوالهم وأفعالهم, قالوا: " يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا " أي: لا يترك خطيئة, صغيرة ولا كبيرة, إلا وهي مكتوبة فيه, محفوظة لم ينس منها عمل سر ولا علانية, ولا ليل ولا نهار.
" وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا " لا يقدرون على إنكاره " وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا " .
فحينئذ يجازون بها, ويقررون بها, ويخزون, ويحق عليهم العذاب, " ذلك بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد " بل هم غير خارجين عن عدله وفضله.

" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا " (50)
يخبر تعالى, عن عداوة إبليس لآدم وذريته, وأن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم, إكراما وتعظيما, وامتثالا لأمر الله.
فامتثلوا ذلك " إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ " وقال: " أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا " وقال: " أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ " .
فتبين بهذا, عداوته لله ولأبيكم, فكيف تتخذونه وذريته أي: الشياطين " أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا " .
أي: بئس ما اختاروا لأنفسهم من ولاية الشيطان, الذي لا يأمرهم إلا بالفحشاء والمنكر عن ولاية الرحمن, الذي كل السعادة والفلاح والسرور في ولايته.
وفي هذه الآية, الحث على اتخاذ الشيطان عدوا, والإغراء بذلك, وذكر السبب الموجب لذلك, وأنه لا يفعل ذلك إلا ظالم وأي ظلم أعظم من ظلم من اتخذ عدوه الحقيقي.
وليا, وترك الولي الحميد؟!!.
قال تعالى: " اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ " .
وقال تعالى: " إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ " .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 363.39 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 357.51 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.62%)]