تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى - الصفحة 31 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         استخدام Apple Pay للدفع أون لاين على المتصفحات الخارجية.. خطوات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          7 مزايا لاستخدام Apple Pay.. شغلها الآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          كيفية الدفع باستخدام Apple Pay فى المتاجر عبر أيفون وساعة أبل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          كيفية استخدام Apple Pay للدفع عبر الإنترنت أو فى التطبيقات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          كيفية إعداد Apple Pay على موبايلك الأيفون.. خطوة بخطوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          Apple Pay.. كل ما تحتاج معرفته عن خدمة الدفع بالأيفون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          احذر من جرائم النصب الإلكتروني.. 7 نصائح هتحميك من الاحتيال عبر التطبيقات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          هل يجب ترك الراوتر يعمل أثناء النوم؟.. اعرف رأي الخبراء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          كل ما تريد معرفته عن ميزة مؤشر الكتابة الجديدة في واتساب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          كيفية نقل البيانات من آيفون إلى جهاز ماك أو الكمبيوتر الشخصى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20-03-2023, 10:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,320
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 259 الى صــ 266
الحلقة (295)


وأنزل عليه : [ ص: 259 ] قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون وأنزل عليه : ثمانية أزواج وأنزل عليه : وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه الآية .

الرابعة : تعلق أبو حنيفة رضي الله عنه في منعه الأحباس ورده الأوقاف ; بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعله من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفاسها عنها ، وقاس على البحيرة والسائبة والفرق بين ، ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال : هذه تكون حبسا ، لا يجتنى ثمرها ، ولا تزرع أرضها ، ولا ينتفع منها بنفع ، لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة ، وقد قال علقمة لمن سأله عن هذه الأشياء : ما تريد إلى شيء كان من عمل أهل الجاهلية وقد ذهب ، وقال نحوه ابن زيد ، وجمهور العلماء على القول بجواز الأحباس والأوقاف ما عدا أبا حنيفة وأبا يوسف وزفر ; وهو قول شريح إلا أن أبا يوسف رجع عن قول أبي حنيفة في ذلك لما حدثه ابن علية عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يتصدق بسهمه بخيبر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : احبس الأصل وسبل الثمرة ، وبه يحتج كل من أجاز الأحباس ; وهو حديث صحيح قاله أبو عمر . وأيضا فإن المسألة إجماع من الصحابة وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص وابن الزبير وجابرا كلهم وقفوا الأوقاف ، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة ، وروي أن أبا يوسف قال لمالك بحضرة الرشيد : إن الحبس لا يجوز ; فقال له مالك : هذه الأحباس أحباس رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك وأحباس أصحابه ، وأما ما احتج به أبو حنيفة من الآية فلا حجة فيه ; لأن الله سبحانه إنما عاب عليهم أن تصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم ، أو تكليف فرض عليهم في قطع طريق الانتفاع وإذهاب نعمة الله تعالى ، وإزالة المصلحة التي للعباد في تلك الإبل ، وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف ، ومما احتج به أبو حنيفة وزفر ما رواه عطاء عن ابن المسيب قال : سألت شريحا عن رجل جعل داره حبسا على الآخر من ولده فقال : لا حبس عن فرائض الله ; قالوا : فهذا شريح قاضي عمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين حكم بذلك . واحتج أيضا بما رواه ابن لهيعة عن أخيه عيسى ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعدما أنزلت سورة " النساء " وأنزل الله فيها الفرائض : ينهى عن الحبس . قال الطبري : الصدقة التي [ ص: 260 ] يمضيها المتصدق في حياته على ما أذن الله به على لسان نبيه وعمل به الأئمة الراشدون رضي الله عنهم ليس من الحبس عن فرائض الله ; ولا حجة في قول شريح ولا في قول أحد يخالف السنة ، وعمل الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق ; وأما حديث ابن عباس فرواه ابن لهيعة ، وهو رجل اختلط عقله في آخر عمره ، وأخوه غير معروف فلا حجة فيه ; قاله ابن القصار .

فإن قيل : كيف يجوز أن تخرج الأرض بالوقف عن ملك أربابها لا إلى ملك مالك ؟ قال الطحاوي يقال لهم : وما ينكر من هذا وقد اتفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها صاحبها مسجدا للمسلمين ، ويخلي بينهم وبينها ، وقد خرجت بذلك من ملك إلى غير مالك ، ولكن إلى الله تعالى ; وكذلك السقايات والجسور والقناطر ، فما ألزمت مخالفك في حجتك عليه يلزمك في هذا كله . والله أعلم .

الخامسة : اختلف المجيزون للحبس فيما للمحبس من التصرف ; فقال الشافعي : ويحرم على الموقف ملكه كما يحرم عليه ملك رقبة العبد ، إلا أنه جائز له أن يتولى صدقته ، وتكون بيده ليفرقها ويسبلها فيما أخرجها فيه ; لأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يزل يلي صدقته - فيما بلغنا - حتى قبضه الله عز وجل . قال : وكذلك علي وفاطمة رضي الله عنهما كانا يليان صدقاتهما ; وبه قال أبو يوسف ، وقال مالك : من حبس أرضا أو نخلا أو دارا على المساكين وكانت بيده يقوم بها ويكريها ويقسمها في المساكين حتى مات والحبس في يديه ، أنه ليس بحبس ما لم يجزه غيره وهو ميراث ; والربع عنده والحوائط والأرض لا ينفذ حبسها ، ولا يتم حوزها ، حتى يتولاه غير من حبسه ، بخلاف الخيل والسلاح ، هذا محصل مذهبه عند جماعة أصحابه ; وبه قال ابن أبي ليلى .

السادسة : لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه ; لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه ، فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته ; وإنما يجوز له الانتفاع إن شرط ذلك في الوقف ، أو أن يفتقر المحبس ، أو ورثته فيجوز لهم الأكل منه . ذكر ابن حبيب عن مالك قال : من حبس أصلا تجري غلته على المساكين فإن ولده يعطون منه إذا افتقروا - كانوا يوم حبس أغنياء أو فقراء - غير أنهم لا يعطون جميع الغلة مخافة أن يندرس الحبس ، ولكن يبقى منه سهم للمساكين ليبقى عليه اسم الحبس ; ويكتب على الولد كتاب أنهم إنما يعطون منه ما أعطوا على سبيل المسكنة ، وليس على حق لهم دون المساكين .

السابعة : عتق السائبة جائز ; وهو أن يقول السيد لعبده أنت حر وينوي العتق ، أو يقول : [ ص: 261 ] أعتقتك سائبة ; فالمشهور من مذهب مالك عند جماعة أصحابه أن ولاءه لجماعة المسلمين ، وعتقه نافذ ; هكذا روى عنه ابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب وغيرهم ، وبه قال ابن وهب ; وروى ابن وهب عن مالك قال : لا يعتق أحد سائبة ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته ; قال ابن عبد البر : وهذا عند كل من ذهب مذهبه إنما هو محمول على كراهة عتق السائبة لا غير ; فإن وقع نفذ وكان الحكم فيه ما ذكرناه ، وروى ابن وهب أيضا وابن القاسم عن مالك أنه قال : أنا أكره عتق السائبة وأنهى عنه ; فإن وقع نفذ وكان ميراثا لجماعة المسلمين ، وعقله عليهم ، وقال أصبغ : لا بأس بعتق السائبة ابتداء ; ذهب إلى المشهور من مذهب مالك ; وله احتج إسماعيل القاضي ابن إسحاق وإياه تقلد ، ومن حجته في ذلك أن عتق السائبة مستفيض بالمدينة لا ينكره عالم ، وأن عبد الله بن عمر وغيره من السلف أعتقوا سائبة . وروي عن ابن شهاب وربيعة وأبي الزناد وهو قول عمر بن عبد العزيز وأبي العالية وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم .

قلت : أبو العالية الرياحي البصري التميمي - رضي الله عنه - ممن أعتق سائبة ; أعتقته مولاة له من بني رياح سائبة لوجه الله تعالى ، وطافت به على حلق المسجد ، واسمه رفيع بن مهران ، وقال ابن نافع : لا سائبة اليوم في الإسلام ، ومن أعتق سائبة كان ولاؤه له ; وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن الماجشون ، ومال إليه ابن العربي ; واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : من أعتق سائبة فولاؤه له وبقوله : إنما الولاء لمن أعتق . فنفى أن يكون الولاء لغير معتق ، واحتجوا بقوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة وبالحديث لا سائبة في الإسلام وبما رواه أبو قيس عن هزيل بن شرحبيل قال : قال رجل لعبد الله : إني أعتقت غلاما لي سائبة فماذا ترى فيه ؟ فقال عبد الله : إن أهل الإسلام لا يسيبون ، إنما كانت تسيب الجاهلية ; أنت وارثه وولي نعمته .
قوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون

[ ص: 262 ] قوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا الآية . تقدم معناها والكلام عليها في " البقرة " فلا معنى لإعادتها .

قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون

فيه أربع مسائل :

الأولى : قال علماؤنا : وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب أن يحذر منه ، وهو حال من تقدمت صفته ممن ركن في دينه إلى تقليد آبائه وأسلافه ، وظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس القيام به بواجب إذا استقام الإنسان ، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ، لولا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاول الصحابة والتابعين على ما نذكره بحول الله تعالى .

الثانية : قوله تعالى : عليكم أنفسكم معناه احفظوا أنفسكم من المعاصي ; تقول عليك زيدا بمعنى الزم زيدا ; ولا يجوز عليه زيدا ، بل إنما يجري هذا في المخاطبة في ثلاثة ألفاظ ; عليك زيدا أي : خذ زيدا ، وعندك عمرا أي : حضرك ، ودونك زيدا أي : قرب منك ; وأنشد :


يا أيها المائح دلوي دونكا إني رأيت الناس يحمدونكا
وأما قوله : عليه رجلا ليسني ، فشاذ .

الثالثة : روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس قال : خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال : إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ; قال إسحاق بن إبراهيم سمعت عمرو بن علي يقول : [ ص: 263 ] سمعت وكيعا يقول : لا يصح عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حديث واحد ، قلت : ولا إسماعيل عن قيس ، قال : إن إسماعيل روى عن قيس موقوفا . قال النقاش : وهذا إفراط من وكيع ; رواه شعبة عن سفيان وإسحاق عن إسماعيل مرفوعا ; وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع بهذه الآية ؟ فقال : أية آية ؟ قلت : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أياما ، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم ، وفي رواية قيل : يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال : بل أجر خمسين منكم . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب . قال ابن عبد البر قوله : ( بل منكم ) هذه اللفظة قد سكت عنها بعض الرواة فلم يذكرها ، وقد تقدم ، وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا قال : هذا حديث غريب ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : ليس هذا بزمان هذه الآية ; قولوا الحق ما قبل منكم ، فإذا رد عليكم فعليكم أنفسكم ، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن : لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : ليبلغ الشاهد الغائب ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم ، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل . في رواية عن ابن عمر بعد قوله : ليبلغ الشاهد الغائب فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم ، وقالابن المبارك قوله تعالى : عليكم أنفسكم خطاب لجميع المؤمنين ، أي : عليكم أهل دينكم ; كقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم فكأنه قال : ليأمر بعضكم بعضا ; ولينه بعضكم بعضا ، فهو دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يضركم ضلال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب ; وهذا لأن الأمر بالمعروف يجري مع المسلمين من أهل العصيان كما تقدم ; وروي معنى هذا عن سعيد بن جبير وقال سعيد بن المسيب : معنى الآية لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال ابن خويز منداد : تضمنت الآية اشتغال الإنسان بخاصة نفسه ، وتركه التعرض لمعائب الناس ، والبحث عن أحوالهم فإنهم لا يسألون عن حاله فلا يسأل عن حالهم وهذا [ ص: 264 ] كقوله تعالى : كل نفس بما كسبت رهينة ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : كن جليس بيتك وعليك بخاصة نفسك ، ويجوز أن يكون أريد به الزمان الذي يتعذر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; فينكر بقلبه ، ويشتغل بإصلاح نفسه .

قلت : قد جاء حديث غريب رواه ابن لهيعة : قال حدثنا بكر بن سوادة الجذامي عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر وعليك بخاصة نفسك . قال علماؤنا : إنما قال عليه السلام ذلك لتغير الزمان ، وفساد الأحوال ، وقلة المعينين ، وقال جابر بن زيد : معنى الآية : يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب ; عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين ، لا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم ; قال : وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت ; فأنزل الله الآية بسبب ذلك وقيل : الآية في أهل الأهواء الذين لا ينفعهم الوعظ ; فإذا علمت من قوم أنهم لا يقبلون ، بل يستخفون ويظهرون فاسكت عنهم ، وقيل : نزلت في الأسارى الذين عذبهم المشركون حتى ارتد بعضهم ، فقيل لمن بقي على الإسلام : عليكم أنفسكم لا يضركم ارتداد أصحابكم ، وقال سعيد بن جبير : هي في أهل الكتاب - وقال مجاهد : في اليهود والنصارى ومن كان مثلهم ; يذهبان إلى أن المعنى لا يضركم كفر أهل الكتاب إذا أدوا الجزية ، وقيل : هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; قاله المهدوي . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ولا يعلم قائله .

قلت : قد جاء عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال : ليس في كتاب الله تعالى آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه الآية . قال غيره : الناسخ منها قوله : إذا اهتديتم والهدى هنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والله أعلم .

الرابعة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين متى رجي القبول ، أو رجي رد الظالم ولو بعنف ، ما لم يخف الآمر ضررا يلحقه في خاصته ، أو فتنة يدخلها على المسلمين ; إما بشق عصا ، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس ; فإذا خيف هذا ف عليكم أنفسكم محكم واجب أن يوقف عنده ، ولا يشترط في الناهي أن يكون عدلا كما تقدم ; وعلى هذا جماعة أهل العلم فاعلمه .
[ ص: 265 ] ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين .

فيه سبع وعشرون مسألة :

الأولى : قال مكي رحمه الله : هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما ; قال ابن عطية : هذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها ; وذلك بين من كتابه رحمه الله .

قلت : ما ذكره مكي - رحمه الله - ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا ، ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء . روى البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة ، فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم ، فأوصى إليهما ; فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب ، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجد الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم ، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ; قال : فأخذوا الجام ; وفيهم نزلت هذه الآية . لفظ الدارقطني ، وروى الترمذي عن تميم الداري في هذه الآية يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم برئ منها الناس غيري وغير عدي بن بداء - وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ، فأتيا الشام بتجارتهما ، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له : بديل بن أبي مريم بتجارة ، ومعه جام من فضة يريد به الملك ، وهو عظم تجارته ، فمرض فأوصى إليهما ، [ ص: 266 ] وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله ; قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناها أنا وعدي بن بداء ، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا ، وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا : ما ترك غير هذا ، وما دفع إلينا غيره ; قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر ، وأديت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا ، فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه ، فحلف فأنزل الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إلى قوله ( بعد أيمانهم ) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يدي عدي بن بداء . قال أبو عيسى : هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح ، وذكر الواقدي أن الآيات الثلاث نزلت في تميم وأخيه عدي ، وكانا نصرانيين ، وكان متجرهما إلى مكة ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرا ، فخرج مع تميم وأخيه عدي ; وذكر الحديث ، وذكر النقاش قال : نزلت في بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي ; كان خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي ، ومعه رجلان نصرانيان أحدهما يسمى تميما وكان من لخم وعدي بن بداء ، فمات بديل وهم في السفينة فرمي به في البحر ، وكان كتب وصيته ثم جعلها في المتاع فقال : أبلغا هذا المتاع أهلي ، فلما مات بديل قبضا المال ، فأخذا منه ما أعجبهما فكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال ، منقوشا مموها بالذهب ; وذكر الحديث ، وذكره سنيد وقال : فلما قدموا الشام مرض بديل وكان مسلما ; الحديث .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20-03-2023, 11:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,320
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 267 الى صــ 274
الحلقة (296)



الثانية : وقوله تعالى : شهادة بينكم ورد " شهد " في كتاب الله تعالى بأنواع مختلفة : منها قوله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم قيل : معناه أحضروا ، ومنها " شهد " بمعنى قضى أي : أعلم ; قاله أبو عبيدة كقوله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، ومنها " شهد " بمعنى أقر ; كقوله تعالى : والملائكة يشهدون . ومنها " شهد " بمعنى حكم ; قال الله تعالى : وشهد شاهد من أهلها ، ومنها " شهد " بمعنى حلف ; كما في اللعان . " وشهد " بمعنى وصى ; كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم وقيل : معناها هنا الحضور للوصية ; يقال : شهدت وصية فلان أي : حضرتها ، وذهب الطبري إلى أن الشهادة بمعنى اليمين ; فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان ; واستدل على أن ذلك غير [ ص: 267 ] الشهادة التي تؤدى للمشهود له بأنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين ، واختار هذا القول القفال . وسميت اليمين شهادة ; لأنه يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة ، واختار ابن عطية أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تحفظ فتؤدى ، وضعف كونها بمعنى الحضور واليمين .

الثالثة : وقوله تعالى : بينكم قيل : معناه ما بينكم فحذفت " ما " وأضيفت الشهادة إلى الظرف ، واستعمل اسما على الحقيقة ، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة ; كما قال - هو رجل من بني عامر - :


ويوما شهدناه سليما وعامرا قليلا سوى الطعن النهال نوافله
أراد شهدنا فيه ، وقال تعالى : بل مكر الليل والنهار أي : مكركم فيهما ، وأنشد :


تصافح من لاقيت لي ذا عداوة صفاحا وعني بين عينيك منزوي


أراد ما بين عينيك فحذف ; ومنه قوله تعالى : هذا فراق بيني وبينك أي : ما بيني وبينك .

الرابعة : قوله تعالى : إذا حضر أحدكم معناه إذا قارب الحضور ، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت ، وهذا كقوله تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ، وكقوله : إذا طلقتم النساء فطلقوهن ومثله كثير ، والعامل في إذا المصدر الذي هو شهادة .

الخامسة : قوله تعالى : حين الوصية اثنان حين ظرف زمان والعامل فيه حضر وقوله : اثنان يقتضي بمطلقه شخصين ، ويحتمل رجلين ، إلا أنه لما قال بعد ذلك : ذوا عدل بين أنه أراد رجلين ; لأنه لفظ لا يصلح إلا للمذكر ، كما أن " ذواتا " لا يصلح إلا للمؤنث ، وارتفع اثنان على أنه خبر المبتدأ الذي هو شهادة قال أبو علي شهادة رفع بالابتداء والخبر في قوله : اثنان التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين ; فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ; كما قال تعالى : وأزواجه أمهاتهم أي : مثل أمهاتهم ، ويجوز أن يرتفع اثنان ب شهادة ; التقدير وفيما أنزل عليكم أو ليكن منكم أن يشهد اثنان ، أو ليقم الشهادة اثنان .

السادسة : قوله تعالى : ذوا عدل منكم ( ذوا عدل ) صفة لقوله : اثنان [ ص: 268 ] و ( منكم ) صفة بعد صفة ، وقوله : أو آخران من غيركم أي : أو شهادة آخرين من غيركم ; فمن غيركم صفة لآخرين ، وهذا الفصل هو المشكل في هذه الآية ، والتحقيق فيه أن يقال : اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال :

الأول : أن الكاف والميم في قوله : منكم ضمير للمسلمين أو آخران من غيركم للكافرين فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية ، وهو الأشبه بسياق الآية ، مع ما تقرر من الأحاديث ، وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل ; أبو موسى الأشعري وعبد الله بن قيس وعبد الله بن عباس فمعنى الآية من أولها إلى آخرها على هذا القول أن الله تعالى أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين ، فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ، ولم يكن معه أحد من المؤمنين ، فليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر ، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا وما بدلا ، وأن ما شهدا به حق ، ما كتما فيه شهادة وحكم بشهادتهما ; فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ، ونحو هذا مما هو إثم حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر ، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما . هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري ، وسعيد بن المسيب ، ويحيى بن يعمر ; وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني ; وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي وابن عباس وغيرهم ، وقال به من الفقهاء سفيان الثوري ; ومال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام لكثرة من قال به ، واختاره أحمد بن حنبل وقال : شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين كلهم يقولون منكم من المؤمنين ومعنى من غيركم يعني الكفار . قال بعضهم : وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة ; وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة ، والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشريح وغيرهما .

القول الثاني : أن قوله سبحانه : أو آخران من غيركم منسوخ ; هذا قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك ; والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء ; إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال : تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض ; ولا تجوز على المسلمين واحتجوا بقوله تعالى : ممن ترضون من الشهداء وقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم ; فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل ; وأن فيها ممن ترضون من الشهداء فهو ناسخ لذلك ; ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة ; فجازت شهادة أهل الكتاب ; وهو اليوم طبق الأرض [ ص: 269 ] فسقطت شهادة الكفار ; وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز ; والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم .

قلت : ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه ; وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم ; وأما مع وجود مسلم فلا ; ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل ; وقد قال بالأول ثلاثة من الصحابة وليس ذلك في غيره ; ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم ، ويقوي هذا أن سورة " المائدة " من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما : إنه لا منسوخ فيها ، وما ادعوه من النسخ لا يصح فإن النسخ لا بد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ ; فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخا ; فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة ; ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات ; ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم يرتضيه عند الضرورة ; فليس فيما قالوه ناسخ .

القول الثالث : أن الآية لا نسخ فيها ; قاله الزهري والحسن وعكرمة ، ويكون معنى قوله : منكم أي : من عشيرتكم وقرابتكم ; لأنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان . ومعنى أو آخران من غيركم أي : من غير القرابة والعشيرة ; قال النحاس : وهذا ينبني على معنى غامض في العربية ; وذلك أن معنى " آخر " في العربية من جنس الأول ; تقول : مررت بكريم وكريم آخر ; فقوله " آخر " يدل على أنه من جنس الأول ; ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر ; ولا مررت برجل وحمار آخر ; فوجب من هذا أن يكون معنى قوله : أو آخران من غيركم أي : عدلان ; والكفار لا يكونون عدولا فيصح على هذا قول من قال من غيركم من غير عشيرتكم من المسلمين ، وهذا معنى حسن من جهة اللسان ; وقد يحتج به لمالك ومن قال بقوله ; لأن المعنى عندهم من غيركم من غير قبيلتكم على أنه قد عورض هذا القول بأن في أول الآية يا أيها الذين آمنوا فخوطب الجماعة من المؤمنين .

السابعة : واستدل أبو حنيفة بهذه الآية على جواز شهادة الكفار من أهل الذمة فيما بينهم ; قال : ومعنى أو آخران من غيركم أي : من غير أهل دينكم ; فدل على جواز شهادة بعضهم على بعض ; فيقال له : أنت لا تقول بمقتضى هذه الآية ; لأنها نزلت في قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين وأنت لا تقول بها ، فلا يصح احتجاجك بها . فإن قيل : هذه الآية دلت على جواز قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين من طريق النطق ; ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق التنبيه ; وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلأن تقبل على أهل [ ص: 270 ] الذمة أولى ; ثم دل الدليل على بطلان شهادتهم على المسلمين ; فبقي شهادتهم على أهل الذمة على ما كان عليه ; وهذا ليس بشيء ; لأن قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لقبول شهادتهم على المسلمين ; فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهي الأصل فلأن تبطل شهادتهم على أهل الذمة وهي فرعها أحرى وأولى . والله أعلم .

الثامنة : قوله تعالى : إن أنتم ضربتم في الأرض أي : سافرتم ; وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم ; ودفعتم إليهما ما معكم من المال ; ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما ; وادعوا عليهما خيانة ; فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة ; أي : تستوثقوا منهما ; وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة ; قال علماؤنا : والموت وإن كان مصيبة عظمى ، ورزية كبرى ; فأعظم منه الغفلة عنه ، والإعراض عن ذكره ، وترك التفكر فيه ; وترك العمل له ; وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر ، وفكرة لمن تفكر ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا ، ويروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له ; فخر الجمل ميتا فنزل الأعرابي عنه ، وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول : ما لك لا تقوم ؟ ! ما لك لا تنبعث ؟ ! هذه أعضاؤك كاملة ، وجوارحك سالمة ; ما شأنك ؟ ! ما الذي كان يحملك ؟ ! ما الذي كان يبعثك ؟ ! ما الذي صرعك ؟ ! ما الذي عن الحركة منعك ؟ ! ثم تركه وانصرف متفكرا في شأنه ، متعجبا من أمره .

التاسعة : قوله تعالى : تحبسونهما قال أبو علي : تحبسونهما صفة ل آخران واعترض بين الصفة والموصوف بقوله : إن أنتم ، وهذه الآية أصل في حبس من وجب عليه حق ; والحقوق على قسمين : منها ما يصلح استيفاؤه معجلا ; ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلا مؤجلا ; فإن خلي من عليه الحق غاب واختفى وبطل الحق وتوي فلم يكن بد من التوثق منه ; فإما بعوض عن الحق وهو المسمى رهنا ; وإما بشخص ينوب منابه في المطالبة والذمة وهو الحميل ; وهو دون الأول ; لأنه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر وجوده كتعذره ; ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق ; أو تبين عسرته .

العاشرة : فإن كان الحق بدنيا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجلا ; لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه ; ولأجل هذه الحكمة شرع السجن ; روى أبو داود [ ص: 271 ] والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة ، وروى أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته . قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له ، وعقوبته يحبس له . قال الخطابي : الحبس على ضربين ; حبس عقوبة ، وحبس استظهار ، فالعقوبة لا تكون إلا في واجب ، وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراءه ; وقد روي أنه حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه ، وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال : كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم فإن أعطاه حقه وإلا أمر به إلى السجن .

الحادية عشرة : قوله تعالى : من بعد الصلاة يريد صلاة العصر ; قاله الأكثر من العلماء ; لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة ، وقال الحسن : صلاة الظهر ، وقيل : أي صلاة كانت ، وقيل : من بعد صلاتهما على أنهما كافران ; قاله السدي ، وقيل : إن فائدة اشتراطه بعد الصلاة تعظيم للوقت ، وإرهاب به ; لشهود الملائكة ذلك الوقت ; وفي الصحيح من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان .

الثانية عشرة : وهذه الآية أصل في التغليظ في الأيمان ، والتغليظ يكون بأربعة أشياء : أحدها : الزمان كما ذكرنا . الثاني : المكان كالمسجد والمنبر ، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه حيث يقولون : لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها ; وإلى هذا القول ذهب البخاري - رحمه الله - حيث ترجم ( باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره ) ، وقال مالك والشافعي : ويجلب في أيمان القسامة إلى مكة من كان من أعمالها ، فيحلف بين الركن والمقام ، ويجلب إلى المدينة من كان من أعمالها ، فيحلف عند المنبر . الثالث : الحال روى مطرف وابن الماجشون وبعض أصحاب الشافعي أنه يحلف قائما مستقبل القبلة ; لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر ، وقال ابن كنانة : يحلف جالسا ; قال ابن العربي : والذي عندي أنه يحلف كما يحكم عليه بها إن كان قائما فقائما وإن جالسا فجالسا إذ لم يثبت في أثر ولا نظر اعتبار ذلك من قيام أو جلوس .

قلت : قد استنبط بعض العلماء من قوله في حديث علقمة بن وائل عن أبيه : " فانطلق ليحلف " القيام - والله أعلم - أخرجه مسلم . الرابع : التغليظ باللفظ ; فذهبت طائفة إلى [ ص: 272 ] الحلف بالله لا يزيد عليه ; لقوله تعالى : فيقسمان بالله وقوله : قل إي وربي وقال : وتالله لأكيدن أصنامكم وقوله عليه السلام : من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ، وقول الرجل : والله لا أزيد عليهن ، وقال مالك : يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي حق ، وما ادعاه علي باطل ; والحجة له ما رواه أبو داود حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : - يعني لرجل حلفه - احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء يعني للمدعي ; قال أبو داود : أبو يحيى اسمه زياد كوفي ثقة ثبت ، وقال الكوفيون : يحلف بالله لا غير ، فإن اتهمه القاضي غلظ عليه اليمين ; فيحلفه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وزاد أصحاب الشافعي التغليظ بالمصحف . قال ابن العربي : وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة ، وزعم الشافعي أنه رأى ابن مازن قاضي صنعاء يحلف بالمصحف ويأمر أصحابه بذلك ويرويه عن ابن عباس ، ولم يصح .

قلت : وفي كتاب ( المهذب ) وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف ، قال : ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف على المصحف ; قال الشافعي : وهو حسن . قال ابن المنذر : وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف .

قلت : قد تقدم في الأيمان : وكان قتادة يحلف بالمصحف ، وقال أحمد وإسحاق : لا يكره ذلك ; حكاه عنهما ابن المنذر .

الثالثة عشرة : اختلف مالك والشافعي من هذا الباب في قدر المال الذي يحلف به في مقطع الحق ; فقال مالك : لا تكون اليمين في مقطع الحق في أقل من ثلاثة دراهم قياسا على القطع ، وكل مال تقطع فيه اليد وتسقط به حرمة العضو فهو عظيم ، وقال الشافعي : لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على الزكاة ، وكذلك عند منبر كل مسجد .

الرابعة عشرة : قوله تعالى : فيقسمان بالله الفاء في فيقسمان عاطفة جملة على [ ص: 273 ] جملة ، أو جواب جزاء ; لأن تحبسونها معناه احبسوهما ، أي : لليمين ; فهو جواب الأمر الذي دل عليه الكلام كأنه قال : إذا حبستموهما أقسما ; قال ذو الرمة :
وإنسان عيني يحسر الماء مرة فيبدو وتارات يجم فيغرق
تقديره عندهم : إذا حسر بدا .

الخامسة عشرة : واختلف من المراد بقوله : فيقسمان ؟ فقيل : الوصيان إذا ارتيب في قولهما وقيل : الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بقولهما الحاكم حلفهما . قال ابن العربي مبطلا لهذا القول : والذي سمعت - وهو بدعة - عن ابن أبي ليلى أنه يحلف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حق ; وحينئذ يقضى له بالحق ; وتأويل هذا عندي إذا ارتاب الحاكم بالقبض فيحلف إنه لباق ، وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه ; هذا في المدعي فكيف يحبس الشاهد أو يحلف ؟ ! هذا ما لا يلتفت إليه .

قلت : وقد تقدم من قول الطبري في أنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين ، وقد قيل : إنما استحلف الشاهدان لأنهما صارا مدعى عليهما ، حيث ادعى الورثة أنهما خانا في المال .

السادسة عشرة : قوله تعالى : إن ارتبتم شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به ، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين . قال ابن عطية : أما إنه يظهر من حكم أبي موسى في تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها ، روى أبو داود عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه ، ولم يجد أحدا من المسلمين حضره يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه ، وقدما بتركته ووصيته ; فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فأحلفهما بعد العصر : " بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها لوصية الرجل وتركته " فأمضى شهادتهما . قال ابن عطية : وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة تترتب في الخيانة ، وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهم دون بعض ، وتقع مع ذلك اليمين عنده ; وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا أن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي ; فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة . قال ابن العربي : يمين الريبة والتهمة على قسمين : أحدهما : ما تقع الريبة فيه بعد ثبوت الحق وتوجه الدعوى فلا خلاف في وجوب اليمين . الثاني : التهمة المطلقة في الحقوق والحدود ، [ ص: 274 ] وله تفصيل بيانه في كتب الفروع ; وقد تحققت هاهنا الدعوى وقويت حسبما ذكر في الروايات .

السابعة عشرة : الشرط في قوله : إن ارتبتم يتعلق بقوله : تحبسونهما لا بقوله فيقسمان لأن هذا الحبس سبب القسم .

الثامنة عشرة : قوله تعالى : لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى أي : يقولان في يمينهما لا نشتري بقسمنا عوضا نأخذه بدلا مما أوصى به ولا ندفعه إلى أحد ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا ، وإضمار القول كثير ، كقوله : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم أي : يقولون : سلام عليكم . والاشتراء هاهنا ليس بمعنى البيع ، بل هو التحصيل .

التاسعة عشرة : اللام في قوله : لا نشتري جواب لقوله : فيقسمان لأن أقسم يلتقي بما يلتقي به القسم ; وهو " لا " و " ما " في النفي ، " وإن " واللام في الإيجاب ، والهاء في به عائد على اسم الله تعالى ، وهو أقرب مذكور ; المعنى : لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض . ويحتمل أن يعود على الشهادة وذكرت على معنى القول ; كما قال صلى الله عليه وسلم : واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب فأعاد الضمير على معنى الدعوة الذي هو الدعاء ، وقد تقدم في سورة " النساء " .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 20-03-2023, 11:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,320
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 275 الى صــ 282
الحلقة (297)


الموفية عشرين : قوله تعالى : ثمنا قال الكوفيون : المعنى ذا ثمن أي : سلعة ذا ثمن ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وعندنا وعند كثير من العلماء أن الثمن قد يكون هو ويكون السلعة ; فإن الثمن عندنا مشترى كما أن المثمون مشترى ; فكل واحد من المبيعين ثمنا ومثمونا كان البيع دائرا على عرض ونقد ، أو على عرضين ، أو على نقدين ; وعلى هذا الأصل تنبني مسألة : إذا أفلس المبتاع ووجد البائع متاعه هل يكون أولى به ؟ قال أبو حنيفة : لا يكون أولى به ; وبناه على هذا الأصل ، وقال : يكون صاحبها أسوة الغرماء ، وقال مالك : هو أحق بها في الفلس دون الموت ، وقال الشافعي : صاحبها أحق بها في الفلس والموت . تمسك أبو حنيفة بما ذكرنا ، وبأن الأصل الكلي أن الدين في ذمة المفلس والميت ، وما بأيديهما محل للوفاء ; فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رءوس أموالهم ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أعيان السلع موجودة أو لا ، إذ قد خرجت عن ملك بائعها ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع ، [ ص: 275 ] فلا يكون لهم إلا أثمانها أو ما وجد منها . وخصص مالك والشافعي هذه القاعدة بأخبار رويت في هذا الباب رواها الأئمة أبو داود وغيره .

الحادية والعشرون : قوله تعالى : ولا نكتم شهادة الله أي : ما أعلمنا الله من الشهادة ، وفيها سبع قراءات من أرادها وجدها في ( التحصيل ) وغيره .

الثانية والعشرون : قوله تعالى : فإن عثر على أنهما استحقا إثما قال عمر : هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام ، وقال الزجاج : أصعب ما في القرآن من الإعراب قوله : من الذين استحق عليهم الأوليان . عثر على كذا أي اطلع عليه ; يقال : عثرت منه على خيانة أي اطلعت ، وأعثرت غيري عليه ، ومنه قوله تعالى : وكذلك أعثرنا عليهم ; لأنهم كانوا يطلبونهم وقد خفي عليهم موضعهم ، وأصل العثور الوقوع والسقوط على الشيء ; ومنه قولهم : عثر الرجل يعثر عثورا إذا وقعت إصبعه بشيء صدمته ، وعثرت إصبع فلان بكذا إذا صدمته فأصابته ووقعت عليه ، وعثر الفرس عثارا ; قال الأعشى :


بذات لوث عفرناة إذا عثرت فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
والعثير الغبار الساطع ; لأنه يقع على الوجه ، والعثير الأثر الخفي لأنه يوقع عليه من خفاء ، والضمير في أنهما يعود على الوصيين اللذين ذكرا في قوله عز وجل : اثنان عن سعيد بن جبير ، وقيل : على الشاهدين ; عن ابن عباس . و ( استحقا ) أي استوجبا إثما يعني بالخيانة ، وأخذهما ما ليس لهما ، أو باليمين الكاذبة أو بالشهادة الباطلة ، وقال أبو علي : الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ ; لأن آخذه بأخذه آثم ، فسمي إثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة ، وقال سيبويه : المظلمة اسم ما أخذ منك ; فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر وهو الجام .

الثالثة والعشرون : قوله تعالى : فآخران يقومان مقامهما يعني في الأيمان أو في الشهادة ; وقال آخران بحسب أن الورثة كانا اثنين . وارتفع ( آخران ) بفعل مضمر . ( يقومان ) في موضع نعت . ( مقامهما ) مصدر ، وتقديره : مقاما مثل مقامهما ، ثم أقيم النعت مقام المنعوت ، والمضاف مقام المضاف إليه .

الرابعة والعشرون : قوله تعالى : من الذين استحق عليهم الأوليان قال ابن السري : [ ص: 276 ] المعنى استحق عليهم الإيصاء ; قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل فيه ; لأنه لا يجعل حرف بدلا من حرف ; واختاره ابن العربي ; وأيضا فإن التفسير عليه ; لأن المعنى عند أهل التفسير : من الذين استحقت عليهم الوصية . و ( الأوليان ) بدل من قوله : فآخران قاله ابن السري ، واختاره النحاس وهو بدل المعرفة من النكرة وإبدال المعرفة من النكرة جائز ، وقيل : النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد ذكرها صارت معرفة ; كقوله تعالى : كمشكاة فيها مصباح ثم قال : المصباح في زجاجة ثم قال : الزجاجة ، وقيل : وهو بدل من الضمير في يقومان كأنه قال : فيقوم الأوليان أو خبر ابتداء محذوف ; التقدير : فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان ، وقال ابن عيسى : " الأوليان " مفعول " استحق " على حذف المضاف ; أي استحق فيهم وبسببهم إثم الأوليين فعليهم بمعنى فيهم مثل على ملك سليمان أي : في ملك سليمان ، وقال الشاعر :


متى ما تنكروها تعرفوها على أقطارها علق نفيث
أي : في أقطارها ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة " الأولين " جمع أول على أنه بدل من اللذين أو من الهاء والميم في عليهم وقرأ حفص : استحق بفتح التاء والحاء ، وروي عن أبي بن كعب ، وفاعله الأوليان والمفعول محذوف ، والتقدير : من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها ، وقيل : استحق عليهم الأوليان رد الأيمان ، وروي عن الحسن : " الأولان " وعن ابن سيرين : " الأولين " قال النحاس : والقراءتان لحن ; لا يقال في مثنى ; مثنان ، غير أنه قد روي عن الحسن " الأولان " .

الخامسة والعشرون : قوله تعالى : فيقسمان بالله أي : يحلفان الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين ( أن الذي قال صاحبنا في وصيته حق ، وأن المال الذي وصى به إليكما كان أكثر مما أتيتمانا به وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه وكتبه في وصيته ، وأنكما خنتما ) فذلك قوله : لشهادتنا أحق من شهادتهما أي : يميننا أحق من يمينهما ; فصح أن الشهادة قد تكون بمعنى اليمين ، ومنه قوله تعالى : فشهادة أحدهم أربع شهادات . وقد روى معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال : قام رجلان من أولياء الميت فحلفا . [ ص: 277 ] لشهادتنا أحق ابتداء وخبر . وقوله : وما اعتدينا أي : تجاوزنا الحق في قسمنا . إنا إذا لمن الظالمين أي : إن كنا حلفنا على باطل ، وأخذنا ما ليس لنا .

السادسة والعشرون : ذلك أدنى ابتداء وخبر . أن في موضع نصب . ( يأتوا ) نصب ب أن . ( أو يخافوا ) عطف عليه . ( أن ترد ) في موضع نصب ب ( يخافوا ) . أيمان بعد أيمانهم قيل : الضمير في يأتوا ويخافوا راجع إلى الموصى إليهما ; وهو الأليق بمساق الآية ، وقيل : المراد به الناس ، أي : أحرى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي ، والله أعلم .

السابعة والعشرون : قوله تعالى : واتقوا الله واسمعوا أمر ; ولذلك حذفت منه النون ، أي اسمعوا ما يقال لكم ، قابلين له متبعين أمر الله فيه . والله لا يهدي القوم الفاسقين فسق يفسق ويفسق إذا خرج من الطاعة إلى المعصية ، وقد تقدم ، والله أعلم .

قوله تعالى : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب

قوله تعالى : يوم يجمع الله الرسل يقال : ما وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ؟ فالجواب : أنه اتصال الزجر عن الإظهار خلاف الإبطان في وصية أو غيرها مما ينبئ أن المجازي عليه عالم به . ويوم ظرف زمان والعامل فيه واسمعوا أي : واسمعوا خبر يوم ، وقيل : التقدير واتقوا يوم يجمع الله الرسل عن الزجاج ، وقيل : التقدير اذكروا أو احذروا يوم القيامة حين يجمع الله الرسل ، والمعنى متقارب ; والمراد التهديد والتخويف . فيقول ماذا أجبتم أي : ما الذي أجابتكم به أممكم ؟ وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي ؟ قالوا أي : فيقولون : لا علم لنا واختلف أهل التأويل في المعنى المراد بقولهم : لا علم لنا فقيل : معناه لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا ; لأن ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء ; وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا ، فحذف ; عن ابن عباس ومجاهد بخلاف ، وقال ابن عباس أيضا : معناه لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا ، وقيل : إنهم يذهلون من هول ذلك ويفزعون من الجواب ، ثم يجيبون بعدما تثوب [ ص: 278 ] إليهم عقولهم فيقولون : لا علم لنا قاله النحاس ومجاهد والسدي . قال النحاس : وهذا لا يصح ; لأن الرسل صلوات الله عليهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

قلت : هذا في أكثر مواطن القيامة ; ففي الخبر ( إن جهنم إذا جيء بها زفرت زفرة فلا يبقى نبي ولا صديق إلا جثا لركبتيه ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ؟ فقال لي : يا محمد لتشهدن من هول ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة .

قلت : فإن كان السؤال عند زفرة جهنم - كما قال بعضهم - فقول مجاهد والحسن صحيح ; والله أعلم . قال النحاس : والصحيح في هذا أن المعنى : ماذا أجبتم في السر والعلانية ليكون هذا توبيخا للكفار ; فيقولون : لا علم لنا ; فيكون هذا تكذيبا لمن اتخذ المسيح إلها ، وقال ابن جريج : معنى قوله : ماذا أجبتم ماذا عملوا بعدكم ؟ قالوا : لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب . قال أبو عبيد : ويشبه هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يرد علي أقوام الحوض فيختلجون فأقول أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، وكسر الغين من الغيوب حمزة والكسائي وأبو بكر ، وضم الباقون . قال الماوردي فإن قيل : فلم سألهم عما هو أعلم به منهم ؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم . الثاني : أنه أراد أن يفضحهم بذلك على رءوس الأشهاد ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم .
قوله تعالى : إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين

قوله تعالى : إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك هذا من صفة يوم [ ص: 279 ] القيامة كأنه قال : اذكر يوم يجمع الله الرسل وإذ يقول الله لعيسى كذا ; قاله المهدوي . و ( عيسى ) يجوز أن يكون في موضع رفع على أن يكون ابن مريم نداء ثانيا ، ويجوز أن يكون في موضع نصب ; لأنه نداء منصوب كما قال :


يا حكم بن المنذر بن الجارود
ولا يجوز الرفع في الثاني إذا كان مضافا إلا عند الطوال .

قوله تعالى : اذكر نعمتي عليك إنما ذكر الله تعالى عيسى نعمته عليه وعلى والدته وإن كان لهما ذاكرا لأمرين : أحدهما : ليتلو على الأمم ما خصهما به من الكرامة ، وميزهما به من علو المنزلة . الثاني : ليؤكد به حجته ، ويرد به جاحده . ثم أخذ في تعديد نعمه فقال : إذ أيدتك يعني قويتك ; مأخوذ من الأيد وهو القوة ، وقد تقدم . وفي روح القدس وجهان : أحدهما : أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها كما تقدم في قوله وروح منه . الثاني : أنه جبريل عليه السلام وهو الأصح ، كما تقدم في " البقرة " . تكلم الناس يعني وتكلم الناس في المهد صبيا ، وفي الكهولة نبيا ، وقد تقدم ما في هذا في ( آل عمران ) فلا معنى لإعادته . كففت معناه دفعت وصرفت بني إسرائيل عنك حين هموا بقتلك إذ جئتهم بالبينات أي الدلالات والمعجزات ، وهي المذكورة في الآية . فقال الذين كفروا يعني الذين لم يؤمنوا بك وجحدوا نبوتك . إن هذا أي المعجزات إلا سحر مبين وقرأ حمزة والكسائي " ساحر " أي : إن هذا الرجل إلا ساحر قوي على السحر .
قوله تعالى : وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون

قوله تعالى : وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قد تقدم القول في معاني هذه الآية ، والوحي في كلام العرب معناه الإلهام ويكون على أقسام : وحي بمعنى إرسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام ، ووحي بمعنى الإلهام كما في هذه الآية ; أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم ; ومنه قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل وأوحينا إلى أم موسى ووحي بمعنى الإعلام في اليقظة والمنام قال أبو عبيدة : أوحيت بمعنى أمرت ، [ ص: 280 ] وإلى صلة يقال : وحى وأوحى بمعنى ; قال الله تعالى : بأن ربك أوحى لها وقال العجاج :


وحى لها القرار فاستقرت بإذنه الأرض وما تعتت
أي : أمرها بالقرار فاستقرت ، وقيل : أوحيت هنا بمعنى أمرتهم وقيل : بينت لهم . واشهد بأننا مسلمون على الأصل ; ومن العرب من يحذف إحدى النونين ; أي : واشهد يا رب ، وقيل : يا عيسى بأننا مسلمون لله .
قوله تعالى : إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين

قوله تعالى : إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم على ما تقدم من الإعراب . هل يستطيع ربك . قراءة الكسائي وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد " هل تستطيع " بالتاء " ربك " بالنصب ، وأدغم الكسائي اللام من هل في التاء ، وقرأ الباقون بالياء ، " ربك " بالرفع ، وهذه القراءة أشكل من الأولى ; فقال السدي : المعنى هل يطيعك ربك إن سألته أن ينزل فيستطيع بمعنى يطيع ; كما قالوا : استجاب بمعنى أجاب ، وكذلك استطاع بمعنى أطاع ، وقيل المعنى : هل يقدر ربك وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل ; ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين أي : لا تشكوا في قدرة الله تعالى .

قلت : وهذا فيه نظر ; لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال : من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ، وقال عليه السلام : لكل نبي حواري وحواري الزبير ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاءوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم ; فكيف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى ؟ إلا أنه يجوز أن يقال : إن ذلك صدر ممن [ ص: 281 ] كان معهم ، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، وكما قال من قال من قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة على ما يأتي بيانه في " الأعراف " إن شاء الله تعالى ، وقيل : إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين ، وإنما هو كقولك للرجل : هل يستطيع فلان أن يأتي وقد علمت أنه يستطيع ; فالمعنى : هل يفعل ذلك ؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا ؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك ; كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : رب أرني كيف تحي الموتى على ما تقدم ، وقد كان إبراهيم علم لذلك علم خبر ونظر ، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة ; لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات ، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك ، ولذلك قال الحواريون : وتطمئن قلوبنا كما قال إبراهيم : ولكن ليطمئن قلبي .

قلت : وهذا تأويل حسن ; وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين ; على ما يأتي بيانه وقد أدخل ابن العربي المستطيع في أسماء الله تعالى ، وقال : لم يرد به كتاب ولا سنة اسما وقد ورد فعلا ، وذكر قول الحواريين : هل يستطيع ربك ورده عليه ابن الحصار في كتاب شرح السنة له وغيره ; قال ابن الحصار : وقوله سبحانه مخبرا عن الحواريين لعيسى : هل يستطيع ربك ليس بشك في الاستطاعة ، وإنما هو تلطف في السؤال ، وأدب مع الله تعالى ; إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه ولا لكل أحد ، والحواريون هم كانوا خيرة من آمن بعيسى ، فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله تعالى على كل شيء ممكن ؟ ! وأما قراءة " التاء " فقيل المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك ، هذا قول عائشة ومجاهد - رضي الله عنهما ; قالت عائشة رضي الله عنها : كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا هل يستطيع ربك قالت : ولكن " هل تستطيع ربك " ، وروي عنها أيضا أنها قالت : كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا : " هل تستطيع ربك " وعن معاذ بن جبل قال : أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم " هل تستطيع ربك " قال معاذ : وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا يقرأ بالتاء " هل تسطيع ربك " وقال الزجاج : المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله ، وقيل : هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله ; والمعنى متقارب ، ولا بد من محذوف ، كما قال : واسأل القرية وعلى قراءة الياء لا يحتاج إلى حذف . قال اتقوا الله أي اتقوا معاصيه وكثرة السؤال ; فإنكم لا [ ص: 282 ] تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات ; إذ كان الله عز وجل إنما يفعل الأصلح لعباده . إن كنتم مؤمنين أي : إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به فقد جاءكم من الآيات ما فيه غنى .
قوله تعالى : قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين

قوله تعالى : قالوا نريد أن نأكل منها نصب بأن . وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين عطف كله بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه ، وفي قولهم : نأكل منها وجهان : أحدهما : أنهم أرادوا الأكل منها للحاجة الداعية إليها ; وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر ، بعضهم كانوا أصحابه ، وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة ، إذ كانوا زمنى أو عميانا ، وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون ، فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة ، ولم يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا للحواريين : قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء ; فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء ، فقال عيسى لشمعون : " قل لهم اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له : قل له : نريد أن نأكل منها الآية . الثاني : نأكل منها لننال بركتها لا لحاجة دعتهم إليها ، قال الماوردي : وهذا أشبه ; لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال وقولهم : وتطمئن قلوبنا يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها : تطمئن إلى أن الله تعالى بعثك إلينا نبيا . الثاني : تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا . الثالث : تطمئن إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألنا ; ذكرها الماوردي وقال المهدوي : أي : تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا . قال الثعلبي : نستيقن قدرته فتسكن قلوبنا . ونعلم أن قد صدقتنا بأنك رسول الله ونكون عليها من الشاهدين لله بالوحدانية ، ولك بالرسالة والنبوة ، وقيل : ونكون عليها من الشاهدين لك عند من لم يرها إذا رجعنا إليهم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 20-03-2023, 11:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,320
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 283 الى صــ 290
الحلقة (298)



قوله تعالى : قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين

قوله تعالى : قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا الأصل عند سيبويه يا الله ، والميمان [ ص: 283 ] بدل من " يا " . ربنا نداء ثان لا يجيز سيبويه غيره ولا يجوز أن يكون نعتا ; لأنه قد أشبه الأصوات من أجل ما لحقه . أنزل علينا مائدة المائدة الخوان الذي عليه الطعام ; قال قطرب : لا تكون المائدة مائدة حتى يكون عليها طعام ، فإن لم يكن قيل : خوان وهي فاعلة من ماد عبده إذا أطعمه وأعطاه ; فالمائدة تميد ما عليها أي : تعطي ، ومنه قول رؤبة - أنشده الأخفش :


تهدي رءوس المترفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي المستعطى المسئول ; فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام ، ويسمى الطعام أيضا مائدة تجوزا ; لأنه يؤكل على المائدة ; كقولهم للمطر سماء ، وقال أهل الكوفة : سميت مائدة لحركتها بما عليها ; من قولهم : ماد الشيء إذا مال وتحرك قال الشاعر :


لعلك باك إن تغنت حمامة يميد بها غصن من الأيك مائل
وقال آخر :


وأقلقني قتل الكناني بعده فكادت بي الأرض الفضاء تميد
ومنه قوله تعالى : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ، وقال أبو عبيدة : مائدة فاعلة بمعنى مفعولة ، مثله عيشة راضية بمعنى مرضية و ماء دافق الطارق : أي : مدفوق . قوله تعالى : تكون لنا عيدا ( تكون ) نعت لمائدة وليس بجواب .

وقرأ الأعمش " تكن " على الجواب ; والمعنى : يكون يوم نزولها عيدا لأولنا أي : لأول أمتنا وآخرها ; فقيل : إن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية ; فلذلك جعلوا الأحد عيدا ، والعيد واحد الأعياد ; وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد ; ويقال : للفرق بينه وبين أعواد الخشب وقد عيدوا أي : شهدوا العيد ; قاله الجوهري ، وقيل : أصله من عاد يعود أي : رجع فهو عود بالواو ، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها مثل الميزان والميقات والميعاد فقيل ليوم الفطر والأضحى : عيدا لأنهما يعودان كل سنة . وقال الخليل : العيد كل يوم يجمع كأنهم عادوا إليه ، وقال ابن الأنباري : سمي عيدا للعود في المرح والفرح ; فهو يوم [ ص: 284 ] سرور الخلق كلهم ; ألا ترى أن المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون ولا يعاقبون ; ولا يصاد الوحش ولا الطيور ; ولا تنفذ الصبيان إلى المكاتب ، وقيل : سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ; ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ، ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم ، وقيل : سمي بذلك لأنه يوم شريف تشبيها بالعيد : وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه ، فيقال : إبل عيدية ; قال ( رذاذ الكلبي ) :


ظلت تجوب بها البلدان ناجية عيدية أرهنت فيها الدنانير
وقد تقدم ، وقرأ زيد بن ثابت " لأولانا وأخرانا " على الجمع . قال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما يأكل منها أولهم . وآية منك يعني دلالة وحجة وارزقنا أي : أعطنا . وأنت خير الرازقين أي : خير من أعطى ورزق ; لأنك الغني الحميد .
قوله تعالى : قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين

قوله تعالى قال الله إني منزلها عليكم هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين ، وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق ، فجحد القوم وكفروا بعد نزولها فمسخوا قردة وخنازير . قال ابن عمر : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون ; قال الله تعالى : فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا ؟ فالذي عليه الجمهور - وهو الحق - نزولها لقوله تعالى : إني منزلها عليكم ، وقال مجاهد : ما نزلت وإنما هو ضرب مثل ضربه الله تعالى لخلقه فنهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه . وقيل : وعدهم بالإجابة فلما قال لهم : فمن يكفر بعد منكم - الآية - استعفوا منها ، واستغفروا الله وقالوا : لا نريد هذا ; قاله الحسن ، وهذا القول والذي قبله خطأ ، والصواب أنها نزلت . قال ابن عباس : إن عيسى ابن مريم قال لبني إسرائيل : ( صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكم ) فصاموا ثلاثين يوما وقالوا : يا عيسى لو عملنا لأحد فقضينا عملنا لأطعمنا ، وإنا صمنا وجعنا فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء ، فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها ، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات ، فوضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم ، وذكر أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في " نوادر [ ص: 285 ] الأصول " له : حدثنا عمر بن أبي عمر قال حدثنا عمار بن هارون الثقفي عن زكرياء بن حكيم الحنظلي عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال : لما سألت الحواريون عيسى ابن مريم - صلوات الله وسلامه عليه - المائدة قام فوضع ثياب الصوف ، ولبس ثياب المسوح - وهو سربال من مسوح أسود ولحاف أسود - فقام فألزق القدم بالقدم وألصق العقب بالعقب ، والإبهام بالإبهام ، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى ، ثم طأطأ رأسه ، خاشعا لله ; ثم أرسل عينيه يبكي حتى جرى الدمع على لحيته ، وجعل يقطر على صدره ثم قال : اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم الآية فنزلت سفرة حمراء مدورة بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها ، والناس ينظرون إليها ; فقال عيسى : ( اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها فتنة إلهي أسألك من العجائب فتعطي ) فهبطت بين يدي عيسى عليه السلام وعليها منديل مغطى ، فخر عيسى ساجدا والحواريون معه ، وهم يجدون لها رائحة طيبة لم يكونوا يجدون مثلها قبل ذلك ، فقال عيسى : ( أيكم أعبد لله وأجرأ على الله وأوثق بالله فليكشف عن هذه السفرة حتى نأكل منها ونذكر اسم الله عليها ونحمد الله عليها ) فقال الحواريون : يا روح الله أنت أحق بذلك فقام عيسى - صلوات الله عليه - فتوضأ وضوءا حسنا وصلى صلاة جديدة ، ودعا دعاء كثيرا ، ثم جلس إلى السفرة ، فكشف عنها ; فإذا عليها سمكة مشوية ليس فيها شوك تسيل سيلان الدسم ، وقد نضد حولها من كل البقول ما عدا الكراث ; وعند رأسها ملح وخل ، وعند ذنبها خمسة أرغفة على واحد منها خمسة رمانات ، وعلى الآخر تمرات ، وعلى الآخر زيتون . قال الثعلبي : على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث بيض ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد . فبلغ ذلك اليهود فجاءوا غما وكمدا ينظرون إليه فرأوا عجبا ; فقال شمعون - وهو رأس الحواريين - : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنة ؟ فقال عيسى صلوات الله عليه : ( أما افترقتم بعد عن هذه المسائل ما أخوفني أن تعذبوا ) . فقال شمعون : وإله بني إسرائيل ما أردت بذلك سوءا . فقالوا : يا روح الله لو كان مع هذه الآية آية أخرى ; قال عيسى عليه السلام : " يا سمكة احيي بإذن الله " فاضطربت السمكة طرية تبص عيناها ، ففزع الحواريون فقال عيسى : ( ما لي أراكم تسألون عن الشيء فإذا أعطيتموه كرهتموه ما أخوفني أن تعذبوا ) وقال : ( لقد نزلت من السماء وما عليها طعام من الدنيا ولا من طعام الجنة ولكنه شيء ابتدعه الله بالقدرة البالغة فقال لها : [ ص: 286 ] كوني فكانت ) ; فقال عيسى : ( يا سمكة عودي كما كنت ) فعادت مشوية كما كانت ; فقال الحواريون : يا روح الله كن أول من يأكل منها ، فقال عيسى : ( معاذ الله إنما يأكل منها من طلبها وسألها ) فأبى الحواريون أن يأكلوا منها خشية أن تكون مثلة وفتنة ; فلما رأى عيسى ذلك دعا عليها الفقراء والمساكين والمرضى والزمنى والمجذمين والمقعدين والعميان وأهل الماء الأصفر ، وقال : ( كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله عليه ) وقال : ( يكون المهنأ لكم والعذاب على غيركم ) فأكلوا حتى صدروا عن سبعة آلاف وثلثمائة يتجشئون فبرئ كل سقيم أكل منه ، واستغنى كل فقير أكل منه حتى الممات ; فلما رأى ذلك الناس ازدحموا عليه فما بقي صغير ولا كبير ولا شيخ ولا شاب ولا غني ولا فقير إلا جاءوا يأكلون منه ، فضغط بعضهم بعضا فلما رأى ذلك عيسى جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما ، كناقة ثمود ترعى يوما وتشرب يوما ، فنزلت أربعين يوما تنزل ضحى فلا تزال حتى يفيء الفيء موضعه ، وقال الثعلبي : فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت صعدا فيأكل منها الناس ، ثم ترجع إلى السماء والناس ينظرون إلى ظلها حتى تتوارى عنهم ، فلما تم أربعون يوما أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام ( يا عيسى اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الأغنياء ) ، فتمارى الأغنياء في ذلك وعادوا الفقراء ، وشكوا وشككوا الناس ; فقال الله يا عيسى : ( إني آخذ بشرطي ) فأصبح منهم ثلاثة وثلاثون خنزيرا يأكلون العذرة يطلبونها بالأكباء ، والأكباء - هي الكناسة واحدها كبا - بعدما كانوا يأكلون الطعام الطيب وينامون على الفرش اللينة ، فلما رأى الناس ذلك اجتمعوا على عيسى يبكون ، وجاءت الخنازير فجثوا على ركبهم قدام عيسى ، فجعلوا يبكون وتقطر دموعهم فعرفهم عيسى فجعل يقول : ( ألست بفلان ) ؟ فيومئ برأسه ولا يستطيع الكلام ، فلبثوا كذلك سبعة أيام - ومنهم من يقول : أربعة أيام - ثم دعا الله عيسى أن يقبض أرواحهم ، فأصبحوا لا يدرى أين ذهبوا ؟ الأرض ابتلعتهم أو ما صنعوا ؟ ! .

قلت : في هذا الحديث مقال ولا يصح من قبل إسناده ، وعن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي كان طعام المائدة خبزا وسمكا ، وقال ابن عطية : كانوا يجدون في السمك طيب كل طعام ; وذكره الثعلبي ، وقال عمار بن ياسر وقتادة : كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمار من ثمار الجنة ، وقال وهب بن منبه : أنزله الله تعالى أقرصة من شعير وحيتانا ، وخرج الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير قال أبو عيسى : هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من [ ص: 287 ] حديث الحسن بن قزعة ، حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا سفيان بن حبيب عن سعيد بن أبي عروبة نحوه ولم يرفعه ، وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا ، وقال سعيد بن جبير : أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم ، وقال عطاء : نزل عليها كل شيء إلا السمك واللحم ، وقال كعب : نزلت المائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلا اللحم .

قلت : هذه الثلاثة أقوال مخالفة لحديث الترمذي وهو أولى منها ; لأنه إن لم يصح مرفوعا فصح موقوفا عن صحابي كبير . والله أعلم ، والمقطوع به أنها نزلت وكان عليها طعام يؤكل والله أعلم بتعيينه ، وذكر أبو نعيم عن كعب أنها نزلت ثانية لبعض عباد بني إسرائيل ، قال كعب : اجتمع ثلاثة نفر من عباد بني إسرائيل فاجتمعوا في أرض فلاة مع كل رجل منهم اسم من أسماء الله تعالى ; فقال أحدهم : سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم ; قالوا : نسألك أن تدعو الله أن يظهر لنا عينا ساحة بهذا المكان ; ورياضا خضرا وعبقريا ، قال : فدعا الله فإذا عين ساحة ورياض خضر وعبقري . ثم قال أحدهم : سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم ; فقالوا : نسألك أن تدعو الله أن يطعمنا شيئا من ثمار الجنة فدعا الله فنزلت عليهم بسرة فأكلوا منها لا تقلب إلا أكلوا منها لونا ثم رفعت ; ثم قال أحدهم : سلوني فأدعو الله لكم بما شئتم ; فقالوا : نسألك أن تدعو الله أن ينزل علينا المائدة التي أنزلها على عيسى قال : فدعا فنزلت فقضوا منها حاجتهم ثم رفعت ; وذكر تمام الخبر .

مسألة : جاء في حديث سلمان المذكور بيان المائدة وأنها كانت سفرة لا مائدة ذات قوائم ، والسفرة مائدة النبي صلى الله عليه وسلم وموائد العرب ، خرج أبو عبد الله الترمذي الحكيم : حدثنا محمد بن يسار ، قال حدثنا معاذ بن هشام ، قال حدثني أبي ، عن يونس ، عن قتادة ، عن أنس قال ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قط ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق . قال : قلت لأنس : فعلام كانوا يأكلون ؟ قال : على السفر ; قال محمد بن بشار : يونس هذا هو أبو الفرات الإسكاف .

قلت : هذا حديث صحيح ثابت اتفق على رجاله البخاري ومسلم ، وخرجه الترمذي قال : حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا معاذ بن هشام فذكره وقال فيه : حسن غريب . قال الترمذي أبو عبد الله : الخوان هو شيء محدث فعلته الأعاجم ، وما كانت العرب لتمتهنها ، وكانوا يأكلون على السفر واحدها سفرة وهي التي تتخذ من الجلود ولها معاليق تنضم وتنفرج ، فبالانفراج سميت سفرة لأنها إذا حلت معاليقها انفرجت فأسفرت عما فيها فقيل لها السفرة [ ص: 288 ] وإنما سمي السفر سفرا لإسفار الرجل بنفسه عن البيوت ، وقوله : ولا في سكرجة ; لأنها أوعية الأصباغ ، وإنما الأصباغ للألوان ولم تكن من سماتهم الألوان ، وإنما كان طعامهم الثريد عليه مقطعات اللحم ، وكان يقول : انهسوا اللحم نهسا فإنه أشهى وأمرأ فإن قيل : فقد جاء ذكر المائدة في الأحاديث ; من ذلك حديث ابن عباس قال : لو كان الضب حراما ما أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم ; خرجه مسلم وغيره . وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصلي الملائكة على الرجل ما دامت مائدته موضوعة خرجه الثقات ; وقيل : إن المائدة كل شيء يمد ويبسط مثل المنديل والثوب ، وكان من حقه أن تكون مادة الدال مضعفة ، فجعلوا إحدى الدالين ياء فقيل : مائدة ، والفعل واقع به فكان ينبغي أن تكون ممدودة ; ولكن خرجت في اللغة مخرج فاعل كما قالوا : سر كاتم وهو مكتوم ، وعيشة راضية وهي مرضية ، وكذلك خرج في اللغة ما هو فاعل على مخرج مفعول فقالوا : رجل مشئوم وإنما هو شائم ، وحجاب مستور وإنما هو ساتر ; قال فالخوان هو المرتفع عن الأرض بقوائمه ، والمائدة ما مد وبسط والسفرة ما أسفر عما في جوفه ، وذلك لأنها مضمومة بمعاليقها ، وعن الحسن قال : الأكل على الخوان فعل الملوك ، وعلى المنديل فعل العجم ، وعلى السفرة فعل العرب وهو السنة ، والله أعلم .
قوله تعالى : وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب

قوله تعالى : وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله اختلف في وقت هذه المقالة ; فقال قتادة وابن جريج وأكثر المفسرين : إنما يقول له هذا يوم القيامة ، وقال السدي وقطرب . قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت ; واحتجوا بقوله : إن تعذبهم فإنهم عبادك فإن إذ في كلام العرب لما مضى ، والأول أصح ; يدل عليه ما قبله من قوله : يوم يجمع الله الرسل [ ص: 289 ] الآية وما بعده هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم . وعلى هذا تكون إذ بمعنى " إذا " كقوله تعالى : ولو ترى إذ فزعوا أي : إذا فزعوا ، وقال أبو النجم :


ثم جزاه الله عني إذ جزى جنات عدن في السماوات العلا
يعني إذا جزى ، وقال الأسود بن جعفر الأزدي :


فالآن إذ هازلتهن فإنما يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا
يعني إذا هازلتهن ، فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي ; لأنه لتحقيق أمره وظهور برهانه ، كأنه قد وقع ، وفي التنزيل ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة ومثله كثير وقد تقدم ، واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس هو باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين : أحدهما : أنه سأله عن ذلك توبيخا لمن ادعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب ، وأشد في التوبيخ والتقريع . الثاني : قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غيروا بعده ، وادعوا عليه ما لم يقله . فإن قيل : فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها فكيف قال ذلك فيهم ؟ فقيل : لما كان من قولهم إنها لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته ، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له .

قوله تعالى : قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته خرج الترمذي عن أبي هريرة قال : تلقى عيسى حجته ولقاه الله في قوله : وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : فلقاه الله سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية كلها . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين : أحدهما : تنزيها له عما أضيف إليه . الثاني : خضوعا لعزته ، وخوفا من سطوته ، ويقال : إن الله تعالى لما قال لعيسى : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله أخذته الرعدة من ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه فقال : سبحانك ثم قال : ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق أي : أن أدعي لنفسي ما ليس من حقها ، يعني أنني مربوب ولست برب ، وعابد ولست بمعبود . ثم قال : إن كنت قلته فقد علمته فرد ذلك إلى علمه ، وقد كان الله عالما به أنه لم يقله ، ولكنه سأله عنه تقريعا لمن اتخذ عيسى إلها . ثم قال : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك أي : تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك ، وقيل : المعنى تعلم ما أعلم [ ص: 290 ] ولا أعلم ما تعلم ، وقيل : تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه . وقيل : تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد وقيل : تعلم سري ولا أعلم سرك ; لأن السر موضعه النفس وقيل : تعلم ما كان مني في دار الدنيا ، ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة .

قلت : والمعنى في هذه الأقوال متقارب ; أي : تعلم سري وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته ، ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك . إنك أنت علام الغيوب ما كان وما يكون ، وما لم يكن وما هو كائن .
قوله تعالى : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد

قوله تعالى : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به يعني في الدنيا بالتوحيد . أن اعبدوا الله أن لا موضع لها من الإعراب وهي مفسرة مثل وانطلق الملأ منهم أن امشوا . ويجوز أن تكون في موضع نصب ; أي : ما ذكرت لهم إلا عبادة الله ، ويجوز أن تكون في موضع خفض ; أي : بأن اعبدوا الله ; وضم النون أولى ; لأنهم يستثقلوا كسرة بعدها ضمة ، والكسر جائز على أصل التقاء الساكنين .

قوله تعالى : وكنت عليهم شهيدا أي : حفيظا بما أمرتهم . ما دمت فيهم ما في موضع نصب أي : وقت دوامي فيهم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 20-03-2023, 11:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,320
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
من صــ 291 الى صــ 298
الحلقة (299)


فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم قيل : هذا يدل على أن الله عز وجل توفاه قبل أن يرفعه ; وليس بشيء ; لأن الأخبار تظاهرت برفعه ، وأنه في السماء حي ، وأنه ينزل ويقتل الدجال - على ما يأتي بيانه - وإنما المعنى فلما رفعتني إلى السماء . قال الحسن : الوفاة في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أوجه : وفاة الموت وذلك قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها يعني وقت انقضاء أجلها ، ووفاة النوم ; قال الله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل يعني الذي ينيمكم ، ووفاة الرفع ، قال الله تعالى : يا عيسى إني متوفيك . وقوله كنت أنت أنت هنا توكيد الرقيب خبر كنت ومعناه الحافظ عليهم ، والعالم بهم والشاهد على أفعالهم ; وأصله المراقبة أي : [ ص: 291 ] المراعاة ; ومنه المرقبة لأنها في موضع الرقيب من علو المكان . وأنت على كل شيء شهيد أي : من مقالتي ومقالتهم : وقيل على من عصى وأطاع ; خرج مسلم عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بموعظة فقال : يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم - عليه السلام - ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم قال : ( فيقال لي إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) .
قوله تعالى : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم

قوله تعالى : إن تعذبهم فإنهم عبادك شرط وجوابه وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم مثله روى النسائي عن أبي ذر قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية ليلة حتى أصبح ، والآية : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم واختلف في تأويله فقيل : قاله على وجه الاستعطاف لهم ، والرأفة بهم ، كما يستعطف السيد لعبده ; ولهذا لم يقل : فإنهم عصوك ، وقيل : قاله على وجه التسليم لأمره والاستجارة من عذابه ، وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر ، وقيل الهاء والميم في إن تعذبهم لمن مات منهم على الكفر ، والهاء والميم في وإن تغفر لهم لمن تاب منهم قبل الموت ; وهذا حسن ، وأما قول من قال : إن عيسى عليه السلام لم يعلم أن الكافر لا يغفر له فقول مجترئ على كتاب الله عز وجل ; لأن الأخبار من الله عز وجل لا تنسخ . وقيل : كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي ، وعملوا بعده بما لم يأمرهم به ، إلا أنهم على عمود دينه ، فقال : وإن تغفر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي ، وقال : فإنك أنت العزيز الحكيم ولم يقل : فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره ، والتفويض لحكمه . ولو قال : فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه وذلك مستحيل ; فالتقدير إن تبقهم على كفرهم [ ص: 292 ] حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك ، وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده ; الحكيم فيما تفعله ; تضل من تشاء وتهدي من تشاء ، وقد قرأ جماعة : " فإنك أنت الغفور الرحيم " وليست من المصحف . ذكره القاضي عياض في كتاب " الشفا " وقال أبو بكر الأنباري : وقد طعن على القرآن من قال إن قوله : إنك أنت العزيز الحكيم ليس بمشاكل لقوله : وإن تغفر لهم لأن الذي يشاكل المغفرة فإنك أنت الغفور الرحيم ، والجواب أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله ومتى نقل إلى الذي نقله إليه ضعف معناه ; فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني فلا يكون له بالشرط الأول تعلق ، وهو على ما أنزله الله عز وجل ، واجتمع على قراءته المسلمون مقرون بالشرطين كليهما أولهما وآخرهما ; إذ تلخيصه إن تعذبهم فإنك أنت عزيز حكيم ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران ، فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه ; فإنه يجمع الشرطين ، ولم يصلح الغفور الرحيم إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله العزيز الحكيم ، وما شهد بتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية كلها والشرطين المذكورين أولى وأثبت معنى في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض . خرج مسلم من غير طريق عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله عز وجل في إبراهيم رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم وقال عيسى عليه السلام : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم فرفع يديه وقال : اللهم أمتي وبكى فقال الله عز وجل : ( يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك ) فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم . فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ) وقال بعضهم : في الآية تقديم وتأخير ومعناه ، إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ، ووجه الكلام على نسقه أولى لما بيناه ، وبالله التوفيق .
قوله تعالى : قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم

قوله تعالى : قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم أي : صدقهم في الدنيا فأما في [ ص: 293 ] الآخرة فلا ينفع فيها الصدق ، وصدقهم في الدنيا يحتمل أن يكون صدقهم في العمل لله ، ويحتمل أن يكون تركهم الكذب عليه وعلى رسله ، وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه ، وقيل : المراد صدقهم في الآخرة وذلك في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ ، وفيما شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم ، ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة ، فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم ، والله أعلم . وقرأ نافع وابن محيصن " يوم " بالنصب . ورفع الباقون وهي القراءة البينة على الابتداء والخبر ، فيوم ينفع خبر ل ( هذا ) والجملة في موضع نصب بالقول ، وأما قراءة نافع وابن محيصن فحكى إبراهيم بن حميد عن محمد بن يزيد أن هذه القراءة لا تجوز ، لأنه نصب خبر الابتداء ، ولا يجوز فيه البناء ، وقال إبراهيم بن السري : هي جائزة بمعنى قال الله هذا لعيسى ابن مريم يوم ينفع الصادقين صدقهم ف يوم ظرف للقول ، وهذا مفعول القول والتقدير ; قال الله هذا القول في يوم ينفع الصادقين ، وقيل : التقدير قال الله عز وجل هذه الأشياء تنفع يوم القيامة ، وقال الكسائي والفراء : بني يوم هاهنا على النصب ; لأنه مضاف إلى غير اسم ; كما تقول : مضى يومئذ ; وأنشد الكسائي :


على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع
الزجاج : ولا يجيز البصريون ما قالاه إذا أضفت الظرف إلى فعل مضارع ، فإن كان إلى ماض كان جيدا كما مر في البيت وإنما جاز أن يضاف الفعل إلى ظروف الزمان ; لأن الفعل بمعنى المصدر ، وقيل : يجوز أن يكون منصوبا ظرفا ويكون خبر الابتداء الذي هو هذا لأنه مشار به إلى حدث ، وظروف الزمان تكون إخبارا عن الأحداث ، تقول : القتال اليوم ، والخروج الساعة ، والجملة في موضع نصب بالقول ، وقيل : يجوز أن يكون هذا في موضع رفع بالابتداء ويوم خبر الابتداء والعامل فيه محذوف ، والتقدير : قال الله هذا الذي قصصناه يقع يوم ينفع الصادقين صدقهم ، وفيه قراءة ثالثة " يوم ينفع " بالتنوين الصادقين صدقهم في الكلام حذف تقديره " فيه " مثل قوله : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا وهي قراءة الأعمش .

قوله تعالى : لهم جنات ابتداء وخبر . تجري في موضع الصفة . من تحتها [ ص: 294 ] أي : من تحت غرفها وأشجارها وقد تقدم . ثم بين تعالى ثوابهم ، وأنه راض عنهم رضا لا يغضب بعده أبدا ورضوا عنه أي : عن الجزاء الذي أثابهم به . ذلك الفوز أي الظفر العظيم أي الذي عظم خيره وكثر ، وارتفعت منزلة صاحبه وشرف .
قوله تعالى : لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير

قوله تعالى : لله ملك السماوات والأرض الآية . جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في عيسى أنه إله ، فأخبر تعالى أن ملك السماوات والأرض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين ، ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السماوات والأرض يعطي الجنات المتقدم ذكرها للمطيعين من عباده ، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه . تمت سورة " المائدة " بحمد الله تعالى .
[ ص: 295 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْأَنْعَامِ


وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ : هِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّيْنِ وَالْأُخْرَى قَوْلُهُ : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ الْأَنْصَارِيِّ ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : نَزَلَتْ فِي مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ . وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ سُورَةُ " الْأَنْعَامِ " مَكِّيَّةٌ إِلَّا سِتَّ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِلَى آخِرِ ثَلَاثِ آيَاتٍ وَ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَى آخِرِ ثَلَاثِ آيَاتٍ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَهِيَ الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : قُلْ لَا أَجِدُ نَزَلَ بِمَكَّةَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً غَيْرَ السِّتِّ الْآيَاتِ وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ مَعَ آيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ وَهِيَ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ نَزَلُوا بِهَا لَيْلًا لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُتَّابَ فَكَتَبُوهَا مِنْ لَيْلَتِهِمْ وَأَسْنَدَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ، حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ مَوْلَى الْحَضَارِمَةِ ، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرٍ الْعُمَرِيُّ ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ ، عَنْ نَافِعٍ أَبِي سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ مَعَهَا مَوْكِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ سَدَّ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالْأَرْضُ لَهُمْ تَرْتَجُّ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : الْأَنْعَامُ مِنْ نَجَائِبِ الْقُرْآنِ . وَفِيهِ عَنْ كَعْبٍ ، قَالَ : فَاتِحَةُ " التَّوْرَاةِ " [ ص: 296 ] فَاتِحَةُ الْأَنْعَامِ وَخَاتِمَتُهَا خَاتِمَةُ " هُودٍ " . وَقَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَيْضًا وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّ " التَّوْرَاةَ " افْتُتِحَتْ بِقَوْلِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْآيَةَ . وَخُتِمَتْ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ . وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ " الْأَنْعَامِ " إِلَى قَوْلِهِ : وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَكْتُبُونَ لَهُ مِثْلَ عِبَادَتِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَنْزِلُ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَمَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ ، فَإِذَا أَرَادَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوَسْوِسَ لَهُ أَوْ يُوحِيَ فِي قَلْبِهِ شَيْئًا ضَرَبَهُ ضَرْبَةً فَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ سَبْعُونَ حِجَابًا فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : امْشِ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي وَكُلْ مِنْ ثِمَارِ جَنَّتِي وَاشْرَبْ مِنْ مَاءِ الْكَوْثَرِ وَاغْتَسِلْ مِنْ مَاءِ السَّلْسَبِيلِ فَأَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنْ سُورَةِ " الْأَنْعَامِ " قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ إِلَى قَوْلِهِ : وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ

تَنْبِيهٌ : قَالَ الْعُلَمَاءُ : هَذِهِ السُّورَةُ أَصْلٌ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَهَذَا يَقْتَضِي إِنْزَالَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ مِنَ الْحُجَّةِ وَإِنْ تَصَرَّفَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَعَلَيْهَا بَنَى الْمُتَكَلِّمُونَ أُصُولَ الدِّينِ لِأَنَّ فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ تَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ دُونَ السُّوَرِ الَّتِي تَذْكُرُ وَالْمَذْكُورَاتِ ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ

فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ :

الْأُولَى : قَوْلُهُ تَعَالَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ بَدَأَ سُبْحَانَهُ فَاتِحَتَهَا بِالْحَمْدِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِثْبَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ ، أَيْ : إِنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لَهُ فَلَا شَرِيكَ لَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدِ افْتُتِحَ غَيْرُهَا بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَكَانَ الِاجْتِزَاءُ بِوَاحِدَةٍ يُغْنِي عَنْ سَائِرِهِ ، فَيُقَالُ : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُ مَعْنًى فِي مَوْضِعِهِ لَا يُؤَدِّي عَنْهُ [ ص: 297 ] غَيْرُهُ مِنْ أَجْلِ عَقْدِهِ بِالنِّعَمِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَأَيْضًا فَلِمَا فِيهِ مِنَ الْحُجَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْحَمْدِ فِي الْفَاتِحَةِ .

الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ فَقَالَ : الَّذِي خَلَقَ ، أَيِ : اخْتَرَعَ وَأَوْجَدَ وَأَنْشَأَ وَابْتَدَعَ وَالْخَلْقُ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاخْتِرَاعِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ هُنَا وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حُدُوثِهِمَا فَرَفَعَ السَّمَاءَ بِغَيْرِ عَمَدٍ وَجَعَلَهَا مُسْتَوِيَةً مِنْ غَيْرِ أَوَدٍ ، وَجَعَلَ فِيهَا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَيْنِ وَزَيَّنَهَا بِالنُّجُومِ وَأَوْدَعَهَا السَّحَابَ وَالْغُيُومَ عَلَامَتَيْنِ ، وَبَسَطَ الْأَرْضَ وَأَوْدَعَهَا الْأَرْزَاقَ وَالنَّبَاتَ ، وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ آيَاتٍ جَعَلَ فِيهَا الْجِبَالَ أَوْتَادًا ، وَسُبُلًا فِجَاجًا ، وَأَجْرَى فِيهَا الْأَنْهَارَ وَالْبِحَارَ ، وَفَجَّرَ فِيهَا الْعُيُونَ مِنَ الْأَحْجَارِ ، دَلَالَاتٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ، وَبَيَّنَ بِخَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ .

الثَّالِثَةُ : خَرَّجَ مُسْلِمٌ قَالَ : حَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَا : حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ : خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ .

قُلْتُ : أَدْخَلَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْحَدِيثَ تَفْسِيرًا لِفَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ ; قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَزَعَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ لِمُخَالَفَةِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَأَهْلُ التَّوَارِيخِ . وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ إِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ ، وَإِبْرَاهِيمَ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ عَنْ حَدِيثِ أَبَى هُرَيْرَةَ خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ . فَقَالَ عَلِيٌّ : هَذَا حَدِيثٌ مَدَنِيٌّ رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِي . قَالَ عَلِيٌّ : وَشَبَّكَ بِيَدِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى ، فَقَالَ لِي : شَبَّكَ بِيَدِي أَيُّوبُ بْنُ خَالِدٍ ، وَقَالَ لِي شَبَّكَ بِيَدِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ ، وَقَالَ لِي : شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَقَالَ لِي : شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو الْقَاسِمِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ السَّبْتِ فَذَكَرَ [ ص: 298 ] الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ . قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ : وَمَا أَرَى إِسْمَاعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ أَخَذَ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا مِنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ إِلَّا أَنَّ مُوسَى بْنَ عُبَيْدَةَ ضَعِيفٌ . وَرُوِيَ عَنْ بَكْرِ بْنِ الشَّرُودِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا أَحَدٌ يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ قَالَ : فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ابْتَدَأَ الْخَلْقَ فَخَلَقَ الْأَرْضَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ، وَخَلَقَ الْأَقْوَاتَ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ ، وَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ خَلَقَ آدَمَ . خَرَّجَهُ الْبَيْهَقِيُّ .

قُلْتُ : وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ الْأَحَدِ لَا يَوْمَ السَّبْتِ . وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَدَّمَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ أَيُّمَا خُلِقَ أَوَّلًا الْأَرْضُ أَوِ السَّمَاءُ مُسْتَوْفًى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .

الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ذَكَرَ بَعْدَ خَلْقِ الْجَوَاهِرِ خَلْقَ الْأَعْرَاضِ لِكَوْنِ الْجَوْهَرِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ وَمَا لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ . وَالْجَوْهَرُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ الْحَامِلُ لِلْعَرَضِ ، وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى فِي اسْمِهِ " الْوَاحِدِ " ، وَسُمِّيَ الْعَرَضُ عَرَضًا ، لِأَنَّهُ يَعْرِضُ فِي الْجِسْمِ وَالْجَوْهَرِ فَيَتَغَيَّرُ بِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ، وَالْجِسْمُ هُوَ الْمُجْتَمَعُ ، وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجِسْمِ جَوْهَرَانِ مُجْتَمِعَانِ ، وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهَا ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهَا الْعُلَمَاءُ وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا وَبَنَوْا عَلَيْهَا كَلَامَهُمْ ، وَقَتَلُوا بِهَا خُصُومَهُمْ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ ، فَقَالَ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ : الْمُرَادُ سَوَادُ اللَّيْلِ وَضِيَاءُ النَّهَارِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ : الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 20-03-2023, 11:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,320
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
من صــ 299 الى صــ 306
الحلقة (300)


قُلْتُ : اللَّفْظُ يَعُمُّهُ ، وَفِي التَّنْزِيلِ : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ، وَالْأَرْضُ هُنَا اسْمٌ لِلْجِنْسِ فَإِفْرَادُهَا فِي اللَّفْظِ بِمَنْزِلَةِ جَمْعِهَا ، وَكَذَلِكَ وَالنُّورُ وَمِثْلُهُ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا وَقَالَ الشَّاعِرُ :

[ ص: 299 ]
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصٌ
وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ .

قُلْتُ : وَعَلَيْهِ يَتَّفِقُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي النَّسَقِ ، فَيَكُونُ الْجَمْعُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَمْعِ ، وَالْمُفْرَدُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُفْرَدِ ، فَيَتَجَانَسُ اللَّفْظُ وَتَظْهَرُ الْفَصَاحَةُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَقِيلَ : جَمَعَ الظُّلُمَاتِ وَوَحَّدَ النُّورَ لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ لَا تَتَعَدَّى وَالنُّورَ يَتَعَدَّى ، وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَعَانِي قَالَ : جَعَلَ هُنَا زَائِدَةً وَالْعَرَبُ تَزِيدُ " جَعَلَ " فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ :


وَقَدْ جَعَلْتُ أَرَى الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةً وَالْوَاحِدَ اثْنَيْنِ لَمَّا هَدَّنِي الْكِبَرُ
قَالَ النَّحَّاسُ : جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى خَلَقَ لَمْ تَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى ، وَمَحَامِلُ ( جَعَلَ ) فِي " الْبَقَرَةِ " مُسْتَوْفًى .

الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ ، وَالْمَعْنَى : ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَجْعَلُونَ لِلَّهِ عَدْلًا وَشَرِيكًا ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَحْدَهُ ، قَالَابْنُ عَطِيَّةَ : فَ ( ثُمَّ ) دَالَّةٌ عَلَى قُبْحِ فِعْلِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْمَعْنَى : أَنَّ خَلْقَهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَدْ تَقَرَّرَ وَآيَاتَهُ قَدْ سَطَعَتْ ، وَإِنْعَامَهُ بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ ، فَهَذَا كَمَا تَقُولُ : يَا فُلَانُ ، أَعْطَيْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ وَأَحْسَنْتُ إِلَيْكَ ثُمَّ تَشْتُمُنِي ، وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ لَمْ يَلْزَمِ التَّوْبِيخُ كَلُزُومِهِ بِثُمَّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قوله تعالى : هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون

قوله تعالى : هو الذي خلقكم من طين الآية خبر وفي معناه قولان : أحدهما : وهو الأشهر ، وعليه من الخلق الأكثر ، أن المراد آدم عليه السلام والخلق نسله ، والفرع يضاف إلى أصله ، فلذلك قال : خلقكم بالجمع فأخرجه مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده ; هذا قول الحسن ، وقتادة ، وابن أبي نجيح ، والسدي ، والضحاك ، وابن زيد وغيرهم ، الثاني : أن تكون النطفة خلقها الله من طين على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها ، ذكره النحاس .

قلت : وبالجملة فلما ذكر جل وعز خلق العالم الكبير ذكر بعده خلق العالم الصغير وهو الإنسان ، وجعل فيه ما في العالم الكبير ، على ما بيناه في " البقرة " في آية التوحيد ، والله أعلم ، [ ص: 300 ] والحمد لله وقد روى أبو نعيم الحافظ في كتابه عن مرة ، عن ابن مسعود ، أن الملك الموكل بالرحم يأخذ النطفة فيضعها على كفه ، ثم يقول : يا رب ، مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال مخلقة ، قال : يا رب ، ما الرزق ، ما الأثر ، ما الأجل ؟ فيقول : انظر في أم الكتاب ، فينظر في اللوح المحفوظ فيجد فيه رزقه وأثره وأجله وعمله ، ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته ، فذلك قوله تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم . وخرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته .

قلت : وعلى هذا يكون كل إنسان مخلوقا من طين وماء مهين ، كما أخبر جل وعز في سورة " المؤمنون " فتنتظم الآيات والأحاديث ، ويرتفع الإشكال والتعارض ، والله أعلم ، وأما الإخبار عن خلق آدم عليه السلام فقد تقدم في ( البقرة ) ذكره واشتقاقه ، ونزيد هنا طرفا من ذلك ونعته وسنه ووفاته ، ذكر ابن سعد في " الطبقات " عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الناس ولد آدم وآدم من التراب وعن سعيد بن جبير قال : خلق الله آدم عليه السلام من أرض يقال لها دجناء ، قال الحسن : وخلق جؤجؤه من ضرية ، قال الجوهري : ضرية قرية لبني كلاب على طريق البصرة وهي إلى مكة أقرب ، وعن ابن مسعود ، قال : إن الله تعالى بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها فخلق منه آدم عليه السلام فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى الجنة وإن كان ابن كافر ، وكل شيء خلقه من مالحها فهو صائر إلى النار ، وإن كان ابن تقي فمن ثم قال إبليس أأسجد لمن خلقت طينا لأنه جاء بالطينة فسمي آدم ; لأنه خلق من أديم الأرض ، وعن عبد الله بن سلام قال : خلق الله آدم في آخر يوم الجمعة ، وعن ابن عباس قال : لما خلق الله آدم كان رأسه يمس السماء ، قال فوطده إلى الأرض حتى صار ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا ، وعن أبي بن كعب ، قال : كان آدم عليه السلام طوالا جعدا كأنه نخلة سحوق ، وعن ابن عباس في حديث فيه طول وحج آدم عليه السلام من الهند إلى مكة أربعين حجة على رجليه ، وكان آدم حين أهبط تمسح رأسه السماء ، فمن ثم صلع وأورث ولده الصلع ونفرت من طوله دواب البر فصارت وحشا من يومئذ ، ولم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا ، وتوفي على ذروة الجبل الذي أنزل عليه ، فقال شيث لجبريل عليهما السلام : " صل على آدم " فقال له جبريل عليه السلام : تقدم أنت فصل على أبيك وكبر عليه ثلاثين تكبيرة ، فأما خمس فهي الصلاة ، وخمس وعشرون تفضيلا لآدم . وقيل : كبر عليه أربعا ، فجعل بنو شيث آدم في مغارة وجعلوا عليها حافظا لا [ ص: 301 ] يقربه أحد من بني قابيل وكان الذين يأتونه ويستغفرون له بنو شيث ، وكان عمر آدم تسعمائة سنة وستا وثلاثين سنة . ويقال : هل في الآية دليل على أن الجواهر من جنس واحد ؟ الجواب : نعم لأنه إذا جاز أن ينقلب الطين إنسانا حيا قادرا عليما ، جاز أن ينقلب إلى كل حال من أحوال الجواهر ، لتسوية العقل بين ذلك في الحكم ، وقد صح انقلاب الجماد إلى الحيوان بدلالة هذه الآية .

قوله تعالى : ثم قضى أجلا مفعول . وأجل مسمى عنده ابتداء وخبر ، قال الضحاك : أجلا في الموت وأجل مسمى عنده أجل القيامة فالمعنى على هذا : حكم أجلا ، وأعلمكم أنكم تقيمون إلى الموت ، ولم يعلمكم بأجل القيامة . وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة ، وهذا لفظ الحسن : قضى أجل الدنيا من يوم خلقك إلى أن تموت وأجل مسمى عنده يعني الآخرة . وقيل : قضى أجلا ما أعلمناه من أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، وأجل مسمى من الآخرة ، وقيل : قضى أجلا مما نعرفه من أوقات الأهلة والزرع وما أشبههما ، وأجل مسمى أجل الموت ، لا يعلم الإنسان متى يموت ، وقال ابن عباس ومجاهد : معنى الآية قضى أجلا بقضاء الدنيا ، وأجل مسمى عنده لابتداء الآخرة . وقيل : الأول قبض الأرواح في النوم ، والثاني قبض الروح عند الموت ، عن ابن عباس أيضا .

قوله تعالى : ثم أنتم تمترون ابتداء وخبر : أي : تشكون في أنه إله واحد ، وقيل : تمارون في ذلك أي : تجادلون جدال الشاكين ، والتماري المجادلة على مذهب الشك ، ومنه قوله تعالى : أفتمارونه على ما يرى .
قوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون

قوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يقال ما عامل الإعراب في الظرف [ ص: 302 ] من في السماوات وفي الأرض ؟ ففيه أجوبة : أحدها : أي : وهو الله المعظم أو المعبود في السماوات وفي الأرض ; كما تقول : زيد الخليفة في الشرق والغرب أي : حكمه ، ويجوز أن يكون المعنى وهو الله المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض ; كما تقول : هو في حاجات الناس وفي الصلاة ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ويكون المعنى : وهو الله في السماوات وهو الله في الأرض . وقيل : المعنى وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض فلا يخفى عليه شيء ; قالالنحاس : وهذا من أحسن ما قيل فيه ، وقال محمد بن جرير : وهو الله في السماوات ويعلم سركم وجهركم في الأرض ، ( فيعلم ) مقدم في الوجهين ، والأول أسلم وأبعد من الإشكال ، وقيل غير هذا ، والقاعدة تنزيهه جل وعز عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة . ويعلم ما تكسبون أي : من خير وشر ، والكسب الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر ، ولهذا لا يقال لفعل الله كسب .

قوله تعالى : وما تأتيهم من آية أي : علامة كانشقاق القمر ونحوها . و ( من ) لاستغراق الجنس ; تقول : ما في الدار من أحد . من آيات ربهم من الثانية للتبعيض . إلا كانوا عنها معرضين خبر كانوا . والإعراض ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله جل وعز من خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وأنه يرجع إلى قديم حي غني عن جميع الأشياء قادر لا يعجزه شيء عالم لا يخفى عليه شيء من المعجزات التي أقامها لنبيه صلى الله عليه وسلم ; ليستدل بها على صدقه في جميع ما أتى به .

قوله تعالى : فقد كذبوا يعني مشركي مكة . بالحق يعني القرآن ، وقيل : بمحمد صلى الله عليه وسلم . فسوف يأتيهم أي : يحل بهم العقاب ; وأراد الأنباء - وهي الأخبار - العذاب ; كقولك : اصبر وسوف يأتيك الخبر أي العذاب ; والمراد ما نالهم يوم بدر ونحوه . وقيل : يوم القيامة .
قوله تعالى : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين

قوله تعالى : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن كم في موضع نصب بأهلكنا لا بقوله ألم يروا لأن لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، وإنما يعمل فيه ما بعده ، من [ ص: 303 ] أجل أن له صدر الكلام . والمعنى : ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم ، أي ألم يعرفوا ذلك ، والقرن الأمة من الناس . والجمع القرون ; قال الشاعر :


إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم وخلفت في قرن فأنت غريب
فالقرن كله عالم في عصره مأخوذ من الاقتران ، أي : عالم مقترن به بعضهم إلى بعض ; وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خير الناس قرني - يعني أصحابي - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم هذا أصح ما قيل فيه . وقيل : المعنى من أهل قرن فحذف كقوله : واسأل القرية . فالقرن على هذا مدة من الزمان ; قيل : ستون عاما وقيل سبعون ، وقيل : ثمانون ; وقيل : مائة ; وعليه أكثر أصحاب الحديث أن القرن مائة سنة ; واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بسر : تعيش قرنا فعاش مائة سنة ; ذكره النحاس . وأصل القرن الشيء الطالع كقرن ما له قرن من الحيوان . مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم خروج من الغيبة إلى الخطاب ; عكسه حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة . وقال أهل البصرة أخبر عنهم بقوله ألم يروا وفيهم محمد عليه السلام وأصحابه ; ثم خاطبهم معهم ; والعرب تقول : قلت لعبد الله ما أكرمه : وقلت لعبد الله ما أكرمك ; ولو جاء على ما تقدم من الغيبة لقال : ما لم نمكن لهم . ويجوز مكنه ومكن له ; فجاء باللغتين جميعا ; أي : أعطيناهم ما لم نعطكم من الدنيا . وأرسلنا السماء عليهم مدرارا يريد المطر الكثير ; عبر عنه بالسماء لأنه من السماء ينزل ; ومنه قول الشاعر : ( وهو معاوية بن مالك )


إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
مدرارا بناء دال على التكثير ; كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور ; ومئناث للمرأة التي تلد الإناث ; يقال : در اللبن يدر إذا أقبل على الحالب بكثرة . وانتصب مدرارا على الحال . وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم أي : من تحت أشجارهم ومنازلهم ; ومنه قول فرعون : وهذه الأنهار تجري من تحتي والمعنى : وسعنا عليهم النعم فكفروها . [ ص: 304 ] فأهلكناهم بذنوبهم أي : بكفرهم فالذنوب سبب الانتقام وزوال النعم . وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين أي : أوجدنا ; فليحذر هؤلاء من الإهلاك أيضا .
قوله تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين

قوله تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس الآية . المعنى : ولو نزلنا يا محمد بمرأى منهم كما زعموا وطلبوا كلاما مكتوبا في قرطاس وعن ابن عباس : كتابا معلقا بين السماء والأرض ، وهذا يبين لك أن التنزيل على وجهين ; أحدهما : على معنى نزل عليك الكتاب بمعنى نزول الملك به . والآخر : ولو نزلنا كتابا في قرطاس يمسكه الله بين السماء والأرض ; وقال : نزلنا على المبالغة بطول مكث الكتاب بين السماء والأرض ، والكتاب مصدر بمعنى الكتابة ، فبين أن الكتابة في قرطاس ; لأنه غير معقول كتابة إلا في قرطاس ، أي : في صحيفة والقرطاس الصحيفة ; ويقال : قرطاس بالضم ; وقرطس فلان إذا رمى فأصاب الصحيفة الملزقة بالهدف . فلمسوه بأيديهم أي : فعاينوا ذلك ومسوه باليد كما اقترحوا وبالغوا في ميزه وتقليبه جسا بأيديهم ، ليرتفع كل ارتياب ، ويزول عنهم كل إشكال ، لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم ، وقالوا : سحر مبين إنما سكرت أبصارنا وسحرنا ; وهذه الآية جواب لقولهم : حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذبوا به . قال الكلبي : نزلت في النضر بن الحارث ، وعبد الله بن أبي أمية ، ونوفل بن خويلد ، قالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا الآية .
قوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون

[ ص: 305 ] قوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه ملك اقترحوا هذا أيضا و ( لولا ) بمعنى هلا . ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر قال ابن عباس : لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته . مجاهد وعكرمة : لقامت الساعة . قال الحسن وقتادة : لأهلكوا بعذاب الاستئصال ; لأن الله أجرى سنته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن أهلكه الله في الحال . ثم لا ينظرون أي : لا يمهلون ولا يؤخرون .

قوله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا أي : لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة ; لأن كل جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه ; فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته ، ولما أنسوا به ، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه ، ويمنعهم عن سؤاله ، فلا تعم المصلحة ; ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا : لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم . وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر ، فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين ، وأتى جبريل النبي عليهما الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي ، أي : لو أنزل ملكا لرأوه في صورة رجل كما جرت عادة الأنبياء ، ولو نزل على عادته لم يروه ; فإذا جعلناه رجلا التبس عليهم فكانوا يقولون : هذا ساحر مثلك . وقال الزجاج : المعنى وللبسنا عليهم ما يلبسون أي : على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم ، وكانوا يقولون لهم : إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم ; فأعلمهم الله عز وجل أنه لو أنزل ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللبس كما يفعلون . واللبس الخلط ; يقال : لبست عليه الأمر ألبسه لبسا أي : خلطته ; وأصله التستر بالثوب ونحوه ، وقال : لبسنا بالإضافة إلى نفسه على جهة الخلق ، وقال ما يلبسون فأضاف إليهم على جهة الاكتساب . ثم قال مؤنسا لنبيه عليه الصلاة والسلام ومعزيا : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق أي : نزل بأممهم من العذاب ما أهلكوا به جزاء استهزائهم بأنبيائهم . حاق بالشيء يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا نزل ; قال الله تعالى : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله . و ( ما ) في قوله : ما كانوا بمعنى الذي ، وقيل : بمعنى المصدر ، أي : حاق بهم عاقبة استهزائهم .
[ ص: 306 ] قوله تعالى : قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون

قوله تعالى : قل سيروا في الأرض أي : قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين المستسخرين المكذبين : سافروا في الأرض فانظروا واستخبروا لتعرفوا ما حل بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب ، وهذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم ، وأهل الديار ، والعاقبة آخر الأمر . والمكذبون هنا من كذب الحق وأهله لا من كذب بالباطل .

قوله تعالى : قل لمن ما في السماوات والأرض هذا أيضا احتجاج عليهم ; المعنى قل لهم يا محمد : لمن ما في السماوات والأرض فإن قالوا لمن هو ؟ فقل هو لله المعنى : إذا ثبت أن له ما في السماوات والأرض وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم ، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب ، ويبعثهم بعد الموت . ولكنه كتب على نفسه الرحمة أي : وعد بها فضلا منه وكرما ، فلذلك أمهل ، وذكر النفس هنا عبارة عن وجوده ، وتأكيد وعده ، وارتفاع الوسائط دونه ; ومعنى الكلام الاستعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه ، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ، ويقبل منهم الإنابة والتوبة . وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي أي : لما أظهر قضاءه وأبرزه لمن شاء أظهر كتابا في اللوح المحفوظ - أو فيما شاءه - مقتضاه خبر حق ووعد صدق إن رحمتي تغلب غضبي أي : تسبقه وتزيد عليه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10-05-2024, 11:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,320
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
من صــ 314 الى صــ 320
الحلقة (302)

قوله تعالى : ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين

قوله تعالى : ومنهم من يستمع إليك أفرد على اللفظ يعني المشركين كفار مكة . وجعلنا على قلوبهم أكنة أي : فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم . وليس المعنى أنهم لا يسمعون ولا يفقهون ، ولكن لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون ، ولا ينقادون إلى الحق كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم . والأكنة الأغطية جمع كنان مثل الأسنة والسنان ، والأعنة والعنان . كننت الشيء في كنه إذا صنته فيه . وأكننت الشيء أخفيته . والكنانة معروفة . والكنة ( بفتح الكاف والنون ) امرأة أبيك ; ويقال : امرأة الابن أو الأخ ; لأنها في كنه . أن يفقهوه أي : يفهموه وهو في موضع نصب ; المعنى كراهية أن يفهموه ، أو لئلا يفهموه . وفي آذانهم وقرا عطف عليه أي : ثقلا ; يقال منه : وقرت أذنه ( بفتح الواو ) توقر وقرا أي : صمت ، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين . وقد وقر الله أذنه يقرها وقرا ; يقال : اللهم قر أذنه . وحكى أبو زيد عن العرب : أذن موقورة على ما لم يسم فاعله ; فعلى هذا وقرت ( بضم الواو ) . وقرأ طلحة بن مصرف ( وقرا ) بكسر الواو ; أي : جعل في آذانهم ما سدها عن استماع القول على التشبيه بوقر البعير ، وهو مقدار ما يطيق أن يحمل ، والوقر الحمل ; يقال منه : نخلة موقر وموقرة إذا كانت ذات ثمر كثير . ورجل ذو قرة إذا كان وقورا بفتح الواو ; ويقال منه : وقر الرجل ( بضم القاف ) وقارا ، ووقر ( بفتح القاف ) أيضا .

قوله تعالى : وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها أخبر الله تعالى بعنادهم لأنهم لما رأوا القمر منشقا قالوا : سحر ; فأخبر الله عز وجل بردهم الآيات بغير حجة .

قوله تعالى : حتى إذا جاءوك يجادلونك مجادلتهم قولهم : تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل الله ; عن ابن عباس . يقول الذين كفروا يعني قريشا ; قال ابن عباس : قالوا [ ص: 315 ] للنضر بن الحارث : ما يقول محمد ؟ قال : أرى تحريك شفتيه وما يقول إلا أساطير الأولين ، مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان النضر صاحب قصص وأسفار ، فسمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديار فكان يحدثهم . وواحد الأساطير أسطار كأبيات وأباييت ; عن الزجاج . قال الأخفش : واحدها أسطورة كأحدوثة وأحاديث . أبو عبيدة : واحدها إسطارة . النحاس : واحدها أسطور مثل عثكول . ويقال : هو جمع أسطار ، وأسطار جمع سطر ; يقال : سطر وسطر . والسطر الشيء الممتد المؤلف كسطر الكتاب . القشيري : واحدها أسطير . وقيل : هو جمع لا واحد له كمذاكير وعباديد وأبابيل أي : ما سطره الأولون في الكتب . قال الجوهري وغيره : الأساطير الأباطيل والترهات .

قلت : أنشدني بعض أشياخي :


تطاول ليلي واعترتني وساوسي لآت أتى بالترهات الأباطيل

قوله تعالى : وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون

قوله تعالى : وهم ينهون عنه وينأون عنه النهي الزجر ، والنأي البعد ، وهو عام في جميع الكفار أي : ينهون عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وينأون عنه ; عن ابن عباس والحسن . وقيل : هو خاص بأبي طالب ينهى الكفار عن إذاية محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتباعد عن الإيمان به ; عن ابن عباس أيضا . وروى أهل السير قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى الكعبة يوما وأراد أن يصلي ، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل - لعنه الله - : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته . فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثا ودما فلطخ به وجه النبي صلى الله عليه وسلم ; فانفتل النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته ، ثم أتى أبا طالب عمه فقال : يا عم ألا ترى إلى ما فعل بي فقال أبو طالب : من فعل هذا بك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن الزبعرى ; فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم ; فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون ; فقال أبو طالب : والله لئن قام رجل جللته بسيفي فقعدوا حتى دنا إليهم ، فقال : يا بني من الفاعل بك هذا ؟ فقال : عبد الله بن [ ص: 316 ] الزبعرى ; فأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول ; فنزلت هذه الآية وهم ينهون عنه وينأون عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عم نزلت فيك آية قال : وما هي ؟ قال : تمنع قريشا أن تؤذيني وتأبى أن تؤمن بي فقال أبو طالب :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وأبشر بذاك وقر منك عيونا ودعوتني وزعمت أنك ناصحي
فلقد صدقت وكنت قبل أمينا وعرضت دينا قد عرفت بأنه
من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة
لوجدتني سمحا بذاك يقينا
فقالوا : يا رسول الله هل تنفع أبا طالب نصرته ؟ قال : نعم دفع عنه بذاك الغل ولم يقرن مع الشياطين ولم يدخل في جب الحيات والعقارب إنما عذابه في نعلين من نار في رجليه يغلي منهما دماغه في رأسه وذلك أهون أهل النار عذابا . وأنزل الله على رسوله فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل . وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه : قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة قال : لولا تعيرني قريش يقولون : إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك ; فأنزل الله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء كذا الرواية المشهورة ( الجزع ) بالجيم والزاي ومعناه الخوف . وقال أبو عبيد : ( الخرع ) بالخاء المنقوطة والراء المهملة . قال يعني الضعف والخور ، وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه . وأما عبد الله بن الزبعرى فإنه أسلم عام الفتح وحسن إسلامه ، واعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل عذره ; وكان شاعرا مجيدا ; فقال يمدح النبي صلى الله عليه وسلم ، وله في مدحه أشعار كثيرة ينسخ بها ما قد مضى في كفره ; منها قوله :


منع الرقاد بلابل وهموم والليل معتلج الرواق بهيم
مما أتاني أن أحمد لامني فيه فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها عيرانة سرح اليدين غشوم
[ ص: 317 ] إني لمعتذر إليك من الذي أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
أيام تأمرني بأغوى خطة سهم وتأمرني بها مخزوم
وأمد أسباب الردى ويقودني أمر الغواة وأمرهم مشئوم
فاليوم آمن بالنبي محمد قلبي ومخطئ هذه محروم
مضت العداوة فانقضت أسبابها وأتت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والداي كلاهما زللي فإنك راحم مرحوم
وعليك من سمة المليك علامة نور أغر وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبة برهانه شرفا وبرهان الإله عظيم
ولقد شهدت بأن دينك صادق حقا وأنك في العباد جسيم
والله يشهد أن أحمد مصطفى مستقبل في الصالحين كريم
قرم علا بنيانه من هاشم فرع تمكن في الذرى وأروم


وقيل : المعنى ينهون عنه أي : هؤلاء الذين يستمعون ينهون عن القرآن وينأون عنه . عن قتادة ; فالهاء على القولين الأولين في عنه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى قول قتادة للقرآن . وإن يهلكون إلا أنفسهم إن نافية أي : وما يهلكون إلا أنفسهم بإصرارهم على الكفر ، وحملهم أوزار الذين يصدونهم .

قوله تعالى : ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين

قوله تعالى : ولو ترى إذ وقفوا على النار أي : إذ وقفوا غدا و ( إذ ) قد تستعمل في موضع ( إذا ) و ( إذا ) في موضع ( إذ ) وما سيكون فكأنه كان ; لأن خبر الله تعالى حق وصدق ، فلهذا عبر بالماضي . ومعنى إذ وقفوا حبسوا يقال : وقفته وقفا فوقف وقوفا . وقرأ ابن السميقع ( إذ وقفوا ) بفتح الواو والقاف من الوقوف . على النار أي : هم فوقها على الصراط وهي تحتهم . وقيل : على بمعنى الباء ; أي : وقفوا بقربها وهم يعاينونها . وقال الضحاك : جمعوا ، يعني على أبوابها . ويقال : وقفوا على متن جهنم والنار تحتهم . وفي الخبر : أن الناس كلهم يوقفون على متن جهنم كأنها متن إهالة ، ثم ينادي مناد خذي أصحابك [ ص: 318 ] ودعي أصحابي . وقيل : وقفوا دخلوها - أعاذنا الله منها - فعلى بمعنى ( في ) أي : وقفوا في النار . وجواب لو محذوف ليذهب الوهم إلى كل شيء فيكون أبلغ في التخويف ; والمعنى : لو تراهم في تلك الحال لرأيت أسوأ حال ، أو لرأيت منظرا هائلا ، أو لرأيت أمرا عجبا وما كان مثل هذا التقدير .

قوله تعالى : فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بالرفع في الأفعال الثلاثة عطفا قراءة أهل المدينة والكسائي ; وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالضم . ابن عامر على رفع ( نكذب ) ونصب ( ونكون ) وكله داخل في معنى التمني ; أي : لا تمنوا الرد وألا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين . واختار سيبويه القطع في ( ولا نكذب ) فيكون غير داخل في التمني ; المعنى : ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب ; أي : لا نكذب رددنا أو لم نرد ; قال سيبويه : وهو مثل قوله دعني ولا أعود أي : لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني . واستدل أبو عمرو على خروجه من التمني بقوله : وإنهم لكاذبون لأن الكذب لا يكون في التمني إنما يكون في الخبر . وقال من جعله داخلا في التمني : المعنى وإنهم لكاذبون في الدنيا في إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسل . وقرأ حمزة وحفص بنصب ( نكذب ) و ( نكون ) جوابا للتمني ; لأنه غير واجب ، وهما داخلان في التمني على معنى أنهم تمنوا الرد وترك التكذيب والكون مع المؤمنين . قال أبو إسحاق : معنى ولا نكذب أي : إن رددنا لم نكذب . والنصب في نكذب و نكون بإضمار ( أن ) كما ينصب في جواب الاستفهام والأمر والنهي والعرض ; لأن جميعه غير واجب ولا واقع بعد ، فينصب ، الجواب مع الواو كأنه عطف على مصدر الأول ; كأنهم قالوا : يا ليتنا يكون لنا رد وانتفاء من الكذب ، وكون من المؤمنين ; فحملا على مصدر نرد لانقلاب المعنى إلى الرفع ، ولم يكن بد من إضمار ( أن ) فيه ليتم النصب في الفعلين . وقرأ ابن عامر ( ونكون ) بالنصب على جواب التمني كقولك : ليتك تصير إلينا ونكرمك ، أي : ليت مصيرك يقع وإكرامنا يقع ، وأدخل الفعلين الأولين في التمني ، أو أراد : ونحن لا نكرمك على القطع على ما تقدم ; يحتمل . وقرأ أبي ( ولا نكذب بآيات ربنا أبدا ) . وعنه وابن مسعود ( يا ليتنا نرد فلا نكذب ) بالفاء والنصب ، والفاء ينصب بها في الجواب كما ينصب بالواو ; عن الزجاج . وأكثر البصريين لا يجيزون الجواب إلا بالفاء .

[ ص: 319 ] قوله تعالى : بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون

قوله تعالى : بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل بل إضراب عن تمنيهم وادعائهم الإيمان لو ردوا واختلفوا في معنى بدا لهم على أقوال بعد تعيين من المراد ; فقيل : المراد المنافقون لأن اسم الكفر مشتمل عليهم ، فعاد الضمير على بعض المذكورين ; قال النحاس : وهذا من الكلام العذب الفصيح . وقيل : المراد الكفار وكانوا إذا وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يفطن بهم ضعفاؤهم ، فيظهر يوم القيامة ; ولهذا قال الحسن : بدا لهم أي : بدا لبعضهم ما كان يخفيه عن بعض . وقيل : بل ظهر لهم ما كانوا يجحدونه من الشرك فيقولون : والله ربنا ما كنا مشركين فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل . قال أبو روق . وقيل : بدا لهم ما كانوا يكتمونه من الكفر ; أي : بدت أعمالهم السيئة كما قال : وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون . قال المبرد : بدا لهم جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه . وقيل : المعنى بل ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفون عنهم من أمر البعث والقيامة ; لأن بعده وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين .

قوله تعالى : ولو ردوا قيل : بعد معاينة العذاب . وقيل : قبل معاينته . لعادوا لما نهوا عنه أي : لصاروا ورجعوا إلى ما نهوا عنه من الشرك لعلم الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون ، وقد عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند . قوله تعالى : ( وإنهم لكاذبون ) إخبار عنهم ، وحكاية عن الحال التي كانوا عليها في الدنيا من تكذيبهم الرسل ، وإنكارهم البعث ; كما قال : وإن ربك ليحكم بينهم فجعله حكاية عن الحال الآتية . وقيل : المعنى وإنهم لكاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون ويكونون من المؤمنين . وقرأ يحيى بن وثاب ( ولو ردوا ) بكسر الراء ; لأن الأصل رددوا فنقلت كسرة الدال على الراء .

قوله تعالى : وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين

[ ص: 320 ] قوله تعالى : وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا ابتداء وخبر و ( إن ) نافية . وما نحن نحن اسم ما و ( بمبعوثين ) خبرها ; وهذا ابتداء إخبار عنهم عما قالوه في الدنيا . قال ابن زيد : هو داخل في قوله : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا أي : لعادوا إلى الكفر ، واشتغلوا بلذة الحال . وهذا يحمل على المعاند كما بيناه في حال إبليس ، أو على أن الله يلبس عليهم بعد ما عرفوا ، وهذا شائع في العقل .

قوله تعالى : ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون

قوله تعالى : ولو ترى إذ وقفوا على ربهم وقفوا أي : حبسوا على ربهم أي : على ما يكون من أمر الله فيهم . وقيل : على بمعنى ( عند ) أي : عند ملائكته وجزائه ; وحيث لا سلطان فيه لغير الله عز وجل ; تقول : وقفت على فلان أي : عنده ; وجواب لو محذوف لعظم شأن الوقوف . قال أليس هذا بالحق تقرير وتوبيخ أي أليس هذا البعث كائنا موجودا ؟ قالوا بلى ويؤكدون اعترافهم بالقسم بقولهم : وربنا . وقيل : إن الملائكة تقول لهم بأمر الله أليس هذا البعث وهذا العذاب حقا ؟ فيقولون : بلى وربنا إنه حق . قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 10-05-2024, 11:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,320
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
من صــ 321 الى صــ 327
الحلقة (303)

قوله تعالى : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون

قوله تعالى : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله قيل : بالبعث بعد الموت وبالجزاء ; دليله قوله عليه السلام : من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان أي : لقي جزاءه ; لأن من غضب عليه لا يرى الله عند مثبتي الرؤية ، ذهب إلى هذا القفال وغيره ; قال القشيري : وهذا ليس بشيء ; لأن حمل اللقاء في موضع على الجزاء [ ص: 321 ] لدليل قائم لا يوجب هذا التأويل في كل موضع ، فليحمل اللقاء على ظاهره في هذه الآية ; والكفار كانوا ينكرون الصانع ، ومنكر الرؤية منكر للوجود !

قوله تعالى : حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة سميت القيامة بالساعة لسرعة الحساب فيها . ومعنى بغتة فجأة ; يقال : بغتهم الأمر يبغتهم بغتا وبغتة . وهي نصب على الحال ، وهي عند سيبويه مصدر في موضع الحال ، كما تقول : قتلته صبرا ، وأنشد ( هو للشاعر زهير بن أبي سلمى ) :


فلأيا بلأي ما حملنا وليدنا على ظهر محبوك ظماء مفاصله
ولا يجيز سيبويه أن يقاس عليه ; لا يقال : جاء فلان سرعة .

قوله تعالى : قالوا يا حسرتنا وقع النداء على الحسرة وليست بمنادى في الحقيقة ، ولكنه يدل على كثرة التحسر ، ومثله يا للعجب ويا للرخاء وليسا بمناديين في الحقيقة ، ولكنه يدل على كثرة التعجب والرخاء . قال سيبويه : كأنه قال يا عجب تعال فهذا زمن إتيانك ، وكذلك قولك يا حسرتي أي : يا حسرتا تعالي فهذا وقتك ، وكذلك ما لا يصح نداؤه يجري هذا المجرى ، فهذا أبلغ من قولك تعجبت . ومنه قول الشاعر ( هو امرؤ القيس ) :


ويوم عقرت للعذارى مطيتي فيا عجبا من رحلها المتحمل
وقيل : هو تنبيه للناس على عظيم ما يحل بهم من الحسرة ; أي : يا أيها الناس تنبهوا على عظيم ما بي من الحسرة ، فوقع النداء على غير المنادى حقيقة ، كقولك : لا أرينك هاهنا . فيقع النهي على غير المنهي في الحقيقة .

قوله تعالى : على ما فرطنا فيها أي : في الساعة ، أي : في التقدمة لها ; عن الحسن . و فرطنا معناه ضيعنا وأصله التقدم ; يقال : فرط فلان أي : تقدم وسبق إلى الماء ، ومنه أنا فرطكم على الحوض . ومنه الفارط أي المتقدم للماء ، ومنه - في الدعاء للصبي - اللهم اجعله فرطا لأبويه ; فقولهم : فرطنا أي : قدمنا العجز . وقيل : فرطنا أي : جعلنا غيرنا الفارط السابق لنا إلى طاعة الله وتخلفنا . فيها أي : في الدنيا بترك العمل للساعة . وقال [ ص: 322 ] الطبري : ( الهاء ) راجعة إلى الصفقة ، وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر ، والآخرة بالدنيا ، قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها أي : في الصفقة ، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها ; لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع ; دليله قوله : فما ربحت تجارتهم . وقال السدي : على ما ضيعنا أي : من عمل الجنة . وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال : يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون : يا حسرتنا .

قوله تعالى : فيها وهم يحملون أوزارهم أي : ذنوبهم جمع وزر على ظهورهم مجاز وتوسع وتشبيه بمن يحمل ثقلا ; يقال منه : وزر يزر ، ووزر يوزر فهو وازر وموزور ; وأصله من الوزر وهو الجبل . ومنه الحديث في النساء اللواتي خرجن في جنازة ارجعن موزورات غير مأجورات قال أبو عبيد : والعامة تقول : ( مأزورات ) كأنه لا وجه له عنده ; لأنه من الوزر . قال أبو عبيد : ويقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع احمل وزرك أي : ثقلك . ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية : والمعنى أنهم لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها . ألا ساء ما يزرون أي : ما أسوأ الشيء الذي يحملونه .

قوله تعالى : وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو أي : لقصر مدتها كما قال :


ألا إنما الدنيا كأحلام نائم وما خير عيش لا يكون بدائم تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة
فأفنيتها هل أنت إلا كحالم
وقال آخر :


فاعمل على مهل فإنك ميت واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكان ما قد كان لم يك إذ مضى وكان ما هو كائن قد كانا
وقيل : المعنى : متاع الحياة الدنيا لعب ولهو ; أي الذي يشتهوه في الدنيا لا عاقبة له ، [ ص: 323 ] فهو بمنزلة اللعب واللهو . ونظر سليمان بن عبد الله في المرآة فقال : أنا الملك الشاب ; فقالت له جارية له :


أنت نعم المتاع لو كنت تبقى غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما بدا لنا منك عيب كان في الناس غير أنك فاني
وقيل : معنى لعب ولهو باطل وغرور ، كما قال : وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور فالمقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم : إن هي إلا حياتنا الدنيا واللعب معروف ، والتلعابة الكثير اللعب ، والملعب مكان اللعب ; يقال : لعب يلعب . واللهو أيضا معروف ، وكل ما شغلك فقد ألهاك ، ولهوت من اللهو ، وقيل : أصله الصرف عن الشيء ; من قولهم : لهيت عنه ; قال المهدوي : وفيه بعد ; لأن الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم : لهيان ، ولام الأول واو .

الثانية : ليس من اللهو واللعب ما كان من أمور الآخرة ، فإن حقيقة اللعب ما لا ينتفع به واللهو ما يلتهى به ، وما كان مرادا للآخرة خارج عنهما ; وذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي : الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار نجاة لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها . وقال محمود الوراق :


لا تتبع الدنيا وأيامها ذما وإن دارت بك الدائرة
من شرف الدنيا ومن فضلها أن بها تستدرك الآخرة
وروى أبو عمر بن عبد البر عن أبي سعيد الخدري ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله أو أدى إلى ذكر الله والعالم والمتعلم شريكان في الأجر وسائر الناس همج لا خير فيه وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة وقال : حديث حسن غريب . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها . وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء . وقال الشاعر :


تسمع من الأيام إن كنت حازما فإنك منها بين ناه وآمر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فات من شيء فليس بضائر
[ ص: 324 ] ولن تعدل الدنيا جناح بعوضة ولا وزن زف من جناح لطائر
فما رضي الدنيا ثوابا لمؤمن ولا رضي الدنيا جزاء لكافر
وقال ابن عباس : هذه حياة الكافر لأنه يزجيها في غرور وباطل ، فأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة ، فلا تكون لهوا ولعبا .

قوله تعالى : وللدار الآخرة خير أي الجنة لبقائها ; وسميت آخرة لتأخرها عنا ، والدنيا لدنوها منا .

وقرأ ابن عامر ( ولدار الآخرة ) بلام واحدة ; والإضافة على تقدير حذف المضاف وإقامة الصفة مقامه ، التقدير : ولدار الحياة الآخرة . وعلى قراءة الجمهور وللدار الآخرة اللام لام الابتداء ، ورفع الدار بالابتداء ، وجعل الآخرة نعتا لها والخبر خير للذين يقويه تلك الدار الآخرة وإن الدار الآخرة لهي الحيوان . فأتت الآخرة صفة للدار فيهما . للذين يتقون أي الشرك . أفلا تعقلون قرئ بالياء والتاء ; أي : أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدنيا . والله أعلم .

قوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين

قوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون كسرت إن لدخول اللام . قال أبو ميسرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأبي جهل وأصحابه فقالوا : يا محمد ، والله ما نكذبك وإنك عندنا لصادق ، ولكن نكذب ما جئت به ; فنزلت هذه الآية فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ثم آنسه بقوله : ولقد كذبت رسل من قبلك الآية . وقرئ " يكذبونك " مخففا ومشددا ; وقيل : هما بمعنى واحد كحزنته وأحزنته ; واختار أبو عبيد قراءة التخفيف ، وهي قراءة علي رضي الله عنه ; وروي عنه أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك ولكن [ ص: 325 ] نكذب ما جئت به ; فأنزل الله عز وجل فإنهم لا يكذبونك . قال النحاس : وقد خولف أبو عبيد في هذا . وروي : لا نكذبك . فأنزل الله عز وجل : لا يكذبونك . ويقوي هذا أن رجلا قرأ على ابن عباس " فإنهم لا يكذبونك " مخففا فقال له ابن عباس : فإنهم لا يكذبونك لأنهم كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم الأمين . ومعنى يكذبونك عند أهل اللغة ينسبونك إلى الكذب ، ويردون عليك ما قلت . ومعنى " لا يكذبونك " أي : لا يجدونك تأتي بالكذب ; كما تقول : أكذبته وجدته كذابا ; وأبخلته وجدته بخيلا ، أي : لا يجدونك كذابا إن تدبروا ما جئت به . ويجوز أن يكون المعنى : لا يثبتون عليك أنك كاذب ; لأنه يقال : أكذبته إذا احتججت عليه وبينت أنه كاذب . وعلى التشديد : لا يكذبونك بحجة ولا برهان ; ودل على هذا ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون . قال النحاس : والقول في هذا مذهب أبي عبيد ، واحتجاجه لازم ; لأن عليا كرم الله وجهه هو الذي روى الحديث ، وقد صح عنه أنه قرأ بالتخفيف ; وحكى الكسائي عن العرب : أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه ، وكذبته إذا أخبرته أنه كاذب ; وكذلك قال الزجاج : كذبته إذا قلت له كذبت ، وأكذبته إذا أردت أن ما أتى به كذب .

قوله تعالى : فصبروا على ما كذبوا أي : فاصبر كما صبروا . وأوذوا حتى أتاهم نصرنا أي : عوننا ، أي : فسيأتيك ما وعدت به . ولا مبدل لكلمات الله مبين لذلك النصر ; أي : ما وعد الله عز وجل به فلا يقدر أحد أن يدفعه ; لا ناقض لحكمه ، ولا خلف لوعده ; و لكل أجل كتاب ، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي . ولقد جاءك من نبإ المرسلين فاعل جاءك مضمر ; المعنى : جاءك من نبإ المرسلين نبأ .

قوله تعالى : وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين

قوله تعالى : وإن كان كبر عليك إعراضهم أي : عظم عليك إعراضهم وتوليهم عن الإيمان . فإن استطعت قدرت أن ( تبتغي ) تطلب نفقا في الأرض أي : سربا تخلص [ ص: 326 ] منه إلى مكان آخر ، ومنه النافقاء لجحر اليربوع ، وقد تقدم في " البقرة " بيانه ، ومنه المنافق . وقد تقدم . أو سلما معطوف عليه ، أي : سببا إلى السماء ; وهذا تمثيل ; لأن السلم الذي يرتقى عليه سبب إلى الموضع ، وهو مذكر ، ولا يعرف ما حكاه الفراء من تأنيث العلم . قال قتادة : السلم الدرج . الزجاج : وهو مشتق من السلامة كأنه يسلمك إلى الموضع الذي تريد . فتأتيهم بآية عطف عليه أي : ليؤمنوا فافعل ; فأضمر الجواب لعلم السامع . أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يشتد حزنه عليهم إذا كانوا لا يؤمنون ; كما أنه لا يستطيع هداهم . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى أي : لخلقهم مؤمنين وطبعهم عليه ; بين تعالى أن كفرهم بمشيئة الله رد على القدرية . وقيل المعنى : أي : لأراهم آية تضطرهم إلى الإيمان ، ولكنه أراد عز وجل أن يثيب منهم من آمن ومن أحسن . فلا تكونن من الجاهلين أي : من الذين اشتد حزنهم وتحسروا حتى أخرجهم ذلك إلى الجزع الشديد ، وإلى ما لا يحل ; أي : لا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين . وقيل : الخطاب له والمراد الأمة ; فإن قلوب المسلمين كانت تضيق من كفرهم وإذايتهم .

قوله تعالى : إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون

قوله تعالى : إنما يستجيب الذين يسمعون أي : سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق ، وهم المؤمنون الذين يقبلون ما يسمعون فينتفعون به ويعملون ; قال معناه الحسن ومجاهد ، وتم الكلام . ثم قال : والموتى يبعثهم الله وهم الكفار ; عن الحسن ومجاهد ; أي : هم بمنزلة الموتى في أنهم لا يقبلون ولا يصغون إلى حجة . وقيل : الموتى كل من مات . يبعثهم الله أي : للحساب ; وعلى الأول بعثهم هدايتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم . وعن الحسن : هو بعثهم من شركهم حتى يؤمنوا بك يا محمد - يعني عند حضور الموت - في حال الإلجاء في الدنيا .

قوله تعالى : وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قال الحسن : لولا هاهنا بمعنى هلا ; وقال الشاعر ( هو الفرزدق ) :

[ ص: 327 ]
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
وكان هذا منهم تعنتا بعد ظهور البراهين ; وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله ، لما فيه من الوصف وعلم الغيوب ولكن أكثرهم لا يعلمون أي : لا يعلمون أن الله عز وجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده ; وكان في علم الله أن يخرج من أصلابهم أقواما يؤمنون به ولم يرد استئصالهم . وقيل : ولكن أكثرهم لا يعلمون أن الله قادر على إنزالها . الزجاج : طلبوا أن يجمعهم على الهدى أي : جمع إلجاء .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 11-05-2024, 12:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,320
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
من صــ 328 الى صــ 334
الحلقة (304)

قوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون

قوله تعالى : وما من دابة في الأرض تقدم معنى الدابة والقول فيه في " البقرة " وأصله الصفة ; من دب يدب فهو داب إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو . ولا طائر يطير بجناحيه بخفض طائر عطفا على اللفظ .

وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق ( ولا طائر ) بالرفع عطفا على الموضع ، و ( من ) زائدة ، التقدير : وما من دابة . ( بجناحيه ) تأكيد وإزالة للإبهام ; فإن العرب تستعمل الطيران لغير الطائر ; تقول للرجل : طر في حاجتي ; أي : أسرع ; فذكر بجناحيه ليتمحض القول في الطير ، وهو في غيره مجاز . وقيل : إن اعتدال جسد الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران ، ولو كان غير معتدل لكان يميل ; فأعلمنا أن الطيران بالجناحين و ما يمسكهن إلا الله . والجناح أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء ، وأصله الميل إلى ناحية من النواحي ; ومنه جنحت السفينة إذا مالت إلى ناحية الأرض لاصقة بها فوقفت . وطائر الإنسان عمله ; وفي التنزيل وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه . إلا أمم أمثالكم أي : هم جماعات مثلكم في أن الله عز وجل خلقهم ، وتكفل بأرزاقهم ، وعدل عليهم ، فلا ينبغي أن [ ص: 328 ] تظلموهم ، ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به . و ( دابة ) تقع على جميع ما دب ; وخص بالذكر ما في الأرض دون السماء لأنه الذي يعرفونه ويعاينونه . وقيل : هي أمثال لنا في التسبيح والدلالة ; والمعنى : وما من دابة ولا طائر إلا وهو يسبح الله تعالى ، ويدل على وحدانيته لو تأمل الكفار . وقال أبو هريرة : هي أمثال لنا على معنى أنه يحشر البهائم غدا ويقتص للجماء من القرناء ، ثم يقول الله لها : كوني ترابا . وهذا اختيار الزجاج فإنه قال : إلا أمم أمثالكم في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص ، وقد دخل فيه معنى القول الأول أيضا . وقال سفيان بن عيينة : أي : ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه ; فمنهم من يعدو كالأسد ، ومنهم من يشره كالخنزير ، ومنهم من يعوي كالكلب ، ومنهم من يزهو كالطاوس ; فهذا معنى المماثلة . واستحسن الخطابي هذا وقال : فإنك تعاشر البهائم والسباع فخذ حذرك . وقال مجاهد في قوله عز وجل : إلا أمم أمثالكم قال أصناف لهن أسماء تعرف بها كما تعرفون . وقيل غير هذا مما لا يصح من أنها مثلنا في المعرفة ، وأنها تحشر وتنعم في الجنة ، وتعوض من الآلام التي حلت بها في الدنيا وأن أهل الجنة يستأنسون بصورهم ; والصحيح إلا أمم أمثالكم في كونها مخلوقة دالة على الصانع محتاجة إليه مرزوقة من جهته ، كما أن رزقكم على الله . وقول سفيان أيضا حسن ; فإنه تشبيه واقع في الوجود .

قوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء أي : في اللوح المحفوظ فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث . وقيل : أي : في القرآن أي : ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن ; إما دلالة مبينة مشروحة ، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول عليه الصلاة والسلام ، أو من الإجماع ، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب ; قال الله تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وقال : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وقال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فأجمل في هذه الآية وآية ( النحل ) ما لم ينص عليه مما لم يذكره ، فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شيء إلا ذكره ، إما تفصيلا وإما تأصيلا ; وقال : اليوم أكملت لكم دينكم .

قوله تعالى : ثم إلى ربهم يحشرون أي : للجزاء ، كما سبق في خبر أبي هريرة ، وفي صحيح مسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة [ ص: 329 ] الجلحاء من الشاة القرناء . ودل بهذا على أن البهائم تحشر يوم القيامة ; وهذا قول أبي ذر ، وأبي هريرة ، والحسن وغيرهم ; وروي عن ابن عباس ; قال ابن عباس في رواية : حشر الدواب والطير موتها ; وقال الضحاك ; والأول أصح لظاهر الآية والخبر الصحيح ; وفي التنزيل وإذا الوحوش حشرت وقول أبي هريرة فيما روى جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصم ، عنه : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة ، البهائم والدواب والطير وكل شيء ; فيبلغ من عدل الله تعالى يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول : ( كوني ترابا ) فذلك قوله تعالى : ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا . وقال عطاء : فإذا رأوا بني آدم وما هم عليه من الجزع قلن : الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم ، فلا جنة نرجو ولا نار نخاف ; فيقول الله تعالى لهن : ( كن ترابا ) فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون ترابا . وقالت جماعة : هذا الحشر الذي في الآية يرجع إلى الكفار وما تخلل كلام معترض وإقامة حجج ; وأما الحديث فالمقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص والاعتناء فيه حتى يفهم منه أنه لا بد لكل أحد منه ، وأنه لا محيص له عنه ; وعضدوا هذا بما في الحديث في غير الصحيح عن بعض رواته من الزيادة فقال : حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء ، وللحجر لما ركب على الحجر ، وللعود لما خدش العود ; قالوا : فظهر من هذا أن المقصود منه التمثيل المفيد للاعتبار والتهويل ، لأن الجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها ، ولم يصر إليه أحد من العقلاء ، ومتخيله من جملة المعتوهين الأغبياء ; قالوا : ولأن القلم لا يجري عليهم فلا يجوز أن يؤاخذوا .

قلت : الصحيح القول الأول لما ذكرناه من حديث أبي هريرة ، وإن كان القلم لا يجري عليهم في الأحكام ولكن فيما بينهم يؤاخذون به ; وروي عن أبي ذر قال : انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا ذر ، هل تدري فيما انتطحتا ؟ قلت : لا . قال : لكن الله تعالى يدري وسيقضي بينهما وهذا نص ، وقد زدناه بيانا في كتاب ( التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ) . والله أعلم .

قوله تعالى : [ ص: 330 ] والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون

قوله تعالى : والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم ابتداء وخبر ، أي : عدموا الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم ; فكل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها والكفار لا يهتدون . وقد تقدم في البقرة . في الظلمات أي : ظلمات الكفر . وقال أبو علي : يجوز أن يكون المعنى صم وبكم في الآخرة ; فيكون حقيقة دون مجاز اللغة . من يشأ الله يضلله دل على أنه شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله . ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم أي : على دين الإسلام لينفذ فيه فضله . وفيه إبطال لمذهب القدرية . والمشيئة راجعة إلى الذين كذبوا ، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه .

قوله تعالى : قل أرأيتكم وقرأ نافع بتخفيف الهمزتين ، يلقي حركة الأولى على ما قبلها ، ويأتي بالثانية بين بين . وحكى أبو عبيد عنه أنه يسقط الهمزة ويعوض منها ألفا . قال النحاس : وهذا عند أهل العربية غلط عليه ; لأن الياء ساكنة والألف ساكنة ولا يجتمع ساكنان . قال مكي : وقد روي عن ورش أنه أبدل من الهمزة ألفا ; لأن الرواية عنه أنه يمد الثانية ، والمد لا يتمكن إلا مع البدل ، والبدل فرع من الأصول ، والأصل أن تجعل الهمزة بين الهمزة المفتوحة والألف ; وعليه كل من خفف الثانية غير ورش ; وحسن جواز البدل في الهمزة وبعدها ساكن لأن الأول حرف مد ولين ، فالمد الذي يحدث مع الساكن يقوم مقام حركة يوصل بها إلى النطق بالساكن الثاني .

وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة ( أرأيتكم ) بتحقيق الهمزتين وأتوا بالكلمة على أصلها ، والأصل الهمز ; لأن همزة الاستفهام دخلت على ( رأيت ) فالهمزة عين الفعل ، والياء ساكنة لاتصال المضمر المرفوع بها .

وقرأ عيسى بن عمر والكسائي ( أريتكم ) بحذف الهمزة الثانية . قال النحاس : وهذا بعيد في العربية ، وإنما يجوز في الشعر ; والعرب تقول : أرأيتك زيدا ما شأنه . ومذهب البصريين أن الكاف والميم للخطاب ، لا حظ لهما في الإعراب ; وهو اختيار الزجاج . ومذهب الكسائي والفراء وغيرهما أن الكاف والميم نصب بوقوع الرؤية عليهما ، والمعنى أرأيتم أنفسكم ; فإذا [ ص: 331 ] كانت للخطاب - زائدة للتأكيد - كان ( إن ) من قوله إن أتاكم في موضع نصب على المفعول لرأيت ، وإذا كان اسما في موضع نصب ف إن في موضع المفعول الثاني ; فالأول من رؤية العين لتعديها لمفعول واحد ، وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين . وقوله : أو أتتكم الساعة المعنى : أو أتتكم الساعة التي تبعثون فيها . ثم قال : أغير الله تدعون إن كنتم صادقين والآية في محاجة المشركين ممن اعترف أن له صانعا ; أي : أنتم عند الشدائد ترجعون إلى الله ، وسترجعون إليه يوم القيامة أيضا فلم تصرون على الشرك في حال الرفاهية ؟ ! وكانوا يعبدون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب .

قوله تعالى : بل إياه تدعون بل إضراب عن الأول وإيجاب للثاني . ( إياه ) نصب . ب تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء أي : يكشف الضر الذي تدعون إلى كشفه إن شاء كشفه . وتنسون ما تشركون قيل : عند نزول العذاب . وقال الحسن : أي : تعرضون عنه إعراض الناسي ، وذلك لليأس من النجاة من قبله إذ لا ضرر فيه ولا نفع . وقال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى وتتركون . قال النحاس : مثل قوله : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي .

قوله تعالى : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون .

قوله تعالى : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه إضمار ; أي : أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا وفيه إضمار آخر يدل عليه الظاهر ; تقديره : فكذبوا فأخذناهم وهذه الآية متصلة بما قبل اتصال الحال بحال قريبة منها ; وذلك أن هؤلاء سلكوا في مخالفة نبيهم مسلك من كان قبلهم في مخالفة أنبيائهم ، فكانوا بعرض أن ينزل بهم من البلاء ما نزل بمن كان قبلهم . بالبأساء بالمصائب في الأموال والضراء في الأبدان ; هذا قول الأكثر ، وقد يوضع كل واحد منهما موضع الآخر ; ويؤدب الله عباده بالبأساء والضراء وبما شاء لا يسأل عما يفعل . قال ابن عطية : استدل العباد في تأديب أنفسهم بالبأساء في تفريق الأموال ، والضراء في الحمل على الأبدان بالجوع والعري بهذه الآية .

قلت : هذه جهالة ممن فعلها وجعل هذه الآية أصلا لها ; هذه عقوبة من الله لمن شاء من عباده يمتحنهم بها ، ولا يجوز لنا أن نمتحن أنفسنا ونكافئها قياسا عليها ; فإنها المطية التي [ ص: 332 ] نبلغ عليها دار الكرامة ، ونفوز بها من أهوال يوم القيامة ; وفي التنزيل : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وقال : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم فأمر المؤمنين بما خاطب به المرسلين ; وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون الطيبات ويلبسون أحسن الثياب ويتجملون بها ; وكذلك التابعون بعدهم إلى هلم جرا ، على ما تقدم بيانه في " المائدة " وسيأتي في " الأعراف " من حكم اللباس وغيره ، ولو كان كما زعموا واستدلوا لما كان في امتنان الله تعالى بالزروع والجنات وجميع الثمار والنبات والأنعام التي سخرها وأباح لنا أكلها وشرب ألبانها والدفء بأصوافها - إلى غير ذلك مما امتن به - كبير فائدة ، فلو كان ما ذهبوا إليه فيه الفضل لكان أولى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم من التابعين والعلماء ، وقد تقدم في آخر " البقرة " بيان فضل المال ومنفعته ، والرد على من أبى من جمعه ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال مخافة الضعف على الأبدان ، ونهى عن إضاعة المال ردا على الأغنياء الجهال .

قوله تعالى : لعلهم يتضرعون أي : يدعون ويذلون ، مأخوذ من الضراعة وهي الذلة ; يقال : ضرع فهو ضارع .

قوله : فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين .

قوله تعالى : فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا لولا تحضيض ، وهي التي تلي الفعل بمعنى هلا ; وهذا عتاب على ترك الدعاء ، وإخبار عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب . ويجوز أن يكونوا تضرعوا تضرع من لم يخلص ، أو تضرعوا حين لابسهم العذاب ، والتضرع على هذه الوجوه غير نافع . والدعاء مأمور به حال الرخاء والشدة ; قال الله تعالى : ادعوني أستجب لكم وقال : إن الذين يستكبرون عن عبادتي أي : دعائي سيدخلون جهنم داخرين [ ص: 333 ] وهذا وعيد شديد . ولكن قست قلوبهم أي : صلبت وغلظت ، وهي عبارة عن الكفر والإصرار على المعصية ، نسأل الله العافية . وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون أي : أغواهم بالمعاصي وحملهم عليها .

قوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به يقال : لم ذموا على النسيان وليس من فعلهم ؟ فالجواب : أن نسوا بمعنى تركوا ما ذكروا به ، عن ابن عباس وابن جريج ، وهو قول أبي علي ; وذلك لأن التارك للشيء إعراضا عنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي ، كما يقال : تركه . في النسي .

جواب آخر : وهو أنهم تعرضوا للنسيان فجاز الذم لذلك ; كما جاز الذم على التعرض لسخط الله عز وجل وعقابه . فتحنا عليهم أبواب كل شيء أي : من النعم والخيرات ، أي : كثرنا لهم ذلك . والتقدير عند أهل العربية : فتحنا عليهم أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم . حتى إذا فرحوا بما أوتوا معناه بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا أن ذلك العطاء لا يبيد ، وأنه دال على رضاء الله عز وجل عنهم أخذناهم بغتة أي استأصلناهم وسطونا بهم . و ( بغتة ) معناه فجأة ، وهي الأخذ على غرة ومن غير تقدم أمارة ; فإذا أخذ الإنسان وهو غار غافل فقد أخذ بغتة ، وأنكى شيء ما يفجأ من البغت . وقد قيل : إن التذكير الذي سلف - فأعرضوا عنه - قام مقام الإمارة . والله أعلم . و ( بغتة ) مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه عند سيبويه كما تقدم ; فكان ذلك استدراجا من الله تعالى كما قال : وأملي لهم إن كيدي متين نعوذ بالله من سخطه ومكره . قال بعض العلماء : رحم الله عبدا تدبر هذه الآية حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة . وقال محمد بن النضر الحارثي : أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة . وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم ثم تلا ( فلما نسوا ما ذكروا به ) الآية كلها . وقال الحسن : والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله ، وعجز رأيه . وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها إلا كان قد نقص عمله ، وعجز رأيه . وفي الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى صلى الله عليه وسلم : إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنى مقبلا إليك فقل : ذنب عجلت عقوبته .

قوله تعالى : فإذا هم مبلسون المبلس الباهت الحزين الآيس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال ; قال العجاج :

[ ص: 334 ]
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه وأبلسا
أي : تحير لهول ما رأى ، ومن ذلك اشتق اسم إبليس ; أبلس الرجل سكت ، وأبلست الناقة وهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة ; ضبعت الناقة تضبع ضبعة وضبعا إذا أرادت الفحل .

قوله تعالى : فقطع دابر القوم الذين ظلموا الدابر الآخر ; يقال : دبر القوم يدبرهم دبرا إذا كان آخرهم في المجيء . وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود " من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبريا " أي : في آخر الوقت ; والمعنى هنا قطع خلفهم من نسلهم وغيرهم فلم تبق لهم باقية . قال قطرب : يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا . قال أمية بن أبي الصلت :


فأهلكوا بعذاب حص دابرهم فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا
ومنه التدبير لأنه إحكام عواقب الأمور . والحمد لله رب العالمين قيل : على إهلاكهم وقيل : تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه . وتضمنت هذه الآية الحجة على وجوب ترك الظلم ; لما يعقب من قطع الدابر ، إلى العذاب الدائم ، مع استحقاق القاطع الحمد من كل حامد .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 11-05-2024, 12:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,320
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
من صــ 335 الى صــ 341
الحلقة (305)


قوله تعالى : قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون

قوله تعالى : قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم أي : أذهب وانتزع . ووحد سمعكم لأنه مصدر يدل على الجمع . وختم أي : طبع . وقد تقدم في البقرة وجواب إن محذوف تقديره : فمن يأتيكم به ، وموضعه نصب ; لأنها في موضع الحال ، كقولك : اضربه إن خرج أي : خارجا . ثم قيل : المراد المعاني القائمة بهذه الجوارح ، وقد يذهب الله [ ص: 335 ] الجوارح والأعراض جميعا فلا يبقي شيئا ، قال الله تعالى : من قبل أن نطمس وجوها والآية احتجاج على الكفار . من إله غير الله يأتيكم به من رفع بالابتداء وخبرها إله و " غيره " صفة له ، وكذلك يأتيكم موضعه رفع بأنه صفة إله ومخرجها مخرج الاستفهام ، والجملة التي هي منها في موضع مفعولي رأيتم . ومعنى أرأيتم علمتم ; ووحد الضمير في به - وقد تقدم الذكر بالجمع - لأن المعنى أي : بالمأخوذ ، فالهاء راجعة إلى المذكور . وقيل : على السمع بالتصريح ; مثل قوله : والله ورسوله أحق أن يرضوه . ودخلت الأبصار والقلوب بدلالة التضمين . وقيل : من إله غير الله يأتيكم . بأحد هذه المذكورات . وقيل : على الهدى الذي تضمنه المعنى .

وقرأ عبد الرحمن الأعرج ( به انظر ) بضم الهاء على الأصل ; لأن الأصل أن تكون الهاء مضمومة كما تقول : جئت معه . قال النقاش : في هذه الآية دليل على تفضيل السمع على البصر لتقدمته هنا وفي غير آية ، وقد مضى هذا في أول " البقرة " مستوفى . وتصريف الآيات الإتيان بها من جهات ; من إعذار وإنذار وترغيب وترهيب ونحو ذلك . ثم هم يصدفون أي : يعرضون . عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي ; يقال : صدف عن الشيء إذا أعرض عنه صدفا وصدوفا فهو صادف . وصادفته مصادفة أي : لقيته عن إعراض عن جهته ; قال ابن الرقاع :


إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه وهن عن كل سوء يتقى صدف
والصدف في البعير أن يميل خفه من اليد أو الرجل إلى الجانب الوحشي ; فهم يصدفون أي : مائلون معرضون عن الحجج والدلالات .

قوله تعالى : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة قال الحسن : بغتة ليلا أو جهرة نهارا . وقيل : بغتة فجأة . وقال الكسائي : يقال بغتهم الأمر يبغتهم بغتا وبغتة إذا أتاهم فجأة . وقد تقدم ( هل يهلك إلا القوم الظالمون ) نظيره فهل يهلك إلا القوم الفاسقون أي : هل يهلك إلا أنتم لشرككم ، والظلم هنا بمعنى الشرك ، كما قال لقمان لابنه : يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم


[ ص: 336 ] قوله تعالى : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

قوله تعالى : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين أي : بالترغيب والترهيب . قال الحسن : مبشرين بسعة الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة ; يدل على ذلك قوله تعالى : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض . ومعنى منذرين مخوفين عقاب الله ; فالمعنى : إنما أرسلنا المرسلين لهذا لا لما يقترح عليهم من الآيات ، وإنما يأتون من الآيات بما تظهر معه براهينهم وصدقهم . فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون تقدم القول فيه .

قوله تعالى : والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون قوله تعالى : والذين كذبوا بآياتنا أي : بالقرآن والمعجزات . وقيل : بمحمد عليه الصلاة والسلام . يمسهم العذاب أي : يصيبهم بما كانوا يفسقون أي : يكفرون .

قوله تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون .

قوله تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله هذا جواب لقولهم : لولا نزل عليه آية من ربه ، فالمعنى ليس عندي خزائن قدرته فأنزل ما اقترحتموه من الآيات ، ولا أعلم الغيب فأخبركم به . والخزانة ما يخزن فيه الشيء ; ومنه الحديث فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته . وخزائن الله مقدوراته ; أي : لا أملك أن أفعل كل ما أريد مما تقترحون ولا أعلم الغيب أيضا ولا أقول لكم إني ملك وكان القوم يتوهمون أن الملائكة أفضل ، أي : لست بملك فأشاهد من أمور الله ما لا [ ص: 337 ] يشهده البشر . واستدل بهذا القائلون بأن الملائكة أفضل من الأنبياء . وقد مضى في " البقرة " القول فيه فتأمله هناك .

قوله تعالى : إن أتبع إلا ما يوحى إلي ظاهره أنه لا يقطع أمرا إلا إذا كان فيه وحي . والصحيح أن الأنبياء يجوز منهم الاجتهاد ، والقياس على المنصوص ، والقياس أحد أدلة الشرع . وسيأتي بيان هذا في " الأعراف " وجواز اجتهاد الأنبياء في ( الأنبياء ) إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى : قل هل يستوي الأعمى والبصير أي الكافر والمؤمن ; عن مجاهد وغيره . وقيل : الجاهل والعالم . أفلا تتفكرون أنهما لا يستويان .

قوله تعالى : وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون قوله تعالى : وأنذر به أي : بالقرآن . والإنذار الإعلام وقد تقدم في البقرة وقيل : به أي : بالله . وقيل : باليوم الآخر . وخص الذين يخافون أن يحشروا لأن الحجة عليهم أوجب ، فهم خائفون من عذابه ، لا أنهم يترددون في الحشر ; فالمعنى يخافون يتوقعون عذاب الحشر . وقيل : يخافون يعلمون ، فإن كان مسلما أنذر ليترك المعاصي ، وإن كان من أهل الكتاب أنذر ليتبع الحق . وقال الحسن : المراد المؤمنون . قال الزجاج : كل من أقر بالبعث من مؤمن وكافر . وقيل : الآية في المشركين أي : أنذرهم بيوم القيامة . والأول أظهر .

ليس لهم من دونه أي : من غير الله شفيع هذا رد على اليهود والنصارى في زعمهما أن أباهما يشفع لهما حيث قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه والمشركون حيث جعلوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله ، فأعلم الله أن الشفاعة لا تكون للكفار . ومن قال : الآية في المؤمنين قال : شفاعة الرسول لهم تكون بإذن الله فهو الشفيع حقيقة إذن ; وفي التنزيل : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى . ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له . من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه . و ( لعلهم يتقون ) أي : في المستقبل وهو الثبات على الإيمان .

[ ص: 338 ] قوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين .

قوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم الآية . قال المشركون : ولا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء - يعنون سلمان وصهيبا وبلالا وخبابا - فاطردهم عنك ; وطلبوا أن يكتب لهم بذلك ، فهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، ودعا عليا ليكتب ; فقام الفقراء وجلسوا ناحية ; فأنزل الله الآية . ولهذا أشار سعد بقوله في الحديث الصحيح : فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع ; وسيأتي ذكره . وكان النبي صلى الله عليه وسلم إنما مال إلى ذلك طمعا في إسلامهم ، وإسلام قومهم ، ورأى أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئا ، ولا ينقص لهم قدرا ، فمال إليه فأنزل الله الآية ، فنهاه عما هم به من الطرد لا أنه أوقع الطرد . روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا ; قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما ، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله عز وجل ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . قيل : المراد بالدعاء المحافظة على الصلاة المكتوبة في الجماعة ; قاله ابن عباس ومجاهد والحسن . وقيل : الذكر وقراءة القرآن . ويحتمل أن يريد الدعاء في أول النهار وآخره ; ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق . ويختموه بالدعاء طلبا للمغفرة . يريدون وجهه أي : طاعته ، والإخلاص فيها ، أي : يخلصون في عبادتهم وأعمالهم لله ، ويتوجهون بذلك إليه لا لغيره . وقيل : يريدون الله الموصوف بأن له الوجه كما قال : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وهو كقوله : والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم . وخص الغداة والعشي بالذكر ; لأن الشغل غالب فيهما على الناس ، ومن كان في وقت الشغل مقبلا على العبادة كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يصبر نفسه معهم كما أمره الله في قوله : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم ، فكان لا يقوم حتى يكونوا هم الذين يبتدئون [ ص: 339 ] القيام ، وقد أخرج هذا المعنى مبينا مكملا ابن ماجه في سننه عن خباب في قول الله عز وجل : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي إلى قوله : فتكون من الظالمين قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب ، قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين ; فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم ; فأتوه فخلوا به وقالوا : إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت ; قال : ( نعم ) قالوا : فاكتب لنا عليك كتابا ; قال : فدعا بصحيفة ودعا عليا - رضي الله عنه - ليكتب ونحن قعود في ناحية ; فنزل جبريل عليه السلام فقال : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ; فقال : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ثم قال : وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة قال : فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته ; وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ; فأنزل الله عز وجل واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تجالس الأشراف ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا يعني عيينة والأقرع ، واتبع هواه وكان أمره فرطا ، أي : هلاكا . قال : أمر عيينة والأقرع ; ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا . قال خباب : فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم ; رواه عن أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، وكان قارئ الأزد ، عن أبي الكنود ، عن خباب ; وأخرجه أيضا عن سعد ، قال : نزلت هذه الآية فينا ستة ، في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال ; قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهم فاطردهم ، قال : فدخل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل ; فأنزل الله عز وجل : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي الآية . وقرئ ( بالغدوة ) وسيأتي بيانه في ( الكهف ) إن شاء الله .

[ ص: 340 ] قوله تعالى : ما عليك من حسابهم من شيء أي : من جزائهم ولا كفاية أرزاقهم ، أي : جزاؤهم ورزقهم على الله ، وجزاؤك ورزقك على الله لا على غيره . من الأولى للتبعيض ، والثانية زائدة للتوكيد . وكذا وما من حسابك عليهم من شيء المعنى وإذا كان الأمر كذلك فأقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل ; فإن فعلت كنت ظالما . وحاشاه من وقوع ذلك منه ، وإنما هذا بيان للأحكام ، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل السلام ; وهذا مثل قوله : لئن أشركت ليحبطن عملك وقد علم الله منه أنه لا يشرك ولا يحبط عمله . فتطردهم جواب النفي . فتكون من الظالمين نصب بالفاء في جواب النهي ; المعنى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتكون من الظالمين ، وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم ، على التقديم والتأخير . والظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه . وقد تقدم في البقرة مستوفى ، وقد حصل من قوة الآية والحديث النهي عن أن يعظم أحد لجاهه ولثوبه ، وعن أن يحتقر أحد لخموله ولرثاثة ثوبيه .

قوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين .

قوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض أي : كما فتنا من قبلك كذلك فتنا هؤلاء . والفتنة الاختبار ; أي : عاملناهم معاملة المختبرين . ليقولوا نصب بلام كي ، يعني الأشراف والأغنياء . أهؤلاء يعني الضعفاء والفقراء . من الله عليهم من بيننا قال النحاس : وهذا من المشكل ; لأنه يقال : كيف فتنوا ليقولوا هذه الآية ؟ لأنه إن كان إنكارا فهو كفر منهم . وفي هذا جوابان : أحدهما : أن المعنى اختبر الأغنياء بالفقراء أن تكون مرتبتهم واحدة عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ليقولوا على سبيل الاستفهام لا على سبيل الإنكار أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ، والجواب الآخر : أنهم لما اختبروا بهذا فآل عاقبته إلى أن قالوا هذا على سبيل الإنكار ، وصار مثل قوله : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا . أليس الله بأعلم بالشاكرين فيمن عليهم بالإيمان دون الرؤساء الذين علم الله منهم الكفر ، وهذا استفهام تقرير ، وهو جواب لقولهم : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا وقيل : المعنى أليس الله بأعلم من يشكر الإسلام إذا هديته إليه .

[ ص: 341 ] قوله تعالى : وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم قوله تعالى : وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم السلام والسلامة بمعنى واحد . ومعنى ( سلام عليكم ) سلمكم الله في دينكم وأنفسكم ; نزلت في الذين نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن طردهم ، فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال : الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام فعلى هذا كان السلام من جهة النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : إنه كان من جهة الله تعالى ، أي : أبلغهم منا السلام ; وعلى الوجهين ففيه دليل على فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى . وفي صحيح مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال ونفر فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها ; قال : فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟ ! فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك فأتاهم أبو بكر فقال : يا إخوتاه أغضبتكم ؟ قالوا : لا ; يغفر الله لك يا أخي ; فهذا دليل على رفعة منازلهم وحرمتهم كما بيناه في معنى الآية . ويستفاد من هذا احترام الصالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم ; فإن في ذلك غضب الله ، أي : حلول عقابه بمن آذى أحدا من أوليائه . وقال ابن عباس : نزلت الآية في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم . وقال الفضيل بن عياض : جاء قوم من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا فأعرض عنهم ; فنزلت الآية . وروي عن أنس بن مالك مثله سواء .

قوله تعالى : كتب ربكم على نفسه الرحمة أي : أوجب ذلك بخبره الصدق ، ووعده الحق ، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئا فقد أوجبه على نفسه . وقيل : كتب ذلك في اللوح المحفوظ . أنه من عمل منكم سوءا بجهالة أي : خطيئة من غير قصد ; قال مجاهد : لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته ركب الأمر ، فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل ; وقد مضى هذا المعنى في " النساء " .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 456.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 450.83 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.29%)]