تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 33 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كتاب الصيام والحج من الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 39 - عددالزوار : 54 )           »          كيفية استعادة الرسائل المحذوفة على واتساب.. دليل خطوة بخطوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          من الساعة للسماعة.. كيفية حماية البيانات الشخصية على الأجهزة القابلة للارتداء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          كيفية إعادة ضبط جهاز Apple TV.. فى خطوات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          شروط استخدام خاصية تنظيف صورك بالذكاء الاصطناعى Clean up على آيفون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          لو هتشترى أونلاين .. نصائح لمستخدمى الإنترنت لحماية أنفسهم من الاحتيال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          الابتزاز الإلكترونى .. فهم المخاطر والاحتياطات اللازمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          كيف تحذف خلفيات صورك على آيفون باستخدام خاصية Clean Up"؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          كيف تنشئ قائمة تشغيل على تطبيق Spotify في وقت قياسي .. أعرف الخطوات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          محدش هيخدعك..تطبيق Google Photos هيقولك تفاصيل الصورة المعدلة بالذكاء الاصطناعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #321  
قديم 20-12-2022, 04:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2254 الى صـ 2266
الحلقة (321)



القول في تأويل قوله تعالى:

[12] قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون

قل لمن ما في السماوات والأرض أي: خلقا وملكا، وهو سؤال تبكيت وتقريع قل لله تقرير للجواب، نيابة عنهم. أي: هو الله، لا خلاف بيني وبينكم، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره. ففيه تنبيه على تعينه للجواب اتفاقا، كما في قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ومن المقرر أن أمر السائل بالجواب إنما يحسن في موضع يكون فيه الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر [ ص: 2254 ] على إنكاره منكر، ولا على دفعه دافع، كما هنا. قيل: وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب، مع تعينه، لكونهم محجوجين.

وقوله تعالى: كتب على نفسه الرحمة جملة مستقلة داخلة تحت الأمر، ناطقة بشمول رحمته الواسعة لجميع الخلق، شمول ملكه وقدرته للكل، مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بعباده، لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم التوبة والإنابة، وأن ما سبق ذكره، وما لحق من أحكام الغضب، ليس من مقتضيات ذاته تعالى، بل من جهة الخلق. كيف لا؟ ومن رحمته أن خلقه على الفطرة السليمة، وهداهم إلى معرفته وتوحيده، بنصب الآيات الأنفسية والآفاقية، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب المشحونة بالدعوة إلى موجبات رضوانه، والتحذير عن مقتضيات سخطه. وقد بدلوا فطرة الله تبديلا، وأعرضوا عن الآيات بالمرة، وكذبوا بالكتب، واستهزؤوا بالرسل وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين . ولولا شمول رحمته لسلك بهؤلاء أيضا مسلك الغابرين. ومعنى: [ كتب الرحمة على نفسه ] أنه تعالى أوجبها وقضاها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة، بالذات، لا بتوسط شيء أصلا. وفي التعبير عن الذات ب [ النفس ] حجة على من ادعى أن لفظ (النفس) لا يطلق على الله تعالى. وإن أريد به الذات، إلا مشاكلة لما ترى من انتفاء المشاكلة هاهنا. أفاده أبو السعود.

وقوله تعالى: ليجمعنكم إلى يوم القيامة جواب قسم محذوف. والجملة استئناف مسوق للوعيد، على إشراكهم وإغفالهم النظر؛ لأنه لما بين كمال إلهيته، بقوله: قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله ثم أخبر بأنه يرحمهم في الدنيا بالإمهال، ودفع عذاب الاستئصال، أعلم أنه يجمعهم لذلك اليوم، ويحاسبهم على كل ما فعلوا؛ لأن الملك الحكيم [ ص: 2255 ] لا يهمل أمر رعيته، ولا يسوغ في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي قيل: ليجمعنكم جواب لقوله: كتب ؛ لأنه يجري مجرى القسم.

وقيل: ليجمعنكم بدل من الرحمة، بدل البعض. قال المهايمي: كمال الرحمة في الجزاء؛ إذ بدونه تضيع مشاق المعارف الإلهية، والأعمال الصالحة، وتضيع المظالم، ولا جزاء في دار الدنيا؛ لأنه فرع التكليف، ودار التكليف لا تكون دار الجزاء؛ لأن مشاهدته مانعة من التكليف. انتهى.

و (إلى) بمعنى اللام، كقوله: إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه أي: في اليوم، أو في الجمع.

الذين خسروا أنفسهم أي: بتضييع رأس مالهم، وهو الفطرة الأصلية، والعقل السليم، والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام، واستماع الوحي، وغير ذلك من آثار الرحمة.

فهم لا يؤمنون أي: لا يصدقون بالمعاد، ولا يخافون شر ذلك اليوم.

قال أبو السعود: والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، والإشعار بأن عدم إيمانهم بسبب خسرانهم، فإن إبطال العقل باتباع الحواس، والانهماك في التقليد، وإغفال النظر، أدى بهم إلى الإصرار على الكفر، والامتناع من الإيمان. والجملة تذييل مسوق من جهته تعالى، لتقبيح حالهم، غير داخل تحت الأمر.

تنبيه:

روي في معنى هذه الآية عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله [ ص: 2256 ] الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي» . رواه الشيخان.

وفي البخاري: إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده، فهو العرش.

وفي رواية لهما: أن الله لما خلق الخلق.

[ ص: 2257 ] وعند مسلم: لما قضى الله الخلق، كتب في كتاب كتبه على نفسه، فهو موضوع عنده. زاد البخاري: على العرش. ثم اتفقا: إن رحمتي تغلب غضبي.

وسنذكر، إن شاء الله، شذرة من أحاديث الرحمة عند آية: كتب ربكم على نفسه الرحمة قريبا.

قال أبو السعود: ومعنى سبق الرحمة وغلبتها أنها أقدم تعلقا بالخلق، وأكثر وصولا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير.
[ ص: 2258 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[13] وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم

وله أي: ولله عز وجل: ما سكن في الليل والنهار أي: ما استقر وحل، من السكنى بمعنى الحلول. كقوله تعالى: وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم والمعنى: له تعالى كل ما حصل في الليل والنهار، مما طلعت عليه الشمس أو غربت. شبه الاستقرار بالزمان، بالاستقرار في المكان، فاستعمل استعماله فيه. أو سكن من السكون، مقابل الحركة. أي: ما سكن فيهما وما تحرك، فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر، كما في قوله: سرابيل تقيكم الحر ؛ لأن ذلك يعرف بالقرينة. وعليه، فإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس؛ لأن السكون أكثر وجودا، والنعمة فيه أكثر.

قال بعضهم: لا حاجة لدعوى الاكتفاء، فإن ما سكن يعم جميع المخلوقات، إذ ليس شيء منها غير متصف بالسكون، حتى المتحرك، حال حركته، على ما حقق في الكلام: من أن تفاوت الحركات بالسرعة والبطء لقلة السكنات المتخللة وكثرتها.

لطيفة:

قال أبو مسلم الأصفهاني: ذكر تعالى في الآية الأولى السماوات والأرض؛ إذ لا مكان سواهما. وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار؛ إذ لا زمان سواهما، فالزمان والمكان ظرفان [ ص: 2259 ] للمحدثات، فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات، ومالك للزمان والزمانيات. وهذا بيان في غاية الجلالة.

وقال الرازي: هاهنا دقيقة أخرى؛ وهو أن الابتداء وقع بذكر المكان والمكانيات، ثم ذكر عقيبه الزمان والزمانيات؛ وذلك لأن المكان والمكانيات أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان والزمانيات، لدقائق مذكورة في العقليات الصرفة. والتعليم الكامل هو الذي يبدأ فيه بالأظهر فالأظهر مترقيا إلى الأخفى فالأخفى، وهذا من سر نظم الآية مع ما قبلها.

وهو السميع العليم يسمع كل مسموع، ويعلم كل معلوم، فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان.
القول في تأويل قوله تعالى:

[14] قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين

قل أي: لكفار مكة المبكتين بما تقدم: أغير الله أتخذ وليا أي: معبودا. كقوله تعالى: قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون والمعنى: لا أتخذ وليا إلا الله وحده فاطر السماوات والأرض أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق. بالجر، صفة للجلالة، موكدة للإنكار.

وهو يطعم ولا يطعم أي: يرزق ولا يرزق، أي: المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع. أي: فيجب اتخاذه وليا ليعبد شكرا على إنعامه، وكفايته الحوائج بلا طلب عوض. قيل: المراد بالطعم الرزق، بمعناه اللغوي. وهو كل ما ينتفع به، بدليل وقوعه مقابلا له في قوله تعالى: ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون فعبر بالخاص عن العام مجازا؛ لأنه أعظمه وأكثره، لشدة الحاجة إليه. واكتفى به عن العام؛ لأنه يعلم، من نفي ذلك، نفي ما سواه.

[ ص: 2260 ] قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم أي: وجهه لله مخلصا له، لأصير متبوعا للباقين. كقوله: وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين وكقول موسى: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين

ولا تكونن من المشركين أي: وقيل لي: ولا تكونن . فهو معطوف على: (أمرت) بمعنى: أمرت بالإسلام، ونهيت عن الشرك صريحا مؤكدا، بعد النهي في ضمن الأمر. ونهي المتبوع نهي التابعين. ويجوز عطفه على: قل . وفي الآية إرشاد إلى أن كل آمر ينبغي أن يكون عاملا بما أمر به؛ لأنه مقتداهم. قيل: هذه الآية للتحريض، كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول: وأنا أول من يفعل ذلك، ليحملهم على الامتثال.
القول في تأويل قوله تعالى:

[15] قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم

قل إني أخاف إن عصيت ربي أي: بمخالفة أمره ونهيه أي عصيان. فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا عذاب يوم عظيم يعني: عذاب يوم القيامة، الذي تظهر فيه عظمة القهر الإلهي. وفي الآية مبالغة أخرى في قطع أطماعهم، وتعرض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب العظيم. ووجه التعريض إسناد ما هو معلوم الانتفاء، ب (إن) التي تفيد الشك تعريضا. وجيء بالماضي إبرازا له في صورة الحاصل على سبيل الفرض، تعريضا [ ص: 2261 ] بمن صدر عنهم ذلك. وحيث كان تعريضا لهم، والمراد تخويفهم إذا صدر منهم ذلك - لم يكن فيه دلالة على أنه يخاف هو صلى الله عليه وسلم على نفسه المعصية، مع أنه معصوم. كما لا يتوهم مثله في قوله: لئن أشركت ليحبطن عملك وحينئذ فلا حاجة إلى ما أجيب عن ظاهر دلالته على ما ذكر، بأن الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع امتناعا عاديا، فلا يدل إلا على أنه يخاف لو صدر عنه العصيان. وهذا لا يدل على حصول الخوف.

قال بعضهم: لا يقال على تقدير العصيان، يكون الجواب هو استحقاق العذاب، لا الخوف. لأنا نقول: لا منافاة بينهما. فالخوف إما على حقيقته، أو كناية عن الاستحقاق. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[16] من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين

من يصرف بالبناء للمفعول، أي: العذاب عنه يومئذ فقد رحمه أي: نجاه وأنعم عليه، أو أدخله الجنة، لقوله: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة وقوله تعالى: يدخل من يشاء في رحمته والجملة مستأنفة، مؤكدة لتهويل العذاب.

وذلك أي: الصرف أو الرحمة الفوز المبين أي: الظاهر.

ثم ذكر تعالى دليلا آخر، في أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ وليا غير الله تعالى، بقوله:
[ ص: 2262 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[17] وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير

وإن يمسسك الله بضر أي: ببلية، كفقر ومرض ونحوهما. و (الضر): اسم جامع لما ينال الإنسان من مكروه فلا كاشف له إلا هو أي: فلا يقدر على دفعه إلا هو وحده وإن يمسسك بخير من عافية ورخاء ونحوهما: و (الخير): اسم جامع لما ينال الإنسان من محبوب له فهو على كل شيء قدير أي: ومن جملته ذلك، فيقدر عليه، فيمسك به، ويحفظه عليك من غير أن يقدر على دفعه أو رفعه أحد. كقوله تعالى: فلا راد لفضله وكقوله سبحانه: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» .

[ ص: 2263 ] وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف» - رواه الترمذي - وقال: حسن صحيح.
القول في تأويل قوله تعالى:

[18] وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير

وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير أي: هو الغالب بقدرته، المستعلي فوق عباده، يدبر أمرهم بما يريد، فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن، فلا يستطيع أحد منهم رد تدبيره، والخروج من تحت قهره وتقديره.

قال أبو البقاء: في (فوق) وجهان:

أحدهما: في موضع نصب على الحال من الضمير في القاهر؛ أي: مستعليا وغالبا.

والثاني: في موضع رفع على أنه بدل من القاهر أو خبر ثان.
القول في تأويل قوله تعالى:

[19] قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون

قل أي شيء أكبر شهادة أي: بحيث لا يمكن معارضته بما يساويه: قل الله [ ص: 2264 ] أي: أكبر شهادة؛ إذ لا احتمال لطرو الكذب في خبره أصلا، جل شأنه. وأمره صلى الله عليه وسلم بأن يتولى الجواب بنفسه، إما للإيذان بتعينه، وعدم قدرتهم على أن يجيبوا بغيره، أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه، لا لترددهم في أنه تعالى أكبر من كل شيء، بل في كونه شهيدا في هذا الشأن.

وقوله تعالى: شهيد بيني وبينكم خبر لمحذوف، أو خبر عن لفظ الجلالة. ودل على جواب (أي) من طريق المعنى؛ لأنه إذا كان تعالى هو الشهيد بينه وبينهم، كان أكبر شيء شهادة، شهيدا له. فيكون من الأسلوب الحكيم؛ لأنه عدل عن الجواب المتبادر - إليه، ليدل على أن أكبر شهادة شهيد للرسول، فإن الله أكبر شيء شهادة، والله شهيد له، فينتج الأكبر شهادة له. والقياس المذكور من الشكل الثالث؛ لأن الحد الأوسط موضوع في المقدمتين، لا من الثاني، كما وقع للشهاب في "العناية" وهو من بديهيات الميزان.

قال بعضهم: الغرض من السؤال ب: أي شيء أكبر شهادة أن شاهدي أكبر شهادة. فقوله: شهيد إلخ تنصيص له، والسؤال المذكور لا يحتاج إلى جواب؛ لكونه معلوما بينا عند الخصم، فحاصله أن الله الذي هو أكبر شهادة، شهر بذلك. انتهى.

ومعنى (شهيد) مبالغ في الشهادة على نبوتي، بحيث يقطع النزاع بيني وبينكم، إذ شهد سبحانه بالقول في الكتب التي أنزلها على الأولين، وبالفعل فيما ظهر على يدي من المعجزات، لا سيما معجزة القرآن، كما قال تعالى:

وأوحي إلي هذا القرآن أي: الجامع للعلوم التي يحتاج إليها في المعارف والشرائع، في ألفاظ يسيرة، في أقصى مراتب الحسن والبلاغة، معجزة شاهدة بصحة رسالتي؛ لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء، وقد عجزتم عن معارضته: لأنذركم به أي: بما فيه من الوعيد ومن بلغ عطف على ضمير المخاطبين، أي: لأنذركم به، يا أهل مكة! وسائر من بلغه [ ص: 2265 ] من الناس كافة، فهو نذير لكل من بلغه، كقوله تعالى: ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده

أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى تقرير لهم مع إنكار واستبعاد.

قل لا أشهد بما تشهدون قل إنما هو إله واحد أي: بل أشهد أن لا إله إلا هو، لا يشارك في إلهيته، ولا في صفات كماله: وإنني بريء مما تشركون يعني: الأصنام.

وفي هذه الآية مسائل:

الأولى: استدل الجمهور بقوله تعالى: قل الله في جواب: أي شيء أكبر شهادة على جواز إطلاق الشيء عليه تعالى. وكذا بقوله سبحانه وتعالى: كل شيء هالك إلا وجهه فإن المستثنى يجب أن يدخل تحت المستثنى منه، وذلك لأن الشيء أعم العام - كما قال سيبويه - لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، واختار الزمخشري شموله حتى للمستحيل. وصرح كثير من المحققين بأنه يختص بالموجود، وضعفوا من أطلقه على المعدوم، بأنه محجوج بعدم استعمال العرب ذلك، كما علم باستقراء كلامهم، وبنحو: كل شيء هالك إلا وجهه [ ص: 2266 ] إذ المعدوم لا يتصف بالهلاك، وبنحو: وإن من شيء إلا يسبح بحمده إذ المعدوم لا يتصور منه التسبيح.

قال الناصر في "الانتصاف": هذه المسألة معدودة من علم الكلام باعتبار ما، وأما هذا البحث فلغوي، والتحاكم فيه لأهل اللغة. وظاهر قولهم: غضبت من لا شيء.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #322  
قديم 20-12-2022, 04:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2277 الى صـ 2279
الحلقة (322)




إذا رأى غير شيء ظنه رجلا


أن الشيء لا ينطلق إلا على الموجود، إذ لو كان الشيء كل ما يصح أن يعلم عدما كان أو وجودا، أو ممكنا أو مستحيلا، لما صدق على أمر ما أنه ليس بشيء، والأمر في ذلك قريب. انتهى.

[ ص: 2267 ] هذا، وتمسك من منع إطلاقه عليه تعالى بقوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها والاسم إنما يحسن لحسن مسماه، وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال، ونعت من نعوت الجلال. ولفظ الشيء أعم الأشياء، فيكون مسماه حاصلا في أحسن الأشياء وفي أرذلها. ومتى كان كذلك، لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال، فوجب أن لا نجوز دعوة الله بهذا الاسم؛ لأنه ليس من الأسماء الحسنى، وقد أمر تعالى بأن يدعى بها. وأجيب: بأن كونه ليس من الأسماء الحسنى، لكونها توقيفية، وكونه لا يدعى به لعدم وروده - لا ينافي شموله للذات العلية، شمول العام. والمراد بإطلاقه عليه تعالى فيما تقدم شموله، لا تسميته به. وبالجملة: فلا يلزم أن كونه ليس من الأسماء الحسنى، أن لا يشمل الذات المقدسة شمولا كليا، كيف؟ وهو الموضوعات العامة. والتحاكم للغويين في ذلك. كما قدمنا.

الثانية: ما أسلفناه من أن المعني بالشهادة هو شهادته تعالى في ثبوت النبوة له صلى الله عليه وسلم، هو الذي جنح إليه الأكثر. وكأن مشركي مكة طلبوا منه صلى الله عليه وسلم شاهدا على نبوته. فقيل لهم: أكبر شيء شهادة هو الله تعالى، وقد شهد لي بالنبوة؛ لأنه أوحى إلي هذا القرآن، وتحداكم بمعارضته، فعجزتم، وأنتم أنتم في مقام البلاغة. وإذ كان معجزا، كان إظهاره تعالى إياه على وفق دعواي، شهادة منه على صدقي في النبوة.

ولبعضهم وجه آخر، وهو أن المعني، شهادته تعالى في ثبوت وحدانيته، وتنزهه عن الأنداد والأشباه. ويرشحه تتمة الآية، وهو قوله: أإنكم لتشهدون إلخ، وقوله: شهد الله أنه لا إله إلا هو وقوله تعالى: فإن شهدوا فلا تشهد معهم

[ ص: 2268 ] مما يدل على أن الشهادة إنما عني بها -في موارد التنزيل- ثبوت الوحدانية، والقرآن يفسر بعضه بعضا. والله أعلم.

الثالثة: إنما اقتصر على الإنذار في قوله: لأنذركم به لكون الخطاب مع كفار مكة، وليس فيهم من يبشر. أو اكتفى به عن ذكر البشارة على حد: سرابيل تقيكم الحر

الرابعة: استدل بقوله تعالى: لأنذركم به ومن بلغ على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة، وإلى الجن.

الخامسة: استدل به أيضا على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعد إلى يوم القيامة، خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل - عند الحنابلة - وبالإجماع عندنا في غير الموجودين، وفي غير المكلفين يومئذ. أفاده أبو السعود.

السادسة: روى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله: ومن بلغ من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه. ورواه ابن جرير عنه بلفظ: من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم.

[ ص: 2269 ] وروى عبد الرزاق عن قتادة في هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بلغوا عن الله، فمن بلغته آية من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله» .

وقال الربيع بن أنس: حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر بالذي أنذر.

السابعة: دل قوله تعالى: قل إنما هو إله واحد وقوله: وإنني بريء مما تشركون على إثبات التوحيد بأعظم طرق البيان، وأبلغ وجوه التأكيد؛ لأن (إنما) تفيد الحصر، و (الواحد) صريح في نفي الشركاء. ثم صرح بالبراءة عن إثبات الشركاء. وقد استحب الشافعي لمن أسلم بعد إتيانه بالشهادتين، أن يتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام، لقوله: وإنني بريء مما تشركون عقب التصريح بالتوحيد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[20] الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون

وقوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعني: اليهود والنصارى: يعرفونه أي: يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين: كما يعرفون أبناءهم بحلاهم ونعوتهم، لا يخفون عليهم، ولا يلتبسون بغيرهم.

قال المهايمي: لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر في الكتاب نعته. وهو، وإن لم يفد تعينه باللون والشكل والزمان والمكان، تعين بقرائن المعجزات. فبقاء الاحتمال البعيد فيه، كبقائه في الولد، بأنه يمكن أن يكون غير ما ولدته امرأته، أو يكون من الفجور، مع دلالة القرائن على براءتها من التزوير والفجور. فهو، كما يعرفون أبناءهم في ارتفاع الاحتمال البعيد بالقرائن على براءتها.

[ ص: 2270 ] قال الزمخشري: وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب، وبصحة نبوته.

ثم بين تعالى أن إنكاره خسران لما عرفوه، ولما أمروا بالتدين به بقوله: الذين خسروا أنفسهم أي: من المشركين: فهم لا يؤمنون أي: بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء، ونوهت به؛ لأنه مطبوع على قلوبهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[21] ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون

ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا كقولهم: الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. قال الله تعالى: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها

[ ص: 2271 ] أو كذب بآياته أي: القرآن والمعجزات، حيث سموها سحرا. وإنما ذكر: أو مع أنهم جمعوا بين الأمرين، تنبيها على أن كلا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس. فكيف وهم وقد جمعوا بينهما؟ فأثبتوا ما نفاه الله تعالى، ونفوا ما أثبته.

إنه لا يفلح الظالمون أي: لا ينجون من مكروه، ولا يفوزون بمطلوب. وإذا كان حال الظالمين هذا، فكيف بمن لا أحد أظلم منه؟

تنبيه:

ما ذكرناه من كون الموصول كناية عن المشركين هو الظاهر؛ لأن السورة مكية، والخطاب مع مشركي أهلها. وجعله البيضاوي لهم، ولأهل الكتاب، وقوفا مع عموم اللفظ، والمهايمي; لأهل الكتاب خاصة، ربطا للآية بما قبلها. والظاهر الأول، لما قلنا. وعبارة المهايمي: الذين خسروا أنفسهم بتفويت ما أوتوا من الكتاب، وما أمروا به، فهم لا يؤمنون. وكيف لا يخسرون، وهم ظالمون، وكل ظالم خاسر؟ وإنما قلنا: إنهم ظالمون؛ لأنهم يحرفون كتاب الله لفظا أو معنى، فيفترون على الله الكذب، ويكذبون آيات الله من كتابهم، ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه. وقد يسترون بعض ما في كتابهم، وهو أيضا تكذيب. فعلوا جميع ذلك؛ لأنه لا يتأتى لهم ترك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بدون أحد هذه الأمور.

وقال في قوله تعالى: ومن أظلم الآية. لأنهم بالتحريف يدعون إلهية أنفسهم، وبالتكذيب يريدون تعجيز الله عن تصديقه الرسل، وينسبون إيجادها إلى غير الله، مع افتقارها إلى القدرة الكاملة. وإنما قلنا: كل ظالم خاسر؛ لأن كل ظالم لا يفلح. كما قال تعالى: إنه لا يفلح الظالمون أي: لا يفلحون في الدنيا بانقطاع الحجة عنهم، وظهور المسلمين عليهم، وفيه إشارة إلى أن مدعي الرسالة، لو كان كاذبا كان مفتريا على الله، فلا يكون مفلحا، فلا يكون سببا لصلاح العالم، ولا محلا لظهور المعجزات. انتهى.
[ ص: 2272 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[22] ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون

ويوم نحشرهم أي: الإنس والجن والشياطين. منصوب بمضمر تهويلا للأمر جميعا ليفتضح من لا يفلح من الظالمين مزيد افتضاح، ويظهر المفلحون بكمال الإعزاز.

ثم نقول للذين أشركوا أي: مضوا على الشرك، بأن ماتوا عليه، وهم الشاهدون أن مع الله آلهة أخرى: أين شركاؤكم أي: الذين جعلتموهم شركاءنا، وهم شركاؤكم في العبودية - كذا قاله المهايمي - وعليه، فالإضافة على بابها.

وفي "العناية": الإضافة فيه لأدنى ملابسة، كما أشار إليه القاضي بقوله: أي: آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله؛ لأنه لا شركة بينهم، وإنما سموهم شركاء، فلهذه الملابسة أضيفوا إليهم.

قيل: قوله تعالى: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون يقتضي حضورهم معهم في المحشر، و (أين) يسأل بها عن غير الحاضر؟ أجيب بأنه بتقدير مضاف. أي: أين نفعهم وشفاعتهم، أو أنهم بمنزلة الغيب، لعدم ما رجوا منهم من الشفاعة. وعلى كل، فالقصد من السؤال توبيخهم وتقريعهم، وأن يقرر في نفوسهم أن ما كانوا يرجونه مأيوس منه. وذلك تنبيه لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة.

وقوله تعالى: الذين كنتم تزعمون أي: تزعمونها شركاء من عند أنفسكم. أي: فقصدتم بذلك فعل الفاتنين في المملكة بجعلها لغير من هي له.
[ ص: 2273 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[23] ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين

ثم لم تكن فتنتهم أي: جواب ما اعترض به على فتنتهم التي هي شهادة أن مع الله آلهة أخرى. وعبر عن جوابهم بالفتنة؛ لأنه كذب. إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين اعتذروا عن أصنامهم بنفيها مؤكدا بالقسم بالاسم الجامع، مع نسبة الربوبية إليه تعالى، لا إلى ما سواه، مبالغة في التبرؤ من الإشراك. فكان هذا العذر ذنبا آخر مؤكدا لافترائهم بالإشراك الذي نفوه. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[24] انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

انظر كيف كذبوا على أنفسهم أي: بنفي الإشراك عنها أمام علام الغيوب، بحضرة من لا ينحصر من الشهود: وضل أي: وكيف ضاع وغاب: عنهم ما كانوا يفترون أي: من الشركاء، فلم تغن عنهم شيئا، ففقدوا ما رجوا من شفاعتها ونصرتها لهم، كقوله تعالى: قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا ف (ما) موصولة، كناية عن الشركاء. وإيقاع الافتراء عليها، مع أنه في الحقيقة واقع على أحوالها من الإلهية، والشركة والشفاعة ونحوها - للمبالغة في أمرها، كأنها نفس المفترى.

[ ص: 2274 ] تنبيهات:

الأول: ما ذكرناه من أنه عبر عن جوابهم بالفتنة هو الأظهر. فالمراد: الجواب بما هو كذب؛ لأنه سبب الفتنة، فتجوز بها إطلاقا للمسبب على السبب، أو هو استعارة. وقيل: الفتنة بمعنى العذر، لأنها التخليص من الغش لغة، والعذر يخلص من الذنب، فاستعيرت له. وقيل: بمعنى الكفر؛ لأن الفتنة ما تفتتن به ويعجبك، وهم كانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به، ويظنونه شيئا، فلم تكن عاقبته إلا الخسران، والتبرؤ منه، وليس هذا على تقدير مضاف، بل جعل عاقبة الشيء عينه، ادعاء.

قال الزجاج: تأويل هذه الآية حسن في اللغة، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام، وتصرف العرب في ذلك. وذلك أن الله تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم، متهالكين على حبه، فأعلم في هذه الآية، أنه لم يكن افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤوا منه وتباعدوا عنه، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين. ومثاله: أن ترى إنسانا يحب غاويا مذموم الطريقة، فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه، فيقال: له ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه.

قال الخفاجي - بعد نقله ما ذكر -: وليس هذا من قبيل عتابك السيف، ولا من تقدير المضاف، وإن صح فاحفظه، فإنه من البدائع الروائع.

الثاني: ما بيناه من أن (ما) في قوله تعالى: وضل عنهم ما كانوا يفترون موصولة، كناية عن الشركاء، بمعنى عدم إغنائها عنهم - هو الموافق للآية الثانية التي سقناها. وجوز كونها مصدرية. أي: انظر كيف ذهب وزال عنهم افتراؤهم من الإشراك، حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية، وتبرؤوا منه بالمرة.

هذا، وجعل الناصر في "الانتصاف": ضل بمعنى سلبوا علمه، فكأنهم نسوه وذهلوه دهشا. هو بعيد لعدم ملاقاته للآية الأخرى. والتنزيل يفسر بعضه بعضا. وعبارته: [ ص: 2275 ] في الآية دليل بين على أن الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به، كذب، وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره بمخبره. ألا تراه جعل إخبارهم وتبريهم كذبا، مع أنه تعالى أخبر أنهم ضل عنهم ما كانوا يفترون. أي: سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة. فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم. انتهى.

الثالث: قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور، وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟

قلت: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه، من غير تمييز بينهما، حيرة ودهشا، ألا تراهم يقولون: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ؟ وقد أيقنو بالخلود، ولم يشكوا فيه ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك وقد علموا أنه لا يقضى عليهم.

وأما قول من يقول: معناه: ما كنا مشركين عند أنفسنا، وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا، وحمل قوله: انظر كيف كذبوا على أنفسهم يعني في الدنيا - فتمحل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام، إلى ما هو عي وإفحام؛ لأن المعنى الذي ذهبوا إليه، ليس هذا الكلام بمترجم عنه، ولا منطبق عليه، وهو ناب عنه أشد النبو. وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره، بقوله تعالى: يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون بعد قوله تعالى: ويحلفون على الكذب وهم يعلمون فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا. انتهى.

والقول المذكور، والحمل الذي ناقش فيه، أصله لأبي علي الجبائي والقاضي. فإنهما [ ص: 2276 ] ذهبا إلى أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب، واعتلا بوجوه واهية ساقها الرازي. فلتنظر ثمت؛ فإنا لا نسود وجوه صحائفنا بما فيه تحكيم العقل على النقل.

ثم بين تعالى بعض ما كان يصدر من مشركي مكة، مما طبع على قلوبهم بسببه فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[25] ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين

ومنهم من يستمع إليك أي: يصغي حين تتلو القرآن، ولا يجزئ عنه شيئا؛ لأنه لا يتدبر فيه حتى يطلع على إعجازه، ويؤثر فيه الإرشاد: وجعلنا على قلوبهم أكنة أي: حجابا، جمع كنان، كغطاء وأغطية، لفظا ومعنى: أن يفقهوه أي: كراهة أن يفهموا، ببواطن قلوبهم، بواطنه التي بها إعجازه وإرشاده، بإقامة الدلائل ورفع الشبه. وفي آذانهم وقرا أي: وجعلنا في آذانهم، التي هي طريق الوصول إلى بواطن القلوب، صمما مانعا من وصول السماع النافع. وقد مر في أول البقرة تحقيق ذلك. فتذكر!

وقوله تعالى: وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها إشارة إلى أنه لا يختص ما ذكر منهم بالقرآن، لرؤيتهم قصورا فيه، بل مهما يروا من الآيات والحجج مما يدل على صدق الرسول لا يؤمنوا بها، وحملوها على السحر. لفرط عنادهم، واستحكام التقليد فيهم، فلا فهم عندهم ولا إنصاف. كقوله تعالى: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم

حتى إذا جاءوك يجادلونك أي: بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم إذا جاءوك يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل. ثم فسر المجادلة بقوله: يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين [ ص: 2277 ] أي: أباطيلهم وأحاديثهم التي لا نظام لها. وعد أحسن الحديث وأصدقه، من قبيل الأباطيل: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - رتبة من الكفر لا غاية وراءها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[26] وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون

وهم ينهون عنه أي: لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه، بل ينهون الناس عن استماعه.

قال المهايمي: وهم، لرؤيتهم حلاوة نظمه فوق نثرهم وشعرهم، مع متانة معانيه، يعرفون أن التدبر فيه يفيد التطلع على إعجازه. فيخافون تأثيره في قلوب الخلائق. لذلك ينهون عنه. أي: عن قراءته واستماعه؛ لئلا يدعوهم إلى التدبر فيه، فيفسد عليهم أغراضهم الفاسدة.

وينأون عنه أي: يتباعدون عنه بأنفسهم، إظهارا لغاية نفورهم عنه، وتأكيدا لنهيهم عنه. فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه، من متممات النهي. ولعل ذلك هو السر في تأخير (النأي) عن (النهي) . أفاده أبو السعود.

ولما أشعر ذلك بكونهم يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، خوفا من قوة تأثير التنزيل في القلوب، أتبعه بأنه لا يحصل لهم هذا المطلوب؛ لأن الله متم نوره، ومظهر دينه، وإن الدائرة عليهم بقوله: وإن يهلكون إلا أنفسهم بتعريضها لأشد العذاب عاجلا وآجلا: وما يشعرون أي: بذلك.

تنبيه:

روى الحاكم وغيره، عن ثلة من التابعين، أن هذه الآية نزلت في أبي طالب، كان ينهى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى، وينأى عنه فلا يؤمن به، وجمعيته حينئذ، باعتبار استتباعه لأتباعه.

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنها نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا عشرة. [ ص: 2278 ] فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشدهم عليه في السر، ولا يخفى أن لفظ التنزيل مما يصدق على ما ذكر ولا ينافيه، وهو المراد بالنزول - كما أسلفنا مرارا - وقد قال أبو طالب يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:


والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وابشر بذاك وقر منه عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح
ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت دينا لا محالة أنه
من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذاري سبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا



وفي (ينهون) و (ينأون) تجنيس بديع.

ولما أخبر تعالى أنهم يهلكون أنفسهم، شرح كيفيته مع بيان ما سيصدر عنهم في الآخرة. من القول المناقض لعقدهم الدنيوي، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[27] ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين

ولو ترى إذ وقفوا على النار أي: اطلعوا عليها فعاينوها. يقال: وقف فلانا على ذنبه: أطلعه عليه. أو أدخلوها فعرفوا ما فيها من العذاب. يقال: وقفت على ما عند فلان، تريد: فهمته وتبينته. والوقف عليه مجازي، أو هو حقيقي بمعنى القيام. و (على) إما على حقيقتها. أي: أقيموا واقفين فوق النار على الصراط، وهو جسر فوق جهنم. أو هي بمعنى (في)، أي: أقيموا في جوف النار وغاصوا فيها، وهي محيطة بهم. وصحح معنى الاستعلاء حينئذ كون النار دركات وطبقات، بعضها فوق بعض.

[ ص: 2279 ] فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين تمنوا الرجوع إلى الدنيا، حين لا رجوع، واعدين أن لا يكذبوا بما جاءهم، وأن يكونوا من المؤمنين، أي: بآياته، العاملين بمقتضاها، حتى لا نرى هذا الموقف الهائل. أو من فريق المؤمنين الناجين من العذاب، الفائزين بحسن المآب.

تنبيه:

جواب (لو) محذوف، تفخيما للأمر، وتعظيما للشأن، وجاز حذفه لعلم المخاطب به. وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر. ولو قدرت الجواب. كان التقدير: لرأيت سوء منقلبهم. وحذف الجواب في ذلك أبلغ في المعنى من إظهاره؛ ألا ترى أنك لو قلت لغلامك: والله لئن قمت إليك. وسكت عن الجواب، ذهب بفكره إلى أنواع المكروه من الضرب والقتل والكسر، وعظم الخوف، ولم يدر أي الأقسام تبغي. ولو قلت: لأضربنك، فأتيت بالجواب لأمن غير الضرب، ولم يخطر بباله نوع من المكروه سواه. فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيرا في حصول الخوف - أفاده الرازي - وملخصه: أن حذف الجواب ثقة بظهوره، وإيذانا بقصور العبارة عن تفصيله.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #323  
قديم 20-12-2022, 04:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2280 الى صـ 2294
الحلقة (323)


القول في تأويل قوله تعالى:

[28] بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون

بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل إضراب عما يدل عليه تمنيهم الباطل من الوعد، بالتصديق والإيمان، أي: ليس ذلك عن عزم صحيح، وخلوص اعتقاد، بل هو بسبب آخر، وهو أنه ظهر لهم ما كانوا يكتمون في أنفسهم من الكفر والشرك، بقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين ، وعرفوا أنهم هالكون بشركهم، فتمنوا لذلك. [ ص: 2280 ] أو بشهادة جوارحهم عليهم، أو ما كانوا يكتمون في أنفسهم في الدنيا من صدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه، كقوله تعالى مخبرا عن موسى أنه قال لفرعون: قال لقد علمت ما أنـزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر الآية. - وقوله تعالى مخبرا عن فرعون وقومه: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا أو هذه الآية إخبار عن حال المنافقين، وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه. ولا ينافي هذا كون السورة مكية، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة، ومن حولها من الأعراب بعد الهجرة؛ لأن الله تعالى ذكر وقوع النفاق في سورة مكية وهي (العنكبوت) فقال: وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين هذا ما ذكروه مما يمكن تنزيل اللفظ الكريم عليه لعمومه. وقد ناقش في ذلك كله العلامة أبو السعود، واعتمد أن المراد ب (ما كانوا يخفونه في الدنيا) النار التي وقفوا عليها؛ إذ هي التي سيق الكلام لتهويل أمرها، والتعجيب من فظاعة حال الموقوفين عليها، و (بإخفائها) تكذيبهم بها، فإن التكذيب بالشيء كفر به، وإخفاء له لا محالة. وإيثار على صريح التكذيب الوارد في قوله عز وجل: هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون وقوله تعالى: هذه النار التي كنتم بها تكذبون مع كونه أنسب بما قبله من قولهم: [ ص: 2281 ] ولا نكذب بآيات ربنا لمراعاة ما في مقابلته من البدو. هذا هو الذي تستدعيه جزالة النظم الكريم.

ثم قال في الوجوه المتقدمة: إنه بعد الإغضاء عما في كل منها من الاعتساف والاختلال، لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلا. لما عرفت من أن سوق النظم الشريف لتهويل أمر النار، وتفظيع حال أهلها، وقد ذكر وقوفهم عليها، وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحيط به الوصف. ورتب عليه تمنيهم المذكور ب (الفاء) القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها، فإسقاط النار بعد ذلك من تلك السببية، وهي نفسها أدهى الدواهي، وأزجر الزواجر، وإسنادها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر، مع عدم جريان ذكرها، ثمة - أمر يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله. وأما ما قيل من أن المراد جزاء ما كانوا يخفون، فمن قبيل دخول البيوت من ظهورها، وأبوابها مفتوحة. فتأمل.

أقول: لا ريب في بلاغة ما قرره ونفاسته، لولا تكلفه حمل الإخفاء على ما ذكره، مما هو غير ظاهر فيه، وليس له نظائر في التنزيل الكريم. فمجازيته حينئذ من قبل المعمى. وفي الوجوه الأول إبقاؤه على حقيقته بلا تكلف، وشموله لها - غير بعيد؛ لأن في كل منها ما يؤيده، كما بيناه. غاية الأمر أن ما قرره وجه منها بديع. وأما كونه المراد لا غير، فدونه خرط القتاد - والله أعلم بأسرار كتابه -.

ولو ردوا أي: عن موقفهم ذلك إلى الدنيا كما تمنوه، وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال: لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والشرك: وإنهم لكاذبون في وعدهم بالإيمان، أو ديدنهم الكذب في أحوالهم.
[ ص: 2282 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[29] وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين

وقالوا عطف على (لعادوا) أو استئناف إن هي أي: ما الحياة، فالضمير لما بعده إلا حياتنا الدنيا لأي: ليست الحياة التي يتوهم فيها البعث، والتي يتوهم فيه الرد إلا حياتنا الأولى: وما نحن بمبعوثين أي: بعد مفارقتنا هذه الحياة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[30] ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون

ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال الجلال: أي: عرضوا عليه. وقال ابن كثير: أي: وقفوا بين يديه قال أليس هذا أي: المعاد: بالحق تقريعا لهم، وردا لما يتوهمون عند الرد: قالوا بلى وربنا أي: إنه لحق، وليس بباطل، كما كنا نظن. أكدوا اعترافهم باليمين إظهارا لكمال يقينهم بحقيته، وإيذانا بصدور ذلك عنهم بالرغبة والنشاط، طمعا في نفعه قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
القول في تأويل قوله تعالى:

[31] قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون

قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله أي: ببلوغ الآخرة وما يتصل بها، أو هو مجرى على ظاهره؛ لأن منكر البعث منكر للرؤية - قاله النسفي - والثاني هو الصواب، وإن [ ص: 2283 ] اقتصر كثيرون على الأول، وجعلوه استعارة تمثيلية لحالهم بحال عبد قدم على سيده بعد مدة، وقد اطلع السيد على أحواله. فإما أن يلقاه ببشر لما يرضى من أفعاله، أو بسخط لما يسخط منها - فإنه نزعة اعتزالية، ولا عدول إلى المجاز ما أمكنت الحقيقة.

وفي كلام النسفي إشعار بأن اللقاء معناه الرؤية، وهو ما في القاموس. قال شارحه الزبيدي: وهو مما نقدوه، وأطالوا فيه البحث، ومنعوه. وقالوا: لا يلزم من الرؤية اللقي، كالعكس.

وقال الراغب: هو مقابلة الشيء ومصادفته معا، ويعبر به عن كل منهما. ويقال ذلك في الإدراك بالحس والبصر.

لطيفة:

قال الخفاجي في "العناية": قيل: روي عن علي رضي الله عنه أنه نظم أبياتا على وفق هذه الآية، وفي معناها وهي:


زعم المنجم والطبيب، كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر
أو صح قولي، فالخسار عليكما


قال الخفاجي: لا أدري من أيهما أعجب؟ الرواية أم الدراية؟ فإن هذا الشعر لأبي العلاء المعري في ديوانه وهو:


قال المنجم والطبيب، كلاهما: لا تحشر الأجساد. قلت: إليكما


إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي، فالخسار عليكما


أضحى التقى والشر يصطرعان في الد نيا. فأيهما أبر لديكما


طهرت ثوبي للصلاة وقبله جسدي فأين الطهر من جسديكما


وذكرت ربي في الضمائر مؤنسا خلدي بذاك، فأوحشا خلديكما


[ ص: 2284 ] وبكرت في البردين أبغي رحمة منه، ولا ترعان في برديكما


إن لم تعد بيدي منافع بالذي آتي، فهل من عائد بيديكما


برد التقي، وإن تهلهل نسجه خير، بعلم الله، من برديكما


قال ابن السيد في "شرحه". هذا منظوم مما روي عن علي رضي الله عنه، أنه قال لبعض من تشكك في البعث والآخرة: إن كان الأمر كما تقول من أنه لا قيامة، فقد تخلصنا جميعا، وإن لم يكن الأمر كما تقول، فقد تخلصنا وهلكت. فذكروا أنه ألزمه فرجع عن اعتقاده. وهذا الكلام، وإن خرج مخرج الشك. فإنما هو تقرير للمخاطب على خطابه، وقلة أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه. مع أن المناظر على ثقة من أمره، وهو نوع من أنواع الجدل.

وقوله: (إليكما) كلمة يراد بها الردع والزجر. ومعناها: كفا عما تقولان، وحقيقته: قولكما مصروف لكما، لا حاجة لي به. انتهى.

ومن له معرفة بقرض الشعر، يعلم أنه شعر مولد.

ثم نبه الخفاجي على أن هذا النوع يسمى استدراجا.

قال في "المثل السائر": الاستدراج نوع من البلاغة استخرجته من كتاب الله تعالى، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال، يستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن، [ ص: 2285 ] وهو قريب من المغالطة، وليس منها. كقوله تعالى: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ألا ترى لطف احتجاجه على طريقة التقسيم بقوله: [ إن يك كاذبا فكذبه عائد عليه، وإن يصدق يصبكم بعض ما وعدكم به ] ، ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى. فإنه نبي صادق، فلا بد أن يصيبهم كل ما وعد به، لا بعضه، لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم، لما فيه من الملاطفة في النصح، بكلام منصف غير مشتط مشدد. أراهم أنه لم يعطه حقه، ولم يتعصب له، ويحام عنه، حتى لا ينفروا عنه. ولذا قدم قوله: كاذبا ، ثم ختم بقوله: إن الله لا يهدي إلخ، يعني: أنه نبي على الهدى، ولو لم يكن كذلك ما آتاه الله النبوة وعضده. وفيه من خداع الخصم واستدراجه ما لا يخفى. انتهى.

وقوله تعالى: حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة أي: جاءتهم القيامة فجأة. وسميت القيامة (ساعة)؛ لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها أحد إلا هو تعالى. والمعنى: جاءتهم منيتهم. على أن المراد بالساعة، الصغرى. قال الراغب: الساعة الكبرى بعث الناس للمحاسبة، والصغرى موت الإنسان، فساعة كل إنسان موته، وهي المشار إليها بقوله تعالى: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة ومعلوم أن الحشر ينال الإنسان عند موته. انتهى. (وبغتة) مصدر في موضع الحال، أي: مباغتة، أو مصدر لمحذوف، أي: تبغتهم. أو للمذكور. فإن (جاءتهم)، بمعنى (بغتتهم).

[ ص: 2286 ] قالوا يعني: منكري البعث، وهم كفار قريش، ومن سلك سبيلهم في الكفر والاعتقاد: يا حسرتنا أي: يا ندامتنا! والحسرة: التلهف على الشيء الفائت. وذكرت على وجه النداء للمبالغة. والمراد: تنبيه المخاطبين على ما وقع بهم من الحسرة على ما فرطنا أي: قصرنا: فيها أي: في الحياة الدنيا. أضمرت وإن لم يجر ذكرها، للعلم بها، أي: على ما ضيعنا فيها؛ إذ لم نكتسب من الاعتقادات والأخلاق والأعمال ما ينجينا، أو الضمير للساعة، أي: على ما فرطنا في شأنها، ومراعاة حقها، والاستعداد لها، وبالإيمان بها، واكتساب الأعمال الصالحة.

وقال ابن جرير: الضمير يعود إلى الصفقة التي دل عليها قوله: قد خسر إلخ. إذ الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت. قال: والمعنى قد وكس الذين كذبوا بلقاء الله، ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانه وجنته، بالكفر الذي يستوجبون به منه سخطه وعقوبته. ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك. حتى تقوم الساعة. فإذا جاءتهم الساعة بغتة، فرأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم، قالوا حينئذ تندما: يا حسرتنا على ما فرطنا .

وقوله تعالى: وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم حال من فاعل: قالوا ، فائدته الإيذان بأن عذابهم ليس مقصورا على ما ذكر من الحسرة على ما فات وزال، بل يقاسون -مع ذلك- تحمل الأوزار الثقال. والإيماء إلى أن تلك الحسرة من الشدة، بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من فنون العقوبات. قاله أبو السعود.

والأوزار: جمع وزر، وهو في الأصل: الحمل الثقيل، سمي به الذنب لثقله على صاحبه. قيل: جعلها محمولة على الظهور استعارة تمثيلية، مثل لزومها لهم، على وجه لا يفارقهم، بذلك. وخص الظهر؛ لأنه المعهود حمل الأثقال عليه. كما عهد الكسب بالأيدي.

[ ص: 2287 ] وقيل: هو حقيقة، لما روي عن السدي أنه قال: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره، إلا جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون، منتن الريح، عليه ثياب دنسة، حتى يدخل معه قبره. فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك! قال: كذلك كان عملك قبيحا. قال: ما أنتن ريحك! قال: كذلك كان عملك منتنا. قال: ما أدنس ثيابك! قال فيقول: إن عملك كان دنسا. قال من أنت؟ قال: أنا عملك. قال: فيكون معه في قبره. فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه، حتى يدخله النار. فذلك قوله تعالى: وهم يحملون الآية..

قال الخفاجي: ولعل هذا تمثيل أيضا. وقريب منه ما قيل: من قال بالميزان، واعتقد وزن الأعمال، لا يقول إنه تمثيل. انتهى.

ألا ساء ما يزرون أي: بئس ما يحملونه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[32] وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون

وما الحياة الدنيا إلا لعب أي: هزل، وعمل لا يجدي نفعا: ولهو أي: اشتغال بهوى وطرب، وما لا تقتضيه الحكمة، وما يشغل الإنسان عما يهمه مما يلتذ به ثم ينقضي.

وللدار الآخرة خير للذين يتقون لدوامها، وخلوص منافعها ولذاتها عن المضار والآلام.

أفلا تعقلون ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي، ولا تؤثرون الأدنى الفاني، على الأعلى الباقي.

وههنا [ ص: 2288 ] لطائف:

الأولى: قال الرازي: اعلم أن المنكرين للبعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا، وتحصيل لذاتها. فذكر الله هذه الآية تنبيها على خساستها وركاكتها. واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها؛ لأن هذه الحياة العاجلة، لا يصح اكتساب السعادات الأخروية إلا فيها. فلهذا السبب حصل في تفسير هذه الآية قولان:

الأول: أن المراد منه حياة الكافر. قال ابن عباس: يريد حياة أهل الشرك والنفاق. والسبب في وصف حياة هؤلاء بهذه الصفة، أن حياة المؤمن يحصل فيها أعمال صالحة، فلا تكون لعبا ولهوا.

والقول الثاني: إن هذا عام في حياة المؤمن والكافر. والمراد منه: اللذات الحاصلة في هذه الحياة، والطيبات المطلوبة في هذه الحياة، وإنما سماها (اللعب واللهو) لأن الإنسان، حال اشتغاله باللعب واللهو، يلتذ به. ثم عند انقراضه وانقضائه لا يبقى منه إلا الندامة. فذلك هذه الحياة، لا يبقى عند انقراضها إلا الحسرة والندامة.

الثانية: قال الخفاجي: جمع اللهو واللعب في آيات. فتارة يقدم اللعب، كما هنا. وتارة قدم اللهو كما في العنكبوت. ولهذا التفنن نكتة مذكورة في "درة التأويل" ملخصا: أن الفرق بين اللهو واللعب، مع اشتراكهما في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى أو طرب، سواء كان حراما أم لا، أن اللهو أعم من اللعب، فكل لعب لهو، ولا عكس. فاستماع الملاهي لهو، وليس بلعب. وقد فرقوا ببينهما أيضا بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة، والاسترواح به، واللهو كل ما شغل من هوى وطرب، وإن لم يقصد به [ ص: 2289 ] ذلك، كما نقل عن أهل اللغة، قالوا: واللهو، إذا أطلق، فهو اجتلاب المسرة بالنساء، كما قال امرؤ القيس:


ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي


وقال قتادة: اللهو، في لغة اليمن (المرأة). وقيل: اللعب طلب: المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به. واللهو: صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به.

ولما كانت الآية ردا على الكفرة في إنكار الآخرة، وحصر الحياة في الحياة الدنيا، وليس في اعتقادهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية - قدم اللعب الدال على ذلك، وتمم باللهو. وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة وتحقيرها، بالقياس إلى الآخرة. ولذا ذكر باسم الإشارة المشعر بالتحقير. والاشتغال باللهو، مما يقصر به الزمان، وهو أدخل من اللعب فيه. وأيام السرور قصار، كما قال:


وليلة إحدى الليالي الزهر لم تك غير شفق وفجر


[ ص: 2290 ] الثالثة: في قوله تعالى: للذين يتقون تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين، لعب ولهو.
القول في تأويل قوله تعالى:

[33] قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون

وقوله تعالى: قد نعلم إنه ليحزنك قرئ بفتح الياء وضمها الذي يقولون أي: يقولون فيك، من أنك كاذب أو ساحر أو شاعر أو مجنون.

قال أبو السعود: استئناف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه، مما حكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب، والمبالغة فيه، ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانة من الله عز وجل، وأن ما يفعلونه في حقه فهو راجع إليه تعالى في الحقيقة، وأنه ينتقم منهم أشد انتقام. وكلمة (قد) لتأكيد العلم بما ذكر، المفيد لتأكيد الوعيد.

وقوله تعالى: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون الفاء للتعليل؛ لأن قوله تعالى: قد نعلم بمعنى لا تحزن، كما يقال في مقام المنع والزجر: نعلم ما تفعل! ووجه التعليل في تسليته له صلى الله عليه وسلم بأن التكذيب في الحقيقة لي، وأنا الحليم الصبور، فتخلق بأخلاقي.

قال أبو السعود: وهذا يفيد بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القدر، ورفعة المحل، والزلفى من الله عز وجل، إلى حيث لا غاية وراءه، حيث لم يقتصر على جعل تكذيبه عليه الصلاة والسلام تكذيبا لآياته سبحانه، على طريقة قوله تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله بل نفى تكذيبهم عنه، وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله [ ص: 2291 ] إيذانا بكمال القرب، واضمحلال شؤونه عليه الصلاة والسلام في شأن الله عز وجل. وفيه استعظام لجنايتهم، منبئ عن عظم عقوبتهم. وقيل: المعنى: فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم، ولكنهم يجحدون بألسنتهم، عنادا أو مكابرة. ويعضده ما روى سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ناجية عن علي رضي الله عنه قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله: فإنهم لا يكذبونك الآية. - رواه الحاكم وصححه.

وروى ابن جرير عن السدي قال: لما كان يوم بدر، خلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم! أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم.

قال الرازي: وهذا القول غير مستبعد، ونظيره قوله تعالى في قصة موسى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقيل: المعنى فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق، ولكنهم يجحدون بآيات الله، كما يروى أن أبا جهل كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نكذبك، وإنك عندنا لصادق، ولكننا نكذب ما جئتنا به.

[ ص: 2292 ] قال أبو السعود: وكأن صدق المخبر عند الخبيث، بمطابقة خبره لاعتقاده. والأول هو الذي تستدعيه الجزالة التنزيلية. وقرئ: لا يكذبونك من (أكذبه). بمعنى وجده كاذبا، أو نسبه إلى الكذب، أو بين كذبه، وقال: أكذبه وكذبه بمعنى - كذا في القاموس وشرحه -.
القول في تأويل قوله تعالى:

[34] ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين

ولقد كذبت رسل من قبلك افتنان في تسليته عليه الصلاة والسلام، فإن عموم البلية ربما يهون أمرها بعض تهوين. وإرشاده صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام، في الصبر على ما أصابهم من أممهم، من فنون الأذية. وعدة ضمينة له صلى الله عليه وسلم بمثل ما منحوه من النصر. وتصدير الكلام بالقسم، لتأكيد التسلية. وتنوين (رسل) للتفخيم والتكثير . أفاده أبو السعود.

قال الزمخشري: في قوله تعالى: ولقد كذبت دليل على أن قوله: فإنهم لا يكذبونك ليس بنفي لتكذيبه، وإنما هو من قولك لغلامك: ما أهانوك، ولكنهم أهانوني! انتهى.

وناقشه الناصر في "الانتصاف" بأنه لا دلالة فيه؛ لأنه مؤتلف مع نفي التكذيب أيضا، وموقعه حينئذ من الفضيلة أبين. أي: هؤلاء لم يكذبوك، فحقك أن تصبر عليهم، ولا يحزنك أمرهم. وإذا كان من قبلك من الأنبياء قد كذبهم قومهم، فصبروا عليهم، وأنت إذ لم يكذبوك أجدر بالصبر. فقد ائتلف، كما ترى، بالتفسيرين جميعا. ولكنه من غير الوجه الذي استدل به، فيه تقريب لما اختاره، وذلك أن مثل هذه التسلية قد وردت مصرحا بها [ ص: 2293 ] في نحو قوله تعالى: وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك فسلاه عن تكذيبهم له، بتكذيب غيرهم من الأمم لأنبيائهم. وما هو إلا تفسير حسن مطابق للواقع، مؤيد بالظاهر. والله أعلم.

فصبروا على ما كذبوا وأوذوا أي: على تكذيبهم وإيذائهم، فتأس بهم: حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله أي: لمواعيده، من قوله: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وقوله: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي

ولقد جاءك من نبإ المرسلين أي: من خبرهم في مصابرة الكافرين، وما منحوه من النصر، فلا بد أن نزيل حزنك بإهلاكهم، وليس إمهالهم لإهمالهم، بل لجريان سنته تعالى بتحقق صبر الرسل وشكرهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[35] وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين

وإن كان كبر أي: شق وثقل عليك إعراضهم أي: عن الإيمان بما جئت به من القرآن، ونأيهم عنه، ونهيهم الناس عنه فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أي: سربا ومنفذا تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض، حتى تطلع لهم آية يؤمنون [ ص: 2294 ] بها أو سلما في السماء أي: مصعدا تعرج به فيها فتأتيهم بآية أي: مما اقترحوه فافعل. وحسن حذف الجواب لعلم السامع به. أي: لكن لم يجعل الله لك هذه الاستطاعة، إذ يصير الإيمان ضروريا غير نافع.

ولو شاء الله لجمعهم على الهدى أي: ولكنه شاء بمقتضى جلاله وجماله، إظهار غاية قهره، وغاية لطفه فلا تكونن أي: بالحرص على إيمانهم، أو الميل إلى نزول مقترحهم: من الجاهلين أي: بما تقتضيه شؤونه تعالى، التي من جملتها ما ذكر من عدم تعلق مشيئته تعالى بإيمانهم. إما اختيارا، فلعدم توجههم إليه. وإما اضطرارا، فلخروجه عن الحكمة التشريعية المؤسسة على الاختبار.

تنبيهات:

الأول: في هذه الآية ما لا يخفى من الدلالة على المبالغة في حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلام قومه. وتراميه عليه، إلى حيث لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض، أو من فوق السماء، لأتى بها. رجاء إيمانهم، وشفقة عليهم.

الثاني: قال الناصر في "الانتصاف": هذه الآية كافلة بالرد على القدرية في زعمهم أن الله تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن. ألا ترى أن الجملة مصدرة ب (لو)، ومقتضاها امتناع جوابها، لامتناع الواقع بعدها. فامتناع اجتماعهم على الهدى، إذ إنما كان لامتناع المشيئة. فمن ثم ترى الزمخشري يحمل المشيئة على قهرهم على الهدى بآية ملجئة، لا يكون الإيمان معها اختيارا، حتى يتم له أن هذا الوجه من المشيئة لم يقع، وأن مشيئته اجتماعهم على الهدى على اختيار منهم، ثابتة غير ممتنعة، ولكن لم يقع متعلقها. وهذه من خباياه ومكامنه فاحذرها. والله الموفق.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #324  
قديم 20-12-2022, 04:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2295 الى صـ 2311
الحلقة (324)




الثالث: لم يقل: (لا تكن جاهلا) بل من قوم ينسبون إلى الجهل، تعظيما لنبيه صلى الله عليه وسلم [ ص: 2295 ] بأن لم يسند الجهل إليه، للمبالغة في نفيه عنه. وما فيه من شدة الخطاب، سره تبعيد جنابه الكريم عن الحرص على ما لا يكون والجزع في مواطن الصبر، مما لا يليق إلا بالجاهلين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[36] إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون

وقوله تعالى: إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون تقرير لما مر من أن على قلوبهم أكنة، وتحقيق لكونهم بذلك من قبيل الموتى، لا يتصور منهم الإيمان البتة. أي: إنما يستجيب لك، بقبول دعوتك إلى الإيمان، الأحياء الذي يسمعون ما يلقى إليهم، سماع تفهم، دون الموتى الذين هؤلاء منهم. كقوله تعالى: إنك لا تسمع الموتى وإن كانوا أحياء بالحياة الحيوانية، أموات بالنسبة إلى الإنسانية، لموت قلوبهم بسموم الاعتقادات الفاسدة، والأخلاق الرديئة.

و: الموتى مبتدأ. يعني: الكفار الذين لا يسمعون ولا يستجيبون، يبعثهم الله يوم القيامة، ثم إليه يرجعون، فيجزيهم بأعمالهم. فالموتى مجاز عن الكفرة كما قيل:


لا يعجبن الجهول بزته فذاك ميت ثيابه كفن


قيل: فيه رمز إلى أن هدايتهم كبعث الموتى، فلا يقدر عليه إلا الله، ففيه إقناط للرسول صلى الله عليه وسلم عن إيمانهم. وفي تسميتهم (موتى) من التهكم بهم، والإزراء عليهم، ما لا يخفى.
[ ص: 2296 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[37] وقالوا لولا نـزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينـزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون

وقالوا يعني: مشركي مكة، بيان لنوع آخر من تعنتهم؛ إذ لم يقتنعوا بما شاهدوا من البينات التي تخر لها صم الجبال لولا نـزل عليه آية من ربه أي: خارق، على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون. كقولهم: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا الآيات.

قل إن الله قادر على أن ينـزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون أي: إن اقتراحهم جهل؛ لما أن في تنزيلها قلعا لأساس التكليف، المبني على قاعدة الاختيار. أو استئصالا لهم بالكلية، فإن من لوازم جحد الآية الملجئة، الهلاك، جريا على سنته تعالى في الأمم السالفة. وتخصيص عدم العلم بأكثرهم، لما أن بعضهم واقفون على حقيقة الحال، وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعنادا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[38] وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون

وما من دابة في الأرض أي: مستقرة فيها، لا ترتفع عنها: ولا طائر يرتفع عنها إذ: يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم أي: أصناف مصنفة في ضبط أحوالها، وعدم إهمال شيء منها، وتدبير شؤونها، وتقدير أرزاقها.

[ ص: 2297 ] ما فرطنا في الكتاب أي: ما تركنا، وما أغفلنا، في لوح القضاء المحفوظ من شيء أي: جليل أو دقيق، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم، لم يهمل فيه أمر شيء: والمعنى: أن الجميع علمهم عند الله، لا ينسى واحدا منها من رزقه وتدبيره. كقوله: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين أي: مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها، وحاصر لحركاتها وسكناتها ثم إلى ربهم يحشرون يعني: الأمم كلها، من الدواب والطير، فينصف بعضهم من بعض، حتى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء. وإيراد ضميرها على صيغة جمع العقلاء. لإجرائها مجراهم.

تنبيهات:

الأول: قال الزمخشري: إن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه، وسعة سلطانه، وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان. وقال الرازي: المقصود أن عناية الله حاصلة لهذه الحيوانات، فلو كان إظهار آية ملجئة مصلحة، لأظهرها، فيكون كالدليل على أنه تعالى قادر على أن ينزل آية.

وقال القاضي: إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار، وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون، بين بعده بقوله: وما من دابة إلخ، أن البعث حاصل في حق البهائم أيضا.

الثاني: زيادة (من) في قوله: وما من دابة في الأرض لتأكيد الاستغراق. و (في) متعلقة بمحذوف هو وصف ل: دابة مفيد لزيادة التعميم. كأنه قيل: وما فرد من [ ص: 2298 ] أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض. وكذا زيادة الوصف في قوله: يطير بجناحيه

قال في "الانتصاف": في وجه زيادة التعميم، أن موقع قوله: في الأرض و: يطير بجناحيه موقع الوصف العام - وصفة العام عامة - ضرورة المطابقة، فكأنه مع زيادة الصفة، تضافرت صفتان عامتان.

الثالث: قال الزمخشري: إن قلت: كيف قيل (الأمم) مع إفراد الدابة والطائر؟ قلت: لما كان قوله تعالى: وما من دابة في الأرض ولا طائر دالا على معنى الاستغراق، ومغنيا عن أن يقال: وما من دواب ولا طير، حمل قوله: إلا أمم على المعنى.

الرابع: دلت الآية على أن كل صنف من البهائم أمة، وجاء في الحديث: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم، لأمرت بقتلها» - رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.

الخامس: ما ذكرناه في معنى مماثلة الأمم لنا، من تدبيره تعالى لأمورها، وتكفله برزقها، وعدم إغفال شيء منها مما يبين شمول القدرة، وسعة العلم - هو الأظهر. موافقة لقوله تعالى: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم الآية. - والقرآن يفسر بعضه بعضا. ونقل الواحدي عن ابن عباس أن المماثلة هي في معرفته تعالى، وتوحيده وتسبيحه وتحميده. كقوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده وقوله: [ ص: 2299 ] كل قد علم صلاته وتسبيحه .

وعن أبي الدرداء قال: أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء: معرفة الإله، وطلب الرزق، ومعرفة الذكر والأنثى، وتهيؤ كل واحد منهم لصاحبه.

وقيل: المماثلة في أنها تحشر يوم القيامة كالناس.

أقول: لا شك في صحة الوجهين بذاتهما، وصدق المثلية فيهما، ولكن الحمل عليهما يبعده عدم ملاقاته للآية الأخرى. فالأمس، تأييدا للنظائر، ما ذكرناه أولا. والله أعلم.

السادس: ما بيناه في معنى (الكتاب) من أنه اللوح المحفوظ في العرش، وعالم السماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام - هو الأظهر، لملاقاته للآية التي ذكرناها تأييدا للنظائر القرآنية. ولم يذكر الإمام ابن كثير سواه، على توسعه.

وقيل: المراد منه القرآن كقوله تعالى: ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء قال الخفاجي: قيل: حمله على القرآن لا يلائم ما قبله وما بعده. ويدفع بأن المعنى: لم نترك شيئا من الحجج وغيرها إلا ذكرناه، فكيف يحتاج إلى آية أخرى مما اقترحوه، ويكذب بآياتنا؟ فالكلام بعضه آخذ بحجز بعض بلا شبهة.

وقال أبو السعود: أي: ما تركنا في القرآن شيئا من الأشياء المهمة التي من جملتها بيان أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته.

قال الشهاب في قول البيضاوي (فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلا [ ص: 2300 ] أو مجملا): يشير إلى أن ما ثبت بالأدلة الثلاثة ثابت بالقرآن، لإشارته بنحو قوله: فاعتبروا يا أولي الأبصار إلى القياس. وقوله: وما آتاكم الرسول فخذوه إلى السنة. بل قيل: إنه بهذه الطريقة يمكن استنباط جميع الأشياء منه. كما سأل بعض الملحدين بعضهم عن طبخ الحلوى، أين ذكر في القرآن؟ فقال: في قوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون انتهى.

واستظهر الرازي أن المراد (بالكتاب) القرآن. واحتج بأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد، انصرف إلى المعهود السابق، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن. فوجب أن يكون المراد من (الكتاب) في هذه الآية القرآن. إذا ثبت هذا، فلقائل أن يقول: كيف قال تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء مع أنه ليس فيه تفاصيل علم [ ص: 2301 ] الطب، وتفاصيل علم الحساب، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم. وليس فيه أيضا تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع؟

والجواب: أن قوله: ما فرطنا في الكتاب من شيء يجب أن يكون مخصوصا ببيان الأشياء التي يجب معرفتها، والإحاطة بها، وبيانه من وجهين:

الأول: أن لفظ (التفريط) لا يستعمل نفيا ولا إثباتا، إلا فيما يجب أن يبين؛ لأن أحدا لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه.

الثاني: أن جميع آيات القرآن، أو الكثير منها، دالة بالمطابقة أو التضمين أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين، ومعرفة الله، ومعرفة أحكام الله. وإذا كان هذا التقييد معلوما من كل القرآن، كان المطلق ههنا محمولا على ذلك المقيد. أما قوله: إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع، فنقول: أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه؛ لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه. فأما روايات المذاهب، وتفاصيل الأقاويل، فلا حاجة إليها. وأما تفاصيل علم الفروع، فقال العلماء: إن القرآن دل على أن الإجماع، وخبر الواحد، والقياس، حجة في الشريعة. فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة، كان ذلك في الحقيقة موجودا في القرآن.

وذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة:

المثال الأول: روي أن ابن مسعود كان يقول: ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه؟ [ ص: 2302 ] يعني: الواشمة والمستوشمة; والواصلة والمستوصلة.

وروي أن امرأة قرأت القرآن، ثم أتته، فقالت: يا ابن أم عبد! تلوت البارحة ما بين الدفتين، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة! فقال. لو تلوتيه لوجدتيه، قال الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وإن مما آتانا به رسول الله أنه قال: لعن الله الواشمة والمستوشمة.

قال الرازي: وأقول: يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك؛ لأنه تعالى قال في سورة النساء: وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله فحكم [ ص: 2303 ] عليه باللعن، ثم عدد بعده قبائح أفعاله، وذكر من جملتها قوله: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله . وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن. انتهى.

قلت: وتتمة الحديث تؤيد ذلك أيضا. ولفظه: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. رواه الإمام أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن ابن مسعود.

ثم قال الرازي:

المثال الثاني: ذكر أن الشافعي رحمه الله كان جالسا في المسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى. فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال: لا شيء عليه، فقال: أين هذا في كتاب الله؟ فقال: قال الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه ثم ذكر إسنادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. ثم ذكر إسنادا إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: للمحرم قتل الزنبور. قال الواحدي: فأجابه من كتاب الله مستنبطا بثلاث درجات.

وأقول هاهنا طريق آخر أقرب منه، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة. قال تعالى: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقال: ولا يسألكم أموالكم [ ص: 2304 ] وقال: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فنهى عن أكل أموال الناس. إلا بطريق التجارة، فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة. وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء؛ وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة. المثال الثالث: قال الواحدي: روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقض بيننا بكتاب الله. فقال عليه السلام: والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله. [ ص: 2305 ] ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة إن اعترفت. قال الواحدي: وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب. وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله. قال الرازي: وهذا حق؛ لأنه تعالى قال: لتبين للناس ما نزل إليهم ، وكل ما بينه الرسول عليه الصلاة والسلام كان داخلا تحت هذه الآية. انتهى.

وبالجملة، فالقرآن الكريم كلية الشريعة، والمجموع فيه أمور كليات؛ لأن الشريعة تمت بتمام نزوله، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها، وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال. وقد جود البحث في هذه المسألة المهمة، العلامة الشاطبي في "الموافقات" في الطرف الثاني، في الأدلة على التفصيل. فارجع إليه.

وقد نقلنا شذرة منه في مقدمة هذا التفسير. فتذكر!.

السابع: قال أبو البقاء: من في قوله تعالى: من شيء زائدة. و (شيء) هنا واقع موقع المصدر. أي: تفريطا. وعلى هذا التأويل لا يبقى في الآية حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء صريحا. ونظير ذلك: لا يضركم كيدهم شيئا أي: [ ص: 2306 ] ضررا. وقد ذكرنا له نظائر. ولا يجوز أن يكون: شيئا مفعولا به؛ لأن: فرطنا تتعدى بنفسها، بل بحرف الجر، وقد عديت ب (في) إلى: الكتاب ، فلا تتعدى بحرف آخر، ولا يصح أن يكون المعنى: ما تركنا في الكتاب من شيء؛ لأن المعنى على خلافه، فبان أن التأويل ما ذكرنا. انتهى.

وقال الخفاجي: التفريط التقصير. وأصله أن يتعدى ب (في) وقد ضمن هنا معنى (أغفلنا وتركنا). ف: من شيء في موضع المفعول به، و: من زائدة. والمعنى: ما تركنا في الكتاب شيئا يحتاج إليه من دلائل الألوهية والتكاليف.

هذا ما ارتضاه أبو حيان والزمخشري، وعدل عنه البيضاوي؛ لأنه لا يتعدى. فجعل التقدير (تفريطا) فحذف المصدر، وأقيم: شيئا مقامه، وتبع فيه أبا البقاء، إذ اختار هذا، وأورد عليه في "الملتقط" أنه ليس كما ذكرنا؛ لأنه إذا تسلط النفي على المصدر، كان منفيا على جهة العموم، ويلزمه نفي أنواع المصدر، ونفي جميع أفراده، وليس بشيء؛ لأنه يريد أن المعنى حينئذ: أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن، وهو مما لا شبهة فيه، ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر، حتى يحتاج إلى التأويل. كما أن نفي تعديه لا يضر من قال إنه مفعول به على التضمين، كما مر، وأما ما قيل: إن (فرط) يتعدى بنفسه، لما وقع في القاموس (فرط الشيء، وفرط فيه تفريطا ضيعه وقدم العجز فيه وقصر) فلا نسلم أنه يتعدى بنفسه، وتفرد صاحب القاموس بأمر، لا يسمع في مقابلة الزمخشري وغيره. مع أنه يحتمل أن تعديته المذكورة فيه ليست وضعية، بل مجازية، أو بطريق التضمين. انتهى كلام الشهاب.

أقول: ما للمجد في القاموس، ليس من تفرداته وعندياته، إذ اللغة مرجعها السماع، [ ص: 2307 ] لا الاجتهاد. وموازنته بين الزمخشري وغيره، من باب معرفة الحق بالرجال، الذي الصواب عكسه، على أنه ليس في "الكشاف"

ما يقتضي ما زعمه. وقد استشهد شارح القاموس، الزبيدي شاهدا على تعديته بنفسه، تأييدا لكلام المجد، قول صخر الغي:


ذلك بزي فلن أفرطه أخاف أن ينجزوا الذي وعدوا


قال ابن سيده: يقول. لا أضيعه، وقوله: بزي، أراد سلاحي. ثم قال الزبيدي: وقال أبو عمرو: فرطتك في كذا وكذا، أي: تركتك. وبه فسر أيضا قول صخر. انتهى. وأنشد أبو السعود قول ساعدة بن جؤية:


معه سقاء لا يفرط حمله


أي: لا يتركه. وبه يعلم سقوط ما لأبي البقاء، وسقوط دعوى أن أصله أن يتعدى ب (في) ودعوى التضمين السابقة، وتكليف كون: شيء واقعا موقع المصدر.

هذا وقرئ: "فرطنا" بالتخفيف، وهو بمعنى المشدد، وإنما توسعنا فيما روي على القول الثاني في معنى الكتاب، لشهرة الآية في هذا المعنى، وإن كان الأظهر الأول، لما ذكرناه، ولأن السورة مكية، والأحكام فيها لم تتم. والله أعلم.

الثامن: دلت الآية على حشر الدواب والبهائم والطير كلها، أي: بعثها يوم القيامة. كقوله تعالى: وإذا الوحوش حشرت

وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين [ ص: 2308 ] تنتطحان، فقال: يا أبا ذر! هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما» . ورواه عبد الرزاق وابن جرير، وزاد: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما.

وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الجماء لتقص من القرناء يوم القيامة» .

وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة في هذه الآية قال: «يحشر الخلق كلهم يوم القيامة: الدواب والبهائم والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا! فلذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا » . وقد روي هذا مرفوعا في حديث الصور. أفاده ابن كثير.

قلت: روى الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد" ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء، تنطحها» .

[ ص: 2309 ] وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس في الآية قال: حشرها الموت. وروي عن مجاهد والضحاك مثله. والأول أظهر.

التاسع: "في الإكليل": استدل بهذه الآية على مسألة أخرى، أخرجه أبو الشيخ عن أنس أنه سئل: من يقبض أرواح البهائم؟ قال: ملك الموت. فبلغ الحسن فقال: صدق! وإن ذلك في كتاب الله. ثم تلا هذه الآية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[39] والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم

والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات أي: مثلهم في جهلهم، وعدم فهمهم، وسوء حالهم الصم (جمع أصم وهو الذي لا يسمع) والبكم (جمع أبكم وهو الذي لا يتكلم). وهو مع ذلك في الظلمات لا يبصرون، فكيف يهتدي مثلهم إلى الطريق، أو يخرج مما هو فيه؟ وقد كثر تشبيههم بذلك في التنزيل، إعلاما ببيان كمال عراقتهم في الجهل، وانسداد باب الفهم والتفهيم بالكلية.

ثم أشار إلى أنهم من أهل الطبع بقوله: من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم أي: فهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فمن أحب هدايته، وفقه بفضله وإحسانه للإيمان. ومن شاء ضلالته تركه على كفره ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

ثم أمر تعالى رسوله بأن يبكتهم بما لا سبيل لهم إلى إنكاره. ببيان أنهم إذا نزلت بهم شدة، فإنهم يفزعون إليه تعالى، لا إلى الأصنام، فقال تعالى:
[ ص: 2310 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[40] قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين

قل أرأيتكم أي: أخبروني: إن أتاكم عذاب الله أي: مثل ما نزل بالأمم الماضية الكافرة أو أتتكم الساعة يعني القيامة: أغير الله تدعون أي: في كشف العذاب عنكم، وهذا محط التبكيت. أي: أتخصون آلهتكم بالدعوة إلى رفع تلك الشدة، بل لا تدعونها مع الله أيضا: إن كنتم صادقين متعلق ب: أرأيتكم مؤكد للتبكيت، كاشف عن كذبهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[41] بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون

بل إياه تدعون أي: تخصون بالدعوة: فيكشف ما تدعون إليه إن شاء أي: إن شاء كشفه. والتقييد بالمشيئة لبيان أن إجابتهم غير مطردة، بل هي تابعة لمشيئته تعالى، المبنية على حكم استأثر بعلمها: وتنسون ما تشركون أي: تتركون ما تشركون تركا كليا لعلمكم بأنها لا تضر ولا تنفع. عطف على: تدعون ، وتوسيط الكشف بينهما مع تقارنهما، وتأخر الكشف عنهما، لإظهار كمال العناية بشأن الكشف والإيذان بترتبه على الدعاء خاصة.

ثم بين تعالى أن من كفار الأمم السالفة من بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدائد ليخضعوا ويلتجئوا إلى الله تعالى، فلم يفعلوا. تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال:
[ ص: 2311 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[42] ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون

ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك أي: رسلا، فكذبوهم ولم يبالوا، لكونهم في الرخاء فأخذناهم بالبأساء أي: الشدة والقحط والضراء أي: المرض ونقصان الأنفس والأموال: لعلهم يتضرعون أي: يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون إليه من كفرهم ومعاصيهم، فالنفوس تتخشع عند نزول الشدائد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[43] فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون

فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا أي: بالتوبة والتمسكن. ومعناه. نفي التضرع.

كأنه قيل: فلم يتضرعوا. وجيء ب (لولا) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم، كما قال: ولكن قست قلوبهم فلم يكن فيها لين يوجب التضرع، ولم ينزجروا وإنما ابتلوا به وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون أي: من الشرك. فالاستدراك على المعنى لبيان الصارف لهم عن التضرع. وأنه لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم المزينة لهم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #325  
قديم 20-12-2022, 04:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2312 الى صـ 2327
الحلقة (325)




لطيفة:

إن قلت: قد أسند تعالى هنا التزيين إلى الشيطان، وأسنده إلى نفسه في قوله: كذلك زينا لكل أمة عملهم . فهل هو حقيقة فيهما. أو في أحدهما؟ قلت: وقع التزيين [ ص: 2312 ] في مواقع كثيرة: فتارة أسنده إلى الشيطان، كالآية الأولى، وتارة إلى نفسه كالثانية، وتارة إلى البشر كقوله: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم - في قراءة - وتارة مجهولا غير مذكور فاعله كقوله: زين للمسرفين ؛ لأن التزيين له معان يشهد بها الاستعمال واللغة: أحدها: إيجاد الشيء حسنا مزينا في نفس الأمر، كقوله تعالى: زينا السماء الدنيا والثاني: جعله مزينا من غير إيجاد، كتزيين الماشطة العروس، والثالث: جعله محبوبا للنفس، مشتهى للطبع، وإن لم يكن في نفسه كذلك. فهذا إن كان بمعنى خلق الميل في النفس والطبع لا يسند إلا إلى الله؛ لأنه الفاعل له حقيقة، لإيجاده له، ولغة ونحوا لاتصافه بخلقه. وإن كان بمجرد تزويره وترويجه بالقول وما يشبهه، كالوسوسة والإغواء، [ ص: 2313 ] فهذا لا يسند إليه تعالى حقيقة، وإنما يسند إلى البشر أو الشيطان، وإذا لم يذكر فاعله، يقدر في كل مكان ما يليق به. كذا في "العناية".
القول في تأويل قوله تعالى:

[44] فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون

فلما نسوا ما ذكروا به أي: من البأساء والضراء، أي: تركوا الاتعاظ به: فتحنا عليهم أبواب كل شيء أي: من النعم، كالصحة والسعة وراحة البال والأمن، وصنوف رغائبهم، استدراجا وإملاء ومكرا بهم، عياذا بالله من مكره حتى إذا فرحوا بما أوتوا من مطالبهم ورغائبهم، مع الشرك: أخذناهم أي: بالعذاب المستأصل بغتة أي: فجأة بلا تقديم مذكر، إذ لم يفدهم في المرة الأولى فإذا هم مبلسون متحسرون، يئسون من كل خير.
القول في تأويل قوله تعالى:

[45] فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين

فقطع دابر القوم الذين ظلموا أي: آخرهم. كناية عن الاستئصال؛ لأن ذهاب آخر الشيء يستلزم ذهاب ما قبله. وهو من (دبره) إذا تبعه، فكان في دبره. أي: خلفه. فالدابر ما يكون بعد الآخر، ويطلق عليه تجوزا. وقال أبو عبيد: دابر القوم آخرهم. وقال الأصمعي: الدابر الأصل، ومنه: قطع الله دابره: أصله.

والحمد لله رب العالمين أي: على ما جرى عليهم من الهلاك. فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض، من شؤم عقائدهم وأعمالهم، نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها، لا سيما مع ما فيه من إعلاء كلمة الحق التي نطقت بها رسلهم، عليهم السلام.

[ ص: 2314 ] تنبيهات:

الأول: روي في هذه الآية أخبار وآثار. منها ما أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج» . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما نسوا ما ذكروا به - إلى: هم مبلسون ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم عنه.

وروى ابن أبي حاتم أيضا عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إذا أراد الله بقوم اقتطاعا فتح لهم (أو فتح عليهم) باب خيانة حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة الآية.» . ورواه أحمد وغيره.

وقال الحسن البصري: من وسع الله عليه، فلم ير أنه يمكر به، فلا رأي له. ومن قتر عليه، ولم ير أنه ينظر له، فلا رأي له. ثم قرأ: فلما نسوا الآية. - قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة! أعطوا حاجاتهم ثم أخذوا.

وقال قتادة: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون - روى ذلك ابن أبي حاتم -.

الثاني: قال الرازي: قال أهل المعاني: وإنما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليكون أشد، لتحسرهم على ما فاتهم من السلامة والعافية.

الثالث: قال الزمخشري: في قوله تعالى: والحمد لله رب العالمين إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، وأنه من أجل النعم، وأجزل القسم. أي: فهو إخبار بمعنى الأمر، تعليما للعباد.

[ ص: 2315 ] قال الناصر في "الانتصاف": ونظيرها قوله تعالى: وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى فيمن وقف ههنا، وجعل الحمد على إهلاك المتقدم ذكرهم من الطاغين، ومنهم من وقف على: المنذرين وجعل الحمد متصلا بما بعده من إقامة البراهين على وحدانية الله تعالى، وأنه جل جلاله خير مما يشركون. فعلى الأول يكون الحمد ختما، وعلى الثاني فاتحة، وهو مستعمل فيهما شرعا، ولكنه في آية النمل أظهر في كونه مفتتحا لما بعده، وفي آية الأنعام ختم لما تقدمه حتما؛ إذ لا يقتضي السياق غير ذلك. انتهى.

فقلت: إذا جرينا على ما هو الأسد في الآي من توافق النظائر، اقتضى حمل آية النمل على ما هنا، وادعاء الأظهرية فيها ممنوع. فإن التنزيل يفسر بعضه بعضا. فتأمل. ثم أمر تعالى رسوله بتكرير التبكيت عليهم. وتثنية الإلزام.
القول في تأويل قوله تعالى:

[46] قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون

يقول تعالى: قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم بأن أصمكم وأعماكم وختم على قلوبكم بأن غطى عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم: من إله غير الله يأتيكم به أي: بذلك المأخوذ. وإنما خصت هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر؛ لأنها أشرف أعضاء الإنسان، فإذا تعطلت اختل نظام الإنسان، وفسد أمره، وبطلت مصالحه في الدين والدنيا.

انظر كيف نصرف الآيات أي: نوردها بطرق مختلفة، كتصريف الرياح. و (انظر) يفيد التعجيب من عدم تأثرهم بما عاينوا من الآيات الباهرة.

[ ص: 2316 ] ثم هم يصدفون أي: بعد رؤيتهم تصريف الآيات يعرضون عنها، فلا يتأملون فيها، عنادا وحسدا وكبرا.

تنبيهات:

الأول: المراد بالآيات: إما مطلق الدلائل القرآنية مطلقا، أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا، أو ما ذكر قبل هذا من المقدمات العقلية الدالة على وجود الصانع وتوحيده المشار إليها بقوله: ( إن أتاكم عذاب الله ) الآية.. ومن الترغيب بقوله: فيكشف ما تدعون إليه ، والترهيب بقوله: إن أخذ الله سمعكم الآية. ومن التنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين. ذهب إلى كل بعض من المفسرين، وعموم اللفظ يصدق على ذلك كله بلا تدافع.

الثاني: قال بعض المفسرين من الزيدية: دلت الآية على جواز الاحتجاج في أمر الدين. انتهى. وهو ظاهر.

الثالث: المقصود من هذه الآية: بيان أن القادر على تحصيل هذه القوى الثلاث، وصونها عن الآفات، ليس إلا الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك، كان المنعم بهذه النعم العالية، والخيرات الرفيعة، هو الله تعالى. فوجب أن يقال: المستحق للتعظيم والثناء والعبودية ليس إلا الله تعالى. وذلك يدل على أن عبادة الأصنام طريقة باطلة فاسدة - قرره الرازي -.

ثم أشار تعالى إلى تبكيت لهم آخر بإلجائهم إلى الاعتراف باختصاص العذاب بهم بقوله سبحانه:
[ ص: 2317 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[47] قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون

قل أرأيتكم إن أتاكم لإعراضكم عن الآيات بعد تصريفها: عذاب الله أي: المستأصل لكم بغتة أي: فجأة من غير تقديم ما يشعر به، إذ لم يفد ما تقدم أو جهرة بتقديمه مبالغة في إزاحة العذر. وقيل: ليلا أو نهارا، كما في قوله تعالى: بياتا أو نهارا لما أن الغالب فيما أتى ليلا البغتة، وفيما أتى نهارا الجهرة: هل يهلك إلا القوم الظالمون أي: هل يهلك بذلك العذاب إلا أنتم؟ ووضع الظاهر موضعه، تسجيلا عليهم بالظلم. وإيذانا بأن مناط إهلاكهم ظلمهم الذي هو وضعهم الإعراض عما صرف الله له من الآيات، موضع الإيمان.

ثم أشار تعالى إلى وظيفة الرسل، وتحقيق ما في عهدتهم، لبيان أن ما يقترحه الكفار عليه، صلى الله عليه وسلم، ليس مما يتعلق بالرسالة أصلا، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[48] وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

وما نرسل المرسلين إلا مبشرين بالثواب لأهل الإيمان والأعمال الصالحة ومنذرين بالعقاب لأهل الكفر والمعاصي فمن آمن وأصلح للأعمال والأخلاق، فهم أهل البشارة فلا خوف عليهم أي: من العذاب الذي أنذروا به دنيويا وأخرويا ولا هم يحزنون أي: بفوات ما بشروا به من الثواب العاجل والآجل.
[ ص: 2318 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[49] والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون

والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب أي: الذي أنذروا به عاجلا أو آجلا: بما كانوا يفسقون أي: عن أمر الله في ترك الإيمان، ومباشرة الأعمال الطالحة واكتساب الأخلاق الرديئة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[50] قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون

قوله تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله أي: قل لهؤلاء المشركين المقترحين عليك تارة تنزيل الآيات، وأخرى غير ذلك: لا أدعي أن خزائن رزق الله مفوضة إلي، فأعطيكم منها ما تريدون من قلب الجبال ذهبا، وغير ذلك.

[ والخزائن: جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخزن الشيء إحرازه، بحيث لا تناله الأيدي ] .

ولا أعلم الغيب أي: من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة، أو وقت نزول العذاب أو نحوهما.

ولا أقول لكم إني ملك أي: حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر، من الرقي في السماء ونحوه، أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحا في أمري، كما ينبئ عنه قولهم: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . والمعنى: إني لا أدعي شيئا من هذه الأشياء الثلاثة، حتى تقترحوا علي ما هو من آثارها وأحكامها، [ ص: 2319 ] وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك، دليلا على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيء مما ذكر قطعا. بل إنما هي عبارة عن تلقي الوحي من جهة الله عز وجل، والعلم بمقتضاه فقط، كما ينبئ عنه قوله تعالى: إن أتبع إلا ما يوحى إلي أي: ما أتبع فيما أقول لكم إلا ما يوحى إلي من جهته تعالى، شرفني بذلك وأنعم به علي، إذ يكشف لي عن الملائكة فيخبرونني.

ثم كرر الأمر تثنية للتبكيت بقوله:

قل هل يستوي الأعمى والبصير مثل للضال والمهتدي على الإطلاق. والاستفهام إنكاري، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذكر من الحقائق، ومن يعلمها. وفيه الإشعار بكمال ظهورها، ومن التنفير عن الضلال، والترغيب في الاهتداء - ما لا يخفى. أفاده أبو السعود.

وقوله تعالى: أفلا تتفكرون تقريع وتوبيخ داخل تحت الأمر. أي: أفلا تتفكرون فتهتدوا، ولا تكونوا ضالين أشباه العميان.

تنبيهات:

الأول: جعل بعض المفسرين قوله تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب تبرؤا من دعوى الألوهية؛ لأن قسمة الأرزاق بين العباد، ومعرفة الغيب، مخصوصان به تعالى: قال: ولذا كرر في الملكية لفظ: ولا أقول . والمعنى: لا أدعي الألوهية ولا الملكية.

وأورد على هذا أن المراد: لا أملك أن أفعل ما أريد مما تقترحونه، وليس المراد التبرؤ عن دعوى الإلهية، وإلا لقيل: لا أقول لكم إني إله. كما قيل: ولا أقول لكم إني ملك. وأيضا في الكناية عن الألوهية ب: عندي خزائن الله ما لا يخفى من البشاعة، بل هو جواب عن اقتراحهم عليه صلى الله عليه وسلم أن يوسع عليهم خيرات الدنيا. كذا في "العناية".

قال أبو السعود: وجعل هذا تبرؤا عن دعوى الإلهية، مما لا وجه له قطعا.

[ ص: 2320 ] الثاني: قال الجبائي: الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء؛ لأن المعنى: لا أدعي منزلة فوق منزلتي. ولولا أن الملك أفضل، وإلا لم يصح ذلك. قال القاضي: إن كان الغرض بما نفي طريقة التواضع، فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل، وإن كان المراد نفي قدرته على أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على كونهم أفضل.

وقرر الزمخشري الأول تأييدا لمذهبه فقال في تفسير الآية: أي: لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله، وهي قسمه بين الخلق وأرزاقه، وعلم الغيب، وإني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلق الله تعالى، وأفضله، وأقربه منزلة منه. أي: لم أدع إلهية ولا ملكية؛ لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكروها، وإنما أدعي ما كان مثله لكثير من البشر، وهو النبوة. انتهى.

وتعقبه الناصر في "الانتصاف" بقوله: هو يبنى على القاعدة المتقدمة له، في تفضيل الملائكة على الأنبياء. ولعمري إن ظاهر هذه الآية يؤيده، فلذلك انتهز الفرصة في الاستدلال بها. ولمخالفه أن يقول: إنما أوردت الآية ردا على الكفار في قولهم: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز .. الآية - فرد قولهم: مال هذا الرسول يأكل الطعام بأنه بشر، وذلك شأن البشر، ولم يدع أنه ملك حتى يتعجب من أكله للطعام، وحينئذ لا يلزم منها تفضيل الملائكة على الأنبياء؛ لأنه لا خلاف أن الأنبياء، يأكلون الطعام، وأن الملائكة ليسوا كذلك، فالتفرقة بهذا الوجه متفق عليها، ولا يوجب عليه ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء.

وكذلك رد قولهم: أو يلقى إليه كنز بأنه لا يملك خزائن الله تعالى حتى يأتيهم بكنز منها على وفق مقترحهم، ولا قال لهم ذلك حتى يقام عليه الحجة به.

[ ص: 2321 ] ثم قال الناصر رحمه الله: ولم يحسن الزمخشري في قوله: [ ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة ] فإنه جعل الإلهية من جملة المنازل كالملكية، ومثل هذا الإطلاق لا يسوغ. والمنزلة عبارة عن المحل الذي ينزل الله فيه العبد من علو وغيره، فإطلاقها على الإلهية تحريف. والله الموفق للصواب.

الثالث: قال الرازي: ظاهر قوله تعالى: إن أتبع إلا ما يوحى إلي يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعمل إلا بالوحي، وهو يدل على حكمين:

الأول: أن هذا النص يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام، وأنه ما كان يجتهد، بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي، ويتأكد هذا بقوله تعالى: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى

الثاني: أن نفاة القياس قالوا: ثبت بهذا النص أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يعمل إلا بالوحي النازل عليه، فوجب أن لا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النازل عليه، بقوله تعالى: فاتبعوه ، وذلك ينفي جواز العمل بالقياس. ثم أكد هذا الكلام بقوله: قل هل يستوي الأعمى والبصير وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى. والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى علم البصير. ثم قال: أفلا تتفكرون والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين، وأن لا يكون غافلا عن معرفته. انتهى.

وفي "فتح الرحمن": تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الأنبياء، عملا بما يفيده القصر في هذه الآية.

والمسألة مدونة في الأصول. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أوتيت القرآن ومثله معه.

ثم لما أخبر تعالى: أن أولئك المشركين كالصم البكم العمي، بل الموتى؛ إذ لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة، أمر بتوجيه الإنذار إلى من يتأثر بما يوحى إليه، اطراحا لأولئك الفجار، فقال تعالى:
[ ص: 2322 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[51] وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون

وأنذر به أي: بما يوحى، المتقدم ذكره: الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه يعني: من دون الله تعالى: ولي أي: ناصر ينصرهم: ولا شفيع يشفع لهم وينجيهم من العذاب، غيره تعالى: لعلهم يتقون أي: الاعتقادات الفاسدة، والأعمال الطالحة، والأخلاق الرديئة.

قال في "العناية": خص بالذكر هؤلاء، لأنهم الذين ينفعهم الإنذار، ويقودهم إلى التقوى. وليس المراد الحصر حتى يرد أن إنذاره لغيرهم لازم أيضا. انتهى.

وجملة: ليس لهم في موضع الحال من: يحشروا ، فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة. والمراد ب (الولي) و (الشفيع) الآلهة التي كان المشركون يزعمون أنها شفعاؤهم، وحينئذ فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمسلمين؛ لأن شفاعة الرسل يومئذ إنما تكون بإذنه تعالى، فكأنها منه تعالى.
[ ص: 2323 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[52] ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين

روى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال له المشركون: اطرد هؤلاء يجترئون علينا! قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله تعالى: ولا تطرد الذين الآية...

وأخرج نحوه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما.

وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء؟ فنزل عليه القرآن: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم إلى قوله: أليس الله بأعلم بالشاكرين .

ورواه ابن جرير عن ابن مسعود أيضا قال: مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم من ضعفاء المسلمين.

[ ص: 2324 ] وفيه: فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء من قومك، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ونحن نصير تبعا لهؤلاء؟ اطردهم، فلعلك إن طردتهم نتبعك! فنزلت هذه الآية: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي الآية.


ووراء ما ذكرنا، روايات لا تصح ولا يوثق بها.

إذا علمت ذلك تبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يطردهم بالفعل، وإنما هم بإبعادهم عن مجلسه آن قدوم أولئك، ليتألفهم فيقودهم ذلك إلى الإيمان، فنهاه الله عن إمضاء ذلك الهم. فما أورده الرازي من كونه صلى الله عليه وسلم طردهم، ثم أخذ يتكلف في الجواب عنه، لمنافاته العصمة على زعمه، فبناء على واه. والقاعدة المقررة أن البحث في الأثر فرع ثبوته، وإلا فالباطل يكفي في رده، كونه باطلا. وقد أوضحت ذلك في كتابي: "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث". والمعنى: لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك. كقوله: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا

وقوله تعالى: يدعون ربهم أي: يعبدونه ويسألونه بالغداة والعشي قال سعيد بن المسيب وغيره: المراد به الصلاة المكتوبة.

وقوله تعالى: يريدون وجهه المراد بالوجه الذات، كما في قوله: كل شيء هالك إلا وجهه ومعنى إرادة الذات الإخلاص لها، والجملة حال من: يدعون أي: يدعون ربهم مخلصين له فيه، وتقييده به لتأكيد عليته للنهي، فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام، المضاد للطرد.

وقوله تعالى: ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء [ ص: 2325 ] كقول نوح عليه السلام في الذين قالوا: قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون أي: إنما حسابهم على الله عز وجل، وليس علي من حسابهم من شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء.

قال العلامة أبو السعود: الجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه، تقريرا له ودفعا لما عسى يتوهم كونه مسوغا لطردهم من أقاويل الطاعنين في دينهم، كدأب قوم نوح حيث قالوا: وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي أي: ما عليك شيء من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة، حتى تتصدى له، وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام، وإنما وظيفتك، حسبما هو شأن منصب النبوة، اعتبار ظواهر الأعمال، وإجراء الأحكام على موجبها. وأما بواطن الأمر فحسابها على العليم بذات الصدور، كقوله تعالى: إن حسابهم إلا على ربي وذكر قوله تعالى: وما من حسابك عليهم من شيء مع أن الجواب قد تم بما قبله، للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم، بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلا، وهو انتفاء كون حسابه عليه السلام، عليهم، على طريقة قوله تعالى: لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلة [ ص: 2326 ] جملة واحدة، لتأدية معنى واحد، على نهج قوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى فغير حقيق بجلالة شأن التنزيل. انتهى.

والقول المذكور للزمخشري، حيث ذهب إلى أن الجملتين في معنى جملة واحدة، تؤدي مؤدى: ولا تزر الآية. وأنه لا بد منهما.

هذا، وقيل: الضمير للمشركين، والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك، ولا أنت بحسابهم، حتى يهمك إيمانهم، ويجرك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين.

وأغرب المهايمي حيث قال: والعماة، لكونهم أرباب شرف ومال، يكرهون مجالستهم، لقلة شرفهم ومالهم، فقال عز وجل لأشرف الناس: ما عليك من حسابهم من شيء أي: ما يعود عليك من نقصهم في الشرف والمال عليهم من شيء، فإذا لم يلحقك نقصهم، ولم يأخذوا كمالك بسلبه عنك، فلا وجه لطردهم. انتهى.

وفيه بعد؛ لعدم ملاقاته لآية نوح السالفة. ولا يخفى مراعاة النظائر.

وفي "العناية": قدم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين، تشريفا له. وإلا كان الظاهر [ وما عليهم من حسابك من شيء ] بتقديم (على) ومجرورها، كما في الأول. وفي النظم رد العجز على الصدر، كما في قوله: عادات السادات، سادات العادات.

وقوله تعالى: فتطردهم فتكون من الظالمين الظلم: وضع الشيء في غير محله؛ أي: فلا تهم بطردهم عنك، فتضع الشيء في غير موضعه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[53] وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين

وكذلك فتنا بعضهم هم الشرفاء: ببعض وهم المستضعفون، بما [ ص: 2327 ] مننا عليهم بالإيمان. وقوله: ليقولوا أي: الشرفاء: أهؤلاء أي: المستضعفون من الله عليهم من بيننا أي: بشرف الإيمان، مع أن الشرفاء على زعمهم، أولى بكل شرف، فلو كان شرفا لانعكس الأمر، فهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق، والسبق إلى الخير، كقولهم: لو كان خيرا ما سبقونا إليه . ثم أشار تعالى إلى أنه إنما من عليهم بنعمة الإيمان؛ لأنه علم أنهم يعرفون قدر هذه النعمة، فيشكرونها حق شكرها. وأما أولئك، فلا يعرفون قدرها، فلا يشكرونها، بقوله سبحانه: أليس الله بأعلم بالشاكرين ؟ رد لقولهم ذلك، وإبطال له، وإشارة إلى أن مدار استحقاق الإنعام، معرفة شأن النعمة، والاعتراف بحق المنعم. كما أن فيه من الإشارة إلى أن أولئك المستضعفين عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن، والتوفيق للإيمان، شاكرون له تعالى على ذلك، مع التعريض بأن القائلين بمعزل عن ذلك كله - ما لا يخفى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #326  
قديم 20-12-2022, 04:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2328 الى صـ 2341
الحلقة (326)




قال الحافظ ابن كثير: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس، من الرجال والنساء، والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل، كما قال قوم نوح لنوح: وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي الآية. - وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان - حين سأله عن تلك المسائل -: [ فأشراف الناس [ ص: 2328 ] يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال: هم أتباع الرسل ] وكان مشركو مكة يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذبون من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا كقوله: لو كان خيرا ما سبقونا إليه وكقوله تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ؟ قال الله تعالى في جواب ذلك: وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا وقال في جوابهم هنا: أليس الله بأعلم بالشاكرين أي: له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم. كما قال تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين

وفي الحديث الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» . [ ص: 2329 ] وروى ابن جرير عن عكرمة قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من بني عبد مناف، من الكفار، إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب! لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعسافاؤنا - كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه، وتصديقنا له. فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك، حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلام يصيرون من قولهم! فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم إلى قوله: أليس الله بأعلم بالشاكرين قال: وكانوا: بلال وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وصبيح مولى أسيد. ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو، ومسعود بن القاري، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن عمرو ذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد - وأبو مرثد بن غني، حليف حمزة بن عبد المطلب - وأشباههم من الحلفاء. ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: وكذلك فتنا بعضهم .. الآية - فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته، فأنزل الله عز وجل: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية..

تنبيهات وفوائد:

قال بعض المفسرين:

1 - أن الواجب في الدعاء الإخلاص به؛ لأنه تعالى قال: يريدون وجهه - هكذا قال الحاكم - وهكذا جميع الطاعات، لا تكون لغرض الدنيا، قال النفس الزكية عليه السلام: [ ص: 2330 ] إذا دعا الإمام ثم وجد أفضل منه، وجب عليه أن يسلم الأمر له. فإن لم يفعل ذلك فسق؛ لأنه إن لم يفعل دل على أنه طالب للدنيا.

2 - ودلت على أن الغداة والعشي لهما اختصاص بفضل العمل والدعاء، فلذلك خصهما بالذكر.

3 - ودلت على أن الفضل بالأعمال. وما خرج من المفاضلة من غير أمر الدين، كالكفاءة في النكاح، فذلك لمخصص، نحو قوله عليه السلام: العرب بعضها أكفاء للبعض.

4 - ودلت على أن أحدا لا يؤخذ بذنب غيره وهي كقوله: ولا تزر وازرة وزر أخرى وقد تقدم ما ذكر فيما ورد أن الميت ليعذب ببكاء أهله، على أن المراد إذا أوصاهم بذلك.

5 - ودلت على أن حديث النفس لا يؤاخذ به؛ لأنه قد روي أنه صلى الله عليه وسلم قد هم بذلك.

6 - ودلت على أن الفقر لا يؤثر في حال المؤمن. وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بكذا سنة.» وروي أن آخر من يدخل الجنة [ ص: 2331 ] من الصحابة عبد الرحمن بن عوف لكثرة ماله. وروي أن عليا عليه السلام لم يخلف شيئا بعد وفاته - هكذا في التهذيب - انتهى.

أقول: الحديث الأول، رواه الترمذي عن أبي هريرة وقال: حسن صحيح، ولفظه: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام» ، وأما حديث: « آخر من يدخل الجنة من الصحابة... إلخ» فلم أجده بهذا اللفظ.

وقد روى البزار وأبو نعيم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي عبد الرحمن بن عوف. والذي نفس محمد بيده! لن يدخلها إلا حبوا» . قال السيوطي: إسناده ضعيف - كذا في "منتخب كنز العمال" في ترجمة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، في "فضائل الصحابة".

7 - هذا، وقال ابن الفرس: قد يؤخذ من هذه الآية أن لا يمنع من يذكر الناس بالله وأمور الآخرة في جامع أو طريق أو غيره. قال: وقد اختلف المتأخرون في مؤذن يؤذن بالأسحار، ويبتهل بالدعاء، يردد ذلك إلى الصباح، وتأذى به الجيران، هل يمنع؟ واستدل (من قال: لا يمنع) بهذه الآية، وبقوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله الآية.. انتهى.

8 - قرأ ابن عامر: "بالغدوة" بالواو وضم الغين، هنا وفي سورة الكهف، والباقون بالألف وفتح الغين، وهي قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء العطاردي وغيرهم.

قال أبو عبيد: قرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن السلمي (بالغدوة)، وقرأ العامة (بالغداة) ونراهما قرآ ذلك اتباعا للخط؛ لأنها رسمت في جميع المصاحف بالواو، كالصلاة، والزكاة، [ ص: 2332 ] وليس، في إثباتهم الواو في الكتابة، دليل على أنها القراءة؛ لأنهم قد كتبوا (الصلاة والزكاة) بالواو، ولفظهما على تركها، فكذلك (الغداة)، على هذا وجدنا ألفاظ العرب. انتهى.

وقال أبو علي الفارسي: الوجه قراءة العامة (بالغداة)، لأنها تستعمل نكرة، فأمكن تعريفها بإدخال لام التعريف عليها. فأما (غدوة) فمعرفة، وهو علم صيغ له، وحينئذ فيمتنع دخول لام التعريف عليه، كسائر المعارف، وكتابتها بالواو لا تدل على قولهم. انتهى.

قال الشهاب مجيبا ومناقشا: إن (غدوة) وإن كان المعروف فيها أنها علم جنس، ممنوع من الصرف، ولا تدخله الألف واللام، ولا تصح إضافته، فلا تقول: غدوة يوم الخميس - كما قال الفراء - ولكنه سمع اسم جنس أيضا، منكرا مصروفا، فتدخله اللام، وقد نقله سيبويه في كتابه عن الخليل، وذكره جم غفير من أهل اللغة والنحو، فلا عبرة بقول أبي عبيد أن من قرأ بالواو أخطأ، وأنه اتبع رسم الخط؛ لأن الغداة تكتب بالواو، كالصلاة والزكاة، وهو علم جنس، لا تدخله الألف واللام، والمخطئ مخطئ، لما مر. وقد ذكر المبرد عن العرب تنكيره وصرفه، وإدخال الألف واللام عليه، إذا لم يرد غدوة يوم بعينه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكفى بوقوعه في القراءة المتواترة حجة، فلا حاجة إلى ما قيل: إنه علم، لكنه نكر؛ لأن تنكير علم الجنس لم يعهد. ولا أنه معرفة، ودخلته اللام لمشاكلة العشي. كما في قوله: رأيت الوليد بن اليزيد مباركا، إذ قال (اليزيد) لمجاورة الوليد. ومنه تعلم أن المشاكلة قد تكون حقيقة. انتهى.

9 - في القاموس: الغدوة بالضم، البكرة، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس كالغداة. والعشي والعشية: آخر النهار.

وفي الصحاح: من صلاة المغرب إلى العتمة.

وقال الأزهري: يقع العشي على ما بين الزوال والغروب.

10 - جعل الزمخشري (ذلك) إشارة إلى هذا الفتن المذكور، حيث قال: ومثل ذلك [ ص: 2333 ] الفتن العظيم، فتنا بعض الناس ببعض، أي: ابتليناهم بهم. وعبر عنه بذلك، إيذانا بتفخيمه. كقولك: ضربت زيدا ذلك الضرب. ولا يلزم منه تشبيه الشيء بنفسه؛ لأن المثل ليس بمراد، إنما جيء به مبالغة، كما يقال (ذلك كذلك) كذا قرره العلامة. يعني: أن التشبيه كما يجعل كناية عن الاستمرار؛ لأن ما له أمثال يستمر نوعه بتجدد أمثاله، كما أشار إليه شراح الحماسة في قوله:


هكذا يذهب الزمان ويفنى الع لم فيه ويدرس الأثر


والاستمرار يقتضي التحقق والتقرر ويستلزمه، فجعل في أمثال هذا بواسطة الإشارة إلى البعيد عبارة عن تحقق أمر عظيم. وكونه عظيما مستفاد من لفظ (ذلك) المشار به إلى هذا الفتن القريب المذكور، وليست الكاف فيه زائدة. ومن قال إنها مقحمة أراد أن التشبيه فيه غير مقصود فيه، بل المراد لازمه الكنائي أو المجازي. والزمخشري، لما في هذا الوجه من البلاغة والدقة، اختاره فيما ورد فيه كذلك. كذا في "العناية".

وقال أبو السعود: (ذلك) إشارة إلى مصدر ما بعده من الفعل، ومحله في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد محذوف. والتقدير: فتنا بعضهم ببعض فتونا كائنا مثل ذلك الفتون، والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة، فصار نفس المصدر المؤكد، لا نعتا له. والمعنى: ذلك الفتون الكامل فتنا.

قال الشهاب: هذا الإقحام للمبالغة، مطرد في عرفي العرب والعجم. انتهى.

وقيل: الكاف ليست بزائدة، والمشار إليه هو المشبه به، الأمر المقرر في الذهن، والمشبه ما دل عليه الكلام من الأمر الخارجي، والمبالغة إنما يفيدها الإبهام الذهني والتفسير بقوله: فتنا ، وهو ما يعلمه كل أحد من الفتن من هو. انظر "العناية".
[ ص: 2334 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[54] وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم

قوله تعالى: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ذهب جماعة من المفسرين إلى أن هؤلاء هم الذين سأل المشركون طردهم وإبعادهم، فأكرمهم الله بهذا الإكرام.

قال البيضاوي: وصفهم تعالى بالإيمان بالقرآن، واتباع الحجج، بعد ما وصفهم بالمواظبة على العبادة، وأمره بأن يبدأهم بالتسليم، أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم، ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله، بعد النهي عن طردهم، إيذانا بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرب ولا يطرد، ويعز ولا يذل، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا، والرحمة في الآخرة. انتهى.

وسلف عن ابن جرير أنها نزلت في عمر رضي الله عنه. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ماهان، قال جاء الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظاما، فما رد عليهم شيئا، فأنزل الله: وإذا جاءك .. الآية. ولا يخفى أن الآية تشتمل جميع ذلك، وربما تتعدد الوقائع المشتركة في حكم واحد، فتنزل الآية بيانا للكل. وتقدم لنا في مقدمة هذا التفسير، في بحث سبب النزول، أن قول السلف: نزلت في كذا، قد يقصدون به أن واقعته مما يشملها لفظ الآية، لنزولها إثرها فتذكره، وأجل فكرك في أطرافه، فإنه مهم جدا. وبمعرفته يندفع إشكال الرازي الذي قرره هنا.

[ ص: 2335 ] وقوله تعالى: كتب على نفسه الرحمة أي: أوجبها أي: أوجبها على ذاته المقدسة، تفضلا منه وإحسانا وامتنانا.

وقوله: أنه من عمل إلخ بدل من: الرحمة . وقرئ بكسر الهمزة على أنه تفسير للرحمة بطريق الاستئناف.

وقوله: بجهالة في موضع الحال، أي: عمله وهو جاهل، وفيه معنيان:

أحدهما: أنه فاعل فعل الجهلة؛ لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة، وهو عالم بذلك، أو ظان، فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير، ومنه قول الشاعر:


على أنها قالت عشية زرتها جهلت على عمد ولم تك جاهلا


والثاني: أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة، ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته. كذا في "الكشاف".

[ ص: 2336 ] فعلى الأول، الجهل: بمعنى السفه والمخاطرة من غير نظر للعواقب، كما في قوله:


فنجهل فوق جهل الجاهلينا


وكانت العرب تتمدح به، فلا حاجة لتقدير مفعول.

وعلى الثاني، المراد: الجهالة بمضار ما يفعله.

وقوله تعالى: وأصلح أي: العمل. كقوله: وعمل عملا صالحا . وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما قضى الله على الخلق كتب فيه كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي.

تنبيه:

نقل بعض المفسرين عن الحاكم أنه قال: دلت الآية على وجوب تعظيم المؤمنين. [ ص: 2337 ] ودلت على أنه ينبغي إنزال المسرة بالمؤمن؛ لأنه أمر بأن يقول لهم: كتب على نفسه الرحمة لتطيب قلوبهم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[55] وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين

وكذلك نفصل الآيات أي: آيات القرآن، في صفة المطيعين والمجرمين. ومر قريبا الكلام على (كذلك): ولتستبين سبيل المجرمين بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل. وقرئ بالتذكير بناء على تذكيره، فإن (السبيل) مما يذكر ويؤنث، وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور، لم يقصد تعليله بها بعينها، وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة، من جملتها ما ذكر. أو علة لفعل مقدر، هو عبارة عن المذكور، فيكون مستأنفا. أي: ولتستبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفضيل. وقرئ بنصب (السبيل) على أن الفعل متعد، وتاؤه للخطاب. أي: ولتستوضح أنت، يا محمد! سبيل المجرمين، فتعاملهم بما يليق بهم . أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى:

[56] قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين

قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله أي: تعبدونه أو تسمونه آلهة. ثم كرر الأمر تأكيدا لقطع أطماعهم بقوله تعالى: قل لا أتبع أهواءكم أي: في عبادة الأصنام، وطرد من ذكر.

ثم قال البيضاوي: هو إشارة إلى الموجب للنهي. وعلة الامتناع عن متابعتهم، واستجهال لهم، وبيان لمبدأ ضلالهم، وأن ما هم عليه هوى، وليس بهدى. وتنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد. انتهى.

[ ص: 2338 ] قد ضللت إذا أي: إن اتبعت أهواءكم، لمخالفة الأمر الإلهي والعقل جميعا وما أنا من المهتدين أي: للحق إن اتبعت ما ذكر. وفيه تعريض بأنهم كذلك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[57] قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين

قل إني على بينة من ربي أي: على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إلي، لا يمكن التشكيك فيها: وكذبتم به استئناف أو حال، والضمير للبينة. والتذكير باعتبار المعنى المراد. أعني: الوحي، أو القرآن، أو نحوهما ما عندي ما تستعجلون به أي: من العذاب.

قال أبو السعود: استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بالبينة، وهو عدم مجيء ما وعد فيها من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ؟ بطريق الاستهزاء، أو بطريق الإلزام، على زعمهم. أي: ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعود في القرآن، وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيبه، في حكمي وقدرتي، حتى أجيء به، وأظهر لكم صدقه. أو ليس أمره بمفوض إلي.

إن الحكم إلا لله أي: لو كان عندي لكنت أنا الحاكم، لكن ما الحكم في ذلك تعجيلا وتأخيرا إلا لله، وقد حكم بتأخيره، لما له من الحكمة العظيمة، لكنه محقق الوقوع لأنه: يقص الحق أي: يبينه بيانا شافيا وهو خير الفاصلين أي: القاضين بين عباده.

[ ص: 2339 ] لطيفة:

قرئ: "يقض الحق" بالضاد، وانتصاب الحق على المصدرية؛ لأنه صفة مصدر محذوف قامت مقامه. أو على المفعولية، بتضمين (يقضي) معنى (ينفذ)، أو هو متعد من (قضى الدرع) إذا صنعها. قال الهذلي:


وعليها مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع


[ ص: 2340 ] قال الرازي: واحتج أبو عمرو على هذه القراءة بقوله: وهو خير الفاصلين قال: والفصل يكون في القضاء، لا في القصص. وأجاب أبو علي الفارسي. فقال: القصص هاهنا بمعنى القول، وقد جاء الفصل في القول. قال تعالى: إنه لقول فصل وقال: أحكمت آياته ثم فصلت وقال: نفصل الآيات . انتهى.

قال الشهاب: معنى (يقصه) أي: يبينه بيانا شافيا، وهو عين القضاء.
القول في تأويل قوله تعالى:

[58] قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين

قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين أي: لو أن في قدرتي وإمكاني العذاب الذي تتعجلونه، بأن يكون أمره مفوضا إلي من قبله تعالى، لقضي الأمر بيني وبينكم، بأن ينزل ذلك عليكم إثر استعجالكم.

وفي "العناية": قضي الأمر بمعنى قطع. وقضاؤه كناية عن إهلاكهم.

قال أبو السعود: وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعيين الفاعل، الذي هو الله تعالى، وتهويل الأمر، ومراعاة حسن الأدب - ما لا يخفى. فما قيل في تفسيره: لأهلكتكم [ ص: 2341 ] عاجلا، غضبا لربي، واقتصاصا من تكذيبكم به، ولتخلصت سريعا - بمعزل من توفية المقام حقه.

وقوله تعالى: والله أعلم بالظالمين اعتراض مقرر لما أفادته الجملة الامتناعية، من انتفاء كون أمر العذاب مفوضا إليه صلى الله عليه وسلم، المستتبع لانتفاء قضاء الأمر، وتعليل له. والمعنى: والله تعالى أعلم بحال الظالمين، وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج، لتشديد العذاب، ولذلك لم يفوض الأمر إلي، فلم يقض الأمر بتعجيل العذاب. انتهى.

تنبيه:

قال ابن كثير: فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية، وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني. فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال، وسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك. وأنا ملك الجبال. وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك. فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #327  
قديم 20-12-2022, 04:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2342 الى صـ 2356
الحلقة (327)



[ ص: 2342 ] وهذا لفظ مسلم. فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم، وسأل لهم التأخير، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا.

فالجواب: - والله أعلم - أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه، حال طلبهم له، لأوقعه بهم. وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه، إن شاء أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكة، يكتنفانها جنوبا وشمالا، فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم. انتهى.
ثم بين تعالى اختصاص المقدورات الغيبية به، من حيث العلم، إثر بيان اختصاص جميعها به تعالى من حيث القدرة، بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[59] وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين

وعنده مفاتح الغيب جمع (مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح) وقرئ: "مفاتيح الغيب" شبه بالأمور الجليلة التي يستوثق منها بالأقفال، وأثبت لها المفاتح تخييلا.

وقوله تعالى: لا يعلمها إلا هو تأكيد لمضمون ما قبله، وإيذان بأن المراد الاختصاص من حيث العلم. والمعنى: ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدورا لي، حتى ألزمكم بتعجيله، ولا معلوما لدي لأخبركم بوقت نزوله، بل هو مما يختص به تعالى قدرة وعلما، فينزله حسبما تقتضيه مشيئته، المبنية على الحكم والمصالح . أفاده أبو السعود.

ثم لما بين تعالى علمه بالمغيبات، تأثره بالمشاهدات، على اختلاف أنواعها، وتكثر أفرادها بقوله: ويعلم ما في البر والبحر من الخلق والعجائب. ثم بالغ في إحاطة علمه [ ص: 2343 ] بالجزئيات الفائتة للحصر بقوله سبحانه: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين أي: مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهي.

تنبيهات:

الأول: قال الحاكم: دل قوله تعالى: وعنده مفاتح الغيب على بطلان قول الإمامية: إن الإمام يعلم شيئا من الغيب. انتهى.

وفي "فتح البيان": في هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من مدعي الكشف والإلهام، ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم، ولا يحيط به عملهم. ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة، والأنواع المخذولة، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد» .

قال ابن مسعود: أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب.

قال ابن عباس: إنها الأقدار والأرزاق.

وقال الضحاك: خزائن الأرض، وعلم نزول العذاب.

وقال عطاء: هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب.

[ ص: 2344 ] وقيل: هو انقضاء الآجال، وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم. واللفظ أوسع من ذلك. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها [ ص: 2345 ] إلا الله تعالى. لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله. ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا. ولا تدري نفس بأي أرض تموت. ولا يدري أحد متى يجيء المطر» - أخرجه البخاري - وله ألفاظ. وفي رواية: «ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله» . انتهى.

الثاني: قرئ: (ولا حبة ولا رطب ولا يابس) بالرفع، وفيه وجهان: أن يكون عطفا على محل (من ورقة) وأن يكون رفعا على الابتداء، وخبره: إلا في كتاب مبين كقولك: لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار. كذا في "الكشاف".

الثالث: ما أسلفناه في "الكتاب المبين" من أنه (اللوح المحفوظ) هو المتبادر من إطلاقه أينما ورد. وقيل: الكتاب المبين علم الله تعالى. والأظهر الأول.

قال الزجاج: يجوز أن يكون الله جل ثناؤه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق، كما قال عز وجل: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها وفائدة هذا الكتاب أمور:

[ ص: 2346 ] أحدها: أنه تعالى إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات، وأنه لا يغيب عنه مما في السماوات والأرض شيء. فيكون ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ؛ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم، فيجدونه موافقا له.

وثانيها: يجوز أن يقال: إنه تعالى ذكر ما ذكر، من الورقة والحبة، تنبيها للمكلفين على أمر الحساب، وإعلاما بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء؛ لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف، فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى.

وثالثها: أنه تعالى علم أحوال جميع الموجودات، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم، وإلا لزم الجهل، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام، امتنع أيضا تغييرها، وإلا لزم الكذب، فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجبا تاما، وسببا كاملا في أنه يمتنع تقدم ما تأخر، وتأخر ما تقدم، كما قال صلوات الله عليه: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» . انتهى.

الرابع: روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها قال: ما من شجرة في بر ولا بحر، إلا ملك موكل بها، يكتب ما يسقط منها.

[ ص: 2347 ] وأخرج أيضا عن عبد الله بن الحارث قال: ما في الأرض من شجرة، ولا كمغرز إبرة، إلا عليها ملك موكل يأتي الله بعلمها. يبسها إذا يبست ورطوبتها إذا رطبت. وكذا رواه ابن جرير.

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خلق الله النون وهي الدواة، وخلق الألواح، فكتب فيها أمر الدنيا حتى تنقضي، ما كان من خلق مخلوق، أو رزق حلال أو حرام، أو عمل بر أو فجور، وقرأ هذه الآية: وما تسقط من ورقة إلى آخر الآية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[60] وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون

وهو الذي يتوفاكم بالليل أي: ينيمكم فيه. استعير (التوفي) من الموت للنوم، لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز، فإن أصله قبض الشيء بتمامه.

ويعلم ما جرحتم بالنهار أي: فيه: وتخصيص الليل بالنوم، والنهار بالكسب، جريا على المعتاد. ثم يبعثكم أي: يوقظكم. أطلق البعث ترشيحا للتوفي: فيه أي: في النهار: ليقضى أجل مسمى أي: ليتم مقدار حياة كل أحد.

ثم إليه مرجعكم أي: رجوعكم بالبعث بعد الموت ثم ينبئكم بما كنتم تعملون أي: في ليلكم ونهاركم، بالمجازاة عليه، مبالغة في عدله.

تنبيهان:

الأول: ظاهر الخطاب في الآية على العموم. وخصه في "الكشاف" بالكفرة، ذهابا إلى أن قوله: ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم يدل على تهديد شديد، لا يليق إلا [ ص: 2348 ] بالمعاندين الجاحدين، وأن المقصود بيان حالهم المذمومة في الليل، كما أن قوله: ما جرحتم بيان حالهم المذمومة في النهار. وحمل (البعث) لا على الإيقاظ، بل على البعث من القبور. وفي (فيه) بمعنى (من أجله) كقولك: فيم دعوتني؟ فتقول: في أمر كذا، والمعنى: أنكم ملقون كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار. وأنه تعالى مطلع على أعمالكم، يبعثكم من القبور في شأن ما قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل، وكسب الآثام بالنهار ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى، وجزائهم على أعمالهم. والذي حمله على ذلك زعمه أن قوله: ويعلم ما جرحتم بالنهار دال على حال اليقظة، وكسبهم فيها. وكلمة: ثم تقضي تأخير البعث عنها.

قال شراحه: ولا يخفى ما فيه من التكلف، وأنه لا حاجة إليه؛ لأن قوله: ويعلم ما جرحتم بالنهار إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل، ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي، وأن الإيقاظ متأخر عن التوفي. وإن قولنا: (يفعل ذلك التوفي لنقضي مدة الحياة المقدرة) كلام منتظم غاية الانتظام.

الثاني: قال الشريف المرتضى في "الدرر والغرر" فيما وقع من القرآن من ذكر الرجوع إلى الله نحو: وإلى الله ترجع الأمور كيف ترجع إليه، وهي لم تخرج من يده؟ وأجاب: بأنه في دار التكليف قد يغير البعض، فيضيف بعض أفعاله تعالى إلى غيره. فإذا انكشف الغطاء، انقطعت حبال الآمال عن غيره، فيرجع إليه. أو أن المراد أن الأمور في يده من غير خروج ورجوع حقيقي. ف (رجع) بمعنى (صار). تقول العرب: رجع علي من فلان مكروه، بمعنى صار، ولم يكن سبق. فهو بمعنى المصير إليه، كما تشهد به اللغة. أو أنه في دار الدنيا ما يكون للعباد ظاهرا كالعبد لسيده، فإذا أفضى الأمر إلى الآخرة، زال ذلك، ورجع الأمر كله إلى الله، ظاهرا وباطنا.
[ ص: 2349 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[61] وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون

وهو القاهر فوق عباده قد مر تفسيره، وأنه المتصرف في أمورهم لا غيره، يفعل بهم ما يشاء. ويرسل عليكم حفظة أي: ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها، وهم الكرام الكاتبون، كقوله تعالى: وإن عليكم لحافظين وقوله: إذ يتلقى المتلقيان الآية.

لطيفة:

الحكمة في ذلك أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه، وتعرض على رؤوس الأشهاد، كان أزجر عن المعاصي. وأن العبد إذا وثق بلطف سيده، واعتمد على عفوه وستره، لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه - أفاده القاضي.

حتى إذا جاء أحدكم الموت أي: أسبابه ومباديه: توفته رسلنا أي: ملائكة موكلون بذلك وهم لا يفرطون أي: بالتواني والتأخير. وقال ابن كثير: أي: في حفظ روح المتوفى، بل يحفظونها ويتركونها حيث شاء الله عز وجل، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار في سجين.
[ ص: 2350 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[62] ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين

ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق أي: الذي يتولى أمورهم. و (الحق): العدل الذي لا يحكم إلا بالحق. قال ابن كثير: الضمير للملائكة. أو للخلائق المدلول عليهم ب (أحد). والإفراد أولا، والجمع آخرا لوقوع التوفي على الانفراد، والرد على الاجتماع. أي: ردوا بعد البعث، فيحكم فيهم بعدله، كما قال: قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم وقال: وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا إلى قوله: ولا يظلم ربك أحدا ولهذا قال: مولاهم الحق

ألا له الحكم يومئذ لا حكم فيه لغيره وهو أسرع الحاسبين يحاسب الخلائق في أسرع زمان.

فوائد:

الأولى: قال ابن كثير: ونذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الميت تحضره الملائكة، [ ص: 2351 ] فإذا كان الرجل الصالح، قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان. فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج. ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال فلان. فيقولون: مرحبا بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا زال يقال لها حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء، قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج. فلا يزال حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال فلان! فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث. ارجعي ذميمة، فإنه لا يفتح لك أبواب السماء، فترسل من السماء، ثم تصير إلى القبر. فيجلس الرجل الصالح، فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول، ويجلس الرجل السوء فيقال له ما قيل في الحديث الأول.» . قال الحافظ ابن كثير: هذا حديث غريب.

الثانية: قال بعض أهل الكلام: إن لكل حاسة من هذه الحواس روحا تقبض عند النوم، ثم ترد إليها إذا ذهب النوم. فإما الروح التي تحيا بها النفس، فإنها لا تقبض إلا عند انقضاء الأجل. والمراد بالأرواح، المعاني والقوى التي تقوم بالحواس، ويكون بها السمع والبصر، والأخذ والمشي والشم، ومعنى: ثم يبعثكم فيه أي: يوقظكم، ويرد إليكم أرواح الحواس، فيستدل به على منكري البعث؛ لأنه بالنوم يذهب أرواح هذه الحواس، ثم يردها إليها. فكذا يحيي الأنفس بعد موتها - نقله النسفي -.

الثالثة: قال الخازن: فإن قلت: قال الله في آية: الله يتوفى الأنفس حين موتها [ ص: 2352 ] وقال في آية أخرى: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم وقال هنا: توفته رسلنا فكيف الجمع بين هذه الآيات؟.

قلت: وجه الجمع أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى. فإذا حضر أجل العبد، أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة، يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده. فإذا وصلت إلى الحلقوم، تولى قبضها ملك الموت نفسه، فحصل الجمع.

قال مجاهد: جعلت الأرض لملك الموت، مثل الطشت، يتناول من حيث شاء، وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم. انتهى.

ثم أمر تعالى أن يبكت المشركون بانحطاط شركائهم عما زعموا لها، بأنهم يخصون الحق تعالى بالالتجاء إليه عند الشدائد بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[63] قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين

قل من ينجيكم من ظلمات البر أي: شدائده، كخوف العدو، وضلال الطريق والبحر كخوف الغرق، والضلال، وسكون الريح. استعيرت الظلمة للشدة، لمشاركتهما في الهول، وإبطال الأبصار، ودهش العقول. يقال لليوم الشديد: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب. أي: اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل، وظهرت الكواكب فيه.

تدعونه تضرعا أي: تذللا إليه، تحقيقا للعبودية وخفية بضم الخاء، [ ص: 2353 ] وقرئ بكسرها. أي: سرا، تحقيقا للإخلاص لئن أنجانا حال من الفاعل بتقدير القول. أي: قائلين، وعدا بالشكر، لئن أنجيتنا: من هذه أي: الشدة المعبر عنها بالظلمات لنكونن من الشاكرين أي: لك، باعتقاد أنك المخصوص بالثناء الجميل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[64] قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون

ثم أمره تعالى بالجواب تنبيها على ظهوره وتعينه عندهم، أو إهانة لهم؛ إذ لا يلتفتون لخطابه بقوله: قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب أي: من غير شفاعة أحد ولا عون ثم أنتم تشركون أي: ثم أنتم بعد ما تشاهدون من النجاة عنها، الموعود فيها بالشكر وعدا وثيقا بالقسم، تشركون، بعبادته والثناء عليه، غيره. وتنسبون النجاة الحاصلة بعد تخصيصه بالدعوة، إلى شفاعة الشريك، فقد جعلتم الشرك مكان الشكر.

تنبيهات:

الأول: ما قدمناه من أن ظلمات: البر والبحر مجاز عن مخاوفها وأهوالها، هو ما قاله المحققون.

قال الرازي: ومنهم من حمله على حقيقته فقال: أما ظلمات البحر، فهي أن تجتمع ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة السحاب، ويضاف الرياح الصعبة، والأمواج الهائلة إليها، فلم يعرفوا كيفية الخلاص، وعظم الخوف، وأما ظلمات البر، فهي ظلمة الليل، وظلمة السحاب، والخوف الشديد من هجوم الأعداء والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب. والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد، لا يرجع [ ص: 2354 ] الإنسان إلا إلى الله تعالى. وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا؛ لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى. وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى. وهو المراد من قوله: تضرعا وخفية . فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة، والخلقة الأصلية في هذه الحالة، بأنه لا ملجأ إلا الله، ولا تعويل إلا على فضل الله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات. ولكنه ليس كذلك؛ فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة. يحيل تلك السلامة إلى الأسباب، ويقدم على الشرك. ومن المفسرين من يقول: المقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان.

ثم قال الرازي رحمه الله، وأنا أقول: التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية، يقرب من أن يكون تعلقا بالوثن؛ ولذلك فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي. انتهى.

الثاني: قال بعض المفسرين: دل قوله تعالى: تدعونه تضرعا وخفية على أن دعاء السر أفضل. قيل: وكان جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء ليعلم غيره. انتهى.

وهذا بناء على أن قوله تعالى: تضرعا تذللا، لا جهرا. وكثير من المفسرين ذهب إلى أن المعنى جهرا وسرا، ولعله الصواب. فإن العيان يؤيده، إذ لا يتمالك من اشتد عليه الأمر، وأظلم عليه طريق الخلاص، على الاقتصار على دعاء السر وحده. والله أعلم.

وفي القاموس وشرحه: تضرع إلى الله تعالى، أي: ابتهل وتذلل. وقيل: أظهر الضراعة، وهي شدة الفقر والحاجة إلى الله تعالى. ومنه قوله تعالى: تضرعا وخفية أي: مظهرين الضراعة، وحقيقة الخشوع. انتهى.

الثالث: المراد بالكرب ما يعم ما تقدم، ولا محذور في التعميم بعد التخصيص، لكثرة وروده. أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى، كالأمراض والأسقام، [ ص: 2355 ] وما قيل: إن المراد بالأول كرب مخصوص، أو الأولى نعمة رفع، وهذه نعمة دفع، وأنه من قبيل (متقلدا سيفا ورمحا) - تكلف لا داعي له. كذا في "العناية".

الرابع: وضع (تشركون)، موضع (لا تشركون) الذين هو مقتضى الظاهر المناسب لقوله: لنكونن من الشاكرين لأن إشراكهم تضمن عدم صحة عبادتهم، وشكرهم؛ لأنه عبادة، بل نفيها لعدم الاعتداد بها معه؛ إذ التوحيد ملاك الأمر، وأساس العبادة، فوضعه موضعه توبيخا لهم، لعدم الوفاء بالعهد. ولم يذكر متعلقه لتنزيله منزلة اللازم، تنبيها على استبعاد الشرك في نفسه. كذا في "العناية".
القول في تأويل قوله تعالى:

[65] قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون

قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال المهايمي: أي: قل للمشركين بعد النجاة الموعود فيها بالشكر: إنما أشركتم لأمنكم من الشدائد، لكن لا وجه للأمان منها، لاستمرار منشأ الخوف، وهو القدرة الإلهية على أنواع الشدائد من الجهات كلها. إذ هو القادر على إرسال عذاب أعظم من تلك الشدة من فوقكم، كإمطار النار أو الحجارة، أو إسقاط السماء.

أو من تحت أرجلكم كالخسف والطوفان أو يلبسكم شيعا أي: يخلطكم فرقا خلط اضطراب، فيجعلكم متحزبين مختلفين في القتال، بأن يقوي أعداءكم: ويذيق بعضكم بأس أي: شدة: بعض يعني: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والتعذيب.

[ ص: 2356 ] انظر كيف نصرف الآيات أي: نحولها من نوع إلى آخر لعلهم يفقهون أي: يفهمون ويعتبرون، فيكفوا عن كفرهم وعنادهم.

تنبيهان:

الأول: روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال. لما نزلت هذه الآية: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك! أو من تحت أرجلكم قال: أعوذ بوجهك! أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال: هذا أهون، أو أيسر» .

قال الحافظ ابن حجر: وقد روى ابن مردويه من حديث ابن عباس ما يفسر به حديث جابر، ولفظه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعا، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين. دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض; فرفع الله عنهم الخسف والرجم، وأبى أن يرفع عنهم الأخريين» . فيستفاد من هذه الرواية بقوله: من فوقكم أو من تحت أرجلكم ويستأنس له أيضا بقوله تعالى: أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #328  
قديم 20-12-2022, 04:40 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2357 الى صـ 2372
الحلقة (328)





وروى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال: «سألت ربي ثلاثا، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة. سألت [ ص: 2357 ] ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها. وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها. وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها» .

وروى الإمام أحمد من حديث أبي بصرة نحوه، لكن قال (بدل خصلة الإهلاك). أن لا يجمعهم على ضلالة. وكذا الطبري من مرسل الحسن.

قال الخفاجي: فإن قلت: كيف أجيبت الدعويان، وسيكون خسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب؟ أي: كما رواه الترمذي وغيره؟ قلت: الممنوع خسف مستأصل لهم، وأما عدم إجابته في بأسهم، فبذنوب منهم، ولأنهم بعد تبليغه صلى الله عليه وسلم لهم، ونصيحته لهم، لم يعملوا بقوله. انتهى.

وقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: قل هو القادر إلخ. فقال: «أما إنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد» . قال الحافظ ابن حجر: وهذا يحتمل أن لا يخالف حديث جابر، بأن المراد بتأويلها [ ص: 2358 ] ما يتعلق بالفتن ونحوها. انتهى. أي: مما ستصدق عليها الآية، ولما تقع بالمسلمين. فقوله: إنها كائنة، أي: في المسلمين، لا أنها خطاب لهم، ونزولها فيهم - كما وهم - إذ يدفعه السياق والسباق، وتتمة الآية - كما لا يخفى - وسنزيده بيانا.

الثاني: ما روي عن ابن عباس من أنه كان يقول في قوله تعالى: عذابا من فوقكم يعني أئمة السوء و: من تحت أرجلكم يعني: خدم السوء. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. فإن صح عنه، فمراده أن لفظ الآية مما يصدق على ذلك؛ لأن العذاب كل ما مر (من المرارة) على النفس، وشق عليها، لا أن ذلك هو المراد من الآية. لنبوه عن مقام التهويل، في شديد الوعيد، ولخفاء الكناية عن ذلك من جوهر اللفظ، ولعدم موافقته لنظائر الآية في هذا الباب - كما لا يخفى.

والظاهر أن السلف كانوا يتلون بعض الآيات في بعض المقامات، إشعارا بأن معناها يحاكي تلك الواقعات، لا أنها نزلت في تلك القضيات. ومن ذلك قول أبي بن كعب، قال في هذه الآية: هن أربع خلال، كلهن واقع، منها ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين: (ألبسوا شيعا) و (ذاق بعضهم بأس بعض)، وبقيت اثنتان لا بد منهما الرجم والخسف - رواه الإمام أحمد وغيره - وقد أعل هذا الأثر بأن أبيا لم يدرك سنة خمس وعشرين من الوفاة النبوية، وكأن التقييد بذلك من كلام أبي العالية، رواية عنه. وبالجملة، فاستشهاد السلف بالآيات في بعض الشؤون، للإشعار المذكور - مما لا ينكر، فافهم ذلك، فإنه ينفعك في مواطن كثيرة.
[ ص: 2359 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[66] وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل

قوله تعالى: وكذب به قومك أي: بالقرآن المجيد: وهو الحق أي: الكتاب الصادق في كل ما نطق به قل لست عليكم بوكيل أي: لم يفوض إلي أمركم فأمنعكم من التكذيب، وأجبركم على التصديق. إنما أنا منذر، وقد بلغت. وبعضهم أرجع الضمير في (به) للعذاب. أي: كذب بالعذاب الموعود، قومك المعاندون، وهو الواقع لا محالة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[67] لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون

لكل نبإ مستقر أي: لكل خبر عظيم وقت استقرار، لصدقه أو كذبه وسوف تعلمون أي: مستقر هذا النبأ ومآله، وأن العاقبة له، كما قال تعالى: ولتعلمن نبأه بعد حين
القول في تأويل قوله تعالى:

[68] وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين

وإذا رأيت الذين يخوضون أي: بالطعن والاستهزاء في آياتنا أي: المنسوبة إلى مقام عظمتنا، التي حقها أن تعظم بما يناسب عظمتنا. والموصول كناية عن مشركي مكة، فقد كان ديدنهم ذلك فأعرض عنهم أي: فلا تجالسهم، وقم عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره أي: حتى يأخذوا في كلام آخر، غير ما كانوا فيه من الخوض في آياتنا.

[ ص: 2360 ] وإما ينسينك الشيطان بأن يشغلك فتنسى النهي عن مجالستهم فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين أي: إن ينسينك الشيطان، فجلست معهم، فلا تؤاخذ به، لكن إذا ذكرت النهي، فلا تقعد معهم؛ لأنهم ظالمون بالطعن في الكلام المعجز، عنادا.

وفي الحديث: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» - رواه الطبراني عن ثوبان مرفوعا. وإسناده صحيح - وهذه الآية هي المشار إليها في قوله تعالى: وقد نـزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم الآية. لأن في حضور المنكر مع إمكان التباعد عنه، مشاركة لصاحبه.

فوائد:

قال السيوطي في "الإكليل": في هذه الآية وجوب اجتناب مجالس الملحدين، وأهل اللغو، ويستدل بها على أن الناسي غير مكلف، وأنه إذا ذكر عاد إليه التكليف، فيعفى عما ارتكبه في حال نسيانه. ويندرج تحت ذلك مسائل كثيرة في العبادات والتعليقات. انتهى.

وقال الرازي: ومن الحشوية من استدل بهذه الآية في النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته. قال: لأن ذلك خوض في آيات الله، والخوض في آيات الله حرام بدليل هذه الآية.

والجواب عنه: أن المراد من الخوض في الآية الشروع في الطعن والاستهزاء. فسقط هذا الاستدلال. والله أعلم.

[ ص: 2361 ] وقال بعض مفسري الزيدية - ثمرة الآية أحكام:

الأول: وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بآيات الله أو بحججه أو برسله، وأن لا يقعد معهم؛ لأن في القعود إظهار عدم الكراهة؛ وذلك لأن التكليف عام لنا، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يجب الإعراض، وترك الجلوس معهم، إذا لم يطمع في قبولهم، فإذا انقطع طمعه إذا، فلا فائدة في دعائهم. ويجب القيام عن مجالسهم إذا عرف أن قيامه يكون سببا في ترك الخوض، وأنهم إنما يفعلونه مغايظة للواقف، إذ كان وقوفه يوهم عدم الكراهة.

الحكم الثاني: جواز مجالسة الكفار، مع عدم الخوض؛ لأنه إنما أمرنا بالإعراض مع الخوض. وأيضا فقد قال تعالى: حتى يخوضوا في حديث غيره قال الحاكم: والآية تدل أيضا على المنع من مجالسة الظلمة والفسقة، إذا أظهروا المنكرات، وتدل على إباحة الدخول عليهم لغرض، كما يباح للتذكير. وفي الآية أيضا دلالة على وجوب الإنكار؛ لأن الإعراض إنكار. قال: وتدل على أن التقية من الأنبياء والأئمة بإظهارهم المنكر لا تجوز، خلاف الإمامية، وتدل على جواز النسيان على الأنبياء.

الحكم الثالث: أن الناسي مرفوع عنه الحرج، فإن قيل: النسيان فعل الله، فلم أضيف إلى الشيطان؟ أجيب: بأن السبب من الشيطان، وهو الوسوسة والإعراض عن الذكر، فأضيف إليك لذلك. كما أن من ألقى غيره في النار فمات، يقال، إنه القاتل، وإن كان الإحراق فعل الله، واختلف في النسيان ما هو؟ فقال الحاكم: هو معنى يحدثه الله في القلب. وقال أبو هاشم وأصحابه: ليس بمعنى، وإنما هو زوال العلم الضروري الذي جرت العادة بحصوله. انتهى.
[ ص: 2362 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[69] وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون

وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء أي: وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء عما يحاسبون عليه من خوضهم ولكن ذكرى أي: ولكن أمروا بالإعراض عنهم، ليكون ذكرى لضعفاء المسلمين؛ لئلا يقع شيء من مطاعن المستهزئين في قلوبهم لعلهم يتقون أي: يبلغ مبلغ التوقي من شبهاتهم، بالجلوس مع علمائه بدلهم.

تنبيهان:

الأول: ما ذكرناه في معنى الآية، هو ما قرره المهايمي رحمه الله تعالى. وقيل: المعنى: ولكن على المتقين أن يذكروهم ذكرى إذا سمعوهم يخوضون، بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم، لعلهم يتقون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم، فلا يعودون إليه، وجوزوا أن يكون الضمير: للذين يتقون ، أي: يذكرونهم رجاء أن يثبتوا على تقواهم، أو يزدادوها. انتهى.

وما ذكرناه أسد وأوجه.

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال في الآية: أي: ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك. أي: إذا تجنبتهم، وأعرضت عنهم. وعليه فالموصول كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم. التفت به تعظيما وتكريما.

الثاني: قال السيوطي في "الإكليل": قد يستدل بقوله تعالى: وما على الذين يتقون إلخ على أن من جالس أهل المنكر، وهو غير راض بفعلهم، فلا إثم عليه. لكن آية النساء تدل على أنه آثم، ما لم يفارقهم؛ لأنه قال: إنكم إذا مثلهم . أي: [ ص: 2363 ] إن قعدتم فأنتم مثلهم في الإثم، وهي متأخرة. فيحتمل أن تكون ناسخة لهذه كما ذهب إليه قوم منهم السدي. أقول: المنفي في الآية هو لحوق شيء من وبال الخائضين، وإثم كفرهم لمجالسيهم المتقين، فلا ينافي ذلك لحوق وبال المجالسة على انفرادها، وهو ما أفادته آية النساء. فالمثلية إذن في مطلق الإثم، وإن تباين (ماصدقه) فيهما؛ إذ لا قائل بأن مطلق مجالستهم ردة وكفر. نعم! لو قيل بأن المثلية محمولة على ما إذا حصل الرضا بشأن مجالستهم، فلا إشكال إذن. وبالجملة فاستدلال "الإكليل" واه، ولذا عبر ب (قد)، ودعوى النسخ أوهى. فتأمل! القول في تأويل قوله تعالى:

[70] وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون

وذر الذين اتخذوا دينهم أي: الذي كلفوه ودعوا إليه، وهو دين الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا به واستهزؤوا: وغرتهم الحياة الدنيا حيث اطمأنوا بها، وزعموا أن لا حياة بعدها أبدا، وأن السعادة في لذاتها. أي: أعرض عنهم، ودعهم، ولا تبال بتكذيبهم، وأمهلهم قليلا، فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم وذكر به أي: ذكر الناس بهذا القرآن: أن تبسل نفس بما كسبت أي: مخافة أن تسلم إلى الهلاك، وترتهن بسوء كسبها. وغرورها بإنكار الآخرة. يقال: أبسله لكذا: عرضه ورهنه، [ ص: 2364 ] أو أسلمه للهلكة ليس لها من دون الله ولي ينصرها بالقوة: ولا شفيع يدفع عنها بالمسألة.

وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أي: وإن تفد كل نوع من أنواع الفداء، بما يقابل العذاب، لا يقبل منها، لبعدهم عن مقام الفداء. والعدل: الفدية؛ لأن الفادي يعدل المفدى بمثله.

أولئك إشارة إلى المتخذين دينهم لعبا ولهوا: الذين أبسلوا أي: سلموا للهلاك، بحيث لا يعارضه شيء بما كسبوا بهذا الاغترار من إنكار الآخرة معها، والانهماك في الشهوات المحرمة لهم شراب من حميم أي: ماء مغلي يتجرجر في بطونهم، وتقطع به أمعاؤهم وعذاب أليم أي: بنار تشتعل بأبدانهم بما كانوا يكفرون أي: بسبب كفرهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[71] قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين

قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا أي: أنعبد من دونه ما لا يقدر على نفعنا، إن دعوناه، ولا ضرنا إن تركناه ونرد على أعقابنا عطف على (ندعو)، داخل في حكم الإنكار والنفي. أي: ونرد إلى الشرك. والتعبير عنه بالرد على الأعقاب - لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو علم في القبح، مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر . أفاده أبو السعود.

بعد إذ هدانا الله أي: للإسلام والتوحيد، وأنقذنا من عبادة الأصنام، فنصير [ ص: 2365 ] كالمستمر على الضلال، بل: كالذي استهوته الشياطين أي: استمالته عن الطريق الواضح مردة الجن في الأرض القفر المهلكة حيران أي: تائها ضالا عن الجادة، لا يدري كيف يصنع له أي: لهذا المستهوى: أصحاب أي: رفقة: يدعونه إلى الهدى أي: إلى الطريق المستقيم ائتنا على إرادة القول، أي: يقولون: ائتنا. أي: وهو قد اعتسف المهمه، تابعا للشياطين، لا يجيبهم ولا يأتيهم. فشبه حال من خلص من الشرك، ثم عاد له، بحال من ذهب به المردة في مهمه بعد ما كان على الجادة، ولا يدري مقصده الذي هو سائر إليه، مع وجود رفقة تناديه لتهديه، وهو لا يسمع لهم قل إن هدى الله أي: الذي أرسل به رسله هو الهدى أي: وما وراءه ضلال وغي وأمرنا لنسلم لرب العالمين
القول في تأويل قوله تعالى:

[72] وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون

وأن أقيموا الصلاة واتقوه أي: في مخالفة أمره وأن أقيموا عطف على: لنسلم . ومعناه: أن نسلم. فاللام فيه رديفة: أن ، أو عطف عليه; واللام تعليلية، أي: للإسلام، ولإقامة الصلاة. وفي ورود: أقيموا الصلاة محكيا بصيغته، وورود: نسلم محكيا بمعناه. احتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم حكى قول الله بمعناه، دون لفظه. انظر "الانتصاف".

تنبيه:

في تخصيص الصلاة بالذكر من بين أنواع الشرائع، وعطفها على الأمر بالإسلام، وقرنها بالأمر بالتقوى - دليل على تفخيم أمرها، وعظيم شأنها - ذكره بعض الزيدية -: وهو الذي إليه تحشرون
[ ص: 2366 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[73] وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير

وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق أي: بالحكمة، كقوله: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا

وقوله تعالى: ويوم يقول كن فيكون قوله الحق بيان لقدرته تعالى على حشرهم، بكون مراده لا يتخلف عن أمره، وأن قوله هو النافذ والواقع، والمراد ب (القول) كلمة (كن) تحقيقا أو تمثيلا. ف (قوله الحق) مبتدأ وخبر. و (يوم) ظرف لمضمون هذه الجملة. كقوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون

وكأن قوله تعالى: وهو الذي خلق السماوات إلخ عقب قوله: وهو الذي إليه تحشرون سيق للاحتجاج على قدرته تعالى على البعث، ردا على منكري ذلك من المشركين، الذين السياق فيهم. وما أشبه الآية بقوله تعالى: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا

ولا يخفى أن باستحضار النظائر القرآنية، تنجلي الحقائق. وقد توسع المفسرون هنا في إعراب هذه الجملة، بسرد وجوه ضاع الظاهر بينها - وقد علمته؛ فاحرص عليه.

[ ص: 2367 ] وله الملك يوم ينفخ في الصور أي: فلا بد أن يفعل بالمطيع والعاصي فعل الملوك، لمن يطيعهم أو يعصيهم. ف (يوم) ظرف لقوله: وله الملك - قاله أبو السعود - وتقييد اختصاص الملك به تعالى، بذلك اليوم، مع اليوم، مع عموم الاختصاص لجميع الأوقات، لغاية ظهور ذلك. بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا، المصححة للمالكية المجازية في الجملة، كقوله تعالى: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار وقوله: الملك يومئذ الحق للرحمن

وقد زعم بعضهم أن المراد ب (الصور) هنا جمع صورة، أي: يوم ينفخ فيها، فتحيا. قال ابن كثير: والصحيح أن المراد ب (الصور) القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، وهكذا قال ابن جرير: الصواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن إسرافيل قد التقم الصور، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ» .

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: إن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور؟ [ ص: 2368 ] فقال: «قرن ينفخ فيه» . ورواه أبو داود والترمذي والحاكم، عنه أيضا.

عالم الغيب والشهادة أي: هو عالمهما وهو الحكيم الخبير ذو الحكمة في سائر أفعاله. والعلم بالأمور الجلية والخفية.
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر لمن اتخذ دينه هزوا ولعبا إنكار إبراهيم عليه الصلاة والسلام - الذي يزعمون أنهم على دينه، ويفتخرون به - على أبيه في شركه بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[74] وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين

وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما أي: صورا مصنوعة آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين أي: باعتقاد إلهيتها، أو اتصافها بصفاته، أو استحقاقها للعبادة؛ لأن الإلهية بوجوب الوجود بالذات، وهي ممكنة مصنوعة وأنى لها الاتصاف بصفاته، وهي عاجزة عن النفع والضر، خالية عن الحياة والسمع والبصر، والعبادة غاية التذلل، فلا يستحقها من لا يخلو عن هذه الوجوه من الذلة، وإنما يستحقها من كان في غاية العلو - أفاده المهايمي -.

تنبيهات:

الأول: قرئ: آزر بالنصب، عطف بيان لقوله: لأبيه وبالضم على النداء.

الثاني: الآية حجة على الشيعة في زعمهم أنه لم يكن أحد من آباء الأنبياء كافرا، وأن آزر عم إبراهيم، لا أبوه، على ما بسطه الرازي هنا، وذلك لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، ومثله لا يجزم به من غير نقل.

[ ص: 2369 ] الثالث: قال بعض مفسري الزيدية: في الآية دلالة على بطلان قول الإمامية: إن الإمام لا يجوز أن يكون أبوه كافرا؛ لأنه إذا جاز نبي أبوه وزوجته كافران فالإمام أولى.

اشتمل كلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام على ذكر الحجة العقلية إجمالا على فساد قول عبدة الأصنام، بإنكاره اتخاذها آلهة، وهي ما هي في عجزها. وقد جاءت مفصلة في سورة مريم في قوله: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا الآيات.

قال ابن كثير: ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة. فيقول إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني يوم أن لا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال: يا إبراهيم! انظر ما تحت رجليك، فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» .

الرابع: قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية الدلالة على وجوب النصيحة في الدين، لا سيما للأقارب، فإن من كان أقرب، فهو أهم. ولهذا قال تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين [ ص: 2370 ] وقال تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم نارا قال صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» . ولهذا بدأ صلى الله عليه وسلم بعلي وخديجة وزيد، وكانوا معه في الدار، فآمنوا وسبقوا، ثم بسائر قريش، ثم بالعرب، ثم بالموالي. وبدأ إبراهيم بأبيه، ثم بقومه. وتدل هذه الآية على أن النصيحة في الدين والذم والتوبيخ لأجله، ليس من العقوق، كالهجرة - هكذا في التهذيب. انتهى.
[ ص: 2371 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[75] وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين

وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أي: نطلعه على حقائقهما، ونبصره في دلالتهما على شؤونه عز وجل، من حيث إنهما بما فيهما، مربوبان ومملوكان، له تعالى. و (الملكوت) مصدر على زنة المبالغة، كالرهبوت والجبروت، ومعناه: الملك العظيم، والسلطان القاهر. وقيل: ملكوتهما عجائبهما وبدائعهما. وقد أسلفنا الكلام في (وكذلك) قريبا عند قوله تعالى: وكذلك فتنا وأن مختار الزمخشري كونه إشارة إلى مصدر ما بعده، والكاف مقحمة، والتقدير: تلك الإراءة والتبصير البديع، نريه ونبصره. فجدد به عهدا.

وليكون من الموقنين عطف على علة محذوفة لم تقصد بعينها، إشعارا بأن لتلك الإراءة فوائد جمة، من جملتها ما ذكر.

قال المهايمي في الآية: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليعلم أن شيئا من روحانيات الأفلاك والكواكب والمشايخ والشياطين لا يصلح للإلهية وليكون من الموقنين بالتوحيد بالاستدلال بالأدلة الكثيرة. وقيل: وليكون علة لمقدر هو عبارة عن المذكور. أي: وليكون من الموقنين بالتوحيد، فعلنا ما فعلنا من الإراءة والتبصير بآيات السماوات والأرض.

لطائف:

الأولى: قال الرازي: وههنا دقيقة عقلية، وهي أن نور جلال الله تعالى لائح غير [ ص: 2372 ] منقطع ولا زائل البتة، والأرواح البشرية، لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى. فإذا كان الأمر كذلك. فبقدر ما يزول ذلك الحجاب، يحصل هذا التجلي. فقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: أتتخذ أصناما آلهة إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى؛ لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى، فلما زال ذلك الحجاب، لا جرم تجلى له ملكوت السماوات بالتمام. فقوله: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات معناه: وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نور تجلى جلال الله تعالى، فكان قوله: وكذلك منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية.

الثانية: قال الرازي: اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل. ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقينا؛ لأن علمه غير مسبوق بالشبهة، وغير مستفاد من الفكر والتأمل. واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل به، فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت، صارت سببا لحصول اليقين. وذلك لوجوه:

الأول: أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة، فلا تزال القوة تتزايد حتى تنتهي إلى الجزم.

الثاني: أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة. فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد، جار مجرى تكرار الدرس الواحد. فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب، فكذا ههنا.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #329  
قديم 20-12-2022, 04:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2373 الى صـ 2387
الحلقة (329)




الثالث: أن القلب عند الاستدلال كان مظلما جدا، فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول، امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب، فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة، فإذا حصل الاستدلال الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى، فيصير الإشراق واللمعان أتم. وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر [ ص: 2373 ] نورها في أول الأمر، وهو الصبح، فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح. ثم، كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب الشمس من سمت الرأس، فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام، فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر، كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى. إلا أن الفرق بين شمس العلم، وشمس العالم، أن شمس العالم الجسماني لها في الارتقاء والتصاعد حد معين، لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود. وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد، فلا نهاية لتصاعدها، ولا غاية لازديادها. فقوله: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات. وقوله: وليكون من الموقنين إشارة إلى درجات أنوار التجلي، وشروق شمس المعرفة والتوحيد. انتهى.

الثالثة: ذكر تعالى الإراءة في هذه الآية مجملة، ثم فصلها بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[76] فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين

فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي قال المهايمي: لما رأى - يعني إبراهيم عليه الصلاة والسلام - الملكوت، وأيقن أن شيئا منها لا يصلح للإلهية، أراد الرد على قومه في اعتقاد إلهيتها لخستها، باعتبار افتقارها في أفعالها إلى أجسام لها دناءة الأفول، وإن كانت علوية، وكذا في اعتقاد إلهية تلك الأجسام. كما رد عليهم في اعتقاد إلهية الأصنام، فلتظهر ظهور الكواكب التي كانوا يعبدونها. انتهى.

وبالجملة، فالآية بيان لكيفية استدلاله عليه الصلاة والسلام، ووصوله إلى رتبة الإيقان. ومعنى: جن عليه الليل ستره بظلامه. و (الكوكب) قيل: الزهرة، وقيل: المشتري.

[ ص: 2374 ] أقول: (الكوكب) لغة: النجم. قال الزبيدي في "شرح القاموس": وكونه علما بالغلبة على الزهرة غير معتد به، وإنما هي الكوكبة بالهاء. انتهى.

[ ص: 2375 ] قال الزمخشري: كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها، لقيام دليل الحدوث فيها وأن وراءها محدثا أحدثها، وصانعا صنعها، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها. وقول إبراهيم لقومه: هذا ربي إرخاء للعنان معهم بإظهار موافقته لهم أولا، ثم إبطال قولهم بالاستدلال؛ لأنه أقرب لرجوع الخصم. قال الزمخشري: قول إبراهيم ذلك. هو قول من ينصف خصمه، مع علمه بأنه مبطل. يحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه؛ لأن ذلك أدعى إلى الحق، وأنجى من الشغب. ثم يكر عليه بعد حكايته، فيبطله بالحجة.

فلما أفل أي: غاب: قال لا أحب الآفلين أي: لا أحب عبادة من كان كذلك، فإن الأفول دناءة تنافي الإلهية، بل تمنع من الميل إلى صاحبها، فضلا عن اتخاذه إلها أو معبودا، فضلا عما يفتقر إليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[77] فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين

فلما رأى القمر بازغا أي: طالعا منتشر الضوء: قال هذا ربي على الأسلوب المتقدم: فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فإن ما رأيته لا يليق بالإلهية لدناءته بمحوه.

قال الزمخشري: وفيه تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها، وهو نظير الكواكب في الأفول، فهو ضال. وأن الهداية إلى الحق بتوفيق الله تعالى ولطفه.

وفي "الانتصاف": التعريض بضلالهم ثانيا أصرح وأقوى من قوله أولا: لا أحب الآفلين وإنما ترقى إلى ذلك؛ لأن الخصوم قد أقامت عليه، بالاستدلال الأول، حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون، ولا يصغون إلى الاستدلال. فما عرض صلوات الله عليه بأنهم في ضلالة، إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود، واستماعهم إلى آخره. والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم، والتقريع بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة، وتبلج الحق، وبلغ من الظهور غاية المقصود. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[78] فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون

فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي على نحو ما تقدم، وتذكير اسم الإشارة لتذكير الخبر، أو لأنه أراد: هذا الطالع، أو الذي أراه، أو لصيانة الرب عن شبهة التأنيث، ليستدرجهم. إذ لو حقر بوجه ما كان سببا لعدم إصغائهم - وعلى الأخير اقتصر المهايمي - فقال: لم يؤنثه لئلا يعارض عظمته نقص الأنوثة، ولو غير حقيقة، وهي وإن كانت في الواقع لم يأت بها لفظا؛ لأنه قصد بذلك مساعدة الخصم أولا.

وقوله تعالى: هذا أكبر أي: أكبر الكواكب جرما، وأعظمها قوة، فهو أولى بالإلهية. وفيه تأكيد لما رامه عليه الصلاة والسلام من إظهار النصفة، مع إشارة خفية إلى فساد دينهم من جهة أخرى، ببيان أن الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر.

[ ص: 2376 ] فلما أفلت قال صادعا بالحق: يا قوم إني بريء مما تشركون أي: من الأجرام المحدثة المتغيرة من حالة إلى أخرى، أو من إشراككم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[79] إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين

إني وجهت وجهي أي: وجهت قلبي وروحي في المحبة والعبادة، بل جعلته مسلما: للذي فطر السماوات والأرض حنيفا أي: مائلا عن الأديان الباطلة، والعقائد الزائغة وما أنا من المشركين

وفي هذا المقام:

مباحث:

الأول: توسع المفسرون هنا في قوله: هذا ربي .

فمن قائل بأن المتكلم بهذا آزر، وأنه لما قال ذلك، قال إبراهيم: لا أحب الآفلين .

وقيل: إنه إبراهيم. وكان ذلك في حال الطفولية، قبل استحكام النظر في معرفة الله تعالى لقوله: لئن لم يهدني ربي ... إلخ.

وقيل: بعد بلوغه وتكريمه بالرسالة. إلا أنه أراد الاستفهام الإنكاري، توبيخا لقومه، فحذف الهمزة، ومثله كثير.

وقيل: على إضمار القول أي: يقولون هذا ربي، وإضمار القول كثير.

وقيل: المعنى في زعمكم واعتقادكم. وقيل: الإخبار على سبيل الاستهزاء... إلى أقوال أخر.

والقصد في ذلك تنزيه مقامه عليه الصلاة والسلام عن الشك والحيرة، واعتقاد ربوبية ذلك، لمنافاته للعصمة.

[ ص: 2377 ] وأقول: هذا مسلم بلا ريب، ولكن الأوجه من جميع ذلك كله ما أسلفناه أولا من أن قوله: هذا ربي من باب استعمال النصفة مع الخصوم، على سبيل الوضع، وهو سوق مقدمة في الدليل لا يعتقدها، لكونها مسلمة عند غيره، لأجل إلزامه بها. وهو مصطلح أهل الجدل. وقد اقتصر الزمخشري على هذا الوجه الفريد.

قال الناصر في "الانتصاف": وذلك متعين. وقد ورد في الحديث الوارد في الشفاعة أنهم يأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيلتمسون منه الشفاعة، فيقول: نفسي! نفسي! ويذكر كذباته الثلاث، ويقول: لست لها، يريد قوله لسارة: هي أختي، وإنما عنى: في الإسلام، وقوله: إنه سقيم، وإنما عنى همه بقومه وبشركهم، والمؤمن يسقمه ذلك - وقوله: بل فعله كبيرهم ، وقد ذكرت فيه وجوه من التعريض. فإذا عد صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات، مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها، دل ذلك على أنه أعظم ما صدر منه. فلو كان الأمر على ما يقال، من أن هذا الكلام محكي عنه على أنه نظره لنفسه، لكان أولى أن يعده، وأعظم، مما ذكرناه؛ لأنه حينئذ يكون شكا، بل جزما. على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك، انتهى.

وقال الحافظ ابن كثير: اختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر. واختاره ابن جرير مستدلا عليه بقوله: لئن لم يهدني ربي الآية... وقال محمد بن إسحاق: قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان [ ص: 2378 ] لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذ. فلما حملت أم إبراهيم به، وحان وضعها، ذهبت إلى سرب، ظاهر البلدة، فولدت فيه إبراهيم، وتركته هناك. وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين. ثم قال ابن كثير: والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين، في المقام الأول مع أبيه، خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صورة الملائكة السماوية ليشفعوا له إلى الخالق العظيم الذي هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق، وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة. وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم، الشمس ثم القمر ثم الزهرة. فبين أولا -صلوات الله وسلامه عليه- أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه، ولا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام، خلقها الله منيرة، لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من المشرق، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب، حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. وهذه لا تصلح للإلهية. ثم بين في القمر ما بين في النجم، ثم الشمس كذلك. فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة، التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، تبرأ من عبادتهن وموالاتهن، وأخبر بأنه يعبد خالقهن ومسخرهن.

ثم قال ابن كثير: وكيف يجوز أن يكون ناظرا في هذا المقام، وهو الذي قال الله في حقه: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وقال تعالى: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم

[ ص: 2379 ] وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة» .

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء» . وقال تعالى: فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله وقال تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ومعناه -على أحد القولين- كقوله: فطرت الله التي فطر الناس عليها فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل [ ص: 2380 ] الذي جعله الله: أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ناظرا في هذا المقام؟ بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة، والسجية المستقيمة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلا شك ولا ريب.

ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك، لا ناظرا، قوله تعالى: وحاجه قومه الآية الآتية. انتهى.

وممن جود هذا المبحث الجليل، وبين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظرا لقومه، العلامة الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل"، ونحن نسوقه عنه تأييدا لهذا البحث المهم، وتعرفا بمعتقد قومه، وما دفعهم إليه، لما فيه من الفوائد.

قال رحمه الله تحت ترجمة "أصحاب الهياكل والأشخاص": هؤلاء من فرق الصابئة (وهم المتعصبون للروحانيين)، وقد أدرجنا مقالتهم في المناظرات جملة، ونذكرها ههنا تفصيلا:

اعلم أن أصحاب الروحانيات، لما عرفوا أن لا بد للإنسان من متوسط، ولا بد للمتوسط من أن يرى فيتوجه إليه للتقرب به، ويستفاد منه، فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع، فتعرفوا أولا بيوتها ومنازلها، وثانيا مطالعها ومغاربها، وثالثا اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة، مرتبة على طبائعها، ورابعا تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها، وخامسا تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها، فعملوا الخواتيم، وتعلموا العزائم والدعوات، وعينوا ليوم زحل مثلا يوم السبت، وراعوا فيه ساعته الأولى، وتختموا بخاتمه المعمول على صورته وصفته، ولبسوا اللباس الخاص به، وبخروا ببخوره الخاص، ودعوا بدعواته الخاصة، وسألوا حاجاتهم منه، الحاجة التي تستدعى من زحل من أفعاله وآثاره الخاصة به.

وكذاك رفع الحاجة التي تختص بالمشتري في يومه وساعته، وجميع الإضافات التي [ ص: 2381 ] ذكرنا إليه. وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب. وكانوا يسمونها: أربابا آلهة، والله تعالى هو رب الأرباب، وإله الآلهة. ومنهم من جعل الشمس إله الآلهة ورب الأرباب، فكانوا يتقربون إلى الهياكل، تقربا إلى الروحانيات - يعني الملائكة - ويتقربون إلى الروحانيات، تقربا إلى البارئ تعالى، لاعتقادهم بأن لكل روحاني هيكلا، ولكل هيكل فلكا، فالهياكل أبدان الروحانيات، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات، وهي أربابها ومدبراتها، تتصرف في أبدانها تدبيرا وتصريفا وتحريكا، كما يتصرف في أبداننا. ولا شك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه. ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضى منهم العجب. وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتختيم والتعزيم والخواتيم والصور، كلها من علومهم.

وأما أصحاب الأشخاص فقالوا: إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به، وشفيع يتشفع إليه، والروحانيات وإن كانت هي الوسائل، لكنا إذا لم نرها بالأبصار، ولم نخاطبها بالألسن، لم يتحقق القرب إليها إلا بهياكلها، ولكن الهياكل قد ترى في وقت، ولا ترى في وقت؛ لأن لها طلوعا وأفولا، وظهورا بالليل، وخفاء بالنهار، فلم يصف لنا التقرب بها، والتوجه إليها، فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا، فنعكف عليها، ونتوسل بها إلى الهياكل، فنتقرب بها إلى الروحانيات، ونتقرب بالروحانيات إلى الله تعالى، فنعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، فاتخذوا أصناما أشخاصا على مثال الهياكل السبعة، كل شخص في مقابلة هيكل، وراعوا في ذلك جوهر الهيكل، أعني الجوهر الخاص به من الحديد وغيره، وصوروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه، وراعوا في ذلك الزمان والوقت والساعة والدرجة والدقيقة وجميع الإضافات النجومية، من اتصال محمود يؤثر في نجاح المطالب التي تستدعى منه، فتقربوا إليه في يومه وساعته، وتبخروا بالبخور الخاص به وتختموا بخاتمه، ولبسوا ثيابه، وتضرعوا بدعائه، وعزموا [ ص: 2382 ] بعزائمه، وسألوا حاجتهم منه، فيقولون: كان تقضى حوائجهم بعد رعاية هذه الإضافات كلها، وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنه أنهم عبدة الكواكب والأوثان، فأصحاب الهياكل هم عبدة الكواكب، إذ قالوا بإلهيتها - كما شرحنا - وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان، إذ سموها آلهة في مقابل آلهة أولئك السماوية، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله . وقد ناظر الخليل عليه الصلاة والسلام هذين الفريقين، فابتدأ بكسر مذهب أصحاب الأشخاص، وذلك قوله تعالى: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم وتلك الحجة أن كسرهم قولا بقوله: أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية، ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام، لا من غيره، كان أكثر الحجج معه، وأقوى الإلزامات عليه: وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وقال: إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا لأنك جهدت كل الجهد، واستعملت كل العلم، حتى عملت أصناما في مقابلة الأجرام السماوية فما بلغت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيها سمعا وبصرا، وأن تغني عنك وتضر وتنفع، وإنك بفطرتك وخلقتك أشرف درجة منها، لأنك خلقت سميعا بصيرا ضارا نافعا، والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتخذ تكلفا، والمعمول تصنعا، فيا لها من حيرة، إذ صار المصنوع بيديك معبودا لك، والصانع أشرف من المصنوع يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان : [ ص: 2383 ] يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم فلم يقبل حجته القولية. فعدل عليه الصلاة والسلام إلى الكسر بالفعل، فجعلهم جذاذا، إلا كبيرا لهم: قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون فأفحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم، كما أفحمهم بالقول، حيث أحال الفعل منهم، وكل ذلك على طريق الإلزام عليهم، وإلا فما كان الخليل كاذبا قط، ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل كما أراه الله تعالى الحجة على قومه، قال: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين تشريفا له على الروحانيات وهياكلها، وترجيحا لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة، وتقريرا أن الكمال في الرجال، فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل: فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام: بل فعله كبيرهم هذا وإلا فما كان الخليل كاذبا في هذا القول، ولا مشركا في تلك الإشارة، ثم استدل بالأفول والزوال والتغير والانتقال، بأنه لا يصلح أن يكون ربا إلها، فإن الإله القديم لا يتغير، وإذا تغير فاحتاج إلى مغير، وهذا لو اعتقدتموه ربا قديما وإلها أزليا، ولو اعتقدتموه واسطة وقبلة وشفيعا ووسيلة، فالأفول والزوال أيضا، يخرجه عن الكمال. وعن هذا [ ص: 2384 ] ما استدل عليه بالطلوع، وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول، فإنهم إنما انتقلوا إلى الأشخاص، لما عراهم من التحير بالأفول، فأتاهم الخليل عليه الصلاة والسلام من حيث تحيرهم، فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته، وذلك أبلغ في الاحتجاج. ثم: فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فيا عجبا! من لا يعرف ربا كيف يقول: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ؟ رؤية الهداية من الرب تعالى غاية التوحيد، ونهاية المعرفة، والواصل إلى الغاية والنهاية، كيف يكون في مدارج البداية؟ دع هذا كله خلف قاف، وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف؛ فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج، وأوضح المناهج. وعن هذا قال: فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك، وهو رب الأرباب الذي يقتبسون منه الأنوار، ويقبلون منه الآثار: فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين قرر مذهب الحنفاء، وأبطل مذهب الصابئة، وبين أن الفطرة هي الحنيفية، وأن الطهارة فيها، وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها، وأن الأنبياء والرسل مبعوثة لتقريرها وتقديرها، وأن الفاتحة والخاتمة، والمبدأ والكمال، منوطة بتلخيصها وتحريرها. ذلك الدين القيم، والصراط المستقيم، والمنهج الواضح، والمسلك اللائح. انتهى كلام الشهرستاني رحمه الله تعالى. وإنما نقلت كلامه برمته؛ لأنه كما قيل:


وما محاسن شيء كله حسن


وقد قدم رحمه الله الكلام على أصحاب الروحانيات الصابئة، وأتبعها بمناظرة بديعة جرت بينهم وبين الحنفاء، بما تفيد مراجعته فائدة كبرى. فجزاه الله خيرا.

[ ص: 2385 ] الثاني: تبين مما ذكره الشهرستاني أن سر احتجاج الخليل عليه الصلاة والسلام بالأفول دون البزوغ، مع كون كل منهما منافيا لاستحقاق معروضه للربوبية - هو إتيانهم من حيث تحيرهم، إلزاما لهم بما يعترفون بصحته.

وقال أبو السعود: لما كان البزوغ حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام، ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة - عدل عنه إلى الأفول؛ لأنه حالة مقتضية لانطماس الآثار، وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة، يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد. انتهى. وهو لطيف إلا أن الأول أسد.

الثالث: لو قيل: إن الأفول، لما كان يمنع من استحقاق معروضه لصفة الربوبية على ما ذكرنا، وقد ثبت ذلك في أكبر الكواكب - (أعني الشمس) - فلزم ثبوته فيما دونها بالأولى: فهلا اقتصر على أفول الشمس رعاية للإيجاز والاختصار؟ أجيب: بأن الأخذ من الأدنى فالأدنى، إلى الأعلى، له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد، لا يحصل من غيره، فكان سوق الاستدلال على هذا الوجه أولى - أفاده الرازي -.

الرابع: قال الرازي: تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل، لا على التقليد، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[80] وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون

قوله تعالى: وحاجه قومه أي: جادلوه، وأرادوا مغالبته بالحجة، فيما ذهب إليه من توحيد الله، ونفي الشركاء عنه، تارة بأدلة فاسدة واقفة في حضيض التقليد، وأخرى بالتخويف، وقد أشير إلى جواب كل منهما. قال أتحاجوني في الله وقد هداني أي: أتجادلونني في توحيده، وقد هداني لإقامة الحجج، ورفع الشبه على نفي إلهية ما سواه، [ ص: 2386 ] وقد ثبت أنها ناقصة في ذواتها، فكمالاتها من غيرها، ولا إلهية للناقص بالذات؛ لأن كماله لا يكون مطلقا، و (تحاجوني) بإدغام نون الجمع في نون الوقاية، وقرئ بحذف الأولى.

وقوله تعالى: ولا أخاف ما تشركون به أي: لا أخاف معبوداتكم؛ لأنها جمادات لا تضر بنفسها ولا تنفع، وهو جواب عما خوفوه عليه الصلاة والسلام في أثناء المحاجة من إصابة مكروه من جهة أصنامهم، كما قال لهود عليه السلام قومه: إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . وتخويفهم، وإن لم يسبق له ذكر فهم من قوله: ولا أخاف .

وقال ابن كثير: أي: ومن الدليل على بطلان قولكم; إن هذه المعبودات لا تؤثر شيئا، وأنا لا أخافها ولا أباليها، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تنظرون. انتهى.

إلا أن يشاء ربي شيئا أي: من إصابة مكروه بي من جهتها، وذلك إنما هو من جهته تعالى، من غير دخل لمعبوداتكم فيه أصلا.

وفي "الانتصاف": غاية خوف إبراهيم منها المعلق على مشيئة الله تعالى لذلك، خوف الضرر عندها بقدرة الله تعالى، لا بها، وكأنه في الحقيقة لم يخف إلا من الله؛ لأن الخوف الذي أثبته منها معلق بمشيئة الله وقدرته، وهو كالخوف منها. والله أعلم.

وقوله تعالى: وسع ربي كل شيء علما كأنه علة الاستثناء، أي: أحاط بكل شيء علما. فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها، أي: كرجمه بالنجوم لأنه إذا أحيل شيء إلى علم الله، أشعر بجواز وقوعه. وفي الإظهار في موضع الإضمار، مع التعرض لعنوان الربوبية، إظهار منه عليه الصلاة والسلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى، واستسلام لأمره، واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته.

[ ص: 2387 ] هذا وجعل المهايمي ذلك علة لاستدراك محذوف، لعلمه من المقام، حيث قال في الآية: ولا أخاف الضرر على نفسي من تأثير ما تشركون به، إلا أن يشاء ربي أن يجعل لهم شيئا من التأثير، لكنه لا يشاء في شأني؛ لأنه: وسع ربي كل شيء علما فعلم أنه لو أوجد التأثير فيهم بما يضرون به من بعثه لتوحيده، صار محجوبا انتهى، والأول أقرب.

أفلا تتذكرون أي: تعتبرون بأن هذه المعبودات جمادات، لا تضر ولا تنفع، وأن النافع الضار هو الذي خلق السماوات والأرض.
القول في تأويل قوله تعالى:

[81] وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينـزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون

وكيف أخاف ما أشركتم أي: معبوداتكم، وهي مأمونة الخوف ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينـزل به أي: بإشراكه: عليكم سلطانا أي: حجة. إذ الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة. والمعنى: وما لكم تنكرون علي الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهولها: فأي الفريقين أي: فريقي الموحدين والمشركين أحق بالأمن أي: من لحوق الضرر إن كنتم تعلمون أي: ما يحق أن يخاف منه. أو من أحق بالأمن أو من أولي العلم؟ وجواب الشرط محذوف. أي: فأخبروني.
ثم بين تعالى من له الأمن، جوابا عما استفهم عنه الخليل عليه السلام بقوله:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #330  
قديم 20-12-2022, 04:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2388 الى صـ 2402
الحلقة (330)


القول في تأويل قوله تعالى:

[82] الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون

الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي: بشرك، كما يفعله الفريق المشركون [ ص: 2388 ] حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل، وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانكم وأحكامه، لكونها لأجل التقريب والشفاعة، كما قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . وهذا معنى اللبس - أفاده أبو السعود - وسيأتي زيادة لذلك.

أولئك لهم الأمن يوم القيامة: وهم مهتدون أي: إلى الحق، ومن عداهم في ضلال.

روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله قال: لما نزلت: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال أصحابه: وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: إن الشرك لظلم عظيم . - هذا لفظ رواية البخاري -.

ولفظ رواية الإمام أحمد عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله! فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: «إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ؟ إنما هو الشرك» .

أقول: هذه الرواية توضح رواية البخاري السابقة - أعني: قول ابن مسعود: فنزلت: إن الشرك .. إلخ - من جهة أن النزول أريد به تفسير الآية، لا سبب نزولها، وهو اصطلاح للصحابة والتابعين دقيق، ينبغي التنبه له. وقد أشرنا له في المقدمة. فجدد به عهدا.

ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعا: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: «بشرك» .

[ ص: 2389 ] قال: وروي عن أبي بكر وعمر وأبي بن كعب وحذيفة وابن عباس وابن عمر وعمرو بن شرحبيل وأبي عبد الرحمن السلمي ومجاهد وعكرمة والنخعي والضحاك وقتادة والسدي، وغير واحد نحو ذلك. نقله ابن كثير. وبالجملة، فلا يعلم مخالف من الصحابة والتابعين في تفسير (الظلم) هنا بالشرك، وقوفا مع الحديث الصحيح في ذلك، المبين للنظائر القرآنية الموضح بعضها لما أبهم في بعض. وتعرف تلك القاعدة من مثل هذا الحديث يكشف غمة أوهام كثيرة. ولو قيل: لا يلزم من قوله: إن الشرك لظلم عظيم أن غير الشرك لا يكون ظلما، يجاب: بأن التنوين في (بظلم) للتعظيم، فكأنه قيل: لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم. ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد: لم يلبسوا إيمانهم بشرك، أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده. كذا في "العناية".

قال الرازي: والدليل على أن هذا هو المراد، أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات، فوجب حمل الظلم ههنا على ذلك.

تنبيه:

حيث علم أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فسر الآية بما تقدم فليعض عليه بالنواجذ، وأما ما هذى به الزمخشري من قوله في تفسير الآية: أي: لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم، وأبى تفسير الظلم بالكفر، لفظ (اللبس) أي: لأن لبس الإيمان بالشرك أي: خلطه به، مما لا يتصور، لأنهما ضدان لا يجتمعان - على زعمه - فمدفوع بأنه يلابسه؛ لأنه إن أريد بالإيمان مطلق التصديق، سواء كان اللسان أو غيره، فظاهر أنه يجامع الشرك كالمنافق. وكذا إن أريد تصديق القلب، لجواز أن يصدق بوجود الصانع، دون وحدانيته، لما في قوله تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وهو ما أشير إليه قبل. [ ص: 2390 ] ولو أريد التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر، فلا يلزم من لبس الإيمان بالشرك الجمع بينهما، بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك، بل تغطيته بالكفر، وجعله مغلوبا مضمحلا، أو اتصافه بالإيمان، ثم الكفر، ثم الإيمان ثم الكفر مرارا، وبعد تسليم ما ذكر، فاختصاص الأمن بغير العصاة لا يوجب كون العصاة معذبين البتة، بل خائفين ذلك، متوقعين للاحتمال، ورجحان جانب الوقوع - كذا في "شرح الكشاف".

وفي "الانتصاف": إنما يروم الزمخشري بذلك تنزيله على معتقده، في وجوب وعيد العصاة، وأنهم لا حظ لهم في الأمن كالكفار. ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين: الإيمان والبراءة من المعاصي. ونحن نسلم ذلك، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة، هو الخوف اللاحق للكفار؛ لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت، وهم آمنون من الخلود. وأما الكفار فغير آمنين بوجه ما. انتهى.

وأما قول المعتزلة: حديث عبد الله المتقدم - إن صح - يكون خبر واحد، في مقابلة الدليل القطعي، ومثله لا يعمل به - فالجواب: بأنه صح بلا ريب، لتخريج الشيخين له.


وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل


وقولهم: في مقابلة الدليل القطعي، بهتان عظيم. ويا لله العجب من هؤلاء، قابلوا السنة الصحيحة بكناسة الرأي، ولم يستحيوا من الله تعالى ورسوله في هذه المخالفة، فأين تذهب [ ص: 2391 ] به عقولهم؟ إلى الحق أم إلى الباطل؟ ولكن كما قال ابن سهل:


فما أضيع البرهان عند المقلد


هذا، وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير ساره، إذ عرض له أعرابي فقال: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق! لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي، لأهتدي بهداك، وآخذ من قولك، وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض، فاعرض علي. فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل. فازدحمنا حوله، فدخل خف بكره في بيت جرذان، فتردى الأعرابي، فانكسرت عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق! والذي بعثني بالحق! لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي، ويأخذ من قولي، وما بلغني حتى ما له من طعام إلا من خضر الأرض. أسمعتم بالذي عمل قليلا وأجر كثيرا؟ هذا منهم! أسمعتم ب: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ؟ فإن هذا منهم. وفي لفظ قال: هذا عمل قليلا وأجر كثيرا» .

وروى نحوه الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله مطولا، وفيه بيان قوله: فاعرض علي، ولفظه: ما الإيمان؟ قال: «تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» قال: قد أقررت.
[ ص: 2392 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[83] وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم

قوله تعالى: وتلك أي: الدلائل المشار إليها في قوله: أتتخذ أصناما آلهة إلى هاهنا: حجتنا أي: لا يمكن نقضها: آتيناها إبراهيم أي: أرشدناه إليها، وعلمناه إياها، بلا واسطة معلم: على قومه متعلق ب: حجتنا إن جعل خبر: تلك ، وبمحذوف إن جعل بدله، أي: آتيناها حجة ودليلا على قومه الكثيرين، ليغلب وحده.

نرفع درجات من نشاء يعني: في العلم والحكمة، وقرئ بالتنوين إن ربك حكيم في رفعه وخفضه عليم بحال من يرفعه واستعداده له.
القول في تأويل قوله تعالى:

[84] ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين

[85] وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين

[86] وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين

ووهبنا له أي: لإبراهيم عوضا عن قومه، لما اعتزلهم وما يعبدون إسحاق ويعقوب أي: ولدا، وولد ولد، لتقر عينه ببقاء العقب: كلا هدينا أي: كلا منهما هديناه الهداية الكبرى، بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة، كما قال تعالى: فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا

[ ص: 2393 ] قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق، وذلك بعد أن طعن في السن، وأيس وامرأته سارة من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك: قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد فبشروهما فتعجبت، وبشروهما مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلا وعقبا، كما قال تعالى: وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وهذا أكمل في البشارة، وأعظم في النعمة. وقال: فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب أي: ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقر أعينكما به، كما قرت بوالده، وإن الفرح بولد الولد شديد، لبقاء النسل والعقب. ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه، وقعت البشارة به، وبولد اسمه يعقوب، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكانت هذه المجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم، وهاجر من بلادهم، ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين، من صلبه، على دينه، لتقر بهم عينه، كما قال تعالى: فلما اعتزلهم وما يعبدون الآية...

ونوحا هدينا من قبل أي: من قبله، هديناه كما هديناه. وعد هداه نعمة على إبراهيم، من حيث إنه أبوه، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد.

[ ص: 2394 ] قال ابن كثير: كل منهما له خصوصية عظيمة، أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض، إلا من آمن به، وهم الذين صحبوه في السفينة، جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذريته، وأما الخليل إبراهيم عليه السلام، فلم يبعث الله عز وجل بعده نبيا إلا من ذريته، كما قال تعالى: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب الآية... وقال تعالى: ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب وقال تعالى: أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا

وقوله تعالى: ومن ذريته الضمير لإبراهيم أو لنوح، على ما يأتي. داود عطف على: نوحا أي: وهدينا داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين .

وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين

وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين

اعلم أن المقصود من هذه الآيات، وما قبلها، وما يلحقها، تعديد أنواع نعم الله تعالى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، جزاء اعتزاله قومه وما يعبدون، وقيامه بنصرة التوحيد، ودحض الشرك. فذكر تعالى أولا رفع درجته، بإيتائه الحجة على قومه، وتخصيصه بها، ثم جعله عزيزا في الدنيا، حسبا ونسبا، أصلا وفرعا؛ لأنه تولد من نوح أول المرسلين [ ص: 2395 ] رسالة عامة، ووهبت له الذرية الطاهرة، أنبياء البشر. ولذا ذهب الأكثرون إلى أن الضمير في: ومن ذريته لإبراهيم؛ لأن مساق النظم لبيان شؤونه العظيمة، كأنه قيل: ولم نزل نرفع درجاته بعد ذلك إذ هدينا من ذريته داود... إلخ، فهو المقصود بالذكر في هذه الآيات. وذكر نوح عليه السلام؛ لأن كون إبراهيم من أولاده أحد موجبات رفعته كما تقدم. والغاية هي إلزام من ينتمي إليه من المشركين.

ولا يقال: إن لوطا ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه؛ لأنه يقال: إن العرب تجعل العم أبا، كما أخبر تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق مع أن إسماعيل عم يعقوب، ودخل في آبائه تغليبا.

وقال محيي السنة رحمه الله تعالى: ومن ذريته أي: ذرية نوح صلى الله عليه وسلم، ولم يرد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ذكر في جملتهم يونس صلى الله عليه وسلم، وكان من الأسباط، في زمن شعياء، أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل.

وقال: إن لوطا عليه السلام كان ابن أخي إبراهيم عليه السلام، آمن بإبراهيم، وشخص معه مهاجرا إلى الشام، فأرسله الله إلى أهل سدوم.

ومن قال: الضمير لإبراهيم صلى الله عليه وسلم، يقدر: ومن ذرية إبراهيم وداود وسليمان هدينا؛ لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر. وذكر نوح لتعظيم إبراهيم. ولذلك ختم بيونس ولوط، وجعلهما معطوفين على: نوحا هدينا من تعطف الجملة على الجملة. وصاحب (الكشف) أخرج (إلياس) صلى الله عليه وسلم. وليس كذلك. لما في "جامع الأصول" عن الكسائي، أنهما من ذريته. فبقي لوط خارجا، لما كان ابن أخيه آمن به، وهاجر معه، أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب. كما ذكره الطيبي.

[ ص: 2396 ] وبالجملة، فالآية المذكورة من المنن على إبراهيم على كلا الوجهين؛ لأن شرف الذرية، وشرف الأقارب شرف، لكنه على الأول أظهر، ويكون تطرية في مدح إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالعود إليه مرة بعد أخرى.

تنبيهات:

الأول: قال الحافظ ابن كثير: في ذكر عيسى عليه السلام، في ذرية إبراهيم أو نوح (على القول الآخر) دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل؛ لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم عليهما السلام، وقد روى ابن أبي حاتم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، تجده في كتاب الله وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده؟! قال: أليس تقرأ سورة الأنعام: ومن ذريته داود وسليمان حتى بلغ: ويحيى وعيسى قال: بلى! قال: أليس من ذرية إبراهيم، وليس له أب؟ قال: صدقت! فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم. فأما إذا أعطى الرجل بنيه، أو وقف عليهم، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه، وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر:


بنونا بنو أبنائنا. وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد


وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم، لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 2397 ] قال للحسن بن علي: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. فسماه (ابنا) فدل على دخوله في الأبناء. وقال آخرون: هذا تجوز: انتهى.

وفي "العناية": أورد على الاستدلال بتناول الذرية أولاد البنت من هذه الآية، بأن عيسى عليه السلام ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه، فلا يظهر قياس غيره عليه. والمسألة مختلف فيها، والقائل بها استدل بهذه الآية، وآية المباهلة، حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما بعدما نزل: ندع أبناءنا وأبناءكم . إن لم نقل إنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم. انتهى.

الثاني: إنما لم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحاق، بل أخر ذكره عنه؛ لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب، وأما إسماعيل فلم يخرج من صلبه من الأنبياء إلا خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم. ولا يقتضي المقام ذكره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أمر أن يحتج على العرب في نفي الشرك بأن إبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون إلى عبادة الله وحده، رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا، ومنها إيتاؤه أولادا أنبياء. فإذا كان المحتج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يذكر في هذا المعرض. ولهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق. أفاده الرازي.

الثالث: اعلم أنه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبيا من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب، لا بحسب الزمان، ولا بحسب الفضل؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب. ولكن هنا لطيفة في هذا الترتيب، وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنوع من الكرامة والفضل، فذكر أولا نوحا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول [ ص: 2398 ] الأنبياء، وإليهم ترجع أنسابهم جميعا. ثم من المراتب المعتبرة، بعد النبوة، الملك والقدرة والسلطان. وقد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظا وافرا. ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد، وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام. ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع ببينهما، وهو يوسف عليه السلام، فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة، ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليهم السلام كثرة المعجزات، وقوة البراهين، وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر. ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا، والإعراض عنها، وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم السلام، ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين، ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء، من لم يبق له أتباع ولا شريعة، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط. فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه، كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه - أفاده الخازن وأصله للرازي -.
[ ص: 2399 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[87] ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم

ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم عطف على: كلا أو: ونوحا أي: كلا منهم فضلنا، وفضلنا بعض آبائهم، أو هدينا من آبائهم ومن معهم للدين الخالص جماعات كثيرة، فالمفعول محذوف واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم أي: في الاعتقادات والأخلاق والأعمال، فجعلت لهم هذه الفضائل أيضا، ولحقت إبراهيم، فازداد ارتفاع درجاته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[88] ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون

ذلك هدى الله إشارة إلى ما دانوا به يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا أي: هؤلاء مع عظمتهم: لحبط عنهم ما كانوا يعملون من الأعمال المرضية. فكيف بمن عداهم؟

قال ابن كثير: فيه تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كقوله تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع كقوله: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين وكقوله تعالى: لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين

[ ص: 2400 ] وكقوله: لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار
القول في تأويل قوله تعالى:

[89] أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين

أولئك إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر، والمعطوفين عليهم، باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها الذين آتيناهم الكتاب أي: جنس الكتاب المتحقق في ضمن أي فرد كان من أفراد الكتب السماوية. والمراد ب (إيتائه)؟ التفهيم التام بما فيه من الحقائق. والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق، أعم من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء، أو بالإيراث نقاء. فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين . أفاده أبو السعود.

والحكم أي: الحكمة، أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق والصواب والنبوة قال البيضاوي وأبو السعود: أي: الرسالة. قال الخفاجي: النبوة وإن كانت أعم، إلا أن المراد بها ما يشتمل الرسالة؛ لأن المذكورين رسل. انتهى.

الرابع: استدل بقوله تعالى: وكلا فضلنا على العالمين من يرى أن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى، فيدخل فيه الملك.

الخامس: نكتة ذكر "الهداية" في قوله تعالى: كلا هدينا هو تعديد النعم على إبراهيم صلى الله عليه وسلم بشرف الأصول والفروع - كما أسلفنا - والولد لا يعد نعمة ما لم يكن مهديا.

السادس: قال السيوطي في "الإكليل": استدل بقوله تعالى: كلا هدينا ونوحا هدينا من أنكر إفادة التقديم الحصر.
فإن يكفر بها أي: بهذه الثلاثة هؤلاء يعني: قريشا، فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن، كافرون بما يصدقه جميعا فقد وكلنا بها أي: وفقنا للإيمان بها قوما ليسوا بها بكافرين وهم الأنبياء عليهم السلام، المذكورون وأتباعهم. أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الأظهر - في مقابلة [ ص: 2401 ] كفار قريش. أي: فإن في إيمانهم غنية عن إيمان الكفرة بها. وفي التكنية عن توفيقهم للإيمان بها، بالتوكيل الذي أصله الحفظ للشيء، ومراعاته - إيذان بفخامتها وعلوها، وأنه مما ينبغي أن يقدر قدرها قياما بحق الوكالة، وعهد الاستحفاظ.

قال الرازي: دلت هذه الآية على أنه تعالى سينصر نبيه، ويقوي دينه، ويجعله مستعليا على كل من عاداه، قاهرا لكل من نازعه. وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع. فكان جاريا مجرى الإخبار عن الغيب، فيكون معجزا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[90] أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين

أولئك إشارة إلى الأنبياء المذكورين: الذين هدى الله أي: إلى الصراط المستقيم: فبهداهم اقتده أي: بطريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده، والأخلاق الحميدة، والأفعال المرضية، والصفات الرفيعة، اعمل.

تنبيهات:

الأول: استدل بهذه الآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد ناسخ.

الثاني: استدل بها ابن عباس رضي الله عنه على استحباب السجدة في (ص)؛ لأن داود عليه السلام سجدها، رواه البخاري وغيره - ولفظ البخاري: عن العوام، قال سألت مجاهدا عن سجدة (ص)، فقال: سألت ابن عباس: من أين سجدت؟ فقال: أو ما تقرأ: ومن ذريته داود وسليمان أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فكان داود [ ص: 2402 ] ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثالث - قال الرازي: احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وتقريره: أنا بينا أن خصال الكمال، وصفة الشرف، كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء، ويوسف كان مستجمعا لهاتين الحالتين، وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة، والمعجزات الظاهرة، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كانوا أصحاب الزهد، وإسماعيل كان صاحب الصدق، ويونس كان صاحب التضرع، فثبت أنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء؛ لأن الغالب عليه خصلة معينة من خصال المدح والشرف. ثم إنه تعالى لما ذكر الكل، أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بهم بأسرهم، فكأنه أمر بأن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، وهو معصوم عن مخالفة ما أمر به، فثبت أنه اجتمع فيه جميع ما تفرق فيهم من الكمال، وثبت أنه أفضلهم. وهو استنباط حسن.

الرابع: "اقتده" يقرأ بسكون الهاء وإثباتها في الوقف دون الوصل، وهي على هذا هاء السكت. ومنهم من يثبتها في الوصل أيضا لشبهها بهاء الإضمار. ومنهم من يكسرها وفيه وجهان:

أحدهما هي هاء السكت أيضا، شبهت بهاء الضمير، وليس بشيء.

الثاني هي هاء الضمير والمصدر؛ أي: اقتد الاقتداء. ومثله:


هذا سراقة للقرآن يدرسه والمرء عند الرشا، إن يلقها ذيب




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 401.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 395.49 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.46%)]