«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 37 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وصفات طبيعية لتفتيح منطقة الأنف وتوحيد لون البشرة.. هتحسى بفرق كبير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 176 )           »          7 قطع لتزيين الحمام بأقل تكاليف.. أبرزها الشموع العطرية والنباتات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 124 )           »          طريقة عمل الكريب في البيت بنصف كوب دقيق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 116 )           »          6 نصائح لاختيار الستائر المثالية للصيف.. تمنح الخصوصية وتساعد في التبريد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 98 )           »          مستحضرات العناية بالبشرة مش كفاية.. 4 أسرار لوجه نضر ومشرق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 103 )           »          عصائر طبيعية تعتبر كبسولة النجاح لطلاب الثانوية العامة 2024 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 126 )           »          طريقة عمل البيض باللحم المفرومة.. طبق شهي بأقل المكونات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 122 )           »          4 أشكال لغرف أطفال تناسب جميع الأعمار هتساعدك على الاختيار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 88 )           »          زيت جوز الهند والعسل.. 3 وصفات طبيعية لشفاه نضرة ووردية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 92 )           »          طريقة عمل الدجاج بصلصة الليمون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #361  
قديم 21-04-2024, 02:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ... ﴾


قال الله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [البقرة: 197- 203].


قوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.

قوله: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾؛ أي: الحج وقته أشهر معلومات، أو وقت الحج أشهر معلومات، أو الحج ذو أشهر معلومات.

ومعنى ﴿ مَعْلُومَاتٌ ﴾ أي: معروفات مشهورات، وهي ثلاثة أشهر: شوال وذو القعدة وذو الحجة؛ لأن «أشهر» جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وأيضًا فإن أعمال الحج لا تنتهي إلا في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، وما بعد ذلك من الشهر وقت لأعمال الحج التي لا يفوت وقتها كالطواف والسعي والحلق، ونحو ذلك، لكن لا يجوز تأخيرها عن ذي الحجة إلا بعذر.

وقال كثير من السلف ومن بعدهم: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قالوا: لأن الشهرين وبعض الثالث تسمى «أشهرًا»، لاسيما إذا كانت بالأهلة. يقال: أمضى ثلاثة أشهر، وإن كان لم يمض سوى شهرين وبعض الثالث، بل إن أقل الجمع يطلق على اثنين، كما قال تعالى: ﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 78]، يعني: داود وسليمان- عليهما السلام- وقال تعالى: ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [التحريم: 4]، فجمع القلوب مع أن الخطاب لاثنتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

كما استدلوا بقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ ﴾ [البقرة: 197] قالوا: وفرض الحج، وهو الإحرام به لا يكون إلا في شوال وذي القعدة، وما قبل فجر يوم العاشر من ذي الحجة.

ولا خلاف بين أهل العلم أن الإحرام بالحج لا يصح بعد فجر يوم النحر، كما لا خلاف بينهم أن أعمال الحج لا تنتهي في اليوم العاشر، بل لا تنتهي إلا بعده، كما أن بقية الشهر كله محل لأعمال الحج، التي لا يفوت وقتها كالطواف والسعي والحلق، ونحو ذلك.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج، إلا في شهور الحج، من أجل قول الله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾»[1].

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من السنة، أو من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج»[2].

وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله، يسأل: أيهل بالحج قبل أشهر الحج؟ فقال: لا»[3].

﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ الفاء: عاطفة، و«من» شرطية، و«فرض» فعل الشرط، وجوابه جملة: ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ ﴾، واقترن بالفاء لأنه جملة اسمية.

والضمير «فيهن» يعود إلى أشهر الحج، والمراد بعضها، أي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة؛ لأن ما بعد طلوع الفجر يوم النحر ليس محلًا للإحرام، لانتهاء وقت الوقوف بعرفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل الفجر فقد أدرك»[4].

فمن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج، كما جاء في حديث عروة بن مُضَرِّس- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد صلاتنا هذه- يعني صلاة الفجر بجمع- وقد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه، وقضى تفثه»[5].

والفرض: القطع والإيجاب والإلزام، وفرض الحج يكون بنية الدخول فيه، وكذلك العمرة فرضها يكون بنية الدخول فيها، والنية محلها القلب، ولا يجوز التلفظ بها عند أي عبادة.

ومعنى ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ أي: فمن أحرم فيهن بالحج؛ لأن الإحرام والشروع به يصيره فرضًا، حتى ولو كان حج نفل.

وقوله: ﴿ فِيهِنَّ﴾ أي: في أشهر الحج، وهي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة.

﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ﴾ قرأ أبو جعفر وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: «فلا رفثٌ ولا فسوقٌ» بالرفع والتنوين، وكذلك قرأ أبو جعفر: «ولا جدالٌ»، وقرأ الباقون الجميع: بالفتح بلا تنوين.

والفاء في قوله: ﴿ فَلَا رَفَثَ ﴾ رابطة لجواب الشرط، و«لا» نافية، والنفي- هنا- بمعنى النهي، أي: فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل في الحج.

و«الرفث»: الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، كما قال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187]؛ أي: الجماع ومقدماته.

﴿ وَلَا فُسُوقَ ﴾: الفسوق: الخروج عن طاعة الله- عز وجل- بترك المأمورات، وارتكاب المحظورات، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ [الكهف: 50]، وقال تعالى: ﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾ [الحجرات: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ﴾ [المائدة: 3]، وقال تعالى: ﴿ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ﴾ [الحجرات: 11].

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»[6].

ووقوع الفسوق في الحج في الحرم أشد وأعظم، ولاسيما الإخلال بواجبات الحج، وارتكاب محظوراته؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].

فالواجب على الحاج اجتناب جميع المعاصي، قال صلى الله عليه وسلم: «من حج ولم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»[7].

وقال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»[8].

﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ الجدال: الخصام والمنازعة والمماراة والمغاضبة، ونحو ذلك، أي: ولا جدال ولا خصام في الحج؛ لا في أحكامه ومسائله، ولا في غير ذلك من المخاصمات والمنازعات في أمور الدين والدنيا وقت الحج؛ لأن ذلك يؤدي إلى المشاجرة والعداوة، كما يحصل من كثير من الحجاج في مخيماتهم، حول بعض مسائل الحج، أو بسبب المشاحنة على أماكن النزول، وعلى الخدمات كالماء ونحوه، وعند رمي الجمار، والطواف والسعي، وغير ذلك.

وذلك مناف لما يجب أن يكون عليه الحاج، من الذل والخضوع والانكسار لله- عز وجل- والتقرب إليه.

وسبحان العليم الخبير، عالم الغيب والشهادة، وعالم السر وأخفى، فما نهى الله- عز وجل- عنه من الجدال هو من أكثر ما يشغل الناس في حجهم.

أما الجدال بالتي هي أحسن لبيان الحق، ورد الباطل فهو واجب على الدوام، في كل زمان ومكان، وفي كل حال، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].

﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾، لما نهاهم عن الرفث والفسوق والجدال في الحج، وما يؤدي إلى الشر، رغبهم في فعل الخير، بامتثال الأوامر.
قوله ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ﴾ الواو: عاطفة، و«ما» شرطية، و«تفعلوا» فعل الشرط، وجوابه ﴿ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾.

و«من» في قوله: ﴿ مِنْ خَيْرٍ ﴾ بيانية، و«خير» نكرة في سياق الشرط، فتعم كل خير قليلًا كان أو كثيرًا، صغيرًا كان أو كبيرًا، واجبًا كان أو مندوبًا، ومن ذلك فعل ما أمر الله به من أحكام الحج.

﴿ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾؛ أي: يحيط به- عز وجل- علمًا، ويحصيه عددًا ويجازيكم عليه.

وفي هذا ترغيب وحث على الإكثار من أفعال الخير، من أنواع القربات، من صلاة وطواف وصيام، وصدقة وإحسان فعلي وقولي، وأنه لن يضيع عند الله عز وجل.

كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112].

﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾:
ســبب النــزول:
عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة، سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾».

وفي رواية عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: «كان ناس يحجون بغير زاد، فأنزل الله: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾»[9].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كانوا إذا أحرموا- ومعهم أزودتهم- رموا بها، واستأنفوا زادًا آخر، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾، فنُهوا عن ذلك، وأمروا بأن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق»[10].

قوله: ﴿ وَتَزَوَّدُوا ﴾ الزاد: ما يتزود به المسافر في سفره، أي: تزودوا في سفركم إلى الحج بما تحتاجونه من مال ومأكل ومشرب وأثاث وغير ذلك؛ لأن الواجب على الإنسان أن يستغني بما آتاه الله، عما في أيدي الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ويحرم عليه أن يكون عالة وكلًا على الآخرين.

بل إنه يندب للحاج إكثار الزاد والكرم، والمنافسة في إطعام الرفقة في السفر وخدمتهم، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: «إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر»[11].

﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ هذا كما قال عز وجل لما ذكر اللباس الحسي: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ ﴾ [الأعراف: 26].

والمعنى: فإن خير الزاد، وأنفعه للعباد، في الحال والمآل والمعاد، وأبلغه وأوصله إلى المقصود: تقوى الله- عز وجل- بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، فهي خير الزادين في الدنيا والآخرة، وهي الزاد الذي لا ينقطع نفعه، للدار التي لا تزول، ولا تحول، في جنات الخلود. قال الشاعر[12]:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
وشاهدت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله
وأنك لم ترصد لما كان أرصدا


﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾: رغب عز وجل بالتقوى، ببيان أنها خير الزاد، ثم أمر بها، لإدراك هذا الخير.

﴿ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أي: يا أصحاب العقول والأفهام النيرة، التي تهدي أصحابها وترشدهم إلى ما ينفعهم، وتمنعهم عما يضرهم، والتي هي مناط المدح، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17، 18].

قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾.

ســبب النــزول:
عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ وذو المجاز، فلما جاء الإسلام تأثموا من ذلك، أو كأنهم كرهوا ذلك، حتى أنزل الله: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾»[13].

وعن أبي أمية التيمي، قال: قلت لابن عمر: «إنا قوم نُكْرِي، فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المُعَرَّف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قال: قلنا: بلى، فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم حجاج»[14].

قوله: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ﴾ أي: ليس عليكم حرج، ولا إثم.

﴿ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ «أن», والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف, والتقدير: في أن تبتغوا, أي: أن تطلبوا زيادة الرزق من ربكم بالتجارة في موسم الحج، بالبيع والشراء والكرى، وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 10]، وقال تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [المزمل: 20].

فذلك جائز، ما لم يشغل عن فعل الواجبات، وكان كسبًا حلالًا، وما لم يكن هو المقصود من الخروج للحج.

فإن شغل عن الواجبات، أو كان كسبًا حرامًا فلا يجوز، وإن كان هو المقصود بالسفر للحج، فليس لصاحبه سواه؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئٍ ما نوى[15].

﴿ ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾ الفاء: عاطفة، و«إذا ظرفية شرطية، غير عاملة و«أفضتم» فعل الشرط، والإفاضة: الاندفاع، يقال: أفاض الماء، أي: اندفع، وأفاض في الكلام، أي: استمر فيه وأطال. والإفاضة من عرفات: الدفع والانصراف منها إلى المزدلفة.

و«عرفات» علم على مكان وقوف الحجاج يوم التاسع من ذي الحجة، وهو معروف.

قيل: سميت هذه البقعة «عرفات» لارتفاعها الذي عرفت به عما حولها، ومنه تسمية «الأعراف» كما في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ ﴾ [الأعراف: 46].

وقيل: لأن الناس يعترفون فيها بذنوبهم، ويسألون الله مغفرتها.

وقيل: لأن آدم لما أهبط هو وزوجته «حواء» تعارفا في هذا المكان.

وقيل: لأن الله بعث جبريل- عليه السلام- إلى إبراهيم، فحج به، حتى إذا أتى عرفة قال: عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك، فلذلك سميت عرفة[16].

وقيل غير ذلك.

وهي خارج الحرم، وبقية المشاعر داخل الحرم كالمزدلفة ومنى، والحكمة في ذلك- والله أعلم- ليجمع الحاج بين الحل والحرم.

والوقوف بـ«عرفات» أهم وأعظم أعمال الحج وأركانه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»[17].

وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة بعد الزوال[18]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرِّس رضي الله عنه: «من شهد صلاتنا هذه- يعني صلاة الفجر في المزدلفة- وقد وقف بعرفة قبل ذلك ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه، وقضى تفثه»[19].

والإفاضة من عرفات والدفع والانصراف منها إنما يكون بعد غروب الشمس، ولا يجوز الدفع قبل غروبها، كما كان يفعله أهل الجاهلية، لما ثبت في حديث جابر رضي الله عنه الطويل في صفة حجته صلى الله عليه وسلم، قال جابر: «فلم يزل واقفًا- يعني بعرفة، حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلًا، حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شنق[20] للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة السكينة، كلما أتى جبلًا من الجبال أرخى لها قليلًا، حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء، بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر، حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس»[21].

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه سئل: كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين الدفع؟ قال: «كان يسير العنق، فإذا وجد فرجة نَصّ»[22].

والعنق هو انبساط السير، والنص فوقه[23].

وعن المعرور بن سويد قال: رأيت عمر رضي الله عنه حين دفع من عرفة، كأني أنظر إليه رجلًا أصلع على بعير له، يوضع[24]، وهو يقول: «إنا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع»[25].

قوله: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ جواب الشرط، والفاء واقعة في جواب الشرط؛ لأنه جملة طلبية.

﴿ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ المشعر: على وزن «مَفْعَل» اسم مكان، وهو مكان أداء الشعيرة من شعائر الله- عز وجل- والمراد به هنا المزدلفة كلها، أي: فاذكروا الله بألسنتكم وقلوبكم وجوارحكم، بصلاة المغرب والعشاء والفجر، ودعائه- عز وجل- وتكبيره وتهليله وتوحيده- كما جاء في حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم[26].

﴿ الْحَرَامِ ﴾ أي: ذو الحرمة؛ لأنه داخل الحرم، فعرفة مشعر حلال؛ لأنها خارج الحرم، والمزدلفة المشعر الحرام لأنها داخل الحرم، وهي كلها موقف.

عن علي رضي الله عنه قال: «لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالمزدلفة، غدا فوقف على «قُزَحَ»، وأردف الفضل، ثم قال: «هذا الموقف، وكل مزدلفة موقف»[27].

وعن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عرفات موقف، وارفعوا عن بطن عرنة، وكل مزدلفة موقف، وارفعوا عن محسر، وكل فجاج مكة منحر، وكل أيام التشريق ذبح»[28].

﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ أمر الله -عز وجل- بذكره عند المشعر الحرام، ثم أكد الأمر بذلك مقرونًا بتنبيههم بما أنعم به عليهم من هدايتهم، وتوفيقهم للطريق المستقيم، ولمعرفة مشاعر الحج ومناسكه وأحكامه خاصة، والامتنان عليهم بذلك وهذا مما يوجب ذكره- عز وجل- وشكره.

فقوله: ﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ تأكيد وتعليل للأمر في قوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾.

والكاف في قوله: ﴿ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾: للتعليل، و«ما» مصدرية، والتقدير: واذكروه لهدايته لكم.

وهداية الله تنقسم إلى قسمين: هداية الدلالة والبيان والإرشاد للطريق المستقيم، وهداية التوفيق منه- عز وجل- لسلوكه.

أي: واذكروه - عز وجل- بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم، بأنواع الذكر كلها، في مشاعر الحج وغيرها، شكرًا له على هدايته لكم بإرشادكم وتوفيقكم للطريق المستقيم، ولمعرفة مشاعر الحج ومناسكه وأحكامه، وغير ذلك من أمور دينكم.

ويحتمل أن تكون الكاف في قوله تعالى: ﴿ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ للتشبيه، أي: واذكروه على الصفة التي هداكم وأرشدكم إليها، أي: وفق شرعه عز وجل.

﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ هذا كما قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: «ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي»[29].

الواو حالية، أو استئنافية و«إن» مخففة من الثقيلة، تفيد التوكيد. أي: وإنكم كنتم من قبل هداه لكم، أو قد كنتم من قبل هداه لكم بما أنزل عليكم من القرآن وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم.

﴿ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ اللام للتوكيد، و«الضالين»: جمع ضال، أي: لمن التائهين البعيدين عن طريق الحق، وعن معرفة مشاعر الحج، ومناسكه وأحكامه، فاقدي الرشاد، وفاقدي الرشد، فأرشدكم ورشّدكم ووفقكم.

وهذا يوجب على المؤمن تذكر نعمة الله عليه بالهداية، فيشكره عليها بملازمة طاعته، وذكره وشكره، ويسأل الله الثبات على ذلك حتى الممات.

قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

ســبب النــزول:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كانت قريش ومن يدينون دينها، يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾»[30].

قوله: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ هذا تأكيد لقوله- تعالى- قبل هذا: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾ أي: ثم ادفعوا ﴿ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ أي: من المكان الذي وقف فيه الناس، ودفعوا منه، وهو «عرفات».

وقد كانت قريش في الجاهلية- كما جاء في سبب النزول- لا يقفون مع الناس في عرفات» بدعوى أنهم أهل الحرم، ويقولون: لا نقف خارج الحرم. وإنما يقفون بمزدلفة؛ ولهذا جاء التوكيد بقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾.

ويحتمل أن المراد بالإفاضة في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ الدفع من المشعر الحرام، أي: من مزدلفة إلى منى لرمي جمرة العقبة وذبح الهدي والطواف والسعي، والمبيت بمنى ليالي أيام التشريق، ورمي الجمار وإكمال بقية المناسك، وقد ثبت عن ابن عباس ما يدل على هذا[31].

ويؤيد هذا الأمر بعده بالاستغفار والإكثار من الذكر بعد قضاء المناسك.

﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ﴾ الاستغفار طلب مغفرة الذنوب من الله- عز وجل- وهو ختام الأعمال والأعمار؛ لما فيه من الاعتراف بالتقصير، والبعد عن المن بالعمل والإدلال به على الله، ولما فيه من جبر للنقص، وسد للخلل الذي يقع في العبادة.

شرع بعد انتهاء أعمال الحج، كما شرع بعد الفراغ من الصلاة أن يقول: «أستغفر الله» ثلاث مرات[32].

وشرع في نهاية الأعمار، كما قال الله- عز وجل- لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3].

ومعنى الآية: اطلبوا من الله - عز وجل - مغفرة الذنوب.

عن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها في ليلة فمات من ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة»[33].

وعن عبدالله بن عمرو: أن أبابكر قال: يا رسول الله، علمني، دعاءً أدعو به في صلاتي؟ فقال: قل: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»[34].

﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾؛ أي: ذو مغفرة واسعة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [النجم: 32]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ﴾ [فصلت: 43]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ﴾ [الرعد: 6].

والمغفرة: ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن عقوبته.


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #362  
قديم 21-04-2024, 02:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله


﴿ رَحِيمٌ ﴾ أي: ذو رحمة واسعة، وسعت كل شيء، وعمت كل حي، كما قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، وقال تعالى: ﴿ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾ [الأنعام: 147]، وقال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الأنعام: 133]، وقال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الكهف: 58].

ورحمته- عز وجل- تنقسم إلى قسمين: رحمة ذاتية ثابتة له- عز وجل- ورحمة فعلية يوصلها من شاء من خلقه، رحمة عامة لجميع خلقه، ورحمة خاصة بالمؤمنين.

وهذه الجملة ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ تعليل للأمر بالاستغفار، أي: استغفروا الله؛ لأنه أهل أن يُستغفر، وأهل أن يَغفر ويَرحم، كما قال تعالى في سورة المزمل: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 135]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [المدثر: 56].

قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾.

ذكر الله- عز وجل- مناسك الحج وأحكامه، ثم أتبع ذلك بالأمر بذكره بعد قضاء المناسك، كما أمر به بعد قضاء الصلاة، وبعد الجهاد.

ســبب النــزول:
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان أهل الجاهلية يقفون في المواسم، فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله- تعالى- على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾؛ يعني: ذكر آبائهم في الجاهلية»[35].

قوله: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ ﴾؛ أي: إذا فرغتم وانتهيتم من أداء مناسك الحج والعمرة وتحللتم منهما. والمنسك والنسك: العبادة، وكثر استعماله في الحج والعمرة، والذبح، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162] أي: وذبحي.

﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ الفاء رابطة لجواب الشرط، أي: فأتْبِعوا ذلك بذكر الله- عز وجل- بألسنتكم وقلوبكم وجوارحكم، بأنواع الذكر، من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وقراءة القرآن، والصلاة، وغير ذلك، شكرًا لله- عز وجل- على أن مكنكم من أداء المناسك، وإعلانًا لدوام عبوديتكم لله- عز وجل- ورغبتكم في الزيادة من الخير، وتفاديًا للغفلة، أو الاغترار بما عملتم.

﴿ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ ﴾ الكاف للتشبيه، أي: مثل ذكركم آباءكم، أو كما تذكرون آباءكم وأجدادكم، حيث كانوا في الجاهلية إذا انتهوا من المناسك، وفي غير ذلك من المواسم يذكرون آباءهم وأجدادهم، ويفتخرون بفعالهم ومآثرهم.

﴿ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ «أو» بمعنى «بل» أي: بل أشد ذكرا، من حيث كثرة ذكره- عز وجل- باللسان، ومن حيث الإخلاص له بالقلب وحضوره ومواطأته للسان، ومن حيث استعمال الجوارح في ذلك.

فأمر الله- عز وجل- العباد بالإكثار من ذكره، وأكد ذلك؛ لأن الذكر غذاء الأرواح، وهو أهم من غذاء الأبدان، فيه الطمأنينة والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.

قال ابن القيم[36]: «ففيه الأمر بالذكر بالكثرة والشدة لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله- عز وجل- كانت عليه، لا له، وكان خسرانه فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله. وقال بعض العارفين: لو أقبل عبد على الله- تعالى- كذا وكذا سنة، ثم أعرض عنه لحظة لكان ما فاته أعظم مما حصله»

قوله تعالى: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.

ذكر الله- عز وجل- مناسك الحج وأمر بذكره بعد قضائها، ثم ذكر انقسام الناس إلى فريقين في سؤالهم له- عز وجل:
فريق همهم الدنيا لا يسألون غيرها، وما لهم في الآخرة من نصيب، ذكرهم- عز وجل- في هذه الآية، وفريق يسألون الله من خيري الدنيا والآخرة، والوقاية من النار، وهم أهل النصيب الأوفر في الدنيا والآخرة، وذكرهم بقوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.

ســبب النــزول:
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن. لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا، فأنزل الله فيهم: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾، وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين، فيقولون: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾، فأنزل الله فيهم: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾»[37].

قوله: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ﴾ الفاء: استئنافية، و«من» تبعيضية أي: فبعض الناس ﴿ مَنْ يَقُولُ ﴾ «من» موصولة، بمعنى الذي، أي: الذي يقول، بلسان حاله ومقاله ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ﴾ أي: يا ربنا أعطنا نصيبًا في الحياة الدنيا وزدنا فيها، فهؤلاء قد ملكت الدنيا أحاسيسهم ومشاعرهم، وأعمت قلوبهم، فلا يفكرون إلا فيها، ولا يشبعون منها غايتهم تحقيق شهواتهم البهيمية، فما أتعس حظهم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش»[38].

و«الدنيا» هي هذه الدار التي نحن فيها، سميت دنيا؛ لأنها قبل الآخرة من حيث الزمن، ولأنها دنيئة حقيرة، لا قيمة لها بالنسبة للآخرة.

﴿ وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ الواو: حالية، و«ما» نافية، ﴿ لَهُ﴾ يعني- هذا القسم من الناس.

﴿ فِي الْآخِرَةِ ﴾ أي: في الدار الآخرة التي هي الدار الحقيقية، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]، وإنما سميت الآخرة لتأخرها في الزمن بعد الدنيا.

﴿ من خلاق ﴾ «من» لتوكيد العموم، و﴿ من خلاق ﴾ نكرة في سياق النفي تفيد العموم. والخلاق: النصيب.

أي: وما لهذا القسم من الناس في الآخرة التي هي الدار الحقيقية، لا في سؤالها، ولا في ثوابها أي نصيب، فلا يسألون الله فيها خيرًا، بل هم معرضون عنها غاية الإعراض، وليس لهم فيها أيّ نصيب من الخير، بل ليس لهم فيها إلا النار وبئس القرار.

قوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.

قوله: ﴿ وَمِنْهُمْ﴾ أي: ومن الناس قسم موفقون يدعون ربهم، ويسألونه من خيري الدارين، في أمور دينهم ودنياهم، وهم المؤمنون، فيقولون: ﴿ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾، والحسنة في الدنيا تشمل كل خير الدنيا من التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح، اللذان هما رأس مال الإنسان في هذه الحياة، ومن المتاع الحسن في هذه الحياة، من صحة في البدن، وفسحة في السكن، وسعة في الرزق، وزوجة صالحة، وأولاد تقر بهم العين، وغير ذلك.

والحسنة في الآخرة الجنة وما فيها من ألوان وأنواع النعيم، وأعلاها النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، فالحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم[39].

﴿ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ أي: اجعل لنا وقاية من عذاب النار، واكفنا إياه، بحفظنا من الذنوب الموجبة له، ومغفرتها، وزحزحنا عن النار، وأدخلنا الجنة، كما قال عز وجل: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [آل عمران: 185].

وهذا الدعاء من أعظم وأجمع الأدعية وأكملها، وأولاها بالإيثار، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يكثر الدعاء به ويحث عليه، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»[40].

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلًا من المسلمين، قد خَفَتَ[41]، فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، لا تطيقه- أو لا تستطيعه، أفلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار» قال: فدعا الله له، فشفاه»[42].

وعن عبدالله بن السائب رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والركن الأسود: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»[43].

فمن أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار، فقد أوتي خيري الدنيا والآخرة، وكفي شرهما.

عن عبدالسلام بن شداد، قال: كنت عند أنس بن مالك، فقال له ثابت: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم، فقال: «اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»، وتحدثوا ساعة، حتى إذا أرادوا القيام، قال: يا أبا حمزة، إن إخوانك يريدون القيام فادع لهم، فقال: «تريدون أن أشقق لكم الأمور، إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله»[44].

ويا ليت من يغلون في الدعاء، بل ويبتدعون فيه ينتبهون لهذا، ففي أدعية الكتاب والسنة الجامعة المانعة ما فيه غنية عما سواها، لمن صدق مع الله، وتحرى القبول والسنة، ونصح لمن خلفه من المصلين، وراقب الله فيهم، وخاف من مغبة مسؤوليته أمام الله -تعالى- عنهم.

قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾.

قوله: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ الإشارة لأقرب مذكور، وهم الذين يقولون: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.

﴿ ﴾ أي: لهم حظ ﴿ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ «ما» موصولة، أو مصدرية، أي: من الذي كسبوه، أو من كسبهم، كما قال تعالى: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ﴾ [النساء: 85].

ويحتمل كون الإشارة ﴿ أُولَئِكَ﴾ لهؤلاء ولمن قبلهم وهم الذين يقولون: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ﴾ وما لهم في الآخرة من خلاق، فلكل من هؤلاء وهؤلاء نصيب من كسبهم وجزاء أعمالهم، كما قال تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾ [الأنعام: 132]، ويؤيد هذا قوله: ﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾؛ لأنه يشمل القسمين.

﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾؛ أي: قريب الحساب، قال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 1]، وقال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: 1].

وأجله عز وجل آت، وكل آت قريب، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا ﴾ [الكهف: 21].

وأيضًا فإن عمر الإنسان قصير، والموت قريب، قال تعالى: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾ [النساء: 77].

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام النبي صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاءً. فقال صلى الله عليه وسلم: «مالي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها»[45].

كما أنه- عز وجل- يحاسب الخلائق على وجه السرعة؛ لأنه أعلم بهم وبأعمالهم، فلا يحتاج إلى طول وقت لمحاسبتهم، قال تعالى: ﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62].

ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه عز وجل يحاسب الخلائق في نصف يوم، وفي نصفه الآخر يكون أهل الجنة في مقيلهم فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ [الفرقان: 24].

كما أن من سرعة حسابه- عز وجل- أن يجد الإنسان في حياته شيئًا من آثار وجزاء أعماله.

قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾.

قوله: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ ذكر الله -عز وجل- مناسك الحج، وأمر بذكره بعد قضائها، ثم أكد ذلك بالأمر بذكره في هذه الأيام المعدودات، والتي تلي الحج، وفيها بعض أعماله، وهي أيام التشريق الثلاثة.

قوله: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ أي: بألسنتكم وقلوبكم وجوارحكم، بتكبيره وتهليله وتحميده، بالتكبير المطلق في هذه الأيام في جميع الأوقات، والتكبير المقيد من صلاة فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، ونحر الهدي والأضاحي، وذكر اسم الله عليها، والمبيت بمنى والطواف والسعي والصلاة، وذكر الله عند رمي الجمار، وغير ذلك.

عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»[46].

﴿ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ وهي أيام التشريق الثلاثة؛ الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر؛ لمزيتها وفضلها. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الأيام المعدودات: أيام التشريق»[47].

فهذه الأيام الثلاثة لها مزية وفضل وشرف.

عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله»[48].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيام التشريق أيام طعم وذكر لله، وقال مرة: أيام أكل وشرب»[49].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق، قال: هي أيام أكل وشرب وذكر لله»[50].

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم عرفة ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهن أيام أكل وشرب»[51].

﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ بأن خرج من منى بعد رمي جمار اليوم الثاني، وقبل غروب الشمس.

﴿ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ أي: فلا حرج عليه، ولا يأثم بذلك لجواز الخروج بعد ذلك.

﴿ وَمَنْ تَأَخَّرَ ﴾ بأن بات ليلة الثالث في منى، ورمى الجمار اليوم الثالث بعد الزوال ﴿ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، فكل ذلك جائز، التعجل في يومين، والتأخر، وهذا من التخفيف والتيسير على الأمة، لكن لمن تأخر زيادة أجر عمله في اليوم الثالث.

﴿ لمن اتقى ﴾ أي: للذي اتقى الله في أعمال الحج ومناسكه وغيرها، فعلًا لما أمر الله به، وانتهاء عما نهى الله عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»[52]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»(2).

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه عامة، وفي جميع الأوقات، لاسيما في هذه الأيام المعدودات.

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي: واعلموا أنكم إليه تُرجعون، ولديه تجمعون، وعليه تعرضون يوم القيامة، وتحاسبون.

كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 62]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 25، 26].

وأَمر الله - عز وجل - بالعلم بأن إليه حشرهم؛ لأن العلم بذلك، والإيمان به واجب، وهو أعظم واعظ يحمل على تقوى الله عز وجل.

[1] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 345)، وأخرجه الشافعي- فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 342).

[2] أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (4/ 162) (2596). وقال ابن كثير في «تفسيره» (1/ 342): «وهذا إسناد صحيح، وقول الصحابي: «من السنة كذا» في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولاسيما قول ابن عباس تفسيرًا للقرآن، وهو ترجمانه».

[3] أخرجه الشافعي والبيهقي فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 342).

[4] أخرجه أبوداود في المناسك (1949)، والنسائي في مناسك الحج (3044)، والترمذي في الحج (889)، وابن ماجه في المناسك (3015)، من حديث عبدالرحمن بن يعمر رضي الله عنه.

[5] سيأتي تخريجه قريبًا.

[6] أخرجه البخاري في الإيمان (48)، ومسلم في الإيمان (64)، والنسائي في تحريم الدم (4105)، والترمذي في البر والصلة (1983) وابن ماجه في المقدمة (69).

[7] أخرجه البخاري في الحج (1521)، ومسلم في الحج (1350)، والنسائي في مناسك الحج (2627)، والترمذي في الحج (811)، وابن ماجه في المناسك (2889)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[8] أخرجه البخاري في الحج (1773)، ومسلم في الحج (1349)، والنسائي في مناسك الحج (2622)، والترمذي في الحج (933)، وابن ماجه في المناسك (2888)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[9] أخرجه البخاري في الحج- قول الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ (1523)، وأبو داود في المناسك- التزود في الحج (1730)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 494)، والواحدي في «أسباب النزول» ص(37).

[10] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 494).

[11] ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 348).

[12] هذان البيتان للأعشى- في «ديوانه» (ص185- 187)- من قصيدته المشهورة التي مطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا

[13] أخرجه البخاري في الحج- التجارة أيام الموسم (1770)، وفي التفسير ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ (4519)، وأبو داود في المناسك (1731)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 504، 507، 510)، والواحدي في «أسباب النزول» ص(38).

[14] أخرجه أبوداود في المناسك- باب الكرى (1733)، وأحمد (2/ 155)، وابن خزيمة في صحيحه (3052)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 503، 509)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 351)، والواحدي في «أسباب النزول» ص(37).

[15] كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907)، وأبو داود في الطلاق (2201)، والنسائي في الطهارة (75)، وابن ماجه في الزهد (4227).

[16] انظر: «جامع البيان» (3/ 512)، «تفسير ابن كثير» (1/ 351).

[17] سبق تخريجه.

[18] كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: «فلما زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس. قال جابر: ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، لم يصل بينهما شيئًا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموقف» الحديث، وسيأتي تخريجه قريبًا.

[19] أخرجه أبوداود في المناسك (1950)، والنسائي في مناسك الحج (3039)، والترمذي في الحج (891)، وابن ماجه في المناسك (3016)- وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

[20] شنق: أي: ضم وضيق- انظر: «النهاية»، «لسان العرب» مادة «شنق».

[21] أخرجه مسلم في الحج- حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218)، وأبو داود في المناسك- إفراد الحج (1905)، وابن ماجه في المناسك (3074).

[22] أخرجه البخاري في الحج (1666)، ومسلم في الحج (1286)، وأبو داود في المناسك (1923)، والنسائي في مناسك الحج (3023)، وابن ماجه في المناسك (3017).

[23] أي: السير السريع. انظر: «النهاية»، «لسان العرب» مادتي: «عنق»، «نصص».

[24] الإيضاع: حمل الدابة على سرعة السير. انظر: «النهاية»، «لسان العرب» مادة «وضع».

[25] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 352).

[26] سبق تخريجه قريبًا.

[27] أخرجه أبوداود في المناسك (1935)، والترمذي في الحج (885)، وأحمد (2/ 5، 454)، والبيهقي في «سننه» (5/ 122)- وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

[28] أخرجه أحمد (4/ 82)، وقال ابن كثير في «تفسيره» (1/ 354): «وهذا منقطع» ثم ذكر أنه روي من طريق متصل.

[29] أخرجه البخاري في المغازي (4330)، ومسلم في الزكاة (1061)، من حديث عبدالله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه.

[30] أخرجه البخاري في الحج- الوقوف بعرفة (1582)، وفي تفسير سورة البقرة (4520)، ومسلم في الحج (1219)، وأبو داود في المناسك (1910)، والنسائي في المناسك- رفع اليدين في الدعاء بعرفة (3012)، والترمذي في أبواب الحج- ما جاء في الوقوف بعرفات (884)، وابن ماجه في المناسك- الدفع من عرفة (3018).

[31] أخرجه البخاري في التفسير- باب ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ (4521).

[32] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (591)، والترمذي في الصلاة (300)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (928)، من حديث ثوبان رضي الله عنه.

[33] أخرجه البخاري في الدعوات (6306)، والنسائي في الاستعاذة (5522)، والترمذي في الدعوات (3393).

[34] أخرجه البخاري في الأذان (834)، ومسلم في الذكر والدعاء (2705)، والنسائي في السهو (1302)، والترمذي في الدعوات (3531)، وابن ماجه في الدعاء (3835).

[35] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 355- 356).

[36] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 389).

[37] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 357).

[38] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2887)، والترمذي في الزهد (2375)، وابن ماجه في الزهد (4136).

[39] أخرجه مسلم في الإيمان (181)، والترمذي في صفة الجنة (2552)، وابن ماجه في المقدمة (187)، من حديث صهيب رضي الله عنه.

[40] أخرجه البخاري في الدعوات (6389)، وأبو داود في الصلاة (1519)، وأحمد (3/ 10).

[41] أي: ضعف.

[42] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2688)، والترمذي في الدعوات (3487)، وأحمد (3/ 107).

[43] أخرجه الشافعي في «مسنده» ص(127)، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 356).

[44] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 359).

[45] أخرجه الترمذي في الزهد (2377)، وابن ماجه في الزهد (4109)- وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

[46] أخرجه أبوداود في المناسك- في الرمل (1888)، والترمذي في الحج- ما جاء كيف ترمى الجمار (902)، وأحمد (6/ 64)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 459). وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي.

[47] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 550)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 360).

[48] أخرجه مسلم في الصيام- تحريم صوم أيام التشريق (1141)، وأبو داود في الأضاحي (2830)، والنسائي في الفرع والعتيرة (4230)، وابن ماجه في الذبائح (3167)، وأحمد (5/ 76).

[49] أخرجه ابن ماجه في الصيام (1719)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 553).

[50] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 554)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 244).

[51] أخرجه أحمد (4/ 153).

[52] سبق تخريجه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #363  
قديم 21-04-2024, 02:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ... ﴾

قوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ*وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾[البقرة: 197- 203].

1- أن للحج أشهرًا معلومات؛ لقوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، وقال كثير من أهل العلم: هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.

ولا خلاف بين أهل العلم أن الإحرام بالحج لا يصح بعد فجر يوم النحر، كما لا خلاف بينهم أن أعمال الحج لا تنتهي في اليوم العاشر، بل لا تنتهي إلا بعده؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: 203].

كما أن بقية الشهر كله محل لأعمال الحج التي لا يفوت وقتها كالطواف والسعي ونحو ذلك.

ففرض الحج والإحرام به في شهرين وعشرة أيام، وأعماله في ثلاثة أشهر.

2- أن الإحرام بالحج لا يصح إلا في أشهره؛ لقوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ وقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ، وبهذا قال كثير من السلف من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، منهم ابن عباس، وجابر بن عبدالله رضي الله عنهما [1].

وعلى هذا فمن أحرم بالحج في غير أشهره لم يصح إحرامه ولم ينعقد.

وقال بعض أهل العلم ينعقد ويتحول عمرة.

وذهب جمهور أهل العلم، إلى أن الإحرام بالحج يصح في جميع أشهر السنة، وينعقد مع الكراهة.

وقالوا: معنى الآية ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ؛ أي: الحج الأفضل والأكمل حج أشهر معلومات. أي: أن الإحرام به في هذه الأشهر أفضل من غيرها.

واستدلوا بقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [البقرة: 189]، قالوا: فهذا يعم جميع أشهر السنة.

كما احتجوا بأنه أحد النسكين، فيصح الإحرام به في جميع السنة كالعمرة.

وهذا القول ضعيف؛ لأن قوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ يدل على أن للحج أشهرًا معلومة محدودة، ولو كان الإحرام به مشروعًا طوال السنة، ما كان لهذا التحديد فائدة.

ومثل هذا استدلالهم بالآية: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾، فإن هذا الدليل عليهم، لا لهم، إذ لو كان الإحرام بالحج جائزًا في جميع السنة لم يوقت بالأهلة.

وأما قولهم: إنه أحد النسكين فيصح الإحرام به في جميع السنة كالعمرة. فهذا تعليل في مقابلة الدليل فلا يصح. فالحج جاء تحديده بأشهر معلومة، بخلاف العمرة، وعلى هذا فلا يلزم من صحة الإحرام بالعمرة في جميع السنة صحة الإحرام بالحج كذلك.

3- ظاهر قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ جواز فرض الحج في جميع الأشهر الثلاثة، لكن دلت السنة على أن الإحرام بالحج لا يصح بعد فجر يوم النحر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مُضَرِّس رضي الله عنه: «من شهد صلاتنا هذه- يعني صلاة الفجر في مزدلفة- وقد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه، وقضى تفثه»[2]، وعلى هذا أجمع أهل العلم.

4- أن الإحرام بالحج، أو العمرة ينعقد بمجرد نية الدخول في النسك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ؛ أي: نوى الدخول فيه.

5- أن من أحرم بالحج وجب عليه إتمامه، حتى ولو كان نفلًا؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾، وكذلك العمرة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 196].

6- تحريم الجماع ومقدماته، والفسوق والجدال والخصام والنزاع على المحرم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، وهكذا سائر محظورات الإحرام.

7- توكيد حرمة الفسوق والجدال في الحج؛ لحرمة الإحرام والزمان والمكان، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].

8- الترغيب في فعل الخير، وأنه لن يضيع عند الله- عز وجل- قل أو كثر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 197]؛ أي: يعلمه - عز وجل - ويحصيه ويجازي عليه.

9- علم الله - عز وجل- بجميع أفعال العباد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ وهو - عز وجل - بكل شيء عليم.

10- وجوب الاستعداد بالزاد لسفر الحج والعمرة، والاستغناء عن الناس، فلا يجوز كون الإنسان عالة وكلًا على الآخرين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا﴾.

11- الحث على التزود بتقوى الله- عز وجل- وأنها خير زاد في الحال والمآل والمعاد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾.

12- أن أصحاب العقول هم الذين يتقون الله تعالى؛ لهذا خصهم بالأمر والنداء في قوله: ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾، وفي هذا امتداح لهم، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18].

13- جواز الاتجار في الحج وطلب الرزق في البيع والشراء والتأجير، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾.

14- إثبات ربوبية الله - عز وجل- الخاصة للمتقين، وأن ما يحصل عليه الإنسان في تجارته من كسب وربح- هو من فضل الله- عز وجل- وزيادته؛ لقوله تعالى: ﴿ فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾.

15- امتنان الله- عز وجل- على عباده، والتوسعة عليهم، ودفع الحرج عنهم في طلب الفضل منه والرزق في الحج.

وفي هذا ما يظهر بجلاء سماحة الإسلام وسمو مبادئه وأحكامه، وموازنته بين متطلبات الروح والجسد.

16- مشروعية الوقوف بـ«عرفات»، وأنها من مشاعر الحج؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ، وهو أعظم أركان الحج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»[3].

ولم يصفها عز وجل بالحرمة؛ لأنها خارج الحرم.

17- وجوب المبيت بمزدلفة، وأنه بعد الوقوف بـ«عرفات»؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾.

18- مشروعية ذكر الله عند المشعر الحرام، بصلاة المغرب والعشاء والفجر، ودعاء الله وتكبيره وتهليله وحمده وتوحيده- كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه.

19- حرمة مزدلفة وأنها من مشاعر الحج، وكلها موقف؛ لقوله تعالى: ﴿ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾.

20- وجوب ذكر الله- عز وجل- وشكره- على العباد على هدايته لهم، وأن يكون ذلك وفق شرعه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾.

21- إثبات الهداية لله- عز وجل- بقسميها هداية البيان والدلالة والإرشاد، وهداية التوفيق؛ لقوله تعالى: ﴿ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾.

22- تذكير الله- عز وجل- لعباده- بحالهم في الضلال، قبل هدايته لهم، ليعرفوا قدر نعمة الله- عز وجل- وفضله عليهم، وعلى سائر الخلق، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبيان الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فيشكروه على ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾.

23- تأكيد أمر الوقوف بعرفة والإفاضة منها، والمبيت بمزدلفة؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾.

24- استواء الناس أمام أحكام الله الشرعية؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾.

25- مشروعية الاستغفار بعد الإفاضة من عرفات، والانتهاء من أعمال الحج ومناسكه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ﴾ وهو ختام الأعمال والأعمار.

26- إثبات صفة المغفرة التامة لله- عز وجل- والرحمة الواسعة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

27- مشروعية ذكر الله- عز وجل- بأنواع الذكر كلها- بعد قضاء المناسك شكرًا لله- عز وجل- على ذلك، وإتباعًا للحسنة الحسنة بعدها، وبعدًا عن الغفلة، أو الاغترار بالعمل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾.

28- وجوب ذكر الله- عز وجل- وتعظيمه أكثر وأشد من تعظيم أي مخلوق من الآباء وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾.

29- تنزل القرآن في مخاطبة العرب على نحو ما هم عليه من العادات تقريبًا للمعاني لهم، وتأليفًا لقلوبهم، إذ ليس المقصود بقوله: ﴿ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ المساواة بين ذكر الله وذكر الآباء، ولا المقارنة بينهما فحق الله أعظم وأعظم، وذكره- عز وجل- أوجب وألزم.

30- انقسام الناس إلى فريقين: فريق همهم الدنيا، لا يسألون ربهم سواها، معرضين عن الآخرة، والعمل لها، وعن سؤال الله الفوز فيها- وهم عبّاد المادة والدرهم والدينار، فليس لهم في الآخرة من نصيب، إلا النار وبئس القرار؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾.

وفريق وفِّقوا للعمل للدنيا والآخرة، وسؤال ربهم من خيري الدنيا والآخرة، والوقاية من عذاب النار، فلهم جزاء كسبهم، وهو الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ﴾.

31- الإشارة إلى حقارة الدنيا وعظم مكانة الآخرة.

32- حاجة الإنسان إلى سؤال ربه عز وجل حسنة الدنيا والآخرة، وأن يقيه عذاب النار.

33- أن من أجمع الأدعية وأعظمها، وأحراها بالقبول قول الداعي: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.

34- إثبات الدار الآخرة، وما فيها من الجنة والنعيم، وعذاب النار والجحيم.

35- أن الله- عز وجل- قد يجيب دعوة كل داع، مسلمًا كان أو كافرًا أو فاسقًا؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ﴾.

لكن ليست إجابته دعاء من دعاه دليلًا على محبته له، وخاصة إذا كان ذلك في أمور الدنيا؛ لأن الله- عز وجل- يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، لكنه لا يعطي الدين إلا من يحب كما قال صلى الله عليه وسلم[4].

36- أن لكل من الناس نصيبًا من كسبه ثوابًا كان أو عقابًا؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ﴾.

37- إثبات الكسب للعبد؛ لقوله تعالى: ﴿ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ وفي هذا رد على الجبرية.

38- إثبات قرب القيامة، وسرعة حساب الله- عز وجل- للخلائق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ؛ أي: أن حسابه- عز وجل- سريع لقرب القيامة، كما أنه- عز وجل- يحاسب الخلق على وجه السرعة؛ لعلمه بهم وبأعمالهم، وكمال قدرته.

وقد قال بعض أهل العلم: إنه يحاسبهم في نصف يوم، ويقيل أهل الجنة فيها ذلك اليوم؛ لقوله تعالى: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ [الفرقان: 24].

39- فضل ذكر الله- عز وجل- في أيام التشريق؛ لقوله- عز وجل: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾، وهذا تخصيص لها بعد التعميم بالأمر بالذكر قبلها في قوله: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾.

40- فضل بعض الأزمنة على بعض وكذا الأمكنة.

41- جواز التعجل في اليوم الثاني عشر من أيام التشريق بعد رمي الجمار، وجواز التأخر إلى اليوم الثالث عشر؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وهذا من تيسير الله- عز وجل- على عباده.

42- أن على من أراد التعجل في يومين أن يخرج من مِنى قبل غروب الشمس من اليوم الثاني عشر؛ ليكون تعجله في اليومين؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ؛ لأن «في» للظرفية.

43- عدم جواز التعجل في يوم واحد، أي في اليوم الحادي عشر، وأن من فعل ذلك فهو آثم؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ؛ إذ مفهوم هذا أن من تعجل بأقل منهما فهو آثم لفعله ما لا يجوز.

وهذا بيِّن اللهم إلا على قول من قال: المراد باليومين: يوم العيد واليوم الحادي عشر، وهذا لا يصح إلا على قول من قال المراد بالأيام المعدودات أربعة أيام: يوم العيد، وأيام التشريق الثلاثة. وهذا القول ضعيف. والصحيح أن المراد بالأيام المعدودات أيام التشريق الثلاثة، الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة.

44- أن المعوّل عليه- هو تقوى الله- عز وجل- سواء تعجل الإنسان في يومين، أو تأخر؛ لقوله تعالى: ﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾.

45- وجوب تقوى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾.

46- وجوب الإيمان بالبعث والمعاد والحساب؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.

47- أن الإيمان بالحشر إلى الله والحساب أعظم واعظ يحمل على تقوى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾.

[1] سبق تخريجه عنهما.

[2] سبق تخريجه.

[3] سبق تخريجه.

[4] أخرجه أحمد (1/377)، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #364  
قديم 21-04-2024, 02:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة: 204 - 207].


ذكر الله عز وجل في الآيات السابقة انقسام الناس في دعائهم في الحج إلى قسمين، منهم من يريد الدنيا دون الآخرة، وهم المشركون والكفار الصرحاء، ومنهم من يريدهما معًا وهم عامة المؤمنين، وذلك في قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [البقرة: 200 - 202].

ثم قسمهم الله في هذه الآيات إلى قسمين، كفار غير صرحاء قد بلغوا في الكفر والخصام والسعي في الأرض بالفساد وإهلاك الحرث والنسل غايته، وهم المنافقون، وإلى مؤمن مخلص ظاهرًا وباطنًا يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾.

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآيات نزلت في أناس من المنافقين قالوا لما أصيب خبيب بن عدي رضي الله عنه وأصحابه بالرجيع: يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا لا هم قعدوا في بيوتهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر من الشهادة والخير من الله»[1].

وقيل: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأظهر له الإسلام، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: إنما جئت أريد الإسلام، والله يعلم إني صادق، فخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحُـمُر، فأحرَق الزرع وعقر الحمر، فأنزل الله تعالى هذه الآيات»[2].

والصحيح أن الآيات عامة في المنافقين كلهم، وفي المؤمنين كلهم.

قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾.

قوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾، و«من» للتبعيض، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8]؛ أي: وبعض الناس.

﴿ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾ «من»: اسم موصول بمعنى «الذي»، أي: الذي يعجبك قوله، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يصلح له الخطاب.

ومعنى ﴿ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾؛ أي: من تستحسن قوله، مما يُظهر به الإيمان، وحب الخير؛ نفاقًا منه، كما قال تعالى في وصف المنافقين: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ [المنافقون: 4]، من حسنه وفصاحته مع ما في بواطنهم من الكفر والنفاق والخداع والغرور والكذب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14].

وكما قيل:
يعطيك من أدنى اللسان حلاوة
ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
يلقاك يحلف إنه بك واثق
وإذا توارى عنك فهو العقرب[3]



وقال الآخر:
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب[4]

وقال المعري[5]:
وقد يُخلفُ الإنسانُ ظَنَّ عشيرةٍ
وإن راق منه منظر ورُوَاء



﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ متعلق بقوله: ﴿ يُعْجِبُكَ ﴾؛ أي: إعجابك بقوله حاصل في هذه الحياة الدنيا، فالحياة الدنيا ظرف لهذا الإعجاب.

وقد يكون: ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، متعلق بكلمة ﴿ قوله ﴾، أي: كلامه في أمور الدنيا، أي: عن أمور الدنيا التي هي أكبر همه ومبلغ علمه.

﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ يُعْجِبُكَ﴾، و«ما» موصولة، أي: ويشهد الله على الذي في قلبه، وذلك بحلفه بالله أنه مؤمن مصدق، وأن ما في قلبه موافق لقوله، وهو في ذلك كاذب، كما قال تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 1، 2].

وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ﴾ [النساء: 62]، وقال تعالى: ﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 96].

وأيضًا: ﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أي: ويبارز الله تعالى بالاستمرار على ما في قلبه من الكفر والنفاق؛ لأن الله تعالى يعلم ما في قلبه من ذلك، ولا تخفى عليه منه خافية، كما قال تعالى: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 108].

وأيضًا ربما قال: «والله على ما أقول شهيد»، كما يردد هذا بعضهم وهو كاذب.

﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ الضمير «هو» يعود إلى «من» في قوله: ﴿ ومن الناس ﴾، وإضافة «ألد» إلى «الخصام» من إضافة الصفة إلى الموصوف، و«الخصام» يحتمل أن يكون مصدر خاصم يخاصم خصامًا ومخاصمة وخصومة.

و«الألد»: الأعوج الشديد الخصام، قال تعالى: ﴿ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴾ [مريم: 97]، و﴿ الْخِصَامِ ﴾: الخصومة والجدال.

والمعنى: وهو شديد الخصومة والمجادلة بالباطل، يكذِّب ويزوِّر الحق، ولا يستقيم معه، كما يفتري ويفجر قال صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»[6].

ويجوز أن يكون الخصام، جمع مفرده «خَصِم» والمعنى: وهو ألد الخصوم، أي: ألد الناس المخاصمين، أي: أعوجهم وأشدهم خصومة وجدلًا بالباطل.

قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾.

قوله: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى ﴾ أي: وإذا تولى هذا الذي يعجبك قوله، أي: وإذا ذهب وابتعد عنك وعن من ينكر عليه.

﴿ سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾ أي: سار ومشى في الأرض وعمل فيها جاهدًا، كما قال تعالى: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ﴾ [يس: 20]؛ أي: يسير ويمشي، وكما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ﴾ [الإسراء: 19]؛ أي: عمل لها عملها.

﴿ لِيُفْسِدَ فِيهَا ﴾ اللام للتعليل، أي: لأجل أن يفسد فيها فسادًا معنويًا بالكفر والنفاق والمعاصي، وتشكيك الناس في دينهم، مما يحصل بسببه الفساد الحسي، وهو ما ذكره تعالى بقوله: ﴿ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾ أي: يُتلف الحرث والنسل بسبب فساده، كما قال الله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].

والمراد بـ﴿ الْحَرْثَ﴾ الزرع والنباتات والثمار، و﴿ وَالنَّسْلَ﴾ نتاج ومواليد الإنسان والحيوان؛ أي والمعنى: فيتسبب في هلاك الحرث والنسل، وخراب البلاد، وهلاك العباد، والقضاء على مقومات الحياة، وبهذا جمع بين عوج وسيء المقال، وبين قبيح وسوء الفعال.

قال السعدي[7]: «ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص ليست دليلًا على صدق ولا كذب، ولا بر ولا فجور حتى يوجد العمل المصدق لها، المزكي لها، وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود، والمحق والمبطل من الناس، والنظر لقرائن أحوالهم، وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم».

﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ في هذا تحذير من الفساد، وتوبيخ وتهديد للمفسدين، ونفي محبته عز وجل للفساد يدل على بغضه للفساد وكراهيته له وعلى بغضه وكراهيته للمفسدين، وعدم محبته لهم، كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64].

قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾.

قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ أي: وإذا قيل لهذا المفسد في الأرض المهلك للحرث والنسل:
﴿ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ أي: اتخذ وقاية من عذاب الله بالإيمان وترك النفاق والكفر والعناد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.

وفي قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ﴾ بالبناء للمفعول وحذف الفاعل دلالة على رده الحق أيًّا كان قائله لكراهته للحق.

﴿ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ ﴾، أي: حملته وأحاطت به العزة.

والمراد بـ﴿ الْعِزَّةُ ﴾ هنا العزة المذمومة عزة الجاهلية، وهي الأنفة والترفع والتكبر عن قبول الحق وامتثاله، وترك الباطل، وليس المراد بها العزة المحمودة، وهي العزة بحق التي قال الله عنها: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8].

﴿ بِالْإِثْمِ ﴾ الباء: للمصاحبة والملابسة، و(الإثم): الذنب، أي: احتوته العزة المصاحبة والملابسة للإثم.

والمعنى: احتوته وأحاطت به العزة والأنفة والحمية الجاهلية، وحملته على الإثم، وهو عدم الإصغاء للناصحين، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الحج: 72].

وقد قال الله عز وجل لصفوة خلقه وسيد رسله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الأحزاب: 1]، وقال تعالى له: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37].

وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «اتق الله» فأنكر عليه رجل من الحاضرين، فقال عمر رضي الله عنه: «دعه، فلا خير فيكم إن لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إن لم نسمعها منكم»[8].

﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، وعيد شديد له وتهديد أكيد، لقوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [المجادلة: 8].

والحسب بمعنى الكافي، أي: فكافيته جهنم يدخلها ويعذب فيها مجازاة له على كفره وعدم قبوله الحق.

والحسب بمعنى «الكافي»، أي: كافيه جهنم عقوبة له، و«جهنم»: اسم من أسماء النار، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: للعلمية والتأنيث.

وسميت به لجهمتها وظلمتها وبعد قعرها وشدة حرها، نسأل الله تعالى السلامة منها.

قال الشاعر:
رَشَدْتَ وأَنعمتَ ابنَ عمرو وإنما
تَجنَّبْتَ تنورًا من النَّار مظلمًا[9]


﴿ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ الواو: عاطفة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، أي: والله لبئس المهاد.

و﴿ بِئس ﴾: فعل جامد لإنشاء الذم، وفاعلها ﴿ الْمِهَادُ ﴾، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: ولبئس المهاد، هي، أي: جهنم، و﴿ الْمِهَادُ ﴾ في الأصل الفراش والوطاء، والمعنى: ولبئس الفراش والوطاء والمسكن والمستقر جهنم، عذاب أبدي سرمدي، معنوي للقلوب، وحسي للأبدان.

قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.

ذكر الله عز وجل في الآيات السابقة حال المنافق، ألد الخصام، المفسد في الأرض، المعرض، المتكبر عن تقوى الله، ثم أتبع ذلك بذكر حال المؤمن الذي يشري نفسه طلب مرضاة الله تعالى، كما هي طريقة القرآن الكريم الجمع بين الترغيب والترهيب؛ ليجمع المؤمن في طريقه إلى الله بين الخوف والرجاء، فلا يأمن من مكر الله، ولا ييأس ويقنط من رحمة الله تعالى.

وقد روي عن صهيب الرومي رضي الله عنه قال: «لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلمقالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبدًا، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تُخَلّون عني؟ قالوا: نعم. فدفعت إليهم مالي، فخلَّوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب، مرتين».

وفي رواية عن سعيد بن المسيب، قال: «أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلمفأتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش، قد علمتم أني من أرماكم رجلًا، وأنتم والله لا تصلون إليَّ حتى أرمي كل سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي؟ قالوا: نعم نعم، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلمقال: «ربح البيع، ربح البيع»، قال: ونزلت: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾، وفي بعض الروايات، قال صلى الله عليه وسلم: «ربح البيع أبا يحيى».

وفي رواية: «فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة، فقالوا: ربح البيع، فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك؟ فأخبروه أن الله تعالى أنزل فيه هذه الآية».

وهكذا قال ابن عباس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة، وجماعة: إنها نزلت في صهيب رضي الله عنه، وقيل: نزلت هذه الآية في مدح خبيب بن عدي- رضي الله تعالى عنه- وأصحابه الذين قتلوا في الرجيع.

وذهب أكثر المفسرين إلى أن الآية عامة في كل مجاهد في سبيل الله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ ﴾ [التوبة: 111]، ولهذا لما تقدم رجل من بين الصفين، وفي بعض الروايات أنه هشام بن عامر، أنكر عليه بعض الناس، فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما وتلوا هذه الآية: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[10].

وهذا كله لا ينافي عموم الآية في كل من باع نفسه في طاعة الله تعالى هجرة أو جهادًا في سبيل الله، أو دعوة إلى الله تعالى وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر وغير ذلك.

قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾.

هذا قسيم قوله تعالى فيما سبق: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾ الآيات، أي: ومن الناس من يكون كذا، ومنهم من يكون كذا.

و«من» في قوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ ﴾: تبعيضية، وفي قوله: ﴿ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ﴾: موصولة، و«يشري» بمعنى «يبيع»، كما قال تعالى: ﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 74]؛ أي: الذين يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة.

كما أن «شرى» بمعنى «باع»، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ [يوسف: 20]؛ أي: باعوه، وقوله تعالى: ﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [البقرة: 102]؛ أي: ولبئس ما باعوا به أنفسهم.

وأما اشترى فهي بمعنى (ابتاع) كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]؛ أي: ابتاعها منهم، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102]؛ أي: لمن ابتاعه.

وكذا «يشتري»، بمعنى «يبتاع»، كما قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [لقمان: 6].

﴿ نفسَه ﴾، أي: ذاته.

﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ مفعول لأجله، أي: طلبًا لرضوان الله عز وجل، وإخلاصًا له سبحانه وتعالى.

والمعنى: ومن الناس من يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله عز وجل، أي: يبيعها لله عز وجل، ويبذلها للقيام بطاعته عز وجل والجهاد، والاستشهاد في سبيله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].

﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾، أي: والله ذو رأفة بالعباد، والرأفة: شدة الرحمة وألطفها وأرقها، وهي قسمان رأفة عامة، ورأفة خاصة.

﴿ بِالْعِبَادِ﴾ أي: بالعباد جميعهم؛ لأن عبودية الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: عبودية الانقياد لأمر الله تعالى الشرعي، فهذه خاصة بالمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17، 18]، فهؤلاء لهم رأفة الله تعالى الخاصة.

والقسم الثاني: عبودية الانقياد لأمر الله تعالى الكوني، وهذه عامة، فكل الخلق عباد لله تعالى بهذا المعنى، كما قال تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93]، وهؤلاء لهم رأفة الله العامة.

[1] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 573)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 363- 369)، وانظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 174، 175).

[2] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 572)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 364- 367)، عن السدي.

[3] ينسب هذان البيتان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: «حياة الحيوان الكبرى» (1/ 51).

[4] البيت لعنترة بن شداد. انظر: «ديوانه» (ص11).

[5] انظر: «اللزوميات» (1/ 56).

[6] أخرجه البخاري في الإيمان (34)، ومسلم في الإيمان (58)، وأبو داود في السنة (4688)، والنسائي في الإيمان (5020)، والترمذي في الإيمان (2632)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

[7] في «تيسير الكريم الرحمن» (1/ 251- 252).

[8] أخرجه ابن الجوزي في «مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه», انظر: «الفقه الإسلامي وأدلته» (8/ 332).

[9] البيت لورقة بن نوفل أو أمية بن أبي الصلت يرثي زيد بن عمرو بن نفيل، وكانا معًا ممن تركا عبادة الأوثان في الجاهلية؛ انظر: «السيرة النبوية» (164).

[10] انظر: «جامع البيان» (3/ 571 – 576)، (590- 594)، و«أسباب النزول» للواحدي، ص (39)، و«تفسير ابن كثير» (1/ 360- 361)، و«الصحيح المسند من أسباب النزول» ص(33).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #365  
قديم 16-05-2024, 02:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾[البقرة: 204 - 207].

1- أن من الناس من يعجبك قوله بإظهاره بلسانه الإيمان والخير وحسن القصد ونحو ذلك، وحقيقته خلاف ذلك، وهم المنافقون؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ الآيات.

2- أن المنافق باستمراره على النفاق يشهد الله على ما في قلبه؛ لأن الله تعالى يعلم ما في قلبه من هذا النفاق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾.

3- علم الله عز وجل بما في القلوب والصدور؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الحديد: 6].

4- أن المنافق يشهد الله على ما في قلبه بحلفه أن ما في قلبه موافقًا لقوله، أي: أن باطنه موافقًا لظاهره، وهو كاذب.

5- عدم الاغترار بمن يُظهرون بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم خلاف ما يبطنون.

6- أن خصام المنافق أشد الخصام، وهو أشد الخصوم وأعندهم وأكذبهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾.

7- ذم الخصام والجدال بالباطل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾.

وفي الحديث: «أبغض الرجال الألد الخصم»[1].

وعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾[الزخرف: 58]»[2].

وهذا بخلاف المجادلة بالتي هي أحسن؛ لإثبات الحق وإبطال الباطل، فإن هذا مأمور به، كما قال تعالى ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].

7- سعي المنافقين للإفساد في الأرض بما هم عليه من النفاق والكفر والمعاصي؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾، كما قال تعالى عن المنافقين: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11، 12].

8- أن المعاصي والذنوب سبب لهلاك الحرث والنسل وخراب الديار؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾.

9- جبن المنافقين، ومخادعتهم فلا يجرؤون على إظهار ما هم عليه في فساد إلا إذا غابوا عن الأنظار والأسماع؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾.

10- صيانة الشرع وحفظه للأموال والأنفس ومقومات الحياة، وذمه، بل وتحريمه التعدي عليها.

11- نفي محبة الله عز وجل للفساد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾، وفي هذا إثبات بغضه وكراهيته عز وجل للفساد والمفسدين.

12- إثبات محبة الله عز وجل للصلاح؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾.

13- ذم الفساد في الأرض والتحذير منه؛ لأن الله تعالى لا يحبه، بل يكرهه ويبغضه.

14- أَنَفَةُ أهل النفاق والإفساد في الأرض وتعاظمهم من أن يقال لأحدهم: اتق الله، ومن قول الحق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ﴾.
15- أن الأَنَفَةَ والكبر والتعاظم قد يحمل على رد الحق والوقوع في الإثم؛ لقوله تعالى: ﴿ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ﴾.

16- الوعيد لمن رد الحق وأَنِفَ من قبوله بالنار؛ لقوله تعالى: ﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ﴾.

17- شدة حر النار وظلمتها وبعد قعرها؛ ولهذا سميت: «جهنم».

18- ذم النار وتقبيحها فإنها بئس المهاد والمستقر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾.

19- وجوب قبول الحق، والحذر من رده، أيًّا كان قائله؛ لأن الله عز وجل توعد على ذلك بالنار.

20- أن من الناس من هو موفق ساع في خلاصه، يبيع نفسه؛ طلبًا لرضوان الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾، بخلاف من قال الله فيهم: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ﴾ الآيات.

21- جمع القرآن الكريم بين الترغيب والترهيب، بذكر أهل الحق وأهل الباطل وما أعد لكل منهم؛ ليجمع المؤمن في طريقه إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، والرهبة والرغبة.

22- ثناء الله عز وجل وامتداحه لمن باع نفسه طلبًا لمرضاة الله عز وجل، وقدم رضى الله على النفس؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾.

23- لا بد لصحة العمل وقبوله من إخلاص النية؛ لقوله تعالى: ﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾.

24- إثبات صفة الرضا لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾.

25- إثبات صفة الرأفة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾.

رأفة الله عز وجل العامة بجميع العباد، ورأفته الخاصة بعباده المؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾، وهذا يشمل الرأفة العامة والخاصة، ويعم جميع العباد.

[1] أخرجه البخاري في المظالم والغصب قول الله تعالى: ﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ (2457)، ومسلم في العلم – الألد الخصم (2668)، والنسائي في آداب القضاة (5423)، والترمذي في التفسير (2976) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[2] أخرجه الترمذي في تفسير القرآن (3253)، وابن ماجه في المقدمة (48)، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #366  
قديم 16-05-2024, 02:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾


قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [البقرة: 208 - 210].

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾.

قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إذا سمعت الله يقول ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فأرعها سمعك فهو خير يأمر به أو شر ينهى عنه»[1].

﴿ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ قرأ ابن عامر وأبو جعفر وابن كثير والكسائي (السَّلم) بفتح السين، وقرأ الباقون ﴿ السِّلْمِ ﴾ بكسرها.

ومعنى القراءتين واحد، والمعنى: ادخلوا في الإسلام كافة. قال الشاعر:
وعدت عشيرتي للسَّلم لما
رأيتهموا تولّوا مدبرينا
فلست مبدِّلًا بالله ربًّا
ولا مستبدلًا بالسَّلم دينًا[2]


والإسلام هو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، أي: الاستسلام لله ظاهرًا وباطنًا.

﴿ كَافَّةً ﴾: حال من «السلم»، أي: ادخلوا في الإسلام جميعًا، أي: التزموا وامتثلوا جميع شرائع الإسلام وأحكامه الظاهرة والباطنة، فعلًا للمأمورات واجتنابًا للمنهيات. وهذا هو مقتضى الإيمان الذي وصفهم الله تعالى وشرفهم به، وفي هذا حض وحث لهم على الاستقامة حقًّا على الإيمان والإسلام والثبات على ذلك والاستزادة منه؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [النساء: 136].

ويحتمل أن تكون ﴿ كَافَّةً ﴾ حالًا من الواو في قوله: ﴿ ادْخُلُوا ﴾، أي: ادخلوا جميعًا في الإسلام، أي: ككلم.

ولا مانع من حمل الآية على الاحتمالين معًا، إذ لا تنافي بينهما، فهم مأمورون بتطبيق أحكام الإسلام كلها، ومأمورون بالدخول في الإسلام كلهم.

﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ أمرهم بالدخول بالإسلام كافة، ثم نهاهم عما يصدهم عن ذلك، وهو اتباع خطوات الشيطان.

قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة وخلف وأبو بكر عن عاصم بإسكان الطاء: ﴿ خُطْوَات ﴾، وقرأ الباقون بضم الطاء: ﴿ خُطُوَاتِ ﴾.

و﴿ خُطُوَاتِ ﴾: جمع «خطوة»، وهي في الأصل: ما بين قدمي الماشي.

و﴿ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾: طرقه ومسالكه وما هو عليه وما يأمر به من الكفر والاستكبار والخروج عن طاعة الله والفحشاء والمنكر.

كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [النور: 21]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ ﴾ [البقرة: 169].

﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ الجملة تعليل للنهي السابق، و«إنَّ» للتوكيد، فيها توكيد شدة عداوة الشيطان للمؤمنين.

و«العدو»: ضد الولي، وهو من يحب لك الشر، و«مبين»: بيِّن العداوة ظاهرها ومظهرها، ولهذا يجب الحذر منه، واتخاذه عدوًا، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].

قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.

نهى الله عز وجل عن اتباع خطوات الشيطان لعداوته البينة للمؤمنين، ثم أتبع ذلك بالتحذير عن الميل والعدول عن الحق بعد بيانه، والوعيد لمن فعل ذلك في إشارة واضحة إلى أن ذلك من أعظم الاتباع لخطوات الشيطان.

قوله: ﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ ﴾ الفاء: عاطفة، و«إن»: شرطية، و﴿ زَلَلْتُمْ ﴾ فعل الشرط، وجوابه: ﴿ فَاعْلَمُوا ﴾.

﴿ زَلَلْتُمْ ﴾: وقعتم في الزلل، وهو الخطأ والميل والعدول عن الحق.

فمعنى ﴿ زَلَلْتُمْ ﴾ أخطأتم وعدلتم وملتم عن الحق، وسمي العدول والميل عن الحق زللًا؛ لأن فيه الهلكة، نسأل الله تعالى العافية.

﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ «ما»: مصدرية، و﴿ الْبَيِّنَاتُ ﴾: صفة لموصوف محذوف، أي: الآيات البينات، أي: الواضحات في ألفاظها ومعانيها وأحكامها، والمعجزات والدلائل على الحق.

والمعنى: فإن عدلتم عن الحق من بعد مجيء البينات إليكم، أي: عن علم ويقين منكم.

﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾: جواب الشرط، وفيه تحذير وتهديد ووعيد لمن مال وعدل عن الحق، كما قال تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 30]؛ أي: فاعلموا أن الله عزيز القهر والغلبة والقوة والامتناع، لا يُعجزه شيء من الانتقام ممن عصاه، ولا يفوته هارب، ولا يغلبه غالب، لا تضره معصية العاصي، كما لا تنفعه طاعة المطيع.

﴿ حكيمٌ ﴾ أي: ذو الحكم التام في كل ما قدره من أحكام كونية؛ من إضلال من ضل من الخلق من هؤلاء وغيرهم، وهداية من اهتدى، وغير ذلك، وهو ذو الحكم التام في كل ما شرعه، وذو الحكم العدل في جزائه ومعاقبة من عصاه، وإثابة من أطاعه، وذو الحكمة البالغة في قدره وشرعه وجزائه.

قوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾.

نهى الله عز وجل في الآيتين السابقتين من اتباع خطوات الشيطان، وحذر من الميل والعدول عن الحق، وتوعد من فعل ذلك، ثم أكد حصول هذا الوعيد وقربه، فقال: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ﴾ الآية.

قوله: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ ﴾ (هل): للاستفهام الإنكاري، ويفيد النفي المحقق، أي: ما ينظرون، وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة للتنبيه.

و﴿ يَنْظُرُونَ ﴾ بمعنى «ينتظرون»، أي: ما ينتظر هؤلاء الذين عدلوا عن الحق ﴿ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ﴾ الآية؛ لأن «نظر» إذا عديت بـ«إلى» فهي بمعنى النظر بالعين، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 77]، وإذا لم تعدّ فهي بمعنى الانتظار، كما في قوله هنا: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ ﴾.

﴿ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ﴾ «إلا»: أداة حصر، و«أن» والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول ﴿ يَنْظُرُ ﴾ أي: إلا إتيان الله يعني: يوم القيامة؛ لفصل القضاء بين العباد، كما قال تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾ [الأنعام: 158]، والإتيان بمعنى المجيء، كما قال: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22]، وهو إتيان ومجيء حقيقي يليق بجلاله وعظمته عز وجل.

﴿ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ﴾ «في» هنا بمعنى «مع»، والمعنى: إلا أن يأتيهم الله مع ظلل من الغمام، أي: مصاحبًا لهذه الظلل، ولا يصح أن تكون «في» للظرفية؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- أجل وأعظم وأعلى وأكبر من أن يحيط به شيء من مخلوقاته؛ كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: 23] ،وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [الحج: 62]، وقال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9].

وقوله: ﴿ ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ﴾ «ظلل» جمع (ظلة)، أي: ظلة داخل ظلة، وهي ما يستر من الشمس، فهي في غاية الإظلام والهول والمهابة.

و«الغمام» جمع «غمامة» وهو السحاب، أو السحاب الأبيض الرقيق، قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا ﴾ [الفرقان: 25].

﴿ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾ قرأ أبو جعفر «والملائكةِ» بالجر عطفًا على ظلل، وقرأ الباقون «والملائكةُ» بالضم عطفًا على لفظ الجلالة «الله»، أي: وتأتيهم الملائكةُ.

كما قال تعالى في سورة الفجر: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22]، «الملك» جنس الملائكة، أي: والملائكة ﴿ صَفًّا صَفًّا ﴾، أي: صفًا بعد صفٍ.

﴿ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ﴾: يحتمل أن تكون الواو: عاطفة، والجملة في محل نصب معطوف على قوله: ﴿ أَنْ يَأْتِيَهُمُ ﴾، فيكون قوله: ﴿ قُضِيَ الْأَمْرُ ﴾ مما ينتظر، أي: هل ينتظرون إلا إتيان الله في ظلل من الغمام، وإتيان الملائكة، وقضاء الأمر.

ويحتمل أن تكون الواو استئنافية فالجملة مستأنفة وجاء التعبير بصيغة الماضي؛ لقربه وتحقق وقوعه، وجاء بصيغة ما لم يسم فاعله؛ تعظيمًا للأمر، كما في قوله تعالى: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44].

وانقضاء الأمر: انتهاؤه، والأمر هو الشأن، أي: وانتهى شأن الخلائق وحسابهم، وفصل بينهم، وانتهى كل شيء، فلا اعتذار ولا استعتاب، وجوزي كلٌ بعمله، وصار كلٌّ إلى مصيره، ومأواه، أهل الجنة إلى الجنة، نسأل الله من فضله، وأهل النار إلى النار، نسأل الله السلامة.

كما قال تعالى في سورة الزمر: ﴿ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 69- 75].

﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾.
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب: «تَرجِعُ الأمور» بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون: ﴿ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ بضم التاء وفتح الجيم.

«إلى الله» متعلق بـ «ترجع»، وقدم عليه؛ لإفادة الحصر والاختصاص، أي: وإلى الله وحده، لا إلى غيره ترد الأمور كلها أمور الدنيا والآخرة الدينية والدنيوية، الكونية والشرعية والجزائية، وإليه سبحانه يرد الخلائق كلهم وعليه حسابهم وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 123]، وقال تعالى: ﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 53]، وقال تعالى: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40] ،وقال تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 25، 26].

[1] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (3 /902)- الأثر (9027).

[2] البيتان لامرئ القيس الكندي يدعو بها قومه كندة إلى الرجوع إلى الإسلام لما ارتدوا مع الأشعث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر: «جامع البيان» (3 /597)، «الوحشيات» ص (75).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #367  
قديم 16-05-2024, 02:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم


فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً... ﴾


قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة: 208 - 210].

1- تصدير الخطاب بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام، وتشريف المؤمنين وتكريمهم بندائهم بوصف الإيمان والحث على الاتصاف بهذا الوصف؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.

2- أن من مقتضى الإيمان الدخول في السلم كافة وعدم اتباع خطوات الشيطان.

3- وجوب الدخول في الإسلام وتطبيق أحكامه الشرعية كلها جملة وتفصيلًا، ظاهرًا وباطنًا؛ لقوله تعالى: ﴿ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾.

وفي هذا تحذير من مسالك أهل الكتاب في الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 150، 151]، وقال تعالى: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 85].

وفيه تحذير من اتباع الهوى، واتخاذه إلهًا، كما هو حال كثير من الناس إن وافق الشرع هواه أخذ به، وإن خالف الشرع هواه تركه، كما قال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50].

4- في أمر المؤمنين بالدخول في السلم كافة حض وحث على الاستقامة حقًّا على الإيمان والإسلام والثبات على ذلك والاستزادة منه، كما أُمر المؤمنون أن يقولوا في صلاتهم: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]؛ أي: وفقنا وثبتنا عليه وزدنا هداية.

5- النهي عن اتباع خطوات الشيطان وعمله ومسالكه، وتحريم ذلك؛ لقوله: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾.

6- أن عدم الدخول في الإسلام وتطبيق أحكامه هو بسبب اتباع خطوات الشيطان.

7- عداوة الشيطان الشديدة والبينة لبني آدم وبخاصة المؤمنين، ووجوب الحذر منه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].

8- إثبات الحكمة لله عز وجل في أمره ونهيه وشرعه؛ لأن الله عز وجل نهى عن اتباع خطوات الشيطان، ثم أتبع ذلك ببيان علة النهي وهو عداوته للمؤمنين.

9- قرن الحكم بعلته؛ لأن ذلك أدعى للقبول وأقوم للحجة.

10- التحذير من الزلل والميل عن الحق والعدول عنه، بعد بيانه وقيام الحجة عليه، والوعيد لمن فعل ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.

11- قيام الحجة على الخلق بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وإقامة الحجج وبيان الآيات، بما لا عذر معه لأحد من الخلق؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 165].

12- أن العقاب لا يستحقه إلا من عدل عن الحق بعد بيانه له وإقامة الحجة عليه، وهذا من كمال عدل الله عز وجل.

13- إثبات صفة العزة التامة لله عز وجل بأقسامها الثلاثة: عزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة، وعزة القوة؛ لقوله تعالى: ﴿ عَزِيزٌ ﴾.

14- أن من عدل ومال عن الحق بعد بيانه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا لكمال عزته.

15- إثبات صفة الحكم التام لله عز وجل بأقسامه الثلاثة: الحكم الكوني، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي، وإثبات صفة الحكمة البالغة لله عز وجل؛ الحكمة الغائية، والحكمة الصورية؛ لقوله تعالى: ﴿ حَكِيمٌ ﴾.

16- أن لله عز وجل الحكم التام والحكمة البالغة في إضلال من ضل من الخلق، وفي هداية من اهتدى منهم.

17- وجوب العلم بأن الله عز وجل عزيز حكيم، والحذر من عقابه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.

18- فضل العلم بالله عز وجل وصفاته وما يجب له؛ لأن ذلك سبب لتقواه والحذر من عقابه، كما قال عز وجل: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28].

19- في اجتماع كمال العزة، وكمال الحكم، وكمال الحكمة في حق الله عز وجل زيادة كماله إلى كمال، وإثبات أن له المثل الأعلى، والكمال المطلق من جميع الوجوه.

وهذا بخلاف المخلوق الضعيف الذي إن حصل له شيء من العزة والقوة غرّه ذلك غالبًا وحمله على الغشم والطيش والسفه والجهل إلا من رحم الله تعالى، وإن كان لديه شيء من الحكمة صاحب ذلك غالبًا الضعف، وقلّ أن تجتمع عند أحد من البشر هاتان الصفتان.

20- تأكيد الوعيد للذين عدلوا عن الحق بعد معرفته وتخويفهم بقرب عذابهم؛ لقوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾.

21- إنظار المكذبين، وأن الله عز وجل يمهل ولا يهمل؛ لقوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ﴾ الآية.

22- إثبات إتيان الله عز وجل يوم القيامة للفصل والقضاء بين عباده، وهو من الأفعال الاختيارية؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 22].

وهو إتيان ومجيء حقيقي يليق بجلاله وعظمته، ويجب إثباته بلا تكييف ولا تعطيل، ولا تحريف ولا تمثيل.

وفي هذا رد على من ينفي ثبوت الأفعال الاختيارية لله عز وجل من أهل التعطيل وغيرهم.

23- التنبيه على عظمة الله عز وجل وعظمة إتيانه ومجيئه؛ لقوله تعالى: ﴿ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ﴾.

24- إثبات وجود الملائكة وإتيانهم يوم القيامة يوم الفصل بين العباد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾.

25- انقضاء وانتهاء كل شيء يوم القيامة، فلا اعتذار ولا استعتاب، ومصير كل إلى مأواه، إما إلى الجنة، وإما إلى النار؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ﴾.

26- أن مرجع الأمور كلها ومردها ومصيرها إلى الله عز وجل وحده دون غيره، أمور الدنيا والآخرة، أمور الكون والشرع، والجزاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾.

27- عظمة الله عز وجل، وتمام سلطانه، وكمال ملكه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #368  
قديم 09-06-2024, 07:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 211 - 214].

قوله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.

قوله: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ «سل»: أمر من سأل يسأل، أصله «اسأل» فحذفت الهمزة تخفيفًا بعد نقل حركتها إلى السين الساكنة قبلها، ثم حذفت همزة الوصل لعدم الحاجة إليها.

والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، والسؤال لتوبيخ وتقريع بني إسرائيل على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات، وفي ذلك أيضًا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم تجاه تكذيب قومه.

والمراد بـ﴿ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ الموجودون في عهده صلى الله عليه وسلم.

و«بنو إسرائيل» هم ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، و«إسرائيل» هو يعقوب عليه السلام، والمراد بهم في الآية الموجودون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

﴿ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾ «كم»: استفهامية تفيد التكثير، أي: كم أعطيناهم من آيات كثيرة.

و«آتينا» تنصب مفعولين، الأول هنا الضمير «هم»، والمفعول الثاني محذوف، والتقدير: كم من آية بينة آتيناهموها.

وقوله: ﴿ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾: تمييز «كم».

أي: كم أعطيناهم من علامة ظاهرة، وحجة قاطعة، ودلالة واضحة على عظمة الله عز وجل، وكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ووجوب عبادته وحده، وعلى صدق رسله عليهم الصلاة والسلام فيما جاؤوا به من الآيات الشرعية في التوراة والإنجيل وغيرهما من كتبهم والتي من أعظم ما جاء فيها الشهادة بصدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وكذا الآيات الكونية كما في الآيات التسع التي أعطيها موسى عليه الصلاة والسلام وغيرها، كالعصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، والسنين، ونقص الثمرات، وانفلاق البحر وإنجائهم وإغراق آل فرعون وهم ينظرون، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى عليهم وغير ذلك.

قال تعالى: ﴿ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [النمل: 10 - 12]، وقال تعالى: ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾ [الأعراف: 133].

وكذا الآيات الكونية التي أعطيها عيسى - عليه الصلاة والسلام - كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله عز وجل وغير ذلك؛ كما قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾ [المائدة: 110، 111].

وقال تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 48، 49]، إلى غير ذلك من الآيات التي أعطاها الله لبني إسرائيل.

والمعنى: سل بني إسرائيل توبيخًا وتقريعًا وتبكيتًا لهم: ﴿ كَمْ آتَيْنَاهُمْ ﴾؛ أي: كم أعطينا أسلافهم وتناقلوه عنهم جيلًا بعد جيلٍ من الآيات والدلالات والحجج الكثيرة البينة الواضحة الكونية والشرعية، والتي هي أعظم نعم الله تعالى عليهم؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُون ﴾ [البقرة: 40]، وقال تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 47].

ومع ما آتاهم الله من الآيات البينات لم ينجع ذلك فيهم، بل كفروا بالله فبدلوا شكر نعمته عليهم بهذه الآيات كفرًا، ولهذا قال بعد ذلك:
﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾، بعد ما ذكر عز وجل كثرة ما آتاه لبني إسرائيل من الآيات البينات، والتي هي أعظم نعمة من الله عليهم، أتبع ذلك بقوله: ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ ﴾ الآية، في إشارة واضحة إلى كفرهم بنعمة الله عليهم، وعدم شكرهم لها.

قوله: ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ ﴾؛ أي: ومن يبدل نعمة الله عليه بالآيات البينات وهي النعمة الدينية التي هي أعظم نعمة من الله على العباد، والتي بها سعادتهم وفوزهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، ويبدل نعمته الدنيوية، بالكفر بها وعدم شكرها، أي: يجعل بدلها وبدل شكرها الكفر بها، وسُمي ذلك تبديلًا؛ لأن النعم إذا كُفْرِت فرّت وتبدلت، وإذا شُكرت قرّت واستمرت وزادت.

﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ ﴾، أي: من بعد وصول هذه النعمة إليه ومعرفته إياها.

والتصريح بهذا مع أن التبديل لا يتصور قبل المجيء للإشعار بأنهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها، وفي هذا تقبيح لفعلهم، وإظهار لشناعة حالهم، واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا بعد المعرفة.

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ تعليل لجواب الشرط أقيم مقامه، أي: ومن يبدل نعمة الله يعاقبه أشد عقوبة؛ لأنه شديد العقاب، ويجوز كونه هو الجواب بتقدير الضمير، أي: فإن الله شديد العقاب له.

والمعنى: فإن الله قوي الجزاء بالعقوبة والعذاب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، وقال تعالى عن قريش: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾ [إبراهيم: 28، 29].

والعقاب: الجزاء المؤلم عن خيانة وجرم وذنب، وسمي عقابًا لأنه يعقب الخيانة والجرم والذنب.

وأظهر اسم الجلالة في مقام الإضمار، فلم يقل: فإنه شديد العقاب، بل قال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ للتعظيم وتربية المهابة في النفوس، ولتكون هذه الجملة مستقلة بنفسها.

قوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.

قوله: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ «زين»: مبني لما لم يسم فاعله، وجيء به ماضيًا للدلالة على أن ذلك قد وقع وفرغ منه، والتزيين معناه التحسين والتجميل، أي: جعل الشيء حسنًا جميلًا محببًا إلى النفس.

ويجوز أن يكون الذي زين لهم ذلك هو الله تعالى كونًا وقدرًا، أي: زين الله كونًا وقدرًا للذين كفروا الحياة الدنيا، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [النمل: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 108].

ويجوز أن يكون الذي زين لهم ذلك هو الشيطان، كما قال تعالى: ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 24]، وقال تعالى عن الشيطان أنه قال: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الحجر: 39]، ولا مانع من حمل الآية على المعنيين إذ لا تنافي بينهما؛ أي: زين وحسن وحبب للذين كفروا من مشركي مكة كأبي جهل وأمثاله من صناديد قريش وغيرهم من أهل الكفر الحياة الدنيا، وما فيها من المتاع والشهوات والملذات؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].

﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ الواو: عاطفة، فالجملة معطوفة على ﴿ زُيِّنَ ﴾، ويصح كون الواو للحال؛ أي: وهم يسخرون من الذين آمنوا، كما كان المشركون يسخرون من عمار وبلال وصهيب رضي الله عنهما، وفي التعبير بالمضارع دلالة على تكرار ذلك منهم واستمراره، أي: ويجعلون الذين آمنوا محل سخرية وازدراء واستهزاء بسبب إيمانهم وإقبالهم على الآخرة وإعراضهم عن اللذات وقلة ذات يدهم، وهذا يدل على إغراق هؤلاء الكفار بالافتتان في زهرة الحياة الدنيا، وتناهيهم في الغرور؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴾ [المطففين: 29 - 32]، وكما قال تعالى عنهم: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53].

﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ الواو: عاطفة، أي: والذين اتقوا ربهم وعقابه، بفعل ما أمرهم الله به، وترك ما نهاهم عنه، وهم الذين آمنوا.

وعدل عن الإضمار إلى الإظهار، فلم يقل: وهم فوقهم، بل قال: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ ﴾؛ لئلا يُتوهم أن الضمير يرجع إلى الذين كفروا، ولبيان فضل التقوى والحض عليها، وأنها سبب فوقيتهم.

﴿ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ «فوقهم»؛ أي: أعلى منهم في المنازل والدرجات يوم القيامة، فالذين اتقوا في الغرفات في أعلى الجنة في جنات النعيم، والذين كفروا في أسفل الدركات في سواء الجحيم، المتقون في أعلى عليين، والكفار في أسفل سافلين.

كما أن المتقين فوق الكفار في الدنيا والآخرة مطلقًا في الشرف والكرامة.

﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ الرزق: العطاء، أي: والله يعطي ﴿ مَنْ يَشَاءُ ﴾ أي: من يرد كونًا إعطاءهم من فضله من الدرجات والمنازل العالية الرفيعة، التي لا نهاية لها في الدين والدنيا والآخرة.

﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾؛ أي: أنه عز وجل يعطي من يشاء العطاء الجزيل بلا محاسبة منه لهم، وأكثر مما يستحقون ولا حدَّ ولا حصر لعطائه سبحانه، فهو أكرمُ الأكرمين، وخزائنه لا تنفد؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وقال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [غافر: 40]، وقال تعالى: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أنفق يا بن آدم يُنفق عليك»[1]؛ قوله تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾.

قوله: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾؛ أي: كان الناس فيما مضى قبل بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام إليهم.

﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي: طائفة وجماعة واحدة على دين واحد، وهو التوحيد والإسلام والفطرة التي فطر الله الناس عليها، ملة أبيهم آدم، وملة إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.

وقيل: كان الناس أمة واحدة على الكفر والضلال والشقاء، ليس لهم نور ولا هدى ولا إيمان.

﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ﴾ الفاء: عاطفة، والمعطوف عليه محذوف معلوم من السياق اللاحق، أي: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا في دينهم فبعث الله النبيين، كما جاء في قراءة عبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب رضي الله عنهما: «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا...»[2]، وعليه يدل قوله تعالى في الآية: ﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾، وقوله تعالى في سورة يونس: ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [يونس: 19].

ومثل هذا في حذف المعطوف عليه، ودلالة السياق عليه قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]، «فعدة» معطوف على محذوف، والتقدير: فأفطر فعدة، أي: فأفطر فعليه عدة.

قال ابن القيم[3] في كلامه عن الآية ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾: «والمقصود أن العدو كادهم، وتلاعب بهم حتى انقسموا قسمين، كفارًا ومؤمنين، فكادهم بعبادة الأصنام، وإنكار البعث».

ومعنى ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ﴾ أي: فأرسل الله النبيين، وأولهم نوح عليه السلام، أرسلهم عز وجل رحمة منه، بالوحي من عنده إلى الناس، كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25].

و﴿ النَّبِيِّينَ ﴾ جمع نبي، وأصله نبيئ، أبدلت الهمزة ياءً تخفيفًا، مشتق من «النبأ» وهو الخبر الهام، كما قال تعالى: ﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴾ [النبأ: 1، 2]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴾ [ص: 67، 68].

وذلك لأن النبي منبأ ومخبر من الله، ومنبئ ومخبر للناس، فهو «فعيل» بمعنى «فاعل» وبمعنى «مفعول».

وهو أيضًا مشتق من النبوة، وهو المكان المرتفع؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذوو شرف ومكانة عالية عند الله وعند المؤمنين.

و«النبي» من أوحي إليه، فإن أُمر بالتبليغ فهو نبي رسول، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا.

وعدد من ذكر من الأنبياء في القرآن الكريم خمسة وعشرون، وكلهم رسل.

وعدد الرسل فيما قيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولًا، وعدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا». قلت: يا رسول الله! كم الرسل؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير»[4].

﴿ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾ حالان، أي: بعث الله النبيين حال كونهم مبشرين ومنذرين، أي: مبشرين لمن أطاعهم فاتقى الله بالسعادة في الدنيا والآخرة والجنة، ومنذرين لمن عصاهم وخالف أمر الله تعالى بالشقاء في الدنيا والآخرة والنار، كما قال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 165]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ﴾ [الكهف: 56].
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #369  
قديم 09-06-2024, 07:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله


والتبشير والإنذار يستلزمان بيان الحق من الباطل والدعوة إلى الحق والتحذير من الباطل، كما قال عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45، 46]، وقال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾ [الكهف: 1 - 4].

﴿ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ ﴾ أي: مع النبيين، أي: بصحبتهم.

﴿ الْكِتَابَ ﴾ «أل»: «للجنس» فيعم كل كتاب، أي: وأنزل معهم الكتب، فمع كل رسول كتاب، كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25].

﴿ بالحق ﴾ الباء للملابسة، أي: متلبسًا بالحق، فهو حق، ومشتمل على الحق، وطريق وصوله حق. والحق: الأمر الثابت.

﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ قرأ أبو جعفر بضم الياء وفتح الكاف «ليُحكَم»، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الكاف ﴿ لِيَحْكُمَ ﴾.

واللام للتعليل، أي: لأجل أن يحكم بين الناس، والضمير في ﴿ لِيَحْكُمَ ﴾ على قراءة الجمهور يعود إلى ﴿ الْكِتَابَ ﴾ أو إلى الله، وقيل: يعود إلى النبيين باعتبار كل فرد منهم.

﴿ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ «ما»: اسم موصول يفيد العموم، أي: في جميع الذي تنازعوا فيه من الحق في أمور الدين والدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [النمل: 64].

﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ﴾ الواو: اعتراضية، و«ما» نافية، والضمير في «فيه» وفي «أوتوه» يعود إلى الكتاب كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ [هود: 110].

﴿ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ﴾ «إلا» أداة حصر، أي: إلا الذين أعطوه من الأمم، ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ متعلق بقوله: ﴿ اختَلف ﴾؛ أي: وما اختلف فيه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا إلا الذين أوتوه.

و«ما»: مصدرية، و«البينات»: صفة لمصدر محذوف، أي: من بعد مجيء الآيات والحجج البينات، أي: الواضحات القاطعات في الدلالة على أصل الشريعة ومقاصدها التي تقتضي الاجتماع والائتلاف، ولا تحتمل التفرق ولا الاختلاف، وقيام الحجة عليهم بذلك.

وفي هذا تشنيع عليهم، فهم أسوأ حالًا من المختلفين في الحق قبل مجيء البينات، كما قال تعالى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [يونس: 93].

﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ «بغيًا»: مفعول لأجله، أي: لأجل البغي، وهو الحسد والظلم والعدوان فيما بينهم، ومن بعضهم على بعض، لا من غيرهم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [الجاثية: 17]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ [الشورى: 14].

﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ الفاء هي الفصيحة، وقيل: عاطفة.

وهداية الله تعالى تنقسم إلى قسمين: هداية البيان والإرشاد، وهذه عامة لجميع الخلق، ولا تقوم عليهم الحجة إلا بها.

وهداية التوفيق وهذه للمؤمنين خاصة، وهي خاصة بالله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56].

﴿ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ «ما»: اسم موصول يفيد العموم، وضمير الواو في ﴿ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ يعود إلى الذين أوتوا الكتاب، كما في قوله: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ﴾، أو يعود إليهم وإلى الذين اختلفوا قبل بعثة النبيين، وقبل إنزال الكتاب، أي: فهدى الله الذين آمنوا لجميع الذي اختلف فيه المختلفون من الحق.

قال ابن القيم[5]: «فأخبر سبحانه أن الذين آمنوا هدوا لما اختلف فيه أهل التأويل الباطل الذي أوقعهم في الاختلاف والتفرق».

﴿ مِنَ الْحَقِّ ﴾ بيان لـ«ما» الموصولة، أي: فهدى الذين آمنوا للحق الذي اختلفوا فيه.

﴿ بِإِذْنِهِ ﴾، أي: بأمره الكوني ومشيئته.

أي: فوفق الله الذين آمنوا لما اختُلف فيه قبل بعث النبيين وبعد بعثهم، من الحق، بإذنه الكوني والشرعي، بما جاء في القرآن والإسلام.

عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله: ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ﴾، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولًا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغدًا لليهود وبعد غد للنصارى»[6].

﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ الجملة مقررة لمضمون ما قبلها.

قوله: ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي ﴾؛ أي: يوفق، ﴿ مَنْ يَشَاءُ ﴾ أي: من يريد كونًا هدايته ممن هو أهل للهداية.

﴿ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾؛ أي: إلى طريق معتدل واضح لا اعوجاج فيه ولا التواء، وهو صراط الله، وطريق الحق والإيمان والإسلام، الذي فيه السعادة في الدنيا والآخرة، ودخول الجنة والنجاة من النار، كما قال تعالى: ﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].

وهو طريق الإيمان والإسلام، وطريق الهدى ودين الحق، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]؛ أي: بالعلم النافع والعمل الصالح.

فمن أعظم نعم الله تعالى على هذه الأمة أن هداها للصراط المستقيم الذي ضل عنه كثير من الأمم، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 4].

وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملًا يومًا إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا له إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم، وخذوا أجركم كاملًا، فأبوا وتركوا. واستأجر آخرين بعدهم، فقال لهم: أكملوا بقية يومكم هذا، ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر، قالوا: لك ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه. فقال لهم: أكملوا بقية عملكم، فإنما بقي من النهار شيء يسير، فأبوا. واستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور. فقالت اليهود والنصارى: ما لنا أكثر عملًا وأقل عطاء؟ قال: هل ظلمتكم من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء»[7].

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاءً؟ فقال: هل ظلمتكم من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء»[8].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»[9].

قوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾.

قوله: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ ﴾ «أم» هي المنقطعة التي بمعنى «بل» التي هي للإضراب الانتقالي، وهمزة الاستفهام الإنكاري، والتقدير: بل، أحسبتم. والخطاب للمؤمنين وقيل: لكل من يصلح خطابه، و﴿ حَسِبْتُمْ ﴾ بمعنى ظننتم تنصب مفعولين.

﴿ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ﴾ «أن»: مصدرية، وهي والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي «حسب»، أي: أم حسبتم دخول الجنة، أو سد مسد مفعولها الأول، والثاني: محذوف، والتقدير: أم حسبتم دخول الجنة حاصلًا.

والجنة في اللغة: البستان كثير الأشجار والثمار، سميت بذلك لأنها تجن وتستر من بداخلها.

وهي في الشرع الدار التي أعدها الله تعالى للمؤمنين والمتقين، كما قال تعالى: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21]، وقال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].

وهي جنات عدن، كما قال تعالى: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ﴾ [الرعد: 23]، وهي دار السلام، كما قال تعالى: ﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 127]، فيها من ألوان النعيم ما لا يعلمه إلا الله؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17] »[10].

﴿ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ ﴾ الواو للحال، أي: والحال أنه لما يأتكم، و«لما»: حرف نفي وجزم وقلب، مثل: «لم».

والفرق بينهما أن «لم» للنفي مع عدم ترقب السامع حصول الفعل المنفي، و«لما» للنفي مع ترقب السامع حصول الفعل المنفي، فيكون النفي بها نفيًا لحصول قريب، كما قال النابغة الذبياني[11]:
أَزِفَ الترحّل غير أن ركابنا
لما تزُل برحالنا وكأن قد




أي: وكأنه قد زالت، فقولك: «لم ينزل المطر» نفي لنزول المطر دون توقع نزوله، وقولك: «لما ينزل المطر» نفي لنزول المطر مع توقع نزوله.

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ «مثل» فاعل «يأتكم»، ومعنى «مثل» أي: صفة وشبه وسنن.

﴿ خَلَوْا ﴾؛ أي: مضوا ﴿ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ تأكيد لـ«خلوا»، أي: ولما يأتكم صفة وشبه الذين مضوا من قبلكم من الرسل وأممهم، أي: صفة ما حصل لهم من الابتلاء في الدين، كما قال تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3].

وقال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]، وقال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 16].

﴿ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾ استئناف، فيه بيان وتفسير لقوله: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾.

ومعنى ﴿ مَسَّتْهُمُ ﴾: أصابتهم إصابة مباشرة، وحلت بهم.

﴿ الْبَأْسَاءُ ﴾ البؤس والفقر الشديد، وهذه مصيبة في الأموال، ﴿ وَالضَّرَّاءُ ﴾ الضر والمرض والسقم والألم، ونحو ذلك، وهذه مصيبة في الأبدان.

﴿ وَزُلْزِلُوا ﴾ الزلزلة والزلزال: الاضطراب وعدم الثبات، وهو نوعان: زلزال حسي يقع على الأرض فيجعلها تتحرك وتضطرب فيدمر كل ما عليها.

وزلزال معنوي يقع على القلوب وهو أشد وأنكى.

وهو المراد هنا، أي: وزلزلوا في قلوبهم، أي: أزعجوا بالمخاوف والفتن، من القتل والنفي وسلب الأموال ونحو ذلك، وهذه مصيبة في الأنفس والقلوب.

وهكذا لقي المسلمون في صدر الإسلام في مكة من أذى المشركين البأساء والضراء وأخرجوا من ديارهم ولقوا أذى اليهود لهم في المدينة بعد هجرتهم.

عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه، فيخلص إلى قدميه، لا يصرفه ذلك عن دينه»، ثم قال: «والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون»[12].

وهكذا حصل لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، كما قال تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11].

ولهذا روي أن هذه الآية: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ ﴾ نزلت يوم الأحزاب[13].

﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ﴾ «حتى»: للغاية، أي: بلغت بهم البأساء والضراء والزلزلة إلى غاية يقول عندها الرسول والذين آمنوا معه: ﴿ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾.

قرأ نافع «يقولُ» بالرفع على إلغاء عمل «حتى»، وقرأ الباقون ﴿ يَقُولَ ﴾ بالنصب على إعمال «حتى»، وإنما عملت هنا مع أنه حكاية عن شيء مضى، وهي لا تعمل إلا في المستقبل على حكاية الحال الماضية فصار «يقول» مستقبلًا بالنسبة لقوله: ﴿ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا ﴾.

وجاء التعبير بالمضارع مع أن الآية تخبر عن حال من قد مضوا؛ لإنذار المخاطبين أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم.

﴿ الرَّسُولُ ﴾ «ال» يحتمل أن تكون للعهد، أي: رسول الذين مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، ويحتمل أن تكون للاستغراق، أي: رسول كل أمة حصل لهم ذلك، وهذا أقرب. أي: حتى يقول الرسول، والذي هو أعرف الناس بالله، وأوثقهم بنصره وأعظمهم صبرًا.

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ «الذين»: معطوف على «الرسول»؛ أي: ويقول الذين آمنوا.

﴿ مَعَهُ ﴾ أي: معه في هذه المقالة، ومعه في الإيمان بالله والثقة بوعده ونصره، وأكرم بها من معية.

﴿ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾ جملة مقول القول، و«متى» للاستفهام، استبطاءً للنصر واستعجالًا، وطلبًا له واستفتاحًا، أي: متى يأتي نصر الله، كما في حديث خباب رضي الله عنه: «قلنا يا رسول الله: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا».

﴿ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾: الجملة خبرية مؤكدة بأداة التنبيه: «ألا»، و«إنَّ»، يحتمل أن تكون جوابًا لقول الرسول والذين آمنوا معه: ﴿ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾، ويحتمل كون الجملة استئنافية، يخبر الله عز وجل بها عن قرب نصره لأوليائه عند كل شدة وضيق.

وكلا الاحتمالين صحيح، فنصر الله قريب من المؤمنين، مما يوجب التعلق به عز وجل والثقة بوعده ونصره، كما قال تعالى: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6].

[1] أخرجه البخاري في النفقات (5352)، ومسلم في الزكاة (993)، والترمذي في التفسير (3045)، وابن ماجه في المقدمة (197) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] أخرجهما عنهما الطبري في «جامع البيان» (3/ 624)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 376).

[3] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 390).

[4] ذكره ابن كثير في «تفسيره» (2/ 422 – 426) من رواية ابن مردويه ومن رواية الآجري، وأخرجه أحمد (265 – 266) من حديث طويل عن أبي أمامة رضي الله عنه، وفيه: «عدد الرسل ثلاثمائة وخمسة عشر جمًا غفيرًا»، والحديث ضعيف عند عامة أهل العلم من حديث أبي ذر وأبي أمامة رضي الله عنهما.

[5] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 39).

[6] أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق فيما ذكر ابن كثير في «تفسيره» (1/ 365)، والحديث بدون ذكر الآية، أخرجه مرفوعًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري في الجمعة (876)، ومسلم في الجمعة (855)، والنسائي في الجمعة (1367).

[7] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (558).

[8] أخرجه البخاري في الإجارة، الإجارة إلى نصف النهار (2269)، والترمذي في الأمثال (2871)، وأحمد (2/ 6، 11).

[9] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (770)، وأبو داود في الصلاة (767)، والنسائي في قيام الليل (1625)، والترمذي في الدعوات (3420)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1357).

[10] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3244)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824)، والترمذي في التفسير (3197)، وابن ماجه في الزهد (4328).

[11] انظر: «ديوانه» (ص89).

[12] أخرجه البخاري في المناقب (3852)، وأبو داود في الجهاد (2649).

[13] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 637).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #370  
قديم 09-06-2024, 07:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,297
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾


قوله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 211 - 214].

1- كثرة ما أعطاه الله تعالى لبني إسرائيل من الآيات البينات الشرعية والكونية الدالة على عظمته وكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وصدق رسله، إقامةً للحجة عليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾، وأن النعمة على السابقين منهم نعمة على اللاحقين.

2- تقريع وتوبيخ وتبكيت بني إسرائيل الموجودين في عهده صلى الله عليه وسلم بسؤالهم كم آتاهم الله هم وأسلافهم من الآيات البينة والنعم العظيمة، فلم ينجع ذلك فيهم، بل كفروا وبدلوا نعمة الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.

3- تحذير بني إسرائيل في عهده صلى الله عليه وسلم وغيرهم من تبديل نعمة الله تعالى بما أعطاهم من الآيات البينات بالكفر بها وعدم شكرها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.

4- تسلية النبي صلى الله عليه وسلم تجاه تكذيب قومه مع ما جاءهم به من الآيات البينات.

5- أن أعظم نعمة أنعم الله تعالى بها على الخلق إعطاؤهم الآيات البينة في نفسها المبينة للحق من الباطل، والهدى من الضلال، والحلال من الحرام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ ﴾.

6- شدة عقاب الله والوعيد بذلك لمن بدل نعمة الله وكفر بآياته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.

7- تمام عدل الله عز وجل وحكته، فلا يعاقب أحدًا من الخلق إلا بعد بيان الحق له بالآيات البينات وكفره بها، وتبديل نعمة الله بعد ما جاءته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.

8- تزيين الحياة الدنيا للكفار واغترارهم بزخرفها، وانشغالهم بها عن الآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾، وهذا يحتمل أن الله تعالى زين لهم ذلك كونًا وقدرًا، إذ لا شيء يحصل في الكون بلا تقديره، وليس في هذا حجة؛ لأنه لا يحتج بالقدر على المعاصي.
ويحتمل أن الذي زين لهم ذلك هو الشيطان بوسوسته، وتسويله لهم، وفي هذا ما يوجب الحذر منه، ومن الاغترار بالدنيا.

9- عدم اغترار المؤمنين بالحياة الدنيا وزخرفها لمفهوم قوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ، وذلك لعلم المؤمنين بدناءتها وحقارتها، كما أخبر الله عنها في كتابه، ووصفها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.

10- دأب الذين كفروا واستمرارهم على السخرية والاستهزاء بالمؤمنين والازدراء لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، وفي هذا مع بيان أذيتهم للمؤمنين تثبيت قلوب المؤمنين تجاه ذلك.

11- تسلية المؤمنين تجاه سخرية الكفار منهم في الدنيا، ببيان فوقيتهم على الكفار يوم القيامة، فهم في أعلى الدرجات، والكفار في أسفل الدركات، والعاقبة للمتقين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾، وفي هذا تبكيت للكافرين.

12- أن الجزاء من جنس العمل، فحيث يسخر الكفار من المؤمنين ويتعاظمون عليهم في الدنيا يجعل الله عز وجل الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة؛ مجازاةً وإرغامًا لهم، كما أنهم فوقهم في الشرف والكرامة في الدنيا والآخرة، وقد قال الله عز وجل للمؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ﴾ [الحجرات: 11].

13- في الإظهار مكان الإضمار، وفي التعبير بالتقوى بدل الإيمان في قوله: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ﴾ تنبيه على فضل التقوى ومكانتها، وأنها سبب فوقية المؤمنين ورفعة منازلهم وعلو درجاتهم.

14- أن الله عز وجل يرزق بفضله من يشاء من عباده، ويعطيهم العطاء الجزيل من المنازل والدرجات والخير الكثير الذي لا نهاية له في الدين والدنيا والآخرة بلا حساب ولا عد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]، وقال تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245].

وقال صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»[1].

15- إثبات الأفعال الاختيارية لله عز وجل المتعلقة بمشيئته، كالرزق والإحياء والإماتة، وغير ذلك، وكل ما يقع في الكون من حركة وسكون وغير ذلك إنما هو بمشيئة الله تعالى، أي: بإرادته الكونية.

16- أن الناس في أول الأمر كانوا أمة واحدة على الفطرة ودين الإسلام الذي دان به أبوهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لقوله تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾.

17- أن الاختلاف أمر طرأ على الناس، بعد أن كانوا أمة واحدة على دين واحد؛ لقوله تعالى: ﴿ اخْتَلَفُوا﴾، ولا يزال ذلك إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 118، 119].

18- أن سبب بعث النبيين ما وقع بين الناس من اختلاف في الدين؛ لقوله تعالى: ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ رحمةً منه تعالى للناس وإعذارًا لهم.

19- أن الحكمة من بعث الأنبياء والرسل هي التبشير والإنذار؛ لقوله تعالى: ﴿ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾، وهذا يستلزم بيان الحق والدعوة إليه، وبيان الباطل والتحذير منه.

20- إثبات علو الله عز وجل على خلقه بذاته وصفاته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾، والإنزال يكون من أعلى إلى أسفل.

21- أن الكتب السماوية منزلة من عند الله عز وجل غير مخلوقة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ﴾.

22- نزول كتب الله عز وجل بالحق، ووصولها بالحق، واشتمالها على الحق؛ لقوله تعالى: ﴿ بالحق ﴾.

23- أن الله عز وجل إنما أنزل الكتب ليُحْكم بها ويتحاكم إليها عند الاختلاف والنزاع؛ لقوله تعالى: ﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾، أي: ليحكم الكتاب أو الرسول بهذا الكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه، إلى أن صار الحكم على جميع الكتب السماوية وبين الناس كلهم لخاتم كتب الله عز وجل القرآن الكريم المهيمن عليها، والناسخ لها، فبالرجوع إلى القرآن والسنة يحصل الاجتماع والائتلاف، وتزول الفرقة والاختلاف.

24- أن الذين اختلفوا في الكتاب هم الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾.

25- التوبيخ لهؤلاء الذين اختلفوا في الكتاب؛ لأنهم اختلفوا فيه بعد إيتائه لهم ومجيء البينات إليهم بسبب البغي والظلم والحسد بينهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾.

26- وجوب الحذر من البغي والظلم والحسد؛ لأن ذلك سبب للاختلاف في الحق، وعدم قبوله بعد بيانه.

27- أن الاختلاف شر يجيب الحذر منه، وخاصة الاختلاف في الدين، لما له من أثر في تفريق وحدة الأمة وبعدها عن الحق، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105].

28- توفيق الله عز وجل للمؤمنين وهدايته لهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بإذنه ﴾.

29- أن الإيمان سبب للهداية للحق، وذلك لما يتضمنه الإيمان من صدق صاحبه في طلب الحق، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17].

30- أن هداية التوفيق بيد الله عز وجل وبإذنه الكوني، ولعباده المؤمنين خاصة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾.
ولهذا ينبغي سؤال الله عز وجل وحده الهداية إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.

31- إثبات إذن الله عز وجل الكوني والشرعي؛ لقوله تعالى: ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ أي: بإذنه وأمره الكوني والشرعي.

32- إثبات أفعال الله الاختيارية لقوله تعالى: ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ﴾، وقوله: ﴿ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾، وقوله: ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾.

33- إثبات المشيئة لله عز وجل، وهي الإرادة الكونية المتعلقة بأفعاله الاختيارية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾.

34- أن ما جاء به الشرع هو الحق والصراط المستقيم، وما سواه فباطل معوج؛ لقوله تعالى: ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾.

35- أن الابتلاء في الدين سنة من سنن الله عز وجل يختبر الله به العباد ليتبين الصادق الصابر من غيره؛ لقوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].

36- تقوية قلوب المؤمنين أمام الابتلاء في الدين وتسليتهم بذكر ما وقع لغيرهم من الأمم الخالية، كما قال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].

37- إثبات الجنة وأنها غالية الثمن، تحتاج إلى مجاهدة وصبر على ما يصيب المؤمن من الابتلاء في ذات الله تعالى.

ولهذا لما سأل هرقل أبا سفيان: «هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال: سجالًا، يدال علينا وندال عليه، قال: كذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة»[2].

38- أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما صدقته الأعمال، وطريق الجنة ليس مفروشًا بالورود والرياحين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «وحفت الجنة بالمكاره»[3].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة»[4]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاءً الأمثل فالأمثل»[5].

وقد أحسن القائل:

فدرب الصاعدين كما علمتم
به الأشواك تكثر لا الورود[6]




وقال الآخر:
ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر




39- أن النصر بيد الله عز وجل يجب أن يطلب منه وحده، كما هو دأب الرسل والمؤمنين معهم؛ لقوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾.

40- جواز استعجال النصر إذا كان ذلك على سبيل الدعاء بتعجيل النصر مع الثقة بوعد الله عز وجل وترقبه والتطلع إليه، لا على سبيل الشك، أو اليأس من نصر الله.

41-البشارة للمؤمنين بقرب نصر الله عز وجل لهم مما يقوي عزائمهم، ويثبت قلوبهم، ويجعلهم يترقبون النصر ولا يستبطئونه؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾.
وفي هذا بشارة لهم بفتح مكة ونصرهم على أعدائهم.

42- حسن عاقبة الصبر، وأن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرًا، وأن العاقبة للتقوى.

43- قدرة الله عز وجل التامة على نصر أوليائه وعلى كل شيء، وحكمته البالغة في عدم مبادرتهم بالنصر ليتطلعوا إليه ويصدقوا في بذل أسبابه.


[1] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151)، وأبو داود في الصوم (2363)، والنسائي في الصيام (2215)، والترمذي في الصوم (764)، وابن ماجه في الصيام (1638) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2804)، ومسلم في الجهاد والسير (1773) من حديث عبد الله بن عباس عن أبي سفيان رضي الله عنهم.

[3] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2823)، والترمذي في صفة الجنة (2559) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[4] أخرجه الترمذي في الزهد (2399)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: «حديث حسن صحيح».

[5] أخرجه الترمذي في الزهد (2398)، وابن ماجه في الفتن (4023) من حديث مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

[6] هذا البيت للشاعر العراقي وليد الأعظمي في «ديوان الزوابع». انظر «الأعمال الشعرية الكاملة» (ص85).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 322.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 316.97 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.81%)]