|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#361
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (335) صـــــ(1) إلى صــ(11) شرح زاد المستقنع - باب الحجر [5] من حجر عليه لأجل مصلحة نفسه، فإنه لا يفك الحجر عنه إلا إذا تحقق أنه يستطيع أن يرعى مصلحة نفسه، ولهذا جعلت الشريعة علامات وأمارات تدل على أن المحجور عليه قد صار أهلاً لتحمل المسئولية، وبثبوت تحقق هذه العلامات يفك الحجر عنه وإلا فلا العلامات الموجبة لرفع الحجر عن الصغير والمجنون والسفيه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن تم لصغير خمس عشرة سنة] ذكرنا غير مرة أن الفقهاء يرتبون المسائل والأحكام، ويراعون الترتيب أو التسلسل المنطقي. فأنت إذا حكمت بالحجر على السفيه والصبي والمجنون وبيّنت الأثر المترتب على الحجر يرد السؤال متى يفك الحجر عنهم؟ فشرع في هذه الجملة في بيان متى يفك الحجر؟ وهذا كمنهج القرآن في آية النساء فإن الله عز وجل قال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وهذه الآية تشمل الصبي بنوعيه: اليتيم وغير اليتيم، وتشمل كذلك المجنون والسفيه ثم قال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فذكر فك الحجر عنهم. فعندنا ثلاثة جوانب ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لها: - إثبات الحجر. - والأثر المترتب على الحجر. - وفك الحجر. فهذه هي الثلاث المراحل في باب الحجر: المرحلة الأولى: من الذي يحجر عليه، وما هي الأمور الموجبة للحجر؟ المرحلة الثانية: إذا حكمنا بالحجر لسبب السفه والصبا والجنون، فما الذي يترتب عليه؟ ذكرنا أن الذي يتعامل معهم إما أن يعلم وإما ألا يعلم، فإن علم فوجود العقد وعدمه على حد سواء فيجب رد عين المبيع، وإذا حصل فيه نقص فإنه يرد بحاله ولا يضمنه، وأما إذا كان لا يعلم فإنه يضمن على الأصل الشرعي. المرحلة الثالثة: متى يُفك عنهم الحجر؟ فقال رحمه الله: (وإن تم لصغير) هناك أمران لا بد من توفرهما في الصغير: البلوغ والرشد. فلا بد أن يبلغ وأن يكون رشيداً، فهاتان علامتان متى ما وجدتا حُكم بفك الحجر عن الصبي واليتيم، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فذكر علامتين: - العلامة الأولى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] أي: وصلوا سن النكاح، وهو قريب من طور الحلم. - وأما العلامة الثانية: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] فعلق الحكم {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ} [النساء:6] وجاء مرتباً على شرطين: البلوغ والرشد. فقد يبلغ الصبي وهو سفيه أو وهو مجنون، فلابد من بلوغه ووجود الرشد فيه. وبعض الأطفال وبعض الصغار من نعم الله عز وجل عليه أنه ربما أعطي من الذكاء والفطنة وحسن النظر ما يسبق بلوغه، فإذا أعطي المال وحصلت عنده خبرة ودربة على التعامل خاصة أبناء التجار، كما في القديم حيث كان أبناء التجار هم الذين يتولون بأنفسهم المعاملات، وكان آباؤهم يعودونهم على ذلك، فهذا التعوّد ربما يكسب الصبي من الفطنة ما يقارب البلوغ ويكون في حكم الفطين البالغ، فالله عز وجل اشترط شرطين قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] فلو أنه كان رشيداً قبل البلوغ لم ينفعه. ولو أنه بلغ غير رشيد لم ينفعه، فلا بد من وجود العلامتين: البلوغ والرشد علامات البلوغ فأما البلوغ فللعلماء فيه وجهان: بعضهم يقول: ينبغي أن يختبر قبل البلوغ، أي: عند بلوغه ومقاربته له. وبعضهم يقول: يختبر بعد البلوغ. فيرد السؤال ما هو البلوغ؟ وما هي علامات البلوغ؟ هناك علامات تتعلق بالرجال، وهناك علامات تتعلق بالنساء، وهناك علامات تتعلق بالجميع، ولذلك العلماء -رحمهم الله- يقولون: إن علامات البلوغ منها الخاص ومنها المشترك. فأما بالنسبة للخاص فهو أقوى ما يكون في النساء، فهناك الحيض والحمل بالنسبة للمرأة، فإذا حاضت المرأة أو حملت حُكم ببلوغها وبلوغ زوجها، إن كان الحمل من زوج هي تحت عصمته؛ لأن الله يقول: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:7]. وعلى القول بأنه يخرج الطفل من بين صلب المرأة وتريبتها فإننا نستدل بآية: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2]، حيث جعل الخلق في آية الإنسان من الخليط بين ماء الرجل وماء المرأة؛ فأثبت أن الخلق منهما معاً، فدل على أنه كما يحكم بالبلوغ للرجل يحكم بالبلوغ للمرأة. فإذا حملت المرأة حُكم ببلوغها، وكذلك إذا حاضت حُكم ببلوغها، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) فقوله: (لا يقبل الله صلاة حائض) أي: مكلفة بلغت سن المحيض وحاضت، وليس المراد (لا يقبل الله صلاة حائض) أي: أنها تكون حائضاً أثناء الصلاة؛ لأن الحائض لا تصلي. فمراده بوصفها بكونها حائضاً أي: بالغة، وهذا كما درج عليه الأئمة، وفسروا به هذا الحديث. فدل على أن الحيض والحمل -وهذا بإجماع العلماء- يعتبر من علامات البلوغ عند المرأة. وأما العلامات الخاصة بالرجال فليس هناك إلا إنبات الشعر في اللحية والوجه على القول بأن الإنبات عام وليس بخاص بالعانة، وهذا فيه نظر أقوال العلماء في السن المعتبرة للبلوغ قال المصنف رحمه الله: [وإن تم لصغير خمس عشرة سنة] علامات البلوغ منها علامة السن، واختلف العلماء رحمهم الله فيها على قولين: جمهور العلماء على أن السن علامة من علامات البلوغ، وأن للبلوغ سناً إذا وصل إليه الصبي حكم بكونه بالغاً إذا لم ير علامة البلوغ قبله، أما لو رؤيت علامة البلوغ قبل خمس عشرة سنة فلا إشكال، كصبي أنزل المني وعمره أربع عشرة سنة أو عمره ثلاث عشرة سنة، أو امرأة حاضت وعمرها عشر سنوات فإنها بالغة. فإذا قلنا: إن خمس عشرة سنة هي علامة البلوغ لمن لم تظهر منه علامة البلوغ قبل هذا السن، فجمهور العلماء على أن هناك سناً معيناً إذا وصل إليه الصبي أو وصلت إليها الصبية حكم ببلوغ كل منهما، وإن لم تظهر علامات البلوغ قبل ذلك، وخالف الظاهرية في ذلك. واستدل الجمهور، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر السِنّ علامة للبلوغ كما ثبت عنه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (عُرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني -يعني للقتال- وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) هذه هي الرواية التي في صحيح مسلم: (عرضت عليه يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) لكن في رواية البيهقي يقول: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، ولم يرني قد بلغت، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني ورأى أني بلغت). فدل هذا على أن الخمس عشرة سنة فاصل بين البالغ وغير البالغ. وعلى هذا قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر السن علامة للبلوغ. وقال الظاهرية: ليس السن بعلامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم: (الصبي حتى يحتلم) فقالوا: ليس عندنا علامة إلا الاحتلام فقط، وهو إنزال المني كما سيأتي. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور أن السن علامة يُستدل بها على البلوغ. و السؤال ما هي السن المعتبرة للبلوغ؟ فذهب الحنفية إلى التفريق بين الرجل وبين المرأة، فعند الحنفية أن المرأة إذا بلغت سبع عشرة سنة حكم ببلوغها، والرجل إذا بلغ ثماني عشرة سنة، ولا يحكم بالبلوغ قبل ذلك إذا لم تظهر العلامات؛ قالوا: لأن المرأة فيها من شدة الشهوة والطبيعة والغريزة ما يجعل بلوغها أبكر من الرجل، وهذا معلوم: أن النساء في البلوغ أعجل من الرجال. فقالوا: نفرق بينهم بسنة وحول كامل، ووافقهم المالكية، فقالوا: ثماني عشرة سنة هي البلوغ، ودليلهم الإجماع؛ لأن أقصى سن اعتد به: ثماني عشرة سنة، إلا طائفة من الظاهرية يقولون: إحدى وعشرين سنة؛ لأنه يصير فيها جداً على مسألة الشافعي رحمه الله حيث يقول: أعجل من رأيت في الحيض نساء تهامة، رأيت ابنة إحدى وعشرين سنة وهي جدة. تكون تزوجت وعمرها تسع سنوات، وأنجبت في العاشرة، ثم هذه التي أنجبتها مرت عليها تسع سنوات أخرى، فيصبح عمر الأم تسع عشرة سنة والبنت تسع سنوات، فزوجت كأمها وهي بنت تسع، فحملت وأنجبت على العشرين، فتدخل في الواحد والعشرين وهي جدة. فقال: أعجل من رأيت في الحيض نساء تهامة، رأيت جدة ابنة إحدى وعشرين سنة. فالإمام ابن حزم رحمه الله يقول: هذا أقصى شيء، فأنا آخذ باليقين، فيكون هو السن الذي يعتبر للبلوغ، لكن بالنسبة لجماهير العلماء يكاد يكون شبه إجماع على أنه ثماني عشرة سنة، والمالكية والحنفية يقولون: أقصى سن ثماني عشرة سنة وما وراءها متفق على أنه بلوغ، والخلاف فيما قبله، واليقين أنه صبي فنبقى على اليقين. هذا بالنسبة لدليل من يقول: إنها ثماني عشرة سنة، ولذلك المالكية يقولون: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولاً ظهر هذا بالنسبة للمالكية حيث لا يفرقون بين الرجال والنساء. والصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد والشافعي وطائفة من أهل الحديث -رحمة الله على الجميع- من أن خمس عشرة سنة هي السن التي يفرق فيها ويحكم فيها بالبلوغ، وأنه إذا بلغ الصبي أو الصبية خمس عشرة سنة ولم ير علامة البلوغ قبل ذلك؛ فإنه يُحكم ببلوغهم بخمس عشرة سنة للحديث الذي ذكرناه، فإنه نص في موضع النزاع. ولذلك لما بلغت هذه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله برحمته الواسعة- كتب إلى الآفاق: انظروا فمن وجدتموه قد بلغ خمس عشرة سنة؛ فاضربوا عليه الجزية. فعده بالغاً. وعلى هذا نقول: سن البلوغ خمس عشرة سنة، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة، فالجارية إذا بلغت خمس عشرة سنة ولم تحض ولم تحمل ولم تُنبت ولم تُنزل نحكم بكونها بالغة اختلاف العلماء في اعتبار الإنبات من علامات البلوغ قال رحمه الله: [أو نبت حول قبله شعر خشن] العلامة الثانية: الإنبات، والإنبات المراد به نبات الشعر، فيعرف بلوغ الرجل وبلوغ المرأة إذا نبت الشعر حول العانة، ويكون حول القبل، والشعر ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الشعر الضعيف الذي يكون عند أول الخلق، وهذا الذي تسميه العرب بالزغب، فمثله لا يحكم فيه بالبلوغ، حتى أجاز العلماء رحمهم الله حلقه وجزه إن كان في الوجه؛ لأنه ليس بشعر لحية ولا يعد من اللحية. وأما القسم الثاني من الشعر: فهو الشعر الشديد الخشن، ولذلك يعبر بعض العلماء فيقول: أن ينبت الشعر الخشن. التفاتاً وتنبيهاً على المؤثر، فإذا نبت الشعر الخشن حول القبل وحول العانة -وهي أسفل السُرة فيما بينها وبين القبل- حكم ببلوغه وبلوغها. وهذه العلامة اختلف فيها العلماء رحمهم الله، فالجمهور على أن الإنبات علامة، ودليلهم حديث محمد بن كعب القرظي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حَكَّم سعداً رضي الله عنه في بني قريظة حكم سعد فقال: (أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم). فلما حكم فيهم بهذا الحكم قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لقد حكمت فيهم بحكم الجبار من فوق سبع سموات) فأصاب رضي الله عنه الحق والصواب. فحكم أن تقتل مقاتلتهم، والمقاتل هو البالغ، وقوله: (وأن تسبى ذراريهم)، أي: الذين هم صغار ودون البلوغ، ويشمل ذلك أيضاً النساء، فلما حكم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم؛ قال محمد بن كعب: (فكانوا من وجدوه أنبت قتلوه، ومن لم ينبت تركوه، فوجدوني لم أنبت، فجعلوني في الذرية). وحديث محمد بن كعب القرظي حديث صحيح، وفيه دليل على قتل المقاتل البالغ، ففرقوا بين البالغ وغير البالغ بالإنبات. فدل على أن إنبات الشعر في هذا الموضع يعد علامة على البلوغ، وأن من نبت شعره في هذا الموضع يؤاخذ وتسري عليه أحكام البالغ. وهذا هو الصحيح، وخالف بعض العلماء فقال: إن الإنبات ليس بدليل، وهذا ضعيف، ولكن السنة قوية في دلالتها على أن الإنبات علامة من علامات البلوغ. ثم اختلفوا: هل يختص بشعر العانة أو يشمل أيضاً شعر الإبطين وشعر اللحية والوجه، فقال بعضهم بالتعميم، وقال بعضهم بالتخصيص، لكن الأقوى أن يخصص ذلك بشعر القبل، فإذا نبت هذا النوع من الشعر حكم ببلوغه إنزال المني علامة من علامات بلوغ الصغير قال رحمه الله: [أو أنزل] وهذا النوع من العلامات مجمع عليه، والإنزال علامة مشتركة إضافة إلى علامتي السن والإنبات، فإذا بلغت المرأة خمس عشرة سنة حكمنا ببلوغها، ولو بلغ الصبي خمس عشرة سنة حكمنا ببلوغه، فلا يختص ذلك بالرجال دون النساء ولا العكس. كذلك أيضاً الإنبات يشمل الرجال والنساء، وكذلك أيضاً الاحتلام وهو خروج المني سواءً في اليقظة أو المنام، فإن خرج حكمنا ببلوغ الشخص، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم) وهذا العلامة مُجمع عليها. هذا بالنسبة للصبي، فإذا ظهرت أحد هذه العلامات حكمنا ببلوغه، ويضاف إليها ظهور الرشد متى ما بلغ الصبي الرشد والعقل من علامات فك الحجر عن المجنون قال رحمه الله: [أو عقل مجنون ورشد]. هنا تنتبهون إلى دقة المصنف، فالمصنف رحمه الله ذكر علامة البلوغ، ثم أضاف إليها العقل للمجنون، وكأنه ينبه إلى أن البلوغ وحده لا يكفي بل لا بد أن يبلغ عاقلاً؛ لأنه ربما بلغ اليتيم مجنوناً -نسأل الله العافية والسلامة- أو يبلغ ما عنده عقل، فحينئذٍ لا يؤثر البلوغ، فقرن البلوغ بالعقل، ثم قرن كلاً منهما بالرشد، وهذا من دقته رحمة الله عليه، فلابد عندنا بالنسبة للصبي من أن يبلغ ويكون عنده عقل ورشد. وبعض العلماء يقول: يبلغ ويرشد؛ لأن الرشد يستلزم العقل فيكتفي بالعلامتين، لكن المصنف أدخلهما في بعضهما حتى لا يكرر. ف السؤال متى نفك الحجر عن الصبي؟ ومتى نفك الحجر عن المجنون؟ ومتى نفك الحجر عن السفيه؟ هذه هي الجمل الآن. بينّا أن الصبي لا بد أن يبلغ، وذكرنا علامات البلوغ ويكون عند بلوغه عاقلاً راشداً. ومعلوم أن الرشد يستعمل في الدلالة على معانٍ، فتارة يقصد منه رشد الدين وتارة يقصد منه رشد الدنيا. فيقال: فلان رشيد، إذا كان على صلاح وخير، ومنه قوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] فالرشد وسبيل الرشد سبيل الحق والصواب والهدى، فهذا استعمال الرشد بمعنى الخير والسداد. ويستعمل الرشد بمعنى: حسن النظر في أمور الدنيا، وقد أشار الله إليه بقوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فالرشد المراد به هنا أن يكون رشيداً يحسن التصرف في ماله. وبناءً على ذلك: إذا بلغ الصبي فيجب على الولي أن يختبره لكي يكتشف العلامة الثانية وهي الرشد. والرشد في الصبيان يختلف على حسب اختلاف المحجور عليهم من الصبيان، فهناك رشد يتعلق بالنساء، وهناك رشد يتعلق بالرجال، فولي اليتيم يعطي اليتيم مالاً معيناً عند البلوغ أو مقاربة البلوغ يختبره به في تصرفه. فمثلاً: إذا كان هناك عيد أو كانت هناك مناسبة واحتاج الصبي أن يشتري ثوباً أو حذاءً أو نحو ذلك فإنه يعطيه مالاً، ويقول له: اذهب واشتر لنفسك؛ ولا يحدد له ما الذي يشتري، ويعطيه مالاً معيناً يكون بمثابة الاختبار. مثلاً: يمكن أن يشتري الحذاء بعشرة، فيعطيه خمسة عشر ريالاً حتى ينظر كيف يتصرف؛ لأنه لو لم يعطه إلا عشرة فسيشتري الذي قيمته عشرة، فيعطيه بطريقة ليس فيها ضرر من كل وجه على ماله؛ لأن هذا محتاج إليه. فيعطيه مثلاً -اثني عشر ريالاً- أو ثلاثة عشر ريالاً بحيث يكون هناك سلعة بهذه القيمة وأقل، فينظر كيف يشتري؟ وقال بعض العلماء: بل يعطيه نفس القيمة، والسبب في هذا: أنه إذا أعطي نفس القيمة فسينظر هل يستطيع أن يكاسر البائع ويرغم البائع ويدفع إغراء البائع به، فإذا اشتراها بعشرة علمنا بأنه رشيد، وإن ألح عليه البائع لكي يختله ويضر به، فجاء يشتكي ويقول: ما وجدت أحداً يبيعني بعشرة، أو لا أشتري بأكثر من عشرة، علم رشده، وإن جاء يقول: لا، سأشتريها بخمسة عشر، علم سفهه. والصحيح والأقوى: الأول، أنه يعطيه ويستفضل قليلاً؛ لكي ينظر كيف يحافظ على ماله، هذا بالنسبة للرجل، فيُختبر في شراء الأشياء التي تتعلق بالرجال كالملابس ونحو ذلك، أما المرأة فقد كانوا في القديم يختبرون النساء بما يصلح شأنهن، أو بما يكون خاصاً بهن من أمور الغزل وشراء الملبوسات ونحو ذلك، فإذا جاءت مناسبة أعطاها مالاً، ثم وكل إليها أن تشتري بهذا المال، فإذا ذهبت تشتري ثيابها واشترت بسفه؛ استمر الحجر عليها، وإن اشترت برشد؛ رفع يده عنها. ويكرر هذا مرتين أو ثلاثاً، وأقل شيء يضمن به أنه مصيب: ثلاث مرات، فقد يعطي مرة ويشاء الله أن تلك المرة يظهر له فيها أنها راشدة وربما تكون رمية من غير رامٍ، فيكرر مرتين وثلاثاً حتى يتأكد. وقال بعض العلماء: أحب أن ينوِّع، فتارة يعطيه ليشتري حذاءً، وتارة يعطيه ليشتري طعاماً، وتارة يعطيه ليشتري كتاباً أو قلماً، أو نحو ذلك، فيختبره بأنواع متعددة حتى يستمرئ التعامل مع الناس ويُكشف على حقيقته. وهذا لا شك أنه أبلغ في الاحتياط، وظاهر القرآن يدل عليه؛ لأن الله يقول: {وَابْتَلُوا} [النساء:6] والابتلاء: الاختبار كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] أي: يختبركم. وعلى هذا: لا بد وأن يختبر ويكرر عليه الاختبار حتى يثبت رشده في الشراء والبيع. أيضاً مما يشمله الاختبار: أن تختبر الصبية والصبي بالبيع، فكما يختبر بالشراء يختبر بالبيع، فيعطى الصبي شيئاً يبيعه إذا كان أهلاً للبيع، فيقال له: خذ هذه السلعة وبعها في السوق، ويترك له الأمر ولا يحدد له قيمة، وإنما يقال له: بعها بالسوق، فيذهب، فإن أحسن بيعها وأحسن التصرف فيها فالحمد لله، ويكرر له مرتين أو ثلاثاً حتى يثبت أنه محسن للبذل؛ لأن الذي يأخذ المال لا يحكم بكونه رشيداً فيه إلا من جانبين: الجانب الأول: جانب الأخذ. والجانب الثاني: جانب الإعطاء. فقد يكون رشيداً في الأخذ سفيهاً في الإعطاء، وقد يكون سفيهاً في الإعطاء رشيداً في الأخذ، فبعض الناس إذا اشترى لا يمكن أن يغبن، لكن إذا باع يغبن، والعكس، فمن الناس من يغبن إذا اشترى ولا يغبن إذا باع، فإذاً لا بد وأن يكون رشيداً في بيعه وشرائه، وفي أخذه وإعطائه. فإذا تم له ذلك وأعطيناه السلعة فباعها بقيمتها أو قريباً من قيمتها دون غبن ظاهر فيها؛ فإنه يحكم برشده ويعطى المال إليه؛ لأنه ثبت كونه مصلحاً للمال أخذاً وإعطاءً، بيعاً وشراء الرشد علامة لفك الحجر عن السفيه قال رحمه الله: [أو رشد سفيه] سبق وأن ذكرنا أن السفيه هو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره، فإذا حجرنا عليه ثم صار رشيداً في بيعه وشرائه وأخذه وعطائه نفك الحجر عنه؛ لأن ما شرع لعلة يزول بزوالها، فالأصل أنه يملك ماله، فالله يقول: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] فإذا زال وصف السفه وجب رد ماله إليه؛ لأنه مالك لماله، ولا يجوز أن يمنع من التصرف في مال يملكه حكم رفع الحجر من دون الحاجة إلى حكم القاضي قال رحمه الله: [زال حجرهم بلا قضاء] مسألة فك الحجر عن المحجور عليهم فيها نوعان: - نوع منهم لا يفك الحجر إلا بحكم القاضي. - ونوع منهم يفك الحجر عنهم بدون حكم القاضي. فمثلاً: عندنا السفيه، مذهب طائفة من العلماء أنه لا يفك عنه الحجر إلا بحكم القاضي؛ للاختلاف في السفه والخروج من السفه واختلاف الأعراف في ذلك، فقالوا: يحتاط، فلا يحكم بفك الحجر عنه إلا بحكم القاضي، وقال بعض العلماء: هؤلاء الثلاثة: الصبي والمجنون والسفيه إذا رشدوا وزال عنهم وصف السفه والجنون والصبا حكمنا بأهليتهم للتصرف بدون حكم القاضي ويرفع الحجر عنهم. ما فائدة الخلاف؟ فائدة الخلاف: لو أن صبياً حكمنا بالحجر عليه، وبلغ اليوم، وكان قد اختبره وليه عند البلوغ وإذا به رشيد، فلما بلغ اليوم اشترى عمارة بنصف مليون، ثم سئل فقيل: هل هذا رجل محجور عليه فلا نصحح البيع؟ فنقول: إن الحجر عليه زال بمجرد بلوغه إيناس الرشد منه. فإن الله تعالى لم يشترط حكم القاضي وقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] هذا في الصبي. كذلك لو أن مجنوناً حجرنا عليه وأفاق من جنونه، فقال له رجل: بعني مزرعتك بخمسمائة ألف؛ فباعها بخمسمائة ألف، وقيمتها تساوي خمسمائة ألف، فإننا نقول: إن هذا المجنون متى ما زال عنه السبب الموجب للحجر عليه رجع حراً في ماله يتصرف فيه كما يتصرف العاقل. وهكذا بالنسبة للسفيه فإنه يُحكم بفك الحجر عنه بدون حاجة إلى حكم القاضي، أما لو اشترطنا حكم القاضي، وتصرف الصبي أو السفيه أو المجنون فباع أحدهم شيئاً اليوم وقد زال المانع من الحجر عليه فإنه ينتظر إلى فك الحجر، ويبقى البيع معلقاً ومردوداً إلى نظر الولي، فإن أجازه صح وإن لم يجزه لم يصح. مسألة ثانية من فوائد الخلاف: لو أن الصبي بلغ رشيداً وتصدق في هذا اليوم بألف، وليس فيه غبن على ماله، فإن قيل بأن الحجر يزول بمجرد وجود علامة البلوغ والرشد، فحينئذٍ صدقته نافذة، وعطيته صحيحة، والعكس بالعكس. ومثال آخر: لو أن هذا الصبي بلغ اليوم وتصدق أو تبرع بألف لأخيه، ثم توفي في حادث، ولم يكن مريضاً مرض الموت، فهذه الألف عطية، وإن قلنا: إن الحجر عليه لا يفك إلا بحكم القاضي فهي لاغية؛ لأن عطية المحجور عليه قبل فك الحجر عنه لا تصح، فترد الألف وتبطل العطية. وإن قلنا: يفك عنه بمجرد بلوغه ورشده، فعطيته نافذة وتُملك بمجرد القبض. إذاً: هذه المسألة -هل نفك الحجر عنه بمجرد وجود علامة الفك أم أنه لا بد من حكم القاضي؟ - لها فوائد ولها آثار: والصحيح: أنه لا يشترط حكم القاضي على ظاهر النص في التنزيل ما تخص به المرأة من علامات البلوغ قال رحمه الله: [وتزيد الجارية في البلوغ بالحيض]. وتزيد الجارية الأنثى بعلامة في بلوغها وهي: الحيض؛ لأنه يكون بالنساء، فإذا حاضت المرأة حكم ببلوغها. قال رحمه الله: [وإن حملت حكم ببلوغها] لأن الحمل يكون عن حيض حكم رفع الحجر قبل تحقق الشروط قال رحمه الله: [ولا ينفك قبل شروطه] ولا ينفك الحجر قبل شروطه، يعني: قبل وجود الشروط المعتبرة لفك الحجر، وهي: - البلوغ للصبي مع الرشد. - والرشد في السفيه. - والعقل في المجنون مع الرشد. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الراشدين في الدين والدنيا
__________________
|
#362
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (336) صـــــ(1) إلى صــ(20) شرح زاد المستقنع - باب الحجر [6] الذي يحجر عليه لمصلحة نفسه لا يدرك مصلحته، ولهذا أوجبت الشريعة أن يكون هناك من يتولى أمره ومصالحه حتى يستطيع أن يتولاها بنفسه، ولكن هذا الولي لا يتصرف بما شاء، وإنما يتصرف بحدود مصلحة موليه؛ لأن هذا هو المقصود من وضعه في هذا الملف، ولهذا جعل العلماء عدة ضوابط لتصرفات الولي وقت فك الحجر عن السفيه والصبي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد ذكر المصنف -رحمه الله- هذه الجملة لبيان فك الحجر عن السفيه والصبي، وذلك بثبوت الرشد في كل منهما، وقد بينّا أن الرشيد في ماله هو الذي يحسن الأخذ لنفسه والإعطاء لغيره. ومعنى ذلك أنه إذا اشترى أو استأجر أو أخذ شيئاً فإنه لا يغبن كما ذكر المصنف رحمه الله، فلا يباع عليه الشيء بأكثر من قيمته؛ ولا يبيع الشيء بأقل من قيمته. فإذا كان على هذه الحالة أكثر من مرة، واختبر فبان أنه يتصرف على هذا الوجه: يحسن الأخذ لنفسه ويعطي لغيره على وجه معروف؛ فإنه يفك الحجر عنه ضابط الرشد عند السفيه والصبي قال رحمه الله: [والرشد] أي: حقيقة الرشد وضابط الرشد في الشرع ما ذكره [بأن يتصرف في ماله مراراً فلا يُغبن غالباً]. قوله: (مراراً) فلو أعطى ولي اليتيمة اليتيمة مالاً فباعته أو اشترت به مرة وأصابت فإنه لا يحكم برشدها، بل لا بد من أن يتكرر ذلك أكثر من مرة؛ لاحتمال أن تكون أصابتها في المرة الأولى بدون قصد، كأن تكون حصلت موافقةً. وعلى هذا فلا بد وأن يختبر أكثر من مرة قبل بلوغه -كما ذكرنا- أو عند بلوغه، وإذا أراد أن يختبره أعطاه مالاً وقال له: خذ بع هذا أو اذهب واشتر بهذا المال لك ثياباً أو طعاماً أو نحو ذلك، فإذا كرر البيع وكرر الشراء وكان على المعروف والسنن حُكم برشده. قال رحمه الله: [ولا يبذل ماله في حرام] الرشد يشترط فيه ألا يبذل صاحبه المال في غير طاعة الله عز وجل، أو يبالغ في إنفاق المال في الشهوات. فالمصنف ذكر المعصية وهي الحرام، لكن أيضاً يضاف إليها أن ينفق ماله ويكثر من الإسراف في المباحات، كرجل يدفع المال الكثير لقاء النزهة أو الفسحة، ويكون ذلك المال الذي أنفقه في سفره للنزهة والفسحة كبيراً وكثيراً، فإنه يحكم بسفهه وبزوال الرشد عنه، وإذا ثبت عليه ذلك عند القاضي حكم بالحجر عليه. فإذاً لابد وأن يكون تصرفه على الوجه المعروف، وذلك بإحسانه للأخذ لنفسه والإعطاء لغيره، وعدم إنفاقه للمال في الحرام أو إسرافه في المباحات كما قال بعض العلماء: والسفه التبذير للأموال في لذة وشهوة حلال وخرّج العلماء على الوصف الأخير الذي ذكرناه -وهو إنفاق المال في الشهوة الحلال- أن يكون شراؤه للأشياء بأكثر مما تستحقه أو بما لا تملك بمثله، كأن يكون مثلها يشترى بمائة فيبالغ ويشتريه بمائتين أو بثلاثمائة. أو يكون يحتاج إلى سيارة ومركب، وتكفيه سيارة بمائة ألف -مثلاً- فيذهب ويشتري سيارة بمائتين أو بثلاثمائة، فمثل هذا إذا أنفق المال وزاد وبالغ في المباحات فأسرف فيها، فإنه يُحكم بكونه سفيهاً. قال رحمه الله: [أو في غير فائدة] كذلك لو أنفق المال في غير فائدة، كأمور اللهو التي لا تعتبر محرمة ولا مندوبة، وذلك اللهو المندوب الإنسان مع فرسه من أجل أن يتعود الفروسية، أو لهوه بسلاحه من أجل أن يتعود ويعد نفسه للجهاد في سبيل الله ونحو ذلك من المقاصد الشرعية؛ فاللهو الذي يكون لا فائدة فيه ويدفع المال فيه فإنه يُحكم بسفهه. فلو دخل لكي ينظر إلى مناظر طبيعية بالغ أصحابها في قيمتها كأن لا يدخل لرؤية هذه المناظر إلا بمائة ريال، فدخل ودفع المائة وذهب ينظر في هذه المناظر، فما الفائدة التي يعود بها! فحينئذٍ إذا أنفقها فيما لا فائدة فيه فإنه يحكم بكونه سفيهاً وجوب اختبار الصبي قبل دفع المال إليه قال رحمه الله: [ولا يدفع إليه حتى يختبر قبل بلوغه بما يليق به] ولا يدفع المال إلى الصبي إذا كان محجوراً عليه حتى يختبر ويمتحن كما ذكرنا؛ لأن الله أمر بذلك فقال سبحانه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نختبر اليتامى وذلك عند بلوغهم، فإذا حصل أو ثبت رشدهم فإنه يحكم بإعطاء الأموال إليهم. وإنما حكم العلماء بلزوم الاختبار؛ لأننا لا نحكم برشده إلا بعد ثبوت ذلك الرشد بالاختبار الأحق بالولاية على السفيه والصبي أثناء الحجر عليهم قال رحمه الله: [ووليهم حال الحجر الأب ثم وصيه ثم الحاكم] إذا كان الصبي محجوراً عليه فإن الذي يتولى أموره وحفظ ماله هو والده، وهو أحق الناس بذلك. وهذا إنما يتأتى إذا كان للصغير مال، كأن تموت أمه وتترك له إرثاً، كصبي -مثلاً- ماتت أمه وتركت له مائة ألف، فالواجب على أبيه أن يأخذ هذا المال وأن يحفظه، حتى إذا بلغ الصبي دفع إليه ماله. هذا بالنسبة للأشخاص الذي لهم حق الولاية، وبعبارة أخرى: من هو الولي الذي ينصب على اليتيم؟ فذكر رحمه الله أن أولى الناس بالولاية الأب، ثم وصي الأب إذا كتب الإنسان وصيته وخاف على أولاده، كأن يكون عنده ذرية ضعيفة -أطفال- ويخشى عليهم أنه لو مات عنهم أنهم يضيعون، فيجب عليه شرعاً أن يعهد ويوصي من يثق بدينه وأمانته أن يحفظهم. فلا يجوز للمسلم إذا كان عنده أطفال أن يأمن الموت؛ لأن الموت يأتي الإنسان دون أن يشعره ويعلمه، وكم من ضاحك قد نسجت أكفانه. فالواجب على المسلم إذا كان عنده أطفال وذرية أن يكتب وصيته، وأن يكتب في وصيته أن أولاده وأبناءه وبناته يليهم فلان، سواءً كان من القرابة أو من غير القرابة، إلا أن الوصية من القرابة أولى وأحق. فإن كان هناك من أبناء العم أو العشيرة أو القبيلة من يُعرف فيه الدين والأمانة والحفظ والرعاية فإنه ينصبه على أولاده ليقوم عليهم ويرعى شئونهم ونحو ذلك. فهذا الوصي الذي يوصي إليه الأب هو أحق بالولاية على أولاده إذا توفي، فيقوم هذا الوصي مقام الأب، وإنما قُدِّم الأب؛ لأن أكمل الناس شفقة على الإنسان هم الوالدان، ولا شك أن شفقة الأم أعظم من شفقة الأب، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم حينما ضرب المثل لعظيم رحمة الله عز وجل، وأراد أن يبيّن للعباد عظيم حلمه جل جلاله ورحمته بعباده، ضرب لهم ذلك بالأم حينما لقيت ولدها وقد خافت أن يكون قتيلاً في الحرب، فلما لقته أخذته وضمته إلى صدرها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا. قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها). فالوالدان أسكن الله في قلوبهما الرحمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حينما دمعت عيناه على ابنه إبراهيم وبكى عليه الصلاة والسلام وعجب الصحابة وقالوا: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (رحمة أسكنها الله في قلوب عباده). فالوالد في قلبه رحمة لولده، والأم لا تستطيع أن تتولى أمور البيع والشراء والأخذ والعطاء على الأيتام، ولذلك الأب مقدم، وفي الأب من النصيحة لأولاده ما لا يخفى، فهو المقدم على غيره في ولاية أمور الصغار. وكذلك أيضاً يليه الوصي؛ لأن شفقة الأب وحنانه تجعله لا يوصي بأبنائه بعد موته إلا لشخص يرى أنه يحل محله، وأنه يكون مثله أو أفضل منه. فالواجب على الأب أن يفعل ذلك إذا علم أن هناك أيتاماً، وخاصة إذا وجد من القرابة -نسأل الله العافية والسلامة- من يعرف بالظلم واغتصاب الأموال وأذية الأيتام، ولا يبالي بالحقوق، فخاف عليهم من قرابتهم، فإنه يجب عليه أن ينصب الأصلح الذي يخاف الله عز وجل ويتقيه فيهم، كما قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] فأمرنا الله إذا كان عندنا ذرية ضعيفة أن نتقيه فيهم، والذرية الضعيفة هم الأطفال، ومعنى ذلك أن كل إنسان عنده أطفال ينبغي أن ينظر هذا النظر، وألا يأمن الموت، وأن يكتب وصية لمن يقوم على أولاده في حالة موته. هذا الوصي الذي توصي إليه أول شيء ما تنظر إليه فيه: دينه، فالدين هو عماد الخير كله، وينظر إلى تقواه لله سبحانه وتعالى؛ لأن المتقي أمين إذا استؤمن، وصادق إذا تكلم، وفيه من الحفظ والرعاية ما ليس في غيره. ثم بعد ذلك تنظر إلى خلقه من ناحية أخلاقه ومعاملاته، بأن يكون رجلاً ديناً فيما بينه وبين الله يخافه ويتقيه ويحفظ حقوق الله، وذا خلق فيما بينه وبين الناس؛ لأنه ربما كان إنساناً ديناً لكنه عصبي وأخلاقه شرسة لا يستطيع أن يأمن نفسه؛ وتكون فيه حدة الطبع، فإذا جاء اليتيم يستعطفه في مال أو شيء ربما كهره، وربما أساء إليه وأغلظ عليه وربما قهره، وقد يكون ذلك بدون شعور منه، فينبغي أن ينظر إلى الخُلُق. وثالثاً: ينظر إلى عقله، فقد يكون إنساناً فيه دين وصلاح، لكنه ناقص العقل، بمعنى: أنه أخرق لا يحسن التقدير للأمور، ولا يحسن النظر ولا الاجتهاد، فينبغي أن ينظر إلى عقله وبعد نظره وحسن تدبيره للأمور، حتى إذا طرأ شيء على أموال اليتامى أحسن التصرف، وكان عنده من الفطنة والذكاء والحذر والحزم ما يحفظ به أموال هؤلاء الضعفاء. فإذا استجمع هذه الشروط فإنه يعهد إليه ويوصي إليه، وحبذا لو أنه يستدعيه ويذكره الله فيما بينه وبينه حتى يكون ذلك أبلغ في حفظه لماله ورعايته لأيتامه. فالأب ومن اختاره الأب لأولاده يقدم على من سواه، وإن نصبه القاضي؛ لأن الأب أدرى بولده، وينصب الأب من يختار على أيتامه سواءً كانوا ذكوراً أو إناثاً، وله الحق أن يوصي بالذكور والإناث ويقول: فلان يلي أمور أيتامي، ويشمل ذلك ذكورهم وإناثهم. قال رحمه الله: [ثم الحاكم] وذلك لأن الله جل وعلا جعل ولي الأمر كالوالد للناس، يعطف عليهم ويقوم على شئونهم ويرعى مصالحهم، فالولاة نصبوا على الناس حتى ينظروا الأصلح والأقوم والأهدى سبيلاً فيتبعوه ويأخذوا به. وعلى هذا فلو مات إنسان وترك أيتاماً ولم يوص بهم لأحد، فإنه يرفع أمرهم إلى القاضي؛ لأنه يقوم مقام ولي الأمر، ولأن له ولاية النظر في المصالح، وهو منصب من ولي الأمر للنظر في مثل هذه الأمور. فيقوم القاضي ويسأل عن قرابة الميت: هل فيهم رجل فيه من الدين والعقل والأمانة فيقدمه على غيره؛ فإذا لم يجد في قرابة الميت من هو أهل للقيام على أموال اليتامى، فإنه ينظر من سائر الناس من هو كذلك، فينصبه على هؤلاء الأيتام، ويوصيه بتقوى الله عز وجل، ويعظه ويذكره هذه الأمانة، ثم يفوض إليه الأمر بالنظر في مصالح هؤلاء الأيتام كيفية تصرف ولي أمر السفيه أو اليتيم أو المجنون لهم قال رحمه الله: [ولا يتصرف لأحدهم وليه إلا بالأحظ] بعد أن بيّن رحمه الله من الذي يولى على الأيتام، شرع في بيان تصرف الولي، فإذا كان الولي ينصب على اليتيم والمجنون والسفيه، فماذا ينبغي عليه؟ قال رحمه الله: (ولا يتصرف) أي: الولي، والتصرف يشمل البيع والشراء والأخذ والعطاء من سائر المعاملات، فلا يتصرف هذا الولي في مال اليتيم إلا بالأحظ، والأحظ أفعل تفضيل بمعنى: أن يتصرف التصرف الذي هو الأفضل لمصلحة مال المحجور عليه. وبناءً على ذلك: نفهم من هذا أنه ليس من حق الولي أن يتصرف تصرفاً يضر بالمال كله أو ببعضه، إلا في مسائل مستثناة. فمن هنا: لا يصح للولي أن يتصدق بالمال، فلو أنه تصدق بالمال ضَمِن، ويجب عليه أن يضمن المال كاملاً، ولا يصح منه أن يتبرع بهذا المال، فلو قال: أنا وليهم أتبرع بهذا المال لأمهم، لم يكن من حقه ذلك. فليس له أن يتصرف بما فيه ضرر، فيتلف المال كله أو يتسبب في ذهاب منفعة المال، بل عليه أن ينظر الأحظ. وإذا كان ملزماً بالنظر بالأحظ، فيشمل ذلك أن يتصرف بالبيع ويتصرف بالإجارة ويتصرف بغير ذلك من مسائل المعاملات. فعلى هذا: لو كان اليتيم توفي عنه أبوه وترك له عمارة، وهذا اليتيم بقي له ثلاث سنوات ويبلغ، والعمارة لو بقيت ثلاث سنوات ستنزل قيمتها وتصبح قيمتها رخيصة، وسأل أهل الخبرة فقالوا: إن العمارة سعرها الآن أفضل، فرأى المصلحة والأحظ أن يبيعها، فيجوز له أن يبيع؛ لأنه يلتمس الأصلح والأحظ. كذلك العكس: لو أنه توفي وترك لأيتامه أرضاً، وهذه الأرض في مكان بعيد، وليس لها قيمة الآن، وقيمتها -مثلاً- عشرة آلاف لو بيعت الآن، وعلم عن طريق أهل الخبرة أو عن خبرته ومعرفته، أنها لو بقيت سيصل إليها الناس وتصبح قيمتها أكثر فيمسكها ويمتنع من بيعها. ولاحظ الفرق بين الحالة الأولى والحالة الثانية: فإنه في هذه الحالة إذا غلب على ظنه أن الأصلح بقاء الأرض أبقاها وأمسكها، ففي حال البذل بالبيع وفي حال الإمساك إنما يروم ويقصد الأصلح للأيتام، فإذا نظر وعلم الأصلح والأفضل فإنه يقدم عليه ويعمل به. ومثال آخر: في الإجارة: لو كان عند الأيتام عمارة، إذا أجرت فإنها تدر عليهم أموالاً، وهذه الأموال أنفع وأصلح لهم، خاصة وأنهم قد يتوفى أبوهم ولا يترك لهم سيولةً، فيحتاج ولي الأيتام إلى شيء ينفق منه على الأيتام، لشراء طعامهم وشرابهم ونحو ذلك، فرأى من المصلحة ألا يبيع العمارة وإنما يؤجرها فأجرها، فإنه حينئذٍ تصرف بالأحظ والأصلح. لكن لو كانت هذه العمارة تؤجر على قوم يدفعون -مثلاً- عشرة آلاف، وآخرون يدفعون ثمانية آلاف فإلى أيهم نؤجر؟ الجواب ينظر إلى من سيدفع العشرة أهم أحفظ لمصالح العمارة أكثر ممن سيدفع الثمانية أم لا، فقد يؤجر إلى أناس يتلفون مصالحها ويضرون بها، ثم بعد خروجهم يحتاج إلى إنفاق أموال لإصلاح ما أفسدوه وضيعوه، مع أنه شرعاً يجب على الأجير إذا أتلف شيئاً في العمارة ألا يخرج إلا وقد أصلحه. وهذه من الأخطاء التي يخطئ فيها أولياء الأيتام ونظار الأوقاف، أن الأجير يخرج وقد أتلف المصالح والأعيان، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا من إضاعة المال، وفي الشرع لو أن ناظر الوقف تساهل وخرج المستأجرون وتركهم يخرجون دون أن يضمنوا ما أتلفوه، فإنه يدفع من ماله وجيبه ما يصلح به ما أفسدوه؛ لأنه هو الذي مكنهم من ذلك، وقصر ولم يطالبهم بإصلاح ما أفسدوه. فالمقصود: أن الولي لليتيم والناظر للوقف ونحوهم كلهم ينظر الأصلح للمال، سواءً كان ذلك ببيعه أو استئجاره أو إجارته أو نحو ذلك. كذلك أيضاً: لو كان للأيتام مائة ألف، وهذه المائة ألف لو بقيت في البنك أو عند الصبي فإنها تأكلها الزكاة؛ لأن عليها زكاة؛ فحينئذٍ ينقص المال ولا يبلغ إلا وقد نقص المال، فنظر إلى أن الأفضل والأحظ أن يتاجر بهذا المال فنقول له: تاجر بهذا المال. إذاً: القاعدة عندنا: أن ينظر الأصلح والأحظ، وكيف يتوصل إلى الأصلح والأحظ؟ نقول له: سل الناس إذا كنت تجهل، أو اجتهد على قدر علمك ووسعك إذا كان عندك علم وخبرة تتمكن عن طريقها من معرفة الأصلح والأحظ للمال حكم اتجار ولي اليتيم بمال اليتيم لمصلحة اليتيم قال رحمه الله: [ويتجر له مجاناً] أي: ويتجر في مال اليتيم مجاناً، فلا يأخذ أجرة مثله إلا في مسائل ستأتي عند الحاجة، أما إذا اتجر بمال اليتيم فإنه لا يتعامل مع اليتيم، فلا يشتري من مال اليتيم، ولا يستأجر مال اليتيم؛ لأنه محل التهمة. وعند بعض العلماء لا يصلح أن يكون مؤجراً أو مستأجراً أو بائعاً لليتيم أو مشترياً منه في آن واحد، لكن هذه العلة الثانية ضعيفة؛ لأنه يمكن أن يتزوج اليتيمة إذا عدل وأقسط إليها كما هو مقصود التنزيل واختارته أم المؤمنين عائشة وقال به الجماهير، أن ولي اليتيمة إذا عدل بمهرها وأقسط فلا بأس عليه، فهو ولي وهو زوج. وأياً ما كان فمسألة الاجتماع قد لا تخلو من نظر كما ذكرنا، لكن ولي اليتيم يتاجر بمال اليتيم، أما مشروعية التجارة له ففيها حديث ضعيف، والصحيح أنه موقوف على عمر رضي الله عنه، فقد قال رضي الله عنه في خطبته: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) فأمرهم أن يتاجروا بأموال اليتامى لئلا تأكلها الصدقة؛ لأن كل سنة عليها زكاة، فالمال ينقص، وحينئذٍ ينبغي على ولي اليتيم أن يحتاط لذلك، وبذلك أفتت وعملت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فكانت تلي أيتاماً لأخيها عبد الرحمن رضي الله عنهما، وكانت تتاجر لهم في أموالهم. فإن تاجر الوصي فيتاجر مجاناً، ولا يأخذ أجرة عمله، وعلى هذا فإنه يكون قائماً على مال اليتيم وأجره على الله، فإن من أعظم الأعمال أجراً وثواباً: الإحسان إلى اليتامى، ومن الإحسان: استصلاح أموالهم والسعي فيما يعود عليهم بالخير، فإن هذا أجره عند الله أعظم، وثواب الآخرة أكبر. وبناءً على ذلك فقد أجمع الصحابة على جواز التجارة بمال اليتيم؛ لأنه لا مخالف فيه، والعمل عليه عند أهل العلم رحمهم الله، وإذا ثبت ذلك فإنه يتجر بدون مقابل حكم المضاربة في مال اليتيم قال رحمه الله: [وله دفع ماله مضاربة بجزء من الربح] قررنا أن ولي اليتيم يتصرف بالأحظ، وإذا كان يتصرف بالأحظ فله أن يتاجر في المال، لكن تبقى مسألة وهي: لو أنه تاجر في المال فاحتاج إلى عمال أو إلى أناس يقومون بالتجارة، فهل الذين يقومون بالتجارة لا يعطى لهم أجر؟ الجواب لا، فقوله: (مجاناً) راجع إلى الولي وليس إلى العمال الذين يستأجرهم ويطالبهم للعمل، وإلا لما أمكن أن يتاجر بأموال اليتامى؛ لأنه إذا كان الولي لا يأخذ والعمال لا يأخذون فلن تقوم تجارة أصلاً، بل أين يوجد هذا؟! لكن يجوز أن يستأجر أناساً بالمعروف ويعطيهم أجرة بالمعروف، وبما جرى عليه العرف، لا يزيدهم ولا يظلمهم، ويعطيهم من مال اليتيم كما يعطى غيرهم من الأجراء، وذلك جائز ولا بأس به. وإذا ثبت أن ولي اليتيم لا يجوز أن يضحي بشيء من مال اليتيم فيرد السؤال هنا: بعض العقود تبرم بين الشخص والآخر ويكون فيها نقص للمال، فأنت -مثلاً- إذا دفعت مال اليتيم إلى رجل ليتجر به وهو الذي يسمى بالمضاربة، -والمضاربة من الضرب في الأرض؛ لأن التجارة تحتاج فيها إلى السفر والضرب في الأرض- فلو أنك دفعت مائة ألف من مال اليتيم إلى رجل من أجل أن يتاجر فيها مضاربة، فإنه سيقول لك: أريد جزءاً من الربح؛ لأن المضاربة تدفع المائة ألف ويكون الربح بين صاحب المال وبين العامل، فلو أنه دفع مائة ألف إلى عامل، وقال له العامل: أنا آخذ نصف الربح، فحينئذٍ سينقص مال اليتيم، فبدل أن يكون الربح كله لليتيم سيكون نصف الربح له والنصف الآخر للعامل، فنقول: هذا جائز ولا مانع منه؛ لأنه جارٍ على سنن المضاربة. ولذلك نص رحمه الله على هذه المسألة فقال: له أن يضارب في هذا المال على جزء من الربح. يعني: يقول لشخص: خذ هذه المائة ألف واضرب بها وتاجر بها ونمَّ المال والربح بينك وبين اليتيم، أو ثلاثة أرباع الربح لليتيم وربعه لك، أو الثلثان لليتيم والثلث لك، أو العكس الثلث لليتيم والثلثان لك على حسب ما يرى فيه المصلحة. والحقيقة أن إتلاف جزء من المال لاستبقاء الكل صحيح شرعاً، فولي اليتيم أو ناظر الوقف إذا أتلف جزءاً من المال من أجل بقاء المال فإن المصلحة تقتضي هذا. ولذلك لما ركب موسى عليه السلام مع الخضر، وكسر الخضر لوح السفينة، أنكر عليه موسى عليه السلام، ولما بيّن له الخبر قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فهو قصد الإتلاف والإفساد حتى لا تفوت السفينة بكاملها؛ ولذلك أخذ العلماء من هذا القاعدة المشهورة: (يرتكب الضرر الأخف دفعاً للضرر الأعظم)، وفي معناها قولهم: (إذا تعارضت مفسدتان روعي ارتكاب أخفهما لدفع أعظمهما)، فحينئذٍ فوات السفينة أعظم، وذهاب اللوح من السفينة أخف، فلولي اليتيم أن يضحي بجزء من المال لاستبقاء الكل. وله كذلك أن يجعل الربح بين اليتيم وبين غيره بما يرى فيه المصلحة للمال ولليتيم حكم أكل الولي الفقير من مال موليه قال رحمه الله: [ويأكل الولي الفقير من مال موليه الأقل من كفايته] هذه المسألة مستثناة من الأصل الذي ذكرناه، وقد قلنا: إن العلماء رحمهم الله يقررون الأصل ثم يذكرون أفراد المسائل التي تستثنى، فهنا عرفنا أن الولي لا يأكل من مال اليتيم وبينّا هذا الأصل. ويرد السؤال الولي الغني ليس بحاجة، ويستقيم أن يقال: أجره على الله، والقاضي إذا نصب شخصاً للنظر في مصالح اليتيم وصار ولياً عليه، فإنه سيتعطل عن مصالحه، وقد لا يجد وقتاً من أجل أن يطلب الرزق، فلو كان فقيراً واحتاج إلى أن يأكل من مال اليتيم فهل يجوز له ذلك؟ الجواب نعم، وهذا قول جماهير العلماء وأئمة السلف ودواوين العلم رحمة الله عليهم أجمعين، أن ولي اليتيم إذا كان فقيراً فإنه يجوز له أن يأكل بالمعروف؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] فأحل الله عز وجل له أن يأكل بالمعروف. وعلى هذا قال العلماء: يأكل الأقل من أجرته وكفايته، أو يأخذ الأقل من أجرته وكفايته، والمراد بذلك: أنه إذا كان ولياً على يتيم وكان فقيراً واحتاج أن يأكل وهو قائم على مال اليتيم نقدر أجرة مثله، فلو كانت أجرة مثله في الشهر ألف ريال وكفايته في البيت ثمانمائة ريال فإنه يأخذ الثمانمائة ريال، ويأكل في حدود الثمانمائة. فعندنا سببان: الأول: كونه قائماً على المال، وهذا يقدر فيه أجرة المثل. والثاني: كونه محتاجاً وهذا يقدر فيه دفع الضرر عنه. فعندنا أمران: كونه فقيراً ومحتاجاً، وكونه تولى هذا المال وقام على حفظه ورعايته. فهذان سببان كلاهما يحل للشخص أن يأكل من مال اليتيم، لكن لا تخلو المسألة من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يتساويا، فتكون أجرة مثله تساوي قدر كفايته. مثلاً: تولى المال وكان سيولة، ولم يتاجر به، فلو استأجرت شخصاً من أجل أن يحرس المال ويحفظه تقدر له -مثلاً- في الشهر خمسمائة ريال، فلو قدرت له خمسمائة ريال كأجرة، ونظرت إلى قدر كفايته في طعامه ونفقته في نفسه فوجدت أنه خمسمائة ريال، تقول: تساوت أجرة مثله مع حاجته؛ فحينئذٍ لا إشكال، فيعطى الخمسمائة وتتساوى الأجرة مع الحاجة. الحالة الثانية: أن تكون الأجرة أغلى من حاجته، كرجل -مثلاً- ينمي مال اليتيم ويتاجر فيه، فمثله لو قدر أجرة عمله فإنه يعطى -مثلاً- ثلاثة آلاف في الشهر، وكفايته ألف، فنقول: يعطى الألف إذا كانت كفايته أقل من أجرته، والعكس لو كانت أجرته أقل من كفايته، كرجل عنده أولاد وأسرة كبيرة ينفق عليهم، وكفاية مثله في أهله وولده: ألفان، وأجرة مثله: ألف؛ فحينئذٍ قدر كفايته أكثر من أجرة مثله، فيعطى أجرة مثله. ولذلك ينظر الأقل من السببين؛ لأنه يأكل بسبب الأجرة ويأكل بسبب الحاجة فيعطى الأقل منهما، وهذا نص عليه جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الأصل حفظ مال اليتيم، وحل الأكل إنما هو لوجود الحاجة، وما أبيح للحاجة يقدر بقدره. فيرد السؤال: إذا كانت أجرة مثله أكثر من كفايته، لماذا لا نعطيه أجرة مثله؟ الجواب: أن الشرع لم يجعل ولي اليتيم أجيراً، ولذلك لا نستطيع أن نضحي بمال اليتيم ونعطي من يقوم عليه الأجرة بدون نص وبدون أصل شرعي، وإنما قدرنا أجرته من أجل تعارضها مع كفايته، فمن حيث الأصل يحرم الأكل عليه، والأصل أنه يلي أمر اليتيم وأجره على الله، إذ لو فتح هذا الباب ربما أكلت أموال اليتامى وذهبت قبل أن يبلغ اليتامى. وعلى هذا: ننظر إلى الأقل من أجرته وكفايته فنعطيه، سواءً كانت الأجرة أو كانت الكفاية. قال رحمه الله: [أو أجرته مجاناً] هنا مسألة ثانية: لو أن شخصاً تولى على مال اليتيم وكان فقيراً، وأنفق على نفسه خلال ولايته على اليتيم سبعة آلاف ريال، ثم لما قارب اليتيم البلوغ أصبح الولي غنياً، فكان فقيراً فأكل ثم اغتنى بعد ذلك، سواءً عند البلوغ قبل أن يدفع المال أو بعد بلوغ اليتيم وقد دفع المال، فهل نقول له: رد لليتيم السبعة آلاف؟ أي: هل يضمن ما أكله؟ قال رحمه الله: [مجاناً]. للعلماء وجهان في هذه المسألة: بعض العلماء يرى أنه يدفع ويضمن ما أكله، وبهذا أفتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقولته المشهورة: (إني أنزلت نفسي من مال المسلمين كمنزلة ولي اليتيم، إذا اغتنيت تركته وإذا افتقرت أكلت، فإن أيسرت رددت ما أخذت). فدل على أنه يقضي بعد اليسر، فإذا يسر الله عليه واغتنى ضمن المال. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا يقضي، وبعض العلماء يجعل أكل الولي من مال اليتيم في حال الفقر بشرط وهو: أن يكون المال في تجارة ونماء، أما لو كان المال لا يجري وليس في التجارة ولا في النماء فلا يفتي بجواز أكله منه يتبع
__________________
|
#363
|
||||
|
||||
![]() الأحوال التي يقبل فيها قول الولي والحاكم بعد فك الحجر قال رحمه الله: [ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة] إذا ثبت أن الأصل عدم جواز التصرف في مال اليتيم، وبينّا المسائل التي يجوز للولي أن يأخذ فيها ويأكل فيها بالمعروف، يرد السؤال إذا دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه وادعى اليتيم أن وليه أكل منه، أو أن وليه ظلمه في المال فأنفق فيما لا ينبغي أن ينفق فيه، أو دفع المال في شيء يشترى بالأقل فاشتراه بالأكثر، أو باع ما لا ينبغي بيعه، أو اشترى ما لا ينبغي شراؤه -لأن هذا كله وارد- فهل نقبل قول الولي أو نقبل قول اليتيم؟ هذه مسألة، كذلك أيضاً: إذا جاء وقت دفع المال إلى اليتيم عند البلوغ ووجدنا اليتيم رشيداً في تصرفه وحكم القاضي بدفع المال إليه، فسيحاسب الولي، ويقدم الولي بياناً لما دفعه على اليتيم من المصاريف في طعامه وشرابه وكسوته ومسكنه وملبسه إلى غير ذلك، فيقدمه ويقول: أنفقت عليه كذا وكذا، وكان ماله مائة ألف، فأنفقت عليه منها عشرة آلاف في طعامه ومسكنه وكسوته وغير ذلك، فيذكر الأمور التي أنفق فيها على اليتيم. هذه العشرة آلاف التي يدعي الولي أنه أنفقها هل نقول: نقبل قوله هكذا أو نطالبه بالدليل؟ هذه مسألة ثانية، فالمسألة الأولى: إذا ادعى اليتيم، والمسألة الثانية: إذا حضر وقت الدفع ورد المال إلى اليتيم، ففي كلتا المسألتين يقبل قول الولي، والقاضي يقبل من ولي اليتيم ما يدعيه، فقال رحمه الله: (ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة). فإذا كان الحاكم هو الذي يتولى أمر اليتامى، فإنه يقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر عن اليتيم في النفقة، وإذا قلت: يقبل قوله، فمعناه: أنه يكون مدعىً عليه، ومعنى هذا: أنه لو حصلت خصومة وقضاء فسيكون الولي مدعىً عليه والقول قوله، لأنه إذا قيل: القول قول فلان فخصمه مدعٍ، والذي يُطالَب بالبينة خصمه ولا يُطالَب هو، فإذا جاء وقال: أنفقت عليه بعشرة آلاف فلا نقول له: أحضر شهوداً وأدلة على أنك أنفقت العشرة، بل يقبل قول الولي والحاكم. قوله: (في النفقة) أي: في طعامه وشرابه وكسوته ومصالحه التي احتيج إليها، وسميت نفقة من النفاق؛ لأنها تستنزف المال وتأخذه. قال رحمه الله: [والضرورة] سبق وأن ذكرنا ضابط الضرورة، وتعريفات العلماء للضرورة، لكن الضرورة هنا لها معنىً خاص، فاليتيم ترك له أبوه عمارة قيمتها مليون، وترك له سيولة خمسة آلاف ريال، فأنفق وليه الخمسة آلاف، فاحتاج اليتيم أن يبحث عن دخل ومال من أجل أن ينفق عليه، فقام ولي اليتيم ببيع العمارة. في هذه الحالة لو سأله القاضي: لِمَ بعت العمارة؟ سيقول: اضطررت إلى البيع وألجأتني الضرورة أن أبيع هذه العمارة، فادعاؤه أنه مضطر لبيع العمارة أو أي مملوك لليتيم، كل هذا يصدق فيه؛ لأننا لو فتحنا الباب في عدم قبول قوله لفر الناس من الولاية وأصبح فيها ضرر عليهم. فالشاهد: أن اليتيم إذا قال: باع عمارة والدي وما كان ينبغي له أن يبيعها، فقال الولي: بل كان ينبغي بيعها. فكلمة: بل كان ينبغي، يعني: أنا مضطر إلى بيعها، والضرورة إذا ادعاها الولي يقبل قوله، وهكذا إذا ادعاها الحاكم فبنى عليها بيع شيء أو إجارة شيء. مثلاً: لو أن اليتيم ادعى على الولي أنه أنفق عشرة آلاف ريال عليه، فسأله القاضي: فيم أنفقتها؟ قال: أنفقتها في سكن. قال اليتيم: ما كان ينبغي أن يستأجر لنا سكناً، فيقول له: أين أذهب بهم يسكنون؟ في العراء! إنهم مضطرون لدفع العشرة الآلاف لإسكانهم، لكن لو ثبت عند القاضي أنه غير مضطر، فحينئذٍ يضمن الولي على التفصيل عند العلماء رحمهم الله، ويؤاخذه ويحاسبه القاضي على هذا إذ فيه ضرر على المال. فإذا باع الولي العمارة بحجة نفقتها على اليتيم، واليتيم ترك له والده عشرين ألفاً، ويكفي اليتيم منها في حدود عشرة آلاف، فإذاً وجود العشرين ألفاً يمنع من الضرورة لبيع العمارة، فحينئذٍ يكون الولي مخطئاً في بيعها، لكن لو ادعى ضرورة ثانية كأن يشتهر أنه -مثلاً- بعد سنة ستصبح هذه العمائر رخيصة فيقول: أنا مضطر إلى بيعها لمصلحتها لليتيم، فباعها فخالفت الظنون وأصبحت غالية، فادعى اليتيم على وليه أنه فرط في هذه العمارة يقول: أنا نظرت إلى الحال واجتهدت، وفي ذلك الزمان كنت مضطراً إلى البيع؛ لأنني وجدت أن هذا يضر بمصلحة مال اليتيم، وأقدمت على البيع من هذا الوجه، فحينئذٍ يقبل قوله. وقد يضطر الولي إلى البيع لخوف الكساد وهذا -مثلاً- في الأطعمة؛ إذا كان اليتيم ترك له والده بضاعة وكانت من الطعام، ولا يمكن أن تبقى شهراً دون فساد، فعرضها في السوق ولكنها لم تأتِ بقيمتها وإذا تركت تفسد فلا تأتي بشيء، فباعها بنصف القيمة، فحينئذٍ يخاصمه اليتيم أو القاضي ويسأله: كيف تبيع بضاعة قيمتها مائة ألف بخمسين ألفاً؟ يقول: نعم هذا البضاعة لم يتيسر بيعها إلا بخمسين ألفاً، ولو لم أبعها فستتلف، وأنا مضطر إلى ذلك؛ فهذه ضرورة صحيحة. كذلك أيضاً لو كان الميت ترك متاعاً، وهذا المتاع المراد به مثلما يحصل لبعض التجار يشترون بضاعة بمائة ألف -مثلاً- من أجل أن تباع في موسم الحج بمائتين، وشاء الله أن يموت في شعبان، فهذه البضاعة سيتولى أمرها الولي، فإذا تولى أمرها فمعناه أنه سيحفظ البضاعة إلى الحج، وحفظ البضاعة إلى الحج يحتاج إلى إجارة، فاستأجر لها مكاناً بثلاثين ألفاً ولم يجد إلا هذا المكان بثلاثين ألفاً، وإن بيعت البضاعة في وقتها بيعت بخسارة أو برأس مالها، وإن بقيت بيعت بالضعف فالأصلح لليتيم ألا تباع الآن، وتبقى حتى تباع بالضعف، ووجد أن استئجار مخزن لها بعشرة آلاف لا يمكن، فاستأجر مخزناً بثلاثين ألفاً وباعها بمائتين، فأصبح كاسباً سبعين ألفاً، فإذا سأله القاضي: أين أنفقت الثلاثين؟ قال: أنفقتها من أجل حفظ البضاعة. قال له: وهل كان حفظها لازماً؟ يقول: نعم. لأن السوق كان كاسداً ونحو ذلك من الأحوال، وهذا معنى قوله: (والضرورة). فكل ما يدعيه الولي من أنه مضطر وملجأ إليه من بيع أو شراء فإنه يقبل قوله. لكن إذا أنكر اليتيم وقاضاه، فبعض العلماء يقول: يقبل قوله مجرداً ولا يطالب باليمين، وقال بعض العلماء: يقبل قوله مع اليمين، وهذا ما يسمى بيمين التهمة، وهو أن يحلف من أجل التهمة الموجودة، فحينئذٍ قالوا: يقبل قوله مع اليمين. قال رحمه الله: [والغبطة] الغبطة: الذي هو الأصلح، فمثلاً إذا قال اليتيم: أخر بيع البضاعة إلى السنة القادمة، فهذا أضر بي؛ لأني دفعت من مالي أجرة المخازن وأجرة نقل السلع وأنفق أموالاً على ذلك، فقال ولي اليتيم: إنما ذلك من أجل الأحق وهي الغبطة، فحينئذٍ يقبل قوله. ومن الغبطة لو قيل له مثلاً: بعت العمارة بكم؟ قال: بعتها بمليون. قيل له: لماذا؟ قال: لأن هذا أعلى سعر، وإذا بقيت فستباع بنصف مليون أو بثلاثة أرباع مليون، فإذاً الغبطة في بيعها بمليون، فيقبل قوله. قال رحمه الله: [والتلف] إذا ادعى أن بعض المال تلف ولم يكن بتفريط منه فإنه يقبل قوله، مثلاً: لو أن يتيماً ترك له أبوه مائة رأس من الغنم، وجاء سيل واجتاح نصفها، فقال القاضي للولي: كم ترك والد اليتيم؟ قال الولي: المال الذي توليت اليتيم فيه مائة رأس، والآن يوجد خمسون رأساً منها، وخمسون أخذها السيل فيقبل قوله؛ لأنه -كما ذكرنا- يقبل قوله في الربح والغبطة، وفي الخسارة والتلف ونحو ذلك مما يدعيه. قال رحمه الله: [ودفع المال] هذه مسألة ثانية: رجل تولى على يتيم وكان ماله -مثلاً- مائة ألف، واختبره عند البلوغ فوجده رشيداً فدفع له ماله، وبعد سنة جاء اليتيم وادعى أنه لم يقبض مال أبيه، وأن وليه لم يدفع المال إليه، فهل نصدق اليتيم أو نصدق الولي، الولي يقول: دفعت. واليتيم يقول: ما أخذت. ففي الحقيقة إذا جئت تنظر إلى الأصل، الأصل أن المال عند الولي حتى يثبت أنه دفعه لليتيم، وفي هذه المسألة ومسألة التلف يقوي بعض العلماء فيها اليمين، واليمين هنا قوية وأميل إلى هذا القول؛ لأنه خلاف الأصل، والتهمة فيه قوية، وفي ذلك احتياط لمال اليتيم، فإذا دفع المال إليه ولم يشهد فهو الذي فرط. وحينئذٍ يقوى أن يقال: إنه يكون القول قول اليتيم أو لا يقبل قوله إلا باليمين حكم دين العبد وما أتلفه قال رحمه الله: [وما استدان العبد لزم سيده إن أذن له] العبد يتولى سيده أمر ماله، وهذا -كما ذكرنا غير مرة- مبني على حديث ابن عمر في الصحيحين: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، لكن ذكر هذه المسألة هناك لأن فيها شيئاً من الارتباط بمسألة الولاية على المال. قوله: (وما استدان العبد) إذا تعامل الرقيق مع الناس وأخذ منهم أموالاً ديناً، فسيده له حالتان: إما أن يكون أذن له في التجارة. أو أنه لم ياذن له. فإن أذن له فإن سيده يتحمل مسئوليته، وحينئذٍ يلزمه أن يدفع عنه، وإن لم يأذن له يكون في رقبة الرقيق. وسيأتي -إن شاء الله- بسط هذه المسائل في باب الرق. قال رحمه الله: [وإلا ففي رقبته] فلو أن العبد ذهب واستدان مائة ألف، ثم جاء صاحب المائة ألف يطالبه فإذا به ليس عنده مال، فالآن هل نقول: إن الرقيق لا يملك المال، ونقول لصاحب المال: ليس لك شيء، وتذهب أموال الناس بهذه الطريقة، أو نقول: خذ الرقيق، والرقيق ملك لسيده بملك الشرع؛ لأن الرق مضروب بحكم الشرع؟ فحينئذٍ حصل تعارض بين هذين الأصلين. فإذا كان السيد علم بجناية عبده أو باستدانته للمال، فإنه يخير بين أمرين -إذا لم يأذن له- الأمر الأول: إما أن يدفع عنه ويبقى له عبده، وإما أن يكون المال في رقبته، فيباع ويؤخذ منه المال، ويرد الباقي إلى سيده؛ لأننا لو فتحنا هذا الباب لكل رقيق أن يجني على مال الغير ثم بعد ذلك لا يؤاخذ بالجناية ولا يمكن أن يطالب سيده بها، لفتح باب الضرر على الناس، ولذلك تكون جنايته في رقبته. قال رحمه الله: [وأرش جنايته] وأرش جنايته كذلك. قال رحمه الله: [وقيمة متلفه] أي: وقيمة الشيء الذي أتلفه، فنقول لسيده: إما أن تدفع عنه وإما أن يبيع القاضي هذا الرقيق ويسدد دينه من رقبته، ثم بعد ذلك يدفع الباقي من المال -إن كان ثَمَّ باقي- إلى سيده الذي يملكه. والله تعالى أعلم الأسئلة حكم تولية المرأة على مال اليتيم السؤال هل يجوز أن يجعل الأب امرأة تلي أبناءه بعد موته؟ الجواب باسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فوصاية المرأة على مال الأيتام في حجره أجازها طائفة من العلماء رحمهم الله، ولذلك كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تلي أمر أيتام عبد الرحمن أخيها، وقالوا: أن المرأة لها حق النظر في المال، فيجوز لها أن تتولى النظر في أموال اليتامى، ولا شك أن الرجل أكثر مخالطة للرجال وأعلم بأحوالهم، ولذلك هو أقرب للولاية من المرأة. والله تعالى أعلم حكم أخذ ولي اليتيم الفقير من زكاة مال اليتيم السؤال هل يجوز لولي اليتيم إن كان فقيراً أن يأخذ زكاة مال اليتيم الذي يتولاها؟ الجواب يجوز لولي اليتيم أن يأخذ زكاة مال اليتيم إذا كان مستحقاً لها، وذلك لأن المال مال غيره -اليتيم- وقد مكن الله عز وجل من الزكاة الأصناف الثمانية وملكها لهم فقال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] الآية. فاللام للملك. ولذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] فأثبت أنه حق فهو يستحقه بوصف الفقر، والله عز وجل أعطاه بهذا الوصف حقه في الزكاة، فيجوز له أن يأخذ زكاة مال اليتيم. لكن بشرط ألا يقدم نفسه مع وجود الغير المستحق والذي هو أولى منه وإنما يكون ذلك بالمعروف، والله تعالى أعلم حكم أكل ولي اليتيم من مال اليتيم السؤال هل يجوز لهذا الولي الفقير أن يأكل من المال للحاجة؟ الجواب هذه المسألة تقدمت معنا، فإذا كان ولي اليتيم فقيراً فإنه يأكل بالمعروف حكم تقديم مصلحة الأيتام على مصلحة الغرماء السؤال أيهما يقدم: مصلحة الغرماء أو مصلحة الأيتام إذا مات والدهم ولم يترك ما يزيد عن سداد حقوق الناس؟ الجواب أما بالنسبة للمال فليس للأيتام فيه حق إلا بعد سداد ديون الميت؛ لأن الله تعالى جعل الإرث بعد سداد الدين، فقال سبحانه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْن} [النساء:12] وفي الآية الثانية: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] وفي الآية الثالثة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11]. فهذا يدل على أن الإرث واستحقاق الإرث لا يكون إلا بعد سداد الديون، وذمة الميت مقدمة على ورثته في هذا؛ لأن الله نص على أن الإرث يكون بعد سداد الدين، فلا يجوز أن تبقى ذمة الميت معلقة بل ينبغي أن يبادر بسداد ديونه. لكن ينبغي على التجار والأغنياء أن يترفقوا بالأيتام، فإذا رأوهم أيتاماً محتاجين إلى المال لأمور ضرورية، فالأفضل لهم أن يوسعوا عليهم، وأن يحتسبوا ذلك عند الله عز وجل؛ لأن هذا من أفضل القربات وأحبها إلى الله سبحانه، فإن الإحسان إلى اليتامى أجره عظيم وثوابه كبير عند الله سبحانه؛ حتى قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) فكفالة اليتيم فيها إحسان، والصدقة على اليتيم إحسان، وكذلك أيضاً التوسعة على اليتامى إحسان، فالأفضل ألا يضيقوا على اليتامى، والله تعالى يبارك لهم في أموالهم ويوسع لهم من واسع فضله. والله تعالى أعلم حكم تنصيب القريب لنفسه ولياً على الأيتام السؤال إذا توفي الوالد ولم يوص لأحد بالولاية على أيتامه، فهل للقريب أن يتصرف في أموالهم بالأحظ لهم؟ الجواب من حيث الأصل: يكون النظر لليتامى للقاضي، فالقاضي ينظر من كان الأرشد والأتقى لله عز وجل من قرابته فينصبه عليهم. وإن وجد من قرابته كأعمام اليتامى وبني أعمامهم ونحو ذلك ممن هو أتقى لله عز وجل وأحفظ للمال فإنه يقدمه على غيره؛ لأن القريب أكثر شفقة وأكثر رعاية للمال وحفظاً له من غيره، ولأن اليتيم مع عمه وابن عمه يحس بشيء من الراحة فلا يستحي أن يطلب حاجته، ولا يستحي أن يسأل، فإذا كان من الأقرباء فهو أفضل وأولى. ولأن الولاية على اليتيم لا يخلو فيها الأمر من النظر إلى عورات، والاطلاع على بعض الأشياء الخاصة في اليتامى، فإذا كانت عوراتهم عند القريب فهو أولى أفضل، وينبغي على وليهم أن ينظر من هو الأولى من القرابة فيوصي إليه، وكذلك على القاضي أن ينظر إلى الأقرب فالأقرب لأنهم أولى من غيرهم. ولذلك قدم الله عز وجل القريب على الغريب، وعلى هذا قالوا: إن وجود القرابة يدعو إلى الشفقة والرحمة، والقريب يضحي أكثر مما يضحي الغريب؛ فالقريب إذا وجد مشقة من أولاد أخيه صبر عليهم وتحمل، وإذا وجد العناء أو أوذي بسبب القيام على مالهم وضاقت عليه الأمور احتسب الأجر، فعدها من صلة الرحم، فهذا لا شك أنه يحقق مصالح أكثر مما لو كان غريباً. والله تعالى أعلم حكم ضمان ولي اليتيم إذا تاجر بمال اليتيم وخسر دون تفريط منه السؤال إذا تاجر ولي اليتيم في ماله وخسر دون تفريط منه فهل يضمن؟ الجواب إذا تاجر ولي اليتيم في ماله وخسر فإنه لا يضمن إذا كانت التجارة بالمعروف ولم تكن هناك مخاطرة، أما إذا خاطر بالمال وغرر به فإنه يضمن؛ لأنه تعاطى سبب الضرر، وأما إذا كان الحال كما ذكر في السؤال من أنه لم يفرط فحينئذٍ لا ضمان عليه. والله تعالى أعلم حكم إقراض الناس من مال اليتيم السؤال هل يجوز للولي أن يعطي من مال اليتيم قرضاً لشخص آخر؟ الجواب مسألة الإقراض من مال اليتيم فيها وجهان للعلماء: بعض العلماء يقول: يجوز أن يقرض. وبعضهم يمنع وهو الأقوى، وهو الذي تطمئن إليه النفس من ولاية رب المال. لكن الذين قالوا بجواز القرض اختلفوا أيضاً على قولين: فمنهم من يقول بجوازه ويطلق. ومنهم من يقول: يجوز إذا أخذ الرهن واحتاط للمال، فإذا أخذ الرهن واحتاط للمال واستوثق جاز له أن يعطي القرض؛ لأنه قد حفظ مال اليتيم، والقرض فيه رفق بالناس وأجر لليتيم إذا بلغ. فقالوا: إنه أفضل وأكمل خاصة لما فيه من التوسعة على الناس، وخوف الضرر على اليتيم يمكن أن يتلافى بالرهن، ولكن الأول أشبه وأقوى. والله تعالى أعلم حكم إعطاء العمال جزءاً من ربح مال اليتيم السؤال إذا تاجر ولي اليتيم بماله فهل له أن يقول للعمال: لكم ربع الأرباح وهو المضاربة؟ الجواب هذه مسألة ثانية وهي مسألة المضاربة، تقول لشخص: خذ مائة ألف وتاجر بها والربح بيني وبينك، القراظ والمضاربة خارجة عن الأصول، ومعنى كونها خارجة عن الأصل: أنها تجارة جاءت على غير الوجه المعروف. وتوضيح ذلك أولاً: أن العمل مجهول والأجرة مجهولة وغير مضمونة، ففي القراض العمل مجهول؛ لأنك تعطيه مائة ألف وتقول له: اضرب بها في الأرض، فيمكن أن يشتغل بها شهرين ويمكن أن يشتغل بها سنة أو سنتين أو ثلاثاً فلا يعلم مقدار العمل ولا مدته، فالعمل مجهول والمدة مجهولة. ثانياً: الربح نفسه لا ندري كم سيكون قليلاً أو كثيراً، وإذا ثبت هذا -وهو جهالة العمل وجهالة الربح- قالوا: إذاً المضاربة خارجة عن الأصول، ومعنى كونها خارجة عن الأصول: أنه لا يقاس عليها غيرها، وكأنها جاءت رخصة وتوسعة، فيختص الحكم بها ولا يقاس غيرها عليها. وهذا مسلك طائفة من العلماء كما اختاره أئمة الحنفية والمالكية رحمهم الله وغيرهم، وهناك مسلك ثانٍ يقول: المضاربة إجارة ونوع من الشركة، فهو يستأجره ويشاركه في الربح، فيجوز على هذا القول أن تستأجر وتشارك وتجعل المضاربة نوعاً من الشركة. بناءً على القول الأول: لو قال لعامل في بقالة مثلاً: أعطيك أجرة الشهر ألف ريال وربع الربح، حينئذٍ يصح عندهم أن يقاس على المضاربة، ولكن على الوجه الصحيح من أن المضاربة خارجة عن الأصل، فيعتبر إجارة بالمجهول لأننا لا ندري كم ربع الربح، ولا ندري هل يربح كثيراً أو قليلاً. وبناءً على ذلك: لا يجوز الإجارة بالمجهول، والذي ذكرته في السؤال: إذا كان العمال الذين دفع المال إليهم على أساس أن يضاربوا بأنفسهم فلا إشكال أن لهم ربع الربح أو نصف الربح على ما اتفق عليه. لكن أن يقال لعامل يشتغل في مال اليتيم لك أجرة ثمانمائة ريال في الشهر وأعطيك ربع الربح أو نصف الربح -كما هو موجود الآن في بعض الأعمال- فلا يجوز؛ لأن إدخال المجهول على المعلوم يصير المعلوم مجهولاً، فهو وإن استأجره بألف ريال شهرياً -وهي معلومة- لكن ربع الربح أو ربع الناتج مجهول. وحينئذٍ يغرر بالعامل، فقد يظن العامل أن المحل سيربح كثيراً، فيدخل على أساس أنه سيأخذ ربحاً كثيراً، وإذا بالربع شيء يسير والمحل لا يربح كثيراً، فحينئذٍ يكون من الغرر. ولذلك الأشبه بالقواعد الشرعية والأصول الشرعية عدم صحة أن يقول لهم: اشتغلوا ولكم ألف وربع الناتج أو نصف الناتج، أو خذ هذه السيارة واعمل بها اليوم ونصف ما تنتجه بيني وبينك، لا يصح لأن هذا تغرير به، فيتعب يومه كله، وقد لا يجد إلا راكباً واحداً، والشريعة لا تريد هذا، إنما تريده أن يعمل ويأخذ عرق جبينه بالشيء الواضح. فإذا قلت له: خذ السيارة وأعطني مائة، هذا جائز؛ لأنها أجرة لك، ثم هو يملأ بنزينها ويعمل بها خلال ساعات اليوم، ويحدد له اثني عشر ساعة أو عشر ساعات، وتصبح إجارة للزمان ولا إشكال فيها وهي جائزة، لكن يقول له: خذها ويكون البنزين عليك ولك ربع الناتج أو نصف الناتج أو ثلث الناتج هذا يعتبر من المجهول ولا يصح؛ لأنه إجارة بالمجهول، وإجارة المجهول لا تجوز إجماعاً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
__________________
|
#364
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (337) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - باب الوكالة [1] شرع الله سبحانه وتعالى الوكالة رحمة بالعباد ورفقاً بهم، حتى يأخذ الناس حقوقهم، ويحافظوا على أموالهم، ولا تكون الوكالة في كل شيء، فهناك أشياء لا تصح فيها الوكالة مطلقاً، وهناك أشياء تصح فيها الوكالة عند العجز، وهناك أشياء تصح فيها الوكالة مطلقاً الوكالة تعريفها وحكمها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الوكالة]. هذا الباب يشمل على جملةٍ من الأحكام والمسائل المتعلقة بالنيابة، سواءً كانت في العبادات أو في المعاملات، فيقيم المسلم غيره مقامه، لاستيفاء حقٍ من حقوقه، أو يقيمه مقامه في عبادةٍ أذن الشرع فيها بالنيابة. وباب الوكالة متصلٌ بباب الحجر بمناسبةٍ ظاهرة وهي: كون الحجر يتولى فيه ولي المحجور النظر في أمواله ومصالحه، وكأن الوكيل أصبح قائماً مقام من تولى النظر في مصالح موكله، فالمناسبة ظاهرة تعريف الوكالة لغةً والوكالة في لغة العرب تطلق بمعنى: الحفظ والتفويض، وكذلك القيام على الشيء، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122] أي: ليفوضوا أمورهم إلى الله {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9] أي: فوض أمورك إليه، واجعل جميع حوائجك إليه، وكِلْ أمورك إلى الله سبحانه وتعالى، وقال سبحانه عن نبيه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود:56] أي: فوضت أمري كله لله، وقال تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] فهو سبحانه القائم على أمور عباده. وعلى هذا دارت معاني الوكالة في الحفظ، وكذلك أيضاً التفويض، وكذلك القيام على الشيء والكفالة تعريف الوكالة اصطلاحاً والوكالة في الاصطلاح: استنابة جائز التصرف لمثله فيما يدخله النيابة، وقيد بعض العلماء هذا التعريف بقوله: في حياته، كما هو مسلك الشافعية رحمهم الله. فقولهم: (استنابة)، الاستنابة: مأخوذة من النيابة، والأشياء تقع على صورتين: إما أن تقع من الإنسان أصالةً، وإما أن تقع من الإنسان نيابةً، فإذا أسند الإنسان الشيء إلى غيره فقد أنابه وأقامه مقامه، فقالوا: الوكالة استنابة، فعندنا موكِل، وعندنا موكَل، وعندنا موكَلٌ فيه، وعندنا صيغةٌ تقع بها الوكالة، فالاستنابة تحصل من الموكِل، وتُطلَب من الوكيل، ولذلك يقولون: هي من الموكل -اسم الفاعل- إذْن، ومن الوكيل رفق، وتوضيح ذلك: أنك إذا قلت لشخص: بع البيت لي، فقد أذنت له أن يبيع، وهو يقوم بالبيع رفقاً بك. وأما بالنسبة لقولهم: (استنابة جائز التصرف)، وبعض العلماء يقول: (استنابة من له حق التصرف)، فهذا من إضافة المصدر إلى فاعله، ومعناه: أن يكون شخصاً بالغاً عاقلاً حراً رشيداً، فهذه أمور أو صفات إذا توفرت في الشخص حكمنا بكونه أهلاً للتصرف، والتصرف يشمل: البيع، والشراء، والإجارة، وسائر العقود التي سبق أن ذكرنا ضوابط التصرف فيها في باب الحجر، وكذلك غيره من أبواب المعاملات، فحينما قال العلماء: الوكالة: استنابة من له حق التصرف، فمعنى ذلك: أن الذي يوكِّل لا بد وأن يكون أهلاً للتصرف فيما وكَّل فيه. وعلى هذا: إذا كانت وكالةً ببيع فلا بد وأن يكون الموكِّل أهلاً لأن يبيع، وإذا كانت وكالةً بإجارة فلا بد وأن يكون الموكِّل أهلاً لأن يؤجر، وإذا كانت وكالةً بغير ذلك من العقود فلا بد وأن يكون الأصيل والموكِّل أهلاً للقيام بها، فلو كان الأصيل -وهو الموكِّل- ليس بأهل كأن يكون ليس ببالغٍ كالصبي ولا عاقلٍ كالمجنون وقال لغيره: بع داري أو أجر الدار لم تصح الوكالة؛ وذلك لأنه ممنوع من التصرف في حق نفسه فمن باب أولى أن يمنع من إنابة غيره؛ ولأن النيابة تفتقر إلى وجود أهلية في الأصل حتى يتحقق إذن الشرع بالنيابة على الوجه المرضي. (استنابة من له حق التصرف مثلَه)، فقولهم: استنابة من له حق التصرف، هذا بالنسبة للموكل (مثله) هذا الوكيل، وقالوا: (مثله)؛ لأن القاعدة في الشرع تقول: (البدل يأخذ الحكم مبدله)، و (الفرع تابعٌ لأصله)، فالفرع يستمد قوته من الأصل، فإن كان عند الأصل قوة كان الفرع قائماً عليها، وأما إذا كان الأصل ليس له حق التصرف وليس بأهل فإنه حينئذٍ لا ينبني عليه غيره، وكذلك أيضاً من يقوم مقامه لا بد وأن يكون أهلاً للتصرف، وعلى هذا فلو وكلت شخصاً بالبيع فلابد وأن يكون الشخص الذي يقوم بالبيع عنك أهلاً لأن يبيع لنفسه؛ لأنه إذا كان لا يصح بيعه لنفسه فمن باب أولى أن لا يصح بيعه لغيره. مثال ذلك: لو وكَّل عاقل أو من هو أهل للتصرف مجنوناً لم تصح الوكالة؛ لأنه ليس بمثله أي: ليس ممن هو جائز التصرف، ولو وكّل صبياً أو محجوراً عليه فإنه لا يحكم باعتبار الوكالة؛ لأنها لم تقع على الوجه المعتد به شرعاً، وهو أن يكون مثله فيما تدخله النيابة، هذا هو محل الوكالة، فأنت توكل شخصاً للقيام بأمر إثباتاً ونفياً في حقٍ مالي أو غير مالي، في حقٍ لله أو حق لعباده، فهذا كله يسمى محلاً للوكالة، فلو قلت له: وكلتك أن تبيع أرضي، فمحل الوكالة بيع الأرض، ولو قلت له: وكلتك أن تبيع داري فمحل الوكالة الدار، ولو قلت له: وكلتك أن تحج عني -وكانت الوكالة بالحج معتداً بها شرعاً، وممن يعجز أن يحج لنفسه- فإنه حينئذٍ يكون محل الوكالة هو الحج وهكذا (فيما تدخله النيابة) هذا قيد يخرج ما لا تدخله النيابة، فلو قال شخصٌ لآخر: وكلتك أن تصلي عني! لم يصح؛ لأن الشرع قصد أن يصلي المكلف بعينه؛ ولذلك يقولون: فروض الأعيان التي قصدها الشرع من عين المكلَّف -وإلا قد تكون فرض عين لا يقصد منها الشرع أن يقوم بها المكلف بعينه- لا تدخلها النيابة، كالصلاة حيث قصدها الشرع من المكلف بعينه، فلا يمكن لشخص أن يقول: أنا أصلي عنك. كذلك أيضاً أن لا يكون محل الوكالة مما فيه إثم، ومن ذلك منع العلماء -رحمهم الله- أن يوكل غيره في ظهار امرأته؛ لأن الظهار منكرٌ من القول وزور، وقالوا: الأصل في ذلك قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، فهو إذا أقام غيره مقامه في فعل إثمٍ أو طلبه أو تحصيله فقد خالف مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع أن لا يفعل هذا الإثم وأن لا يتعاون عليه، فلو كانت الوكالة صحيحة فكأن الشرع يأذن لذلك فعل المحرم، هذا بالنسبة لقوله: (فيما تدخله النيابة)، فخرج الذي لا تدخله النيابة. كذلك أيضاً: ينبغي أن تقع هذه الوكالة في الحياة، أما لو أسند إليه الفعل بعد الموت فهي وصية، وليست بوكالة، فلو عهد إليه أن يزوج أيتامه أو يزوج بناته فإنه في هذه الحالة وصيٌ وليس بوكيل، فالوكالة في الحياة والوصية من بعد الموت. هذا حاصل ما ذُكِر في تعريف الوكالة، والوكالة شرعها الله عز وجل وأباحها لعباده لما فيها من الرفق والتيسير ومحض الإحسان، فإن الإنسان قد يتعذر عليه أن يقوم بتحصيل مصالحه بنفسه، وقد يتعذر عليه ذلك بسبب شغله، وقد يكون من الصعوبة أن يقوم بذلك بسبب مكانته كالعالم يتولى أمور البيع والشراء بنفسه، فيقع في حرج السوق، وربما يكون في أمرٍ فيه خصومة فيقع في تسلط السفهاء وأذيتهم ونحو ذلك، فشرع الله عز وجل الوكالة حتى يدفع الإنسان عن نفسه الضرر في مثل هذا، ثم أيضاً يحصل بهذه الوكالة المعونة على الحق والخير، فلربما كان الموكل محتاجاً إلى الوصول إلى حق من حقوقه كما يقع في القضاء؛ ولكنه لا يحسن الكلام ولا يحسن الاستدلال لنفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) فبعض الناس يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، ويستطيع بلسانه وحلو مقاله أن يؤذي الناس ويكون الشخص مصيباً فيواجه مثل هذا، فحينئذٍ لو واجهه غلب على ظنه أنه لا يستطيع أن يقوم بحجته، فيوكل من يرى أنه أهل لبيان حقه والدفاع عن حقوقه، ففي الوكالة رفقٌ بالناس من هذه الوجوه مشروعية الوكالة وقد دل دليل الكتاب ودليل السنة ودليل الإجماع على جوازها وصحتها، أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال عن أهل الكهف: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف:19] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى حكى عمن قبلنا أنهم تعاطوا هذا النوع من المعاملة -وهو الوكالة- فوكل أصحاب الكهف أحدهم أن يشتري لهم ويتولى عقداً من العقود المالية: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)، فوكلوه أن يشتري لهم الطعام وجعلوا الوكالة مقيدة، (أَيُّهَا أَزْكَى) أيها أطيب (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) وعلى هذا قالوا: دلت الآية على مشروعية الوكالة، وكذلك أيضاً قال تعالى عن نبيه يوسف: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، قال بعض العلماء: إن هذه الآية تدل على مشروعية الوكالة؛ فإن يوسف عليه السلام سأل من ملك مصر أن يجعله قائماً على خزائن الأرض، وإذا كان قائماً فإنه يقوم بالوكالة؛ لأنه في هذه الحالة وكيلٌ عن الولي العام، وحينئذٍ دلت الآية على شرعية الوكالة في تحصيل المصالح ودرء المفاسد، فالآية الأولى تدل على شرعية الوكالة في الأموال والعقود المالية، وآية سورة يوسف تدل على شرعية الوكالة فيما تدخله الوكالة في المصالح العامة. وكذلك السنة: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكَّل، ومن ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث عروة بن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه وأرضاه قال له النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام: (اشتر لنا من هذا الجلب شاةً، فذهب عروة وأعطاه ديناراً، فذهب عروة إلى السوق فاشترى شاتين بدينار، ثم باع إحدى الشاتين بدينار فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، وقال: يا رسول الله! هذه شاتكم وهذا ديناركم). ولفظ صيغة الحديث عند الدارقطني وأحمد: عن عروة بن أبي الجعد قال: عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني ديناراً وقال: (أي عروة! ائت الجلب فاشتر لنا شاة بهذا الدينار، فأتيت الجلب فساومت فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما أو قال: أقودهما، فلقيني رجل في الطريق فساومني فبعت إحدى الشاتين بدينار، وجئت بالشاة وبدينار فقلت: يا رسول الله! هذه الشاة وهذا ديناركم فقال: صنعت كيف؟ فحدثته بالحديث فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فلقد رأيتني أقف في كناسة الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي) أعطاه ديناراً فاشترى به شاتين بدلاً من شاة واحدة وقال له: اشتر لنا شاة واحدة، فذهب واشترى الشاتين بدينار، فلما اشترى الشاتين باع إحداهما بدينار، فرجع بالدينار رأس المال، ورجع أيضاً بالشاة، وهذا حديث عظيم فيه فوائد عظيمة منها: الوكالة، حيث وكله النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (اشترِ لنا من هذا الجلب شاةً). ومنها: جواز أن يأخذ الربح (100%)، وما يقوله بعض العوام من أنه لا يجوز أن يربح أكثر من (10%) أي: عشر الثمن أو نصف الثمن كل ذلك معارض للشرع، فالشرع أطلق البيع وأذن للمسلم أن يأخذ ولو أضعاف أضعاف قيمة المبيع؛ لأنه اشترى بنصف دينار وباع بدينار وهذا ربح (100%)، وعلى هذا: فالحديث دلّ على مشروعية الوكالة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها. كذلك أيضاً حديث: حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً، وأمره أن يشتري شاةً أضحية، فهذا توكيل. كذلك أيضاً: حديث أبي رافع رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم وكله في نكاح ميمونة، وبعثه سفيراً إليها رضي الله عنه وعنها، فكل هذه النصوص من الكتاب والسنة جعلت أمر الوكالة محل إجماعٍ عند أهل العلم، فقالوا بمشروعية الوكالة وجوازها. ومن الحكم المستفادة من شرعيتها: الرفق بالموكل، وكذلك حصول الأجر للوكيل لما فيه من المعونة والإحسان، ويعتبر العلماء عقد الوكالة من عقود الرفق، بمعنى: أنه لو وكل شخص شخصاً فالمقصود من هذه الوكالة الرفق؛ لأنك إذا توكلت عنه بالبيع، وبعت عنه فقد رفقت به في مصلحة البيع، ولو توكلت عنه في إجارة أو نكاحٍ أو غيره فقد رفقت به في تحصيل تلك المصلحة. يقول المصنف رحمه الله: (باب الوكالة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بعقد الوكالة الصيغة التي تتم بها الوكالة صيغة الإيجاب من الموكل قال رحمه الله: [تصح بكل قولٍ يدل على الإذن]. يقول رحمه الله: (تصح) أي: الوكالة، (بكل قولٍ يدل على الإذن)، فالوكالة تكون بالقول، وتكون بالفعل، وبكل ما يدل على الإذن بأن يقوم الشخص مقام موكله، أما قوله: (تصح بكل قولٍ) فالقول ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يسميه العلماء: القول الصريح. القسم الثاني: القول غير الصريح، وهو الظني الذي يدل على أنه وكلك بصيغةٍ أو بلفظٍ غير صريح بل محتمل، لكنه يتضمن معنى الإذن، فأما إذنه لك بالوكالة فيقول: يا محمد أو يا عبد الله وكلتك أن تشتري لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، فحينئذٍ وكلك بصريح القول، وقد يوكلك بالفعل، مثلاً: تجد العامل إذا كان يعمل مع شخص في دكانٍ فجاء إلى صاحب الدكان وقال: انتهى الماء عندنا، ومن عادته أن يشتري الماء بمائة ريال، فأخذ صاحب الدكان مائة من جيبه ورماها للعامل، ما معناه؟ معناه: قد وكلتك أن تذهب وتشتري لنا ماءً مثل ما كنت أو عهدت أو كان بيننا فيما تقدم، فهو لم يتكلم ولم يقل له: وكلتك أن تشتري، بل هذه دلالة الفهم، فعندنا دلالة القول وعندنا دلالة الفهم، ودلالة القول الصريح منها: وكلتك، والضمني كأن يقول له: خذ، ولا يوكله بصريح القول: وكلتك، أو يقول له: قم بالشيء، افعل الشيء، ولا يأتِ بصريح لفظ الوكالة، فعندنا اللفظ الصريح: وكلتك، واللفظ غير الصريح: قم بالأمر، تولَّ الأمر، انظر في الأمر، ونحو ذلك مما هو متضمنٌ للإذن وليس بصريح، وأما الفعل: كأن يلقي له المال دالاً على الإذن بالشراء أو نحو ذلك من التصرفات التي تتضمن معنى النيابة. قال رحمه الله: [ويصح القبول على الفور والتراخي بكل قول أو فعل دال عليه]. عندنا الوكالة فيها: صيغة، وموكل، ووكيل -وهما العاقدان- ومحل الوكالة، أما العاقدان: فوكيل وموكل، ولا تقع الوكالة إلا بطرفين: أحدهما موكِّل والثاني: موكَّل أو وكيل؛ أما الصيغة فالتي ذكرناها، وتشتمل على الإيجاب والقبول، والمحل يشتمل على المطلوب فعله من الوكيل، فأما بالنسبة للمصنف رحمه الله فابتدأ بأحكام الصيغة، وإذا قال العلماء: صيغة الوكالة، صيغة الصلح، صيغة البيع، صيغة الإجارة، فهناك جانبان لا بد وأن يضعهما طالب العلم أمامه: الإيجاب والقبول، فهناك إيجاب صادر من الأهل وهو قوله: وكلتك، وهناك قبول من الطرف المقابل يقول: قبلت، فالصيغة تقوم على جانبين: الإيجاب والقبول، فلما أراد المصنف أن يبين أحكام الصيغة ابتدأ بالإيجاب، وذلك بقوله: (تصح بكل قولٍ دالٍ على الإذن)، كما ذكرنا: الصريح وغير الصريح، وفي حكم القول: الفعل، وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله -وهذا أصل سبق وأن نبهنا عليه- مسألة تنزيل الأفعال منزلة الأقوال، وذلك في كتابه النفيس: القواعد النورانية، وهو من أنفس ما كتب في القواعد الفقهية التي قعدها ونظرها، وبين فيها أن أصول الشريعة الإسلامية لا تلزمنا في العقود بلفظٍ معين أو صيغةٍ معينة إلا إذا دلّ الدليل على الإلزام، وأن الناس يعتدون بما تعارفوا عليه من الصيغ إيجاباً وقبولاً، وبناءً على ذلك نأخذ صيغة الوكالة، فعندنا إيجاب وعندنا قبول، ونقول: القاعدة في ذلك: كل ما تعارف الناس عليه أنه يتضمن معنى الوكالة فهو وكالة، إن كان بالقول فقول، وإن كان بالفعل ففعل، ويعتبر صيغة للوكالة. بقي أن نقول: القول في الوكالة وصيغة الوكالة يكون من الموكل والوكيل، فبعد أن فرغ -رحمه الله- من الموكل، وقوله: (وكلتك) فلا بد وأن يكون هناك ما يقابله وهو القبول صيغة القبول من الوكيل فقال رحمه الله: [ويصح القبول على الفور والتراخي]. ويصح القبول من الوكيل على الفور وعلى التراخي، على الفور كأن يقول له: يا محمد! وكلتك أن تبيع سيارتي بعشرة آلاف عصر هذا اليوم في السوق، فيقول: قبلت، فهذا قبول على الفور، بمجرد ما انتهى من صيغة الوكالة قال: قبلت، فالصيغة إذا كان بها جانب الإيجاب والقبول فإما أن تكون على الفور أو على التراخي، فالفورية أن يكون القبول مباشراً، والتراخي أن يتأخر القبول إما عن المجلس فيختلف المكان، أو يتأخر بالزمان كأن يقول له: يا محمد! وكلتك أن تزوج ابنتي من فلان، فسكت، وفي بعض الأمور إذا طُلِب منك أن تقوم مقام غيرك فالحكمة تقتضي أن لا تعجل، وأن تنظر: هل تستطيع القيام بذلك الأمر وهل هناك مصالح يمكن تحقيقها، وما طلب منك هل تترتب عليه مفاسد أو لا تترتب؟ فتحتاج أن تنظر وتتراخى فيه في القبول، والشريعة وسعت في هذا الأمر، فلك أن تقول مباشرة: قبلت، ولك أن تتأخر حتى تنظر: هل الأصلح أن توافق أو لا توافق؟ ثم بعد ذلك تقول ما ترى فيه المصلحة. أيضاً من التراخي أن يكتب له كتاباً: يا فلان! إني وكلتك أن تبيع داري بالمدينة، فيخرج الكتاب من بلد الموكل إلى بلد الوكيل الذي فيه الدار ويستغرق شهراً، أو يستغرق -مثلاً- سنةً، أو يأخذ وقتاً طويلاً ويتأخر الكتاب كما في القديم، فلم يأت إلا بعد شهور، فهل نقول: الصيغة باطلة؟ هذا مراد العلماء، فتصح الوكالة إذا وقع القبول فيها فورياً أو متراخياً، فلا يؤثر في هذا لو كتب له كتاب قبل شهور، فلا يأتي ويقول: هذه وكالةٌ غير صحيحة، لأنه قد وكلني قبل شهور، بل نقول: يصح القبول في الوكالة على الفور وعلى التراخي. قوله: [بكل قول أو فعل دال عليه]. (بكل قول) تقول: قبلت، (بكل) من صيغ العموم، فكما أن القول في الإيجاب على قسمين: صريح وضمني، كذلك القبول صريح وضمني، فالقبول الصريح كأن يقول لك: يا محمد! وكلتك أن تبيع داري في المدينة بعشرة آلاف، فتقول: قبلت وكالتك، فهذا صريح وليس فيه إشكال، فإنك نظرت وقبلت وكالته بصريح اللفظ الذي لا يحتمل. القول الضمني في القبول هو كالذي يعرف الآن في أعرافنا، يقول له: يا محمد! بع سيارتي مثلاً بما تراه، فيقول: ما يهمك، فهذه ليست بصريحة في قبول الوكالة، لكن درج العرف على أنها تدل على الرضا والقبول، فتنزل منزلة الصريح، فقوله: ما يهمك، أنا أتولى الأمر عنك، اترك الأمر لي، -هذه كلها عبارات ليست بصريحة في الوكالة، لكنها تتضمن معنى القيام أو القبول بالتفويض والوكالة، فالقول الصريح والقول الضمني والفعل الدال يدخل في ذلك، والفعل الدال كأن يقول: يا محمد! خذ هذا الكتاب وأعطه زيدا، فقام وأخذ الكتاب دون أن يقول: قبلت؛ فإن حمله للكتاب يدل على أنه قد رضي بالوكالة، فإذا حمل الكتاب وخرج من عنده وافترق عنه وحدث أي شيء للكتاب ترتبت عليه أحكام الوكالة، وهل يضمن الوكيل أو لا يضمن، كما سيأتي إن شاء الله. فإذاً نقول: القول الصريح وغير الصريح والفعل في القبول سواء يتبع
__________________
|
#365
|
||||
|
||||
![]() محل الوكالة وأقسامه قال رحمه الله: [ومن له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه]. هذه المسألة: محل الوكالة، ذكرها رحمه الله بعد أن فرغ من الصيغة، فالموكل والوكيل بينا ضوابطهما في الأصل، لكن نريد الآن أن نعرف ما هي الأشياء التي يمكن أن يوكل فيها، والأشياء التي لا يمكن أن تكون محلاً للوكالة، أو لا يصح أن تقع فيها وكالة، فتنقسم الأشياء من حيث الوكالة إلى أقسام: القسم الأول: أن يكون الشيء مما تجوز فيه النيابة مع العجز والقدرة. القسم الثاني: أن يكون الشيء مما لا تجوز فيه النيابة لا مع العجز ولا مع القدرة. القسم الثالث: أن يكون الشيء مما تجوز فيه النيابة مع العجز ولا تجوز مع القدرة ما تجوز فيه النيابة مع العجز والقدرة القسم الأول: أن يكون الشيء الذي وقعت فيه الوكالة -سواءً كان البيع أو الإجارة أو الرهن أو المضاربة أو غير ذلك من العقود- مما تجوز فيه النيابة، سواءً كنت أنت الموكل عاجزاً أو قادراً، وهذا معنى قولنا: (تصح فيه النيابة مع العجز والقدرة)، العجز: أي: عن فعل ذلك الشيء، والقدرة: التمكن من القيام بذلك الشيء، وهذا غالباً ما يقع، فهذا هو القسم الأول من محل الوكالة: أن يكون الشيء تدخله الوكالة مع العجز والقدرة، وهذا غالباً ما يقع في الحقوق المالية، أو في المعاملات. وهذا القسم ينقسم في الأموال إلى نوعين: النوع الأول: الحقوق المتعلقة بالله سبحانه، فإذا وقع أحد في الوكالة في حقٍ مالي وجاءك يسأل: هل هي وكالة شرعية أو غير شرعية؟ فتنظر إلى هذا الحق المالي وتصنفه، فلا يخلو: إما أن يكون حقاً لله، أو يكون حقاً للمخلوق، فهناك حقوقٌ مالية لله، وهناك حقوق مالية للمخلوق، فأما إذا وكله في حقٍ مالي لله مما تجوز فيه النيابة فإنه تصح الوكالة، ومن ذلك: الزكاة والكفارات الواجبة، فلو قال رجل لرجل: زكاتي عشرة آلافٍ وكلتك أن تتولى صرفها للمستحقين، فإنها وكالةٌ شرعية، فالزكاة عبادة والحق المالي الموجود فيها لله، لكنها تقبل النيابة والتفويض، فحينئذٍ يصح التوكيل سواء قال له: أن تدفع زكاتي للمستحق، فأبهم من حيث الشخص وعين في الصفة، أو يحدد نوعاً من المستحقين فيقول: أن تصرفها للفقراء فقط، أو للأيتام أو للمساكين، فهذا تفويض وتوكيل مخصص، وينبغي أن تكون الوكالة مختصة كما سيأتي، هذا بالنسبة لحق الزكاة. ومن حقوق الله تعالى المالية التي تدخلها النيابة مع العجز والقدرة: الكفارات، فلو أن رجلاً وجبت عليه الكفارة ليمينه، فقال: يا محمد! كفر عني يميناً حنثت فيها فأطعم عني عشرة مساكين أو اكسهم، فحينئذٍ إذا قال له: وكلتك أن تُطعم عني عشرة مساكين أو تكسوهم صحت الوكالة، ولا يقول قائل: لا يجوز التوكيل في هذا الحق؛ لأنه من العبادات، بل هذه عبادة وحق مالي تدخله النيابة. كذلك لو أنه ظاهر من امرأته، أو جامع في نهار رمضان وهو صائم، أو قتل خطأً فوجبت عليه الكفارة التي تقوم على عتق الرقبة، فإن عجز صام شهرين متتابعين في الظهار، فعتق الرقبة حق مالي متعلق لله سبحانه وتعالى، فقال له: كفر عني بعتق رقبة، فوكله في حقٍ مالي تدخله النيابة فتصح الوكالة، فأعتق عنه الرقبة لظهارٍ أو قتلٍ أو جماعٍ في نهار رمضان صح، فهي حقٌ مالي وتدخله النيابة، كذلك لو أنه أصاب محظوراً في الحج، فوكله في الفدية، أو ترك واجباً فوكله في دم الجبران، أو وكله أن يشتري هدي التمتع أو هدي القران ويذبحه ويتولاه صحت الوكالة، لكن ينتبه إلى أن هذه الوكالة لا يشترط فيها العجز، فلا نقول له: لا توكل إلا إذا كنت عاجزا، بل نقول: من حقك أن تخرج الزكاة بنفسك أو توكل، سواءً كنت قادراً في الوكالة أو عاجزا، فهذا معنى قولهم: (تدخله النيابة مع العجز والقدرة)، فهذا النوع الأول: حقوق الله تعالى بالنسبة للأموال. النوع الثاني من الذي تدخله النيابة: حقوق العباد، وحقوق العباد المالية تدخلها النيابة سواء وكلته وأنبته في العقد، أو وكلته وأنبته في النقد، أو وكلته وأنبته في تحصيل رفقٍ. إلخ. فأما توكيلك له في العقد فالعقود المالية تشمل: البيع، الإجارة، المضاربة، الشركة. إلخ، فأنت إذا وكلت شخصاً في حقٍ مالي لك -الذي هو العقد- من حقك أن تتولاه، فمثلاً: السيارة من حقك أن تبيعها، ومن حقك أن تشتريها، فلك الحق أن توكل ببيعها وتوكل بشرائها، هذا توكيلٌ بالبيع وبعقد البيع، فهذا يسمونه توكيل بالعقد ومن أمثلته: البيع الإجارة المضاربة إلى آخره، وهذا النوع من التوكيل في العقد على ضربين: الضرب الأول: أن توكله في الإنشاء، إنشاء العقود. الضرب الثاني: أن توكله في هدم العقود وهو ما يسميه العلماء بالفسخ، فيصح لك أن توكل في حقٍ مالي في العقود المالية إنشاءً وفسخاً، فالحقوق المالية في العقود تقبل التوكيل إنشاءً وفسخاً، ما معنى الإنشاء؟ وما معنى الفسخ؟ يعني: من حقك أن تقيم غيرك مقامك في إبرام العقد، فتلتزم بما وكلته أن يلتزم به، وأيضاً من حقك أن توكله في فسخ العقد، مثاله: لو قال شخص لآخر: وكلتك أن تشتري لي سيارة من نوع كذا بعشرة آلاف، هذا توكيل بالإنشاء، فينشئ عقد البيع ويدخل إلى ذمة موكله هذا النوع من المبيعات، فالوكالة صحيحة ومعتبرة في هذا، أما الفسخ فالعكس، يقول له: وكلتك أن تفسخ هذا البيع لوجود خيار، كأن يطلع على عيب في السلعة فقال له: اذهب ورد لفلانٍ ثوبه هذا وخذ الثمن منه، فإنه معيب ولا أريد أن أتم هذا، والعيب يوجب خيار الفسخ، فحينئذٍ من حقه أن يفسخ، فيوكله أن يفسخ العقد، فلا نقول في حقوق الأموال: تصح إنشاءً ولا تصح فسخاً، بل نقول: تصح إنشاءً وفسخاً، هذا بالنسبة للتوكيل في العقد إذا كان حقاً ماليا. التوكيل في النقد -في النقود والدراهم-: وهذا من أشهر ما يقع في عقد القرض والحوالة، فمن حقك أن توكل في القروض وتقول: أعط فلاناً مائة ألفٍ قرضاً، أو يقول التاجر للعامل الذي يكون في المحل: ديّن فلاناً أو ديّن الضعيف وأعطه شهراً أو شهرين، فأعطاه إذناً في أن يقرض الغير، فهذه وكالةٌ بالقرض، وقد يكون التوكيل في القرض -الذي هو النقد- من جهة الحوالة بالقرض، وهذا من جهة الإثبات، فيحيل ويقول له: وكلتك أن تحيل فلاناً على فلان، هذا توكيل للقرض بالحوالة، وكما أن القروض تقع فيها الوكالة إثباتاً كذلك تقع الوكالة فيها إبراءً ومسامحةً، ومن هذا ما ثبت في الحديث الصحيح كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه كان فيمن قبلنا رجلٌ يقرض الناس وكان يقول لغلمانه: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنا، ففعلوا ذلك، فلقي الله عز وجل، فقال الله عز وجل: يا ملائكتي! نحن أحق بالعفو منه تجاوزوا عن عبدي)، فوجه الدلالة: أنه وكل عماله ومن تحت يده أن يسقطوا الديون وأن يؤخروا وأن يوسعوا على المعسرين، فهذا يدل على مشروعية التوكيل في القروض إسقاطاً ومسامحةً وتوسعةً، وعليه: فإن القروض تدخلها الوكالة. كذلك أيضاً: تقع الوكالة في عقود الأموال أو الحقوق المالية المتعلقة بعقود الإرفاق ومن أشهرها: العارية والوديعة، العارية تقول: يا فلان اذهب لفلان واستعر لي منه كتابه، فقد وكلته عنك أن يستعير ذلك الكتاب، وكذلك تقول له: اذهب إليه وخذ منه سيارته وقل له: أريدها يوماً أو أريدها لحاجةٍ، فتكون وكلته أن يستعير عنك، والعكس، فتوكله أن يرد العارية، فتقول له: خذ كتاب فلانٍ وأعطه إياه، فهذه وكالة برد العارية، فتقع الوكالة أيضاً في عقود الإرفاق عاريةً ووديعة، هذا بالنسبة للحقوق المالية المتعلقة بالله سبحانه وتعالى والحقوق المالية المتعلقة بالعباد. قد يتبع هذا القسم: الحقوق التي أذن الشرع فيها بالتوكيل مع العجز والقدرة من غير الأموال، وذلك كما هو في النكاح، فالنكاح يصح أن توكل فيه إنشاءً، ويصح أن توكل فيه فسخاً، وكذلك رفعاً، فتوكل في النكاح إنشاءً كأن تقول لرجلٍ: اقبل نكاحي من فلانٍ، وكلتك أن تقبل زواج فلانةٍ عني، فهو وكيل، فينشئ العقد بدلاً عنه، أو يقول رجل آخر: وكلتك أن تزوج ابنتي من فلان، فهذا توكيل بالإنشاء، ويقع التوكيل في النكاح رفعاً في الطلاق؛ لأن الطلاق يسمى رفع وتقول: وكلتك أن تطلق نسائي، أو يقول له: وكلتك أن تطلق فلانة طلقة، فهذا توكيل في رفع النكاح، ويقع التوكيل في فسخ النكاح وذلك بالخلع، فيقول له: وكلتك أن تخالع فلانة، أو المرأة تقول لأخيها: خالعني من زوجي وأعطه المال والمهر، فهذا توكيلٌ بالخلع، فلو أن المرأة وكلت أخاها أن يتولى خلعها من زوجها، وجاء الأخ إلى عند القاضي فلا يقول القاضي: لا بد وأن تحضر، بل إنه تجوز فيه الوكالة ولا تلزم بالحضور. وعلى هذا: فالوكالة تسري في النكاح إنشاءً ورفعاً وفسخا، وكذلك تقع في النكاح استدامة، كما في الرجعة، فلو قال له: وكلتك أن ترجع لي زوجتي -هذا في الرجعة- يصح في ذلك وتقع الوكالة، هذا بالنسبة للحقوق التي تدخلها النيابة مع العجز والقدرة ولا يشترط عجزُ الإنسان ما لا تجوز فيه الوكالة لا مع العجز ولا مع القدرة القسم الثاني: أن تكون الوكالة في الحقوق التي لا تقبل النيابة، لا في حال العجز ولا في حال القدرة، وذلك كالصلاة؛ فإن الصلاة لا تصح فيها الوكالة لا مع العجز ولا مع القدرة، فلا يصح لشخص قادر على الصلاة أن يقول لغيره: وكلتك أن تصليّ عني، ولا يصح لشخصٍ عاجزٍ عن الصلاة أن يقول لغيره: وكلتك أن تصلي عني، هذا بالنسبة للصلاة، وقد يقع ذلك على سبيل التبع لا الأصل، كما في صلاة الركعتين في الحج والعمرة عن الغير؛ فإنك تصلي عنه لكن وقعت تبعاً، ولم تقع أصلاً، ويجوز في التابع مما لا يجوز في الأصل، وذكرنا هذه القاعدة وأدلتها، ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين. فهذا النوع الثاني وهو الذي لا تصح فيه النيابة لا في حال العجز ولا في حال القدرة، بالإجماع لا تدخل فيه الوكالة. لكن هناك نوع من العبادة وهو الصيام عن الغير، هل يجوز الصيام عن الغير في حال العجز وهذا إذا كان ميتاً؟ فهل تدخل الوكالة في ذلك أو لا تدخل؟ هل تدخل النيابة فيه أو لا؟ هذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله. يبقى السؤال عن مسألة الطهارة -أما الصلاة فلا تقبل وكالة فلو وكَل المصلي لم يصح- لو قال له: يا فلان تطهر عني، فالطهارة تنقسم إلى قسمين: طهارة الحدث، وطهارة الخبث، فأما طهارة الخبث، فإنه إذا قام بتطهير المحل دون أن ينوي الأصل طهارة الخبث صح؛ لأننا ذكرنا في باب الطهارة أن إزالة النجاسة لا تشترط لها النية، وبناءً عليه فالمريض الذي يغشى عليه فيطهر أثناء الغشيان، أو يكون مشلولاً ويأتي الغير وينظف له محل الأذى دون أن يستشعر أنه ينظف ذلك، ثم يفيق وهو طاهر نظيف الموضع فيجوز أن يتوضأ مباشرة ويصلي، أو يغتسل مباشرةً ويصلي؛ لأن الإزالة للخبث لا تشترط لها النية، ومحلها قابل للتوكيل وممكن لأي شخص أن يقوم بذلك؛ لأنه ليس بمحل تتعين فيه النية والخلوص الذي هو الإخلاص. أما طهارة الحدث -الوضوء- فإنها لا تصح إلا بنيةٍ من الشخص المغسول، فلا يصح أن يوضئه الغير إلا إذا نوى، فلو كان الشخص جالساً فصب رجلٌ عليه ماءً على وجهه وغسل الوجه وصب على يديه وغسل له أعضاء وضوئه دون أن ينوي لم يصح وضوءه، فإن نوى صح وضوءه وأجزأه ما تجوز فيه النيابة مع العجز ولا تجوز مع القدرة القسم الثالث: وهو الذي تصح فيه النيابة مع العجز دون القدرة، فهذا يكون في الحج والعمرة؛ فإنه في الحج والعمرة، يجوز أن يقوم الغير مقامه إذا كان عاجزاً، أما لو كان قادراً فإنه لا يصح أن يقوم الغير مقامه، بناءً على ذلك: لو وكله بالحج، أو وكله بالعمرة فقل: يشترط أن يكون الأصيل عاجزاً عن الحج والعمرة إلا في مسألة واحدة وهي: الحج عن الغير والعمرة عنه في حج النفل، فإن مذهب طائفة من العلماء: أن حج النفل لا يشترط فيه العجز، ويجوز أن تعطي رجلاً مالاً ليحج عنك حجة نافلة، وفي هذا نظر والأقوى والأصح الالتزام بالأصل من عدم وجود النيابة إلا فيما أذن الشرع فيه بالنيابة الأسئلة الفرق بين الوكالة والتفويض السؤال ما الفرق بين الوكالة والتفويض وأيهما أقوى؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه. الوكالة فيها معنى التفويض، ولا تكون الوكالة إلا بشيء من التفويض، إلا أن التفويض فيه عموم؛ لأن من فوض إلى الغير شيئاً وجعل له ذلك الشيء، فإن هذا يستلزم أن يقوم مقامه من كل وجه في تفويضه، ولكن الوكالة غالباً ما تكون مقيدة، وعلى هذا: فإن التفويض فيه شيء من العموم، أي: أعم من الوكالة، وإلا فالتداخل موجود بينهما، حتى إن العلماء رحمهم الله في تعريف الوكالة قالوا: هي التفويض، وبعضهم يقول: استنابة، فالتفويض والوكالة بينهما تداخل، ومن أوضح ما يقع الفرق بين التفويض والوكالة في مسألة الطلاق، فإنه إذا فوّض الطلاق للمرأة وجعل لها أمرها بيدها ليس كما لو وكل، فإنه إذا فوض إليه ذلك فليس كالتوكيل؛ لأن التوكيل محدد وفيه نوع من التقييد، ويفتقر إلى شيء من الانضباط أكثر من التفويض، والتفويض أبلغ في الإنابة وإقامة الغير مقامه والله تعالى أعلم. بالنسبة للتفويض في مسألة الوكالة ذكر بعض العلماء رحمهم الله في مسائل غير مسألة الوكالة التي معنا، ربما في الحقوق يكون التفويض فيها أقوى من الوكالة، وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن التفويض أعم من الوكالة، ولذلك يستمد قوته من عموم المادة، وتفويض الأمر إلى الشخص يجعل له صلاحية أن ينظر، فإن شاء أتمه وإن شاء نقضه، وإن شاء أمضاه وإن شاء فسخه لكن للتوكيل فيه هذا المعنى من بعض الوجوه، ومن أظهر ما يقوي ذلك: ما لو قال له: وكلتك أن تفعل شيئاً ثم مات الموكل فتنفسخ الوكالة مباشرةً، لكن لو قال: فوضت إليك، فالتفويض يختلف عن هذا ويبقى مفوضاً، ولو مات من فوضه، فحينئذٍ التفويض يكون أقوى من الوكالة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم التفصيل في تعارض الحقيقة الشرعية مع الحقيقة العرفية السؤال الألفاظ التي يختلف فيها العرف والمعنى الذي يدل عليه اللفظ فأيهما يقدم؟ الجواب ورد في السؤال الألفاظ التي يتعامل الناس بها، ويكون لها معنىً عندهم، ويكون لها معنىً في الشرع، فأيهما يقدم؟ تعرف هذه المسألة بمسألة: تعارض الحقيقة الشرعية مع الحقيقة العرفية أو الوضعية، فإذا كان للناس عرفٌ يتعاملون به في الألفاظ فإنه يرجع إلى هذا العرف، ويحتكم إلى هذا العرف إلا في المصطلحات الشرعية المعينة، ولذلك يحكم في الأيمان والنذور بما جرى عليه العرف وتكون الحقيقة العرفية قوية في كثير من المسائل، وقد تُقدم في حال تعارض الأعراف للحقيقة الشرعية ترجيحاً لأحد العرفين على الآخر، وأما من حيث الأصل فالألفاظ التي حددها الشرع كالطلاق ونحوه لا تخلو من حالتين: إن كانت بصريح اللفظ الذي جعله الشرع دالاً على المقصود فهذه لا يؤثر فيها العرف الخاص، ويرجع فيها إلى حكم الشرع ولا يرجع فيها إلى عرف الناس، حتى قال العلماء رحمهم الله: إن هذا الباب أشبه بالحكم الوضعي، أي: أن الشرع جعل لفظ الطلاق موجباً للطلاق بغض النظر عن قصده وعدم قصده، فما دام أنهم تلفظوا بهذه الألفاظ وقصدوا اللفظ فإنهم يؤاخذون به، حتى ولو جرى العرف بعدم اعتبار هذا اللفظ طلاقاً، لكن لو أنه قال كلمةً بمثل لفظ الطلاق ولم يقصد الطلاق، وجرى العرف فيها بشيءٍ آخر، ووجدت قرائن، انصرف اللفظ إلى ما قصد، مثال ذلك: لو إذا خرجت من الحمام -أكرمكم الله- اصطلح أهل القرية على أن المرأة بمجرد خروجها من الحمام يقال لها: طالق، كأنها كانت داخل الحمام مقيدة بحاجاتها وبعذرها، ثم درس هذا العرف فقال لها: يا فلانة! أنت طالق، وهو قصده المدلول العرفي، يعني: خرجت من الحمام، فهي طالق في حكم الشرع سواء، قصد أو لم يقصد، لكن وجود القرينة أو ما يسمى عند العلماء ببساط المجلس قالوا: لا تطلق، وبعض العلماء قالوا: تطلق قضاءً ولا تطلق ديانة، فبينه وبين الله هي زوجته، ولكن لو ارتفع إلى القاضي تطلق عليه، وهذا ترجيحٌ للحقيقة الشرعية على الحقيقة العرفية ولو جرى العرف وأكد بساط المجلس. فالمقصود: أن مسألة الألفاظ هذه ذكرها العلماء رحمهم الله، وهناك جوانب كثيرة منها: الأيمان، ومنها: النذور، لو قال: والله لا آكل اللحم، والعرف الموجود عندهم أن اللحم مختص بلحم الدجاج، فقال: والله لا آكل اللحم، فعرفه مختص بلحم الدجاج، لكن المعروف أن لفظ (اللحم) يشمل كل اللحم، ويحرم عليه جميع اللحم، فهل نقدم ما تعارفوا عليه من تخصيص العرف اللغوي أو نقدم الأصل الشرعي، هذا من تعارض العرف مع اللغة. ويتعارض العرف مع الشرع في ألفاظ الظهار، وألفاظ الأيمان، وألفاظ العتاق، ونحوها، فالمقصود: أنه في بعض الأحيان قد تقدم الحقيقة العرفية، خاصةً عند الاحتمال مثل طلاق الكنايات، فلو قال لامرأته مثلاً: أنت خلية، أنت برية، أنت بتة، أنت بتلة، أنت الحرج، اخرجي، تقنعي، اغربي عن وجهي، لست لي بامرأة، هذه كلمات قد تجري في بعض الأعراف ويقصد منها الطلاق، وفي نيته أنه يطلق، وقد تجري في بعض الأعراف على أنها تأديبٌ للزوجة، كما لو قال لها: اذهبي إلى أهلك، واخرجي من بيتي، ودرج العرف المتعارف عليه أن المرأة يقول لها زوجها: اخرجي لبيتك، واليوم الثاني: لبيت أهلك، واليوم الثالث: يردها، إذا اصطلحوا على ذلك وهو لا ينوي الطلاق ولم يقصد بذلك طلاقاً لا يقع طلاقاً، لكن إن نواه طلاقاً وقع طلاقاً، فحينئذٍ احتكم للعرف مع وجود شبهة التطليق بالكناية. المقصود أن الكنايات يقوى فيها الاحتكام إلى العرف، أما بالنسبة لمسائل الألفاظ التي حددها الشرع وعينها فهذه يقوى فيها تقديم الحقيقة الشرعية، وهذه المسألة راجعة إلى وضع اللغة، وقد ذكرها علماء الأصول، واللغة العربية قيل: إن الواضع لها هو الله عز وجل، فإذا كانت موضوعةً من الله سبحانه وتعالى -حتى ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع وغيره أنها لغة أهل الجنة، وهذا يقتضي أنها تعبدية- فلا يمكن لشخص أن يغير اسماً منها فلو قال: أنت طالق وقال: الطلاق له عندي معنىً خاص لا يمكن أن يصرف إلى حل العصمة، نقول له: أبداً هذا وضع وضعه الشرع ما تستطيع أن تحدث فيه. فعلى هذا الوجه: لو اصطلح أهل البيئة في ألفاظٍ معينة على صرفها عن هذا لم يستقم، أما في أصل معاني الأشياء التي هي الأسماء المعينة والأسماء غير المعينة فإنه يمكن أن يحصل فيها اختلاف في العرف، ويمكن أن يحصل فيها اختلاف في الأشخاص، فقبيلة تتلفظ بهذا اللفظ وتنوي وتعتد به طلاقاً، وقبيلة أخرى تتلفظ بهذا اللفظ ولا تعتبره طلاقاً، هذا يختلف باختلاف الأعراف والبيئات والأشخاص والله تعالى أعلم ابن الزوج ليس محرماً لأم زوجة أبيه السؤال هل ابن الزوج محرمٌ لأم زوجة أبيه الثانية؟ الجواب بالنسبة لابن الزوج لا يكون محرماً لأم زوجة أبيه، فهذه المحرمية تختص بالأب دون الابن؛ لأن المحرمات من جهة المصاهرة يختص التحريم فيهن بالأصل دون الفرع، وفي بعضها يختص بالفرع دون أصله، فتختلف بحسب الأربع التي بينها القرآن: أم الزوجة، وبنت الزوجة، وزوجة الأب، وزوجة الابن، فالآن زوجة الأب أمها محرمٌ للأب؛ لأنها من (أمهات نسائكم)، ولكن أمها ليست محرماً لابنه، وبنت زوجته محرمٌ له وهي الربيبة وليست بمحرمٍ لابنه، فهذا التحريم يختص بالأب؛ فأمّ زوجة أبيه ليست بمحرمٍ له، وعلى هذا: لا يجوز له أن يختلي بها، ولا أن يصافحها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
__________________
|
#366
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (338) صـــــ(1) إلى صــ(24) شرح زاد المستقنع - باب الوكالة [2] إن مقصود الشرع من الوكالة هو الإرفاق وتحقيق المصلحة، فلهذا جازت الوكالة فيما كان على هذه الصفة، لكن إذا تضمنت الوكالة محذوراً، كأن تكون وكالة على محرم، أو كان الفعل لا يصح التوكيل فيه، فعند ذلك يمنع الشرع من هذه الوكالة الأشياء التي يصح فيها التوكيل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تقدم الحديث عن الأمور التي يجوز للمسلم أن يوكل غيره فيها، وذكرنا أن هناك جانبين: جانب فيما بين المسلم وبين الله، وجانب فيما بينه وبين العباد، وذكرنا الجانب الذي بينه وبين الله عز وجل، وفيه حقوق قصد الشارع أن يقوم المسلم بها بنفسه: كالصلوات الخمس، والصيام، فلا يجوز أن يوكل غيره فيها، ولا تصح الوكالة في هذا النوع. وأما النوع الثاني من هذا الجانب الذي بينه وبين الله عز وجل: الحقوق التي قصد الشارع وصولها لأصحابها كالزكوات والكفارات، فيجوز للمسلم في الحقوق المالية أن يوكل غيره فيها، فيعطي عشرة آلاف لرجل ويقول: ادفع هذه العشرة الآلاف للفقراء أو المستحقين للزكاة، فيوكله في حقٍ فيما بينه وبين الله عز وجل، وذكرنا حكم ذلك، ثم حقوق الآدميين ذكرنا ما الذي تدخله النيابة وتصح، وما هو في ضد ذلك التوكيل في العقود ثم شرع المصنف -رحمه الله- في بيان محل الوكالة فقال رحمه الله: [ويصح التوكيل في كل حق لآدمي]. أي: يجوز لك أن توكل غيرك، ويجوز لك أن تقبل وكالة غيرك، يعني: في كلا الجانبين يجوز لك أن تكون موكلاً، ويجوز أن تكون وكيلاً: (في كل حقٍ لآدمي). يعني: كل أمرٍ من الأمور التي من حقك أن تقوم به، فيجوز أن توكل الغير فيه، فقال رحمه الله: (من العقود). (من) بيانية، (العقود): جمع عقد، والعقد أصله التوثيق والإبرام، ومنه عقدة الحبل، وإذا قال العلماء: العقد، فهو الإيجاب والقبول، فيجوز لك أن توكل أي شخصٍ بشرط أن يكون أهلاً للعقد الذي توكله فيه، فيجوز لك أن تجعله نائباً عنك، مثاله: أن تقول له: يا محمد! اشتر لي سيارةً من نوع كذا، فهذا توكيلٌ بالشراء، يا محمد! بع أرضي الفلانية بعشرة آلاف، فهذا توكيلٌ بالبيع، فيجوز لك أن توكل في العقود كالبيع والإجارة، كأن تقول لصاحب مكتب العقار: وكلتك أن تؤجر عمارتي بعشرة آلاف، أو بعشرين ألفاً، أو بمائة إلى آخره، فهذا توكيلٌ بالإجارة، وكذلك أيضاً توكله في القيام بالعقود الأخرى كالشركات ونحوها فهو وكيلك. فيقول رحمه الله: (ويصح التوكيل في كل حقٍ لآدمي)، أي: يملك أن يبرمه وينشئه، وعندما قال رحمه الله: (من العقود)، هناك جانبان: الجانب الأول: ما يسمى: إنشاء العقود، وهناك جانب عكسي وهو: فسخ العقود، فإذا قلت: يجوز أن توكل في الإنشاءات فيجوز أن توكل في الفسوخ، فمن حقك أن توكل غيرك في إثبات العقود وإنشائها، فينشئ عنك البيعة ويلزمك، وينشئ عنك الإجارة وتلزمك، وينشئ عنك الشركة وتلزمك إلخ، وتوكله في الفسخ، فتقول له: يا محمد! افسخ عقد البيع الذي بيني وبين فلان، أو افسخ عقد الإجارة الذي بيني وبين فلان. قال رحمه الله: [من العقود والفسوخ]. العقود عامة، وعلى هذا فيجوز أن يتوكل عنك في عقد النكاح، فتقول له: يا فلان! اقبل زواجي من فلانة، فتوكله أن يكون قابلاً لزواجك، لكن ما يستطيع أن يتوكل في الفعل وهو فعل النكاح، فإنشاء النكاح شيء، وفعل النكاح شيءٌ آخر، فالشرع قصد من المكلف أن يفعل بنفسه ليعف نفسه عن الحرام، فلا يكون التوكيل عن زوجٍ ولا عن زوجة في الفعل، لكن في الإنشاء يجوز، ويجوز في الإنشاء ما لا يجوز في الأثر، فأثر النكاح الاستمتاع، فهناك فرق بين إنشاء عقد النكاح وبين أثره، فتوكله إنشاءً ولا يصح أن يوكل فيما بعد ذلك. والعكس في المرأة كذلك، فيجوز أن يتوكل الغير عنها في قبولها، وهكذا بالنسبة لوليها يجوز أن يوكل الغير، فعقد النكاح يجوز إنشاؤه وكالةً، ويجوز إنشاؤه أصالةً التوكيل في الفسوخ قوله: (والفسوخ) جمع فسخ، يقال: فسخ الثوب إذا أزاله، والفسخ: الرفع والإزالة، والمراد بالفسخ: فسخ العقود، فيجوز أن توكله، مثل ما يقع في أصحاب الشركات، وكل صاحب شركة أو مؤسسة كبيرة قد لا يكون عنده الوقت والفراغ ليبرم العقود، فيوكل شخصاً معيناً عن شركته، فيكون هذا الشخص يفوض إليه، ويقول له: لك حق إبرام العقود وفسخها يعني: أنت وكيلٌ عني في أن تبرم عقود البيع وعقود الإجارة، ولك الحق أيضاً، وكلتك في أن أي عقد بيع ترى من المصلحة أن يفسخ تفسخه، وكل عقد إجارة ترى من المصلحة فسخه تفسخه، ويستوي في ذلك أن يكون الفسخ من أحد الطرفين أو منهما معاً بالرضا من الطرف الثاني التوكيل في العتق قال رحمه الله: (والعتق). العتق كما هو معلوم في مقصود الشرع: فك رقبة إذا كانت مسلمة ومؤمنة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء فقال: أعتقها فإنها مؤمنة) وجملة (فإنها مؤمنة)، أي: لأنها مؤمنة، فدل على أن مقصود الشرع عتق الرقاب إذا كانت مؤمنة، فالتوكيل في عتق الرقبة، تقول: يا فلان! وكلتك في عتق إمائي أو عتق عبيدي، هذا عموم، أو عتق فلان من عبيدي أو فلانة من إمائي هذا كله جائز، فيجوز أن يتوكل عنك في العتق كما أنه يجوز أن يتوكل عنك في شراء الأمة والعبد ونحو ذلك التوكيل في الطلاق قال رحمه الله: (والطلاق). يجوز أن يوكل غيره في تطليق امرأته أو تطليق نسائه، سواءً جعل له الطلاق كله كأن يقول: وكلتك أن تطلق نسائي دون أن يقيده بطلقة أو بطلقتين، وإنما يقول له: وكلتك أن تطلق امرأتي، ويفوض له ذلك بأن يطلق طلقة أو طلقتين أو ثلاثاً وقد يقيد ذلك فيقول: وكلتك أن تطلق زوجتي فلانة -فهذا تقييد في واحدة من نسائه- أو تطلقها طلقة أو طلقتين ويقيد عدد الطلاق، ففي هذه الحالة يجوز، لكن إن وكله في تطليقه لزوجته فلا تخلو الوكالة من حالتين: إما أن تكون مطلقة على السنة، فيطلق الوكيل على السنة، وإما أن يطلق الوكيل لغير السنة كما ذكرنا في درس النكاح، كأن يطلقها وهي حائض، فحينئذٍ يكون فيه الخلاف المشهور ويرد السؤال هل تطلق أو ما تطلق؟ فالقائلون بأن الطلاق في الحيض يقع -وهم جماهير السلف والخلف رحمةُ الله عليهم على ظاهر الروايات التي ذكرناها عن ابن عمر رضي الله عنهما- يقولون: إن وكله في التطليق فطلقها وهي حائض أثم الوكيل دون الأصيل، ويمضى الطلاق ويكون طلاقاً بدعياً، ويأثم الوكيل ولا يأثم الأصيل، ولكن الطلاق نافذ، ولو قال له: طلق زوجتي -وهي في الحيض- فقال: وكلتك أن تطلق زوجتي الآن، أو تطلقها اليوم، أو تطلقها وهي حائض وكانت في حيضها، فكأن الموكل قصد أن يوقع الطلاق حيضها فاختلف العلماء: قال بعض العلماء: لا يتوكل الوكيل عن الأصيل في الحرام، فكما لا يصح التوكيل في الظهار كذلك لا يصح التوكيل في الطلاق في الحيض، فلو وكله وقال له: طلقها في حيضها، فنص على بدعية ومحرم فلا يجوز التوكيل، ولا تصح الوكالة على هذا الوجه، قالوا: لأن الوكالة عقد شرعي أذن به للأمور المشروعة لا للأمور الممنوعة؛ لأن الله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، فهذا الطلاق في حال الحيض إثمٌ واعتداءٌ لحدود الله؛ لأن الله نهى في آية الطلاق فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]، فنص على أنه من حدود الله عز وجل، وحدود الله أن تطلق المرأة في غير الحيض. وبناءً على ذلك: لو قال له: طلقها في الحيض، بطلت الوكالة في قول طائفة من العلماء، والفرق بين من يقول: تبطل الوكالة وبين من يقول: لا تبطل، أنه لو قال له: وكلتك أن تطلق امرأتي حال الحيض فطلقها وقلنا: الوكالة باطلة فالطلاق لا يقع، وإن قلنا: الوكالة صحيحة فالطلاق يقع على الوجه الذي ذكرناه في قول الجمهور، وفي الحقيقة لا شك أنه يأثم الموكل والوكيل، وعند النظر في المقصود الشرعي من طلاق الحيض فإنه يقوى أن ينفذ عليه طلاقه؛ لأنه نفذ على الأصيل، فمن باب أولى أن ينفذ على الوكيل التوكيل في الرجعة قال رحمه الله: (والرجعة). أي: يجوز للمسلم إذا طلق امرأته طلاقاً رجعياً وهي الطلقة الأولى أو الطلقة الثانية وما زالت في عدتها أن يراجعها، وهذا فيما إذا كان بعد الدخول، وينبغي أن ينبه أن الطلاق الرجعي لا يكون إلا بعد الدخول بالمرأة؛ ولذلك نقول: الطلقة الأولى والطلقة الثانية بعد الدخول، فإذا وقعت الطلقة الأولى قبل الدخول فليس برجعي؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فدل على أنه لا رجعة في الطلاق قبل الدخول، لكن الرجعية تكون إذا كان قد دخل بها، فإذا عقد على المرأة ودخل بها وطلقها الطلقة الأولى أو طلقها الطلقة الثانية وما زالت في عدتها فإنه يمتلك رجعتها؛ لقوله سبحانه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228]؛ لأنه قال في صدر الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، فقد جاءت الآية مقيدة لقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228]. وعلى هذا قال العلماء: إنه ما دامت الطلقة رجعية فإنه يمكنك استرجاعها بدون إرضائها، فلو أنه ارتجعها بنفسه صحت الرجعة كأن يقول: راجعت فلانةً أو راجعت زوجتي أو يقول: يا فلان! وكلتك أن ترجع لي زوجتي، أو وكلتك في ارتجاع زوجتي، فإنه وكيل فتصح الوكالة، فكما صحت الوكالة في إنشاء عقد النكاح صحت الوكالة في استدامة عقد النكاح؛ لأن الرجعة استدامة وفيها وجهان: بعض العلماء يقول: الرجعة إنشاء، وبعضهم يقول: استدامة، والفرق بين القولين: أننا لو قلنا الرجعة استدامة وطلق المحرم حق له أن يراجع زوجته؛ لأنها استدامة للنكاح، ومحرم على المحرم أن ينكح، وإن قلنا: إنها إنشاء فإنه لا يمتلك أن يرتجع إلا بعد أن ينتهي أو يفك إحرامه التوكيل في المباحات المتملكة قال رحمه الله: (وتملك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه). يقول رحمه الله: وتجوز الوكالة في تملك المباحات، والمباحات: جمع مباح، فهناك أشياء أحل الله عز وجل لعباده أن يأخذوها، والمباحات هي التي لا تكون ملكاً لواحدٍ من الناس مثل الأشجار في البراري، فإن الأشجار في البراري ملكٌ للناس ينتفعون بها، وليس لأحد أن يمتلك إلا إذا زرعها بنفسه، فإذا زرعها بنفسه كانت ملكاً له وإحياءً للموات، لكن من حيث الأصل: الماء والكلأ والنار المسلمون فيه شركاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)، فأثبت الشراكة في هذه الثلاثة الأشياء، فمعنى ذلك أن الكلأ والحطب مباح للجميع، إلا أن يكون من الحمى الذي حماه الله ورسوله، فهذا الكلأ -احتشاش الحشيش- مباح، وهكذا العيون الجارية من حقك أن تأتي في أي مكان من هذه العين وتغترف منه وتشرب، وليس لأحد أن يقول: هذه العين ملكٌ لي إلا إذا كانت في أرضه، على خلاف، إذا كان قد احتفرها أو انفجرت من تلقاء نفسها في أرضه، فالمعمول به في قضاء الصحابة رضوان الله عليهم استنباطاً من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير: أن العيون ونحوها يسقى بها الأعلى فالأعلى، لكن لا تملك، قال: (اسق يا زبير)، فجعل له أن يسقي ثم يرسل الماء: (اسق يا زبير ثم أرسل الماء) فالماء لا يملكه أحد إذا كان عيناً جارية، كالكلأ والنار، وهو الحطب. وهذه الأشياء يرد السؤال هل من حقي أن أوكل فيها أو ليس من حقي؟ للعلماء وجهان: قال بعض العلماء: الوكالة الأصل فيها أن لا تقع إلا في شيء أملكه، فلا يستقيم أن تقول لشخص: حُش لي كذا وكذا، أنت وكيلي في الحشيش، ولا يستقيم أن تقول له: أنت وكيلي في أخذ الماء من العين؛ لأن هذا الشيء يملكه من أخذه، والوكالة يشترط فيها: أن يكون الأصيل مالكاً للشيء حتى يوكل فيه، وهذا سيملكه بعد قبضه، فمنع طائفةٌ من العلماء في هذه المسألة، وفقهاً ونظراً مذهبهم صحيح؛ لأنه لا يستقيم أن تقول هذا ملك لي، قد ذكرنا: أن الوكالة تكون فيما يملك، فقالوا من حيث النظر: إن هذا الحشيش أو هذا الماء أو هذا النار لا يملك إلا بعد الحيازة، فإذا كانت لا تملك إلا بعد الحيازة فلا تصح الوكالة بها إلا بعد أن يكون له حق التصرف فيها، فإنه سيوكل في سبب الملكية، والوكالة مفتقرة إلى حق التصرف في الذي فيه الملكية، فصار فيه شيء من الدوران، فمنعوا الوكالة في هذا النوع. وقال طائفة من العلماء كما درج عليه المصنف: يصح التوكيل، وقالوا: إنه -أي: الماء والكلأ والنار- في الأصل ملكٌ مشاع، ولكنه يتعين لمن أخذه، فصار التوكيل في الأخذ وأصل الاستحقاق وحق التصرف ينتزع من الشرع. والقول الأول في الحقيقة له قوة، أي: القول بأن التوكيل فيه لا يقع إلا في حالة واحدة، وهي: حالة التوكيل بأجرة أو بُجعل، والجعل أن تقول له: يا فلان! احتش لي من حشيش هذا الوادي ولك مائة أو لك ألفٌ، فحينئذٍ هي إجارة وتدخلها وكالةٌ في الملكية فيستقيم، وأما بالنسبة لغير الجعل والإجارة فإن القول لا يخلو من نظر كما ذكرنا الأشياء التي لا يصح فيها التوكيل التوكيل في الظهار قال رحمه الله: [لا الظهار واللعان والأيمان]. أي: لا يصح التوكيل في الظهار؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، والظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، وكان معروفاً في الجاهلية، وأنكر الإسلام هذا القول وعده منكراً من القول وزورا؛ وذلك لأنه يفسد ما بين الزوج وزوجته. ثانياً: أنه يجعل الحلال حراماً، فهو تحريم لما أحل الله، حيث يجعل منكوحته التي أحل الله له نكاحها في منزلة المحرمة عليه؛ ولذلك وصفه الله بوصفين: أنه مُنْكَر مِنَ الْقَوْلِ وأنه زور. وقد أجمع العلماء على تحريمه، وأن من ظاهر من امرأته فهو آثمٌ شرعا؛ ولذلك عاقبه الله بالعقوبة المغلظة وهي: أن يعتق رقبةً من قبل أن يتماسا، فمن لم يجد فيصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين فإنه يطعم ستين مسكيناً. وعلى هذا قالوا: لا يجوز التوكيل في الظهار؛ لأن الوكالة عقدٌ قائمٌ على المشروع لا على الممنوع، قالوا: فلو وكله أن يظاهر من امرأته وصححنا الوكالة لصححناها في السرقات والمحرمات، فلو قال رجل لرجل: اسرق لي عشرة آلاف، فلو قلنا إن الوكالة هنا صحيحة لصحت وقطعت يد الوكيل والموكل، فهذا لا يستقيم في أصل الشرع، ولذلك قالوا: الوكالة في المشروع لا في الممنوع، ولذلك إذا صححت الوكالة في المحرم ترتبت عليها أمورٌ أخرى لا يحكم بها شرعاً، مثل ما ذكرنا في الجنايات وفي المحرمات من شرب خمرٍ أو زناً أو قتل ونحوه، فإن هذا كله مما لا تدخله الوكالة، ويتفرع على القول الذي نص عليه المصنف -رحمه الله- أن الظهار لا تصح فيه الوكالة، فلو قال له: وكلتك أن تظاهر لي من امرأتي فقال: امرأتك عليك كظهر أمك؛ فإنه يكون قولاً لفظاً لا تأثيراً له، ولا تلزمه الكفارة ولا تسري عليه أحكام الظهار؛ لأن الوكالة لاغية، ففائدة إلغاء الوكالة أنه لو تلفظ بالظهار لم يحكم به التوكيل في اللعان قال رحمه الله: (واللعان). أي: الملاعنة وهي مفاعلة من اللعن، والمفاعلة في لغة العرب تستلزم وجود شخصين فأكثر، كالمخاصمة والمشاتمة فإن الرجل لا يخاصم نفسه ولا يشاتم نفسه، وعلى هذا قالوا: الملاعنة سميت بذلك لأن الرجل -والعياذ بالله- يلعن نفسه إن كان كاذباً: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] وهي محققة: أنه إذا كان كاذباً -والعياذ بالله- فقد حلت عليه لعنة الله، ومن حلت عليه لعنة الله فإنه تلعنه الملائكة ويلعنه اللاعنون نسأل الله السلامة والعافية. واللعان: أيمانٌ مغلظة إذا اتهم الرجل امرأته بالحرام أو نفى الرجل ولده؛ لأن الرجل في بعض الأحيان يتهم المرأة أنها زنت والعياذ بالله، وقد يقول: هذا الولد ليس بولده دون أن يتهم المرأة بالزنا، وتارةً يجمع بين الأمرين فيقول: هي زانية وهذا الولد ليس بولدي، وتارةً يثبت زناها فيقول: هي زانية، ويثبت أن الولد ولده، فمثلاً: لو أنه جامع امرأته وحملت المرأة من مائه وقبل الولادة بفترة وقد تبين أن الحمل حمله زنت، فإنه يلاعن على زناها ولا ينفي الولد، وتارةً يلاعنها -والعياذ بالله- على الأمرين، فيغيب عنها مدة ثم يأتي فيجدها ويطلع على زناها، ويعلم بنفسه زناها فيكون اللعان على الاثنين، وتارةً يلاعن على الولد دون الزنا كأن يكون غائباً عن امرأته مدةً وغلب على ظنه بإخبار رجلٍ يثق به أنها زنت، فلا يستطيع أن يتهمها بالحرام وهو لم ير ولم يسمع، والوارد في حديث اللعان أنه قال: (والله يا رسول الله! لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني)، ولذلك شدد بعضهم -ستأتينا في مسائل اللعان- في أنه لا يقع اللعان إلا إذا رأى أو سمع، ففي هذه الحالة لو غاب عنها سنةً أو سنتين، فهل يعد الحمل بينة تحمله على اللعان، أم أن هناك احتمالات أخرى؟! بعض العلماء يقول: قد يحصل في بعض الأحيان أن تحمل المرأة ويعلق الولد، ثم يعتريه شيء من الضعف، فيعلق الولد ولا يظهر إلا بعد سنة!! هذا ذكره بعض العلماء وحصلت فيه قضية لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه، لكن المقصود: أنه لو غاب عنها سنةً أو سنتين أو غاب عنها أكثر مدة، وهي في قول بعض العلماء أربع سنوات، ثم بعد الأربع سنوات جاءها فوجدها حاملاً، فإنه لا يستطيع أن يحلف بالله العظيم -نسأل الله السلامة والعافية- على أنها زنت، لكن هذا الولد لا ينسبه إليه ويحلف على أن هذا الولد ليس بولده، لكن أن يحلف على أنها زنت فلم تر عينه ولم تسمع أذنه، قالوا: في هذه الحالة يلاعن على الولد دون الزنا. نحن ذكرنا هذه الأحوال لماذا؟ لأن مقصود الشرع أن يبين صدقه أو كذبه، فأحد الأمرين إن كان الرجل كاذباً -والعياذ بالله- فعليه لعنة الله، وإن كانت المرأة كاذبة وهي زانية فعليها غضب الله، نسأل الله السلامة والعافية، وبعد أن حلف الطرفان عويمر وزوجته وهلال بن أمية وزوجته -لأن اللعان وقع في حادثتين- قال صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم، أحدكما كاذب، حسابكما على الله)، فإذاً مقصود الشرع أن يُعلم من الصادق ومن الكاذب. فإذا جاء يوكل غيره أن يحلف فإنه يدفع رهبة الشرع في حلفه باليمين؛ ولو ساغ ذلك لأمكن للشخص أن يفر من تبعة اليمين بتوكيل غيره، لكن الأيمان لا تدخلها الوكالة، ولهذا أيمان اللعان لا تدخلها الوكالة، وكذلك قالوا: أيمان الخصومة لا تدخلها الوكالة، وليس لأحدٍ أن يحلف عن أحدٍ إلا في مسائل مستثناة وستأتينا -إن شاء الله- في كتاب القضاء والأيمان، مثل: أن يحلف الوارث عن مورثه، فتقع مسائل مستثناة سنبينها -إن شاء الله- متى يحلف الإنسان عن غيره؟ التوكيل في الأيمان قال رحمه الله: (والأيمان). وكذلك الأيمان لا تدخلها الوكالة، لا الإيمان ولا الأيمان، فليس لأحدٍ أن يقول لشخص: وكلتك أن تؤمن عني؛ لأن مقصود الشرع أن يكون الإيمان من المكلف بعينه، فإذا وكل الغير فوت مقصود الشرع كما ذكرنا في اللعان؛ لأن مقصود الشرع أن يرهب فيظهر صدق الصادق وكذب الكاذب، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في يمين اللعان أنه لما شهد عويمر أربعة أيمان، أوقفه عند الخامسة وذكره النبي صلى الله عليه وسلم بربه، وقال له: (اتق الله! فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) فحلف اليمين الخامسة، فلما انتقل إلى المرأة وانتهت من اليمين الرابعة أوقفها وقال عليه الصلاة والسلام: (فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)، فكادت أن تعترف، فلما استزلها الشيطان قالت: (لا أفضح قومي سائر اليوم) فحلفت الخامسة والعياذ بالله. فالمقصود: أن هذه الأيمان رهبة، فكما أن أيمان اللعان رهبة كذلك أيمان الخصومات، والمراد بالأيمان هنا: أيمان الخصومة، فلو أن رجلاً ادعى على رجل وقال: لي عند فلان مائة، فسأله القاضي: هل لفلانٍ عندك مائة؟ قال: لا. يقول للمدعي: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، إذاً إلى ماذا يتجه؟ يتجه إلى اليمين، يقول له: إذاً يحلف خصمك اليمين، لكن لو له بينة حُكِمَ بها، سواءً كانت البينة صادقة أو كاذبة، ما دام أنها وثّقت وعُدّلت عند القاضي، فالشاهد أن زيداً ادعى أن له مائةً عند عمرو فقيل لزيدٍ: ألك بينة وحجة وشهود؟ قال: لا. فحينئذٍ يُطالب عمرو باليمين، وهذه اليمين تسمى: اليمين الغموس؛ لأنها تغمس صاحبها في النار والعياذ بالله، ومن حلف هذه اليمين يُقال -من السنن التي عُرِفت وشاعت وذاعت- لا تمر عليه السنة بخير، يعني: لا يحول عليه الحول ولا تمضي عليه السنة إلا وتأتيه مصيبة، وهذا معروف، حتى ولو حلف فاجراً بهذه اليمين على شيء تافهٍ يسير، فلا يحلف هذه اليمين وهو يعلم أنه كاذب إلا إنسان -والعياذ بالله- قد تقحم النار. وهذه خصومة وقعت بين صحابيين في بئر فقال أحدهما: (يا رسول الله! هي بئري وأنا حفرتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قال: لا، قال: إذاً ليس لك إلا يمينه، قال: يا رسول الله! الرجل فاجر ويحلف اليمين ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه، فقال: يا رسول الله! الرجل فاجر ويحلف اليمين ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين وهو فيها كاذب ليقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ لقي الله وهو عليه غضبان)، تصور من لقي الله وهو عليه غضبان نسأل الله السلامة والعافية! وقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] و (هوى) من الله ليست بهينة، فقالوا عقب هذا الوعيد الشديد: (يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً؟ -وإن كانت اليمين على شيء يسير- قال: وإن كان قضيباً من أراك) عود السواك، وكان هذا يضرب به المثل على الشيء الحقير، فدلت هذه النصوص على أن مقصود الشرع ترهيب الخصم من الدعوى الكاذبة، وترهيب الخصوم من أكل بعضهم أموال بعض، واعتدائهم على حقوق بعض، فكأن اليمين قصد منها الشخص بنفسه، فإذا جاء يوكل آخر مكانه فوت مقصود الشرع إلا فيما يستثنى من أيمان القضاء كما سيأتي حقوق الله التي يصح فيها التوكيل قال رحمه الله: (وفي كل حق لله تدخله النيابة من العبادات). أي: وتصح الوكالةُ في كل حقٍ لله، بشرط: أن تدخله النيابة، ويشمل هذا -كما ذكرنا- الحقوق المالية، فأما الحقوق البدنية المحضة فلا تدخلها النيابة. وعلى هذا: الحقوق المالية التي تدخلها النيابة تنقسم إلى قسمين: الزكوات الواجبة، والكفارات ونحوها. فأما الزكوات الواجبة فيجوز أن توكل الغير كما ذكرنا. وأما الكفارات فيجوز أيضاً أن توكل فيها، كرجلٍ حلق شعر رأسه في الحج أو في العمرة لعذر من حجامةٍ ونحوها فأعطى رجلاً مائة، وقال له: يا فلان! أخرج الكفارة عني أو أخرج الفدية عني، فقد وكله في حق لله تدخله النيابة فيصح التوكيل، وهكذا لو أنه ظاهر من امرأته أو جامعها في نهار رمضان وهو صائم فوجبت عليه الكفارة فأعطى رجلاً ألف ريال وقال: يا فلان! اشتر رقبةً وكفر عني، فتصح الوكالة، فيشتري رقبة وينويها عنه كفارةً لظهاره أو جماعه في نهار رمضان، فبالإجماع يصح، هذا بالنسبة لحق الله الذي تدخله النيابة. ومفهوم ذلك: أن حق الله الذي لا تدخله النيابة وهي فروض الأعيان من غير الأموال، لا يصح التوكيل فيها، فلو قال: يا فلان! صم عني شهر رمضان لا يصح؛ لأن مقصود الشرع أن يصوم المكلف بنفسه، ولو قال: يا فلان! صلّ عني الصلوات الخمس لم يصح؛ لأن مقصود الشرع أن يؤديها بعينه وعلى هذا: لا يصح صومه عن الغير ولا أيضاً صلاته عن الغير، وفي الحج تدخله النيابة لكنها نيابةٌ مشروطة، ويختص الحج بأنه يصح التوكيل فيه في حال العجز، وأما في حال القدرة فلا إلا في حج النافلة، فاختلف: هل يجوز أن يوكل الغير في حج النافلة أو لا؟ على وجهين مشهورين عند العلماء رحمهم الله، والفرق بين الزكوات الواجبة والكفارات وبين الحج: أن الحج تدخله النيابة بشرط العجز، وفي الزكوات والكفارات: يستوي أن يكون المكلف عاجزاً أو قادراً. فتقسم حقوق الله إلى قسمين: حقوق لا تدخلها النيابة ولا تصح الوكالة فيها مثل الصلوات والصيام. وحقوقٌ تدخلها النيابة وتنقسم إلى قسمين: حقوق تدخلها النيابة بشرط العجز كالحج إذا كان فرضاً. وحقوقٌ تدخلها النيابة مع العجز والقدرة مثل الزكوات والكفارات
__________________
|
#367
|
||||
|
||||
![]() التوكيل في إثبات الحدود واستيفائها قال رحمه الله: [والحدود في إثباتها واستيفائها]. الحدود: جمع حد، فحد الزنا وحد شرب الخمر، وحد القذف هذه كلها حدود، وحد الشرع فيها عقوبة معينة، فهذه الحدود فيها جانبان: الجانب الأول: قضائي، والجانب الثاني: أثرٌ لحكم القضاء، والتوكيل إما في الجانب الأول أو في الجانب الثاني، فالجانب الأول القضائي: هو إثبات الحدود، والجانب الثاني: أثر للحكم القضائي وهو تنفيذ الحدود واستيفاؤها، فالعلماء يقولون: التوكيل يكون في إثبات الحد واستيفائه، ففي إثبات الحد: لو أن رجلاً أراد أن يقيم دعوى على شخصٍ لكي يحد حد الخمر فيجوز أن يوكل غيره في إثبات ذلك عنه، فيقوم من يدعي بدلاً عنه ويأتي بالشهود. وقال طائفةٌ من العلماء: لا يجوز التوكيل في إثبات الحدود، فعلى الوجه الأول يكون الحق لله عز وجل وتدخله النيابة في إثبات الحدود واستيفائها كذلك، فالقاضي إذا حكم بأن زيداً يجلد ثمانين جلدة حد القذف فله أن يأمر وكيلاً أن يقف حتى ينفذ هذا الحكم، وهذا يسمى توكيل في الاستيفاء، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد اختصم إليه رجلان، فقال أحدهما: (يا رسول الله! أناشدك الله إلا قضيت بيننا بالحق -وكان فيه جهل- وقال الثاني -وهو أعلم منه وأعقل منه-: نعم يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني: أجيراً- وقد زنا بامرأته فأخبرت أنه يجب عليّ أن أفتدي منه، فافتدى منه بالمال، فقال صلى الله عليه وسلم: الغنم والوليدة ردٌ عليك وعلى ابنك الجلد، واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، -فاعترفت فرجمها-)، فوكل النبي صلى الله عليه وسلم أنيساً في الجانبين: أولاً: إثبات الحد فقال: (إن اعترفت)؛ لأنه جعله مكانه يحل محل النبي صلى الله عليه وسلم في البت في هذه القضية، فقال له عليه الصلاة والسلام: (واغد يا أنيس -امضِ واذهب- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) هذا شرط: إن اعترفت فوكله في إثبات الاعتراف. ثم وكله بالرجم: (فإن اعترفت فارجمها) فصار التوكيل في جانبين في إثبات الحدود، وفي استيفائها، هذا بالنسبة لما اختاره المصنف رحمه الله، ونازع الحنفية -رحمهم الله- في بعض الحدود، وفرق بين حد الحسبة وبين حد العباد كالقذف، فإن القذف فيه شبهة حق للمخلوق. ولذلك لا تكون الدعوى فيه -في قول جمهور العلماء- إلا من الشخص المقذوف ولا تقبل حسبةً على القول بأنه حقٌ للمخلوق الأسئلة التفصيل في التوكيل في صدقة الفطر السؤال رجلٌ وكلني أن أدفع زكاة الفطر للفقراء، فلما أخرجتها في وقتها المعتبر طلب مني بعض الفقراء أن أضعها عندي إلى أن يأتي لأخذها في يوم العيد، فهل العبرة بنية دفعها وإخراجها، أم بقبض الفقير لها؟ نرجو التوضيح. الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإخراج زكاة الفطر ينبغي أن ينظر فيه إلى الأداء، وتوضيح هذه المسألة يستلزم بيان مسألة الظاهر والباطن، فمن نوى إخراج زكاة الفطر فقد تحقق فيه الباطن، ومن أخرجها بالفعل فقد تحقق فيه الظاهر والباطن، فاجتمعت نيته مع فعله، والشرع قصد الأمرين، ولذلك قال: (وأمر أن تؤدى قبل الصلاة) كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان طُعمةً للمساكين، وطُهرة للصائم من اللغو والرفث، وأمر أن تؤدى قبل الصلاة، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاةٌ مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات) فدل هذا الحديث على أن العبرة بالأداء. وبناءً على ذلك: إذا أردت أن تُخرج زكاة الفطر فإن كان الفقير جاء وأخذها منك فلا إشكال، أو وكل من يأخذها منك فلا إشكال، فلو قال للفقير: يا فلان! خُذ عني زكاة الفطر من فلان، فإنه إذا قبضها منك وكيله صح ذلك إذا كان القبض قبل صلاة عيد الفطر. وعلى هذا: فلو وكل الفقير شخصاً فدفعتها إليه صح ذلك الأداء وهي زكاة، لكن لو أنك نويت إعطاءها له وأخرجتها وفرزتها عن مالك، بل حتى لو أعطيتها لشخص وقلت له: اذهب وأعطها للفقير، فالعبرة بالقبض وليس العبرة بمجرد النية وصورة الأداء؛ لأن المراد وصولها إلى الفقير، فإذا وصلت إلى الفقير فإنه حينئذ يحكم بحسب ذلك: إن كان قبل الصلاة أجزأت وإن كان بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات، فإذا وكل الفقير شخصا وقبضها عنه فإنه بمثابة قبض الفقير نفسه للقاعدة: إن الوكيل ينزل منزلة الأصيل. وعلى هذا فلو قبض الوكيل زكاة الفطر قبل صلاة عيد الفطر، فلا يخلو من صور: إما أن يقبضها قبل صلاة عيد الفطر ويذهب ويعطيها للمسكين قبل صلاة عيد الفطر فلا إشكال، حيث أُعطيت ووصلت إلى الفقير في الوقت، وإما أن يقبضها ويؤخرها إلى ما بعد الصلاة أو يعطيها أثناء الصلاة ففي كلتا الصورتين لا تأثير لتأخيره في الإعطاء، بل حتى ولو أعطاها للفقير بعد شهر، ما دام أن الفقير قد وكله فإنه ينزل منزلة الفقير وهي صدقةٌ من الصدقات والله تعالى أعلم حكم الوكالة العامة في الأموال والتجارة السؤال هل يصح توكيل شخصٍ لشخص في وكالةٍ عامة دون تخصيص بأمرٍ معين، كأن يقول له: وكلتك على القيام بجميع شئوني ومتطلباتي من بيع وشراءٍ وتجارةٍ وغيرها دون تخصيص بأمرٍ معين؟ الجواب لا، هو إذا قال: من بيع وإجارةٍ ما، (من) هذه بيانية وفيها شبهة التقييد، لكن إذا قال: وكلتك في كل شيء تدخله الوكالة، فهذا فيه وجهان مشهوران للعلماء: شدد بعض العلماء في الوكالة المطلقة أو العامة وقالوا: لا يصح حتى يبين عمومها، وهذا موجود في مذهب الشافعية والحنابلة أيضاً، والسبب في هذا: قالوا: الغرر؛ لأنه يدخل على نفسه الخطر، فقد يدخل الرجل عليه أموراً لا تحمد عقباها، فقالوا: مثل هذا فيه غرر، ولا يصح التوكيل في مثل هذا، وقال بعض العلماء: يجوز أن يوكله وكالةً مطلقة، ويفوض إليه التصرف في الأمور، وهذا قوي من حيث الأصل، وكلا القولين له وجهه، لكن الاحتياط يرجع إلى قول القائل بأن الوكالة إذا كانت مفوضة ومطلقة من كل وجه فالغرر فيها قوي، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر، وحديث ابن عمر في الصحيح في ذلك واضح، فكل الإشكال: خوف الضرر، وأياً ما كان فالاحتياط والأولى والأفضل أن يحدد له العموم، يقول له: وكلتك في البيع والشراء عن المرفقات تبيع وتشتري، أو وكلتك في الإجارات، ويحدد له ما وكله فيه، فهذا هو الأشبه وخاصةً في هذه الأزمنة؛ فإن الأزمنة المتأخرة ضعفت فيها أمانة الناس، وأصبح الغرر أكثر، والضرر أكثر، وكم وقعت من الحوادث والمصائب في الوكالة الخاصة فضلاً عن الوكالة العامة. فكم من أخت وثقت في أخيها الذي هو من لحمها ودمها ومن أقرب الناس إليها، ومع ذلك أكل أموالها وابتز حقوقها، بل وصل الأمر إلى ابن مع أمه أن يبيع عنها ويشتري، ويؤجر عنها ويوقعها في الغرر العظيم الذي لا تعلم به، وإذا بها تفاجأ في يومٍ من الأيام أنه ليس لها من مالها شيئاً، بل لربما فوجئت في يومٍ من الأيام بأنها مطالبة بحقوق، وقد ضاع عليها ما ضاع، وهذا وقع، فتجد المرأة يموت عنها قريبها أو زوجها ويترك لها مئات الألوف، وتثق في ابنٍ من أبنائها وتعطيه وكالة على بيع، بل في بعض الأحيان على عقار مخصوص ويبيعه دون علمها، ويتصرف فيه ويأكل المال، ويفعل فيه ما يشاء والأم جاهلة لا تعلم بشيء، حتى تفاجأ يوماً من الأيام وقد توجهت إليها دعوى في قضاء أو نحوه أنها مطالبة؛ وقد أنها مطالبة بحقٍ ما، فتسأل وإذا بوكيلها قد خانها في أمانتها -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا من علامات الساعة: أنه -والعياذ بالله- تنزع الأمانة من الناس حتى لا يبقى إلا الأثر كجمر، يقول صلى الله عليه وسلم: (كجمر دحرجته على قدمك) أي: لما تنزل الجمرة تدحرج على القدم ما يبقى إلا الأثر الذي تحدثه الجمرة، لكن لو استقرت أحرقت، فهذا فيه إشارة إلى ضعف الأمانة وقلتها في الناس حتى قال صلى الله عليه وسلم: (حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً) أي: القبيلة بكاملها لا يجدون إلا رجلاً واحداً يتميز بينهم بالأمانة، نسأل الله السلامة والعافية، فيرفع من الناس الأمانة والخشوع، وعلى هذا فالقول الذي يقول بعدم فتح باب الوكالات المطلقة خاصة في هذه الأزمنة من القوة بمكان، فيحدد له محل الوكالة، وهذا أفضل وأحوط وهو مقصود الشرع من فتح باب الوكالة، والله تعالى أعلم حكم الشهادة على شهادة الشهود السؤال هل تجوز الشهادة على شهادة الشهود كأن يقول: أشهد أن فلاناً يشهد بكذا وكذا؟ الجواب هذه مسألة تعرف بالشهادة على الشهادة، والشهادة على الشهادة في الأصل لا تصح، في الأصل: لا يشهد إلا الشاهد نفسه، ولا يتوكل الغير عنه إلا في مسائل مستثناة، سيأتي -إن شاء الله- بيانها في باب الشهادات، ومن هذه المسائل: أن يموت الأصيل. مثال ذلك: عندنا وقف عمره ثلاثمائة سنة، وهذا الوقف فيه حقوق شهد بها أناس وعمروا حتى بلغوها لطبقةٍ بعد طبقتهم، فشهدت الطبقة الثانية في المائة الثانية على الطبقة الأولى أن هذا الوقف يختص بآل فلان من بني فلان، ثم بقي الوقف يقسم على هذا النوع من الناس، ثم توفيت الطبقة الثانية فنقلت إلى الطبقة الثالثة التي بعدها أن هذا المال وقفٌ على آل فلانٍ من بني فلان، ففوجئوا في يوم من الأيام وإذا آل فلان الذي هو الفخذ العام يدعي أن له حقاً في هذا الوقف، فلما رُفع إلى القاضي أقيم الشهود على الشهود، فحينئذ لا يمكن أن نأتي بالشهود الأصليين الذين شهدوا على الواقع، فتثبت الشهادة على الشهادة في إثبات الأموال إذا تعذر هذا الشرط، وهو: وجود الشاهد الأصل، والشهادة على الشهادة، قيل: تتركب من حجةٍ على حجة، فيصبح كل شاهدين يشهدان على شاهد، فيكونون أربعة مقام الاثنين، فاثنان يشهدان على واحد، واثنان يشهدان على واحد، وعلى هذا يكون الشهود في الحقوق المالية أربعةً، وعليه يستقيم الحكم لوجود الحاجة، وهذه يسمونها: الشهادة على الشهادة، وقد حكم بها جماهير العلماء رحمهم الله، لكن لا تقبل الشهادة على شهادة الحدود؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا تقبل الشهادة إلا على رؤية كالزنا ونحوه، فلو شهد ثمانية على أربعة من الشهود بزنا فلانٍ أو فلانة لم يحكم بهذه الشهادة، وأيضاً: لو شهد ثمانية على شهادة أربعة أو على شهادة شاهدين مركبةً بعضها على بعض في قتلٍ لم يحكم به؛ لأن الدماء والأعراض والحدود هذه كلها تتوقف على شهادة الأصل، ولا بد فيها من شهادة الأصل لثبوت الحد، والله تعالى أعلم ضابط الغبن الذي يثبت به الخيار في البيع السؤال ذكرتم أن في حديث عروة البارقي دليلاً على جواز أن يربح الإنسان بأضعاف ما اشترى به، فأشكل عليّ ذلك مع خيار الغبن، والذي يتضمن منع البائع من الزيادة الفاحشة، فما هو التوضيح في ذلك؟ الجواب إشكالٌ جيد، ولكنه وفق السائل، أولاً: لكي يتضح الإشكال: خيار الغبن: أن تأتي إلى السوق وتسأل عن كتاب، بكم قيمة هذا الكتاب؟ قال: هذا الكتاب قيمته مائتان، فدفعت له المائتين وأخذته، فلما فارقت الرجل وتم البيع سألت عن الكتاب فإذا قيمته خمسون، هذا غبنٌ فاحش، أي: أن الرجل ظلمك بالاسترسال، والاسترسال: أنك قبلت كلامه واسترسلت معه في البيع دون أن تكاسره، فلما باعه لك غبنك غبناً فاحشاً، فبعض العلماء يقول: البيع صحيح ولا خيار لك؛ لأنك قد رضيت أن تدفع المائتين مقابل الكتاب، والبيع وقع عن تراض، وقال بعض العلماء: لك الخيار؛ لأنك حينما سكتّ كأنك قلت له: قبلت هذا الكتاب بالعرف، وقد ائتمنتك على العرف في بيع هذا الكتاب، فصار غشاً وتدليساً؛ لأنك سكت بناءً على أن العرف أن يباع بمائتين، فإذا تبين أنه يباع بخمسين فقد ظلمك، وهذا الوجه الثاني رجحه غير واحدٍ من العلماء، وقد بينا هذا في الخيارات، وإذا ثبت هذا فنحن قلنا: يجوز الربح أضعاف القيمة، وقد اشترى عروة شاتين بدينار، معنى ذلك أن قيمة الشاة نصف دينار، وباع إحدى الشاتين بدينار، فمعناه أنه ربح (100%) يعني: ربح الضعف، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكيف نقول بخيار الغبن مع أن عروة البارقي اشترى الشاة بنصف دينار وباعها بدينار؟! والجواب في هذا: أن الشاة تباع بدينار وتباع بدينارين على حسب العرف، أي: أن الغبن في الدينار ليس بفاحش، ومحل خيار الغبن في الغبن الفاحش، فعلى هذا: يستقيم أن يجاب بأن الدينار والدينارين قد يكون غبناً غير فاحش، فمثلاً في السوق يباع الكتاب بخمسين ويباع بستين ويباع بسبعين ويباع بثمانين ويباع بمائة، على حسب قوة المشتري في المكاسرة، فأنت إذا جئت واشتريت بستين فقد اشتريت بعرف، ولو اشتريت بمائة فقد اشتريت بعرف، فـ عروة البارقي اشترى الشاة من الجلب، والجلب أرخص من السوق، ثم باعها في السوق، وعلى هذا: لا يمنع أن تكون قيمة الشاة جلباً خمسين، وقيمتها في السوق مائة أو تكون قيمتها في الجلب نصف دينار وقيمتها في السوق ديناراً، وعلى هذا لا يستقيم الاعتراض، ويكون من باب بيعه بالعرف، فيجوز أخذ الأرباح الكثيرة إذا لم يكن في ذلك الغبن الفاحش، كذلك يمكن أن تقول: إنه يجوز أن يقول له: يا فلان! السيارة قيمتها في السوق عشرة آلاف، وأنا لا أبيعها إلا بثلاثين ألفاً، وهذا من حقه، فإنه لو كشف له الأمر وقال: قيمتها بالسوق عشرة وأريد أن أبيعها بثلاثين فحينئذٍ يستقم لنا أن نحتج بحديث عروة البارقي؛ لأن الشرع لم يحد ربحاً معيناً، فإذا قال له: رضيت أن أشتريها منك بثلاثين ألفاً فإن الله تعالى يقول: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] وهذا قد رضي دفع الثلاثين فصح البيع ولا يحكم بالفساد، والله تعالى أعلم أحكام الجاهلية مردودة بحكم الشرع السؤال ورد أثناء الدرس قوله صلى الله عليه وسلم: (الوليدة والمال ردٌ عليك) فما المراد بقوله: (الوليدة)؟ الجواب هذا من حكم الجاهلية، حيث كان في الجاهلية إذا زنى الرجل بامرأة الرجل يعطيه وليدة وهي الجارية، يعطيه وليدة أو يعطيه غلاماً، فقال له: (الوليدة والغنم رد عليك)؛ لأنه افتدى، فيصير كأنه حق للزوج الذي أفسد عليه فراشه، فيدفع له مالاً كالغنم، ويدفع له الوليدة الأمة الحامل أو بدون حمل على حسب ما يتفقان، فهذا من حكم الجاهلية، وهي الأعراف التي كانت في الجاهلية مثل ما يقولون: الحقوق والسلوم، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكم ورده وقال: (على ابنك جلد مائة، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها -فاعترفت فرجمها-)، فرد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المال، وفيه دليل على أنه: إذا أُلزم الشخص في خصومة وقيل: عليك الحق وتذبح شاة أو عليك الحق وتدفع مالاً، أنه من حكم الجاهلية، ويكون من أكل المال بالباطل؛ لأن الله لا يحكم بذلك، وأموال الناس لا تستحق إلا بحكم الله سبحانه وتعالى، فهذا الحديث أصل من الأصول في رد هذه الأحكام والأعراف ونحوها، والله تعالى أعلم بطلان الوكالة في الرضاع السؤال ذكر العلماء -رحمهم الله- عدم جواز الوكالة في الرضاع فما صورة ذلك؟ الجواب معناه: لو أن امرأةً قالت لامرأةٍ: أرضعي عني فلاناً، فالابن رضيعٌ لمن ارتضع منه، فلو قلنا: إن الوكالة صحيحة فمعنى ذلك: أنه يكون ابنأ للأصيلة، وهي المرأة التي أمرت بالرضاع، وعليه فيقال: الوكالة باطلة، ويثبت أنه ابنٌ للمرأة الموكَلة لا المرأة الموكِلة، وعلى هذا لا تصح الوكالة كحكم، أي: لا يترتب عليها أثر الرضاع، وإنما يكون الولد ولداً للمرأة التي أرضعت لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23] فخص الحكم بالأم التي أرضعت، فكما لا يصح في النسب أن يثبت وكالةً، كذلك لا يصح في الرضاع أن يثبت وكالةً، والله تعالى أعلم حكم من أدرك الإمام في الركعة الرابعة ثم قام الإمام للخامسة السؤال رجل أدرك الإمام في الرابعة ثم قام الإمام للخامسة فسبح المأمومون فلم يعد، وقام معهم، فهل يعتد بهذه الركعة بالنسبة للرجل فتكون ثانية له؟ الجواب إذا زاد الإمام ركعةً في الصلاة كالثالثة في الفجر، والخامسة في الظهر والعصر والعشاء، والرابعة في المغرب فتسبح له، فإن كان فقيهاً وطالب علم يعلم الأحكام وأشار إليك: أن قم، وخاصةً إذا كانت سرية فتقوم؛ لأن الغالب أنه نسي ركناً كالفاتحة فيريد أن يخبرك لتقوم معه وتتابع؛ لأن فيه شبهة الأمر بالمتابعة، أما إذا لم يشر، ولم يكن من طلاب العلم، فسبحت له فإن كنت على يقين أنه مخطئ فلا تتابعه ولا تستمر معه في هذه الركعة، فمن تابع الإمام في ثالثة في الفجر أو خامسةٍ في الظهر والعصر والعشاء فإنه تبطل صلاته، ويلزم بالإعادة؛ لأنه زاد في صلاته عالماً متعمداً، وأما إذا كان مسبوقاً كما ورد في السؤال أو جئت في الركعة الثانية من الظهر فقام الإمام واستحدث بعدها ركعة فإنه يجوز لك أن تتابع الإمام؛ لأن الإمام معذور في هذه الزيادة لحكم الشرع له أن يعمل بظنه، وأن يترك ظن غيره إذا استيقن، فحينئذٍ إذا كنت قد أتممت صلاتك فإنك تجلس في التشهد، ولا تسلم حتى ينتهي الإمام من الخامسة ويتشهد ويسلم بك؛ لأنه يجوز أن تفارقه لعذر فتتقيد بوجود العذر، وهو الزيادة، وأما التشهد فتشاركه فيه وتطول في الدعاء وتنتظر حتى ينتهي من خامسته، ثم يدعو ويتشهد، ويدعو ويسلم بك إلحاقاً بصلاة الخوف كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، حيث تشهد بالطائفتين وسلم، وانتظرته الطائفة الأولى وسلمت بسلامه فدل على أنه لا ينقطع الاقتداء. وأما بالنسبة لك أنت كمسبوق، فإنك تصلي معه الخامسة، وتصبح صلاتك صحيحة على قول من قال: يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل، فهو في الخامسة متنفل، وأنت فيها مفترض، ويجوز اقتداء المفترض بالمتنفل في هذه المسألة ونحوها، وعلى هذا فصلاتك صحيحة، وصلاة الإمام على هذا الوجه صحيحة، والله تعالى أعلم دخول ربا النسيئة في الصرف عند عدم التقابض السؤال لو اشتريت وبقي لي مبلغ عند البائع، ولم يوجد عنده الباقي ونويت أنه دين، ثم أتيت وأخذت بهذا الدين شيئاً، فهل هذا صحيح؟ الجواب إذا اشتريت شيئاً بثمنٍ ودفعت أكثر منه، فحينئذٍ يكون العقد مشتملاً على عقدين، مثاله: اشتريت بعشرة ودفعت خمسين، فحينئذٍ إذا اشتريت الكتاب بعشرة، فالعشرة مقابل الكتاب بيع، والأربعون الباقية من الخمسين صرف، فأصبح عقد بيعٍ وعقد صرف، وعقد الصرف: مبادلة المال بالمال في أحد النقدين الذهب أو الفضة، والأوراق النقدية مُنزلة منزلة أصولها، ولذلك وجبت فيها الزكاة، فهي إما ذهب وإما فضة على حسب رصيدها، فإذا جئت تدفع العشرة مقابل الكتاب فهذا بيعٌ لا إشكال فيه، لكن الأربعين الباقية يجري عليها حكم الصرف الشرعي، فيجب عليك كما لو صرفت الخمسين بخمسين: أن يكون يداً بيد، فتعطيه الخمسين وتستلم، قال صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً إلا هاء وهاء)، فدل على لزوم التقابض، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإذا اختلفت -أي في الصرف- هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، وعلى هذا فلا يجوز أن تبقي الباقي عنده، فإن أبقيت الباقي عنده فإنه صرفٌ بنسيئة، ومتى افترق المتصارفان دون أن يحصل القبض للثمنين أو لأحدهما فهو ربا النسيئة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)، وعلى هذا فأنت بالخيار بين أمور: الأمر الأول: إذا كان عندك خمسين وليس عنده صرفها فإنك تقول له: اذهب واصرف، فيذهب وكيلاً عنك بالصرف فيصرف الخمسين ويعطيك صرفها، فتعطيه حقه وتستلم حقك، هذا توكيل بالصرف ولا إشكال فيه. الحالة الثانية: أن تقول له: إني لا مال عندي أعطيك الآن إلا هذه الخمسين فإن شئت فاصرفها وإن شئت فاجعل مالك ديناً عندي أي: قيمة الكتاب وهي العشرة، فتفارقه ثم تجعل العشرة ديناً عليك فتذهب وتعطيه إياها متى ما صرفت، على حسب ما تتفقان عليه من الوقت، أو تقول له: انتظر حتى أصرف الخمسين وتذهب بنفسك وتصرف الخمسين ثم تأتي وتعطيه ماله، أما إذا بقي عنده شيء فيسمى: بيع وصرف، والصرف هنا ليس فيه تقابض، وهو عين النسيئة التي أجمع العلماء -رحمهم الله- على تحريمها، وهي أشد أنواع الربا الذي: (لعن الله آخذه وآكله وموكله وكاتبه وشاهديه) فأمرها عظيم، ولذلك يقول العلماء: إنه قد يشيب عارض الرجل في الإسلام وهو يُعلن الربا صباحاً ومساءً، يعني: يتعامل بالربا وهو لا يعلم، حيث يقصر في السؤال والاستبيان، فلا بد وأن تأخذ يداً بيد، فإذا صرفتما ووقع التقابض فلا نسيئة وإلا فهو النسيئة التي حرم الله، والله تعالى أعلم الطريقة المثلى لضبط مسائل العلم السؤال إذا كان لطالب العلم أكثر من درسٍ يواظب عليه فعند الضبط والمراجعة تتداخلُ عليه الدروس، وتكثر عليه المسائل، فما الطريقة المثلى لضبط مسائل العلم؟ الجواب أما بالنسبة لتعدد العلوم، واختلاف المشايخ في الطلب فهذا يؤثر كثيراً على طالب العلم، ولا يضبط العلم مثل الانحصار والتقيد وكثرة المراجعة، وهذا معروف حتى في زمان السلف، فإنك لم تجد صحابياً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا وله طلاب يأخذون عنه؛ لأن الخلاف وقع في الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في حياته عليه الصلاة والسلام فالصحابة كانوا آخذين عنه العلم، لكن بالنسبة للصحابة تجد لكل صحابي أصحاباً، فتجد لـ ابن عمر أصحاباً كـ نافع وسالم ابنه ونحوهم من تلامذة ابن عمر، وتجد أصحاب ابن عباس كـ مجاهد وعطاء وعكرمة ونحوهم من تلامذته، وتجد لـ ابن مسعود علقمة وغيره من أصحابه رضي الله عنه. فهذا التنوع الذي كان عند الصحابة رضوان الله عليهم لما بذلوا علمهم انحصر التابعون، فأخذوا عن كل واحد؛ ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم زيد بن ثابت وأخذ عنه ونبغ في علم التفسير؛ لأن زيد بن ثابت كان من أعلم الصحابة بالقرآن؛ لأنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي زيد رضي الله عنه بكى أبو هريرة بكاءً شديداً، وقال: (لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً ولعل الله أن يجعل لنا ابن عباس خلفاً عنه) فكان ابن عباس منحصراً في زيد؛ لأنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ابن عباس حدثاً صغير السن مقارباً للبلوغ، فأراد أن يطلب العلم فانحصر في زيد وأخذ عنه، فقال أبو هريرة: (لعل الله أن يجعل لنا ابن عباس خلفاً عنه) يعني: عن زيد فالانحصار ليس المراد به التعصب، إنما المراد أن تبحث عن من تثق بدينه وعلمه وأمانته ممن أخذ العلم -هذا الشرط- عن أهله واتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ممن أخذ العلم عن الكتب فأخذ علماً لا يوثق به؛ لأنه إذا أخذ عن كتب تشتت وتعددت أصوله، وتفرقت إشكالاته واختلفت، فالذي أخذ العلم وطلبه عن أهله ممكن أن ينحصر فيه طالب العلم. فإذا نظرت أنك تستطيع أن تجمع بين درسين في الأسبوع أو ثلاثة بالأكثر، وتضبطها فحيّ هلا! أما إذا كان العلم الذي تأخذه في الدرس يحتاج إلى ضبط وتكرار فلا تضبط العلم إلا بالانحصار، فإذا انحصرت في العالم وأخذت عنه وارتويت من علمه وضبطت ما عنده انتقلت إلى غيره، وهذا هو الذي كان عليه العلماء رحمهم الله والأجلاء؛ ولذلك انظروا إلى أصحاب ابن عباس فإنك إذا جئت إلى المسائل الخلافية -بالاستقراء والتتبع- تجد القول عن عبد الله بن عمر وعن عبد الله بن عباس، تجدهم يقولون: وبه قال نافع وسالم بن عبد الله ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير، فيعدد أصحاب الصحابيين؛ لأنهم أخذوا الفقه وضبطوه عنهم، المهم أن تأخذ بالدليل، والمهم أن لا تتعصب لشيخك إذا خالف الدليل، ولكن إذا أخذت عن شيخٍ يوثق بعلمه بدليل وحجة فاستمسك بالحجة والدليل، فإن خالفه أحد وعارضه أحد يقول لك: هذا معارضٌ للسنة؛ فلربما جاءك الغير بدليل يتوهم أنه حجة وأنه سنة، والواقع أنه دليل مطعون في سنده، أو مجاب بدليل عنه أقوى منه، وعلى هذا تقول بقول العالم، وتنحصر في علمه وتأخذ عنه وتضبط، حتى تصل إلى ما وصل إليه، كمثل مشايخنا الكبار -حفظهم الله وأدام الله عليهم العفو والعافية، وأبقاهم للإسلام والمسلمين- هؤلاء العلماء الأجلاء الأتقياء الذين عُرِفوا بالخير والصلاح وزكتهم الأمة، حينما يأخذ طالب علم عن عالم منهم، ويأخذ هذا العلم بدليله وحجته يلقى الله عز وجل يوم القيامة وقد أخذ العلم بالاتباع، وما جاء بعلم من عنده فشذ، وجاء بالآراء الغريبة، فمثل هؤلاء العلماء الذين عُرِفوا بالأمانة لا يأتون بالأهواء ولا يخبطون خبط عشواء، وإنما يأخذون العلم بحجة، ويسلكون السبيل والمحجة، لهم قدمٌ راسخة من سلفٍ صالح، وأئمة يهتدى ويقتدى بهم، فمثل هؤلاء يعض على علمهم بالنواجذ، فإن وجد قولٌ يخالف قولهم بدليل، وظهرت قوته، وأثرت أنواره وحجته، فإننا نعدل عن هذا القول بحجة هي أقوى وسبيل أبلغ في الرضا، ونعتذر لعلمائنا ومشايخنا بما يليق به الاعتبار، وهذا هو مسلك العلماء والأئمة، أما تعدد الدروس واختلافها فإنه يحدث عند طالب العلم ربكة، ويحدث عند طالب العلم الاضطراب، خاصةً فيما يشترط فيه اتحاد في الأصول، فالفقه إذا قرأته على شيخ ينبغي أن لا تقرأ أصول الفقه إلا بهذا الضابط؛ لأنه لا يستقيم أن تقرأ الفقه على عامل يرجح أن المفهوم حجة، وتقرأ أصول الفقه على يد عالم لا يرى أن المفهوم حجة، فأنت في الأصول تصحح قولاً تخالفه في الفروع والتطبيق وهذا هو الذي جعل العلماء في المذاهب الأربعة يهتمون بتقعيدها وبيان أصولها، حتى يكون استنباطك للنصوص وعملك بالأدلة على قاعدة صحيحة، وعلى هذا درج سواد الأمة الأعظم، فلن تجد عالماً إلا وقد أخذ الفقه من أصل ومذهب بالدليل ولم يتعصب ألا للدليل، فنحن نريد علماً صحيحاً موروثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مأخوذاً عن الأئمة، لكن بدون شتات وفرقة حتى يستطيع طالب العلم أن يصل إلى الحق بأقرب سبيل، وأوضح معنى. نسأل الله العظيم الجليل أن يرزقنا الصواب والرشاد، وأن يجعلنا من أهل الصبر، وأن يثبتنا عليه إلى أن نلقاه، وأن يحشرنا في زمرة نبيه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
__________________
|
#368
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (339) صـــــ(1) إلى صــ(20) شرح زاد المستقنع - باب الوكالة [3] الأصل في الوكالة أن يقوم الوكيل بأداء ما وكِّل بالقيام به، لكن قد يحدث أن الوكيل يوكل غيره للقيام بهذا العمل، وهذا له حالات وتفاصيل. وأما الوكالة من حيث هي فهي عقد جائز ليس بلازم؛ لأن المقصود بها الإرفاق، ولها مبطلات كشأن سائر العقود حكم توكيل الوكيل لغيره بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فكان حديثنا عن باب الوكالة، ولا زال المصنف رحمه الله يبين المسائل والأحكام المتعلقة بهذا الباب الذي تعم به البلوى، ويحتاجه الناس في كل زمانٍ ومكان، وشرع بهذه الجملة في بيان مسألة توكيل الوكيل لغيره، فقد تطلب من شخصٍ ما أن يقوم نيابةً عنك بأمرٍ ما، وأنت تقصد أن يقوم به بنفسه، فيفوض ذلك الأمر ويكله إلى غيره، وحينئذٍ يرد السؤال هل يجوز له أن يقيم ذلك الغير مقامه، أو لا يجوز؟ ثانياً: حينما أقام ذلك الغير مقامه فلربما تصرف تصرفاً فيه ضرر، فهل يضمنه الموكل الأصلي، أو يضمنه الوكيل؟ بعبارةٍ أخرى: هل هو وكيلٌ عن الأول، أو الثاني؟ وهذا كله يحتاج الناس إلى بيان حكمه. ومن هنا بين رحمه الله القاعدة فقال: [ليس للوكيل أن يوكِل فيما وُكِّل فيه]. أمثلة هذه المسألة: قد تأتي إلى صديق لك أو أخ لك وتقول له مثلاً: بعْ لي هذه العمارة، فهذا الأخ أو هذا الصديق قد يتولى أمرها بنفسه، أو يذهب إلى مكتب عقارٍ فيوكل صاحب المكتب بالبيع، هذا مثال، وبناءً على ذلك يرد السؤال: هل لك إذا وُكِّلت من الغير أن توكل فيما وُكِّلت فيه، أو لا؟ هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل. أولاً: إذا وكِّل الشخص في عمل أو وُكِّل للقيام بمهمةٍ من بيعٍ أو شراءٍ أو إجارةٍ أو غير ذلك، فلا يخلو هذا الشخص الذي يوَكَّل وهو الوكيل من حالات: الحالة الأولى: أن يوكل في شيء لا يقوم به مثله عُرفاً، وسنذكر مثال ذلك وحكمه. الحالة الثانية: أن يوكل في شيء يمكنه أن يقوم به لكن بمعونة الغير. الحالة الثالثة: أن يوكل في شيءٍ يمكنه أن يقوم به وحده. فهذه ثلاثة أحوال: إما أن يوكل في شيء جرى العرف أن مثله لا يقوم به، وإما أن يوكل في شيء يمكنه أن يقوم به بنفسه ولكن بشرط أن يوجد من يعينه على ذلك الشيء، وإما أن يوكل بشيء يمكنه أن يقوم به بنفسه دون أن يحتاج إلى غيره، فهذه ثلاثة أحوال سنفصل أحكامها ان يوكل في شيء لا يقوم به مثله عرفاً الحالة الأولى: أن يوكل في شيء لا يمكنه أن يقوم به بنفسه عُرفاً، مثال: لو قال شخصٌ لآخر: اكنس لي أو نظف لي هذه العمارة، أو نظف لي -أكرمكم الله- دورات العمارة، فالعلماء رحمهم الله ذكروا هذه الحالة؛ لأنها توجد بين الناس، ومن الناس من يطلب من أخيه أو صديقه أو رفيقه أن يقوم بعملٍ ليس مثله يقوم به، ففي هذه الحالة إذا قلت لشخص: نظف لي العمارة، أو اكنس لي العمارة فهمنا أنك تقصد أن يأتي بشخصٍ يقوم بذلك، فهي في الأصل وكالة للشخص، لكن المقصود منها أن يقيم غيره مقامه، في هذه الحالة إذا طلبت من شخصٍ ليس مثله يقوم بالعمل أن يقوم بذلك العمل، نقول: الوكالة باللفظ له، ولكنها بالعُرف متضمنةً للإذن بالغير، فعلى هذا: يجوز أن يوكل غيره مقامه، وفي هذه الحالة شبه إجماع، أن الشخص لو قال لآخر: نظف لي العمارة، أو اكنس لي العمارة، أو اكنس لي البيت أو الدار، أو اكنس لي البركة، أو نظف لي دورة المياه -أكرمكم الله-، أو أي شيء ليس مثله يقوم به فإنها وكالةٌ منصرفةٌ في الظاهر إلى المخاطب، وفي الباطن إذنٌ أن يقيم غيره مقامه. فنستثني من قول المصنف: (ليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه)، ما إذا كان وكل بشيءٍ ليس مثله يقوم به، لكن الإشكال ليس هنا، وإنما حينما قال له: اكنس لي العمارة، أو نظف لي العمارة، فيرد السؤال هل إذا قال له هذه الكلمة وذهب وجاء بشخصٍ آخر يقوم بالكنس، هل هذا الشخص الآخر الذي يقوم بهذا العمل وكيلٌ عن الأصل، أو وكيل عن الوكيل؟ وهذا أمرٌ مهم جداً، فعندما تقول للشخص: أصلح لي الباب، ومثله ليس بنجار، أو أصلح لي السقف، وليس مثله بنّاء ليصلح السقوف، أو أصلح لي السيارة وليس مثله يصلح، فهل أنت بهذه الجملة قصدت له: اطلب من يصلحها، فيصبح لك وكيلاً، الوكيل الأول الذي خاطبته، والوكيل الثاني الذي يقيمه مقامه. فائدة هذا السؤال أنك لو قلت: إن الموكل حينما تلفظ وكّل الاثنين، فلو أنك طلبت منه أن يصلح سقف البيت فأبرم عقداً لمدة شهر لإصلاح السقف، وأثناء الشهر توفي ذلك الوكيل، فإن كان الثاني -الذي هو العامل- وكيلاً عنك، يعني: وكلت الاثنين، فلا تنفسخ الوكالة، ويبقى العقد كما هو، وإن كان وكيلاً عن وكيلك فحينئذٍ يحتاج إلى تجديد؛ لأن الوكالة قد انفسخت. وقال بعض العلماء: أُبرِم العقد وتم فلا يحتاج إلى تجديد؛ لأنه من العقود اللازمة؛ لأنه من عقود الإجارة، وبناءً على هذا: في حالة ما إذا كان موكلاً للغير وهذا الغير لا يقوم بذلك كإصلاح السيارات وإصلاح البيوت وتنظيفها أو نحو ذلك وليس مثله ممن يقوم به فإنه يصح له أن يوكل غيره ويقيمه مقامه أن يوكَّل في شيء يحتاج فيه إلى معونة الغير الحالة الثانية: أن يكون الأمر المطلوب يمكنه أن يقوم به ولكن يحتاج إلى معونة الغير فيه، ومن أمثلة ذلك: العامل في المزرعة، أو الحارس في العمارة مثلاً، تقول له: يا فلان! نظّف لي العمارة، فإنه بطبيعة الحال سينظفها ولكن يحتاج إلى من يعينه إلى تنظيفها، فمثلاً قلت له: أريد تنظيف هذه العمارة هذا اليوم، فيفهم بداهة إذا كانت عمارة كبيرة أن للمقصود: التمس معك من يعينك على تنظيفها، بناءً على ذلك يصبح لك وكيلاً، الوكيل الأول الذي خاطبته، والوكيل الثاني الذي يقيمه معه، وذهب جماهير العلماء في هذه الحالة إلى أنك لو قلت للعامل أو قلت لشخص تعلم أنه يحتاج إلى معونة الغير: افعل لي كذا فأنت موكلٌ للاثنين، موكلٌ للوكيل الأصلي وموكل لمن يوكله معه. لكن هنا مسألةٌ مهمة وهي: إذا كنا نقول في الحالة الأولى والحالة الثانية أن من حق الوكيل أن يوكل غيره، فلا بد من بيان شرط مهم وهو: أنه لا يصح لهذا الوكيل أن يقيم معه الغير أو يوكل الغير إلا إذا كان أهلاً للقيام بالعمل، فأنت لا تتحمل المسئولية، لو قلت له: يا فلان! نظف لي العمارة أو ابن لي السقف أو ابن لي الجدار أو الغرفة أو ازرع لي الزرع، فذهب وجاء معه بشخصٍ آخر إذا كان مشاركاً، أو طلب شخصاً آخر يقوم بهذا العمل فإنك لا تتحمل مسئوليته إلا إذا كان على صفتين: الصفة الأولى: أن تكون عنده أهلية القيام بهذا العمل. الصفة الثانية: مسألة العدالة فيما يحصل فيه الضرر بفواتها. فمسألة العلم بالعمل مهمة، فلو أنك قلت لرجلٍ: ابن لي الدار أو نظّف لي الدار وليس مثله يقوم بذلك، واستأجر أجيراً لا يحسن تنظيف العمارة ولا الدار، ثم لما جاء يقوم بعمله أخل بذلك العمل، فلما أخل به قال لك: أنت وكلتني ولا بد أن تدفع أجرته. ففي هذه الحالة: لا تكون ملزماً إلا أن يقدر مقدار عمله الطيب الذي يستحق عليه أجرة، والباقي لا تتحمل مسئوليته، مثال ذلك: ذهب واستأجر عاملاً باليومية -بمائة ريال- أو أخذه مقاولة واتفق معه على خمسمائة، فلما قام بتنظيفها نظفها بمقدار نصف العمل أي: لم ينظف تنظيفاً متقناً، وإنما نظف تنظيفاً مخلاً، بحيث أنك ترى الغرفة عليها آثار الغبار وغيره، لأنه لا يحسن العمل، فحينئذٍ بعد إن انتهى من التنظيف قال لك: ادفع لي خمسمائة ريال أجرة العامل، فذهبت تنظر في عمل العامل وإذا بعمله ليس بمتقن، وليس بأهل أن يأخذ عليه هذه الأجرة، فسألت أهل الخبرة فقالوا: هذا نصف التنظيف، أو اجتهدت وأنت تعرف أنك ما ظلمته فقدرت عمله على أنه نصف عمل تقول له: خذ مائتين وخمسين، فتعطي وكيلك المائتين والخمسين ريالاً، ثم الباقي يتفاهم فيه مع العامل، أما من حيث إلزامك أنت فلا تلزم إلا بما يستحقه الأجير؛ لأنه في هذه الحالة لما أذنت له أن يقيم الغير مقامه بالعرف لا بد وأن يكون هذا العامل أهلاً بالعرف، فلما قصر الوكيل في التحري في صفة العامل وقصر في جلب من هو أهل لذلك يتحمل مسئولية الضرر. إذاً نقول في هذه الحالة: لو أقام غيره مقامه أو أقامه معه، فلا تتحمل مسئولية ذلك الغير إلا إذا كان أهلاً، هذا الشرط الأول. فلو أنه -مثلاً- جاء بعاملٍ وهذا العامل لا يحسن العمل في الكهرباء، وقلت له: أصلح لي الكهرباء في العمارة أو البيت، بمعنى: اذهب وانظر لي من هو أهل للقيام بذلك، فذهب إلى السوق وجاء بمن لا يحسن العمل بهذا الشيء، فلما جاء ليقوم بهذا العمل أضر بنفسه -أصابه مثلاً (شورت كهرباء) ومات- في هذه الحالة لا تتحمل المسئولية؛ لأنك لم تطلب منه أن يقيم كل شخص، فأنت حينما قلت له: وكلتك أن تصلح الكهرباء أو الماء فيها أو جدارها أو أرضها أو سقفها كأنك تقول: وكلتك أن توكل من هو أهل بالعرف، فكما أن العرف يصرف الوكالة عن الشخص نفسه إلى شخصٍ آخر، كذلك العرف يقيدها بمن هو أهله. إذاً: الخلاصة حينما قلنا في الحالتين: أن من حق الوكيل أن يوكل غيره فإننا نشترط أن يكون أهلاً، وإذا لم يكن أهلاً فلا يتحمل الوكيل الأصيل مسئوليته. ثانياً: أن يكون ممن توفرت فيه الأمانة والعدالة حتى لا يحصل الضرر بالإخلال، فلو أنه أقام شخصاً خائناً فجاء ووضعه وائتمنه على المال فسرق المال، فحينئذٍ هذه السرقة وقعت من الوكيل الثاني، وأنت حينما وكّلته وكلته بالعرف، فيتحمل الوكيل المسئولية عن السرقة ولا تتحملها أنت؛ لأنه وإن قلنا في هذه الحالة أنه من حقه أن يأتي بوكيل، لكن بشرط أن يتحمل، والدليل على أننا نلزمه بالضمان أنه في هذه الحالة قصر، والشرع يلزم من قصر بالضمان، ولذلك: قواعد الشريعة وأصولها دالة على أن من تحمل مسئولية شيء ونزل مكان الأصيل فإنه يتحمل الضرر الناشئ عن الإخلال بذلك الشيء، وتوضيح ذلك أكثر بعبارة مختصرة: أن الوكيل الثاني كان الأصل يوجب عليه أن يسأل في السوق، وأن يتحرى حتى يجد الأهل لذلك فيقيمه مقامه، فلما قصر في السؤال والتحري تحمل مسئولية الإخلال، ولذلك أي شخص يطلب منك أمراً أو يوكلك في أمر وأنت لا تحسنه، وأردت أن تقيم مقامك غيرك، أو دل العرف على أنه أراد أن تقيم غيرك مقامك، فينبغي أن تتحرى وأن تجتهد وأن تحب له ما تحب لنفسك، وأن تكره له ما تكره لنفسك ولا تذهب لكل أحد، فإنه لو كان العمل لك هل تقبل كل عامل؟ وهل ترضى بكل عامل؟ فكما أن الإنسان لا يرضى بالضرر على نفسه فإنه إذا كان وكيلاً عن غيره فعليه أن يتقي الله، وأن يعلم أنه مؤتمن وأن الغير ائتمنه فعليه أن يؤدي هذه الأمانة بالتحري والسؤال، فإذا جاء -مثلاً- يشتري أدوات الكهرباء يسأل صاحب المحل عن أحسن من يوثق فيه، أو يسأل: من الذي يستطيع أن يبحث لي عن عامل لي أمين؟ ويتحرى ويجتهد، فإذا بذل ما عنده فحينئذٍ لا يتحمل المسئولية أن يوكَّل في شيء يقوم به بنفسه دون حاجة إلى غيره الحالة الثالثة: أن يوكل فيما يقوم فيه بنفسه، فلو قلت لرجلٍ: بع لي السيارة أو بع لي الأرض، أو مثلاً: مكاتب العقارات الآن، فتأتي إلى صاحب مكتب عقار وتقول له: يا فلان! وكلتك أن تبيع لي عمارتي الفلانية، قال: إذاً سأقوم بذلك، فإذا قلت له: وكلتك أن تقوم ببيع عمارتي الفلانية، فذهب إلى مكتب عقارٍ آخر واتفق معه، وبيعت العمارة، وجاء يسألك الأجرة وأنت قد قلت له: وكلتك أن تبحث لي عن من يشتري عمارتي أو وكلتك أن تشتري لي عمارة وأعطيك خمسة آلاف أعطيك ثلاثة آلاف أو أعطيك ألفين -لأنه ما يجوز أن أقول لك: آخذ منك اثنين ونصف في المائة، وهذا سيأتينا إن شاء الله في الإجارة؛ لأنه إذا كانت قيمة الأرض مجهولة فهي إجارة بالمجهول كأن تقول: أريد (2. 5%) من القيمة ما ندري، قد تكون قيمة الأرض مليون ريال وأخذ اثنين ونصف في المائة من المليون ليس سهلاً، وقد تكون خمسمائة ألف، فالجهالة في الأجرة موجبة للبطلان كما قررناه في مسائل البطاقات، وإن شاء الله بإذن الله سنفصل هذه المسألة في باب الإجارة-. الشاهد: أنك لو قلت لصاحب المكتب: التمس لي أرضاً بصفة كذا وكذا أو في موقع كذا وكذا وأعطيك ألفين أو ثلاثة آلاف، فذهب صاحب المكتب وتقاول مع مكتبٍ آخر ثم جاءك وقال: إني قد وجدت لك أرضاً بنصف مليون، ولكن فلان صاحب المكتب يطالبني بخمسة آلاف؛ فتعطيني مع الألفين التي اتفقنا عليها ألفين ثانية أو خمسة آلاف أو ثلاثة آلاف، فتقول له: أنا وكلتك والوكالة بيني وبينك، وهذا الوكيل الثاني لم أوكلك به؛ لأن العمل يختص بك أنت، وتستطيع أن تقوم به لوحدك، فحينئذٍ أنت الذي تتحمل مسئولية من أقمته معك، وأنا لا أتحمل من حيث الأصل ما دام هذا عملك وقد وكلتك، فمعنى قولي: التمس لي من يستأجر عمارتي أو يشتري أرضي أو التمس لي أرضاً أو عمارةً فإنني في هذه الحالة وكلتك ولم أوكل غيرك، فهذا الغير الذي أقمته معك أنت الذي تدفع أجرته، وأنت الذي تتحمل مسئوليته وليس لي من دخلٍ في ذلك، هذا إذا كان وكله على أن يقوم بعملٍ يمكنه أن يقوم به لوحده؛ لأن مكتب العقار في الأصل يقوم بالعمل لوحده، ولكن كونه يستعين بالغير هذا في حالات استثنائية أو في حالات شاذة، لكن في الأصل أن مكتب العقار هو الذي يقوم بهذا العمل، وهو الذي يتحمل شراء الأشياء وبيعها وإجارتها ونحو ذلك، وبناءً على ذلك لا تتحمل أجرة هذا الوكيل الثاني. قال المصنف رحمه الله: [وليس للوكيل أن يُوكِّل فيما وُكِّل فيه]. اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة في الحالة الثالثة بالخصوص، أما من حيث الأصل إذا قال الوكيل لموكله: وكلتك، فلا يخلو من صورتين: الصورة الأولى: أن يقول له: وكلتك ولا أسمح لك أن توكل غيرك، فإن قال له: وكلتك ولا أسمح لك أن توكل غيرك فبالإجماع ليس للوكيل أن يوكل فيما وُكّل فيه، هذا إذا قال له: وكلتك ولا آذن لك أن توكل غيرك ففي هذه الحالة بالإجماع لا يصح أن يوكل غيره معه، ولا يصح أن يوكل غيره بدلاً منه. الصورة الثانية: صورة المسألة التي معنا، أن يقول له: وكلتك في بيع الأرض، مثل ما ذكرنا في مكتب العقار، ومكتب العقار يمكنه أن يتوكل لوحده، فهل لمكتب العقار أن يوكل غيره من أفراد الناس أو جماعتهم أو من مكاتب العقار أو غيرها؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة -رحمةُ الله عليهم- أنه لا يجوز للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه من حيث الجملة، وقالوا: إن الوكالة منصبة على شيء، إما بذلاً وإما أخذاً كمنفعة عين إلخ على حسب العقود، وهذا الشيء ملكٌ للأصيل، فإذا أذن للوكيل فإن غير الوكيل أجنبي وليس للوكيل أن يقيمه مقامه؛ لأنه أذن للوكيل وحده، فلا يجوز التصرف في أموال الناس وأملاكهم إلا بإذنٍ منهم، والإذن هنا خاصٌ بالوكيل وليس له أن يوكل غيره، هذا مذهب الجمهور وهو يستند إلى الأصل. القول الثاني: يجوز للوكيل أن يُوكِّلَ فيما وُكِّل فيه، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله ورواية عن الإمام أحمد، وقال به بعض أصحاب الإمام الشافعي، لكن مذهب الحنابلة والشافعية على القول الأول. فعلى القول الثاني قول الذين يقولون: يجوز للوكيل أن يوكِّل فيما وُكّلَ فيه، لو قلت لشخصٍ مثلاً: بعْ لي هذه العمارة، يجوز أن يبيعها بنفسه وأن يوكل من يرضاه ليقوم مقامه، ولو قلت له: أجّر لي داري أو مزرعتي، وقام بتأجيرها أو أقام غيره ممن هو أهل صح توكيله وقالوا: لأنه حينما وكل الوكيل فكأنه فوّض له أن يجلب المصلحة وأن يدفع الضرر، فكما أن المصلحة مجلوبة في الأصل بالوكيل فهي مجلوبةٌ بغيره، وكما أن المفسدة تندرئ بالوكيل تندرئ بغيره، أي: لا فرق بينه وبين غيره؛ لأن الهدف حصول المصلحة ودفع الضرر، قالوا: فهو وغيره في ذلك على حدٍ سواء، والصحيح مذهب الجمهور رحمهم الله لما ذكرنا حكم الوكالة وأحوال بطلانها يقول رحمه الله: [والوكالة عقد جائز وتبطل بفسخ أحدهما وموته وعزل الوكيل وحجر السفيه] الوكالة من العقود الجائزة يقول المصنف رحمه الله: (الوكالة عقدٌ جائز). حينما تقول لشخص: وكلتك أن تشتري لي سيارة، وأعطيته عشرة آلاف ريال، وذهب ليشتري السيارة ثم بدا لك قبل أن يشتريها أن تفسخ، وقلت: لا أريد سيارة، فهل من حقك الفسخ؟ كذلك أيضاً: لو قلت لشخص: يا فلان! هذه مائة ألف اذهب واشترِ لي أرضاً في الموقع الفلاني أو المكان الفلاني أو في المخطط الفلاني، فقال: قبلت، فلما خرج من البيت ضاق عليه الوقت وقال: لا أستطيع أن أفعل ذلك، فهل في هذه الحالة أنت ملزم بإتمام الوكالة حتى يحصل المقصود أو لا؟ وهل هذا الطرف الذي توكله إذا قبل الوكالة نلزمه أن يمضيها؟ حينما تقول لشخص: بعْ لي سيارتي قال: قبلت، وذهب يريد بيعها ثم رجع لك بعد ساعة وقال: يا فلان! لا أستطيع أن أبيعها، قلت له: عندك عذر؟ قال: لا. ليس عندي عذر، قلت: ما أسامحك خذ السيارة وبعها، وألزمته وفرضت عليه، فهل من حقك أن تفرض عليه؟ يعني: إذا حصل الإيجاب والقبول فقلت: وكلتك قال: قبلت، هل أنت ملزم بإتمام الوكالة، وليس من حقك أن تفسخها؟ وهل هو ملزم بإتمامها وليس من حقه فسخها؟ فقال رحمه الله: (والوكالة عقدٌ جائز). العقود -قلنا-: تنقسم إلى قسمين: إما عقود جائزة وإما عقود لازمة، وبينا هذا في أول باب البيوع، وضربنا الأمثلة وبينا أنواع العقود، وهنا يقول المصنف: (الوكالة عقدٌ جائز) إذا قلنا: عقدٌ لازم فضابطه: أنه لا يملكُ أحد الطرفين فسخه إلا برضا الآخر، فلو قلت له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف قال: قبلت، ثم افترقتما ثم جاء وقال: لا أستطيع فإنه يلزم شرعاً؛ لأن العقد لازمٌ للطرفين، فليس من حقه أن يرجع، وليس من حقك أن ترجع إلا برضا الطرف الثاني، لكن الوكالة على العكس، هي عقدٌ جائز، أي: يملك أحد الطرفين فسخه دون رضا الآخر، فمن حقك أن تفسخ الوكالة في أي وقتٍ شئت، ومن حق من توكله للقيام بالأمر أن يفسخ الوكالةِ في أي وقتٍ شاء. وعلى هذا: سواءً وُجد العذر أو لم يوجد، كرجل عَلم أنه لو أخذ الوكالة سيضر، وأنه لا يمكنه القيام بها، فهذا عذر، أو جاءه شيءٌ يشغله فهذا عذر، أو لم يوجد العذر كأن يريد أن يتخلى عن الوكالة هكذا. قال رحمه الله: (والوكالة عقدٌ جائز) أي: يملك أحد الطرفين فسخه دون رِضا الآخر، يقول العلماء في تقرير كون الوكالة عقداً جائزاً: إن الوكالة ننظر إليها من جانبين: الجانب الأول: الشخص الذي يوكل، والجانب الثاني: الشخص الذي يقبل والذي هو الوكيل، الأول: الموكل، والثاني: الوكيل، فقالوا: بالنسبة للشخص الذي يريد العمل ووكله الموكِّل قالوا: الوكالة منه إذْن، فإذا قال لك: بع عمارتي فهذا إذن بالبيع، والإذن ليس بلازم، أي: ليس هناك أحد ملزم أن يأذن للغير، وهل الإذن للغير لازم؟ الجواب بالإجماع: لا. قالوا: فإذا كان التوكيل من صاحب الحق إِذْناً للغير فالإذن من حقك في أي وقت أن ترجع عنه، وليس بإلزام، وبناءً على ذلك قالوا: الوكالة من صاحبها إذنٌ -الذي هو الموكل- ومن الوكيل الذي يقبلها فسخ؛ لأنه حينما يقول لك: خذ العشرة الآلاف واشترِ لي سيارة، فأنت تعينه على تحصيل مصلحة أو درء مفسدة، فحينئذٍ كأنك تتفضل عليه، فالوكيل متفضل على الأصيل؛ ولذلك قالوا: من حقك أن تفسخ، وقد قال الله في كتابه: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] فالوكيل محسن، وهذا إذا كانت الوكالة بدون أجرة، أما إذا كانت الوكالة بأجرة فشيء آخر؛ لأن الوكالة بأجرة فيها إلزام، فمثلاً: المحاماة، لو وكل محامياً في خصومة وقال له: اذهب وخاصم عني، فوكله بالخصومة وقال له: إذا جئتني بحقي مليون ريال في هذه الأرض التي ظلمت فيها وأثبت لي الحق أعطيك عشرة آلاف ريال، فيصبح العقد هنا عقد جُعل، فلا يستحق المحامي العشرة الآلاف إلا إذا جاء بالمليون كاملاً، فإذا تم العقد بينهما فإنه يكون عقد وكالة في الابتداء، فيكون جائزاً من حقك أن تفسخ في أي وقت، وفي الانتهاء: إذا استطاع أن يكسب القضية أو يكسب الحق يكون لازماً، فيلزمك أن تدفع له العشرة الآلاف، فهو جائزٌ في أول حال لازمٌ في ثاني حال، وبناءً على ذلك: يستثنى حالة اللزوم في ثاني حال إذا وكله أو كان عقد إجارةً، كأن يوكله على عمل إجارة، فإنه حينئذٍ يكون وكيلاً من وجه وأجيراً من وجهٍ آخر بطلان الوكالة بفسخ أحد الطرفين لها قال رحمه الله: [وتبطل بفسخ أحدهما]. والفسخ: الإزالة، يقال: فسخ الثوب إذا أزاله، وفسخ العقد أن يزيل تأثيره، يرفع ثبوت الوكالة، فيقول له: أقلتك، أو رجعت عن وكالتي لا تبع، أو لا تشترِ، أو لا تؤجر، هذا كله فسخ، فالوكالة إذا فسخت انفسخت، فإذا قال له: لا تبع، ولا تؤجر فإنها تنفسخ في هذه الحالة، أو يبعث له رجلاً ويقول: فسخت وكالتي، فتنفسخ في أي وقتٍ يشاؤها ربها، وتنفسخ بفسخ أحدهما سواءً كان الأصيل أو الوكيل بطلان الوكالة بموت أحد الطرفين أو جنونه قال رحمه الله: [وموته] إذا مات أحد الطرفين انفسخت الوكالة، فلو قلت لشخص: وكلتك أن تشتري لي سيارةً بعشرة آلاف فمات الموكل -الذي هو نفس الشخص الذي يريد السيارة- انفسخت الوكالة، لكن لو وقع البيع قبل الموت لزم البيع، مثلاً: قال رجلٌ لآخر: اشتر لي سيارة بعشرة آلاف، فذهب واشتراها، وبعد أن اشتراها بنصف ساعة بلغه خبر موت من وكله بعد ثبوت البيع، فالبيع لازم ويلزم الورثة، ويمضي لوجهه؛ لأنه وقع حال حياة الموكل. وتبطل الوكالة بعزل الوكيل، وموته وجنونه، فلو جنّ أحد الطرفين جنوناً مطلقاً فإنه تنفسخ الوكالة؛ لأنه فاتت الأهلية، وإذا كان الموكل قد زال عنه العقل فإنه حينئذٍ يكون غير أهلٍ للتصرف في ماله، فتنفسخ وكالته. وهنا مسألة: بعض العلماء يقول: تقولون إن الجنون يوجب فسخ الوكالة، فيرد الإشكال، فإن الجنون زوال للعقل، والمجنون لا يصح منه التصرف، فما رأيكم في النائم، فلو أنه وكل شخصاً وقال له: وكلتك أن تبيع بيتي بعشرة آلاف، وباع وقت منام الموكل، أليست زالت عنه الأهلية بالإجماع؟ فالنائم لو تلفظ ما يؤخذ بلفظه: (رفع القلم عن ثلاثة)، فما هو الفرق بين النائم والمجنون؟ فأجابوا عن ذلك بعدة أجوبة منها: أن النائم إذا أيقظه أحد استيقظ، والمجنون لا يستطيع أحد أن يرد إليه عقله إلا الله وحده، وبناءً على ذلك هناك فرق بين الاثنين في ضابط الأهلية، فالمجنون سلبها ولا يستطيع أحد أن يردها، لكن في النوم تستطيع أن توقظه. فقالوا: نحن نورد اعتراضنا إذا وكل حال نومه، أي: وهو نائم، وأنتم تقولون عند الإيقاظ، وما عندنا مشكلة في هذا، لكن لو أنه وكله الساعة الثانية ظهراً، ثم وضع رأسه ونام، وخرج الرجل وابتاع الساعة الثانية والنصف والموكل مستغرق في النوم، أي: بحيث يكون ما عنده أهلية، فكيف يصح هنا العقد؟ هذا يرجع إلى قاعدة تقول: (التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وتنزيل الموجود منزلة المعدوم)، وهذه القاعدة تكلم عليها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه المفيد: قواعد الأحكام، كيف ينزل المعدوم منزلة الموجود؟ قالوا: النائم إذا نام، نسألكم: كان مؤمناً ثم نام، وجاء رجل وقتله ألا نقول: قتل مؤمناً؟ نقول: بلى، فهل أثناء النوم الإيمان موجود بمعنى: عنده تصرف وعنده أفعال؟ قالوا: لا، إنما نزلنا المعدوم في الظاهر منزلة الموجود، فالأهلية الظاهرة وإن كانت معدومة لكنها في حكم الموجود، وهذا ما يسمى بالتقدير، فقالوا: أثناء نومه صحيحٌ أنه ليس من أهل الأهلية، ولكننا نزلنا الإذن قبل النوم واستصحبناه حال النوم، فصار من التقدير. ولذلك قالوا: لهذه القواعد عدة فروع منها: أطفال المؤمنين، يأخذون حكم آبائهم مع أن الإيمان غير موجود، فأنت عندما تأتي إلى بلد وتجد فيه طفلاً لقيطاً لا يعرف أبواه، إن كان في بلدٍ مسلم فتقول: هذا ابن للمسلمين، وعليه فتعطيه حكم أبناء المسلمين، ولا تقل: هل هو مسلم؟ لأنه لم يكن عليه التكليف، وقد رُفِع عنه القلم كالنائم، قالوا: فننزل المعدوم منزلة الموجود، وبناءً على ذلك قال العلماء: إنه في الوكالة ونحوها من العقود يسري الحكم في حال النوم، كما لو كان مستيقظاً التفاتاً إلى الأصل من أن التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود بطلان الوكالة بعزل الوكيل قال رحمه الله: [وعزل الوكيل]. إذا كان وكّل شخصاً أن يبيع أو يشتري أو يؤجر ثم عزله، فإذا عزله انفسخت الوكالة بطلان الوكالة بالحجر قال رحمه الله: [وحجر السفيه]. أنتم تعلمون أن الوكالة تكون في الأموال وغير الأموال، فإذا كان الرجل الذي وكّل غيره -وهو الأصيل- من أهل التصرف في المال -وهو الرشيد- فإننا حينئذٍ نصحح الوكالة، لكن لو كان غير رشيد ومحجوراً عليه، فلا يصح أن يوكل غيره، ما الدليل؟ نقول: لأن المحجور عليه لا يصح تصرفه لنفسه، فمن باب أولى لا يصح أن يقيم غيره مقامه؛ لأنا قلنا: شرط الوكالة أن يكون الأصيل أهلاً للتصرف، فلا يستطيع أحد أن يوكل غيره وهو نفسه لا يجوز له أن يتصرف في الشيء، إذ يصير كما لو وكل في مال أجنبي، لو أن شخصاً قال لآخر: بع عمارة فلان، لم يصح؛ لأن عمارة فلان لفلان، وليس لأحد أن يتصرف فيها؛ لأنها ليست ملكاً إلا لصاحبها، قالوا: فإذا كان محجوراً عليه فليس بأهلٍ للتصرف، لا أصالةً ولا وكالةً
__________________
|
#369
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة حكم بيع اللحم معجلاً في صورة التأجيل السؤال إذا دخلتُ على صاحب اللحم وقلت له: زِنْ لي كيلو من اللحم وسأعود بعد ساعةٍ وآخذ اللحم وأعطيك المال، فهل هذا البيع صحيح، أم هو من جنس بيع النسيئة بالنسيئة؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإنه إذا دخل على صاحب المحل واتفق معه على البيع وأوجب البيع وتمت الصفقة فالبيع صحيح إذا توفرت فيه الشروط، وهذا البيع المذكور يعتبر صحيحاً من حيث الظاهر، إلا أن بعض العلماء يقول: يعتبر نسيئةً من الطرفين، إلا أنه من باب بيع العين بالذمة، العين وهو اللحم؛ لأنك قلت له: زِن لي من هذا اللحم نصف كيلو، فهذا بيع عين، بعشرةٍ، بخمسين، بمائة، هذا بيع ذمة، فأصبح ذمةً -وهو النقد- في مقابل عين -وهو اللحم- وهو بيع صحيح، أي: يجوز بيع العين بالذمة، إلا أن الإشكال فيه كما ورد في السؤال كونه يقول: بعد ساعة، فتعطيني بعد ساعة وأعطيك بعد ساعة، فهو لم يلتفت إلى كونه منجزاً من الطرفين؛ لأنه ليس بمؤجل الأجل المقصود، وإنما المراد به التنجيز، إلا أن التنجيز كان على العدة فأشبه بيع النسيئة، لكنه في الواقع ناجز من الطرفين، ويعتبر في حكم المنجز من الطرفين، وعلى هذا فالأشبه صحته، والله تعالى أعلم حكم أداء العمرة عن النفس وعن المتوفى في سفرة واحدة السؤال خرجت من سفرٍ إلى مكة لأداء عمرةٍ عن نفسي، فهل يمكن لي أن أؤدي عمرةً أخرى عن والدتي المتوفاة ولم تحج؟ الجواب هذا فيه تفصيل: إذا كنت خرجت من المدينة أو من مكانٍ خارج المواقيت وفي نيتك أن تعتمر عن نفسك وعن غيرك فيلزمك بعد فراغك من عمرتك عن نفسك أن ترجع إلى الميقات؛ لأنك مررت بالميقات وعندك نيتان، فيلزمك أن تحرم للنية الثانية كما يلزمك أن تحرم للنية الأولى من الميقات الأبعد. الحالة الثانية: أن تدخل معتمراً عن نفسك، فلما وصلت إلى مكة تذكرت والدتك أو والدك وأحببت أن تعتمر عن أحدهما أو عنهما، فيجوز لك أن تخرج إلى التنعيم وتحرم من التنعيم؛ لأنك أنشأت العمرة عن الغير بمكة، ومن أنشأ عمرته بمكة كان من أهلها لحديث عائشة رضي الله عنها، وظاهر حديث ابن عباس، وحتى إن أهل مكة يهلون من مكة، والله تعالى أعلم. بالنسبة للوالدة يجوز أن يعتمر عنها سواء حجت أو لم تحج؛ لأنه لا يشترط في صحة العمرة عن الوالدة أو عن الوالد إذا كانت الوالدة متوفاة، أو كانت حية لا تستطيع أن تأتي بنفسها، فإذا كانت الوالدة أو الوالد أو من تريد أن تحج عنه وتعتمر لا يستطيع أن يأتي بالعمرة والحج بنفسه فيجوز حينئذٍ أن تعتمر عنه، سواءً تقدمت العمرة على الحج أو تأخرت العمرة عن الحج، يعني: لا يضر أن تعتمر عن الوالدة وهي لم تحج بعد، لكن لو كانت الوالدة قادرة على أن تأتي بنفسها فلا تحج عنها ولا تعتمر وإنما يحج ويعتمر عن العاجز، إلا ما وقع فيه الخلاف في المسألة في الحج عن الغير إذا كان نافلةً، والله تعالى أعلم بطلان وكالة المحجور عليه لفلس السؤال المحجور عليه لفلسٍ، هل له أن يوكل؟ الجواب المحجور عليه لفلس لا يصح أن يوكل في الأموال، وإنما ينتظر إلى زوال الحجر عنه. وقال بعض العلماء: يجوز ويصح للمفلس أن يوكل غيره للتصرف. والأشبه الأول لقوة الأصول الدالة على نزع التصرف في المال؛ لأنه لو أقام غيره مقامه فإن هذه الإقامة لا معنى لها؛ لأن هذا الغير لا يستطيع أن يتصرف، فأصبحت الوكالة لغواً، فإن صُححت ظاهراً أو شكلياً فهذا لا تأثير له في العقل؛ لأنه لا يستطيع أن يبيع ولا يستطيع أن يشتري، فيوكله بدون وكالة، فهو إذا قال له: وكلتك أن تبيع داري، فهو بنفسه لا يستطيع أن يبيع داره؛ لأنه محجور عليه للفلس، فهل هذا الوكيل سيبيع؟ بالإجماع لا يبيع، وإذا كان لا يبيع عنه فالوكالة وجودها وعدمها على حدٍ سواء، فالخلاف اللفظي لا تأثير له، والله تعالى أعلم النهي عن السفر يوم الجمعة السؤال هل النهي عن السفر في يوم الجمعة لأجل الصلاة أم هو عامٌ لليوم كله؟ الجواب هذه مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يقول: نُهي عن السفر يوم الجمعة حتى لا تضيع صلاة الجمعة، وبناءً على هذا القول: من كان مسافراً في الأصل كرجل سافر إلى مكة واعتمر، وأراد أن يرجع يجوز له أن يرجع في يوم الجمعة؛ لأن الجمعة ليست بواجبةٍ عليه أصلاً، وهكذا لو كانت امرأةً وأرادت أن تسافر فإنها تسافر؛ لأنها ليست من أهل الجمعة، فإذا قلنا: إن العلة هي صلاة الجمعة وخوف فواتها، فمن لا تلزمه الجمعة تتخلف فيه العلة، فيجوز له السفر بناءً على هذا القول، وبناءً على هذا القول يجوز له أن يسافر بعد صلاة الجمعة، فإذا صلى الجمعة جاز له السفر، وبعض أصحاب هذا القول قالوا: لو سافر يوم الجمعة وصلى الجمعة في حال سفره فإنه يجوز له ذلك ولا يشمله النهي. وأما القول الثاني فإنه يقول: النهي يشتمل على عدة علل منها: خاصية هذا اليوم وفضله، فيكون النهي أشبه بالعبادة، كأن يوم الجمعة يوم عيد للمسلمين وبناءً على ذلك فيه شعيرة فلا يخرج ولا يسافر وينتظر هذا اليوم حتى لا يُشغَل عن ذكر الله ولا يُشغل عن الطاعة، فإن المسافر تمحق بركة أيامه بالسفر: إياك والإكثار من أسفار فإنها تمحق بركة الأعمار فكثرة السفر تُذهب بركة الأيام وبركة الأعمار، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب)، وأمر صلى الله عليه وسلم من سافر أن يعجل بالأوبة إذا قضى حاجته، ولذلك قال: (فإنه يمنع أحدكم نومه وشرابه)، فعلى هذا قالوا: إنه إذا سافر يوم الجمعة شُغِل عن ذكر الله، فالمسافر يكون مرهق البدن مُتعباً، فلا يستطيع أن يذكر الله عز وجل في هذا اليوم الذي سُن فيه الذكر خاصةً كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من الفضائل التي تكون للحاضر، وعلى هذا القول فيشمل السفر في أول النهار وآخر النهار، والحقيقة ظاهر الحديث العموم، فلا يسافر يوم الجمعة سواءً كان من أهل الجمعة أو لم يكن، إعمالاً أن هذا أحوط وأبرأ للذمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فما نهيتكم عنه فانتهوا) فالنهي ظاهره العموم، والأولى والأشبه بالمسلم ألا يسافر يوم الجمعة إلا من ضرورة ملحة، وحاجة قصوى ونحو ذلك، والله تعالى أعلم جواز الجمع بين المرأة وبنات عمتها وخالها وخالتها السؤال هل يجوز الجمع بين المرأة وبنت عمتها، وكذلك بنت الخال والخالة أم أن الحكم يختص في الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها؟ الجواب هذه المسألة فيها نص وفيها اجتهاد، أما ظاهر القرآن فإن الله حرم الجمع بين المرأة وأختها، فقال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23]، وكذلك حرمت السنة الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، ولم يزد النص الوارد في الكتاب والسنة على هذه المحرمات، ثم جاء نص القرآن بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، فلما حرم لنا الجمع بين الأختين ثم جاءت السنة بزيادة المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقال الله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، أخذ من هذا جمهور العلماء جواز نكاح المرأة وبنت عمتها وبنت خالها وخالتها؛ لأن العمة والخالة ليست كبنت العمة وبنت الخالة، فالأمر أخف، وقطيعة الخالة ليست كقطيعة بنت الخالة، وقطيعة العمة ليست كقطيعة بنت العمة، ففرق بينهما من هذا الوجه، وهذا أقوى، وظاهر النص يدل عليه. وقال بعض العلماء: العلة خوف قطيعة الأرحام، فلا يجوز أن يجمع على وجهٍ يخشى منه وجود قطيعة الرحم، وهذا مذهبٌ مرجوح، والصحيح: أنه يجوز وقد قال الله عز وجل: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ) إلى أن قال: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ} [الأحزاب:50]، فهذا نص: (وبنات عمك) ولم يفرق على سبيل الجمع وعلى سبيل التفريق خاصةً وأن آية التحريم جاء فيها: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، فالأصل الحل حتى يدل الدليل على التحريم، لكن ينبغي للمسلم أن ينظر بعيداً، فإذا كان بين بنتي العم شدة حزازية، أو أن هذا سيصبح له حزازة في النفوس وأثرٌ سيء في المستقبل على أعمامه وعماته وأخواله وخالاته فليتق الله، فإن هذا في بعض الأحيان قد يغلب على الظن حصول المفسدة، وحينئذٍ لا نحرم من أصل الجمع ولكن نحرم لعارض، ألا ترى المرأة الآن حلالٌ لك أن تنكحها وهي أجنبية ولكن إذا علمت أن في نكاحها مفسدة أو أنها تفسد الرجل على أمه، أو أنها تحدث الفتن بين الأخوات أو بين النساء، وأنها امرأة نمامة أو تنقل الحديث حرمنا نكاحها لأنه سيضر بالرحم، لا لذاتها وإنما للعارض، فنحن نقول: الجمع بين بنت العمة مع بنت العم لا بأس، وبنت العمة، مع بنت العمة وبنت العم مع بنت العم لا بأس، لكن بشرط أن لا يغلب على الظن حصول الضرر في القرابة، من أمثلة ذلك: أن تعلم أن أم بنت العم هذه وأم بنت العم الثانية كلتاهما شريرة -مثلاً- فإذا دخلت بنت هذه مع بنت هذه فهذا سيحدث ضرراً بين أم هذه وأم هذه، فهذه لا يمكن أن ترتاح حتى تحدث مفسدة، وهذه أيضاً لا يمكن أن ترتاح حتى تحدث مفسدة، فالناس يقدرون الأضرار والمفاسد والشرور المترتبة على مثل هذا النكاح، فيكون التحريم لعارض لا لذات الحكم، والله تعالى أعلم مضاعفة الصلاة في الثلاثة المساجد عام في الفرض والنفل السؤال على القول بأن الفضيلة في الصلاة في المسجد الحرام مختصة بمسجد الكعبة فأيهما أفضل: صلاة النافلة في المسجد الحرام أم في البيت؟ الجواب هذه المسألة اختلف فيها العلماء لورود حديثين: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاةٌ في مسجدي هذا بألف صلاة إلا المسجد الحرام)، الحديث، فهذا الحديث يدل على أن الصلاة في المساجد الثلاثة مفضلة ومضاعفة، فجاء حديث آخر يعارضه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام في قيام رمضان حينما صلى فأحيا الليلة الأولى والثانية، ثم امتنع من الخروج عليه الصلاة والسلام لما اجتمع الناس بعد ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: (إنه لم يخفَ عليّ مكانكم بالأمس، ولكني خشيت أن تفرض عليكم، صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، فبعض العلماء يقول: الصلاة في المنزل نافلة أفضل من الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم من المساجد المفضلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، نخص المضاعفة في المساجد الثلاثة بالمكتوبة، فلا تشمل النوافل، فالنوافل الأفضل أن تكون في البيوت، هذا قول. القول الثاني يقول: إن الحديث قال: (صلاةٌ في مسجدي هذا)، وهذه نكرة، لم يقل: (صلاة فريضة)، ولم يقل: (صلاة مكتوبة)، فكل صلاةٍ شرعية يصدق عليها هذا الوصف بالعموم فتشمل النافلة والفريضة، قالوا: وإذا ثبت العموم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، قالوا: إن هذه فضيلةٌ من وجهٍ آخر، وهذا هو الصحيح، أن المضاعفة تشمل الفرائض والنوافل، وأن أفضلية البيت جاءت بلفظ؛ (فإن خير)، و (خير) بمعنى: أخير؛ لأن العرب تقول: خير وشر، بمعنى أفعل التفضيل، أخير وأشر، فتقول: محمد خيرٌ من علي، أي: محمد أخير من علي، ومنه قول أبي طالب: ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً نبياً كموسى خط في أول الكتب وأن عليه في العباد محبة ولا خير ممن خصه الله بالحب أصل التقدير: ولا أخير ممن خصه الله بالحب، فإذا أثبت أن: (خير) في لسان العرب بمعنى: أخير، فكأنها خيرية راجعةٌ إلى الإخلاص، فإن الرجل إذا صلى في بيته وجدناه يخلص أكثر، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (فإن خير)؛ لأن النافلة ليست بفريضة، فلو جلس يتركع في المسجد فإن هذا يحدث عند الناس شعوراً بصلاحه وتقواه وفضله، بخلاف ما إذا صلى الفريضة، فالكل يصلي الفريضة، فقال صلى الله عليه وسلم: (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، أي: إنها من جهة الإخلاص وهذا راجعٌ إلى الباطن: (وصلاةٌ في مسجدي بألف صلاةٍ فيما سواه)، راجعٌ إلى ظاهر العدد، وشرط التعارض بين النصين عند الأصوليين: أن يتحد المورد، فالذي يترجح أنه ليس هناك تعارض بين الحديثين، وأن حديث: (إن خير صلاة المرء في بيته) راجعٌ إلى الإخلاص والنية، ويقول بعض العلماء: هناك خيرٌ ثانٍ وهو فضل الصلاة في البيوت؛ لأن البيوت إذا كثرت فيها الصلاة نزلت عليها البركة والخير، ويشهد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، فإن الله جاعلٌ له من صلاته في بيته خيرا)؛ ولذلك كان بعض العلماء يوصي من كثرت عنده المشاكل الزوجية أن يكثر من الصلاة في بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن الله جاعلٌ له من صلاته في بيته خيراً)، وكان بعض العلماء إذا اشتكى إليه الرجل بالفتنة بينه وبين زوجه يقول له: إنك لا تصلي في بيتك كثيراً، أنت تقتصر على الفرائض في المسجد والبيت أشبه بالبيت الخرب؛ لأنه لا يتلى فيه كتاب الله، ولا يصلى فيه، فتسلط عليه الشياطين وتكون الفتن فيه أكثر. فالذي يظهر: أن المضاعفة في المسجد الحرام ومسجد الكعبة والمسجد الأقصى أنها كما هي شاملةٌ للفرض والنفل، وأما البيت فهو أفضل من جهة الإخلاص والله تعالى أعلم الحكمة من النهي عن التحلق يوم الجمعة السؤال حديث النهي عن التحلّق يوم الجمعة، هل هو خاصٌ بالمسجد أم هو عامٌ في كل مكان حتى المنزل؟ الجواب هذا فيه تفصيل: بعض العلماء يقول: نُهي عن الحِلَق يوم الجمعة؛ لأنه يوم مخصوصٌ للخطبة، فالناس إذا جاءوا يوم الجمعة ولم يشهدوا إلا موعِظةً واحدة وتذكيراً واحداً وأتى الناس الذّكْر، وأقبلت على هذا الذّكْر، إذا لم تكن له من أول النهار إلى آخره إلا موعظة واحدة وعى وتأثر وهيأ نفسه للعمل، لكن إذا كان في أول النهار جالساً في حلقة وفي موعظة، ثم في المسجد من يعظ ثم بعده من يعظ؛ فإنه في هذه الحالة تشتت أذهان الناس، والنفوس قد يصيبها الملل والسآمة ولذلك قال الصحابي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة)، فإذا كان هذا في الصحابة فمن باب أولى غيرهم. ومن هنا كره بعض العلماء أن يقوم الرجل بعد صلاة الجمعة ويلقي كلمة أو يعظ؛ لأن موعظة الإمام كافية في الأصل، وينبغي أن تترك الموعظة للإمام، لكن رخص بعض أهل العلم إذا كان الإمام ليس بذاك في العلم، وجاء رجل زائر أو ضيف وأحب أن يذكر الناس أو يعظهم فقالوا: لا بأس في هذا، لكن أن يكون بمجرد ما ينتهي الخطيب يقوم شخص موجود في الحي ويأتي بموعظة ثانية غير موعظة الخطيب، وقد يكرر ذلك المرة بعد المرة فهذا أشبه بالبدع والحدث، فيترك هذا اليوم لما شرعه الله عز وجل؛ لأن الإمام له حق، وإذا قام بعد الجمعة فكأنه يستدرك على الإمام، ولا بد أن تحفظ حرمة الأئمة، وأن يحفظ حقهم، خاصةً إذا كان الإمام من أهل العلم والفضل، فمثل هؤلاء حقهم على الناس عظيم، وعلى طلاب العلم وغيرهم، وعلى من دونهم في العلم والمرتبة، فالمقصود: أن الحِلق من هذا الوجه تكون مخصوصةً بحلق الذكر. الوجه الثاني: أنها عامة وتشمل حِلَق الذكْر وغيرها، وبناءً على هذا الوجه قالوا: كانوا في القديم يجلسون أبناء العم أو القبيلة أو الجماعة في ناحية وكانت هذه العادات موجودة في الجاهلية، كانوا إذا جلسوا يجلس كل جماعة إلى من يألفون وإلى من يجالسوه، فيكثر اللغط والحديث، فشرع في يوم الجمعة خاصة أن تقطع هذه الحِلق سواءً كانت في ذِكر أو كانت في الدنيا، وعلى هذا يكون النهي عاماً شاملاً لما قبل الصلاة وما بعدها، شاملاً للذكْر وغير الذكر على هذا الوجه الثاني، وظاهر الحديث يدل عليه، والله تعالى أعلم وصية في لزوم الصبر على طلب العلم السؤال هل من وصيةٍ حول الصبر على طلب العلم؟ وجزاكم الله خيرا. الجواب الصبر خصلة جليلة كريمة لا يعطيها الله إلا لأحبابه، فالله يحب الصابرين ولا يعطيها إلا أولياءه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] ومن كان الله معه ثبته، وأعانه ووفقه وسدده، ولا يزال له من الله معينٌ وظهير، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبّره الله)، قال صلى الله عليه وسلم: (وما أُعطي عبدٌ عطاءً أفضل من الصبر)، وما يصبر الإنسان إلا بوازع من الرحمن وشعوره أن الله معه، وأن الله يثبته، وأن الله يوفقه ويسدده؛ ولذلك من قرأ كتاب الله وتدبر سيرة أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجد الصبر سبيلهم، والصبر طريقهم، والصبر نوراً لهم، فالصبر ضياء، ضياءٌ في كل ظلمة؛ ولذلك تجد عزائم المؤمنين قوية، وشكيمتهم قوية في الشدائد والمحن بفضل الله ثم بالصبر، فتضيق عليهم الأرض بما رحبت، وتضيق عليهم بما فيها، ولكن الله يوسعها بالصبر، فتجد الرجل الواحد في وحشته كأنه أبلغ ما يكون في أنسه، وتجده في شدته وفي كربته وحزنه وكأنه في قمة سعادته وفرحه كل ذلك بتصبير الله. ومن هنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر)؛ لأن الصابر إذا صبر في تحصيل طاعة أو دفع كربة فإنه إنما يجعل الله نصب عينيه، فالله له عوضٌ عن كل فائت، والله سُلوةٌ له في كل حزن، وثبات له في كل قلق وكل أذية وبلية، فالصبر على طلب العلم صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ على مرضاة الله، والله أمرنا أن نصبر على طاعته، وخاصة نبي الأمة، وخير خلق الله، أحبهم إليه صلى الله عليه وسلم، وقال له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، أمره أن يصبر ولا يأمر الله إلا بما فيه خير الدين والدنيا والآخرة، فطالب العلم أنعم الله عليه بشيءٍ هو أعز ما يطلب، وأشرف وأكرم وأفضل ما يرغب فيه ألا وهو العلم والحكمة، والنور والرحمة، والهدى والصراط المستقيم، وهل وجدت على هذه البسيطة وعلى هذه الأرض طالباً أشرف وأكرم على الله من طالب علم؟! فلن تجد مقاماً أفضل من مقام العلم طلباً وتعلماً وتعليماً وبذلاً وإعطاءً للغير، فالعلم رحمة، وإذا وفق الله طالب العلم وشعر بالذي يطلبه، وشعر بقيمة الشيء الذي يريده وأنه يخوض في رحمة الله، وأنه يسلك طريقاً إلى جنة الله، قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، صدق وبر صلى الله عليه وسلم، وعد من الله، ما طلب طالب علمٍ مخلصٍ لوجه الله علماً مما يُبتغى به وجه الله إلا سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما وجدنا أفضل من عطاء الله للعلماء بعد الأنبياء، فهم بخير المنازل بعد الأنبياء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، فخليقٌ بمن أحس بقيمة العلم أن يصبر عليه، فقد صبر أهل المال على التجارة فتغربوا عن أوطانهم، وذاقوا شظف العيش وشدته ونكبته، ومذلة الحياة ومهانتها من أجل المال والدينار والدرهم، حتى إن الرجل إذا نظرت إليه كأنه يعبد ديناره ودرهمه -نسأل الله السلامة والعافية- فيحب من أجله، ويبغض من أجله، ويوالي فيه ويعادي فيه، ويكرم من أجله ويهين من أجله، حتى إن ابن عمه وقرابته الذي بينه وبينه لحمة النسب لربما دخل عليه وهو كبير في السن فلا يحترمه ولا يقدره لفقره، وإذا دخل عليه رجل -ولربما يكون من الكافرين- قام له وقبله وأجلسه وأكرمه؛ لأنه يعبد الدينار والدرهم، فيصل البعيد، ويقطع القريب من أجل الدنيا، والله عز وجل جعل الدين أعظم من هذا كله، فإذا كان أهل الباطل في هذه المودة والمحبة الصادقة للدنيا فو الله إن محبة أهل الدين أعظم، ومن عرف الله وأحبه صدق المحبة فليجعل العلم نصب عينيه، فمن تعب اليوم فإنه يرتاح غداً، ولذلك قال بعض السلف: (من كانت له بدايةٌ محرقة كانت له نهايةٌ مشرقة)، فأهل العلم لما تحملوا المشاق والمتاعب والمصائب، وعزفوا عن هذه الدنيا وأقبلوا على الآخرة إقبالاً صادقاً فتح الله لهم أبواب رحمته، وجعلهم يخوضون في هذه الرحمات بالعلوم النافعة والشافعة، وهي علوم الكتاب والسنة، وعلى هدي السلف الصالح وسلف الأمة، فأصبحوا يعيشون مع أقوام أموات وهم أحياءٌ بين الناس، وأصبحوا يعيشون مع: قال الله، قال رسوله عليه الصلاة والسلام، فلا إله إلا الله! لا يعلم مقدار ما لهم من الحسنات والدرجات في مضيهم إلى مجالس العلم، وحضورهم لمجالس العلم، وسماعهم للعلم، وتدوينهم للعلم، وحبهم للعلم وحرصهم على العلم إلا الله، وإذلالهم لأنفسهم من أجل هذا العلم، وكان حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه عبد الله بن عباس ينام على عتبة البيت، فيذلل نفسه للعلم حتى قال كلمته المشهورة: (ذللت طالباً وعززت مطلوباً)، ذللت طالباً وأنا أطلب العلم حينما صبرت، ولا يمكن أن ينال هذه المرتبة الشريفة إلا من صبر للعلم، وأدى لهذا العلم حقه وحقوقه، وحفظ للعلماء الأحياء والأموات حقوقهم، وأحبهم من كل قلبه لله وفي الله، وأحس بكرامتهم التي أكرمهم الله بها حينما جعلهم يحملون رسالته، ويبلغون أمانته إلى العباد؛ فإن العلماء بمنزلة هي أعظم وأفضل وأشرف وأكرم منزلة على الله عز وجل، ولذلك قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء:69]، وهذه أعلى منزلة في الجنة، فليس فوق النبي منزلة لولي ولا لغيره، فأعلى منزلة مَنزلة الأنبياء، فقال الله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} ثم بعدهم: {وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69]، والصديقون: هم العلماء العاملون الذين علموا وعلّموا وعملوا بما علموا، فنفعهم الله ونفع بهم أولئك الذين شهد الله أنهم لا يخسرون، شهد الله من فوق سبع سماوات أن خلقه في خسارة إلا قومٌ استثناهم فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3]، فهؤلاء الذين أصلحهم الله في أنفسهم وعملوا الصالحات، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]، فهذا هو الإصلاح وتبليغ رسالة الله والدلالة على الخير والفلاح، هؤلاء هم صفوة الله، قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، قال: هذا حبيب الله! هذا ولي الله! هذا صفوة الله من عباده، الذي علم وعمل ودعا إلى ما علم وعمل به. فإذا أراد الله عز وجل بطالب علم خيراً رزقه الأسباب التي تعينه على الصبر على هذا العلم، فالغاية الشريفة تحتاج من صاحبها أن يقدرها حق قدرها، وأن يتعب من أجل تحصيلها، فاصبر يصبرك الله، واسأل الله أن يعينك على هذا العلم، واعلموا -أيها الأحبة- أننا لو تأملنا حال السلف الصالح لاحتقرنا أنفسنا اليوم، فالرجل ما كان يحضر مجالس الذكر فقط، إنما كانوا يقرءون العلم قبل المجالس، فلا يمكن يشهد مجلساً حتى يقرأ ما فيه، إذا كان مما يُقرأ منه العلوم والأحاديث والأحكام يقرؤها المرة والمرتين والثلاث والأربع، وأعرف من طلاب العلم من لا يجلس مجلس علم حتى يقرأ ما يريد أن يسمعه من الشيخ ثلاث مرات، يقرأ قراءة متأنية متدبراً فيها، يحاول أن يعي هذا الكلام بشعوره بالمسئولية، وأن كل حرف سيسأل عنه وسيحاسب بين يدي الله، وأن هذا المجلس لا يتكرر. ثم يصبر مرةً ثانية على مجلس العلم فلربما جاءت أحكام غريبة، ولربما جاءت تفريعات كثيرة، فيصبر ويتحمل ففي اليوم الأول تحس أن بينك وبين العلم فجوة، وفي المجلس تحس بالفجوة، ثم اليوم الثاني يقربك ويقربك حتى يصبح أنساً لك من الوحشة ولذةً لك تنسيك كل لذة، فسلا أهل العلم عن لذة الدنيا بلذة العلم، والله إنهم في نزهة، وفي رحمة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، هذا العلم نعمة عظيمة، فإذا صبرت وأنت في مجلس العلم صبرك الله وبلغت، ثم بعد مجلس العلم كانوا يكتبون ويدونون ويراجعون، ولربما يجلس في ليلته تلك يراجع ما سمعه إلى قرابة منتصف الليل، ولربما سهر الليل كله، رحمةُ الله عليهم أولئك القوم! أبو عبيد القاسم بن سلاّم رحمه الله قام مع أحد علمائه ومشايخه على باب المسجد وأراد أن يذاكره مسألة، فقام في ليلةٍ شاتية فسأله المسألة، ففتح له فروعها فأصبح من فرعٍ إلى فرع ومن مسألةٍ إلى مسألة حتى أذن الفجر ولا يشعر الشيخ ولا تلميذه! أناس كانوا يعطون العلم كليتهم وقالوا: (أعط العلم كلك يعطك بعضه)، فكيف بمن أعطى العلم بعضه؟! ومن صبر للعلم صبره الله وثبته، فوالله لن يموت حتى يقر الله عينه بالعاقبة الحميدة لما بذل، فالله الله لطالب العلم أن يصبر! وعليه أن يعلم أنه يعامل الله جل جلاله، وأن يحمد الله. ومما ينبغي التنبيه عليه: شكر الله على النعمة، فإن المجلس الذي تجلسه لن يعود أبداً، وهذا العلم الذي تعلمه في الجزئية تشرح من كتاب قد لا تشرح بعد اليوم،، وقد يكون هذا المجلس الذي تجلسه هو آخر عهدك إما بالشيخ وإما بالناس، فلا يدري الإنسان ربما يموت هو أو ربما يشغل عن العلم، فكم من إنسان كان يتمنى العلم حيل بينه وبين العلم! فجاءه من شواغل الدنيا وفتنها ما يصرفه -نسأل الله العافية- عن العلم وطلبه، فاحمد الله عز وجل على نعمته، واسع في تحصيل هذا العلم، وابذل كل ما تستطيع من حبه والصدق في روضته ولكن لله، لا تفعل ذلك رياءً ولا سمعةً ولا طلباً للدنيا، وإنما ابتغاءً لمرضاة الله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل، ودائماً الإنسان يرجو من الله أفضل الأشياء، حتى لو كنت في مجلس العلم وأردت أن يصبرك الله على العلم فاجعل من نفسك أن تكون خير طالب في مجلس العلم وخير طالب إذا سمعت، وخير طا
__________________
|
#370
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (340) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - باب الوكالة [4] من تعاليم وضوابط شرعنا الحنيف: أن الله سبحانه سخر أناساً للقيام بخدمة الآخرين على وفق معايير وتصرفات معينة، مثل الوكيل إذا وكله موكله فإنه يتردد بين الوكالة العامة المطلقة، والوكالة الخاصة المحددة، ولذلك بين الشرع ما يجوز للوكيل فعله وما يمنع الوكيل من التصرف فيه ما يجوز للوكيل فعله وما يمنع منه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن وكل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده] شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان مسألة الإطلاق والتقييد في الوكالة حكم بيع الوكيل وشراؤه من نفسه إذا وكل الإنسان غيره أن يبيع أو يشتري فهل هذا على الإطلاق وهل يشمل الوكيل أو لا يشمله؟ فلو قلت لرجل: بع داري أو عمارتي أو أرضي أو مزرعتي أو سيارتي، فذهب وعرف أن قيمتها عشرة آلاف -مثلاً- فباعها واشتراها لنفسه، فهل يجوز للوكيل أن يشتري من موكله بالوكالة، أو لا يجوز؟ والعكس أيضاً: فلو قلت له: اشتر لي بعشرة آلاف سيارة من نوع كذا، وعنده سيارة بنفس الصفات ونفس القيمة، فباعك هذه السيارة من نفسه فهل يصح ذلك، أو لا يصح؟ وقبل بيان الحكم حتى تتضح صورة التوكيل نقول: إذا وكل الإنسان غيره فلا يخلو توكيله من حالتين: الحالة الأولى: أن يقيد في الوكالة. الحالة الثانية: أن يطلق في وكالته. فأما الحالة الأولى وهي أن يقيد في الوكالة: فيقول لك: بع سيارتي هذه بعشرة آلاف إلى فلان، فإذا حدد لك الشخص الذي تبيع السيارة عليه، أو حدد لك الشخص الذي تشتري منه السيارة، فلا يجوز للوكيل أن ينصرف إلى غيره لا في البيع ولا في الشراء، فإذا انصرف إلى غيره فقد خرج عن الوكالة، وصار التصرف تصرفاً فضولياً، حكمه حكم بيع الفضول وشرائه، وقد تقدم معنا حكم بيع الفضولي وشرائه، بناءً على ذلك: إذا كانت الوكالة مقيدةً بشخصٍ فلا يجوز صرفها إلى شخصٍ آخر سواءً في البيع أو في الشراء، فمثال البيع: أن تقول له مثلاً: بع سيارتي على فلانٍ بعشرة آلاف، أو بع أرضي على فلان بعشرة آلاف، فحينئذٍ يجب على الوكيل أن يتقيد بهذه الوكالة، وأن لا يصرف البيع إلى الغير، ولا إلى نفسه. أما بالنسبة للشراء: فكأن يقول له: اشتر لي سيارةَ فلانٍ أو اشتر لي عمارة فلانٍ، فلا يجوز أن يشتري عمارة غيره، ولا يجوز أن يشتري عمارة نفسه وجهاً واحداً. الحالة الثانية: أن يقول الوكيل: يا فلان! اشتر لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، ولم يحدد لك المعرض الذي تشتري منه، ولا الشخص الذي تأخذ منه، فحينئذٍ يرد سؤالٌ فقهي عن الوكالة مطلقة، فالوكالة المطلقة لا تتقيد إلا بأحد أمرين: إما اللفظ، وإما العرف بالنسبة للمعاملات، وقد يدخل التقييد الشرعي، فإذا قال لك: اشتر لي سيارةً بعشرة آلاف، فهل هذا الإطلاق مقيد أو هو على الأصل من أنه مطلق؟ وللعلماء وجهان: بعض العلماء يقول: إذا قال لك: بع لي عمارتي بعشرة آلاف، أو بعها بقيمة السوق، فإنه قد أطلق، حتى لو أردت أن تشتري لنفسك فلا بأس؛ لأنه قال: بع، ومقصوده أن يحصل على الثمن، بغض النظر أن تكون أنت المشتري أو يكون غيرك، هذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله. المذهب الثاني يقول: إن الإطلاق من صاحب السيارة مقيدٌ بالعرف، وكأنه حينما قال لك: بع سيارتي بعشرة آلاف، كأنه يقول لك: بعها إلى غيرك، ولم يقصد أن يبيعها لك أنت، قالوا: فإذا اشتريتها أنت لنفسك خرجت عن الوكالة. فعندنا وجهان للعلماء: الوجه الأول يقول: من قال لك: وكلتك في أمرٍ أخذاً أو إعطاء فإنه يبقى على إطلاقه، حتى لو أردت أن تبيع وتشتري من نفسك فلا بأس، ويدخل في هذا التوكيل في الإجارات، فمثلاً: لو أن شخصاً أراد أن يصور مذكرةً أو كتاباً، فقال لك: يا فلان! صور لي هذا الكتاب بمائة ريال، أو صوره بسعر السوق، وعندك آلة تصوير، فذهبت وصورت الكتاب كاملاً وقيمة التصوير في السوق مائة ريال، وجئت وقلت له: التصوير يكلف مائة، فأخذت منه المائة، فهذه إجارة أيضاً، وكذلك لو وكلك على شيء قمت به بنفسك، كما لو قال: يا فلان! رتب لي هذه المكتبة بمائة أو بخمسين، فبدل أن يقوم ويأتي بشخصٍ أجنبي قام هو بنفسه ورتبها دون علم الموكل ودون إذنه. فالمسألة لا تختص بالبيع والشراء، بل حتى في الإجارة حينما يوكلك شخص على إجارة معينة فتقوم أنت بنفسك وتستأجر المحل، ولو قال لك: هذه شقتي أجرها بعشرة آلاف في السنة، فنظرت فإذا هي طيبة وتستحق أن تسكنها، فأخذتها لنفسك أو استأجرتها لولدك أو لزوجك أو لأحد قرابتك، لكنك أنت الذي توليت العقد، ففي هذه الصور كلها يأتي الوجهان للعلماء: من أهل العلم من يقول: الوكالة المطلقة تستلزم حصول الغرض، بغض النظر عن الشخص الذي يريد أن يبيع أو يشتري معه سواءً كان الوكيل أو غيره. الوجه الثاني يقول: إن الوكالة المطلقة مقيدة بالغير، فلا يصح للوكيل أن يدخل بين الموكل وبين الأجنبي. والذين يقولون: الوكالة المطلقة مقيدة، فلو قال لك شخص: بع السيارة، فلا يجوز أن تشتريها لنفسك، استدلوا بدليلين: الدليل الأول: قالوا: إن الإطلاق في اللفظ مقيدٌ بالعرف كما ذكرنا؛ لأنه قال لك: بع سيارتي بعشرة آلاف يقولون: ولو كان المراد أن تشتريها أنت لقال لك: يا فلان! اشتر سيارتي بعشرة آلاف، فكونه يخاطبك على وجه الإطلاق، فهذا الإطلاق المراد به الأجنبي عنك ولست داخلاً فيه. الوجه الثاني: أن التهمة تحصل للوكيل، فإن الوكيل ربما حابى لنفسه، فالنفوس مجبولة على جلب الخير لها ودفع الضرر عنها، وعقود البيع والشراء فيها غبن وغرر، والغالب أن الإنسان لا يدخل الضرر على نفسه لأجل موكله، بعبارةٍ أخرى: لو كانت السيارة قيمتها عشرة آلاف فستشترها بتسعة آلاف ونصف أو تشتريها بتسعة آلاف إلا ربع، أو يشتريها بتسعة، فقالوا: لو فتحنا للوكلاء أن يبيعوا ويشتروا لأنفسهم لأضر ذلك بأموال الناس، والشريعة جاءت بدفع الضرر، وليس كل وكيلٍ يكون أميناً في مثل هذا، هذا حاصل ما استدل به من منع. ومن أجاز وقال: يجوز لك أن تبيع وتشتري لنفسك، ويجوز لك أن تؤجر لنفسك، وأن تتولى الطرف الثاني للعقد، قالوا: إنه أطلق الوكالة، والقاعدة تقول: (المطلق يبقى على إطلاقه)، وهذا الإطلاق يشمل الوكيل؛ لأنه قال له: بع سيارتي ولم يقل: من غيرك، إنما قال له: بع سيارتي، فكما أن غيره يدخل في هذا الإطلاق، كذلك هو داخلٌ فيه. الوجه الثاني: أن المقصود من الوكالة هو بيع العمارة أو بيع السيارة أو حصول المنفعة، وليس هناك في الشريعة نظر للشخص الذي سيقوم بتلك المنفعة، فعندما قال لك: بع العمارة، لو كان له غرض في الشخص الذي يشتريها لكان قال: بع العمارة إلى فلان، بع العمارة إلى الضعفاء، أجر العمارة بخمسمائة للفقراء مثلاً، فلما كان مالك السلعة لا غرض له في الطرف الثاني وليس له مقصود في الطرف الثاني، وقال لك: بع العمارة، أو صوّر الكتاب، فالمقصود أن يحصل التصوير وأن يحصل البيع وأن يحصل الشراء بغض النظر عن الطرف الثاني، وهذا الوجه الثاني هو الصحيح: أنه يجوز للوكيل أن يتولى الشراء بنفسه والبيع لنفسه ولا حرج عليه، فإذا أعطاك رجلٌ مالاً على أن تشتري عمارةً أو سيارةً أو أرضاً فلا حرج أن تكون الطرف الثاني الذي يبيع، ولا حرج عليك إذا أعطاك أرضاً لكي تبيعها أو شقةً من أجل أن تؤجرها أن تكون الطرف الثاني المشتري أو المستأجر، والدليل على ذلك: أولاً: إطلاق اللفظ، والألفاظ معتبرة في العقود. ثانياً: قولهم: إن التهمة تلحقه؛ لأنه ربما حابى نفسه، نقول: نحن نشترط أن لا يكون الوكيل قد حابى نفسه، فنحن نصحح البيع ولكن نقول: بشرط أن لا يحابي نفسه، وأما قولهم: إن التهمة موجودة، فهذا لا يستلزم البطلان؛ لأنه ربما باع الوكيل إلى أحد قرابته، فلو أن الوكيل باع لأحد أقربائه فإن التهمة موجودة، لكن كونه يبيع بثمنٍ المثل هذا لا تهمة فيه، وبناءً على ذلك نقول: إذا اشتريت العمارة بثمنها، والسيارة بحقها، والأرض بقيمتها، فبيعك صحيح، وشراؤك صحيح، وعلى هذا يكون فيك طرفان من العقد: بائع من وجه ومشتر من وجه، بائع وكيلاً، ومشترٍ أصيلاً، بائع عن غيرك ومشترٍ لنفسك، أو بائع لنفسك ومشترٍ لغيرك، إذا عُرِفت هذه المسألة فهناك مسألة ثانية: إذا قلنا: يجوز للشخص أن يكون وكيلاً في البيع والشراء، فهل يشمل ذلك الحقوق المالية؟ فمثلاً: الحقوق المتعلقة بالعبادات، لو أن رجلا أعطاك مائة ألف، أو أعطى رجلاً مائة ألف وقال: أعطها للفقراء، أو للمستحقين زكاةً، وكان الشخص الذي هو وكيل فقيراً أو مديوناً أو مجاهداً فله سهم الفقر، أو سهم الغُرم إذا كان مديوناً، أو سهم الجهاد في سبيل الله إن كان من المجاهدين، فهل يجوز له أن يأخذ من هذا المال إذا وكّل بالزكاة؟ للعلماء أيضاً وجهان: الوجه الأول: لا يجوز له أن يأخذ من هذه الزكاة بل يدفعها إلى الغير حتى ولو كانت فيه صفة الغير. الوجه الثاني: يجوز، وهو الأقوى، إلا أن الأورع والأشبه أن لا يأخذ، والأفضل أن لا يأخذ؛ لأن المشكلة في الزكاة شبهة العبادة بخلاف مسألة البيع والشراء؛ لأن مسألة البيع والشراء المقصود: حصول الثمن، لكن الزكاة فيها شيء من التعبد، فالذي دفع الزكاة دفعها لغيرك بنية الغير ولم يدفعها بنية أن تكون لك، ولذلك هذه الشبهة تجعل الأفضل والأورع للإنسان أن يتقي ذلك وإن كان أصل المسألة في الوكالة صحيحاً؛ لأن المعنى الذي أجزنا به البيع والشراء ضعيفٌ في مسألة الزكاة، لذلك من حيث الورع الأولى أن لا يأخذ. الخلاصة: يجوز للشخص إذا وكل ببيع الشيء وشرائه أن يشتري لنفسه، ولكن بشرط أن لا يحابي، فلو قال رجل لرجل: بع سيارتي في السوق فذهب إلى السوق وحرج على السيارة أو أقام عليها مزاداً ووصلت إلى عشرة آلاف، فقال: أنا أشتريها، ودفع العشرة الآلاف صح ذلك، لكن الإشكال ليس هنا، فلو أنه أقامها في المزاد، وقيمتها عشرة آلاف، والذي زاد بالعشرة شخص معين، فقال: أنا أشريها بعشرة آلاف، فحينئذٍ يرد السؤال هل من حق الوكيل أن يأخذها لنفسه بعشرة آلاف؟ نقول: لا، حتى يزيد عليه؛ لأن هذا الرجل الذي زاد بعشرة آلاف يستحق السيارة، فإذا جاء الوكيل يزاحمه فقد استغل وكالته، وأخذ لحظ نفسه، فيدخل معه في المزاد كسائر الناس دفعاً للتهمة والريبة، وهكذا لو كان المبيع عمارةً أو أرضاً أو مزرعةً وكانت بالمزاد فإن الوكيل لا يأخذ بآخر المزاد إذا كان هناك من يرغب ووقف عليه المزاد إلا إذا نافسه، فإذا نافسه صح له ذلك. يبقى السؤال: لماذا نصحح للوكيل أن يكون بائعاً من وجه ومشترٍ من وجه أليس هذا تضاداً؟ فالإنسان إما بائعٌ وإما مشتر، فكيف نقول: يبيع السيارة لنفسه ويبيع الأرض لنفسه ويشتري لنفسه؟ قالوا: هذا لا إشكال فيه؛ لأنه يجوز أن يتولى الشخص الواحد طرفي العقد كما في ابن العم يتزوج اليتيمة تحت ولايته؛ فإنه زوج من وجه وم حكم بيع الوكيل وشراؤه من ولده قال رحمه الله: [من نفسه وولده]. الإمام أحمد رحمةُ الله عليه روي عنه أكثر من رواية في هذه المسألة؛ فتارة المنع: فلا يجيز للوكيل أن يتولى طرفي العقد، وفي مسألة الزكاة منع من أن يأخذ من سهم الزكاة إذا كان الذي أعطى الزكاة عمم، وهذه الرواية التي فيها المنع اختارها المصنف رحمه الله واختارها القاضي، واختارها جمهرة من أصحاب الإمام أحمد، أنه لا يجوز للوكيل أن يكون بائعاً أو مشترياً، وكذلك لا يكون مستأجراً كما ذكرنا التفصيل في المسألة. لكن هناك رواية ثانية: أنه يجوز بشرط: أن لا يحابي نفسه، ويتولى الزيادة على السلعة غيره. وهناك رواية ثالثة ذكرها الزركشي رحمه الله، والذي اختاره المصنف وصاحب المختصر الخرقي -أنه لا يجوز، والصحيح ما ذكرناه من أنه يجوز، وإذا مشينا على ما قاله المصنف: لا يجوز للوكيل أن يشتري لنفسه ولا أن يبيع لنفسه، فهل أولاده مثله؟ فمثلاً: لو قال رجل لرجل: أجّر هذه الشقة أو هذه العمارة بعشرة آلاف في السنة، فجاء أحد أبناء الوكيل وقال: أنا آخذها بعشرة آلاف فهل له ذلك أو لا؟ عند من يمنع يقول: كذلك الولد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في فاطمة: (إنما فاطمة بضعةٌ مني) فدل على أن الولد جزءٌ من والده، فإذا منعت الوالد من شيء تمنع أيضاً ولده منه، قالوا: فلا يبيع لنفسه ولا لولده، ولا يشتري لنفسه ولا لولده، وهكذا قضية المكاتب، وكل الذي ذكره هنا مبني على أن فرع الشيء كالشيء حكم بيع الوكيل بالعرض قال رحمه الله: [ولا يبيع بعرضٍ ولا نسأ ولا بغير نقد البلد]. هذه المسألة في الوكالة مثالها: أن يقول لك شخص: بع عمارتي أو بع سيارتي أو بع مزرعتي، فوكلك في البيع، فإذا وكلك في البيع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يحدد لك القيمة والثمن المدفوع مقابل المبيع، فيقول لك مثلاً: بع عمارتي بمليون ريال، فحينئذٍ حدد لك المال، وحدد لك نوعية المدفوع وهو الثمن الذي هو من الفضة، فلا يجوز أن ينصرف الوكيل إلى الذهب، ولا يجوز أن ينصرف إلى نقدٍ ثانٍ من حيث الأصل، لكن إذا كان أفضل، فستأتي مسألة إذا كان الذهب أغلى، فبدل أن يبيعه بمليون ريال باعه مثلاً بأربعمائة ألف دولار، وهذا أكثر من المليون ريال، فهل يصح أو لا يصح؟ سيأتي إن شاء الله، لكن من حيث الأصل أنه إذا حدد لك الذهب أو الفضة أو قال لك: بع بذهب أو فضة، فإنه لا يجوز أن تنصرف إلى غيرهما وهو الذي يسمى بالعروض، فعندنا ثلاثة أشياء من المقابلات الأول: الثمن، وهذا يشمل الذهب والفضة. الثاني: العرض المنقول من غير العقارات، كالأطعمة والأكسية والأقمشة ونحوها. النوع الثالث: أن يكون من العقارات، فإذا وكل شخصٌ شخصاً أن يبيع شيئاً أو يشتري شيئاً بشيء آخر فهذا الشيء الآخر إما ثمن وإما مثمن، فإن كان حدد له الثمن وقال له: بع هذه الثلاجة -ونحن نضرب أمثلة لأشياء موجودة حتى تكون الصورة أوضح؛ لأن هذا هو الذي تعم به بلوى الناس، وهذا الذي يسأل الناس عنه، لكن لو مثلنا بأمثلة قديمة قد يخفى على الكثير- فمثلاً لو قال له: بع هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فليس من حقه أن يذهب ويبيع السيارة بسيارة أخرى؛ إذ يمكن أن يبيع السيارة بسيارة أخرى على سبيل المبادلة، والسيارة الأخرى عرض، فلا يجوز إذا حدد له الذهب والفضة أن ينصرف إلى العروض. ولو قال له: بالعروض، فما مثاله؟ مثاله ما هو موجود في محلات الاستبدال، كاستبدال السيارات، واستبدال الأجهزة الكهربائية، فلو قال للعامل في المحل: بع هذه الثلاجات الجديدة بثلاجات قديمة مضاعفة، يعني: الثلاجة الجديدة بثلاجتين من نوع كذا وحدد له، فلا يجوز أن يبيع بالنقد من حيث الأصل؛ لأنه أمره أن يبيع بالعرض، فإذاً: إذا وكله بالعرض يشمل مثلاً: الثلاجة بالثلاجة ويشمل العقارات، كأن تأتي إلى مكتب العقار، وتقول له: وكلتك أن تبيع أرضي في المدينة ببدل عنها في مكة، وتكون هذه القطعة (30×30) فيقول مثلاً: أريد قطعة (30×30) بدلاً عنها. فإذاً البدل هنا: عقار، فلا يجوز لمكتب العقار أن يبيع ويتصرف فيبيع بالنقد؛ لأنك عينت له المقابل من العقارات، فالمقابل إما أن يكون من النقد ذهباً كان أو فضة، أو من العقارات كالبيوت والعمائر والفلل والمزارع، تقول: بع مزرعتي هذه بمزرعةٍ في المدينة، بع عمارتي هذه بعمارة في جدة، فهذا عقار بعقار، وعرض بعرض كما ذكرنا، بع سيارة بسيارة من نوع كذا وكذا، فهذه ثلاثة أحوال. نرجع إلى الحالة الأولى وهي: أن يحدد له النقد من الذهب والفضة، إذا قال له: بع مثلاً بالذهب، والذهب من أمثلته الآن الأرصدة، فمثلاً: الدولارات رصيدها ذهب، الجنيهات: رصيدها ذهب، الريالات: رصيدها فضة، فإذا قال له: بع هذه السيارة بألف ريالٍ فقد عين الفضة، ولو قال له: بعها بألف جنيهٍ فقد عين الذهب، وإذا عين الذهب أو عين الفضة فإنه ينصرف إلى الذهب والفضة، لكن لو أطلق وقال له: يا محمد! بع سيارتي وسكت، فهذا إطلاق، فهل نقول: يجوز له أن يبيعها بالنقد، أو يبيعها بالعرض، أو يبيعها بالعقار أم أن هذا المطلق يتقيد بالعرف؟ الجواب يتقيد هذا المطلق بالعرف، فلو أتيت إلى مكتب العقار فقلت: بع أرضي وسكت، فنعلم جميعاً أنها تباع بالريالات، وبناءً على ذلك يتولى بيعها بالنقد الذي هو الثمن من الفضة. لكن لو كان هناك عملتان فمثلاً: عندنا ريالات ودولارات، والناس يتعاملون في بلدٍ ما بعملتين على حدٍ سواء، فإذا كانوا يتعاملون بعملتين كالريالات والدولارات فإننا ننظر إلى الأكثر رواجاً، فإذا قلت له: بع سيارتي بعشرة آلاف فهمنا أنها ريالات؛ لأنها أكثر رواجاً، لكن لو أن النقدين استويا مثل ما يقع الآن في الأسواق الحرة بين الدول، تكون هناك أسواق حرة يتعامل فيها بنقد البلدين، مثلاً: دولتان جارتان تتعاملان مع بعضهما، وتكون هناك سوق مفتوح بينهما، فما تستطيع أن تقول: إن الغالب عملة هذا البلد أو هذا البلد، فلو أن شخصاً بعث شخصاً إلى هذا السوق، وقال له: اشتر لي بعشرة آلاف سيارة، فهل ينصرف إلى الريالات أو إلى الدولارات؟ يتقيد بعرفه إن كان خاطبه بعرفه، فلو قال له ذلك في بلدٍ يتعامل بالريالات فإنه يتقيد بالريالات، وإن خاطبه في بلدٍ فيه الدولارات فإنه يتقيد بالدولارات، أما لو أنه خاطبه في نفس السوق أو في الموضع الذي يتردد فيه الثمنان فحينئذ يخير الوكيل بين الريالات والدولارات بأيهما باع. وعلى هذا: يصح بيعه وينفذ إذا كان بالريالات، ويصح بيعه وينفذ إذا كان بغيرها. فيقول رحمه الله: (ولا يبيع بعرض). بناءً على ذلك: لو أن رجلاً اشتكى رجلاً وقال: أعطيته سيارتي يبيعها في السوق، وقلت له: بع سيارتي، فذهب وباعها بعشرة آلاف ريال، وأنا قصدت أن يبيعها بسيارة مثلها، فهل تقبل دعواه؟ الجواب: لا تقبل؛ لأن الإطلاق منصرف إلى الغالب، والغالب أنها تباع بالريالات، فالذي يريد عرضاً يُقيد النادر بقيده فيقول: بع هذه السيارة بمثلها، لكن لما قال له: بعها وسكت، فالجاري في العرف أن تباع بريالات، لكن لو أن هذا السوق معروف أنه لا يتبايع إلا بالبدل، مثل ما يقع في الأسواق التي تختص بالمبادلات أو كان -مثلاً- في بيئة يعز فيها وجود الذهب والفضة، وتجدهم غالباً يتبايعون بالبدل، فحينئذٍ إذا باع بالبدل صح بيعه؛ لأن العرف يقيد هذا الإطلاق، وكما يقيده بالذهب والفضة فإنه يقيده بالعروض حكم بيع الوكيل إلى أجل قوله: (ولا نسأ). النسأ: التأخير، يقال: أنسأ إذا أخر، والنسيئة التأخير، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]؛ لأن كفار قريش كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن وقتها، والمراد بالنسيئة: بيع التقسيط وبيع الأجل، وبيع التقسيط فيه شبه إجماع عند العلماء على جوازه، يعني: شبه الإجماع على جواز بيع التقسيط، وليس من بيعتين في بيعة، فهذا شيء، وبيع التقسيط شيءٌ آخر، ولا يكون بيع التقسيط من بيعتين في بيعة إلا إذا افترق المتعاقدان دون أن يحددا إحدى الصفقتين، أما إذا حددا هل هو بالنقد أو التقسيط فحينئذٍ لا إشكال، وهذا أفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حينما سُئِل عن بيع الرجل بتسعة حاضرة وعشرة إلى أجل، فقال: (لا بأس إذا عين)، كما رواه عبد الرزاق في المصنف وغيره، كما حكى ابن سيرين عمل السلف رحمهم الله، وما جاء عن سماك، فـ سماك من أتباع التابعين، وليس مثله معارضاً لمن هو أعلم منه كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين، وعلى ذلك الأئمة الأربعة كلهم، وكذلك الظاهرية، أنه إذا حدد إحدى البيعتين فليس من بيعتين في بيعة، إنما بيعتان في بيعة إذا قال له: بيعة بالنقد وبالتقسيط، وافترقا دون أن يحددا، فأصبح عقدان في عقدٍ واحد، أما إذا حددا فلا إشكال، فنحن نقول: بيع النسيئة كبيع التقسيط وبيع الأجل، يقول المصنف: (ولا نسأ)، يعني: الشخص الذي تقيمه في المحل أو في المتجر يبيع لك البضاعة أو يبيع لك السلع إذا وكلته بالبيع فلا يجوز أن يبيع بالدين إلا إذا أذنت له، فإذا أذنت له أن يبيع بالدين جاز، أما إذا لم تأذن له فلا يجوز. ولو قلت له: بع، وسكتَّ، فهل هذا الإطلاق يبقى على ما هو عليه فيصح أن يبيع بالدين وبالنقد أو لا؟ قالوا -وهذا هو الأصح عند العلماء، ومذهب الجمهور-: إن الإطلاق ينصرف إلى الحلول، هذه قاعدة عندهم في هذه الإطلاقات، أن إطلاق النسيئة والنقد ينصرف إلى النقد، فإذا قال شخص لآخر: بع سيارتي، فهذا الإطلاق منصرفٌ إلى النقد، وبناءً على ذلك لا تخلو المسألة من صورتين: الصورة الأولى: أن تقول له: بع سيارتي هذه بعشرة آلاف نقدا، أو بع بضائع هذا المحل بالنقد ولا تبع بالدين، فلا يجوز له أن يبيع بالدين، فإذا باع بالدين وقد نهيته عنه لزمه أن يدفع الثمن حالاً، ويكون وجهه على من باعه بالدين، مثال ذلك: لو قلت له: بع هذه السيارة بعشرة آلاف نقداً فباعها نسيئة، فقال طائفة من العلماء: يصحح العقد، على القول بأن الضرر لا ينفي الصحة، ثم يلزم الوكيل بدفع العشرة آلاف، ويبقى وجهه لمن أعطاه إياه نسيئة، قالوا: لأنه تصرف خارج عن الوكالة. وقال طائفةٌ من العلماء: إذا أقمته في المحل وقلت له: بع نقداً ولا تبع نسيئةً، فباع نسيئةً بطل البيع، وهذا أقوى، أنه يبطل البيع ويفسخ، ويرد المتاع إلى صاحبه، ولا يصحح العقد على هذا الوجه، هذا بالنسبة لمسألة النسيئة والنقد، وعلى هذا فليس من حق الوكيل أن يبيع نسيئةً إلا إذا أذن له موكله حكم بيع الوكيل بغير نقد البلد قوله: (ولا بغير نقد البلد). إذا قال له: بع بعشرة آلافٍ، فإنها تنصرف إلى نقد البلد، ولذلك يقولون: (المعروف عُرفاً كالمشروط شرطاً)، فإذا قال له: بعها بعشرة آلاف، في بيئة تتعامل بالريالات، انصرف إلى الريالات وأصبح الإطلاق مقيداً بالعرف حكم الوكيل إذا باع بدون ثمن المثل أو دون ما قدره له الموكل قال رحمه الله: [وإن باع بدون ثمن المثل أو دون ما قدره له، أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل، أو مما قدره له صح وضمن النقص والزيادة]. (وإن باع بدون ثمن المثل). هذه المسائل يخرج فيها الوكيل إلى الضرر، فتارةً يدخل الضرر عليك بزيادة الثمن الذي يشتري به، وتارةً يدخل الضرر عليك بالنقص في الثمن الذي يبيع به، فالوكيل له حالتان: الحالة الأولى: أن توكله بالبيع أو بالتأجير، فتقول له: بع السيارة بعشرة آلاف أو أجر هذه العمارة بعشرة آلاف، هذا كله توكيل بالبذل، وتارة توكله بالأخذ فتقول له: اشتر لي سيارة بعشرة آلاف أو استأجر لي عمارة بعشرة آلاف، ففي كلتا الصورتين إذا التزم قولك فلا إشكال. وقد يخرج عن قولك بضرر أو بمنفعة، كأن تقول له: اشتر لي سيارة بعشرة آلاف، فيذهب ويشتريها بتسعة آلاف، هذا خروج بمنفعة، أو تقول له: اشتر لي سيارة بعشرة آلاف، فيشتريها لك بأحد عشر ألفاً هذا أخذ بضرر، تقول له: أجر لي هذه العمارة بعشرة آلاف، فيؤجرها بإحدى عشر ألفاً، فهذا أخذٌ بمنفعة، فإن أجرها بتسعة آلاف فهذا أخذٌ بضرر، فإذا خرج الوكيل عن الوكالة التي وكلته إياها بالتقييد باللفظ أو بالعرف الذي عليه ثمن المثل، كأن تقول له: أنت في المحل أو في البقالة وكلتك أن تشتري بضائع الوكالة وتبيعها للناس، فأنت إذا قلت له: وكلتك أن تجلس في المحل تبيع وتشتري فقد أطلقت له أن يتصرف في حدود المصلحة، فليس من حقه أن يشتري شيئاً بأكثر من قيمته، وليس من حقه أن يبيع شيئاً في البقالة بثمنٍ أقل من قيمته، فمثال الأول: لو أقمته في معرض سيارات، ووكلته أن يشتري هذه السيارات وقيمتها في السوق -مثلاً- بنصف مليون، فأقمته يشتريها، فذهب واشترى عدداً من السيارات بستمائة ألف، فأدخل عليك الضرر في حدود مائة ألف في الشراء، أو يبيعها وتكون السيارات تباع بمليون فيبيعها بتسعمائة ألف فيدخل عليك الضرر بمائة ألف. في هذه الحالات يرد السؤال في باب الوكالة -ومن عادة العلماء أن يبحثوا في هذه المسائل-: الوكيل إذا تجاوز الحدود المعتبرة في الوكالة فأدخل الضرر آخذاً أو معطياً، فهل الذي يتحمل الضرر هو أنت -صاحب المحل والأصيل الموكل- أم أن الذي يتحمل الضرر هو الوكيل؟ لأنك أذنت له فيما لا ضرر فيه، فتصرف بما فيه ضرر فهل يتحمل مسئولية تصرفه، هذه هي المسألة. وعلى هذا: يحتاج الأمر إلى التفصيل من حيث المنفعة والمضرة، فابتدأ المصنف رحمه الله بالضرر، وهو أن يتصرف الوكيل بالبيع والشراء ويدخل الضرر عليك في البيع والشراء، فتقول له: بع سيارة بعشرة آلاف فيبيعها بتسعة آلاف، أو تقول له: بع سيارة، وتسكت، والسيارة تباع بعشرة آلاف فباعها بتسعة، فهل يضمن أو لا يضمن؟ قال رحمه الله: (وإن باع بدون ثمن المثل). وثمن المثل: هو المعروف في السوق أنه لمثل هذه السيارة، فالأصل يقتضي أن يبيع بثمن المثل، والإطلاق بقولك: بعت، يقتضي التقيد بالعرف، وهذا كله مندرج تحت القاعدة التي سبق التنبيه عليها والتي تقول: (العادة محكمة)، وهي إحدى القواعد الخمس التي انبنى عليها الفقه الإسلامي، (العادة محكمة)، أي: أننا نحتكم إلى عرف المسلمين وعوائدهم في متاجرهم وأسواقهم، ونحتكم إلى أهل الخبرة فيما يقولونه في البيوعات، وكذلك في الشراء في ثمن المثل، فنسألهم: هذه العمارة لو بيعت كم قيمة مثلها؟ قالوا: مليون، فباعها بتسعمائة ألف، يتحمل ذلك الوكيل الضرر الذي هو المائة الألف. (أو دون ما قدره له). عندنا صورتان: إما أن تحدد له القيمة فيبيع بأقل، أو تطلق فيبيع بأقل من ثمن المثل، لكن في الحقيقة كونك تقدر له الثمن أكثر من قضية ثمن المثل؛ لأن ثمن المثل في بعض الأحيان تكون قيمة العمارة مليوناً، وهناك شيء يسمى الغبن، فتكون العمارة تستحق هذه القيمة التي هي المليون، لكن قد يتسامح بعض الناس ويبيع بتسعمائة وخمسين ألفاً، فمعناه: أن هناك شبهة في الخمسين الألف، فعندنا شيء يسمى: ثمن المثل، وعندنا شيء يسمى: الغبن بالمثل، أي: فيما يتغابن بمثله الناس، فلا ننظر فقط إلى قضية المليون، بل الأمر يرجع إلى أهل الخبرة، ونسأل أهل العقارات إن كان المبيع عقاراً، وأهل الأطعمة إن كان المبيع طعاماً، وأهل السيارات إن كان المبيع سيارةً، وهذا الذي يقول عنه العلماء: يسأل عنه أهل الخبرة، فإذا كان المبيع قيمته -مثلاً- في حدود خمسمائة ألف، وممكن لشخص أن يبيعه بأربعمائة وخمسين ألفاً، لكن ما يبيع بأقل من أربعمائة وخمسين إلا رجل لا يحسن البيع، فإذا باع بأقل من أربعمائة وخمسين ألفاً كانت عليه المؤاخذة، وإذا كان في حدود ما بين أربعمائة وخمسين إلى نصف مليون فالأمر أخف، وهذا هو الذي يفرق فيه بين ثمن المثل وبين التخفيف حكم الوكيل إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل أو مما قدره له الموكل قال رحمه الله: (أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل أو مما قدره له صح وضمن النقص والزيادة). هنا إشكال: قلت لرجل: اشتر لي قطعة أرض في المخطط الفلاني بمائتي ألف، فذهب واشترى لك أرضاً في مخطط بمائتين وخمسين ألفاً، ثم جاء وقال لك: اشتريت لك قطعة أرض بمائتين وخمسين ألفاً، فقلت له: يا أخي! وكلتك أن تشتري لي بمائتين، فالسؤال الآن: إن جئنا ننظر إلى الوكالة فهي بمائتي ألف، فالأصل يقتضي أن البيع غير لازم وغير صحيح بالنسبة للموكل، لكن بالنسبة للوكيل الذي هو مكتب العقار الذي اشترى الأرض بمائتين وخمسين ألفاً، فيه وجهان: الوجه الأول: نقول: في الواقع أن هذا المكتب كأنه اشترى لنفسه، فحينئذٍ نقول: صح البيع وتصبح الأرض في الحقيقة مشتراة لصاحب المكتب؛ لأن الوكالة لأرض بمائتي ألف، فإذا ذهب يشتري أرضاً بمائتين وخمسين، بل لو كان ريالاً واحداً زائداً عن الوكالة فقد خرج عن الوكالة، كما لو اشترى شيئاً أجنبياً. فنقول: بناءً على ذلك: يكون الوكيل هو المتحمل لهذه الأرض، ويصح البيع على ذمته هو، فتصبح الأرض ملكاً لمكتب العقار. الوجه الثاني: نصحح البيع؛ لأن الوكيل اشترى لفلان، والخمسون الألف يغرمها صاحب مكتب العقار، ويكون البيع صحيحاً ويضمن صاحب مكتب العقار الخمسين؛ لأنه أدخل الضرر على نفسه على بصيرة، فهو اشترى ونيته لفلان، فعلى هذا كأنه تنازل عن الخمسين لفلان، فإن شاء فلان أن يعطيه الخمسين أعطاه، وإن شاء أن لا يعطيه فلا يعطيه، فالعقد لما أبرم والصيغة لما وقعت بين الطرفين وقعت ملكاً لفلان، وهذا من حيث الأصل في الحقيقة قوي جداً، أن العقد تم على أن السلعة مباعة لفلان، والبائع باعها لفلان، والوكيل قبل عن فلان، فأوجب الصفقة وتمت بمائتين وخمسين ألفاً، وقد رضي على نفسه؛ لأنه علم أن فلاناً أعطاه مائتين في الأرض، فإذا ذهب يأخذها بمائتين وخمسين ألفاً فقد أدخل على نفسه الضرر، وبناءً على ذلك يضمن الزيادة ولا يضمنها الموكل، وهذا هو الذي اختاره الأئمة رحمهم الله ودرجوا عليه، والقاعدة تقول: (الإعمال أولى من الإهمال)، وتفرع عليها قولهم: (تصحيح العقود ما أمكن). فصاحب مكتب العقار عندما يذهب يشتري لك الأرض سيقول: بعني يا فلان! هذه الأرض لفلان، قال له: بكم؟ قال: بمائتين وخمسين ألفاً، قال: قبلت، تم البيع بمائتين وخمسين ألفاً لفلان، فمعناه: أن الإيجاب والقبول عقد، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فهذا الإيجاب والقبول لا يسقط، وهذا معنى قولهم: (الإعمال أولى من الإهمال)؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فيصح العقد ويتحمل صاحب المكتب غرامة الخمسين، فإن شاء صاحب الأرض أن يعطيه إياها عطاه، وإلا فليس بملزم بإدخال الضرر على نفسه، وهكذا في البيع. قال رحمه الله: [وإن باع بأزيد أو قال: بع بكذا مؤجلاً، فباع به حالاً، أو اشترى بكذا حالاً، فاشترى به مؤجلاً ولا ضرر فيهما، صح وإلا فلا]. قال رحمه الله: (وإن باع بأزيد). هنا المسألة على خلاف المسألة السابقة، الأولى غرم، والثانية غنم، والأولى خسارة، والثانية ربح، أنت وكلت -وبعض الوكلاء فيه عقل وحسن نصيحة- فقلت له: بعها بعشرة آلاف، فباعها بعشرين ألفاً، وقلت له: بع نسيئةً فباع حالاً، فهذا لا شك أن ثمن الحال أفضل من المؤجل؛ لأن المؤجل ربما أفلس المديون، ولربما ماطلك، ولربما تأخر في سداد حقك بسبب غياب أو سفر أو ظروف تلم به، فمن مصلحتك أن يكون الثمن حالاً، قلت له: يا فلان! بع هذه السيارة بعشرين ألفاً إلى نهاية السنة، فذهب وباعها بعشرين ألفاً نقداً، من مصلحتك أن تأخذها نقداً، فهنا المسألة على خلاف المسائل المتقدمة وهي مسائل الربح، وهي تحتاج إلى شيء من التفصيل يأتي الكلام عنه إن شاء الله
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 8 ( الأعضاء 0 والزوار 8) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |