شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 38 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1164 - عددالزوار : 130665 )           »          3 مراحل لانفصام الشخصية وأهم أعراضها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          متلازمة الشاشات الإلكترونية: كل ما تود معرفته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          ما هي أسباب التعرق الزائد؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          أضرار الوجبات السريعة على الأطفال: عواقب يُمكنك تجنبها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          الوقاية من القمل بالقرنفل: أهم الخطوات والنصائح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          علاج جفاف المهبل: حلول طبيّة وطبيعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          الوقاية من القمل في المدارس: دليل شامل للأهل والمعلم! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          الوقاية من التهاب الكبد: 9 خطوات بسيطة لصحة أفضل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الوقاية من الجلطات: دليلك الشامل لصحة أفضل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17-08-2024, 07:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,847
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

‌‌الأسئلة
‌‌التفصيل في خيار المجلس متى يثبت

‌‌السؤال
هل خيار المجلس يثبت في سلعةٍ تحتاج إلى تجهيز ومئونة وكلفة من قبل البائع أم ليس من حق المشتري ذلك؟

‌‌الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فخيار المجلس ثابتٌ للطرفين ما دام في مجلس البيع والشراء والعقد، فإذا كانت السلعة تحتاج إلى نقل فلا يخلو من حالتين: إذا تم الإيجاب والقبول في مجلس العقد، وافترقا من أجل أن تنقل السلع، وذهب البائع والمشتري، وفارق أحدهما الآخر فراقاً مؤثراً فقد تم البيع ووجب، وانقطع خيار المجلس.
لكن لو قال له: بع لي سيارتك بعشرة آلاف أو قال له: عندي سيارة بعشرة آلاف قال له: ما نوعها قال له: نوعها كذا وكذا، وصفاتها كذا وكذا، فلما أعطاه صفات السيارة قال: قبلت، فقاما سوياً مع بعضهما، ونظرا إلى السيارة وقلب السيارة وتأمل فيها ولم يفترقا، وبعد أن نظر فيها قال: لا أريد، مع أن الوصف لم يختلف؛ لأنه في هذه الحالة يكون فيها خياران: خيار المجلس من وجه، وخيار الصفة؛ لأن بيع الغائب فيه خيار الصفة كما بينا، لكن عند من لا يقول بخيار الصفة نقول: يبقى خيار المجلس كما هو مذهب الشافعي رحمه الله، فإذا كانا في مكانٍ واحد ولم يفترقا ولو ساعات طويلة لتقليب السلعة ونحوها فإن البيع لا يلزم إلا بالافتراق على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) والله تعالى أعلم
‌‌حكم من وكل شخصاً في طلقة واحدة فطلق عنه ثلاث تطليقات

‌‌السؤال
إذا وكل شخصٌ آخر بتطليق امرأته ولم يقيد عدد الطلاق ولكن في نيته أنها تكون طلقةً واحدة، ولكن الموكل طلق ثلاثاً، فما الحكم ديانةً وحكما؟


‌‌الجواب
في الحقيقة مسائل الطلاق توكل إلى القضاء، خاصةً إذا كانت مسائل خلافية، فمثل هذه المسائل يقع فيها إشكال بين الناس، خاصة في الأزمنة المتأخرة بسبب وقوع الفتن في الطلاق، وتتبع الناس الرخص، فيأتي فيسأل هذا فيقول له: لا يقع الطلاق، ويسأل هذا فيقول: يقع الطلاق، فيصبح الناس في حيرة من أمرهم، فأهل الزوجة استفتوا من يقول: هي حلال، وأهل الزوج استفتوا من يقول: هي حرام، فحينئذٍ يحدث شيء من التضارب في الفتاوى، والإزعاج للناس، إضافةً إلى قلة الأمانة إلا عند قليل من الناس في هذه الأزمنة بالنظر إلى السواد الأعظم من الناس، فإنك تجد الرجل إذا أراد أن يسأل غيّر في السؤال، وقدم في الألفاظ، ومسائل الطلاق ربما حرف واحد يغير فتوى بكلها فقول: أنت طالقٌ طالقٌ طالق، ليس كأنت طالق وطالق وطالق وهو حرفٌ واحد، وأيضاً لو قال: أنت طالق، ثم سكت ثم قال: طالق، ثم سكت، ثم قال: طالق، ليس كقوله: أنت طالق طالق طالق، فمسائل الطلاق مسائل مهمة، وتحتاج إلى شيء من الروية، ولذلك طلاب العلم عليهم أن يكونوا على بصيرة، وأذكر أن الوالد -رحمة الله عليه- كان يمتنع من الفتوى في الطلاق، ويرد ذلك إلى القضاء؛ لأن ذلك أبلغ في زجر الناس، فلابد أن تعرف حقيقة السؤال، وغالباً في القضاء يحضر الرجل وتحضر المرأة، ويعرف ما الذي قاله الرجل، وما الذي تلفظ به.
كذلك أيضاً إذا كانت الفتوى عن طريق المفتي أو نحوه فيمكن معرفة حقيقة الأمر على وجه تندفع به المفسدة، ويؤمن به تلاعب الناس بدين الله عز وجل، فإن الناس ربما أخذتهم الحمية والعاطفة فأصبح الرجل يغير في سؤاله وفتواه حتى ولو علم أنها محرمةٌ عليه والعياذ بالله، ولقد جاءني من ذكر لي مسألة في الطلاق يكاد يكون الإجماع فيها على تحريم المرأة، فسألني إياها بطريقة عجيبة لا تشك أنها طلقةٌ واحدة، وأنها لا تحرم عليه، ولكن تلاعب في اللفظ وتلاعب في الصيغة ولم أفته، لكن لما استقصيت حتى أعرف حقيقة الأمر إذا باللفظ الذي قاله أولاً ليس كاللفظ الذي قاله في أوسط الكلام، وليس كاللفظ الذي قاله في آخر الكلام، هذا واقع وهذا موجود، ومن تعاطى هذه المسائل يعرف ذلك، ولذلك تأدباً مع مشايخنا والعلماء الأجلاء يترك الأمر لكبار العلماء في مثل هذه المسائل، وهذا الذي درج عليه العرف أن تترك الفتوى للعلماء الكبار في مثل هذه المسائل.
ومن فائدة هذا أيضاً: تعريف الناس بقدرهم، فرجوع الناس إلى العلماء الكبار وسؤالهم في المسائل التي تتصل بها بيوتهم يشعرهم بحق العلماء ومكانتهم، فهناك عدة أمور تدعو إلى مثل هذا؛ ومثل مسألتنا هذه بعض العلماء يقول: إذا وكله فإنها تطلق، فإذا طلق طلقةً واحدة انقطعت وفسخت الوكالة؛ لأنه وكله أن يطلق، وأقل ما يصدق عليه الطلاق طلقةٌ واحدة، ومنهم من يقول: ينظر إلى الأكثر، وهذا مبني على: هل العبرة بالألفاظ والإطلاقات بأكمل ما يصدق عليه الوصف أو بأقل ما يصدق عليه الوصف؟ فإن قلنا بالأقل فالعبرة بالطلقة الواحدة، وإن قلنا بالأكثر فالعبرة بالأكثر إلا أن يقيدهُ بواحدة، والله تعالى أعلم
‌‌بيان أن العقود لا تجري على صيغ معينة

‌‌السؤال
ذكرتم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيّن أن أصول الشريعة لا تلزمنا في العقود بلفظٍ معين أو صيغة معينة إلا إذا دلّ الدليل على ذلك، نريد من فضيلتكم بياناً عن ما دل عليه الدليل بالإلزام في العقود؟


‌‌الجواب
هذه المسألة تكلم عليها شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه النفيس: القواعد النورانية، وذكر فيه القواعد الفقهية وأصول أهل الحديث، وأصول أهل الرأي، وبيّن رجحان مذهب أهل الحديث في مسائل العبادات والمعاملات في كتابه هذا الذي يسمى بالقواعد النورانية، وهو مطبوعٌ موجود، فبالنسبة لمسألة التقيد بالألفاظ في العقود فالرجل حينما يوكل غيره ويقول له: وكلتك في شراء أو بيعٍ يقول: إن الأمر يرجع إلى ما تعارف عليه الناس، ولا يحتاج الأمر إلى لفظ معين يتقيد به، وضرب لذلك أمثلة، فمثلاً: قال رحمه الله: إن السلف يكاد يكون كالإجماع بينهم أنهم ينزلون الأفعال منزلة الألفاظ الصريحة، فقد كان الرجل يبني المسجد ويفتح أبوابه للناس ولا يصيح ويقول: أيها الناس! قد أذنت لكم أن تصلوا فيه، فإن فتحه للباب وإشراعه للناس دال على أنه قد أوقف المسجد لله، فليس هناك لفظٌ معين، كذلك من سبّل السبيل من الماء، وأخرج الماء من بيته وأخرج الكيزان للشاربين فإنه لا يحتاج كل من أراد أن يشرب أن يقول: أين صاحب الماء حتى يأذن لي؟! فهذا الإذن المطلق جاء بالفعل، ونزّل الفعل منزلة القول، فليست هناك ألفاظ تعبدية يتقيدبها إلا فيما دل الشرع على التقيّد فيه باللفظ، وهذا معنى بالنسبة للنظر إلى الأفعال الدالة على الأقوال، وحتى الألفاظ نفسها، فالرجل في بعض الأحيان يقول للرجل كلمةً جرى العرف فيها على الإطلاق، مثلاً: تقول للعامل عندك في المحل: يا فلان! إني أريد سيارة من نوع كذا وكذا (أريد)، ما قلت له: اذهب واشتر، ولا قلت له: تولَّ وأنت وكيلي، فهذا العامل الذي يكون في العمل أو في محلك قال لك: اترك الأمر لي، فسكت؛ لأنه لما قال: اترك الأمر لي عُلِم أنه يريد منك تفويضاً وتوكيلاً للقيام بالأمر، فلا يحتاج إلى صيغة: وكلتك أن تقوم بكذا وكذا؛ لأن كلمة اترك الأمر لي، لا يهمك، درج العرف وجرى على أنها دالةٌ على التفويض، فإذاً نقول: إن الألفاظ والصيغ لا يلزم فيها الناس بصيغٍ معينة متى ما قام العرف بالدلالة على المقصود والمراد، والله تعالى أعلم
‌‌ضابط الحنث في اليمين

‌‌السؤال
إذا حلف الإنسان على أمرٍ من الأمور أن لا يفعله، ففعله تبعاً وموافقةً لا قصداً ولا حيلة فهل يكون قد حنث في يمينه؟


‌‌الجواب
ليس عليه إلا الكفارة، وهو يقول: والله لا أفعل، ففعله تبعاً للناس أو فعله مجاراةً للناس، أو فعله بإكراه أو إرضاء لأهله، عاطفةً لزوجه، فليس عليه إلا الكفارة؛ لأنه حنث في يمينه؛ والحنث غالباً ما يكون إلا بشيء لا يختاره الإنسان، فلا إشكال في لزوم الكفارة عليه، إلا إذا أكره، فالإكراه فيه وجهان مبنيان على: هل الأيمان تجري مجرى الأحكام الوضعية التي لا يلتفت فيها إلى القصد والنية أم تجري مجرى الأحكام التكليفية فتؤثر فيها النية؟ والله تعالى أعلم
‌‌حكم بيع ما لا يملك

‌‌السؤال
إذا طلب المشتري سلعةً فقال له البائع: انتهت الآن، ولكن تعال غداً ونحضرها لك، فهل يعتبر ذلك بيع نسيئةٍ من الطرفين؟


‌‌الجواب
إذا قال المشتري: أريد سلعةً، وليست عند البائع، فلا يخلو البائع من حالتين: الحالة الأولى: أن يتفق معه على ثمن السلعة وقيمتها، ويحدد له أجلاً لأخذها، فهذا لا يجوز إلا إذا كان البائع له فرعٌ آخر فيه السلعة، فحينئذٍ يصح البيع وإلا فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى له حكيم بن حزام رضي الله عنه وقال له: إن الرجل يأتيني ويسألني السلعة وليست عندي، فأبتاع معه ثم أذهب فأشتريها وأبيعها عليه وأعطيه إياها، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عندك) فنهاه عليه الصلاة والسلام عن بيع ما لا يملك.
وبناءً عليه: إذا اتفق الطرفان وكان يريد -مثلاً- قطعة غيار ليست موجودة وانتهت، وقلت له: أريد القطعة الفلانية، فقال هذه القطعة قيمتها مائتين، ادفع مائتين وغداً أحضرها لك، فلا يجوز؛ لأنه باعك ما لا يملك، لكن لو اتصل على محلٍ ثانٍ هو يملكه أو مثلاً له بضائع في المستودع وقال: موجودة عندكم القطعة الفلانية؟ قالوا: نعم، فباعها منك، صح البيع لأنه باع ما يملك.
الصورة الثانية: أن يقول لك: هذه السلعة أحضرها لك غداً، ولا يبين لك ثمنها فحينئذٍ هذا وعدٌ بالبيع ويجوز ذلك، ولست بملزمٍ بهذا البيع؛ لأن البيع ما تم، فيقول لك مثلاً: غداً تأتينا وتكون عندنا السلعة موجودة، أو هناك نوع من السيارات يحضر بعد شهر، وإذا حضرت يكون خيراً، أو إن شاء الله نتفق، أو نحو ذلك فلا بأس، لكن هناك حل: وهو إذا كان التاجر السلعة ليست موجودةً عنده فإنه يقول للمشتري: أنا أحضر لك هذه السلعة وقيمتها وكلفتها عليك، ولكن آخذ منك عمولة عشرة ريالات على القطعة أو آخذ منك عمولة مائة ريال أو ألف ريال إلخ يصح.
مثاله: لو جاء يطلبك سيارةً ليست عندك فتقول له: هذه السيارة جديدة قيمتها -مثلاً- ثمانون ألفاً، وأنا أحضرها لك من جدة بعشرة آلاف، صار بيعاً وإجارة، فهو وكل لك أن تشتري بثمانين ألفاً، وأنت أجيرٌ تحمل هذه السيارة وتتفق مع من يحملها له من جدة إلى المدينة بعشرة آلاف، فيصح ذلك ولا بأس، وتترتب عليه مسائل يطول الكلام فيها، أي: في هذه الصورة الثانية، وهي مسألة التوكيل بالإجارة قد نتعرض لها إن شاء الله في باب الإجارات، والله تعالى أعلم

‌‌معنى الآيات: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ... ) في سورة الإسراء


‌‌السؤال
لم أفهم معنى قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73 - 75]، فما تفسير ذلك وهل له قصةٌ معينة؟


‌‌الجواب
صيغة الشرط لا تقتضي الوقوع والحدوث من كل وجه كقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس:94]، فهذا لا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً كان في شك، وإنما هو أسلوبٌ من أساليب العرب؛ ولذلك قرر العلماء أن صيغة الشرط لا تقتضي تحقق الوقوع كقولك للرجل: إن كنت لا تعرفني فاسأل فلاناً، فإن هذا لا يستلزم أنه لا يعرفك، فقد يكون عارفاً بك، كما قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين في حادثة الإفك: (إن كنت أذنبت ذنباً فاستغفري الله ثم توبي إليه) يعني: إن كان وقع منك الزنا -حاشا- فاستغفري الله ثم توبي إليه، فليس معنى ذلك أنها فعلاً قد وقعت في الحرام، بل هذا معروفٌ في لغة العرب، ثم إن كاد، من أفعال المقاربة والشروع فقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:73] لا يستلزم أنهم فتنوه فعلاً، ولذلك تقول: ما كدت أفعل كذا حتى كان أن يقع كذا، وقال تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]، فالتعبير بهذه الصيغة: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:73]، يكون من حكاية الحال في شدة ما عاناه عليه الصلاة والسلام من أذية الكفار له، وهو أسوةٌ لكل داعيةٍ إلى الله، ولكل متبعٍ له عليه الصلاة والسلام أنه سيبتلى ويفتن (ليفتنونك): الفتنة تطلق على عدة معانٍ في القرآن: تطلق الفتنة بمعنى العذاب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10]، على أحد الأوجه في تفسير آية البروج، أي: الذين عذبوا أصحاب الأخدود.
وتطلق الفتنة بمعنى: الشرك كقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191].
وتطلق الفتنة بمعنى: الكذب، ويقال: (فلانٌ فتان) أي: كذاب.
وتطلق الفتنة بمعنى: الصّد، أو فعل ما يكون سبباً في الصد عن دين الله عز وجل، وهذا المعنى يقول بعض العلماء: إنه هو العام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (أفتانٌ أنت يا معاذ؟! أفتانٌ أنت يا معاذ؟!) أي: هل تفعل هذا الفعل حتى يكون فتنة وسبباً في صدّ الناس عن الخير؟! لأن الرجل اشتكى أنه لم يصل من كثرة تطويل معاذ رضي الله عنه وأرضاه.
وقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:73]، كان كفار قريشٍ لا يألون جهداً في أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتضييق عليه، وكان عليه الصلاة والسلام مع كمال رحمته وشفقته وحبه لهدايتهم أنهم إذا سألوه الأمر أن يفعله، ربما أحب وقوع ذلك الأمر من أجل أن تحصل الهداية لهم؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام قد جبل الله قلبه على الرحمة كما شهد بذلك من فوق سبع سماوات، فالله سبحانه وتعالى جبله على حب أمته وعلى حب الخير لها في الدنيا والآخرة كما في الحديث: (فيسجد تحت العرش ويقال: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول: يا رب! أمتي أمتي) وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (لما أرسل الله إليه جبريل وقد بكى من آيتي إبراهيم والمائدة، قال: يا جبريل! اذهب واسأل محمداً -وربك أعلم- ما الذي يبكيه؟ فلما جاء جبريل وقال: يا محمد! إن الله يقرأ عليك السلام ويسألك -وهو أعلم- ما الذي يبكيك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أمتي أمتي فأوحى الله إليه -كما في الصحيح- يا جبريل! قل لمحمد: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك أبداً)، صلى الله عليه وسلم تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، وجزاه خير ما جزى نبياً عن أمته وصاحب رسالة عن رسالته، فهذه الآية تحكي ما كان عليه عليه الصلاة والسلام من حب هداية قومه، وليس المراد به أن يصدوه، وإنما كانوا يطلبون منه التنازل عن بعض الأشياء حتى يكون قاسماً مشتركاً بينه وبين المشركين؛ لكنه عليه الصلاة والسلام ما كان لينطق عن الهوى، وما كان عليه الصلاة والسلام ليميل شيء من قلبه إلى كفار قريش، وإن كان هناك بعض المفسرين قد مال إلى بعض الأقوال، لكن الذي يظهر -والعلم عند الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من كمال شفقته وحبه للخير حريصاً على هدايتهم، ولذلك يقول الله تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام:35 - 36] فالمقصود: أنه كان عليه الصلاة والسلام يحب هدايتهم ويحب الخير لهم، وهذه الشفقة الجبرية الفطرية التي جبل عليها عليه الصلاة والسلام مع ما أعطاه عز وجل من زيادة الرحمة وحب الخير لأمته مما يدعوه لمحبة أن تأتي الآيات من أجل أن يصدقوه؛ ولذلك جاءت آيات الأنعام في أكثر من موطن تبين للنبي عليه الصلاة والسلام أن الأمر عندهم أمر جدال وعناد وليس بأمر تحرٍ وتقص للحق، ولذلك بين الله تعالى أنه لو حشر لهم كل شيء، ولو أنه بعث لهم الموتى وأخرجهم من قبورهم وحشروا أمام وجوههم: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} [الأنعام:111] وفي قراءة: (قِبلا)، أي: قبل وجوههم يرونهم أمامهم {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111] فكانوا -والعياذ بالله- مصرين على كفرهم وعنادهم، فتبين له عليه الصلاة والسلام جلية أمرهم -والقرآن دائماً يكشف لنبيه عليه الصلاة والسلام أخبار الناس، ويكشف له حقائق الدعوة، وكان الله عز وجل مع نبيه في كل أمرٍ من أموره، والله عز وجل لا تخفى عليه خافية، وهو أعلم بعباده وبخلقه، وأعلم بطبيعة الإنسان وبسجيته من الكفر والإعراض عن الله عز وجل، والتكذيب بحججه وآياته، وهو أعلم بطبيعة البشر- وقد كان يحاول هدايتهم لما جبله الله عليه من محبة الخير لهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إني لأرجو أن أكون يوم القيامة أكثرهم تابعاً) فكان يحب كثرة الأتباع وكثرة المؤمنين، ويأتي جبريل ويقول له: (هذا ملك الجبال يقرأ عليك السلام، ولو شئت أن تأمره فمره فقال: لو شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين لأطبقت عليهم، فقال: لا.
ولكن أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) صلى الله عليه وسلم وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، والله تعالى أعلم
‌‌حكم زواج الأب وابنه من أختين

‌‌السؤال
هل يجوز للأب أن يتزوج أخت زوجة ابنه؟


‌‌الجواب
يجوز للأب أن يتزوج أخت زوجة ابنه، وأخت زوجة الابن حرامٌ على الابن حرمة مؤقتة، وليست بحرمةٍ دائمة؛ لأن تحريم نكاح أخت الزوجة مبني على مانع الجمع، ومانع الجمع مؤقت وليس بمؤبد، وهذه المسألة من المسائل التي يجوز للأب فيها نكاح ما لا يجوز للابن أن ينكحه، وقد يجوز للابن أن ينكح ما لا يجوز للأب أن ينكحه كالربيبة، فيجوز للابن أن يتزوجها ولا يجوز للأب أن يتزوجها، والله تعالى أعلم
‌‌التفصيل في القيء متى يبطل الوضوء

‌‌السؤال
هل القيء يبطل الوضوء وماذا لو كان يسيراً وابتلعه؟


القيء له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون الطعام لم يتغير ويكون من أعلى المعدة، وهو القيء الذي يكون قريباً من الأكل، فهذا لا يبطل الوضوء؛ لأنه ليس بنجس، والنجس ما وصل إلى المعدة، فإذا وصل إلى المعدة، وهضم كان نجسا كالبراز، ولذلك فرق الأئمة رحمهم الله بين القيء الناشئ من المعدة، وبين القيء الذي يكون من الأمعاء قبل المعدة، فما كان متغيراً أفسد الوضوء؛ لأنه يستوي أن يخرج من الأعلى أو من الأسفل، كما لو فتحت له فتحة في بطنه فخرج منها الطعام، فكما أن خروج الطعام من الأسفل بعد هضمه يوجب انتقاض الوضوء كذلك خروجه من الأعلى يوجب الانتقاض في قول جماهير الأئمة، وفيه حديث ثوبان رضي الله عنه في قيئه عليه الصلاة والسلام ووضوئه بعد القيء، وفيه كلام.
وأما إذا كان القيء لم يتغير كأن يكون قريب العهد بالطعام فهذا لا يضر كالقلس، فإنه طاهرٌ ولا يوجب انتقاض الوضوء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17-08-2024, 07:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,847
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (341)

صـــــ(1) إلى صــ(21)



شرح زاد المستقنع -‌‌ باب الوكالة [5]
قد يطرأ على الوكيل شيء من الغفلة أو التساهل فيشتري لموكله شيئاً معيباً سواء كان يعلمه أو يجهله، وربما يتساهل في دفع الثمن فيتلف، فهذا له حقوق وعليه حقوق في شرعنا الحنيف حسبما فصله أهل العلم، وأحياناً قد يطغى حب الموكل لوكيله فيفوضه في شراء كل قليل وكثير، أو شراء ما شاء وبأي ثمن شاء، فهذا منعه الشارع تجنباً للضرر الحاصل من وراء ذلك، وحفظاً على علاقة المحبة والمودة

‌‌التفصيل في مسألة إذا اشترى الوكيل سلعة معيبة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد تقدم أن الوكيل ينبغي عليه أن يتقيد في تصرفاته بما أذن له وكيله، ولا يجوز له أن يفعل شيئاً لم يأمره به وكيله، ولم يجر العرف به إذا أطلق له الوكيل، وبينا أن هذا هو الأصل الذي تقتضيه النصيحة للمسلم، وأنه إذا وُكّل الإنسان في الشيء فعليه أن ينظر إلى العرف وما يقتضيه من المصالح فيسعى في تحصيلها، وما يقتضيه من درء المفاسد فيسعى باجتنابها وتركها.
السؤال هنا: إذا وكل شخصاً أن يشتري له أو يبيع عنه، فإنك إذا أمرت شخصاً أن يشتري لك أو يبيع عنك فإنك تقصد أن يبيع بيعاً صحيحاً، وأن يشتري بالوجه الصحيح المعتبر شرعاً، وكذلك أيضاً حينما وكلته بالشراء فإنك إنما عنيت أن يشتري شيئاً سليماً خالياً من العيوب، فلو أن رجلاً قال لرجل: اشتر لي أرضاً بالمدينة، وأعطاه أوصافها من طولها وعرضها إلخ، فالواجب على المشتري والوكيل أن يتحرى في هذه الأرض، وأن يتقي العيب المؤثر، كذلك لو قال له: اشتر لي عمارةً، فإن الأصل يقتضي أن يشتري عمارةً سالمةً من العيوب، وأن لا يتساهل في عقده بحيث يقبل كل مبيع دون أن يتحرى سلامته من العيوب.
وبناءً على ذلك: لو قلت للوكيل اشتر لي أرضاً أو سيارةً أو مزرعةً إلى آخر ما يشترى، فإنه لا يخلو من أحوال
‌‌الحكم إذا اشترى الوكيل شيئاً سالماً من العيوب
الحالة الأولى: أن يشتري شيئاً سالماً من العيوب متفقاً مع الشروط التي اشترطتها، فالبيع لازم والشراء لازم، وحينئذٍ يلزمك أن تتم الصفقة، ولا وجه لأن تمتنع منها، مثال ذلك: لو قلت له: اشتر لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، فذهب واشترى السيارة بهذه الصفات سالمةً من العيوب، فإنك تلزم بها
‌‌الحكم إذا اشترى الوكيل شيئاً معيباً لا يعلم بعيبه
الحالة الثانية: أن يشتري السيارة التي أمرته بها ويكون فيها عيب، فالعيب إما أن يكون مؤثراً، وإما أن يكون غير مؤثر، وبينا فيما تقدم من مسائل البيوع العيب المؤثر والعيب غير المؤثر، لكن محل الكلام هنا أن يشتري شيئاً معيباً عيباً مؤثراً، يعني: عيباً يوجب الرد، فلو قلت له: اشتر لي سيارةً، فاشترى سيارةً فيها عيبٌ في محركها مثلاً، وهذا العيب مؤثر، فحينئذٍ إذا اشترى على هذا الوجه فله صورتان: الصورة الأولى: أن يشتري هذه السيارة المعيبة وهو لا يعلم بالعيب الموجود فيها.
الصورة الثانية: أن يشتري هذه السيارة المعيبة وهو يعلم بوجود العيب فيها.
إذاً: في الحالة الثانية إذا وكلته أن يشتري شيئاً واشتراه وبه عيب فلا يخلو هذا الوكيل من صورتين: إما أن يشتري هذا الشيء المعيب وليس عنده علمٌ بالعيب، حيث خدعه البائع وباعه سلعةً معيبة، وإما أن يكون العكس، فيعلم بوجود العيب، ويشتري لك السلعة وبها العيب، ثم يأتي ويقول: هذه السيارة التي طلبت مني شراءها، ثم يتبين أن بها عيباً، ما الحكم في الصورة الأولى والصورة الثانية؟ إذا اشترى لك سيارة لا يعلم بعيبها فإن الأصل الشرعي يقتضي أن المشتري إذا اشترى شيئاً معيباً فله حق الرد، وقد ذكرنا دليل ذلك من الكتاب والسنة والإجماع لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188]، وبيع المعيب من أكل المال بالباطل، فإنه إذا دفع عشرة آلاف في شيء يستحق ثمانية آلاف فقد أُكلت الألفان بدون وجه حق وبالباطل، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تصرّوا الإبل ولا الغنم، فمن اشتراها فهو بخير النظرين: إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)، وذكرنا الإجماع على هذين النصين من حيث المعنى والجملة، لكن إذا ثبت أن العيب يوجب الرد فاشترى لك أرضاً وتبين أن هذه الأرض بها عيب تستحق به الرد قضاءً، ولم يعلم وكيلك بهذا العيب فحينئذٍ تطالب الوكيل أن يرد هذه الأرض، ويجري في المسألة ما سبق بيانه في باب البيوع في المبيعات.
الصورة الثانية: وهي التي تهمنا هنا: أن يشتري لك سلعةً وهو يعلم بعيبها، فالوكيل خان الأمانة وتجاوز الحدود التي ينبغي أن يتقيد بها، فلو أنه علم أن السيارة بها عيب، أو أن الكتاب معيب، أو أن المسجل معيب، أو أن أي شيء طلبت منه أن يشتري به عيب، واشترى مع علمه بالعيب، وقد قال له البائع: يا فلان! إن هذه السيارة بها عيب كذا وكذا، قال: قبلت، فالسؤال الآن إذا قبل وكيلك بالشراء واشترى المعيب، أولاً: هل البيع صحيح؟ ثانياً: إذا صححنا البيع هل يكون البيع لازماً لك أم لازماً للوكيل؟ فمن حيث الأصل أن الوكيل حينما اشترى السيارة بعشرة آلاف وهو يعلم أن بها هذا العيب، فقد وقع الإيجاب والقبول مع بائع ومشترٍ والثمن والمثمن، كلٌ منهما مباح من حيث الأصل الشرعي، فأركان البيع وشروط صحته متوفرة، فالبيع صحيح، فالبائع الذي باع السيارة باعها لشخص يعلم بعيبها، وباعها لشخص مستوفٍ لشروط صحة البيع، فالبيع من حيث الأصل صحيح، والقاعدة الشرعية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، لكنه صحيح للوكيل وليس لمن وكله؛ لأن الوكيل حينما اشترى هذا الشيء اشتراه معيباً، وإن قال في نفسه: هذا لموكله، فموكله لم يوكله بشراء هذا الشيء، فيكون اشتراه لنفسه؛ لأنه رضي بالبيع وقبل البيع فيصبح على ملكه ومسئوليته.
وبناءً على ذلك تأتي عندنا القاعدة: أن من اشترى المعيبات وقد وكّل بالشراء دون أن يأذن له موكله بشراء المعيب فإنه يصح البيع على ذمته لا على ذمة من وكله، لكن يصح البيع على ذمته دون ذمة الموكل إذا لم يرض الموكل.
تبقى مسألة ثانية وهي: أنه في نيته وعقيدته اشترى لموكله، وقد يصرح بذلك في عقده، فحينئذٍ من حيث الأصل لما وكله موكله أن يشتري أرضاً بمائة ألف أو بنصف مليون أذن له أن يشتري فاشتراها معيبة، فمعنى ذلك أن العقد تام، نقول للموكل: انظر في هذه الأرض وانظر في هذه السيارة وهذا الكتاب، فإن أعجبك ورضيته مع وجود العيب كان البيع صحيحاً على ذمتك؛ لأنه يكون من باب بيع الفضول، وقد ذكرنا أن أصح أقوال العلماء رحمهم الله في بيع الفضول: أنه يصح إذا أذن المالك الحقيقي، وذكرنا دليل ذلك من حديث عروة بن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه وأرضاه.
الخلاصة: إذا وكل الموكل وكيله أن يشتري السلعة واشتراها دون أن يوجد بها عيب فالبيع صحيح والوكالة تامة ولا إشكال.
وإذا وكله فاشترى شيئاً معيباً فإما أن يكون الوكيل عالماً بالعيب أو غير عالم، فإن كان غير عالم بالعيب استحق أن يرد السلعة واستحق أن يأخذ أرش العيب وحينئذٍ لا إشكال، وإن كان عالماً بالعيب فحينئذٍ نقول للموكل: هل ترضى هذا الشيء؟ فإن قال: لا أرضى، نصحح البيع على ذمة الوكيل ونوجب رد المال إلى الموكل أو شراء أرض أخرى أو سيارةٍ أخرى، وتصحيح الوكالة يكون على الوجه المعتبر شرعاً
‌‌الحكم إذا اشترى الوكيل شيئاً معيباً يعلم بعيبه
قال رحمه الله: [وإن اشترى ما يعلم عيبه لزمه إن لم يرض موكله فإن جهل ردّه].
إذاً: عندنا الصورة الأخيرة هي التي ذكرها المصنف: (من اشترى ما يعلم عيبه)، لكن ينبغي أن نعلم أن الحكم لا يختص بالشراء، ولا يختص بالبيع؛ فإنه يشمل الإجارات ويشمل بقية المعاملات التي ذكرنا فيها الوكالة، فمن وكّل وكيلاً لكي يقوم بمهمة أو عقدٍ فينبغي على الوكيل أن يلتزم بالعرف، وهذا مراد المصنف من هذا المثال أن يقول لك: إن العقود إذا أطلقت فإنها تنصرف إلى الصحيح، ولا تنصرف إلى الفاسد، وتنصرف إلى السليم ولا تنصرف إلى المعيب، مثال ذلك: لو قلت لوكيلٍ: استأجر لي شقةً بمكة، وتكون هذه الشقة بجوار الحرم أو على شارع كذا، وحددت له الوكالة، استأجر لي شقة بمكة، استأجرها لي مدة العشر الأواخر، استأجرها لي شهراً، استأجرها لي سنةً، فذهب واستأجر لك شقةً، ولكن في سقفها عيب يخر منه الماء، أو أن الماء الموجود فيها ملوث، فهذه عيوب كلها تؤثر في الإجارة، وتعيق المنفعة التي من أجلها استأجرت، أو استأجر لك في موضعٍ لا يمكن أن ترتاح فيه، كجوار شيء مزعجٍ أو نحو ذلك مما لا تستطيع أن تنام فيه، وأنت أخذت هذه الشقة للراحة أو نحو ذلك، المهم وجد العيب، فنقول: إذا استأجرها عالماً بالعيب لزمه أن يدفع المال لك ويبقى وجهه لمن أجره، ولا تلزم بالوكالة بدفع الأجرة، وإن استأجر وهو لا يعلم بالعيب فإنك ترد هذه الإجارة وتفسخها وتأخذ حقك كاملاً.
إذاً: الأمر لا يتوقف على البيع ولا على الشراء، بل يشمل العقود التي تتعلق بالمعاملات مما هو محلٌ للوكالة.
(فإن جهل ردّه).
أي: الوكيل، فإن جهل رد المبيع، وذلك للقاعدة والأصل الذي ذكرنا: أن العيب يوجب الرد.
تذكرون في آخر الفصل الماضي أنه ذكر المصنف مسائل قال فيها: (ومن وكله أن يبيع حالاً فباع مؤجلاً، أو وكله أن يبيع مؤجلاً فباع حالاً، أو يبيع بنقد البلد، فباع بغيره)، ذكرنا هذه المسائل، وهذه المسائل كلها تدور حول مخالفة الوكيل للوكالة، ومخالفة الوكيل للوكالة: إما أن يخالف لفظ موكله، وإما أن يخالف عرفاً جرى بالوكالة، ومن هنا تأخذ هذا المثال في قوله رحمه الله: (ومن اشترى معيباً) وتخرج منه قاعدة وهي: (أن إطلاقات الوكالة في العقود مصروفةٌ إلى الصحيح، وأن إطلاق الوكالة في المحل مصروف إلى السليم).
(إطلاقات الوكالة في العقود) يعني: إذا وكلته ليشتري فينبغي أن يشتري شراءً صحيحاً خالياً من موجبات الفساد، فإطلاقات الوكالة في المحل والثمن والمثمن والصيغة في العقد ينبغي أن يكون سليماً.
فممكن أن يأتي شخص ويقول: قال لي شخصٍ خذ هذه العشرة واشتر لي نسخةً من صحيح البخاري، فذهب واشترى نسخةً معيبة وجاء بها لصاحبه، فقال له الوكيل: لا أريد هذه النسخة، فإن الوكيل سيقول له: أنت وكلتني أن أشتري وقد اشتريت لك -لاحظ: أنت وكلتني أن أشتري وقد اشتريت- ما قلت سليمة أو غير سليمة، فتقول: هذا الإطلاق وإن كان باللفظ، لكنه مقيدٌ بالعرف أي: أن يكون سليما؛ لأن العرف أن هذا لا يكون إلا بشراء السليم السالم من العيوب، والصحيح الذي لا عيب فيه، وعلى هذا تعتبر هذه المسألة مفرعة على القاعدة التي سبق التنبيه عليها والتي تقول: (المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً)، وبعض الفقهاء يقول: (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً)، وبناءً على ذلك: (المعروف عرفاً) حينما أقول له: اشتر لي نسخةً من صحيح البخاري، فإن هذا الإطلاق يقتضي أن يكون سليماً، والعرف ينصرف إلى بيع السليم لا بيع الفاسد، وعلى هذا: فإنه لا وجه له أن يستدل بمطلق الوكالة على شراء المعيبات ونحوها

‌‌الإذن للوكيل بالبيع لا يلزم منه الإذن بقبض الثمن

قال رحمه الله: [ووكيل البيع يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة].
هنا مسألة من مسائل التصرفات: إذا وكلت شخصاً أن يبيع أو وكلت شخصاً أن يشتري، فعندنا في البيع سبق التنبيه على أن هناك مراحل: المرحلة الأولى: صفقة البيع، وهي التي تثمر الإيجاب والقبول، وما يسميه العلماء بالعقد، وإتمام الصفقة بصيغتها.
المرحلة الثانية: تسليم المبيع ثمناً ومثمناً، فمثلاً: اشتريت أرضاً بنصف مليون فعندنا أول شيء أن يقول لك: بعتك هذه الأرض بنصف مليون، تقول: قبلت شراءها، فإذا وقع الإيجاب والقبول وقع الأصل الأول وهو: عقد البيع بعد الإيجاب والقبول، ثم هناك مرحلة التسليم والاستلام، فلأجل أن تتم صفقة البيع وهي الإيجاب والقبول يفرغ لك الأرض، وتعطيه الثمن بعد ذلك، فالصفقة -وهي الإيجاب والقبول والرضا بالعقد وإتمام العقد- مرحلة وقد تقع بغير مجلس القضاء، وقد تقع قبل الإفراغ، ثم بعد ذلك تنتقل إلى مرحلة التسليم والاستلام.
فعندنا في البيع تسليم، وعندنا استلام فتسلمه الأرض بمعنى: أن تفرغها له، وتمكنه منها، وتوقفه عليها وتقول له: هذه الأرض وهذا الجار الشرقي وهذا الغربي، فيقع الاستلام على وجه خالٍ من الشبهة لا إشكال فيه، فاستلم الأرض، هذه المرحلة الثانية وهي: مرحلة التسليم.
فالسؤال الآن: لو أن شخصاً قال لآخر: بع أرضي التي بمكة في حي كذا أو مخطط كذا بمائتي ألف، فهل إذا أذن له بالبيع يقبض الثمن؟ فإن البيع إذن بالعقد، لكن مسألة استلام الثمن هذه مسألة أخرى، فقد تأذن لشخصٍ أن يتم صفقة البيع ولا تأمنه على مالك، وتوكل شخصاً آخر أن يستلم المال فهل الوكالة أو التوكيل بالبيع توكيلٌ بقبض الثمن؟ هذا بالنسبة للبائع، وهل التوكيل بالشراء توكيل بالاستلام؟ مثلاً: شخص قلت له: هناك أرض بجدة سافر أبرم صفقتها مع زيد من الناس الذي يملكها، فهل معنى ذلك أن هذا التوكيل يبيح للوكيل أن يستلم الأرض، أو يكون إفراغ الأرض أو تسليمها لشخصٍ آخر؟ هذه هي المسألة، فبعد أن فرغ رحمه الله من الأصل الذي ذكرناه في إطلاقات الوكالات وتقييدها شرع رحمه الله في بيان تصرفات الوكيل، فإذا كان هناك وكالة فما هي الحدود التي ينبغي أن يتصرف فيها الوكيل ولا يجاوزها؟ وإذا وكّل بالبيع هل هو توكيل بتسليم المبيع، وإذا وكل بالشراء هل هو توكيل باستلام المبيع؟ ونحو ذلك من المسائل.
فقال رحمه الله: (ووكيل البيع يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة).
فلو أن رجلاً قال لآخر: بع لي أرضي بمكة، فانطلق الوكيل وباع الأرض بمائة ألف كما طلب موكله، وأفرغها، فإذا حصل البيع والإفراغ وهو التسليم بقي استلام الثمن، هل من حقه أن يطالب بالثمن؟ وبعبارة أخرى: هل الذي اشترى منه الأرض يدفع المال لهذا الوكيل أو يدفع المال للأصيل؟ هذه هي المسألة، فقال رحمه الله: الوكيل بالبيع يتم الصفقة، وهذا بالإجماع، ويسلم المبيع، وهذا قول الجماهير، لكن الثمن لا يستلمه، فهذه ثلاثة أشياء: يتم الصفقة، يعني: القاضي يقبله إذا جلس في مجلس القضاء، ويتم صفقة البيع بالإيجاب والقبول، وأيضاً: يمكن شرعاً من تسليم الأرض للمشتري، فأصبحت المرحلة الأولى وهي العقد من حقه؛ لأنه قال: وكلتك أن تبيع، والتوكيل بالبيع يقتضي التوكيل بصيغة البيع، لكن

‌‌السؤال
كيف دخلت مسألة التسليم والإفراغ؟ دخلت؛ لأن البيع يتوقف على التسليم، وتمام البيع ولزومه يتوقف على التسليم، وبناءً على ذلك فتسليم المثمن يتم صفقة البيع، فكأنه حينما أذن له بالبيع أذن له بأن يسلم المبيع، وهذا يتفرع على القاعدة الشرعية التي تقول: (الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه)، فالإذن بالوكالة لعقد ما هو في الحقيقة إذن لكل شيء يصحح هذا العقد ويتمه ويجعله نافذا، فلما كان تسليم المبيع يمضي صفقة البيع التي من أجلها كانت الوكالة كان التسليم معتبراً من هذا الوجه، وهذه قاعدة عمل بها جماهير أهل العلم رحمهم الله: (أن الإذن بالشيء إذن بلازمه) فليس من حق المشتري أن يمتنع، وليس من حق القاضي أن يقول: لا أقبله أن يسلم المبيع، وإنما يقول له: أتم الصفقة وسلم له المثمن، ولو امتنع الوكيل من التسليم كان من حق القاضي أن يجبره؛ لأن العقد قد تم، فإذا قلت: إن الوكيل يتم الصفقة ويسلم؛ فإن من حق القاضي أن يجبر الوكيل؛ لأنه أمر بالإفراغ وتسليم المثمَن، فوجب عليه أن يتم الصفقة والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، والوفاء بالعقد يفتقر إلى هذا الأمر فوجب عليه أن يتم
‌‌مسألة: إذا أخر الوكيل تسليم الثمن ثم تلف عليه
قال رحمه الله: [ويسلم وكيل المشتري الثمن فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه].
مثال المسألة: أردت أن تشتري بنصف مليون أرضاً في جدة أو المدينة فقلت: يا فلان! اذهب إلى فلانٍ واشتر أرضه بنصف مليون، وهذا نصف المبلغ أعطه إياه، فإنه إذا وكلته بالشراء ففيه إذنٌ أيضاً بدفع الثمن سواءٌ صرحت أو لم تصرح؛ ولذلك الفعل منك منزلٌ منزلة القول، فإعطاء الثمن دالٌ على أنك راغبٌ في إتمام الصفقة، فإذا انطلق وأتم الصفقة يبقى

‌‌السؤال
إذا قال له أعطه نصف المليون هل يعطيه بمجرد العقد أم بمجرد الاستلام أو بعد الاستلام؟ هذا كله محتمل، عندما يوكلك شخص أن تبرم صفقة شراء بسيارة أو كتاب أو أرض أو عمارة أو مزرعة، وأخذت المال وانطلقت من أجل أن تتم الصفقة فأولاً: يجب عليك أن تحتاط لحق موكلك، فلا تعطه المال إلا بعد إتمام الصفقة حتى تضمن حق الموكل، فلو أن الوكيل ذهب وأعطاه المال قبل أن تتم الصفقة ودون أن يشهد فإنه يتحمل مسئولية التفريغ، فإذاً: ينبغي للوكيل أن يدفع المال على الوجه الذي لا غرر فيه، ولا غبن ولا ضرر.
فإذا انطلق وقال له: هذه الأرض بكم تبيعها؟ قال: بنصف مليون، قال: أنا أشتريها منك على أن نذهب عند القاضي ونفرغ، فإذا أفرغت لي أعطيتك المال، فقوله: إذا أفرغت لي أعطيتك المال، لا شك أن هذا بالغ في الحيطة لحق موكله، وفي بعض الأحيان يكون الأحوط أن تعطيه المال قبل الإفراغ، وذلك من أجل تأكيد صفقة البيع حتى لا يتلاعب، فتشهد الشهود، وتبرم عقداً مبدئياً بينك وبينه حتى تفرغ عند القاضي، فإذا رأيت المصلحة في هذا فعلت، وإذا رأيت المصلحة في ذاك فعلت، فتنتظر حتى تدفع له عند القاضي، فإذا انتظرت حتى تدفع له عند القاضي وجاء اليوم وحضر عند القاضي ودفعت له المال فحينئذٍ لا إشكال في أنه قد تمت الوكالة على الوجه المعتبر، حيث أفرغ الأرض لموكله، فدفعت الحق له وأخذت الحق منه، لكن المشكلة إذا قال له: خذ هذا النصف مليون واذهب به إلى فلانٍ واشترِ منه الأرض، فإذا أفرغ لك الأرض فأعطه حقه، قال: موافق، فخرج من عندك وذهب وأتم الصفقة وأفرغ الأرض باسمك، ثم ماطل صاحب الحق، وأخر دفع المال إلى أسبوع، وسرق المال خلال الأسبوع، من الذي يضمن؟ يضمن هذا الوكيل؛ وفي الأصل هو لا يضمن حينما وكلته، مثلاً: لو أنك وكلته على أنه يفرغ الأرض، فإذا أفرغ الأرض باسمك فإنه يعطي البائع ماله مباشرة، فذهب مع من ذهب ومعه المال، ثم سُرق المال منه بدون تفريغ، وكان النصف مليون موضوع في خزانة وفي مكانٍ أمين، وجاء السارق بقوة وغلبه وأخذه قبل الإفراغ فإنه لا يضمن؛ لأن يده يد أمانة، ويد الأمانة لا تضمن إلا إذا فرّط، وهكذا لو قلت لأخيك: خذ هذه العشرة واشتر لي كتاباً من المكتبة الفلانية، فذهب ودخل المكتبة، واشترى الكتاب وأخر الدفع، وقال لصاحب المكتبة: سأعطيك مالك غداً، وخرج والعشرة في جيبه فسُرقت، فإنه يضمن العشرة ويلزم بدفعها؛ لأنه ماطل وفرّط، وكان ينبغي أن يحتاط لحقه وحق المشتري والبائع فيعطيه حقه بعد تمام الصفقة.
فقال رحمه الله: (ويسلم وكيل المشتري الثمن فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه).
يبقى السؤال: إذا أخره بعذر، هل يضمن؟

‌‌الجواب
لا.
إلا إذا فرّط، مثلاً: إذا قلت له: خذ هذه المائة ريال واشتر لي كتاب كذا وكذا من المكتبة، فذهب إلى المكتبة ووجد الكتاب وسأل عن قيمته، قالوا: قيمته مائة ريال، فكان المنبغي أن يدفع المائة مباشرة ويستلم الكتاب، فترك الشراء وانتظر إلى الغد أو بعد الغد فسرقت المائة خلال هذه الفترة، قلنا: يضمن؛ لأنه فرط وتأخر بإتمام الصفقة حتى حصل الضرر فيضمن، كذلك لو قلت له: خذ هذه الأطعمة وبعها واقبض ثمنها، وذهب وتأخر في بيعها فإنه يضمن أيضاً، فكما يضمن في البيع يضمن في الشراء، وكما يضمن في الشراء يضمن في البيع بالتفريط والتأخير، لكن لو أنه أخذ المال ولم يفرط مثلاً: قلت له: إذا أفرغ لك الأرض بعد الصفقة فأعطه ماله، فماطل البائع في إفراغ الأرض؛ صار هذا عذراً له أن يؤخر الثمن، فتأخر في دفع الثمن له شهراً، وخلال الشهر سُرِق المال أو احترق بيته بدون تعدٍ، واحترقت معه النقود، فحينئذٍ يعتبر خالي المسئولية ويده يد أمانة؛ لأنه أخر لعذر، حيث كان التأخير لإفراغ الأرض، وخشي من البائع أن يكون مماطلاً أو متلاعباً فاحتاط لحقك فهذا تأخير لعذر
‌‌مسائل تتعلق بالوكالة
قال رحمه الله: [وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحاً، أو وكله في كل قليل وكثير، أو شراء ما شاء أو عيناً بما شاء ولم يعين لم يصح]
‌‌إذا وكل الوكيل في بيع فاسد فباع بيعاً صحيحاً
فقوله: (وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحاً).
إن وكله في بيع فاسد كبيع نسيئةٍ في ما لا يصح بيعه نسيئة، وبيع الربا ونحو ذلك من البيوع المحرمة، فباع بيعاً صحيحاً، فإذا باع بيعاً صحيحاً، ف

‌‌السؤال
هل يصحح البيع أم لا؟

‌‌الجواب
لا يصحح البيع؛ لأنه حينما وكّله أن يبيع بيعاً محرماً كانت الوكالة باطلةً من أصلها، فأصبح المال أجنبياً، فإذا تصرف فيه -ولو تصرف تصرفاً صحيحاً- فهو غير لازم وغير صحيح، لكن يكون من بيع الفضول.
مثال ذلك: لو قال له: بع هذا الطعام بطعام من نوعه متفاضلاً، أو قال له: بع هذه المائة الكيلو من التمر بمائتين، هذا ربا فضل، فذهب وباع التمر، مائةً بمائة، هذا بيع صحيح، حيث تم يداً بيد مثل بمثل، كما هو الأصل الذي دلّ عليه حديث عبادة رضي الله عنه، وقد تقدم معنا في باب الربا، فباع بيعاً صحيحاً، والذي وكله وكّله في بيع مائة بمائتين، فلما قال له: بع هذا التمر مائةً بمائتين كان بيعاً محرماً، والله تعالى يقول: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] والوكالةُ إذا كانت على محرم وباطلٍ فهي باطلة، فإذا كانت الوكالة باطلة فكأن الوكيل يتصرف في مال أجنبي عنه غير مأذون له بالتصرف فيه، وقد ذكرنا أن تصرف الإنسان فيما لا يملكه وفيما لا حق له للتصرف فيه أن هذا التصرف يعتبر من التصرف الفضولي، فإذا امتنع صاحبه فإنه لا يصح، وقد بينا هذه المسألة في مسألة بيع الفضول.
الخلاصة: أن من وكّل وكيله أن يبيع بيعاً فاسداً، فباع بيعاً صحيحاً فالوكالة في الأصل تبطل، وإذا بطلت الوكالة صار المال أجنبياً، وصار التصرف فيه في غير محل فلا يصح

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 17-08-2024, 07:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,847
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

‌‌إذا فوض للوكيل بالوكالة في كل قليل وكثير
قال رحمه الله: [أو وكله في كل قليل وكثير].
فقال له: أنت وكيلي في جميع أموري، لم يصح، وقد بينا هذا وتعرضنا لمسألة التوكيل بالوكالة المطلقة، والسبب في هذا: أن الوكالة المطلقة بأن يفوض له جميع الأمور أو يفوض له بأمرٍ خطير يعظم الغرر بالتفويض فيه وكالةٌ فاسدة؛ لأنها من الغرر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن الغرر)، وخاصةً في هذا الزمان، فلهذا تكلم بعض الفقهاء في صحة التوكيل المطلق، ولكن الصحيح والأشبه عدم صحتة لحديث ابن عمر في النهي عن الغرر؛ ولأن هذا يدخل على الإنسان غرراً عظيماً وضرراً كبيراً، فيقول له: أنت وكيلي في كل شيء، حتى إن بعضهم يقول له: أنت وكيلي حتى في تطليق نسائه، فهذا لا شك أنه يدخل الغرر والضرر على الموكل، والشريعة جاءت بدفع الضرر، فلو قال قائل: إنه رضي بإدخال الضرر على نفسه، نقول: إن الرضا إذا لم يكن في موضعه كان وجوده وعدمه على حدٍ سواء، وخاصةً في هذا الزمان؛ ولذلك نجد بعض الناس قد يأمن البعض ويوكله وكالةً، ثم لا يشعر إلا وقد أدخل عليه من البلاء ما الله به عليم، بل وصل ذلك خاصة في هذا الزمان إلى خيانة الولد لأمه نسأل الله السلامة والعافية، فقد مرت بي إحدى القضايا أن أماً وكلت ابنها وكالة مفوضة، وجعلت له أن يتصرف في أمورها كيف شاء، فكان كلما أراد شيئاً أخذ منها وكالةً مطلقة في نفس العقود التي تتصل بهذا الشيء فباع أملاكها، وكانت بخير ونعمة وتملك الملايين، فباع أموالها، وتصرف فيها، ومضت السنوات تلو السنوات وهو يماطلها في بعض حقوقها حتى جاءت الساعة التي فوجئت بدخول الضرر عليها، وأن موكلها قد أركبها الديون فضلاً عن حقوقها التي أضاعها، فذهب مالها، ولم يقف الأمر عند قضية هذا المال -وهو مصيبة عظيمة- بل ذهب واشترى باسمها، وعقد العقود -نسأل الله السلامة والعافية- باسمها، حتى فوجئت بسفره وغيابه فجأة، فأصبحت تسأل عنه ثم لم تشعر إلا بأصحاب الحقوق يطالبون بحقوقهم، وهذا أمر عظيم، وهذا لا شك أن فتح الباب في مثل هذه الوكالات والتفويضات المطلقة، يفتح باب شر عظيم على الموكل، والشريعة جاءت بدرء المفاسد وجلب المصالح، ولذلك أمرت بالحجر على السفيه؛ لأنها علمت أن مثله لا يحسن النظر لنفسه، فأقامت عليه من يحفظ ماله، فلا يجوز للمسلم أن يدخل على نفسه الضرر على هذا الوجه، بل تقوم على مالك، وإذا أردت أن توكل فوكل في الوقت المناسب والشخص المناسب في الشيء المناسب؛ لأن الله عز وجل أمرك أن تتقيه حتى في مالك الذي أعطاك إياه واستخلفك، لكي تقوم عليه بما ينبغي أن يقوم به المسلم في ماله من حسن النظر، وحسن الولاية عليه، فعلى هذا لا يجوز إدخال الضرر بمثل هذه الوكالات بأن يقول له: أنت وكيلي في كل قليلٍ وكثير، وأنت وكيلي في كل شيء حتى ولو كان بشيء فيه ضرر عليه ونحو ذلك مما فيه الغرر
‌‌إذا فوض للوكيل شراء ما شاء بما شاء ولم يعين
قال رحمه الله: [أو شراء ما شاء].
أن يقول له: أنت وكيلي أن تشتري ما شئت، فإن الشيء الذي يشاؤه قد لا تشاؤه ولا ترضاه ولا ترغبه، فتختلف أهواء الناس ورغباتهم، فلا يصح التوكيل على هذا.
قال رحمه الله: [أو عيناً بما شاء].
أن تشتري بهذه المائة ما شئت، فهذا فيه ضرر، فربما اشترى شيئاً لا يريده، فأنت تقول له: اشتر بهذه المائة، وهذه المائة عين وهذه الألف وهذه العشرة آلاف هذا عين، تقول: اشتر بها ما شئت.
قال رحمه الله: [ولم يعين لم يصح].
(ولم يعين) يعني: الوكالة المبهمة، لكن لو قال له: أنت وكيلي أن تشتري لي عمارةً فبعض العلماء يقول: يحدد الأوصاف بما يصح سلماً، فيقول له: بما يرتفع به الضرر وبما يصح فيه السلم فيقول له مثلاً: اشتر لي طعاماً من نوع كذا وكذا مائة صاعٍ، أو يقول له: اشتر لي أرضاً (20×20) أو (30×30) في المدينة أو في جدة أو في مكة، ويحدد له الوكالة على وجهٍ لا ضرر فيه ولا غرر
‌‌الأسئلة
‌‌الإذن بالسكنى في البيت لا يستلزم الإذن بالبيع

‌‌السؤال
قال رجلٌ لأخيه: اشتر العقار الفلاني واتخذه سكناً لك، فلما اشتراه الأخ باعه، فأنكر عليه ذلك البيع وقال: أنا لم آذن لك بالبيع فهل من حقه ذلك؟


‌‌الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالوكالة جاءت مقيدة: اشترِ العقار الفلاني واتخذه سكناً لك، فأصبحت وكالة بالشراء، فالشراء صحيح، ووكالة أن يسكن، فإذا تصرف بغير هذين فتصرفه باطل، وبيعه باطل إذا لم يأذن له الموكل ولم يرض، وعلى هذا ينفسخ هذا البيع، ويرد العقار للموكل، ولا يصح هذا البيع لأن تصرفه فضولي لم يأذن به موكله، ومن أذن بالسكن لا يأذن بالبيع، ولذلك قد آذن لأخي أن يسكن في داري، ولا أرغب في بيعه، وقد آذن له أن يبيت في مزرعتي أو يتخذها سكناً أو يتخذها مكاناً يرتاح فيه، ولكن لا أذن له أن يبيعها ويفوت مصالحي فيها ومُلكيتي لها، وعلى هذا: فبيعه باطل مُنفسخ إذا لم يرض به المالك الحقيقي، والله تعالى أعلم

‌‌تصرفات وكيل البيع في حال توكيله بالبيع


‌‌السؤال
ذكرتم -حفظكم الله- أن وكيل البيع له ثلاثة أمور: أولاً: يتم الصفقة، وثانياً: يمكن شرعاً من تسليم المبيع، فما هو الثالث منها؟


‌‌الجواب
قبض الثمن، فعندنا العقد -وهو صفقة البيع- ثم التسليم، ثم الاستلام، وهو استلام الثمن، والتسليم للمثمن وهو المبيع، الاستلام للثمن والعكس للمشتري، فالمشتري عنده الصفقة، وهي الإيجاب والقبول، ثم بعد ذلك تسليم الثمن، واستلام المثمن فهي عكسيةٌ بالنسبة للتسليم والاستلام، فالبائع يسلم المبيع ويستلم الثمن، والمشتري يسلم الثمن ويستلم المبيع، والله تعالى أعلم

‌‌عدم لزوم استلام الثمن للتوكيل في البيع


‌‌السؤال
إذا قلنا: إن من لازم التوكيل للبيع تسليم المبيع، أفلا يكون استلام الثمن مندرجا تحت قاعدة: (الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه) فيستلم الثمن دون القرينة؟


‌‌الجواب
يصح البيع بتسليم المثمَن ولو لم يسلم الثمن، ويلزم البيع بتسليم المثمن ولو لم يسلم الثمن؛ ولذلك تسليم المثمن أقوى من تسليم الثمن، وعلى هذا: لا يصح، إنما يصح أن لو كان معتقراً لمجموع الأمرين معاً، بحيث تقول: لا يلزم البيع إلا بتسليم الثمن والمثمن، والواقع أن تسليم المثمن يوجب صحة البيع ولزومه، وقد تقدم معنا شرح هذا في كتاب البيوع، والله تعالى أعلم
‌‌حكم تراجع من نذر أن يطلق امرأته

‌‌السؤال
لو نذر رجلٌ أن يطلق امرأته فهل يمكنه أن يتراجع عنه؟


‌‌الجواب
من نذر أن يطلق زوجه وأهله ورأى أن المصلحة أن لا يطلقها فإنه يكفر عن نذره ويأتي الذي هو خير، قال صلى الله عليه وسلم: (إني والله لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) وعلى هذا: النذر واليمين بابهما واحد، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسألة وتقريرها؛ لأن كلاً منهما قد عقد فيما بينه وبين الله عقداً ينفك وينحل بالكفارة؛ ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كفارة النذر كفارة اليمين، وعلى هذا: فإنه لو قال: لله عليّ أن أطلق زوجتي غداً أو أطلقها بعد غد، أو لله عليّ أن أطلق زوجتي في نهاية الشهر أو نحو ذلك، فنظر لمصلحته فأمضى وأبقى العقد كما هو، ففي هذه الحالة إذا حنث في نذره وامتنع من الوفاء به كفر كفارة اليمين، ولا شيء عليه، والله تعالى أعلم
‌‌حكم نكاح بنت خالة الأم

‌‌السؤال
هل يجوز للرجل أن يتزوج بنت شقيقة جدته لأمه؟


‌‌الجواب
بنت شقيقة جدته لأمه هي بنت خالة بالنسبة للأم، وبنت خالة الأم يحل نكاحها؛ لأنها داخلةٌ في عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، فإن الله لم يذكر من المحرمات بنت خالة الوالدة، ولا بنت خال الوالد، ولا بنت عم الوالدة، ولا بنت عمة الوالد، ولا بنت عمه، فكل هؤلاء من النساء اللاتي دخلن في عموم الحِل، ولسن من المحارم بإجماع العلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم

‌‌حجر إسماعيل عليه السلام من البيت


‌‌السؤال
هل يعتبر حجر إسماعيل كله داخلٌ في الكعبة؟


‌‌الجواب
حجر إسماعيل فيه وجهان للعلماء رحمهم الله في الطواف: جمهور أهل العلم على أن الطواف لا يصح إلا إذا استوعب البيت كاملاً، ولم يدخل بين البيت والحجر، وقال الحنفية: يصح الطواف إذا دخل بين الحجر وبين البيت، واستدل الجمهور بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فوصف الله جل جلاله البيت بكونه عتيقاً، والعتيق فيه أقوال؛ فقيل: لأن الله عتقه من الجبابرة، فما قصده جبارٌ إلا قصمه الله وأخذه أخذ عزيز مقتدر؛ ولذلك سميت مكة (بكة)؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة كما فعل الله بـ أبرهة، وقال بعض العلماء -وهو الصحيح-: إن البيت العتيق المراد به القديم؛ لأنه هو الذي بناه إبراهيم على القواعد التي بينها الله سبحانه وتعالى له، وبنى البيت عليها، ثم تقاصرت النفقة عن قريش -كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها- فتركت من البيت أذرعاً وهي الحجر، وهل جزءٌ من الحجر في البيت أو لا؟ وجهان مشهوران عند العلماء رحمهم الله، لكن من حيث الصحة لا يصح الطواف إلا إذا طاف من وراء الحجر؛ لأن الذراعين والثلاثة وقيل: إلى ذراع من البيت، فإذا دخل بين الحجر وبين البيت وقيل: ذراع، فيمكن أن يستوعب، لكن الأشبه: ذراعان إلى ثلاثة، والقول في ذلك مشهور وفيه رواية في صحيح مسلم.
وعلى هذا لا بد وأن يستوعب البيت بالطواف، ومن دخل في طواف ركن كطواف الإفاضة وطاف فيما بين البيت والحِجر، ولم يكن يتأول قول من قال من السلف رحمهم الله بصحة الطواف على هذا الوجه؛ فإنه يلزمه أن يعيد طواف الركن، وعليه أن يعيد طواف العمرة أيضاً، ولا يزال متلبساً بعمرته لطواف الركن إذا لم يؤده كما تقدم في كتاب المناسك، والله تعالى أعلم

‌‌الحكم إذا اجتمع سهو نقص وزيادة في الصلاة


‌‌السؤال
إذا اجتمع سهو نقص وزيادة فلمن سيكون السجود؟


‌‌الجواب
إذا تعارض المتصل والمنفصل فيقدم المتصل على المنفصل، فالسجود قبل السلام فيه تدارك أكثر من السجود البعدي، ولذلك دخل السجود البعدي في القبلي كما في الصحيحين من حديث ابن عباس، وكذلك حديث السنن عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدةً صلى أو اثنتين فليبن على واحد، فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً، فليبن على ثلاث)، موضع الشاهد قوله: (ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان الذي صلاه أربعاً -يعني: صلاةً تامة- فالسجدتان ترغيماً للشيطان، وإن كان ما صلاه خمساً فالسجدتان تشفعانه)، فعند الشك جعل النبي صلى الله عليه وسلم سجدتي الزيادة قبل السلام موجبة للجبر، ونظراً لعدم التحقق من الزيادة والنقص جُعلت قبل السلام، فدل على أن اشتراك الزيادة والنقص الأشبه فيه والأصح ما اختاره جمعٌ من العلماء من أن السجود يكون قبلياً، وهذا كله على مذهب من يقول: إن السجود يكون بعدياً إذا كان عن زيادة، وقبلياً إذا كان عن نقص، وعلى مذهب من يقول: السجود على التفصيل، لا على مذهب من يقول: السجود كله بعد السلام أو السجود كله قبل السلام، والله تعالى أعلم

‌‌حكم الدم الخارج من فرج المرأة في حالة الطهر


‌‌السؤال
الدم الذي يخرج في حالة الطهر، هل هو دم نفاسٍ أو دم فساد؟


‌‌الجواب
إذا كانت المرأة حاملاً وأسقطت وخرج مع هذا الجنين دم نُظِر: فإن كان الجنين الذي أسقطته فيه صورة الخِلقة أو بعد تخلقه أو أصبح جنيناً مكتملاً فالدم في حكم دم النفاس على أصح قولي العلماء.
وأما إذا أسقطت ما لا صورة فيه ولا خِلقة فإنه دم فسادٍ وعلة، فالأول: يوجب المنع من الصلاة والصيام، وحكمه حكم دم النفاس سواء بسواء، والثاني: دم فسادٌ وعلة، لا يوجب المنع من الصوم ولا من الصلاة، وحكمه حكم دم الاستحاضة، والله تعالى أعلم
‌‌التفصيل فيمن يطوف نافلة وحضرته صلاة الجنازة

‌‌السؤال
من كان في طواف نافلة، وأراد الصلاة على جنازة، هل يجوز له أن يصلي عليها ثم يستأنف الطواف؟


‌‌الجواب
بالنسبة للطواف بالبيت فالثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعله في حكم الصلاة على أصح أقوال العلماء في حديث ابن عباس الذي اختُلِف في رفعه ووقفه: (الطواف بالبيت صلاة).
وإذا ثبت أنه آخذٌ حكم الصلاة فإنه لا يقطع من أجل الجنازة على أحوط الوجهين عند العلماء رحمهم الله.
وقال بعض أهل العلم: تعارضت العبادة التي يمكن تداركها والعبادة التي لا يمكن تداركها، فالصلاة على الجنازة لا يمكن أن يدركها إذا فاتت، والطواف بالبيت يمكن أن يدركه إذا قطعه وبنى، فقالوا: يقطع للصلاة على الجنازة كما يقطع للصلاة المفروضة، ثم يبني بعد فراغه من الصلاة على الجنازة، ونحن حينما قلنا: إن هذا أحوط، أي: أنه لا يُفعل في طواف ركن كطواف الإفاضة وطواف العمرة حتى لا يعرض طوافه للشبهة، لكن إذا كان طواف نافلة ونحوه وأراد أن يختار القطع ويبني ويستأنف إذا انتهى من صلاة الجنازة، فيقطع من أجل الفضيلة، ويصبح القطع في هذه الحالة ليس من باب البناء، يعني: عندما يقطع من أجل أن يصلي على الجنازة في النافلة لا يقطع لكي يعود ويبني، وإنما يقطع من أجل أن يستأنف من جديد، فإنه إذا قطع واستأنف من جديد حصل على الفضيلتين، حصل فضيلة الطواف على أتم وجوهها دون شبهة الحكم بالبطلان بوجود العبادة المخالفة، وفي الفرض يجوز ما لا يجوز من أجل النفل؛ لأن الفريضة متعينة بخلاف النافلة؛ ولذلك لا يمكن أن نقول: يقطع كالصلاة المفروضة؛ لأن القطع للصلاة المفروضة متعين، والقطع للنافلة متعين، لكن يقطع من أجل الفضائل، فيجوز أن يقطع من باب الفضيلة فيدرك العبادة التي لا يمكن تداركها ثم بعد ذلك يستأنف الطواف، وهذا لا شك أنه أبلغ في حصول الفضائل على أتم وجوهها وأكملها، وكذلك وقوع العبادة على وجهها الصحيح، والله تعالى أعلم

‌‌معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يحاز


‌‌السؤال
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المبيع حتى يحوزه إلى رحله، هل المراد القبض أم نقله من مكانه؟


‌‌الجواب
هذه المسألة مسألة كيل الطعام، وجريان صاع البائع وصاع المشتري، قد تقدم بيان هذه المسألة في كتاب البيوع في مسألة القبض، وبيناه خلاف العلماء وتفصيلهم في شرح البلوغ، وبالنسبة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبضه) اختلف العلماء فيه، ففي القديم كان الطعام كالبر والشعير والتمر يباع بالصاع فيشتري -مثلاً- صاع تمرٍ ثم يبيعه لغيره، قال ابن عباس رضي الله عنهما في علة هذا: (إنه يخشى الربا) وتوضيح ذلك: أنه إذا اشترى صاع الطعام بدينار ولم يكله ولم يقبضه ثم باعه بدينارين، فكأنه باع الدينار الأول بالدينارين، فصارت حقيقة الأمر: الصفقة في ظاهرها بيع للتمر، وفي حقيقتها بيعٌ للدنانير، ولم يكن يداً بيد ولا مثلاً بمثل، فرأى رضي الله عنهما في هذا شبهة الربا.
وقال بعض العلماء رحمهم الله: نهي عن بيع الطعام قبل قبضه لخوف الغش، وذلك أنك ربما اشتريت الطعام على أنه عشرة آصع والناس تأمنك، فإذا جئت تبيع إلى رجل وهو يأمنك وقلت له: عشرة آصع، على قول البائع الأول، ولم تكتل ولم تستوفه بوجهٍ تضمن به القول الصحيح، واشترى منك الغير، وكان ذلك طعناً في أمانتك، هذا من جهة التجارة.
كذلك أيضاً ربما كان سبباً للفتنة؛ لأنه ربما بعته على شخصين أو ثلاثة فوثق الثاني بك ووثق الثالث بالثاني، ثم باع الثالث وأصبح كلٌ منهم يتهم أن النقص حصل عنده ولم يحصل عند غيره، وهذا يحدث نوعاً من الفتن والضرر، والبيع يحرمه الشرع إذا أدى إلى المفاسد، كما نهى عن بيع الرجل على بيع أخيه، ونهى عن بيع الغش ونحو ذلك، أياً ما كان: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبض)؛ والقبض سمةٌ شرعيةٌ لانتقال الحكم بالضمان، وإذا قلت: إنه سمة شرعية لانتقال الحكم بالضمان، فإنه تتفرع مسألة وعلة ثالثة وهي: أنه إذا بنى على الطعام قبل قبضه وربح فيه، كان رابحاً لما لم يضمن، ووجه ذلك أنه لو اشترى منك مائة صاع -وهذا يحدث الآن في الأسواق- إذا اشترى منك صفقة، والصفقة تحتاج منك إلى حفظ ورعاية، ربما تركها عندك، فجعل حفظها ورعايتها عليك، وذهب وباعها بربح، فأصبح يأخذ ربح شيء لا يضمنه؛ لأنه لو تلفت الصفقة لقال لك: أعطني مالي؛ لأنني لم أقبض، فيلعب على الطرفين، فالشريعة لا تجيز ذلك، وليس من العدل أن يضمن ويغرم أحد الطرفين والآخر يأخذ المنفعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود وهو مجمع على متنه: (الخراج بالضمان) أي: الغرم بالغنم والغنم بالغرم، فمن يغرم الخسارة هو الذي يأخذ الربح، وهذا عدل من الشريعة، فإذا كان المبيع عند البائع ولم يقتضه المشتري وذهب المشتري يساوم فيه؛ فإن هذا يضرك أنت البائع في حفظه، ويضرك في ضمانه، ومع ذلك لا يتم البيع إلا بقبضه، فكأنه يستفيد منك فائدةً يأخذها دون دفع ثمنها وحقها، وهذا ظلمٌ على الناس؛ ولذلك لم يجز البيع إلا بعد القبض الموجود لانتقال يد المشتري.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 17-08-2024, 07:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,847
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (342)

صـــــ(1) إلى صــ(16)



شرح زاد المستقنع -‌‌ باب الوكالة [6]
الوكالة عقد ينبغي الالتزام بما يرد فيه من تقييدات، ولا ينبغي تعديها، فمتى قيَّد الموكل وكالته بشيء لم يجز للوكيل أن يتعدى هذا القيد، وهذا من كمال حفظ الشريعة لحقوق الناس ومصالحهم
‌‌التوكيل في الخصومة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والوكيل في الخصومة لا يقبض والعكس بالعكس].
شرع المصنف رحمه الله في بيان جملةٍ من المسائل والأحكام المتعلقة بلوازم الوكالة، فإذا وكل شخصٌ آخر بشيء فما الذي يحق للوكيل أن يتصرف به؟! وما الذي تقتضيه الوكالة لفظاً وما الذي تقتضيه عرفاً؟!
‌‌حكم التوكيل في الخصومة
فقال رحمه الله: (والوكيل في الخصومة).
الوكيل في الخصومة: هو الشخص الذي تنفذه وكيلاً عنك للدفاع عن حقٍ من حقوقك سواءً كان من الحقوق المالية أو غيرها على تفصيل عند العلماء رحمهم الله في محل الوكالة في الخصومة، فيجوز للمسلم أن يوكل غيره في الخصومة عنه، فدل قوله رحمه الله: (والوكيل في الخصومة أنه لا يقبض) على جملةٍ من المسائل منها: المسألة الأولى: أنه يجوز للمسلم أن يوكل غيره في الخصومة، والخصومة تقع في القضاء، فإذا وقعت بين شخصٍ وآخر خصومة ونزاع في أرض -مثلاً- أو في عمارة أو في سيارة أو في مال فأراد أحدهما أن يوكل شخصاً آخر عنه لكي يقوم بالمخاصمة أمام القاضي عن هذا الحق، فإن جماهير السلف والخلف رحمهم الله على جوازه، وحُكي إجماع الصحابة على مشروعية هذه الوكالة، فيجوز لك أن توكل غيرك أن يخاصم، وقد جاء عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه وكّل عقيل بن أبي طالب أخاه في خصومة كانت عند أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولما كان زمان عثمان بن عفان وقعت خصومةٌ أخرى فوكل علي رضي الله عنه عبد الله بن جعفر أن يخاصم عنه، وقال رضي الله عنه قولته المشهورة: (إن في الخصومة إقحاماً وإن الشيطان يحضرها، وإني أكره أن أحضرها).
فقوله رضي الله عنه: (إن في الخصومة إقحاماً)، الإقحام: هو الهلاك، والمقحمة هي: المهلكة، وكأنه يقول: إن في الخصومات والنزاعات قد يستزل الشيطان أحد الخصمين فيقول كلاماً يوجب غضب الله عليه وسخطه، خاصةً وأن الحقوق أمرها عظيم، فقال رضي الله عنه: (إن في الخصومة إقحاماً)، فلربما كان الإنسان صاحب حق، فحينما يرى الظالم يتمادى في ظلمه ويكذب ويدعي أشياء مكذوبة ملفقة ربما سبه وشتمه واستزله الشيطان في أمور قد تكون أعظم من قضيته، وكذلك أيضاً لو كان ظالماً فالأمر أشد، فإن الشيطان ربما منعه من الاعتراف بالحق واستزله حتى لا يقول الحق على نفسه، ونحو ذلك مما يقع في الخصومات، فامتنع رضي الله عنه من شهود مجلس القضاء ووكل من يقوم عنه، ولما وكّل عقيل بن أبي طالب أخاه قال: (ما كان له فلي، وما كان عليه فعلي).
يعني: وكلته فجميع ما يتمكن منه بالخصومة من حقي فهو لي؛ لأن الفرع تابع للأصل، وجميع ما يقر به أو يكون عليّ بسبب خصومته عني فإني ألتزم به، وهذا هو الأصل الذي تقتضيه الوكالة، والوكالة لها حالتان: الحالة الأولى: أن يكون بإمكانك أن تأتي إلى مجلس القاضي.
والحالة الثانية: أن لا يكون بإمكانك إما لمرض أو سفرٍ أو نحو ذلك، فهل يجوز لك أن توكل في كلتا الحالتين، سواءً وجد العذر أم لم يوجد؟ أما من حيث حالة وجود العذر كالمرض والسفر ونحوه مما يتعذر ويصعب معه الحضور فيجوز عند العلماء أن توكل قولاً واحداً، ولكن لو كان الإنسان قادراً على الحضور وهو في المدينة، فهل يجوز أن يوكل غيره أن يدافع عنه؟ فقال جمهور العلماء: يجوز أن يوكل حتى ولو كان قادراً على الحضور؛ والسبب في هذا: أنه ربما لن تستطع أن تتفرغ لشهود مجلس القضاء، ولربما كان الخصم سفيهاً أو إنساناً فيه جرأة على الفضلاء والأخيار، ولذلك يمتنع الإنسان عن مخاصمة مثله، ولربما كان إنساناً له مكانته يستحي الإنسان من أن يخاصمه، فحينئذٍ يضطر إلى توكيل غيره، وكذلك أيضاً لربما كانت الموانع هذه كلها غير موجودة، ولكنك لا تحب أن تجلس هذه المجالس، ولا تحب أن تشهد هذه المواطن لوجود حق العلم ونحو ذلك من الفضل، وإلا فيجوز للمسلم أن يشهد مجلس القضاء ولا إشكال في ذلك، وقد جلس الصحابة والفضلاء والعلماء رحمهم الله في مجالس القضاء، وهذا لا ينقص قدر الإنسان؛ لأن شهود مجالس القضاء والإذعان للحق واجب على كل مسلم أن يلتزمه، وأن يرضى به إذا دُعي إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن المراد أن هناك حسناً وهناك أحسن، فإذا أمكن للإنسان أن يوكل جاز له أن يوكل سواءً كان حاضراً أو كان غائباً.
كذلك ذكر العلماء علةً أخرى وهي: أنه ربما كان الإنسان عاجزاً عن التعبير ولا يحسن إقامة الحجة لنفسه، وكان خصمه ذكياً فطناً ربما تصيد العبارات أو الكلمات أو تصرف تصرفاً يوجب ضياع الحق من صاحبه، فلذلك قالوا: يشرع للإنسان أن يوكل سواءً وجد العذر أو لم يوجد، وهذا هو الصحيح: أنه يجوز أن يوكل عنه من يشهد القضية سواءٌ كان عنده عذر أو لم يكن عنده عذر

‌‌حكم التوكيل في المحاماة

وإذا ثبت أنه يجوز التوكيل في الخصومة يتفرع عليه مسألة المحاماة، فإذا أراد أن يوكل محامياً للدفاع عنه فإن هذا مشروع من حيث الأصل، ويجوز للمحامي أن يدافع عن موكله ويقوم مقامه على تفصيل في هذه الضوابط وفي هذا النوع من التوكيل، فإذا وكل المحامي فلا يخلو وكيله من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون محض تبرع، كأن يكون المحامي يريد أن يدخل في هذه القضية إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل، وإنصافاً للخصمين دون أن يأخذ أجرةً، ودون أن يأخذ عمولة فهذا لا شك أنه من نصرة المظلوم، وهو مأجور من الله سبحانه وتعالى، ومن آثر ثواب الآخرة على ثواب الدنيا أعظم الله أجره، وبارك له في علمه، وبارك له فيما يكون منه، وهذه سنةٌ من الله ماضية: أنه ما من إنسان يعطيه الله علماً ويعطيه الله عز وجل عطاءً من فضل هذه الدنيا أو فضل الآخرة من علوم الدين فيرفق بالناس ويعاملهم بالآخرة ويرجو ثواب الله عز وجل ويقدمه على ما عندهم إلا آجره الله وأعظم أجره، وجمع له بين خير الدين والدنيا والآخرة،.
النوع الثاني من المحاماة: أن يكون بأجرة، وينقسم إلى قسمين: قسمٌ منه يكون بجُعل، وقسم منه يكون بإجارة، أما الذي يكون بالجعل فصيغته: أن يقول المظلوم أو صاحب القضية للمحامي: أثبت حقي أو إذا توصلت إلى حقي عند فلان أعطيك مائة ألف أو أعطيك خمسين ألفاً، فهذا جُعل، والأصل في الجعل قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] فقوله تعالى عن يوسف عليه السلام: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ): يعني: جعلاً وعطية على إحضار هذا الصواع (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)، فهذا بالإجماع عند العلماء يعتبر جُعالة، وأجمعوا على مشروعية الجعالة، والجعالة تختلف عن الإجارة، فالإجارة تتجزأ، فإذا عمل العامل نصف العمل تعطيه نصف الأجرة، لكن في الْجُعل لو عمل تسعة أعشار العمل ولم يتمه لا يستحق شيئاً؛ فهناك فرق بين الجعل وبين الإجارة، ولذلك حديث الرقية عندما قالوا: (اجعلوا لنا جعلاً)، ورقي بالقرآن وشُفي اللديغ، وكذلك قصة المجنون لما شفي، هذا كله في الجعل، ومن هنا قال بعض العلماء: لا يجوز أخذ الأجرة على الرقية من باب الإجارة للشبهة، والمقصود: ما لم يشف المريض، فإذا كان الاتفاق بين الطرفين -بين صاحب القضية والمحامي- على أن يتوصل إلى حقه لم يكن له شيءٌ إلا إذا كان الحكم، وثبت أن الحق لصاحب القضية، فإذا دافع المحامي عن هذه القضية ومكث سنوات ولم يستطع أن يتوصل إلى حق الرجل فلا يستحق شيئاً، هذا إذا كان التوكيل في الخصومة بأجرة الجعل، أما إذا كان بإجارة فهذا فيه تفصيل، وإن شاء الله سنبين ضوابط الإجارة، ويسري عليه ما يسري على الإجارة من الشروط والأحكام التي ينبغي توفرها لاعتبار الإجارة على هذا الوجه الصحيح، إذا ثبت هذا فإن الخلاصة: أنه يجوز التوكيل في الخصومات.
سواءً كان الموكل وصاحب القضية حاضراً أو غائباً عنده عذر أو لم يكن عنده عذر في شهود مجلس القضاء.
ثانياً: يجوز التوكيل بأجرة وبدون أجرة على تفصيل من حيث الْجُعل والإجارة.
ثالثاً: مسألة التوكيل في الخصومة: من وكل في الخصومة، هل من حقه أن يقبض أو ليس من حقه ذلك؟ هناك تنبيه ينبغي أن ينبه عليه حينما قلنا بمشروعية المحاماة وأخذ الأجرة عليها: الشرط الذي ينبغي أن ينبه عليه أن محل الجواب والحكم بجواز هذا النوع أن يكون المحامي مقتنعاً أن موكله صاحب حق، أما إذا كان موكله -والعياذ بالله- ظالماً، وعلم ظلمه وأراد أن يقلب الحق باطلاً، فإنه -والعياذ بالله- يعتبر ماله سُحتاً وإجارته محرمة؛ لأن الله حرم التعاون على الإثم والعدوان، وهو شريكٌ له في جميع ما يترتب على هذه المحاماة من إضرار بالخصم.
فإذاً: قولنا بالجواز ينبغي أن ينبه على أنه ينبغي أن يكون المحامي مقتنعاً بأن موكله صاحب حق، فإذا اقتنع بأنه صاحب حق شُرِعَ له أن يدافع في حدود الحق الذي له، لا يزيد ولا يظلم
‌‌قبض الوكيل في حال التوكيل بالخصومة
إذا ثبت أن الوكالة بالخصومة مشروعة ف

‌‌السؤال
إذا وكلت شخصاً في خصومة هل من حقه أن يقبض عنك أو ليس من حقه؟ توضيح ذلك: لو وكلت شخصاً أن يدافع عنك في مائة ألفٍ تستحقها على شخص، فلما أقام القضية وأثبت أن لك عند فلان مائة ألف، وحكم القاضي بهذه المائة، هل يجب على الخصم أن يدفع الألف إلى وكيلك أو لا يجوز أن يدفعها إليه بل يدفعها لك؟ وبعبارة أخرى: هل توكيلك في الخصومة يعتبر إذناً بالقبض -أي: قبض الحق- أو ليس إذناً بذلك؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة فقال بعض العلماء: التوكيل في الخصومة لا يستلزم القبض، وهو مذهب الجمهور: حتى إن صاحبي الإمام أبي حنيفة رحمةُ الله على الجميع: القاضي أبو يوسف القاضي، والإمام محمد بن الحسن يقولان رحمهم الله: إنه إذا وكله في الخصومة فليس من حق المحامي والوكيل أن يقبض المال، وإنما من حقه فقط أن يثبت الحق، أما استلام الحق فهذا مرده إلى الموكل، وحينئذٍ يحكم القاضي بأن لك مائة ألف، ثم ننتظر: إن شئت أن توكل شخصاً آخر بالقبض، وإن شئت أن توكل المحامي بالقبض تقول: وكلته في الخصومة وهو أن يقبض الحق الفلاني في هذه الخصومة، إذا ثبت هذا، فالجمهور يقولون: إنه إذا وكله الخصومة، لا تستلزم وكالة الخصومة القبض.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله وطائفة من العلماء: التوكيل في الخصومة توكيل في القبض، والمحامي من حقه أن يستلم هذا المال، ومن حقه أن يستلم ما حكم به القاضي من حقوق، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور؛ ولذلك إذا وكلت أحداً في الخصومة فقد ترضاه مخاصماً ولا تأمنه على مالك، ويكون رجلاً يحسن الجواب والخطاب ولكن لا تأمنه على مالك، وحينئذٍ يفرق بين الإذن بالخصومة والإذن بالقبض، حتى قال بعض العلماء: من وكل بالخصومة فإنه غير موكل بالقبض لا لفظاً ولا عرفاً، يعني: لا لفظ الوكالة يستلزم أن يقبض، ولا عرف الناس يستلزم أن الخصومة تستلزم القبض، ولذلك ليس من حقه أن يقبض المال وليس من حقه أيضاً أن يقبض ما حكم به القاضي لموكله
‌‌التوكيل بالقبض توكيل بالخصومة
قال رحمه الله: [والوكيل في الخصومة لا يقبض والعكس بالعكس].
(العكس بالعكس)، يعني: الوكيل بالقبض من حقه أن يخاصم، والوكالة بالقبض تستلزم الخصومة، والوكالة بالخصومة لا تستلزم القبض، فيقال هكذا: الوكالة بالخصومة لا تستلزم القبض والوكالة بالقبض تستلزم الخصومة، كيف جاءت مسألة الوكالة بالقبض تستلزم الخصومة؟ يعني: عندما يقول لك شخص: اذهب إلى فلانٍ واقبض حقي منه، فذهبت إلى هذا الرجل فقال لك: ليس لفلانٍ عندي شيء، فجئت بشهود وخاصمت ثم قبضت الحق، ففي هذه الحالة حينما وُكلت بالقبض، وُكلت بأخذ أو فعل جميع الأسباب للوصول للقبض، فأصبح هذا مندرجاً تحت قاعدة شرعية يعبر عنها العلماء بقولهم: (الإذن بالشيء إذن بلازمه)، فإذا وَكلت شخصاً في شيء ما ولهذا الشيء لوازم، فمعنى ذلك أنك حينما أذنت بهذا الشيء فقد أذنت بلوازمه.
وعلى هذا قال العلماء: إنه إذا أذن له أن يقبض حقه فإن من لازم قبض الحق إذا امتنع الخصم من إعطائه الحق أن يخاصمه وأن يثبت ذلك الحق حتى يتوصل إلى ما وكل فيه وهو القبض، وعلى هذا ثبت ما ذكرناه: أن الإذن بالخصومة لا يستلزم القبض؛ لأنه زائد على معنى الخصومة، والإذن بالقبض يستلزم الخصومة؛ لأن الإذن بالشيء إذنٌ بلازمه وإذنٌ بما يقتضيه، ولما قلنا: (الإذن بالشيء) الوكالة أصلها إذن، وقد بينا هذا في تعريف الوكالة أنها إذنٌ بالتصرف، فإذا أذن له أن يقبض المائة الألف التي عند المستأجر الفلاني، فمعناه: ابذل جميع الأسباب لأخذ المائة الألف، فلما جاء إلى المستأجر قال له: ليس لفلان عندي مائة ألف، فأحضر شاهدين يعلمان أنه استأجر بمائة ألفٍ ولم يدفع، فأقامهما، فلما جاء عند القاضي قال له القاضي: من الذي وكلك أن تخاصمه؟ فأثبت أن فلاناً وكله في قبض المال، ويقول: الإذن بقبض المال إذنٌ بلازمه وهو الخصومة إن احتيج إليها، وعلى هذا: يكون وكيلاً بالخصومة كما أنه وكيلٌ بالقبض

‌‌من المسائل المتعلقة بتصرفات الوكيل تصرفه في القبض من الشخص ومن ورثته

قال رحمه الله: [و (اقبض حقي من زيد) لا يقبض من ورثته إلا أن يقول (الذي قبله)].
هذا كله -مثل ما ذكرنا- مسائل تتعلق بالتصرفات: (اقبض حقي من زيدٍ لا يقبض من ورثته إلا أن يقول الذي قبله)، عندنا لفظان: اللفظ الأول: (اقبض حقي من زيد).
اللفظ الثاني: (اقبض حقي الذي قِبل زيدٍ).
بالنسبة لقوله: (اقبض حقي من زيد)، هذا اللفظ إذنٌ بالقبض من زيدٍ بعينه؛ لأنه سمى وحدد، فلو أن زيداً مات فإنه ليس من حقه أن يطالب الورثة؛ لأنه أُمِرَ بالقبض من عين زيدٍ، وإذا أمر بالقبض من عين زيد فإن هذا لا يستلزم القبض من الورثة وإنما يحتاج إلى إذنٍ آخر أو إذن عام يدل على أن المراد قبض الحق بغض النظر عن كونه من الميت أو من ورثته.
فقال رحمه الله: (واقبض حقي من زيد): نحن نبهنا غير مرة أن العلماء رحمهم الله يذكرون أمثلةً وألفاظاً لا يقصدون المثال واللفظ، إنما يقصدون الأصل، فهو حينما قال لك: (اقبض حقي من زيد)، فهذا تعيين، فالأصل أن الوكالة إذا عُيّن فيها التصرف وتعلق بشخصٍ معين أو بصفةٍ معينة أو بحالة معينة أو بزمانٍ معين وجب أن تتقيد الوكالة بذلك، وعلى هذا: لو قال له: اقبض حقي من زيدٍ، فمعناه: أنه يقبض من زيد ولا يقبض من غيره، فلو مات زيدٌ لا يستحق أن يطالب ورثته.
وإذا قال: (اقبض حقي الذي قبله) يعني: عنده، والحق الذي عند زيد، فلم يعين القبض من زيد، إنما قال: اقبض حقي الذي قبله، والحق الذي عنده ولم يقل: من زيدٍ، وإنما قال: اقبض حقي الذي قِبل زيد، فلم يكن القبض معيناً فيه زيد، وبناءً على ذلك قُصد منه قبض الحق.
الصورة الثانية: في قوله: (الذي قبله)، وقبل الشيء ناحيته وجهته، فالمراد من هذا: أنه قال له في اللفظ الثاني: (اقبض حقي الذي قبل زيد) أي: قصد إبراء ذمة زيد، فيستوي في ذلك أن يقبض من زيد أو يقبض من ورثة زيد بعد موته
‌‌حكم تضمين وكيل الوديعة
قال رحمه الله: [ولا يضمن وكيل الإيداع إذا لم يُشهد].
يعني: من وُكّل في وديعة، فإنه إذا دفعها وقال له: خذ هذه المائة الألف اذهب وأعطها صالحاً يجعلها عنده وديعة، فنحن ذكرنا أن هذه كلها تصرفات الوكيل، فإذا قال له: خذ هذا المال وأعطه صالحاً وديعةً عنده، فإنه من حيث الظاهر أن تصرفات الوكيل يحتاط فيها، والوكيل إذا لم يحتط فيما ينبغي فيه الاحتياط يضمن، وبناءً على ذلك يرد

‌‌السؤال
هل يضمن في كل وكالة أو يضمن في وكالات أخرى؟ قال العلماء: هذا يختلف بحسب اختلاف الموكل فيه، كالوكالة في الوديعة، والوديعة مأخوذة من الودع، وأصل الودع الترك، يقال: ودعه، إذا تركه، ومنه قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] يعني: ما تركك وما هجرك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات -يعني تركهم للجمعات- أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) نسأل الله السلامة والعافية.
فالمقصود: أن الودع هو الترك، وسميت الوديعة وديعة؛ لأنك إذا أعطيت شيئاً إلى شخصٍ وديعة عنده فينبغي أن يترك المال بعينه ولا يتصرف في ذلك المال، وإذا طلبته في أي وقتٍ مكنك منه، فيترك المال دون أن يتصرف فيه ودون أن تمتد يده إليه، حتى قال بعض العلماء: لو كان المال في كيس فلا يجوز أن يفك رباطه، وإذا فك رباطه خرجت الوديعة إلى الضمان، وهذا لو فك الرباط فقط، فضلاً عن كونه يتصرف فإنه يضمن، فقالوا: لو جاء شخص مثلاً وأعطاك مائة ألف وقال لك: يا فلان! هذه مائة ألف وديعة عندك، فالواجب والمطالب به شرعاً أن تأخذ هذه الألف بعينها خمسمائة، مئات، خمسينات، عشرات، ريالات، تأخذها، وتحفظها بعينها دون أن تتصرف فيها، ودون أن تغير أو تبدل في ذلك المال بعينه، هذا أصل الوديعة؛ ولذلك بينا هذا وقررناه في مسائل الودائع المصرفية، وبينا ضوابط الوديعة، وكيف خرجت الوديعة من يد الأمانة إلى يد الضمان لفوات هذا الأصل، فالأصل في الوديعة الحفظ، لكن هذه الوديعة الضمان فيها ضيق، ويد المودع -وهو الشخص الذي تضع عنده المال- يد أمانة ولا يضمن، وسيأتي تقرير هذه المسألة وفيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، فإذا كانت يده يد أمانة فمعنى ذلك: أنه سواء أشهدت أو لم تشهد فليس هناك كبير فائدة؛ ولذلك قالوا: إنه إذا أعطى الوكيل المال لكي يضعه عند شخصٍ ما وديعةً، فإن المودَع لو أنكر الوديعة لم يستطع أحد أن يطالبه، فليس هناك شيء يدل على الوديعة؛ ولذلك يقولون: إن إذن الموكل بدفع المال وديعةً عند شخصٍ آخر يستلزم أن تكون يده يد أمانة، فقد رضيه أميناً، وإذا رضيه أميناً فيد الوكيل خرجت.
بعبارةٍ أخرى: الآن عندنا صالح، وعندنا وكيل وموكل، الوكيل عنده خمسون ألف ريال مثلاً، فقال الموكل لوكيله: خذ هذه الخمسين ألفاً وأعطها صالحاً وديعةً عنده، فصار عندنا موكِّل، وعندنا موكَّل، وعندنا مودَع، فالموكِّل صاحب المال، والوكيل هو الشخص الذي ينقل الخمسين إلى صالح، والمودَع هو صالح، فحينما اختار الموكِّل صالحاً من أجل أن يودع عنده المال فقد رضي أمانته، وحينما اختار الوكيل لحملٍ المال فالوكيل أمين، ولا يضمن، فحينئذٍ كأنه رضي الطرفين.
وبناءً على ذلك: انتقال المال من الوكيل إلى المودع لم يحدث شيئاً جديداً، بحيث إنه انتقل من يد إلى يد، لم ينتقل من يد ضمان، ولا من يد ضمان إلى يد أمان، فاليد هي واحدة، فهو ينقل بين شخصين رضي أمانتهما، وبناءً على ذلك: لو لم يشهد هذا الوكيل فنقول: إنه لم يفرط؛ فالتفريط وقع ممن وكله؛ فالذي وكله رضي هذا الشخص من أجل أن يحفظ المال، ورضيه أيضاً لأمانته فحينئذٍ لنا الظاهر؛ لأنه مقر بأنه أمين بدليل أنه دفع المال إليه، فالأصل أنه سيقوم بالأمانة ويؤديها على الوجه المطلوب، فإذا قال: دفعت إليه ولم يشهد، فأنكر صالح الخمسين ألفاً، وقد علم الموكِّل أن الوكيل أوصلها، فأنكر صالح، فيرد السؤال، كان المفروض أن يحتاط الوكيل ويشهد على الأصل الذي قررناه أن الوكالة تستلزم الاحتياط، قالوا: لا يضمن الوكيل في هذه الحالة؛ لأن إذن الموكِّل بطرح المال أو دفعه إلى المودع وهو صالح يدل على رضاه بالأمانة؛ ولذلك لا يضمن، وسيأتي -إن شاء الله- بيان كون الوديعة يدها يد أمانة في باب الوديعة

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 17-08-2024, 07:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,847
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

‌‌الأسئلة
‌‌مسألة (ضع وتعجل) في الديون والتقسيط


‌‌السؤال
إذا قال صاحب الدين للمدين: إن عجلت في دفع الدين نقصت عنك كذا، فما الحكم إذا كان هذا الاتفاق في مجلس العقد أو بعده؟


‌‌الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: إذا قال صاحب الدين للشخص المديون: عجل بالمال أسقط عنك نصفه، أو أعطاه مائة ألف وقال له: إن دفعت لي تسعين ألفاً سامحتك في عشرة آلاف، وكان هذا قبل حلول الأجل، فذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله إلى جواز ذلك في الأصول، وبه أفتى حَبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، واختار هذا القول جمعٌ من المحققين كالإمام ابن قدامة كما نص عليه في المغني وغيره، أنه يجوز أن يُسقط رب المال جزءاً من الدين ويتعجل الدين، وقد ثبت ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حينما أجلى بني قريظة فإنهم قالوا: يا محمد! أموالنا عند أصحابك فقال عليه الصلاة والسلام: (ضعوا وتعجلوا) فدل هذا على مشروعية (ضَع وتعجل) في هذه الصفة أنها مستثناة.
الحالة الثانية: وهي أن يكون البيع بالتقسيط، وتتركب الزيادة بالأجل، فيقول له: هذه السيارة على سنتين ثم يأخذها، وتكون هناك زيادة بقدر خمسة آلاف ريال مقابل السنتين، فيأتي عند نهاية السنة الأولى ويقول له: عجل وأسقط عنك ربح السنة الثانية هذا لا يجوز؛ لأنه من (ضع وتعجل) على الأصل الذي ورد به دين الجاهلية، وكانت الديون المستفادة مركبة بالآجال، ولذلك لا يجوز في بيع التقسيط؛ لأن المسامحة هنا مقابل الأجل، ولكن هناك في الأصل يجوز له أن يخلي يده من أصل المال فجاز له أن يسامحه عن كله أو بعضه، وتوضيح ذلك أكثر: أنه حينما يكون أصل المال الذي لك على المديون مائة ألف ريال، فإن من حقك أن تسامحه في المائة كلها، ويجوز لك أن تسامحه عن بعضها، فأنت إذا قلت له: عجّل التسعين ألفاً وأسامحك بالعشرة، فقد أسقطت شيئاً من مالك؛ لأن الديون تستحق بالأصل، وقد بينا هذا في باب القرض، وفي هذه الحالة حينما تكون المائة ألف كلها ملكاً لك، لم يكن شيء من المائة مركباً على أجل، بخلاف بيع التقسيط، فبيع التقسيط حينما قسط على سنة زاد زيادة متعلقة بالسنة وقسط على سنتين فزاد زيادةً تناسب السنتين، فحينما يأتيه في أثناء دفع الأقساط ويقول له: عجّل وأسقط على الشرطية، أو يأتي من اشترى السيارة ويقول لصاحب المعرض: ضع عني وأعطيك الآن كذا، فإنه لا يجوز؛ لأنه مركب على ديون الجاهلية، فصار الإسقاط تمحض مقابل الأجل، فأصبحت الشبه هنا أنه مقابل الأجل في شبهة الدين المعروف في دين الجاهلية، (ضع وتعجل وزد وتأجل).
على العموم: إذا كان أصل المال كله مستحقاً لك جاز لك الإسقاط، وأما في مسائل الديون التي تتركب فيه الزيادة مقابل الأجل فيحظر فيها الإسقاط، والله تعالى أعلم
‌‌إذا تلفت السلعة قبل القبض أو بعده في حال اشتراط النقل

‌‌السؤال
إذا اشترط البائع حملان الدابة إلى موضع كذا، أو اشترط حملان السلعة فتلفت هل يضمنها البائع؟


‌‌الجواب
المسألة الأولى: وهي مسألة النقص مقابل التعجيل، قلنا: إنه في حال التقسيط وفي حال الأجل لا يجوز، ويجوز إذا كان بعد القبض، فمثلاً: كنت تعطي صاحب المعرض أقساطاً، وبقي لصاحب المعرض من الأقساط ما يقارب خمسين ألفاً، إذا مكنته من الخمسين دون شرط ودون وعد وقبض الخمسين ثم قال لك: أنا متنازل عن خمسة فلا بأس بعد قبضه؛ لأنه يجوز بالعطاء ومحض الفضل ما لا يجوز بالشرط كما ذكرنا في الزيادة على الديون، إذا لم تكن على سبيل الشرط عند القضاء، والأصل في ذلك حديث أنس في الصحيحين: (إن خير الناس أحسنهم قضاءً) وقد قال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأ سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) فسمحاً إذا اقتضى يعني: إذا أخذ، فإذا سامحه بدون شرطية وبعد القبض جاز، لكن أن يشترط في قبض المال أن يسامحه لا يجوز.
أما المسألة الثانية وهي: إذا اشترى دابة، واشترط حملانها إلى موضعٍ معين، هذا فيه تفصيل: إذا اشتريت سلعةً واشترطت من صاحب المحل أن يحملها إلى موضع معين، فهذه مسألة البيع والشرط، وقد بينا هذه المسألة: مسألة البيع والشرط، والبيع والشرطين، وذكرنا خلاف العلماء في مسألة الشرط والشرطين، فعلى القول بجواز هذه الصورة وهي أن تشتري وتشترط -مثل ما يسمى الآن: التوصيل للمنزل- فلو أن هذه السلعة التي اشتريتها كالطعام وضعت في السيارة، ثم لما وصلت إلى بيتك وصلت تالفة كزجاج انكسر أو طعام فسد أو نحو ذلك، هذا فيه تفصيل: إن كانت قيادة السيارة والوسيلة التي تحمل هذا الشيء فيها تخريب فيضمن السائق، مثلاً: لو أن قائد السيارة يقودها بسرعة حتى تكسر الزجاج، هذا واضح أنه فرط فيضمن في هذه الحالة.
الحالة الثانية: أن يكون قائد السيارة لم يفرط، وهذا الأمر جاء بآفة سماوية ليست بيده، وهذا يشمل جميع ما يمكن أن يقال في الإجارات، حتى لو أنك أرسلت سيارة من مكة إلى المدينة تحمل لك -مثلاً- إسمنت، فمشت السيارة ثم أصابتها السماء والمطر، وفسد الإسمنت بهذا الماء الذي أصابه، فما الحكم؟ إذا كان النقل جرى العرف فيه بأمور يتحفظ فيها السائق والناقل، فالمسئولية مسئولية الناقل إذا فرط، فإذا جرى العرف أن هذه السلعة تغطى بالغطاء ولم يغطه فحينئذٍ يضمن، ويكون الضمان على السائق، لكن لو أن هذه الآفة والتلف حصل بدون تفريط، يعني: لم يفرط واحتاط السائق، ووقعت آفة سماوية أتلفت هذا الشيء، مثال ذلك: لو اشتريت بهائم، ووضعت في سيارة ماء، فلما وصلت إليك إذا نصفها ميت، وأثبت الطبيب البيطري: أنه ما في تعد، إنما ماتت قضاءً وقدراً، فهل البهائم يضمنها البائع؛ لأنها لم تصل إلى المشتري، أو يضمنها المشتري لأنه أمر بحملها؟ هذا فيه تفصيل: إن قبضت البهائم -وهذا ذكرناه في البيوع- وخلا البائع المشتري بينه وبين البهائم، فجاء المشتري بالسيارة وتعاقد معه، وحملت على ضمانه، فحينئذٍ قد خليت مسئولية البائع بخروجها من الزريبة أو من المستودع إذا كانت مبيعات متعلقة بالمستودعات ونحوها، فتبرأ ذمة البائع بإخراجها من المستودع لما قبضها المشتري، لكن إذا لم يحصل القبض وقال البائع للمشتري: نحن نوصل هذا الشيء إلى بيتك، أو لا يهمك إلا والشيء قد وصل إلى بيتك، أو نحن نتكفل بتوصيله، فيد المشتري لم تنتقل السلعة إليها، وحينئذٍ يضمن البائع ولا يضمن المشتري؛ لأن السلعة المباعة لا تضمن في هذه الصورة إلا إذا قبض المشتري، ومن أمثلة ذلك: لو أنك دخلت إلى بقالة فوجدت فيها -مثلاً- علبة من الزجاج قلت: بكم هذه العلبة؟ قال بخمسة ريالات، قلت له أنزل لي واحدةً منها أو أنزل لي هذه، فأخذها البائع لينزلها فانكسرت، من الذي يضمن؟ البائع؛ لأنك لم تقبض السلعة بعد، والضمان في المبيعات قلنا: شرطه القبض، أو ما في حكم القبض من التخلية على حسب ما يجري به العرف في المبيعات، وقد قررنا هذه المسائل.
وعلى العموم: يفرق في حكم هذه المسألة بين كون المشتري قد قبض المبيع أو لم يقبض، فإن كان قد قبض المبيع انتقل الضمان إليه، وإن لم يقبضه فإن الضمان باق على البائع، والله تعالى أعلم
‌‌ضبط العلم مطلوب قبل الدعوة إلى الله

‌‌السؤال
كيف يكون السير في أمور الدعوة إلى الله لطالب العلم؟


‌‌الجواب
هناك جانبان ينبغي التنبيه عليهما: الجانب الأول: يتعلق بشخصية طالب العلم، والداعية إلى الله عز وجل، والجانب الثاني: يتعلق بالقيام بمسئولية الدعوة، والجانب الثاني -وهو الدعوة إلى الله- مفتقر بإجماع العلماء إلى الجانب الأول، ولا يمكن أن يؤمر بالدعوة إلى الله إن كان جاهلاً، وقد أشار الله إلى هذا الأصل في قوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فأثبت سبحانه أن الدعوة تكون بعد العلم والبصيرة، وكذلك قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57]، والبينة من البيان والوضوح أي: ما يتبين به الشيء ويتضح به الأمر، وعلى هذا: فلا بد لمن يدعو إلى الله أن يكون على بصيرة وعلم ونورٍ يفرق به بين الحق والباطل والصواب والخطأ، حتى يخرج إلى الناس وأرضيته ثابتة ويكون هادياً مهدياً؛ فإن استعجل وخرج للناس قبل العلم والبصيرة والنور من الله ضل وأضل، وكان -والعياذ بالله- ممن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا، وكم من أمم ضلت وشقيت وبليت بسبب تقدم الجهّال وادعاء العلم من الأدعياء الذين لا بصيرة عندهم! فعلى طالب العلم أن يعلم أن الله لم يكلفه الدعوة إلا بعد العلم: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] هذا النفير من أجل العلم والدعوة إلى العلم فقال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] فجعل النذارة والقيام برسالة الرسل مفتقراً إلى التفقه والتعلم، فلا يمكن لنا أن نقوم بالدعوة إلا بعد العلم.
فيبدأ أولاً: بطلب العلم والتأصيل لهذا الطلب، والتأصيل من جهة من يأخذ عنه العلم والتأصيل للعلم الذي يأخذه، والتأصيل للطريقة والكيفية التي يضبط بها هذا العلم، فإذا بنى علمه على أصل صحيح وكان هذا العلم موروثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخذه من العلماء العاملين الأئمة المهديين، الذين جمع الله لهم بين العلم والعمل، وبين الهداية والاهتداء، والصلاح والإصلاح؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيبارك له كما بارك لهم، ويكون علمه علم حق وبصيرة، وسينفعه الله في نفسه، وسينفع به عاجلاً وآجلاً.
ولذلك أول ما ينبغي أن نبحث في مسألة: هل الدعوة أولاً أو العلم؟ أن نقول: إن العلم هو الأساس والأصل، ونصوص الكتاب والسنة دالةٌ على ذلك، ولا يمكن أن يؤمر إنسانٌ بالدعوة إلى الله عز وجل حتى يكون على علم، لكن هناك ما يسمى بالأحوال المستثناة التي يقوم فيها الإنسان بالدعوة في حدود العلم الذي يتعلمه، وهذه المسألة أظنها هي المقصودة بالسؤال، وهي مسألة: هل لطالب العلم أن يشتغل أثناء طلب العلم بشيء من الدعوة؟ فالحقيقة من حيث الأصل والأفضل والأكمل والذي كان عليه العلماء رحمهم الله: أن طالب العلم ينبغي أن يركز كل تركيزه واهتمامه لطلب العلم، ولا يمنع هذا أنه إذا كان عليه فريضة أو وقف في موقف يحتاج إلى بيان الحق أو إحقاق الحق أو إبطال الباطل أن يتكلم، إنما المراد أن يجعل شغله ضبط العلم؛ لأنه سيخرج للأمة بخيرٍ أكثر مما لو استعجل، ولذلك وجدنا من طلاب العلم من فرغ نفسه لطلب العلم إبان طلبه للعلم، فلما خرج للأمة وضع الله له من القبول ما تدارك به أزمنة كان قد احتبسها وادخرها لطلب العلم، فقد تجد طالب العلم ينحصر ثلاث سنوات في علمٍ يتقنه ويقوم بحقوقه على أتم الوجوه فينفعه الله عشرات السنين بهذا العلم، ويبقى إماما مهديا، ويضع الله له القبول؛ لأن كل من أنصت إليه وكل من نظر إلى علمه وجد فيه الأمانة، ووجد فيه الضبط والإتقان فأحب هذا العلم، ونجد من ثمرات هذه المحبة ما يعود بالخير على الأفراد والمجتمعات، فإذا نُظر إلى مسألة انحصار طالب العلم وعدم استعجاله بالخروج نجد أن ذلك يفضل بكثير ما لو استعجل.
ثانياً: أنه إذا استعجل ربما استزله الشيطان، ولربما وقف في مواقف لا يستطيع فيها أن يقف عما لا علم له -نسأل الله السلامة والعافية- فلربما أفتى بغير علم، ولذلك يهلك بالاستعجال، ولذلك قال العلماء: إن الغالب في طالب العلم إذا استعجل أن يصاب بفتنة الظهور، كما قال الإمام الشافعي إذا تصدر الحدث افتتن، وقالوا في حكمتهم المشهورة: (حب الظهور قَصَم الظهور)، فإذا استعجل وظهر للناس كلما تكلم أو تعلم كلمتين أحب أن يقف فيها أمام الناس، أو كلما تعلم شيئاً قليلاً في علم أخذ يرد على الأئمة والكبار، وأخذ يقوم في المساجد والمجالس، ويتعقب هذا، ويرد على هذا، ويخطئ هذا، حتى -نسأل الله السلامة والعافية- يبتليه الله بفتنة قد تكون سبباً في هلاكه وحرمانه من الخير في دينه ودنياه وآخرته، وسنة الله معلومة في مثل هذا، فطالب العلم عليه أن يتحفظ، ولذلك الذي أوصي به ضبط العلم ما أمكن، ليس معنى قولنا: إنه لا ينشغل بالدعوة أن هذا منع أو تحريم للدعوة، لا.
إنما المراد الأفضل، إلا أن بعض مشايخنا رحمةُ الله عليهم وبعض العلماء المعاصرين يرى أن هذا الزمان اختلف عن أزمنة السلف، وأن الناس بحاجة إلى كل طالب علم، وأن الحاجة ماسةٌ جداً فقال: صحيح أن هدي السلف ضبط العلم أولاً ثم الدعوة، ولكن هذه الأزمنة تستلزم أن يوجد طلاب العلم وأن يوجد الدعاة أكثر، والمسألة فيها اجتهاد، لكن من حيث الأصل لا شك أن الناظر إلى حال السلف والناظر إلى حال الأئمة يجد أنهم ما خرجوا للناس إلا على بصيرة، ولا خرجوا إلا على علم وحقيقة تامة، وإذا كان بينك وبين الله إخلاص وكان بينك وبين الله ورع أن تقف قبل الدعوة وتضبط العلم خوفاً من أن يستزلك الشيطان، فاحتبست لطلب العلم، وصبرت على مجالس العلم وصابرت، فوالله لن تموت حتى يقر الله عينك بفتح منه عاجلٍ أو آجل بهذا العلم، وهذا أمر كان مشايخنا رحمة الله عليهم يوصون به أننا لا نستعجل، ويعلم الله كم رأينا من الأقران ممن يحب أن يتكلم ويلقي الكلمات ويتقدم في المجالس حتى جاء الزمان الذي رأيناهم فيه دون ذلك بكثير، ورأينا من صبر فوقهم بكثير، وهذا لا شك كثيراً ما يكون مبنياً على الورع والخوف من الله عز وجل، وحينئذٍ ننبه على مسألة وهي: أننا إذا رأينا طالب علم تخصص في طلب العلم فينبغي أن لا نشوش عليه، فبعض طلاب العلم خاصة في مثل هذه القضايا الفكرية يضيقون فيها، ويكثر فيها الأخذ والرد، وأيضاً يكثر فيها الجدال والنقاش، فهذا يخطئ هذا، وهذا يصوب نفسه ويخطئ غيره، ينبغي أن نعلم أن مثل هذه المسائل اجتهادية، وأن طلاب العلم لم يبلغوا درجات الاجتهاد في مثل هذه المسائل، فعليهم أن يسمعوا من العلماء، فمن اقتنع بقول عالم يقدم الدعوة هو مأجور -إن شاء الله- غير مأزور، ومن اقتنع بقول عالم يقول: اضبط العلم، وأعطه حقه، والله يتولى أمرك في دعوتك بعد أن تضبط، ويشهد لك العلماء أنك أهل للفتوى والتعليم، فإذا ترجح عنده هذا القول فهو على خير مأجور غير مأزور، ولا ينبغي أن يثرب أحدٌ من الطائفتين، ولكن نسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا، وأن يرزقنا الإخلاص، فوالله ما كان الإخلاص في قليلٍ إلا كثره، ولا كان في أمر إلا باركه، وليس هذا مانعاً أن يكون لطالب العلم نوع من النفع لعباد الله، فمثلاً: لو أنه كانت له كلمة أسبوعية أو جهد منحصر بسيط جداً في الدعوة يعني: بحيث يكون فيه نفع كثير فهذا لا بأس به، لا بأس أن يكون ذلك، شريطة أن يكون الأصل هو طلب العلم، وأن يجعل هذا بمثابة التنويع الذي يقويه ويقوي عزيمته على طلب العلم، ولعله -إن شاء الله- أن يجد من صالح الدعوات من المؤمنين والمؤمنات ما يكون سبباً في رفعة الدرجات له في الحياة وبعد الممات، فإن تذكير الناس بالله ووعظهم ودلالتهم على الخير من أحب الطاعات، وأفضل القربات، وفيه خير كثير للإنسان، وكم ينتفع الإنسان بدعوات المسلمين له بظاهر الغيب، والحب له في الله، والذكرٍ له بالجميل، إلى غير ذلك مما جعله الله من عاجل البشرى في هذا العلم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما نتعلم ونعلّم، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يعفو عنا فيما كان من الزلل والخلل إنه المرجو والأمل، والله تعالى أعلم
‌‌المراد بقوله تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ)

‌‌السؤال
ما هو المراد بقوله تعالى في كفارة اليمين في قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89]؟


‌‌الجواب
{ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89] اختلف فيه: من العلماء من يقول: الأمر راجع إلى المكفّر وهو الذي حلف اليمين فينظر إلى أوسط طعامه، فإن كان من الأغنياء نظر إلى أوسط طعامه في غناه، وإن كان من الفقراء نظر إلى أوسط طعامه في فقره، فيخرج على قدر وسعه.
ومنهم من قال: المراد به العرف، أي: من أوسط الطعام في أعرافكم؛ ولذلك جاء بصيغة الجمع: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) والفرق بين القولين: أنه على القول الأول يمكن للغني أن ينظر أوسط ما يكون له في الغنى ويكون الوسط هذا للغني أرفع ما يكون في بيئته، مثال ذلك: لو أن غنياً حلف اليمين فحنث في بيئةٍ فقيرة، أوسط طعام فيها بخمسين ريالاً، لكن بالنسبة له هو أوسط الطعام بمائتين، فحينئذٍ يكفر بالمائتين ويطعم طعام المائتين؛ لأنه هو المخاطب على القول الأول، والعبرة به من أوسط طعامه، ويكسو الفقراء والمساكين من أوسط كسوته لا من أوسط كسوة العرف، وعلى هذا القول: يعتبر التحديد للشخص نفسه، والعكس بالعكس، فلو كانت العبرة بالعرف وكان العرف أوسط الكسوة فيه بمائة ريال وهو غني، وأوسط كسوته ربما بخمسمائة ريال، فإن قلنا: العبرة به أخرج كسوة بخمسمائة، وإن قلنا العبرة بالعرف أخرج كسوة بمائة، والعرف من أقوى ما يكون في هذه المسألة؛ لأن المراد به: من أوسط ما يطعم في عرف الحالف فيخرج من أوسط الطعام، وهذا يختلف من مدينة إلى مدينة ومن قريةٍ إلى أخرى فيكفر على حسب حال عرفه في الوسط سواءً كان طعاماً أو كسوةً، والله تعالى أعلم
‌‌شبهة الرضاع المجهول عدده

‌‌السؤال
امرأة رضعت من أمي ولكن لا أعلم عدد الرضعات وأنا أجلس معها على كونها أختاً لي فما الحكم في ذلك؟


‌‌الجواب
إذا علمت الرضاعة وجُهل عددها -عند من يعتد بالعدد- فإن اليقين لا يزال بالشك، فعندنا قاعدة تقول: (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، فإذا رضعت صبية من امرأة فإن الأصل أنها أجنبية عن أولادها حتى تثبت الرضاعة التي توجب المحرمية، فإذا كان عدد الرضعات لم يتحقق أنها خمس رضعات معلومات مشبعات فإنه حينئذٍ يحكم بكونها أجنبية، وعلى هذا: لا يحكم بالرضاعة ولا تثبت، هذا هو الأصل، وهو المعتبر والمعتمد في قول من قال بالتحديد في مذاهب الشافعية والحنابلة رحمهم الله ومن وافقهم؛ لكن هناك من أهل العلم من يقول: في الرضاعة جانبان: الجانب الأول: كونك تجلس معها كأختٍ لك.
الجانب الثاني: حل زواجها وأنها أجنبية، فقالوا: إذا جئنا ننظر إلى المحرمية نأخذ بالأحوط أنها أجنبية، وإذا جئنا ننظر إلى الزواج منها نأخذ بالأحوط أنها حرامٌ عليه، وهذا مبني على حديث: (كيف وقد قيل؟)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟) صيغة تمريض اقتضت الاحتياط في المحرمية ولذلك قالوا: إنه يتقي نكاحها لخوف أن تكون أختاً من الرضاعة، وتغليظاً لشبهة المحرمية، يتقي محرميتها لعدم ثبوت المحرمية والأصل أنها أجنبية، وهذا مما يتنازع في الشبهات، شبهة الحل وشبهة التحريم، ولذلك يقول بعض العلماء بهذا المذهب الوسط احتياطاً فيقول: لا يتزوجها لخوف أن تكون أختاً له، ولا يجلس معها؛ لأنه لم يثبت الرضاع المحرم.
أما على القول الأول: فهي ليست بأخته ويجوز له أن يتزوجها إذا قلنا: أن الرضاع لم يثبت؛ لكن في الحقيقة القول بالاحتياط طيب، وظاهر السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟) يقوي مثل هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كيف وقد قيل؟)، و (قيل): صيغة تمريض، ولذلك يقوى في مثل هذا الاحتياط، والله تعالى أعلم
‌‌متابعة المسبوق للإمام في سجدتي السهو

‌‌السؤال
ما الحكم إذا أدرك المأموم بعض الركعات فلما كبر الإمام للسهو أخطأ في فهم التكبير فقام ليتم صلاته؟


‌‌الجواب
إذا صلى المأموم وراء الإمام وأخطأ في فهم تكبير الإمام، فكبر الإمام لسجود السهو فظن أنه قد سلم فوقف، فالواجب عليه أن يرجع من وقوفه إلى السجود؛ لأن هذا الوقوف واقعٌ في غير موقعه؛ لأن الشرع لا يطالبه بالقيام إلا بعد سلام الإمام، وقد قام قبل سلام الإمام، فيجب عليه الرجوع؛ لأن القيام هذا غير مشروع وغير مأذون به شرعاً، فيلزم بالرجوع، ويتابع الإمام في سجدتي السهو، فإن ترك سجدتي السهو عمداً بعد علمه بأنه أخطأ في قيامه وتعمد ذلك فبعض العلماء يقول: إن كون سجدتي السهو واجباً من واجبات الصلاة يوجب بطلان صلاته؛ لأنه ترك الواجب وراء الإمام، أو أن انفراده في صلاته عمداً يوجب بطلان صلاته، فعلى هذا: إذا لم يرجع فإنه تكون صلاته باطلة.
وأما لو سها فقام ووقف واستمر يقرأ ساهياً عن سجود الإمام، كما لو كان خارج المسجد وظن أن الإمام يكبر على جنازة أو يكبر لسجود سهو بعدي، وأتم صلاته على هذا الوجه، فللعلماء وجهان: منهم من يقول: يقضي سجود السهو بعد المفارقة، ومنهم من يقول: لا يشرع قضاؤه وقد فات بفوات المتابعة، وإن قضاه فإنه أحوط وأقوى والله تعالى أعلم
‌‌توضيح حديث الذي دخل الجنة في شوك أزاحه عن طريق المسلمين

‌‌السؤال
حديث (إن الله يرحم من عباده الرحماء) هل يدل على أن من رحم الناس فقد استوجب رحمة الله ودخول الجنة كما في حديث الذي أزال الشوك من طريق المسلمين لا يؤذيهم فدخل الجنة؟


رحمة الله واسعة، وفضل الله عظيم، ومن ظن بالله خيراً فإن الله عز وجل يعطيه ما ظن به كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يقول: أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له)، وعلى هذا فحسن الظن بالله سببٌ في رحمة الرب لعبده وإحسانه إليه في الدنيا والآخرة؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70]، أما من حيث الاجتهاد وكون بعض الأعمال الصالحة توجب العظيم من رحمة الله فأولاً: الله يحكم ولا يعقب حكمه، الله يفعل ولا يسأل عما يفعل، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]، ولا يسأل عما يفعل ونحن المسئولون والمحاسبون، الله جل جلاله وتقدست أسماؤه يفعل ما يريد: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]، فالواجب على المسلم دائماً أن لا يسأل عما يكون منه سبحانه وتعالى، لكن أجاب بعض العلماء في قضية غصن الشوك، أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر عن الرجل أنه مرّ على غصن الشوك، فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم)، في الحديث أمر ينبغي أن ينتبه له -وبعض النصوص قد يقرؤها بعض طلاب العلم، أو يقرؤها من ليس عنده إلمامٌ بأصول الشريعة فيفهمها على ظاهرها، والواقع أنه ينبغي رد هذه النصوص إلى العلماء، وأن لا نجتهد في تفسيرها إلا بالرجوع إلى الأئمة الذين أعطوا أهلية النظر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله أمثال هؤلاء بالرسوخ، فأخبر أن من هناك من رسخ في العلم- فالحديث فيه: (والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم)، قال بعض العلماء: معناه: أن قلبه غيب الخير لعموم المسلمين، يعني: هناك أمر عقدي يرجع إلى القلب، وهناك أمر ظاهر وهو زحزحة الغصن من الطريق، فالذي زحزح الغصن لم يزحزحه خوفاً على رجل أو على رجلين، ولكن خوفاً على المسلمين، فأعطي أجراً عظيماً بالنية؛ لأن عنده الشعور بحب الخير للمسلمين، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الرجل لو بات وليس في قلبه غلٌ على مسلم دخل الجنة)، فكيف بمن قد انطوى قلبه وسريرته على دفع الضرر عن المسلمين؟! فهذا الشعور الإيماني نابع عن حب الخير للمسلمين، ولذلك كان العلماء يوصون بكثرة الدعاء للمسلمين، والترحم على أمواتهم، وحسن النية لعباد الله المسلمين، والشعور بأخوة الإسلام والترابط الذي أمرنا الله عز وجل أن نكون عليه بالألفة والمحبة والتناصر والتآزر، هذا هو الذي ترفع به الدرجات، وتعظم به الأجور، وتضاعف به الحسنات، فهذا الشعور الذي دعا العامل لهذا العمل اليسير جعله عظيما، وهذا معنى قول بعض السلف: (كم من عملٍ يسير عظمته النية) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان يقرض الناس، فقال لأعوانه: إذا رأيتم معسراً فتجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله، فقال الله عز وجل: نحن أحق وأولى بالعفو منه، تجاوزوا عن عبدي)، قالوا: لأنه من الممكن أن الشخص يسامح المديون من باب الشفقة والرحمة فهذا له منزلة، وممكن أن يسامح المديون من باب الشكر للنعمة؛ لأنه حينما أحس أن الله أغناه وأفقر غيره ونظر إلى نعمة الله عليه تذكر أيضاً قدرة الله عليه مع الغنى، فأصبح كأنه ليس بيده شيء فقال: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فأصبحت نيته صالحة موجبة لهذه العاقبة الحميدة، ولذلك ينبغي أن ينظر إلى النص بجميعه بما فيه من نية الباطن ودلالة الظاهر، وأما الفعل المجرد فإن الأفعال قد يفضل الله بعضها على بعض، وقد قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، فأفضل الأعمال وأحبها إلى الله أعمال القلوب التي تتصل بالعقيدة من التوحيد والإيمان ولوازم هذا الإيمان، فإن أعمال الجوارح لا تبلغ ما تبلغه هذه الأعمال كحب الله سبحانه، والإخلاص لله بالعبادة، وإفراده بالعبادة، وصدق اللجوء إليه بالرغبة والرهبة والخشية والخوف، فالإنسان إذا كان كثير الخوف من الله عز وجل والخشية له ربما أنه تمر عليه لحظة وهو يستشعر عظمة الله عليه فتفيض عيناه من الدمع، فيغفر الله بهذه الدمعة ذنوبه كلها، فالإنسان إذا أعانه الله سبحانه وتعالى ينبغي أن ينظر إلى فضائل الأعمال، وأن يختار منها أجمعها وأعظمها على الخير، وأما الرحمة التي سألت عنها (فإن الله يرحم من عباده الرحماء) رحمةُ الله ليس لها منتهى، ومن رحمته سبحانه: إذا أراد المسلم أن ينظر إلى عظيم رحمته فلينظر إلى ما في هذا الكون من رحمة الخلق بعضهم ببعض، فهو جزءٌ من مائة جزء من رحمة الله عز وجل، فإن الله عز وجل قسم الرحمة إلى مائة جزء، وأرسل للعباد جزءاً واحداً، وهذا الجزء هو الذي يراه الإنسان من رحمة الوالدة لولدها، ورحمة الوالد بولده، ورحمة الناس بعضهم ببعض، فإذا كان يوم القيامة جمع ذلك الجزء إلى ما عنده فرحم به خلقه سبحانه وتعالى، وأعظم ما يرحم الله به عبده العفو والمغفرة، فإنه من أعظم نعم الله عز وجل على العبد، أن يتلقاه بعفوه ومغفرته، خاصةً إذا تاب العبد إليه وأناب إليه سبحانه: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي) فالإنسان حينما يتذكر أنه يسيء ويظلم ويخطئ، ومن رحمته سبحانه وتعالى أنه ستر خطيئته وعيبه وفضيحته، وأعطاه الحول والقوة ومكنه، ومع ذلك: لو أذن للأرض أن تخسف به لانخسفت، ولو أذن للسماء لأرسلت قاصفاً من الريح فأهلكه، ولو شاء الله عز وجل أن يمسخه على مكانته فلا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا، لقدر الله على ذلك ولا يعجزه شيء، ولكن من رحمته سبحانه لم يفعل به ذلك كله، ثم إذا تاب وأناب ورجع إلى الله تلقاه الله بعفوه ومغفرته، فما أكرمه وما أحلمه وأرحمه! فيفرح بتوبته، والعبد أفقر ما يكون إليه، وهو سبحانه أغنى ما يكون عنه، سبحانه ما أرحمه، سبحانه ما أرحمه! فنسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحمنا برحمته الواسعة، اللهم إنا نسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلوبنا وتجمع بها شملنا، وتؤلف بها بين أرواحنا، اللهم إنا نسألك رحمةً تهدينا بها فلا نضل أبداً، وتصلح بها أحوالنا فلا تفسد أبدا، وتثبتنا بها على صراطك المستقيم، وسبيلك القويم يا أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 17-08-2024, 07:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,847
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (343)

صـــــ(1) إلى صــ(15)



شرح زاد المستقنع -‌‌ باب الوكالة [7]
المقصود من عقد الوكالة هو الإرفاق، ولهذا كانت يد الوكيل يد أمانة لا يد ضمان، فلا يضمن إلا في حال التفريط أو التعدي، ثم إن وكالته لا تقبل إلا ببينة، وهذا حفاظاً على الحقوق من الضياع وحتى لا يحصل النزاع بين الناس
‌‌بعض الأحكام المترتبة على الوكالة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد

‌‌يد الوكيل يد أمانة لا يد ضمان

فهذا الفصل عقده المصنف رحمه الله لبيان بعض الأحكام والآثار المترتبة على الوكالة، فقد توكل شخصاً لكي يدفع مالاً أو يحفظ طعاماً أو أي شيءٍ آخر يقوم به، ثم يأخذ ذلك الشيء منك ويتلف عنده قبل أن يقوم بأدائه إلى شخصٍ آخر.
فمثلاً: إذا أعطيته مالاً على أن يدفعه إلى زيد، فأخذ المال منك بالليل على أن يدفعه صباحاً، فسرق منه في الليل، أو جاءت آفة سماوية وأتلفت هذا المال، فالسؤال حينئذٍ: هل نقول: إن هذا الوكيل أخذ شيئاً ويجب عليه ضمانه حتى يؤديه؟ أو نقول: إنه رجلٌ متبرع، وصاحب فضلٍ وإحسان: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] وعقد الوكالة لا يستلزم تضمينه فنسقط الضمان عنه؟ أو نفصل ونقول: إذا كان قد فرط وتساهل أو تعدى على المال فإننا نضمنه، وإذا حفظ المال وقام بحقوق رعايته على الوجه المطلوب فإننا لا نضمنه؟ ومن أمثلة ذلك في عصرنا: لو أن رجلاً أعطى لآخر سيارةً يبيعها أو أعطاه سيارةً لكي يوصلها إلى شخصٍ آخر، وقال له: وكلتك أن تأخذ هذه السيارة وتعطيها إلى زيد أو إلى فلان، قال: قبلت: فأخذ مفاتيحها، ثم ركب هذه السيارة وأوصلها إلى منزله، فجاءت آفةٌ فأتلفتها أو أتلفت شيئاً فيها، أو أخذ السيارة وركبها وصار يقضي بها مصالحه إلى أن تعرض لحادثٍ أتلف السيارة أو أتلف جزءاً منها، أو أخذ السيارة من عندك وفي طريقه إلى بيته أصابها ضررٌ وعطل، ففي جميع هذه الصور كلها تسأل الناس: ما حكم هذا الوكيل؟ هل يجب عليه ضمان هذه الأعيان أو لا يجب عليه؟ هذا هو الذي يبحثه العلماء تحت مسألة: يد الوكيل هل هي يد أمانة أو يد ضمان؟ فعند العلماء: يدٌ تسمى يد الأمانة، ويدٌ تسمى يد الضمان، فإذا قلت: اليد يد أمانة، فإما أن يحصل منها تعدٍ أو يحصل منها تفريط، فإذا حصل منها التعدي أو حصل التفريط تقول: يجب عليها أن تضمن السلعة وأن تضمن المتاع والطعام والسيارة والأرض، ويجب عليها أن ترد ما أخذته على الوجه المطلوب، وإذا قلت: إن اليد يد ضمان فإنه يضمن سواءً فرط وتعدى أو لم يفرط.
وعلى هذا يرد السؤال في الوكيل: هل يده يد أمانة، أو يد ضمانة؟ قال بعض العلماء: يد الوكيل يد أمانة إلا إذا تعدت أو فرطت، وبناءً على هذا: فإننا لا نضمن الوكيل إلا في حالة التعدي أو في حالة التفريط، فعند أصحاب هذا القول: اليد يد أمانة من الوكيل مطلقاً، سواءً كانت الوكالة بعوض أو بدون عوض، والوكالة بعوض سبق وأن ذكرناها، مثل أن تقول لشخص: خذ سيارتي وأعطها فلاناً، أو وكلتك سيارتي هذه أن تبيعها بعشرة آلاف ولك ألف أو مائة أو خمسمائة، فهذه وكالة بجعل، وحينئذٍ يكون الوكيل وكيلاً في مقابل مالٍ أو منفعةٍ يأخذها.
فبعض العلماء يقول: الوكيل أمين مطلقاً، سواءً كانت الوكالة بعوض أو بدون عوض.
وبعض العلماء يقول: الوكيل يعتبر أميناً إلا إذا كانت الوكالة بجعل، فإذا كان يأخذ أجرة على وكالته كالمحامي أو نحو ذلك فهذا يده يد ضمان وليست بيد أمانة، فيد الضمان توجب أن يضمن الشيء، بغض النظر عن كونه فرط أو لم يفرط، فالشيء الذي يأخذه يرده حتى ولو غصبه الغاصب، كما لو ذهب بالسيارة ونزلت عليها آفة سماوية أو اجترفها السيل أو نهر بدون تعد وبدون تفريط منه نضمنه؛ لأنه حينما اعتدى وأخذها تحمل المسئولية، فيصبح ملزماً بردها بعينها، فإن تعذر العين وجب عليه رد المثل، وإن تعذر عليه رد المثل وجب عليه رد القيمة، فإذاً: يد الوكيل عند المصنف رحمه الله وطائفة من العلماء -وهو الصحيح- يد أمانة، لكن يضمن الوكيل إذا تعدى أو فرط.
فقال رحمه الله: [والوكيل أمين]، هذه الجملة تستلزم على الوكيل أموراً وعلى الموكل أيضاً أموراً، أما بالنسبة للأمور التي تتعلق بالوكيل إذا قلنا: إن الوكيل أمين: فالواجب عليه أن يحفظ الأمانة، ونحكم بكونه أميناً متى ما أدى وكالته على الصفة التي اتفق عليها، فإذا قيل له: خذ هذا المال وأده إلى فلان في العصر أو الظهر؛ فإنه أمين متى ما أخذه وحفظه بحفظه وحرزه، وأداه في الوقت المطلوب، فإن خرج عن هذه الحدود بتفريط أو بتعدٍ خرج عن الأمانة، ويعتبر في هذه الحالة متحملاً للمسئولية كما سنبين -إن شاء الله- مثال التعدي ومثال التفريط.
قال رحمه الله: (الوكيل أمين) بناءً على مسألة: (إن الوكيل أمين)، فإن الوكيل ينزل منزلة الموكل، والسبب أننا جعلنا الوكيل أميناً: أن الشخص إذا قال لآخر: خذ هذه السيارة أو خذ هذا الطعام وبعه أو أعطه لفلان فقد نزل الشخص منزلته وحينئذٍ إذا نزله منزلته، فإن الإنسان لا يضمن نفسه؛ لأنه من الناحية الفقهية أصبح الوكيل منزلاً منزلة الأصيل فلا يضمن، فلو أعطاه السيارة وقال له: اذهب بها إلى المعرض وبعها بعشرة آلاف، فكأنه نزل هذا الوكيل منزلة نفسه في بيع هذه السيارة بعشرة آلاف، فلو حصل تلف بآفة سماوية ليس في مقدور الوكيل أن يحفظ السيارة عنها، نقول: لا يضمن الوكيل؛ لأن الوكيل كالأصيل وكأنهما كالشيء الواحد، والإنسان لا يضمن نفسه، لكن حينما يتعدى الوكيل على السيارة فيأخذ فيها أولاده ويذهب يقضي بها حوائجه، أو يأخذ السيارة ويستخدمها استخداماً سيئاً، فالسيارة -مثلاً-: تحمل بطاقة معينة وحدود معينة، فحملها فوق طاقتها فتعدى، أو -مثلاً- أخذ السيارة وأوقفها في مكان معرض للحوادث فقد فرط، ففي هذه الحالة تقول: خرج الوكيل عن الأمانة وعن المعروف، فيتحمل المسئولية؛ لأنك حينما وكلته وكلتَه أن يقوم بهذا الأمر على المعروف، فإذا خرج عن المعروف فهو غير أمينٍ في خروجه عن المعروف المألوف، وعلى هذا قالوا: الوكيل أمين؛ لأنه مع موكله كالشيء الواحد، وضامنٌ إن خرج عن حدود الوكالة والمعروف

‌‌الحالة التي يضمن فيها الوكيل ما تلف بيده

قال رحمه الله: [لا يضمنُ ما تلف بيده بلا تفريط].
قوله: (لا يضمن) حينما قال: (الوكيل أمين) فتفسرها وتقول: الوكيل يده يد أمانة، لا يضمن ما بيده إلا إذا فرط أي: فينتقل من يد الأمانة إلى يد الضمان إذا فرط، وقلنا: الفرق بين يد الأمانة ويد الضمان يحدث في حالة حدوث شيء سماوي، أي: آفة سماوية مثل المطر، والسيل الجارف، والصواعق، فمثل هذه الكوارث إذا نزلت فليس في مقدور المكلف أن يدفعها، فإن قلت: اليد يد أمانة فلا تضمن في هذا الشيء، وإن قلت: اليد يد ضمان يضمن، فمثلاً: لو قال له: وكلتك أن تقوم على مزرعتي أو تقوم على هذا الحد فتحصده ثم تبيعه، فجاء إعصار فأحرق الحبوب، فيده يد أمانة لا يضمن شيئاً، إذ هذا قدرٌ من الله سبحانه وتعالى، وحينئذٍ لا يضمن؛ لأنه منزل منزلة من وكله، لكن لو كانت الحبوب قد آن حصدها فتأخر في حصادها أسبوعين، كان المفروض أن تُحصد وتوضع داخل المخازن وتحفظ، فجاءت الريح أو جاءت الآفة خلال الأسبوع أو الأسبوعين الذين تأخر فيهما؛ فحينئذٍ نقول: قد فرط بمجرد زيادته عن المدة المعروفة والحد المعروف فدخل في الضمان، وخرجت يده من يد الأمانة إلى يد الضمان، وعلى هذا نقول: إنه يضمن بهذا التفريط، فقرر رحمه الله: أن الوكيل أمين، ولا يضمن ما بيده إلا إذا فرط، والتفريط في الشيء هو: التساهل، والله عز وجل جعل الأشياء حقوقاً وجعل لها أقداراً، وإذا وضع المكلف الأشياء في حدودها وفي أقدارها دون أن يجاوز تلك الحدود ودون أن يقصر فإنه قد أولاها ما تستحقه، فإن قصر بها وأنزلها عن حقها فقد ضيع هذه الحقوق مثل ما ذكرنا: إذا أعطاه -مثلاً- طعاماً وقال له: أنت وكيلي، مثل العامل في المزرعة تقول له: وكلتك أن تأخذ هذا التمر وتبيعه في السوق، وهذا التمر من العادة يحفظ في المخازن بطريقة معينة، فهذا العامل إذا أخذ التمر وكان صاحب المزرعة عنده تلك المخازن وأمكنه أن يضعها في المخازن ولم يضعها فقد فرط، ومثلاً: لو أعطاه طعاماً في فصل شتاء ينبغي حفظه وتبريده، فقصر ولم يحفظه ولم يبرده حتى تلف الطعام فإنه قد فرط، ويلزم بعاقبة تفريطه.
أيضاً مثلاً: لو أعطاه سيارةً وقال له: هذه السيارة تأخذها وتبيعها، فأخذ السيارة وكان المفروض أن يدخلها أو يوقفها أمام بيته، فأخذها وأوقفها في مكان عُرضة للسرقة، فسرق من السيارة شيءٌ أو حتى سرقت السيارة كلها فإنه قد فرط، وهذه الأحوال كلها فيها تفريط.
وفي الشريعة أصل وقاعدة: أن المفرط يلزم بعاقبة تفريطه؛ لأن تساهله في الأمور وتعاطيها على غير الوجه المعروف يعتبر إخلالاً بالأمانة وإضاعةً للمسئولية، وكأنه قد تقحم ذلك الضرر على بصيرةٍ وبينة، ومن تقحم الضرر على بصيرة وبينة فقد رضي بكل ما ينجم عنه من ضرر، فيتحمل المسئولية، قال رحمه الله: (لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط).
المفروض أن يضاف إليها: (وتعدى)، يعني: إما أن يفرط وإما أن يتعدى، والتعدي: هو أشبه بالجناية على الشيء، أو مجاوزة الحدود التي ينبغي أن يتقيد بها الوكيل، فالآن -مثلاً- حينما يقول له: خذ السيارة وبعها غداً في المعرض، فأخذ السيارة وأخرها يومين فإنه في هذه الحالة قد تعدى بتأخيره عن الوقت المعتبر.
كذلك من التعدي أن يقول له: خذ السيارة وأوقفها في المعرض، فأخذها وقضى بها حوائجه فقد تعدى باستعمالها لحوائجه الخاصة.
فنحن الآن نمثل بأمثلة واقعية؛ لأننا وجدنا أن الأمثلة القديمة بمعزِل عن حياتنا، ولربما لا يستطيع السائل أن يفهم ما يلزمه في المسألة، فالآن -مثلاً- بعض العمال الشركة توكله بقيادة سيارة معينة لحمل المتاع بين بلدة وأخرى، وهذه السيارة طاقتها حمل ألف كيلو، فالعرف يقتضي أن يكون تحميله لها في حدود طن مثلاً، فحملها زيادةً على الطن، هذا تعدٍ.
لو كانت السيارة بطبيعتها، وقلت له: خذ السيارة واذهب بها إلى المدينة، وهذا مما جرى به العرف، ويعرف الإنسان: أن السيارة في منتصف الطريق إذا كان طويلاً، ينبغي أن يرفق بها، وأن يريحها، وإذا به قد سار بها مرةً واحدة حتى تلفت السيارة، كل هذه الصور وأمثالها تعتبر تعديات، كذلك البيت حينما تقول له: اسكن هذا البيت أو وكلتك هذا البيت أن تحفظ فيه المتاع أو هذا المخزن تضع فيه المتاع، والمخزن لو فرضنا أنه مكون من دورين، والدور الثاني يتحمل في حدود ألف كيلو الذي هو طن، فحمله ألفاً وزيادة، فهذا تعد، كل هذه الصور وأمثلتها سواءً كانت في السيارات أو العقارات أو المنقولات الأخر فإنها تعتبر من التعدي.
كذلك أيضاً: التفريط، كأن يكون الواجب على الإنسان أن يحفظ الشيء في حد، فينزله عن ذلك الحد، فمثلاً: لو قلت له: خذ هذا الكتاب واحفظه عندك وأعطني إياه غداً، أو وكلتك في حفظ هذه النقود على أن تأتيني بها غداً، فأخذ الكتاب ووضعه في غرفة فيها أطفال، فقام الأطفال بتمزيق الكتاب، فإن وضع الكتاب أمام الأطفال يعتبر تفريطاً؛ ولذلك قال العلماء: إن من وضع السلاح كالسكاكين ونحوها والآلات الحادة أمام أطفال فقتل الطفل نفسه، فإنه في هذه الحالة يعتبر مسئولاً عن هذا؛ لأنها سببية، وتعتبر هذه الصور من الصور السببية في القتل، وسيأتي -إن شاء الله بيانها- في باب الجنايات.
ومن التفريط أيضاً: أن تأتي المرأة وتضع طفلها، فتقول لجارتها: خذي هذا الطفل واحفظيه أو أرضعيه، وغداً أحضريه لي، فأخذت طفلها وتركته في مكان فيه خزان أو فيه حُفرة دون أن تستر، هذا تفريط؛ لأن الواجب أن تضع الطفل في مكانٍ يؤمن فيه الضرر، أو وضعته في جوار نار فاحترق، وهو طفل جاهل لا يستطيع أن يعرف مصالحه، هذه كلها صور عند العلماء من صور التفريط التي توجب الضمان، وتوجب تحمل المسئولية سواءً كان ذلك في الجنايات أو في الأعيان أو نحو ذلك من المسائل.
فقرر رحمه الله أن الوكيل لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط.
يقول بعض العلماء: ومن التعدي: التأخر في الأزمنة -كما ذكرنا- كأن يقول له: أحضر لي المال غداً، فيتأخر إلى بعد الغد، ففي الغد يكون أميناً، وبعد الغد صار ضامناً، فلو أن المال سرق في الغد يعني: قبل انتهاء الغد فإنه لا يضمن، ولو سرق بعد ذلك فإنه يضمن
‌‌أحوال اختلاف الموكل والوكيل في تلف ما وُكِّل فيه
قال رحمه الله تعالى: [ويقبل قوله في نفيه والهلاك مع يمينه].
ذكرنا أنه يضمن إذا تعدى وإذا فرط، لكن المشكلة: لو أن الوكيل والموكّل اختصما، مثلاً: السيارة تلفت، فقال صاحب السيارة: إن الوكيل فرط أو تعدى، وقال الوكيل: لم أفرط ولم أتعدَّ، فهل القاضي يقضي بأن الوكيل ضامن بناءً على قول موكله أم أنه غير ضامن بناءً على ما يدعيه من أنه لم يفرط، ولم يتعد؟ هذه المسألة تأتي على صور، فمثلاً: فرضنا أنك أعطيت سيارةً لرجل وأخذ هذه السيارة وتلفت في يده، وحينما تلفت السيارة قلت على حسب خبرتك ونظرك: السيارة لا تتلف هكذا، قال: بل إنها تلفت بآفةٍ سماوية قلت: لا، أو تلفت قدراً مثل أن تتعطل السيارة وقلت له: أبداً، أنت استعملت السيارة، ونظراً لأن استعمالك كان مخلاً تلفت، فأصبح قولك أنه ضامن وقوله: أنه أمين، فهل نصدقك أو نصدقه؟ هذا فيه تفصيل: من حيث الأصل حتى تتضح هذه الصورة يذكر العلماء رحمهم الله أن الوكيل إذا تلفت السلعة بيده، وادعى أنه لم يفرط ولم يتعد فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يقيم الشهود والدليل على أنه لم يتعد ولم يفرط، مثاله: لو أنك أعطيته سيارة وأخذ السيارة وأوقفها أمام منزله أو ذهب بها إلى المعرض مباشرةً، ثم جاءك صاحب المعرض من الغد وقال: السيارة التي أرسلتها معطلة، فاحضرت الوكيل وقلت له: يا فلان! السيارة معطلة، ما الذي عطل السيارة؟ قال لك: لا أعرف، السيارة أخذتها من عندك وأوقفتها في المعرض، قل له: أعطني شهوداً، قال: كان معي فلانٌ وفلان، وإذا باثنين كانا معه فقالوا: نعم، ساق السيارة سياقةً لا ضرر فيها، وأيضاً: حفظ السيارة إلى أن أوصلها للمعرض، فلم يتعد ولم يفرط، فحينئذٍ يصدق الوكيل ويده يد أمانة والضمان على صاحب السيارة.
إذاً: إذا قامت البينة التي تشهد بصدق الوكيل فلا إشكال.
الحالة الثانية: العكس، لو أن الوكيل قلت له: اذهب بالسيارة إلى المعرض قال: سمعاً وطاعة، فأخذ السيارة وذهب بها إلى منزله وأوقفها عند المنزل، وحصل الضرر في إيقافها عند المنزل، ثم من الغد ذهب بها إلى المعرض وهي مستضرة أو تالفة وأوقفها في المعرض، فجاء الشهود وأخبروك أنه فعل كذا وكذا، وتعدى بالسيارة؛ لأنه كان من المفروض أن يخرج من عندك إلى المعرض، فأخرجها إلى بيته فتعدى، وكان المفروض أن يوقفها في مكان أمين فأوقفها في مكان غير صالح، فاستضرت ففرط، فشهد الشهود من جيرانه أو شهد الشهود الذين رأوه أنه ذهب بها إلى منزله، وشهد رجلٌ أنه رآه أو شهد شهود أنهم رأوه في الموضع الفلاني في الليل مثلاً، فثبت عندك أنه قد تعدى أو فرط، فإذا قال: إنني لم أتعد ولم أفرط فهو كاذب، فتقيم الشهود عليه، ويجب الضمان في هذه الحالة، فالقاضي إذا قال له: هل تعديت؟ هل فرطت؟ قال: ما تعديت ولا فرطت، فأقام الموكل شهوده على أنه تعدى وفرط، فإنه يلزم بذلك ويجب عليه ضمان ما تلف من السيارة.
إذاً: عندنا صورتان في البينة: بينة تشهد بصدق الوكيل أنه لم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه، وبينةٌ تشهد بصدق الموكل أن الوكيل تعدى أو فرط فحينئذٍ يجب الضمان.
وإذا لم توجد بينة وليس هناك دليل في حكم البينة فيضمن الوكيل إذا أقر على نفسه أنه تعدى أو فرط، يسأله الموكل: هل تعديت في السيارة؟ قال: نعم حملتها فوق طاقتها، أخذت السيارة إلى خارج المدينة في زمان الحر أو في الظهر فاستضرت، أو نحو ذلك من التعديات، فحينئذٍ يحكم بكونه ضامناً، إذاً: إذا قامت البينة أو الاعتراف فإنه يضمن، والإقرار من البينات ويعتبر دليلاً؛ لكن ذكرناه كصورة.
الحالة الثانية: أن لا توجد بينة، امرأة قالت لرجل: خذ هذا الذهب وبعه لي بعشرة آلاف أو بعه بسعر السوق، فأخذ الذهب في الليل على أن يغدو من الصباح ويبيعه، فسرق هذا الذهب من منزله، لما سرق قالت له المرأة أو قال له موكله: هات الذهب الذي أخذته، قال: سرق مني، نقول: هل حفظته في مكان أمين؟ قال: نعم، وضعته في خزنتي أو في مكانٍ أمين، وجاء السارق وكسر الخزنة قهراً وأنا نائم، فهذا فيه شيء من الغلبة وهو لم يفرط؛ لأنه وضعها في خزنة، فإذا قال هذا، وادعى أنه لم يفرط ولم يتعد، فإن استوفت القرائن أو كنت تثق به وصدقه فلا إشكال، بأن يكون رجلاً أميناً وتعرفه في الأمانة، وأنه يقول الحق ولو كان على نفسه، فقال لك: يا فلان! أخذت الذهب منك ووضعته في صندوقي أو الخزنة وجاء السارق وكسر الخزنة والغرفة مقفلة فكسر بابها، المهم أن الوكيل لم يفرط، فصورة الحال تدل على أنه لم يفرط ولم يتعد، فإن صدقته فلا إشكال، وإن كذبته وقلت له: لا.
ما أصدقك، بل فرطت أو تعديت وأنت ضامنٌ لهذا الذهب والمال، فرّط كأن يكون وضع الذهب في مكان ليس بأمين، أو تعدى على الذهب فسرقه -والعياذ بالله- أو نحو ذلك، فإذا لم تصدقه فإن بعض العلماء يقول: يقبل قول الوكيل مطلقاً، يعني: إذا قلت له: إنه تعدى أو فرط فإنهما إذا اختصما عند القاضي وقال الموكل: إنني أعطيته الذهب لكي يبيعه في السوق ففرط فيه حتى سرق منه، فسأل القاضي الوكيل وقال له: هذا الذهب الذي أخذته من فلان حفظته أو ضيعته أو تعديتَ فيه أو فرطت؟ قال: حفظته حفظاً تاماً، ولم أتعد ولم أفرط، فالسؤال حينئذٍ: هل القاضي يحكم بقول الموكل أو يحكم بقول الوكيل؟ قال العلماء: يطالب القاضي الموكل بالبينة والشهود على أن الوكيل قد فرط أو تعدى، فإن لم يقم البينة وقال: ما عندي شهود يشهدون على أنه تعدى أو فرط نقول: القول قول الوكيل، ولذلك طالبنا الموكل بالبينة؛ لأننا نطالب بالبينة من قوله خلاف الأصل، وبناءً على ذلك: لا نطالب الوكيل بالضمان، والقول قول الوكيل.
فإذا كان القول قول الوكيل وقال الموكل: لا أصدقه، فحينئذٍ نقول للموكل: أحضرْ البينة، فإن عجز عن إحضار البينة قلنا للوكيل: احلف اليمين على أنك لم تتعد ولم تفرط؛ ولذلك يقول العلماء: القول قول الوكيل مع يمينه إن كذبه موكله.
فيقبل الوكيل في نفي التفريط والتعدي، فنحن نحكم بأنه لم يتعد ولم يفرط حتى يقوم الدليل على أنه تعدى أو فرط، وهذا مفرع على قاعدة في باب القضاء وستأتينا: (أن الأصل براءة المتهم حتى يقوم الدليل على إدانته)، وهذا ما يعبر عنه العلماء بالقاعدة المشهورة: (الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها)، فأنت إذا وكلت شخصاً ليقوم بأمرٍ، وحكمنا بكون الوكيل أميناً فلا نوجب على الوكيل الضمان، ولا نوجب على الوكيل تحمل المسئولية إلا إذا ثبت أنه فرط أو تعدى، فذمته خالية حتى يدل الدليل على أنها مشغولةٌ بالضمان.
(والهلاك مع يمينه).
يقبل قوله في نفي التعدي والتفريط ونفي الهلاك مع يمينه؛ لأن الأصل -كما ذكرنا- براءة ذمته حتى يدل الدليل على شغلها
‌‌دعوى الوكالة في قبض الحقوق وأحوالها
قال رحمه الله تعالى: [ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو لم يلزمه دفعه إن صدقه ولا اليمين إن كذبه].
هذه المسألة من مسائل الوكالة: لك على رجل عشرة آلاف ريال أخذها منك ديناً، ولنفرض أن اسمه: زيد، فزيدٌ مديون لك بعشرة آلاف، فوجئ زيد برجل اسمه خالد وقف عليه وقال له: أريد العشرة الآلاف التي لعمرو عليك، وكلَني أن آخذها منك، (ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو).
إذا ادعى شخص أنه وكيل لشخص في قبض مال أو قبض أي حق من الحقوق ف

‌‌السؤال
هل من حق هذا المديون أن يدفع المال إلى هذا الرجل الذي ادعى أنه وكيل؟ فرغ المصنف من أحكام الوكالة وآثارها، وشرع في مسألة دعوى الوكالة، فإذا ادعى شخصٌ أنه وكيلٌ عن شخص فلا يخلو من حالتين

‌‌دعوى الوكيل الوكالة مع وجود بينة الشهود

الحالة الأولى: أن يقيم الشهود، جاءك رجل وقال لك: العشرة الآلاف التي لزيد عليك وكلني أن أقبضها منك، قلت له: يا أخي! لا أعرفك وأحتاج إلى دليل، أو أثبت لي أن زيداً قد وكلك، فقال: فلانٌ وفلان يشهدان أن زيداً وكلني أن أقبض منك العشرة الآلاف فجيء بالشهود وشهدوا أن زيداً وكله، فالحكم حينئذٍ أنه يجب على المديون أن يدفع المبلغ للوكيل، وقد ثبتت الوكالة، ويحكم بها في مسألتين: في تقاضي الأفراد مع بعضهم، ويحكم بها في مجلس القضاء، فالقاضي إذا ثبت عنده بالشهود أن محمداً وكل زيداً في قبض حقه عند عمرو، فإنه يلزم عمراً بدفع ذلك المال والحق إلى الوكيل.
لكن لو ظهر في المستقبل أن هؤلاء الشهود كذبوا، وأنه غير صادقٍ، واغتر القاضي بظاهرهم وكانوا يعرفون بالعدالة والزهد على الظاهر، ثم تبين أنهم كذبوه، فإذا تبين كذبهم فإنهم يتحملون المسئولية عن الضرر الناتج عن هذه الوكالة المكذوبة.
فعندنا الحالة الأولى: أن يثبت عند القاضي أو يثبت عند المديون أن صاحب الحق قد وكّل، فالحكم أنه يجب دفع المال إلى الوكيل، ويجب العمل بهذه الوكالة؛ لأن صاحب الحق قد رضي بهذا الوكيل وأقامه مقامه، فاستحق أن يطالبه وأن يدفع المال إليه

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 17-08-2024, 07:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,847
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

‌‌دعوى الوكيل الوكالة دون بينة ولا دليل
الحالة الثانية: أن يدعي أن زيداً وكله في قبض حقه منك وليس عنده شهود ولا دليل، فإذا لم يكن عنده شهود ولا دليل فأنت على صور: الصورة الأولى: إما أن تثق في الرجل وتعرف أن الرجل صادق، أو تعرف أن زيداً دائماً يوكله وأنه وكيل عنده، مثلاً: حينما يأتيك العامل الذي يعمل عنده دائماً في محله ويوكله دائماً، وجرت العادة أنه يتولى أموره الخاصة، فعندك غلبة ظن أنه صادق، أو تعرف هذا الرجل الذي جاءك بالأمانة والصدق والعدالة وأنه لا يكذب، هذه صورة.
الصورة الثانية: أن يقوم ذلك الشخص بدعوى الوكالة ولا تعرفه لا بصدقٍ ولا بكذب، فلا إشكال.
الصورة الثالثة: أن يكون ذلك الشخص معروفاً بالكذب عندك.
هذه ثلاث صور: إما أن تثق في الرجل وتعرف صدقه، وإما أن يكون العكس فتعرف الرجل بالكذب والخيانة وأنه دائماً يأكل أموال الناس ويكذب عليهم، وإما أن لا تعرف صدقه ولا كذبه.
فإن عرفته بالصدق فأنت لست بملزم بدفع المال إليه، حتى ولو عرفته بالصدق، ما دام أنه لم يقم بينة على أنه وكله فمن حقك أن تمتنع؛ لأن صاحب الدين ربما أنكر الوكالة في أي يوم من الأيام، فكأنك إذا دفعت المال تخاطر بنفسك، وليس عندك دليل ولا مستند تستند إليه، فليس هناك ما يدل على ثبوت الوكالة شرعاً، والأصل عدم الوكالة حتى يدل الدليل على ثبوتها من كونه صادقاً، هذا أمر يرجع إليك، فإن شئت دفعت إليه، وإن شئت لم تدفع تدفع إليه.
وأما إن ظهر كذبه أو أنت تعلم كذبه، أو لا تعرفه لا بصدق ولا كذب -وهما الصورتان الباقيتان- فلا إشكال أنه لا تدفع المال إليه، ومن حقك الامتناع، ولا يجب على القاضي أن يلزمك بالدفع.
قال رحمه الله: (ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو لم يلزمه دفعه إن صدقه).
(لم يلزمه) يعني: لم يلزم الذي عليه الدين والذي عليه الحق أن يدفعه، أي: لهذا الذي يدعي الوكالة، لم يلزمه يعني: لا يجب عليه، فهو بالخيار إن شاء دفع وإن شاء امتنع.
(لم يلزمه دفعه إن صدقه).
الضمير عائد إلى الحق الذي هو العشرة الآلاف، (لم يلزمه دفعه)، أي: دفع الحق، (إن صدقه)، فمن باب أولى إن كذبه أو لم يصدقه ولم يكذبه، فأصبح عندنا ثلاث صور: لم يلزمه إن صدقه، ومن باب أولى إن كذبه، أو إن شك في صدقه وكذبه.
ومفهوم قوله: (لم يلزمه) يعني: هو بالخيار، ونبني على قوله: (لم يلزمه)، أنه: ليس من حق القاضي أن يلزمه بدفع ذلك المال أو إعطائه الوكيل؛ لأنه سيتحمل المسئولية؛ والسبب في هذا: أنك إن أعطيت رجلاً ديناً عشرة آلاف ريال، فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن يضمن، وتعرفون يد المديون يد ضمان، له غُنم المال وعليه غُرمه، فإذا كان ضامناً للمال فإنه في الأصل يبرئ ذمته بإعطاء المال لصاحبه، فإذا كان هناك طرف آخر يدعي أنه وكيل فينبغي أن تكون هناك بينة حتى أدفع المال وأنا مطمئنٌ من وصوله إلى صاحبه، فإذا لم تقم البينة على الوكيل فإنني لا أستطيع أن أتحمل المسئولية فأدفع المال ولو كنت أعرف أنه صادق، لأن معرفتي الشخصية لا تسقط عني الحق؛ لأنه ربما كان صادقاً في حقيقة الأمر فيكذبه صاحب الحق، فأنت تعرض نفسك للخطر.
وافرض أن الشخص صادق وأمين ونزيه، وليس عليه أي غبار، ولكن صاحب الدين رجلٌ مماطل أو كذاب أو متلاعب بحقوق الناس، فيرسل لك أميناً تثق به وتدفع المال إليه على أنه صادق، فإذا أخذ المال والعشرة الآلاف أنكر الوكالة من أصلها وقال: لم أوكله فإذاً لم تسئ لو وثقت به، فإن هذه الثقة لا تستلزم أن تخاطر بالمال ولا تستلزم أن تخاطر بالحق؛ ولذلك قال رحمه الله: (لم يلزمه دفعه إليه، وإن صدقه).
(ولا اليمين إن كذبه).
افرض -مثلاً- لو أنك في مكة، ولك على محمد الذي في المدينة عشرة آلاف ريال، فوجئ محمد الذي في المدينة بخالد يقول له: ادفع لي العشرة الآلاف التي لفلانٍ عليك، قال له: ما أدفع، إما أن تأتي ببينة وأدفع لك وإما لا أدفع لك المال، بل أدفعه إلى صاحبه، فجاء هذا الرجل الذي هو خالد واشتكاه عند القاضي، فلما حضر الطرفان عند القاضي قال القاضي للمديون: تصدق خالداً؟ قال: نعم أصدقه وأعرفه بالصدق، فهل القاضي يلزمه؟ قلنا: لا يلزمه، فيرد

‌‌السؤال
الدعوى من خالد أنه وكيل، وأنكره المديون، فهل نقول: البينة على المدعي واليمين على من أنكر؟ هل نطالب المديون أن يحلف اليمين؟ القاضي قال للوكيل: أحضر البينة قال: ما عندي بينة، ولكن أطالب هذا المديون أن يحلف اليمين، فهل من حقي أن أطالبه باليمين؟ قال: ليس من حقه أن يطالبه باليمين؛ لأنه في الأصل ذمته متعلقة بصاحب الدين، وليست ذمته متعلقة بشخص آخر، وليس هناك قضاء بالنكول؛ ولذلك قالوا: إنه لو امتنع عن اليمين لم يكن من حقه أن يلزم بدفع المال؛ لأن النكول هنا -كما سيأتينا في كتاب القضاء- لا يعتبر حجةً بهذه الصورة؛ لأن ذمته مستحقة لصاحب المال الأصلي وليست متعلقة بهذا التوكيل.
وعلى هذا قالوا: لا يلزمه أن يدفعه إليك (ولا اليمين) أي: لا يلزمه اليمين إن كذبه، فلا يحلف اليمين في مجلس القضاء على نفي هذه الوكالة، ولو كلفناه أن يحلف اليمين لكان في ذلك ضرر عليه؛ ولذلك يدفع الضرر ويبقى الأمر على الأصل من أنه ملزم بدفع الدين إلى صاحب الدين، وهذا هو الأصل، حيث لم يقم الدليل على إثبات الوكالة، فإنه مطالبٌ بالبقاء على الأصل وأنه لا يدفع إلى هذا الوكيل المدعي للوكالة
‌‌مسألة إذا أنكر الموكل الوكالة لمن أخذ الدين
قال رحمه الله: [فإن دفعه فأنكر زيد الوكالة حلف وضمنه عمرو].
هنا مشكلة: لو كان شخص مديوناً لشخص، وجاء من يدعي الوكالة، قلنا: إذا وجدت البينة فلا إشكال؛ لكن الإشكال إذا لم توجد بينة، فالأصل أنك لا تدفع هذا المال إلا لصاحبه الأصلي، فلو أنك خاطرت ودفعت المال، ثم حضر صاحب المال، وقال: يا فلان! أعطني العشرة الآلاف التي لي عليك، قال له: أعطيتها لوكيلك فلان، قال: ما وكلت فلاناً، فأنكر صاحب الحق الوكالة فما الحكم؟ هل نقول: ذمة المديون برئت، ويجب على صاحب المال أن يكون وجهه على من ادعى الوكالة؟ أم نقول إن وجهه على المديون؟ قالوا: الحكم كالتالي: أولاً: المديون حينما دفع المال لمن ادعى الوكالة بدون بينة قد فرط، وخاطر بالمال وبنفسه، فعرض نفسه لتحمل المسئولية؛ لكن يبقى شيءٌ مهم وهو: أن المديون ادعى أن زيداً -وهو صاحب الحق- قد وكل عمراً، فإن كان زيد ينكر الوكالة فشرعاً نطالبه أن يحلف اليمين أنه لم يوكل عمراً، فإذا حلف اليمين وأثبت بيمينه اعتضدت اليمين مع الأصل؛ لأن الأصل عدم الوكالة، وقلنا: إن اليمين دائماً تعضد الأصل، فيصبح الأصل مع اليمين بمثابة شاهدين، الأصل شاهد، واليمين شاهد، وقد جعل الله الأيمان بمثابة الشهود، ولذلك في اللعان يحلف الرجل أربعة أيمان وشهادات بالله عز وجل حتى يجب الحد على المرأة.
فإذاً: اليمين تقوم مقام الشاهد والأصل مقام شاهد ثانٍ، وإذا ثبت حلفه وحلف اليمين فإننا نلزم ذلك الرجل بدفع الدين مرةً ثانية، ثم يقيم دعوى عند القاضي أن فلاناً كذب عليه وادعى الوكالة وأخذ منه عشرة آلاف بدون حق، فيحضر هذا الظالم إذا كان كاذباً في أمره، ويؤخذ منه الحق لكن لو أن الكذب كان من الموكِّل والعياذ بالله، فالموكل فعلاً وكل فأخذ العشرة آلاف، ثم أخذ عشرة آلاف ثانية فحينئذٍ نحكم بوجوب دفع العشرة الآلاف الثانية كما ذكرنا؛ لأن المديون فرط، ثم يقوم الوكيل بدعوى ضد هذا الذي كذب وأنكر الوكالة فيطالبه؛ لأن المديون سيطالب الوكيل، والوكيل سيطالب الموكِّل فتجري على هذا الوجه.
باختصار: نحكم أولاً بوجوب اليمين على الموكِّل أنه ما وكل، فإن حلف اليمين أوجبنا على المديون دفع العشرة آلاف، فأصبح الموكل الكاذب قد حاز عشرين ألفاً، فيكون المديون دفع عشرين ألفاً، والواجب عليه عشرة آلاف فكيف يكون القصاص؟ قالوا: المديون يقتص من الوكيل الذي ادعى الوكالة؛ لأنه في الظاهر كاذب، فيقيم عليه الدعوى أنه كذب في وكالته ويأخذ منه العشرة الآلاف، ثم الوكيل هذا الذي كُذّب في وكالته، يقيم دعوى أخرى أن فلاناً قد أخذ منه العشرة آلاف، ثم بعد ذلك يقاصصه بها ويطالب باليمين، وعلى هذا يكون قد وصل كل ذي حقٍ إلى حقه.
(فإن دفعه فأنكر زيد الوكالة حلف).
أي: حلف زيد بالله أنه ما وكله.
(وضمنه عمرو).
وضمن الدين والحق عمرو وهو المديون

‌‌مسألة إذا وجد الموكل وديعته أخذها ومسألة الظفر

قال رحمه الله: [وإن كان المدفوع وديعة أخذها].
إذا أودعت شخصاً وديعة، فالوديعة تستحق بعينها، بخلاف العشرة آلاف والأموال التي تكون مضمونة بالرمة، فإن كان الشيء الذي حُفظَ عند الشخص وديعة من سيارةٍ أو طعام فإن الحق متعلق بعين السيارة والطعام، فصاحب السيارة الذي يملكها في الأصل يأخذها ممن شاء، سواءً وجدها عند الطرف الأصلي الذي هو المودَع، أو وجدها عند مدعي الوكالة؛ لأن الحق مطالب بعينه، فيأخذ الوديعة من أيهما شاء، سواءً وجدها عند هذا أو وجدها عند هذا، وهذا يرجع إلى مسألة الظفر، وهي مسألة تتعلق بالحقوق، بأن يكون لك حقٌ على شخص، يعني: افرض أن شخصاً سرق منك سيارة، فإن ظفرت بالسيارة تأخذها أنى وجدتها؛ لأن حقك متعلقٌ بعين السيارة، فتأخذ هذه السيارة كيفما وجدتها قالوا: حتى ولو بالسرقة، فمن سرق مالك جاز لك أن تسرق منه المال نفسه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] فإذا جاء وأخذها خفيةً منك كأن أخذ منك ثوباً وعلمت أن فلاناً قد دخل البيت وأخذه بالسرقة وذهب، فدخلت عليه خفية وأخذت الثوب وما ظلمته فيكون رأساً برأس، والبادئ هو الأظلم، وهذه الحالة يسميها العلماء: حالة الظفر أي: من ظفر بحقه أخذه.
بعض العلماء يقول: ليس من حقك أن تستخدم الحيل المحرمة للوصول إلى حقك؛ لأن الشرع قد أعطاك القضاء ومكنك من القضاء، فلا يجوز أن ترتكب ما حرم الله، فلا تسرق ولا تأخذه على غرضه، وإنما تأخذه بالوجه المعروف.
وقال بعض العلماء: من حقك أن تأخذ حقك بأي وسيلة ما دام أنك ستصل إلى حقك ولا تظلم الرجل وقالوا: لو أن عاملاً يشتغل عند رجل فظلمه ومنعه من حقوقه، وله عليه عشرة آلاف، فصار يأخذ من ماله في حدود عشرة آلاف فهذه مسألة من ظفر بحقه أو تمكن من حقه دون أن يعلم من ظلمهم، فهل ذلك جائزٌ أو لا؟ قال بعض العلماء: من حقك أن تأخذه، واستدلوا بأدلة منها: ما ثبت في الصحيحين من حديث هند رضي الله عنها أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك، ولا ينفق عليّ -أي: لا يعطيني مالي- فقال صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فأجاز لها أن تأخذ من ماله حقها فقال: (ما يكفيك وولدك بالمعروف) فقربوا المسألة كالآتي: قالوا: هند وأولادها لها حق على أبي سفيان، وهذا الحق لم تستطع أن تصل إليه إلا بحيلة، فأجاز لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن تأخذ من ماله، وهذا أشبه بالسرقة؛ لأنها في الأصل أخذت من المال دون علم صاحبه، قالوا: لكنها ستصل إلى حقها ولا تظلمه، فقال بعض العلماء: دل هذا الحديث على جواز أخذ الحق إن وجده صاحبه بأي وسيلة.
وقال بعض العلماء: لا يجوز، واستدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) فقال: (لا تخن من خانك) فمع أنه خانني لم يجز لي الشرع أن أستخدم الخيانة، قالوا: وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] لا يقتضي فعل السيئة، وإنما سميت سيئة؛ لأنه لا يأمن الحيف، مثال ذلك قالوا: إذا ضربه وأضر به فلا يأمن أن يحيف؛ لأنه عند الانتقام غالباً ما يكون هناك نوع من القوة في الغضب، فلربما زاده في القصاص؛ ولذلك قالوا: سمى الله القصاص سيئة مع أنه ليس بسيئة؛ لأن صاحب القصاص لا يأمن من الحيف، فإذا ضربه -مثلاً- وصفعه على وجهه، وأراد أن يصفعه، فالغالب أنه يصفعه، وعنده حمية فسيزيد؛ فسماها الله سيئةً وقيل: من باب المشاكلة، وأياً ما كان فالمقصود: أن الأقوى أنه لا يأخذه؛ لأن الشرع قد مكنه من حقه بالقضاء، وأما مسألة حديث هند فنقبله ولا نرده، ونعمل به ولا ننكره، لكنه خاص والقاعدة تقول: (لا تعارض بين عام وخاص)؛ ولأنه لا يأمن العامل ولا يأمن غيره أن يثبت عليه صاحب الحق أنه، اختلس فيقع في ضرر أعظم، ولذلك لا يخاطب الناس على هذا الوجه، والأشبه أنه يطالب بحقه على الوجه المعروف
‌‌تضمين المودع أو الوكيل إذا تلفت الوديعة
(وإن كان المدفوع وديعة أخذها فإن تلفت ضمن أيهما شاء).
فإن تلفت الوديعة إن شاء ضمن الدافع، وإن شاء ضمن المدفوع إليه؛ لأن الدافع للوديعة إذ اانتقلت الوديعة إلى الشخص الآخر فإنه لا يضمن، ويكون ضمان الوديعة على من ادعى الوكالة، فحينئذٍ إن شاء طالب من دفعت إليه الوديعة، وإن شاء طالب الدافع؛ لأن يد المودع يد أمانة كما بيناه
‌‌الأسئلة
‌‌مسائل الوصايا والحضانة وغيرها متفرعة عن مسألة الوكالة


‌‌السؤال
هل الحكم في قبول دعوى الوكالة مثله في دعوى الحضانة والوصية؟


‌‌الجواب
باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالوكالة والوصايا وكذلك ما يشابهها من المسائل التي فيها محض التبرع تأخذ حكم الوكالة، فمسائل الوصايا والحضانة كلها تتفرع على مسألة الوكالة؛ لوجود محض التبرع والإحسان من الموكل أو الموصى إليه ونحوهم، ولا يدعي هذه الأشياء ولا تقبل الدعوى إلا بدليل وبينة؛ لأن الأصل عدمها حتى يقوم الدليل على ثبوتها، ويتحمل الوصي المدعي للوصايا الموصى إليه، وكذلك غيره ومن في حكمه يتحمل المسئولية إن ظهر كذبه على التفصيل الذي ذكرناه في الوكالة، وسيأتي -إن شاء الله- بيان هذه المسائل خاصةً في باب القضاء، فنبين أحكام الدعاوى سواءً كان في الحقوق العامة أو في الحقوق الخاصة، والله تعالى أعلم
‌‌الخطابات المختومة من القرائن التي تدل على الوكالة

‌‌السؤال
إذا حمل الوكيل خطاباً بخط الموكل وختمه فهل يقوم مقام الشهود، فيدفع إليه ما للموكل؟


‌‌الجواب
أدلة إثبات الدعاوى تنقسم إلى قسمين: قسمٌ منها بينات شرعية حدد الشرع هذه البينات، وحكم باعتبارها، ونصت نصوص الكتاب والسنة على وجوب العمل بها، ويشمل ذلك الإقرار والشهادة والكتابة الموثقة بالشهود، فأما الإقرار فهو كما يقال: سيد الأدلة وأقواها؛ لأنه ليس هناك أقوى من شهادة الإنسان على نفسه، وليس هناك إنسان يشهد على نفسه بالضرر إلا وهو صادق.
أما النوع الثاني من الأدلة فهو: الشهود، كما جعل الله في شهادة الزنا أربعةً، وفي شهادة الأموال وما في حكمها شاهدين من الرجال، أو أربعةً من النسوة، أو شاهداً من الرجال وامرأتين، أو شاهداً ويميناً، وكلها ثبتت بها الأدلة، فالشهادة حجة بالنسبة للأموال، وما يئول إلى الأموال.
النوع الثالث من الأدلة المعتبرة هو: الكتابة الموثقة بالشهود، كما دلت عليه آية البقرة فيكتب الدين -مثلاً- ويستشهد عليه شاهدين من الرجال أو رجلاً وامرأتين ممن يرضى أو أربع نسوة، وهذا كله نص عليه القرآن ولا إشكال فيه، وأما بالنسبة للشاهد مع اليمين فقد قضى عليه الصلاة والسلام بالشاهد مع يمينه، فجعل اليمين بمثابة شاهد لكن في الأموال وما يئول إليها؛ لأن الصحابي قال: (قضى بالشاهد مع يمينه)، فدل على أن الزنا والحدود والجرائم لا تثبت بالأيمان إلا فيما استثنى الشرع من لعان الرجل مع امرأته، وهذه قضية خاصة، أما من حيث الأصل فالأيمان لا دخل لها في الحدود فهي قرائن ضعيفة، فالقرائن القوية تكون بعض الأحيان في الجنايات، وتكون في غير الجنايات، فمثلاً: المرأة إذا تزوجها الرجل ومكث معها شهرين، وتبين أن حملها لأربعة أشهر أو ستة أشهر، فهذه تعتبر قرينة على أنها قد زنت؛ لأن الزواج لا يمكن في مثله أن يكون الحمل على هذا الوجه.
بعض الأحيان يدخل بها وبمجرد ما يدخل بها يجد عليها آثار الحمل، فهذه قرينة على أنه ليس من حلال وإنما هو من حرام، لكنها ليست ببينة على خلاف في الحمل: هل يقتضي ثبوت الزنا أو لا؟ وفيه خطبة عمر المشهورة وسيأتي -إن شاء الله- بيانه في باب الزنا والحدود، الشاهد: القرائن قد تكون قرائن في الدماء، قالوا: لو أن رجلاً وجدناه متشحطاً في دمه -أي: مقتولاً- وعند رأسه رجل يحمل السكين ملطخةً بالدماء، وثيابه ملطخة بالدماء، وعليه آثار العنف أو ما يدل على أنه متعاطٍ للجريمة، فهذه ليست ببينة شهود أو إقرار، ولكنها قرينة واضحة، ومثل هذه القرائن يعمل بها في القضاء في حدود؛ لأن الله أوجب علينا الرجوع للبينات، والقرائن لا تثبت الحكم من كل وجه، ومن أقوى الأدلة على أن القرائن لا تثبت في الحكم من كل وجه؛ أننا لو فتحنا باب القرائن لاسترسل الناس في ذلك، وأقوى الأدلة على عدم اعتبار القرينة ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما قذف هلال بن أمية امرأته بـ شريك بن سحماء وقذف عويمر العجلاني امرأته بالزنا، وقام اللعان بينهما فحلف عويمر وحلفت زوجته، فلما وقعت بينهما أيمان اللعان قال صلى الله عليه وسلم: (حسابكما على الله، الله أعلم، أحدكما كاذب) إما الرجل كاذب وإما المرأة، فأصبحت القضية من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة، فانتقل حكمها إلى الله عز وجل، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (انظروا إليه -انظروا إلى الولد الذي ستأتي به- فإن جاءت به خدلج الساقين ... )، إلى آخر الحديث، فذكر الصفات (فهو له) يعني: الزوج وهو كاذب (وإن جاءت به على صفة كذا وكذا فهو للذي ذكر)، فجاءت به على صفة الرجل الزاني والعياذ بالله، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لو كنت راجماً أحداً من غير بينة لرجمت هذه)، مع أن القرينة واضحة على أنها زانية، ولكن لم يحكم بها ولم يستبح دمها ولم يحكم بالجناية؛ لأن الشرع أمرنا أن نقف عند حدود معينة.
وبناءً على ذلك فالقرائن لو فتح بابها لاسترسل القضاة في العمل بهذه القرائن، لكن قد تكون القرائن في بعض الأحيان مدخلاً للقاضي أن يحلف المتهم، وأن يشدد عليه في الاعتراف إذا تعلق به حقٌ للغير، فالكتابات التي ذكرت والتي عليها الختم في بعض الأحيان يعمل بها كما في كتاب القاضي إلى القاضي، ويعمل بها في سجلات الحقوق، ويعمل بها في سجلات التجار في إثبات الدين على التاجر إذا مات ووجد بخطه أن لفلانٍ عليه ونحو ذلك، لكن لا تكون بينة من كل وجه يعني: لا تأخذ حكم البينات من كل وجه، وإنما يجب الاقتصار على الأدلة التي ثبتت النصوص بها، وباعتبارها، والزائد على هذا يرجع إلى حكمة القاضي، فيتعامل معه في حدود معينة، ونطاق معين يليق بالقرآن والحكم بها واعتبارها، والله تعالى أعلم
‌‌حكم تحويل المبالغ المالية من بلد إلى آخر

‌‌السؤال
أردت إرسال مبلغٍ من المال إلى أهلي فقال لي أحدهم: أنا آخذ منك هذا المبلغ وأحيلك في بلدك على شخصٍ يعطيك بدلاً منه بعملة بلدك، فهل هذه المعاملة جائزةٌ شرعاً؟


‌‌الجواب
هذه المعاملة فيها ربا النسيئة، عندما تقول له مثلاً: خذ مائة ألف ريال وحولها، على شريطة أن تعطي أهلي عشرة آلاف دولار أو عشرة آلاف جنيه، فأصبح العقد يشتمل على عقدين: العقد الأول: عقد الصرف وهو تحويل العملة من الريالات إلى الدولارات أو إلى جنيهات أو غيرها.
العقد الثاني: عقد التحويل، فالواجب شرعاً أولاً أن تصرف العملة ثم تقبضها؛ لأنه إذا اختلف الذهب بفضة أو فضة بذهب فإنه يجب أن يكون يداً بيد، فتصرفها ولا تحول إلا بعد الصرف.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 17-08-2024, 08:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,847
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (344)

صـــــ(1) إلى صــ(21)





شرح زاد المستقنع -‌‌ باب الشركة [1]
عقود الشراكة من تنظيمات الإسلام الحكيمة وتعاليمه السامية، وذلك لما يحصل بين المسلمين بسبب هذه العقود من التكاتف والترابط، ودفع البطالة، والحرص على مصلحة الشريك، والشراكة لها أنواع وأقسام، ومسائل وأحكام، فصلها العلماء في كتب الفقه المعتبرة.
ومن أنواع الشركة: شركة العنان، وهي أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم ليعملا فيه ببدنيهما، ولها شروط وأحكام ومسائل ينبغي على كل من أراد الشراكة أن يعلمها
‌‌مناسبة ذكر باب الشركة بعد باب الوكالة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الشركة]: الشركة: نوع من أنواع العقود التي تقع بين المسلمين، وهذا النوع من العقود يشتمل على التوكيل بين الطرفين، فكل واحد من الشريكين، أو كل واحد من الشركاء قد وكل صاحبه ونظيره أن يتصرف في ماله، فأصبح وكيلاً عنه من وجه، وهو وكيل عنه في التصرف في ماله الذي اشتركا فيه.
ونظراً لاشتمال الشركة على هذا النوع من العقود، أعني: كونها من عقود الوكالات أو فيها وصف الوكالة ناسب أن يعتني المصنف بذكر أحكامها ومسائلها عقب باب الوكالة، فبعد فراغه من بيان المسائل والأحكام المتعلقة بالوكالة شرع في نوع خاص من التوكيل الضمني وذلك ببيان مسائل وأحكام الشركة
‌‌تعريف الشركة وأنواعها
الشَّرِكَة والشِّرْكَة أصلها في لغة العرب: الجمع والخلط، فإذا جمع بين الشيئين فقد شرَّك بينهما، وإذا اجتمع الجماعة حساً أو معنىً فقد اشتركوا، تقول العرب في الأشياء المحسوسة: اشترك الرعاة، إذا جمعوا الدواب بعضها مع بعض، وتسمى بالخُلْطَة.
وكذلك تقول العرب: اشترك القوم في الرأي -وهذا تابع للاشتراك المعنوي- إذا اجتمعوا على رأي واحد.
وأما في اصطلاح العلماء فالشركة هي: اجتماع في استحقاق أو تصرف.
فإذا اجتمع طرفان أو أكثر في استحقاق أو تصرف فإن ذلك يوصف بكونه شركة.
فالشركة نوعان: النوع الأول: الاشتراك في الاستحقاق.
والنوع الثاني: الاشتراك في التصرف
‌‌الاشتراك في الاستحقاق (الأملاك)
أما الاشتراك في الاستحقاق: فمن أمثلته: الورثة، إذا مات والدهم أو مورثهم وترك لهم -لو فرضنا- عقارات، كالبيوت والمزارع، فإن الورثة يشتركون في هذه البيوت ويشتركون في هذه المزارع كل على حسب نصيبه، فهم شركاء، كما قال تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12]، وقال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فشرَّك سبحانه بين الورثة، وأعطى كل ذي حق حقه بقسمته سبحانه من المواريث من فوق سبع سماوات.
فهذا النوع من الشركات يسميه العلماء بـ (شركة الأملاك)، وشركة الأملاك هي: الاجتماع في الاستحقاق، وتنقسم إلى ضربين: الضرب الأول: أن يكون الاشتراك في هذا النوع اختيارياً.
والضرب الثاني: أن يكون اضطرارياً قسرياً جبرياً
‌‌الاشتراك الاختياري
فأما الاشتراك الاختياري: كرجلين دفع كل منهما خمسين ألفاً واشتريا منزلاً، فقد استحقا هذا المنزل واستحقا هذه الأرض وهما شركاء في ملكيتها، وبناءً على ذلك فهذه الشركة: شركة استحقاق؛ لكنها جاءت بطيبة نفس وبرضاً من الطرفين، وباختيار منهما، بمعنى أن اجتماعهما في هذه الدار أو اجتماعهما في هذه الأرض أو المزرعة لم يكن قهراً، وهذا النوع من أمثلته: اجتماع الطرفين -كما ذكرنا - في شراء أرض أو شراء سيارة تكون مناصفة بينهما، فقد اشتركا في ملكيتها، وقد يشترك الطرفان في المنافع، كرجلين استأجرا شقة، فإن هذه الشقة إذا دُفِع المبلغ بينهما مناصفة، كل منهما له حق الانتفاع بنصف هذه المنفعة، فإن شاءا أن يحددا زماناً يكون لأحدهما نصف السنة الأول، وللثاني النصف الثاني، أو يقسما الشقة قسمة مهيأة كل منهما يأخذ نصفها.
هذا يسمى بـ (شركة الأملاك)، وهذا النوع من الشركات لا نتكلم عنه هنا، وليس مراد العلماء -رحمهم الله- بباب الشركة أو كتاب الشركة أن يبحثوا مسائل هذا النوع، أعني: (شركة الأملاك)

‌‌الاشتراك الإجباري

والنوع الثاني من شركة الأملاك، وهي الشركة القسرية الجبرية: فتجمع بين اثنين، أو تُشَرِّك بين جماعة في حق، ويكون هذا التشريك ليس باختيارهما، مثل: الإرث، قالوا: تقع شركة الأملاك قسراً في المواريث، فإن الإرث قسمه الله عزَّ وجلَّ من فوق سبع سماوات، فحينما نعطي الزوج النصف أو نعطيه الربع يكون إذا أخذ النصف شريكاً للورثة بهذا النصف حتى يقسم المال ويكون قد جاءه هذا النصف قسراً، ولم يأته باختيار منه.
إذاً: شركة الأملاك تنقسم إلى قسمين: - إما أن تكون اختيارية: كقوم اجتمعوا في دار شراءً أو إجارةً، أو لو كان هناك شخص عنده أرض فوهبها لشخصين، فإن هذه شركة أملاك اختيارية.
- والنوع الثاني: أن تكون قسرية وبدون اختيار، كما في الإرث، والوقف، فالوقف: إذا أوقَفْتَ داراً على عشرة من المساكين، أو أوْقِفَتِ الدارُ على المساكين، فإنهم ينتفعون بالسكنى فيها، أو ينتفعون بغلة الوقف، وهذا الانتفاع وهذا التشريك في المنفعة والملكية للمنفعة جاءت قسراً بدون اختيار الشركاء
‌‌الاشتراك في التصرف (شركة العقود)
النوع الثاني من الشركات -وهو الذي يبحثه العلماء هنا-: ما يسمى بـ (شركة العقود).
وشركة العقود: يجتمع فيها طرفان فأكثر: - ويكونون شركاء في المال والعمل.
- أو يشتركا فيكون المال من أحدهما والعمل من الآخر.
- أو يشتركا في جاهيهما، فتكون لهما وجاهة عند التجار، فيستدين أحدهما، ثم يعملان بالمال على حسب خبرتهما.
- وقد تكون شركةً بالبدن، كما لو اشتركا في ما ينتجان من صنعتهما، كما لو اشترك النجارون أو الحدادون أو نحوهم من أصحاب الحِرَف.
فهذا النوع من الشركات وهو شركة العقود تم باتفاق الطرفين، وتعاقد الطرفان على أن يجتمعا، ويدفع كل منهما مالاً، أو يدفع أحدهما المال والثاني يقوم بالعمل، أو على حسب ما يتفقان من أنواع الشركة التي سنذكرها، فإذا اجتمعا وتعاقدا على ذلك فإنها شركة عقود
‌‌أقسام شركة العقود
هذا النوع من الشركات ينقسم إلى خمسة أقسام عند فقهاء الحنابلة -رحمهم الله-: القسم الأول: شركة العنان.
والقسم الثاني: شركة المفاوضة.
والقسم الثالث: شركة الأبدان.
والقسم الرابع: شركة الوجوه.
والقسم الخامس: شركة المضاربة.
ومباحث الشركات عند فقهاء الحنابلة رحمهم الله تُذْكَر فيها هذه الخمسة الأنواع: - العنان.
- والمفاوضة.
- والوجوه.
- والأبدان.
- والمضاربة.
ونازع غير الحنابلة في أنواعٍ كشركة الوجوه، وشركة الأبدان.
ونازع بعضهم في اعتبار شركة المضاربة نوعاً من الشركات؛ لأن المضاربة في الحقيقة ليست بشركة من كل وجه، وسيأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله.
فقد قال طائفة من العلماء: إن المضاربة أو القراض هو من الإجارة المجهولة التي جازت على خلاف الأصل، وسنبين وجه ذلك ونقرره.
أما بالنسبة لهذه الخمسة الأنواع: فجملتها: الحالة الأولى: أن يشترك الطرفان بالبدن والمال: أن يشتركا ببدنيهما وماليهما: ببدنيهما.
يعني: يعملان ويشتغلان في ذلك المال تنميةً له وحرصاً على مصالحه.
وبماليهما: كأن يدفع أحدهما خمسين ألفاً والثاني يدفع خمسين ألفاً؛ فقد اجتمعا بالمال وبالبدن؛ وإذا اجتمعا بالمال وبالبدن، فهذا يشمل نوعين: - شركة العنان.
- وشركة المفاوضة.
وشركة المفاوضة أقوى من شركة العنان من جهة الشيوع وكثرة العمل وأيضاً كثرة المال؛ لأن نطاقها ومحل العقد فيها أوسع من شركة العنان.
وشركة العنان أقوى من المفاوضة؛ لأنه أُجْمِع على جوازها، بخلاف شركة المفاوضة.
هذان نوعان من الشركة يرجعان إلى الاشتراك بالبدن والمال.
الحالة الثانية: أن يكون الاشتراك ببدن أحدهما، والمال من الآخر: وهذه هي شركة المضاربة، أو ما يسمى بالقراض، فأحد الطرفين -وهو الغني- يدفع المال كمائة ألف، والطرف الثاني وهو العامل أو من عنده خبرة يقوم بالعمل -فقط- على تنمية هذا المال، ولا يدفع شيئاً، وإن ربح هذا المال كان الربح بينهما على ما شرطا، وإن خسر العامل في تجارته وعمله بدون تفريط وبدون سبب يوجب الضمانة؛ فإن الخسارة تكون على رب المال.
الحالة الثالثة: أن يشتركا ببدنيهما: وهذا كما يقع في شركة الأبدان، فيتفق اثنان يكون أحدهما صاحب صنعة، والآخر صاحب صنعة.
هل يشترط اتفاق الصنعتين أو اختلافهما؟ سيأتي.
يشترك -مثلاً- اثنان في صنعة النجارة، فيتقبلان من الناس ما يريدون من أعمال النجارة، ويشتغلان سوياً في المحل، ويقومان بأداء تلك الأمور التي طُلِبت، والربح والمال بينهما على ما شرطا.
فهذا يسمى بشركة الأبدان، وقد تقع في الغزو والجهاد في سبيل الله، كأن يشترك اثنان أو ثلاثة في الغنيمة، كما وقع لـ سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر رضي الله عن الجميع في يوم بدر، حيث اشتركوا في الغنيمة.
الحالة الأخيرة: أن يكون الاشتراك في الجاه: يكون اشتراكهما وجاهةً، فيطلب أحدهما المال من التجار أو من السوق، وذلك راجع إلى ثقة الناس به ومعرفتهم له، ثم يقومان باستثمار هذا المال وتنميته والربح بينهما على ما شرطا، ويضمنان المال سوياً، وكذلك أيضاً يأخذان الربح على ما اتفقا عليه.
هذا حاصل أنواع شركة العقود
‌‌الأدلة على مشروعية شركة العقود
وقد اعتنى المصنف -رحمه الله- بذكر هذه الأنواع كلها، وفصل في أحكامها، وبين المهم من تلك الأحكام، ويبقى

‌‌السؤال
ما هو الدليل على مشروعية هذا النوع من العقود؟ شرع الله عزَّ وجلَّ الشركة بين المسلمين بدليل كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم.
فأما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24].
فقوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ} [ص:24]: الخلطاء: أي: الشركاء.
{لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [ص:24]: ذَكَرَ شركةً قائمةً على الجَور مذمومةً، وشركةً قائمةً على العدل محمودةً، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [ص:24] فاستثنى من الجَور والظلم، والخطأ والخلل، فدل على شرعية الشركة إذا قامت على العدل دون أن يبغي أحد الشريكين على الآخر.
وجاءت آيات المواريث بالتشريك؛ لكن هذا النوع من الشركات في آيات المواريث إنما هو في شركة الأملاك كما ذكرنا، وهو راجع إلى الاستحقاقات.
وأما بالنسبة للسنة: فقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الأحاديث؛ لكنها لم تخلُ من كلام في أسانيدها، فمن أهل العلم من جعل الأحاديث للاستئناس، وجعل دليل السنة من جهة التقرير، أي: أن الناس كانوا في الجاهلية يتعاطون هذا النوع من العقود، وهو الشركة، ومع ذلك أقرهم الإسلام، وترك هذا النوع ولم يحرمه، فيجعل دليل السنة تقريرياً، ولا يجعله تفصيلياً بالقول والعمل؛ لأن الأحاديث بالقول والأحاديث بالفعل لم تخل من كلام في أسانيدها، وإن كان بعضها يقبل التحسين.
فهناك حديث عن السائب بن أبي السائب رضي الله عنه أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال له -وقد كان شريكاً للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وكان نِعْم الشريك، وكان كثير الصدقة والإحسان- قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (نِعْم الشريك، كنتَ لا تداري ولا تماري) فأثنى عليه وعلى شركته.
وكذلك أيضاً استدلوا بالحديث القدسي، وهذا الحديث سكت عنه أبو داود في سننه، وصححه الحاكم، وتعقَّبَه ابن القطان، بأن فيه سعيد بن حبان، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وسكوت أبي داود قد يقوي، حتى أن بعض العلماء يحكم فيه بالتحسين، ولذلك بعض العلماء يميل إلى تحسين هذا الحديث، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخُن أحدُهما صاحبَه، فإن خان أحدهما صاحبه خرجتُ من بينهما)، وهذا الحديث من جهة قوله: (أنا ثالث الشريكين ما لم يخُن أحدُهما صاحبَه) دل على مشروعية الشركة، وأنها تقوم على العدل والأمانة.
وكذلك أيضاً قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم تاجر بمال خديجة في الجاهلية، وفعل المضاربة في الجاهلية، وجاء الإسلام ولم ينكر هذا النوع من المعاملات، فكانت سنةً تقريرية.
وقالوا أيضاً: جاء في حديث أبي داود وابن ماجة والنسائي وحسَّنه غيرُ واحد أيضاً أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر اشتركوا يوم بدر فيما غنموا، فجاء سعد بأسيرين؛ لأنه قتل قتيلين فكان له سلبهما، ولم يَجِئْ عبد الله بن مسعود ولا عمار بن ياسر بشيء فشرَّك النبي صلى الله عليه وسلم بينهم.
فدل هذا على مشروعية شركة الأبدان، وهي التي ترجع إلى العمل.
وأيَّاً مَّا كان فإن السنة من حيث الجملة دالة على مشروعية الشركة، خاصة إذا نظرنا أن هذا العقد كان معروفاً عند العرب، ولا يشك أحد في وجوده، ومع ذلك لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت الشريعة قد هذبت وبينت الأحكام والحقوق والواجبات والأمانات والمسئوليات التي ينبغي على كلا الطرفين أن يراعيها في عقد الشركة.
أما من حيث الإجماع: فالإجماع من حيث الجملة على أن عقد الشركة جائز، وأنه عقد مشروع.
ولكن هناك خلاف: ما هي أنواع الشركات التي أحلها الله؟ وما أنواع الشركات التي حرمها؟ ثم هذا الحلال: ما هي شروط حله وجوازه والحكم باعتباره؟ كل ذلك مما فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله

‌‌الغاية من إباحة الشركة ومشروعيتها

فإذا ثبت أن الشركة مشروعة من حيث الجملة، فإن الله سبحانه وتعالى حينما شرع هذا النوع من العقود تضمن المصالح العظيمة والغايات الكريمة، فعقد الشركة فيه مقاصد نبيلة، وغايات وأهداف طيبة، منها ما يرجع إلى الدين، ومنها ما يرجع إلى الدنيا.
وباختصار: من فوائدها التي ترجع إلى الدين: أنها تقوي أواصر الأخوة والمحبة؛ لأن الشريك يشعر أنه مع شريكه كالجسد الواحد، وأن ماله مع مال أخيه كالمال الواحد، وهذا يحدث نوعاً من الترابط والتكاتف والتعاطف والتآلف، وإذا وقعت الخسارة شعر كل منهما أنه يتضرر كأخيه، ومقصود الإسلام ومقصود الشريعة -من مثل هذا الشعور- أن يشعر المسلم أنه مع أخيه المسلم كالجسد الواحد، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
وأما بالنسبة للمصالح الدنيوية: فإن عقد الشركة يقوي التجارة، ويحدث نوعاً من التكافل، ووجه ذلك أن التجارات أو الأسواق إذا قامت على الشركة قويت؛ لأن مجال التجارة يكون أفسح وأكثر شيوعاً مما لو كان العامل بماله مستقلاً، فأنت ترى أن مال الشركة يكون رأس المال كثيراً بخلاف ما لو انفرد كل واحد منهم بماله؛ فإنه لا يستطيع أن يخاطر، ولا يستطيع أن يتجاسر على ما يتجاسر عليه الشركاء، فإذا اجتمع الثلاثة والأربعة حصلت المصالح في السوق، ونشطت الأسواق التجارية، ولذلك قالوا: إنه إذا انتشرت الشركات في بيئة ومجتمع فإن التجارة تقوى في ذلك المجتمع، ويكون الناس أقوى على استثمار أموالهم؛ لأنه لو كان المال عند صاحبه إذا مرض فإن ذلك يعطل ماله، وإذا كانت مصالحه مرتبطة بالموضع الذي هو فيه لم يستطع جلب المال من مكان بعيد، ولم يستطع أن يسافر ولا أن يتغرب؛ لكن إذا كان معه شركاء أو كان معه آخرون -أو كانوا أكثر من رجل- فإن هذا يعين ويشجع على الانتقال، ويشجع على سعة التجارة وتنوُّعها وتعدد مجالها، كذلك من ناحية التجارة؛ فإن الأفكار والأفهام تتلاقح والأذهان يُكَمِّل بعضُها بعضاً، فهذا يكمل نقص هذا بما يعود لمصلحة التجارة ومنفعة السوق، كما لا يخفى، فقال العلماء: إن هذا يحقق من حكم مشروعية هذا النوع من العقود، أنه يعين على صلاح السوق، وانتشار التجارة فيه، وقوة التجارة، ثم إن فيه نوعاً من التكافل، فإن الرجل إذا دخل في التجارة وشاء الله -في ذلك الزمان الذي دخل فيه- أن تحصل خسارة أو تنكسر السوق؛ فإنه إذا كانوا شركاء انكسر على الجميع، فخفت المصيبة، وحصل نوع من التكافل، وحصل نوع من الجبر للضرر بخلاف ما إذا تاجر بنفسه كان الضرر متعلقاً به، وكانت المفاسد به أكثر من غيره، إلى غير ذلك من المصالح، ولا شك أنه ما من شيء يشرعه الله عزَّ وجلَّ ويبيحه لعباده إلا وفيه الخير في الدين والدنيا والآخرة، ولا يستطيع المخلوق أن يدرك حكم الخالق، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، وقال سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85]، فلا شك أن هذا النوع من العقود الذي دلت الأدلة على شرعيته، وأجمع العلماء رحمهم الله على جوازه فيه الخير الكثير في أمور الدين والدنيا
‌‌حكم عقد الشركة
بالنسبة لعقد الشركة من حيث تكييفه في الفقه يعتبر من العقود الجائزة، وقد قدمنا أن: - هناك عقوداً لازمة.
- وهناك عقوداً جائزة.
- وهناك عقوداً تجمع بين الجواز واللزوم، فتكون جائزةً في أول الحال، لازمةً في آخر الحال.
وبينا هذا، وفصلناه في مقدمات البيوع.
فعقد الشركة من العقود الجائزة، والمراد بكونه جائزاً كما قدمنا: أي من حق الطرفين أو كل واحد من أطراف الشركة أن يفسخ الشركة في أي وقت شاء، فهو ليس بعقد لازم.
لو أن طرفين دفع كل منهما مائة ألف واتفقا على الشركة اليوم، وبعد ساعة من افتراقهما قال أحدهم: لا أريد.
فلا نلزمه، ولا يكون ملزَماً بإتمام الشركة، كالبيع، وغيره من العقود اللازمة، وكالإجارة ونحوها، فهي عقد رفق، ويعتبر هذا النوع من العقود الجامعة بين المعاوضة والرفق، فالشركة فيها معاوضة، مثلاً: إذا دفعت أنت خمسين ألفاً ودفع الطرف الثاني خمسين ألفاً، فإن كلاً منكما قد جعل الخمسين في مقابل الخمسين الأخرى، فصار عقد معاوضة، ثم إن كلاً منكما يعمل في تنمية المائة ألف، فهو في هذه الحالة يعاوض صاحبه، كما أن صاحبه يعمل فهو أيضاً يعمل، فصار عقد معاوضة من جهة المال ومن جهة العمل، إلا في القراض، فالقراض عقد معاوضة بالتكافؤ، فرب المال يدفع المال، والعامل يقوم بالعمل؛ لكن شركة العنان، وشركة المفاوضة يكون فيها نوع من المعاوضة، ونوع من المقابلة للمال والعمل، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
فهذا النوع من العقود فيه معاوضة، وفيه رفق، وقد ذكرنا أن عقود المعاوضات إجمالاً: - إما أن تكون قائمة على الغبن المحض، مثل: البيع، والإجارة، وبيَّنَّا ذلك في مقدمة البيع.
- وإما أن تكون قائمة على الرفق المحض، كهبة الثواب، يعطيك هدية، فتعطيه هدية، فحصلت المعاوضة؛ لكنك لم تقصد غبنه، وإنما قصدتَ أن ترفق به، وقَصَد أن يرفق بك.
- وإما أن تكون -وهذا النوع الثالث من عقود المعاوضات- جامعة بين الغبن والرفق، وهذا مثل: أن يقول أحدهما: لي نصف الربح، ويقول الثاني: بل لك ربع الربح، فهذا غبن يريد أن يجعل الربح الأقل في حظ صاحبه، والربح الأكثر في حظه، كالبيع، وفيها رفق؛ لأن مالك مع مال شريكك تقويا وعملُك مع عمل شريكك أصبح قوياً وصارا كالشيء الواحد، وبناءً على ذلك رفق كل منكما بصاحبه.
ذكرنا في مقدمة البيوع أن عقود المعاوضات التي تقوم على الغبن تشدد الشريعة في شروطها، مثلاً: كالبيع، يعتبر من عقد المعاوضة القائم على الغبن؛ لأنك إذا أردت بيع الشيء تقول: أبيعه بمائة ألف، فيقول المشتري: أشتريه بثمانين ألفاً، فتقول: لا.
بل مائة، فيقول: بثمانين.
فمعناه أن هناك عشرين ألفاً إما أن تضعها غبناً على صاحبك، أو يضعها غبناً عليك.
فالبيع عقد غبن، فهذا النوع من العقود كعقد البيع وعقد الإجارة تجد الشروط الشرعية فيه أكثر؛ لأنه يقوم على الغبن والخطر؛ لكن عقود الرفق، مثل الهبات والعطايا التي تكون بالمقابل وبالمعاوضة لا يشترط فيها ما يشترط في البيع؛ لأنها قائمة على المكارمة والإحسان، فتخفف الشريعة في شروطها.
أما العقود التي تجمع بين الغبن والرفق كالشركات ففيه نوع من التشديد، وفيه نوع من التيسير، وسنبين هذا -إن شاء الله- في شروط عقود الشركات على حسب أنواعها، فتارةً تكون الشروط لتحقيق مصلحة للطرفين، وتارةً تكون لدفع الضرر عنهما أو عن أحدهما إذا أراد الآخر أن يضر بمصالحه
‌‌شركة العنان
يقول رحمه الله: [باب الشركة]: أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بالشركات.
قال رحمه الله تعالى: [وهي: اجتماع في استحقاق أو تصرف]: (وهي): الضمير عائد إلى الشركة.
وقوله: (اجتماع في استحقاق أو تصرف): قد بيَّنَّا هذا الاستحقاق (شركة أملاك) مثل: شركة الورثة، وكذلك التصرف، (شركة العقود).
قال رحمه الله تعالى: [وهي أنواع: فشركة عنان: أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم ولو متفاوتاً، ليعملا فيه ببدنيهما، فينفذ تصرف كل منهما فيهما، بحكم الملك في نصيبه، وبالوكالة في نصيب شريكه]: فقول المصنف: (وهي): أي: الشركات أو الشركة أنواع: [فشركة عنان]: شركة العنان تعتبر من أهم أنواع الشركات، وقد أجمع العلماء على جواز هذا النوع من الشركة
‌‌سبب تسميتها بشركة العنان
اختلف العلماء: في سبب تسمية هذا النوع من الشركة بشركة العنان، فقال بعض العلماء: إن شركة العنان سميت بذلك من عنان الفرس، فالعنان الذي يُحكم به الفرس يقول العلماء: هما الشريكان، وعنان الفرس إذا أطلقه الفارس للفرس سبحت الفرس وأسرعت، ولا يستطيع أحد أن يطلق العنان للفرس إلا إذا كان فارساً، ولذلك بعض الأفراس إذا كانت قوية العَدْو وقوية السرعة لا يستطيع أن يركبها إلا نوع خاص من الخيَّالة وممن يحسن التصرف معها؛ لأنها ربما سبحت به وربما قتلته أثناء السبح من شدة خوضها، ولربما سقط عنها.
فإطلاق العنان للفرس يجعلها تسبح أكثر.
وبناءً على ذلك: فهذا العنان يتحكم في الفرس فقالوا: إنك إذا دفعت مائة ألف، ودفع الآخر مائة ألف، فقد أطلقت العنان لصاحبك وهو الشريك أن يتصرف في مالك، فأنت بموجب الشركة تجعل المائة ألف تحت تصرف شريكك، وبموجب الشركة أيضاً يجعل الشريكُ المائةَ ألف التي دفعها تحت تصرفك، فأنت تتصرف في المائة ألف التي لك بالملكية، وتتصرف في المائة ألف التي لصاحبك بالوكالة، فأطلقت لصاحبك العنان، وأطلق لك العنان، وهذا في محل الشركة ومحل العقد.
هذا الوجه الأول عند أهل العلم رحمهم الله في تسميتها بشركة العنان؛ أنها مأخوذة من عنان الفرس.
وقال بعض العلماء وهو قول الفراء رحمه الله من أئمة اللغة: إن شركة العنان مأخوذة من عَنَّ الشيءُ إذا ظهر، فقد عَنَّ، تقول: عَنَّ لي.
بمعنى: ظهر وبدا لي، وكأن كلا الشريكين أو كل واحد من الشريكين قد عَنَّ له وظهر له أن المصلحة تقتضي بأن يمكن شريكه من النظر في ماله والتصرف في ماله.
وقال بعضهم: إنها من قول العرب حين تقول: هذا عنان إذا عارَضَهُ وكان معه، فقالوا على الوجه الثالث: يكون كلا الشريكين قد عارض الآخر، هذا يعارض هذا، وهذا يعارض هذا، وليس المراد بالمعارضة المقابلة، فالمقابلة بمعنى الدفع، وإنما المقابلة في التصرف، فأنت تتصرف في المائة ألف التي لصاحبك والمائة ألف التي لك، كما هو يتصرف في المائة ألف التي له والمائة ألف التي لك، فمثلاً: لو أنك دخلت في مكان الشركة، وجاءك رجل يريد أن يشتري شيئاً من الشركة بألف ريال، فإنك تبيعه هذا الشيء بحكم الشركة، تبيعه نصف الشيء بالملكية، ونصفه بالوكالة، وصاحبك إذا حضر في حال غيابك يبيع كبيعك، فأصبح كل منكما معارضاً للآخر، كأنكما تسيران في عرض واحد وخط واحد، فأنت تباريه وهو يباريك، وتعارضه وهو يعارضك، فهو يفعل شيئاً كما تفعله، ويفعل الشيء الذي تفعله.
وبناءً على ذلك: قالوا: إنها من المعارضة بمعنى: المقابلة، وكل منهما يقابل الآخر بتصرفه، فكما يفعل الآخر في ماله يفعل هو في ماله على وفق عقد الشركة.
وابتدأ المصنف رحمه الله بهذا النوع -وهو شركة العنان- لأهميته، خاصةً وأن العلماء قد أجمعوا على جوازه وإباحته

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 17-08-2024, 08:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,847
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

‌‌حقيقة شركة العنان
قال رحمه الله: [وشركة عنان: أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم]: [أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم]: فعندنا قوله: [أن يشترك بدنان]: اشتراك البدنين المراد به: اشتراك الطرفين، ولذلك يقوم عقد شركة العنان على طرفين، وكل منهما شريك للآخر؛ لكن هذين الطرفين لابد من أن تتوافر فيهما أهلية الشركة، فكلا الطرفين لابد أن يكون كل منهما قد حصَّل أهلية الشراكة.
وإذا جئت تقول: ما هي أهلية الشركة؟ فينبغي أن تنظر إلى أصل عقد الشركة، فأصل عقد الشركة يفتقر إلى ملكية المال الذي يُشارَك به، فلا يصح أن يشاركك بمال ليس ملكاً له، كذلك أيضاً ينبغي أن يكون الذي يشاركك أهلاً للتوكيل، فلا يصح أن تشارك شخصاً لا تصح منه الوكالة؛ لأنه سيوكلك عن المائة ألف التي له، وأنت أيضاً لابد وأن تكون أهلاً للتوكيل.
إذاً: قالوا: يشترط فيها ما يشترط في التوكيل.
فلا يصح أن يشارك مجنوناً؛ لأن المجنون ليس بأهل للوكالة، ولا يصح أن يشارك يتيماً وصبياً صغيراً؛ فإنه ليس له حق التصرف في ماله، وليس له حق التوكيل في ذلك العقد؛ لكن لو أنك شاركت وكيل اليتيم ووكيل المجنون أو ولي المجنون أو ولي اليتيم صحت الشركة.
يعني: يجوز أن تشارك أصالةً ووكالةً على جهة الولاية، فلو كان الذي تشاركه ولياً لأيتام، فقال: أشاركك بمال اليتيم، عندي مائة ألف لأيتام، أو -مثلاً- إخواني أيتام ولهم مائة ألف أريد أن أشاركك في هذه المائة ألف التي هي للأيتام، فإنه في هذه الحالة يكون شريكاً لك، وفي الحقيقة أنت شريك للأيتام؛ لكن ليس لليتيم أن يتصرف في هذه الشركة إلا عن طريق الولي.
قوله: [أن يشترك بدنان]: يشترط فيهما ما يشترط من أهلية الشركة، ومن ذلك: ملكية المال، وكذلك أيضاً: أهليتهما للتوكيل؛ لأن كل واحد من الشريكين قد وكَّل صاحبه للنظر في ماله والتصرف فيه.
قال رحمه الله: [أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم]: [بماليهما]: قد تكون (الباء) بمعنى: (في)؛ لأن (الباء) لها أكثر من عشرة معانٍ، في لغة العرب، وهي من أوسع الحروف معاني.
تَعَدٍّ لُصوْقاً واسْتَعِنْ بِتَسَبُّبٍ وبَدِّلْ صِحاباً قابَلُوكَ بالاسْتِعْلا وزِدْ بعضَهمْ يميناً تَحُزْ معانِيَها كُلًَّا فهنا يحتمل أن يكون قوله: [بماليهما] أي: في ماليهما، فتكون (الباء) للظرفية، تقول: محمد بالبيت، أي: في البيت.
فالمراد هنا: أن تكون الشركة في المالين.
وبناءً على ذلك: لما قال: [أن يشترك بدنان] أي: يجتمع بدنان في ماليهما: - خرجت شركة الأبدان، فإنهما يشتركان في عمل البدن.
- وخرجت الشركة بالمال من أحدهما والعمل من الآخر، وهي: شركة المضاربة.
- وخرجت الشركة بوجهيهما، وهي: شركة الوجوه.
فقوله رحمه الله: [بدنان بماليهما] أي: في ماليهما.
وهذا المال له شروط، سيذكر المصنف هذه الشروط، فيكون هذا المال من النقدين، وهل يجوز أن يكون من العروض؟ الصحيح: عدم جوازه، وسنبين علة ذلك.
واشترط شرطاً في قوله: [بماليهما المعلوم]: فخرجت الشركة بمالين مجهولين، فلا يصح أن نشارك بمال مجهول، كأن يقول له: ادفع مائة ألف، وأدفع أنا ما في خزنتي، فإن الذي في الخزنة لا ندري كم هو! هذا المجهول من الطرف الواحد.
والمجهول من الطرفين كأن يقول له: تشاركني بما في خزنتك، وأشاركك بما في خزنتي، على أنها شركة عنان، والذي في خزنة هذا لا يُعلَم، والذي في خزنة هذا لا يُعلَم! فحينئذ تكون بمالين مجهولين.
أو يقول: نشترك بمالين، ولا يحددان قدر المالين، ونحو ذلك من الصور المبنية على الجهالة.
يقول العلماء: إن الشريكين إذا اشتركا في مالين مجهولين حصلت الخصومة، وحصل البغي من بعضهم على بعض، ولربما ختل أحدهما الآخر، فظن شريكُه أنه سيدفع مالاً كثيراً، فإذا به يدفع المال القليل، ولذلك لا يجوز أن يشاركه على هذا الوجه المجهول
‌‌حكم تفاوت رأس المال في شركة العنان
قال رحمه الله: [بماليهما المعلوم ولو متفاوتاً]: [ولو متفاوتاً]: وهذه مسألة خلافية: هل يجوز أن يشتركا في شركة العنان برأس مال متفاوت؟ فقوله: [ولو] إشارة إلى خلاف مذهبي، وهناك خلاف خارج المذهب.
فالجمهور على أنه يجب في شركة العنان أن يستوي رأس المال مع الربح، وحينئذ يكون رأس المال مناصفة بينهما، ويكون الربح بينهما مناصفة؛ ولا يختلف رأس المال عن الربح.
وبناءً على ذلك: يكون عند الجمهور كالحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة على أحد الوجهين أنهم يقولون: لابد أن تكون شركة العنان مستوية، فلا يجوز أن يكون رأس المال متفاوتاً إذا كان الربح مستوياً، بل لابد أن يتطابق الربح مع رأس المال.
وسنفصل هذه المسألة عند ذكر الشروط المتعلقة بالمال.
[ليعملا فيه ببدنيهما]: [ليعملا فيه] يعني: في المال.
[ببدنيهما]: وهذا يدل على أن شركة العنان فيها اشتراك من وجهين: الوجه الأول: الأموال.
والوجه الثاني: العمل.
فيعمل كل منهما في الشركة، فخرجت شركة المضاربة؛ لأن العمل فقط من العامل.
وبناءً على ذلك: لابد أن يعمل الطرفان، فإذا دفعتَ خمسين ألفاً ودفعتُ أنا خمسين ألفاً يكون العمل بيننا مناصفة، فتعمل مثل ما أعمل، وأعمل أيضاً مثل ما تعمل، ولذلك يكون الربح بيننا مناصفة، فلا يظلم أحدُ الشريكين صاحبَه.
وصلى الله على سيدنا محمد
‌‌الأسئلة
‌‌الإيجاب والقبول في الشركة توكيل

‌‌السؤال
هل تندرج الوكالة تحت الشركة تلقائياً، بمعنى أن كل شريك وكيل؟


‌‌الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: لا يخفى أن الشركة يقوم عقدها على الصيغة، وهذه الصيغة قولك: شاركتُك، وقول الآخر: قبلتُ، ونحو ذلك مما يدل على الاجتماع، فهذه الصيغة وهي قولُك: (شاركتُك) هي إذن بالتصرف، وهو توكيل.
وبناءً على ذلك: فموجب قولك: شاركتُك يدل على أنه قد صار وكيلاً عنك، وصرتَ أيضاً وكيلاً عنه حينما قال: قبلتُ، أو رضيتُ، أو أصبحنا شركاء، أو أنت شريكي، أو نحو ذلك مما يدل على القبول، وهذا يرجع إلى العرف، فكل عرف بحسبه، فما دل على القبول يدل على الإذن بالتوكيل، فكما أن اللفظ وهو الإيجاب يدل على الإذن بالتوكيل، كذلك أيضاً القبول من الطرف الثاني يعتبر قبولاً للوكالة وإذناً أيضاً وتوكيلاً بالنسبة لما يتعلق بالشريك القابل.
والله تعالى أعلم

‌‌حكم الشراكة بين الأب وابنه


‌‌السؤال
هل تقع الشركة بين الأب وابنه، علماً بأن الأب مالك لمال ابنه؟


‌‌الجواب
الأب مع ابنه له أحوال، فمن حيث الأصل فقد دلت النصوص على أن الأب والابن كالشيء الواحد، ويشهد لذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث فاطمة رضي الله عنها أنها لما أراد علي رضي الله عنه أن يتزوج عليها، وهذا الحديث سببه أنه فُهِم منه الأذية والإضرار، ولذلك أرادوا أن يزوجوا علياً بابنة أبي جهل، فما الذي دعاهم يسكتون ويختارون ابنة عدو الله؟! دل على أن الأمر فيه نوع أذية وإضرار، فخرج عن كونه تعدد من حيث الأصل، وقد أحببنا أن ننبه عليه؛ لأن البعض يحتج بهذا الحديث في غير موضعه، فللحديث أمر مهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يجتمع دخان بنت عدو الله مع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت واحد) فهذا يدل على أن الأمر كان فيه نوع من الأذية والإضرار.
فالمقصود أن هذه الحادثة لما وقعت، دخلت فاطمة رضي الله عنها على أبيها وقالت له: (إن الناس يتحدثون أنك لا تغار.
فخرج عليه الصلاة والسلام وقال على المنبر: والله! لا آذَنُ، والله! لا آذَنُ، إنما فاطمة بضعة مني) فقوله: (بضعة مني) هذه الكلمة تفرع عنها ما لا يقل عن ستين مسألة فقهية، وهذا يدل على عظمة هذا الدين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (وأوتيتُ جوامع الكلم) فهذه الكلمة (بضعة مني) تفرعت منها مسائل الآباء، والأبناء، والبنات مع آبائهم ومع أمهاتهم، وتنزيل الابن مع أبيه، والبنت مع أمها وأبيها كالشيء الواحد.
وعلى هذا قالوا: إن هذا الحديث يدل على أنه بمثابة الشيء الواحد، فقالوا: يكون من الملكيات، فالشخص لا يشارك نفسه، فبناءً على ذلك يكون فيها شبهة الملكية للمال، وأكد هذا حديث السنن عنه عليه الصلاة والسلام وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق ما أكلتم: من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) فجعل الولد مع والده كالشيء الواحد، وصوَّر كسبه كسباً له، فقال: (إن أحق ما أكلتم: من كسبكم)، وهذا دال على أن الابن من كسب أبيه.
وفيه دليل على عظيم حق الوالد على ولده.
ورُدَّ ذلك؛ لأن الشرع أكَّد هذا، حتى إن الرجل لو اشترى والده في الرق عَتَقَ عليه، ولذلك قالوا: إنه يعتق عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من ملك ذا رحم منه فقد عَتَقَ عليه)، فقالوا: إن هذا يؤكد على أن مال الابن في حكم الملكية لوالده.
وقال بعض العلماء: إنها ملكية نسبية، فعلى هذا الوجه يتخرج أن يشارك الابن أباه، وأن يكون مع أبيه في الشركة، ويكون حكمهما حكم الشريكين المختلفين.
والله تعالى أعلم

‌‌السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة


‌‌السؤال
السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها بدون حيلة، هل يُحْكَم بصحة البيع أم فيه شبهة؟


‌‌الجواب
هذه مسألة قعد بعض العلماء فيها القاعدة المشهورة: (السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها مُلغاة)، هذه القاعدة تقع كثيراً في مسائل بيوع الذرائع، ومنها ذرائع الربا، ومن أشهر ما يقع ذلك في مسألة (بيع العينة)، فإن الرجل إذا باع السلعة وأخرجها من يده (فالسلعة الخارجة من اليد العائدة إليها -قبل تمام الصفقة الأولى- مُلغاة)، فهو إذا باعه السيارة بمائة ألف إلى نهاية السنة، ثم اشتراها منه نقداً حاضرةً بثمانين ألف، قالوا: تُلغى صورة العقد -عقد البيع- في الأول والثاني، فقد خرجت السلعة ثم عادت، وذلك مع اتحاد اليد، فقالوا: كأنه أعطاه ثمانين ألفاً حاضرة بمائة ألف إلى أجل، والسلعة الخارجة من اليد العائدة إليها مُلغاة عند عدم وجود المخالفة، يعني: عند عدم وجود يد خارجة، أما لو أنه باعها على شخص، ثم الشخص الآخر باعها على صاحب المعرض الذي قسَّط، فالأورع في مثل هذا أن ينتظر إلى سداد المبلغ حتى ينتهي التقسيط ثم يشتريها.
وإن كان القول بجوازها إذا بيعت إلى أجنبي دون مواطأة أنه يجوز؛ لأن اليد مختلفة، وقد قرر صلى الله عليه وسلم الحكم بالجواز عند اختلاف اليد، ولذلك بريرة لما أخذت الصدقة وغلا بها القدر، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها قالت له أم المؤمنين: (يا رسول الله! إنها صدقة، أو إنها لـ بريرة، فقال صلى الله عليه وسلم: هو لها صدقة، ولنا هدية) فأوجب اختلاف اليد.
فقال العلماء: إذا اختلفت اليد انتقل الحكم، فإذا دخل الأجنبي بدون مواطأة فإنه في هذه الحالة يُحكَم بكون الصفقة حلالاً للمعرض أو للبائع الأول، أما لو كانت من البائع الأول فإنها ينطبق عليها قولهم: (السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها مُلغاة)، ومعنى (مُلغاة): أي: يُلغى العقد في كلتا الصورتين.
ومن أمثلة ذلك: ما يكون بالتواطؤ، فأشبه ما تتحقق به هذه القاعدة: بيوع الذرائع التي يكون فيها التحايل على ما حرم الله عزَّ وجلَّ.
والله تعالى أعلم

‌‌السماحة في البيع والشراء


‌‌السؤال
هل الغبن والمماكسة التي تكون في السعر معهودة دائماً في البيع، أم ينبغي للمشتري والبائع تجنبها؟ وما توجيهكم في السماحة لكلا المتبايعين؟


‌‌الجواب
إن السماحة في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، فيها فضل عظيم، ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبها بالرحمة، وقال بعض العلماء: بل هو خبر، فقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) والسماحة من اليُسر، والله عزَّ وجلَّ يحب اليُسر، ومن يسَّر على الناس يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة.
والمراد بالسماحة في البيع: - في بعض الأحيان تكون عامة في تعامل الإنسان.
- وتارةً تكون خاصة.
فالسماحة الخاصة: تكون عند الموجب، كأن يكون الإنسان تاجراً يبيع السلع، فإذا رأى فقيراً ساعده ويسَّر له، ولو جاءه بربح قليل قَبِل منه ذلك القليل وتسامح معه، فهذه سماحة خاصة، ولا شك أن صاحبها مرحوم من الله عزَّ وجلَّ على قدر ما يكون منه من إحسان.
وقد تكون السماحة عامة: لا يفرق فيها صاحبها بين غني ولا فقير، فبمجرد أن يقف عليه أخوه المسلم تذكر ما بينه وبينه من أخوة الإسلام، وأحب لذلك الأخ مثل ما يحب لنفسه، وأصبح طلق الوجه، ومُيَسِّراً في بيعه وشرائه، يبيع بطيبة نفس، فيكتب الله له بالبركة في ربحه، فيرضى بأقل القليل من الربح، فإذا جاء يعرض السلعة عرضها، ولم يبالغ في ربحها، واكتفى بالقليل.
ولذلك قال العلماء: ليست العبرة بكثرة الأرباح، وإنما العبرة بوضع الله للبركة، فكم من أرباح قليلة بارك الله لأهلها فأصبحت كثيرة، وأنت ترى بعض التجار وضع الله لهم البركة فيما يجنون من أموال، وتجد أرباحهم معقولة، وتصرفاتهم في السوق مقبولة من الناس، وقد وضع الله لهم القبول، فهم يرضون بالقليل، فمثل هؤلاء توضع لهم البركة بسبب اليُسر والسماحة، وإذا أصبح الإنسان مُيَسِّراً سهلاً، فإذا جئت تشتري الشيء انظر فيه، فإذا وجدت الشيء يستحق القيمة، كما ذكر لك البائع، فإياك أن تستغل ضعفه، وإياك أن تستغل حاجته، فبعضٌ من الناس يعلم أن الرجل مديون، وأنه سيبيع عمارته، أو يبيع سيارته، أو يبيع أرضه، فيغتنم فرصة الحاجة، فمثل هذا إذا ضيَّق على أخيه حَرِيٌّ أن يضيق الله عليه، وحَرِيٌّ أن ينزع الله البركة من السلعة التي يأخذها، ولذلك على المسلم أن يعلم أن الله ليس بغافل عما يعمل وأنه مطلع على ما يكون منه، وأن الله ابتلاه بكثرة المال لكي يظهر صدق إيمانه، وكمال يقينه، وشكره لنعمة ربه وفضله عليه، فإذا قابل هذه النعمة بالشكر، وأخذ يسامح الناس، فمن وجده مديوناً يبيع ماله، فإن استطاع أن يعطيه المال أعطاه، وإذا لم يستطع اشترى منه الشيء بحقه وقدره، فهذا من السماحة، ومما يثيب الله عليه أهله.
فالسماحة في البيع أن تقتصر على أقل الربح.
قيل لـ عبد الرحمن بن عوف: (كيف أصبحت ثرياً غنياً في تجارتك؟ قال: كنتُ أرضى بأقل الربح)، وهذا نوع من سياسة التجارة، ومن أعظم الأسباب التي يصبح الإنسان بها حائزاً على ثقة الناس، وأيضاً حائزاً على أكثر الربح؛ لأنه إذا رضي بأقل الربح نفقت السلعة عنده، وأصبحت أرباحه أكثر من غيره، وأصبح الذين يشترون منه أكثر ممن يشترون من غيره، فيكسب الوقت، ويكسب كثرة من يشتري منه، ويكسب الثقة بكثرة من يشتري منه، وحينئذ يكون له أضعاف ما يكون لمن يبالغ في الربح، فالذي يبالغ في الربح يجعل على السلعة ربحاً مضاعَفاً، فيتأخر بيع السلعة، وقلَّ مَن يشتري منه إلا الغني أو المحتاج الذي يضطر لشراء السلعة؛ لكن الأول يشتري منه الكلُّ؛ لأن ربحَه معقول.
فالمقصود: أن السماحة في البيع الرضا بالقليل من الربح، وإذا علمتَ أن أخاك أعطاك ربحاً معقولاً، فبادر وبِعْ.
وأما السماحة في الأخذ والشراء: ألَّا تسوم الشيء بأقل مما يستحق، فإياك أن تظلم أخاك فتعطيه أقل مما يستحق! وقد جاء في حديث ابن ماجة واخْتُلِفَ في إسناده وإن كان ضعَّفَه بعضُ العلماء رحمهم الله: أن أم ورقة اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إني أدخل إلى السوق، فأرى السلعة، وأعلم أنها تستحق مالاً، فأعطي أقل مما تستحق، فإذا ساومني الرجل حتى يصل إلى ما تستحقه اشتريت -بمعنى: أنها تسوم بالأقل حتى تصل إلى القدر الذي تريده وتعلم أن السلعة تستحقه- وإن كنتُ أريد أن أبيع السلعة سُمتها بأكثر، فلا يزال يراجعني حتى يصل إلى القدر الذي يعطيه، أفيحل لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ادفعي مالك؛ فإن شاء أن يأخذ، وإن شاء أن يبيع)، يعني: لا تساوميه بهذا الوجه، فتظلمي السلعة حقها؛ ولكن أعطي السوم الذي تريدين، وهذا لا شك أنه يريح الإنسان، ويختصر له الوقت.
إذا أنت جئت إلى رجل، وقلت له: هذه سلعتك -مثلاً- قيمتها عشرة آلاف، فبدل أن تقول: ثمانية آلاف، ثمانية آلاف ونصف، تسعة آلاف، ويضيع عليك الوقت، اختصر الوقت وقل له: هذه تسعة آلاف، إذا كنت تريد أن تبيع فالحمد لله، وإذا كنت لا تريد أن تبيع فيفتح الله، وييسر الله لي ما هو خير منها، فإذا أراد أن يبيع أخذت وحمدت الله، وإذا أراد ألَّا يبيع انصرفتَ مباشرةً وبمجرد أن تتجاوز يقول: يا فلان! تعال خُذْ.
فاختصرتَ الوقت، وارتحتَ.
ولربما أثناء السَّوْم وقَعَتْ خصومةٌ، فإن المشتري ربما لا يأمن الضرر، ففي بعض الأحيان ربما أنه لو سامَ بأقل مما تستحق السلعة لسفَّهَه الرجلُ كما هو شأن بعض الناس أنه يكون فيه حِدَّة، فربما سفَّهَه، وربما ظن أنه يريد أن يخذُلَه ونحو ذلك.
فالمقصود: أن الإنسان الأفضل له والأكمل أن يتعاطى السماحة، وأن يكون سهلاً ميسراً في بيعه وشرائه، وأخذه وعطائه، والله ما رأينا أحداً يعامل الناس بالسماحة إلا وجدنا الله يلطف به من حيث لا يحتسب، وانظر في التجار، وانظر في إخوانك بل حتى في أقرب الناس منك، انظر إليه في تعامله مع الناس، فإذا وجدته سمحاً ميسراً وجدت أموره ميسرة كما يسر على الناس، وإن وجدته يدقق ويشدد ويضيق على الناس ويأخذهم بالشدة والعنت ضيق الله عليه، حتى إنك تنظر في أحوال مرضه وأحوال عافيته تجد الأمور معه في غاية العسر، سبحان الله! مثلما يفعل مع الناس.
فتجد الرجل السمح إذا كان في مرض أو شدة وجدت من تيسير الله في شفائه ودوائه وطبيبه وعلاجه ما يوافق ما يفعله مع الناس.
وتجد الآخر الذي ينكد على الناس ويضيق على الناس تجد أموره منكدة، (لا يظلم اللهُ الناسَ شيئاً أبداً)، ما إن يطرق باباً إلا أقفله الله في وجهه، وأخَّره كما أخَّر الناس، وتأذَّى كما أذى الناس؛ لأن التضييق على الناس ربما -والعياذ بالله- ابتُلي الإنسان بسببه بدعوةِ مَن لا تُرَدُّ دعوتُه، ولربما نكَّد على الغير وضيَّق عليهم وترك السماحة معهم، فدُعي عليه، فنُزعت البركة من ماله، أو نزعت البركة من علمه أو عمله، نسأل الله السلامة والعافية.
فينبغي للمسلم أن يكون سمحاً في أموره، وأن يأخذ من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعامله ما يعينه على ذلك، فمن تذكر سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجعل هديه نبراساً له في أموره وشئونه؛ فإنه يجد نفسه -لا شعورياً- تنساب وراء ذلك الخير الكثير من البساطة واليُسر والسماحة وحسن المعاملة مع الناس حتى يعيش حميداً ويموت بالذكر الحميد، وهذا عاجل ما يكون له في الدنيا، ولَمَا ينتظره عند الله أجل وأسمى.
والله تعالى أعلم

‌‌حكم أخذ المرأة من مال زوجها بغير إذنه


‌‌السؤال
هل في شكاية هند للنبي صلى الله عليه وسلم تقتير زوجها في النفقة عليها، وإذْنِ النبي صلى الله عليه وسلم لها بالأخذ من ماله بالمعروف، هل هو خاص بها أم عام لمثلها، علماً بأنه قد تكثُر طلبات الزوجة ولا يستطيع الزوج تلبيتها دائماً؟


‌‌الجواب
حديث هند رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شَحِيْح مِسِّيْك، أفآخذ من ماله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف).
يقول أهل العلم: إن أبا سفيان كان يقتِّر عليها -على ضوء الشكوى-.
وقيل: لا.
بل إنها ادعت ذلك، والله أعلم! هل أصابتْ أو أخطأتْ؟ قالوا: ربما كانت -وهذا لا يبعُد؛ لأن هنداً كانت من أشراف قريش وعِلْية قريش، وأمثال هؤلاء من النسوة كان عندهن نوع من البذخ، والإسراف في التعامل، فإذا صدمها الزوج بوضع الأمور في نصابها وصفته بأنه شَحِيْح وأنه مِسِّيْك، والله أعلم بما بين أبي سفيان وهند! ونحن لا ندخل بينهما، فالله أعلم؛ لكن الذي ذكره بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما فطن لذلك، ولذلك قال لها: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فدل على أن الأمر راجع للكفاية، وأنه لا يجوز لها أن تتجاوز المعروف.
وبناءً على ذلك: فحديث هند في قول جماهير العلماء رحمهم الله على أنه قاعدة عامة، وأن كل امرأة ظلمها زوجها وحرمها نفقتها يجوز لها أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها بالمعروف، والمراد بـ (ما يكفيها وولدها): حقوق النفقة، فمثلاً: إذا كان الزوج مقتِّراً في الطعام، وتحتاج لأطفالها إلى طعام، أو جاء بنوع من الطعام الردئ، وهو قد فتح الله عليه، فالنفقة مقدرة بحال الزوج؛ لأن الله أمر كلَّ ذي سعة أن ينفق من سعته: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7] قُدِرَ بمعنى: ضُيِّق، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، فدل على أن النفقة راجعة إلى حال الزوج.
وبناءً على ذلك: إذا كان الزوج غنياً وضيَّق على زوجته، وأصبحت الزوجة لا تجد طعاماً، أو تجد طعاماً لكنه مضيِّق ومقتِّر فيه أخذت ما يكفيها، فلو فُرِض أن كلفتها الشهرية في الطعام: ألف وخمسمائة، وأعطاها ألفاً، فإنها وأولادها قد ثبت استحقاقهم منه خمسمائة، فتأخذ من ماله بقدر الخمسمائة ولا تزيد، وهكذا بالنسبة للكسوة، فإذا كان لم ينفق عليها في كسوتها وأعطاها -مثلاً- مائتين، والكسوة تستحق لمثلها بالمعروف -من مثله في ماله ووسعه- خمسمائة، فضيَّق عليها وأعطاها أربعمائة أو أعطاها ثلاثمائة، فتأخذ إلى تمام الخمسمائة، وهذا شيء بينها وبين الله عزَّ وجلَّ، تتقي الله عزَّ وجلَّ في مال زوجها، وعلى الزوج أن يتقي الله في رعيته.
والواقع أن سائر النفقات بين الأزواج والزوجات تحتاج إلى شيء من العدل والإنصاف، والأفضل للزوج أن يكون سمحاً وعلى الزوج خاصةً إذا كانت المرأة صالحة وفيها خير أن يتقي الله عزَّ وجلَّ فيها، وأن يعينها على أمور دينها بإصلاح دنياها، ولذلك كان السلف رحمهم الله يتسامحون مع الأهل والزوجات في مثل هذا، فإذا كانت المرأة -مثلاً- صالحة ديِّنة واحتاجت إلى شهود بعض المناسبات وكانت من بيت أو من أسرة تحتاج إلى كثرة شهود المناسبات، وهو يعلم فيها الدين والصلاح، ويحس أن ثَمَّ إحراجاً لها أن تلبس نوعاً معيناً، وأنها تحتاج إلى نوع من اللباس وإن كان غالباً لكنه يعيش طويلاً، والمرأة محافظَةٌ وفيها صيانةٌ، فلا مانع أن يجبر خاطرها، وأن يظهرها بالمظهر الحسن، فكم تتجمل الزوجة مع زوجها في المناسبات! وكم تحمل همه عند إكرام ضيوفه وقرابته ومن ينزل به، وكم حرصت على أن تُظْهِره على أحسن الأحوال! فمثل هذه المشاعر ينبغي وأن تقابَل بالمثل، ولذلك إذا عامل الإنسان زوجه بنفس الأحاسيس والمشاعر ضحت المرأة، وشعرت أنها عند بعل كريم وعند زوج كريم، فكم من مواقف احتاج الرجل أن تسهر زوجتُه معه فسَهِرَتْ! وكم من مواقف احتاج فيها أن تضحي الزوجة بالخدمة فضحَّتْ! وكم من مواقف احتاج الزوج فيها إلى أن تصبر الزوجة على أبنائه وأذيتهم وإضرارهم فصبرتْ وتحملتْ! وربما يمر عليك في العام ثلاثة أو أربعة مواقف في مناسبات خاصة، فربما تكون هذه المناسبة زواج أختها أو زواج أخيها ولا تتكرر، فجبر خاطرها بمثل هذه السماحة والتضحية والتيسير بشرط ألَّا يصل إلى التبذير والإسراف -طيب وتحتسب عند الله أن يخلف عليك ما أنفقت، ويبارك لك في زوجتك، وتحتسب عند الله أن تكون ديِّنة تثبت على دينها، فإن المرأة الصالحة إذا كانت ديِّنة في نفسها ربما انهزمت أمام المجتمع، فلربما وقفت في المناسبات بحالة رثَّة، ورمقتها الأبصار ونظرت إليها، وحصل لها من الضيق والحرج ما لا تتحمله، وقد لا تستطيع أنت الرجل أن تتحمل ذلك، ولو تصورت نفسك وأنت تلبس جميل الثياب ومحاسن الثياب وتتكلف بهيئتك وبزَّتك وثوبك بما لا تستطيعه وأنت رجل، فكيف بالمرأة التي تُفْتَن بالمظاهر! وكيف بالمرأة التي لا تستطيع أن تتحمل إهانة الغير لها أو لمزها أو الحط من قَدْرها! هذه الأمور ينبغي -وخاصةً على الأخيار- التنبه لها، وأن يُعامِل الغيرَ مثل ما يحب أن يُعامَل مِن غيره، ولا شك أن عماد الأمور كلها على تقوى الله عزَّ وجلَّ.
ولا أزال أوصي وأكرر الوصية بالصبر، خاصةً على الصالحات والتجمُّل معهن، واحتساب الأجر عند الله عزَّ وجلَّ في ذلك.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا السداد والرشاد، وأن يلطف بنا في الآخرة والمعاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو رب العباد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 17-08-2024, 08:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,847
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (345)

صـــــ(1) إلى صــ(19)





شرح زاد المستقنع -‌‌ باب الشركة [2]
من الأمور المترتبة على عقد شركة العنان: تصرف الشريك في مال شريكه بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه، ويترتب على هذا أحكام الوكالة من الأمانة والنصح لمن يعامله ويشاركه، والضمان عند التعدي والإفراط، سواء في النقد أو في الشرط
‌‌تصرف الشريك في مال شريكه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فينفذ تصرف كل منهما فيهما]: يعني: في المالين.
تقدم معنا في المجلس الماضي بيان حقيقة شركة العنان في اللغة والاصطلاح.
ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يترتب على وجود عقد هذه الشركة، و (الفاء) هنا للتفريع والتفصيل، فإذا ثبت أنه يجوز للطرفين أن يشتركا بماليهما ويكون ذلك على سبيل شركة العنان، فإنه يترتب على ذلك أن ينفذ تصرف كل منهما في المالين، فلو دفع زيد عشرة آلاف ريال ودفع رجل آخر عشرة آلاف ريال واشتركا، فإنه حينئذٍ يحق لكل واحد منهما أن يتصرف في ماله؛ لأنه يملكه في الأصل، ويحق له أن يتصرف في مال أخيه وصاحبه؛ لأنه وكيل عنه.
وإذا أُثبت في قوله: [فينفذ تصرف]: فالعقود: - فيها ما هو نافذ.
- وفيها ما هو موقوف.
- وفيها ما هو صحيح.
- وفيها ما هو فاسد.
- وفيها ما هو باطل.
فإذا قيل: عقد نافذ ترتبت عليه الأحكام الشرعية.
مثلاً: البيع، إذا قلنا: هذا بيع نافذ فإننا حينئذٍ نحكم بملكية الثمن والمثمن على سبيل المعاوضة بين الطرفين، ونحكم بالآثار المترتبة على البيع، فإذا قلنا: ينفذ تصرف كل منهما، فهذه العشرون ألفاً التي اتفقا عليها واشتركا فيها لو باع أحد الشريكين واشترى بهذا المبلغ فإنه ينفذ تصرفه، فلو أخذ العشرين ألفاً وأخذ منها خمسة آلاف، وصرفها دولارات، وتاجر في العملة، وأصبح يربح من خلال متاجرته وصرفه، قلنا: إن تصرفه صحيح؛ لأنه يتصرف في مال إما أصالةً وهي العشرة آلاف التي يملكها، وإما وكالةً بالنسبة لنصيب صاحبه، فأي مبلغ يسحبه من الشركة التي هي رأس مالها عشرون ألفاً، إذا سحب عشرة آلاف من العشرين ألفاً فخمسة آلاف يتصرف فيها بالأصالة، وخمسة آلاف يتصرف فيها بالوكالة.
كذلك أيضاً لو أنهما دفعا في شركة العنان خمسة ملايين، واتفقا على أنهما يتاجران بهذا المبلغ، فاشترى أحدهما عمارة لكي يستثمرها، فإن هذا الشراء والعقد الذي تم بمال الشركة عقد صحيح وينفذ وتترتب عليه الأحكام الشرعية، فيصح شراؤه، ثم بعد مدة لو رأى أن هذه العمارة من المصلحة أنه اشتراها بمليون على حساب الشركة وسيبيعها بثلاثة ملايين أو بأربعة ملايين فباعها، فإن البيع صحيح كما لو باع ماله هو؛ لأنه بمقتضى عقد الشركة صار إما أصيلاً يتصرف في المال أصالةً، وإما أن يتصرف فيه وكالةً، هذا معنى قوله: [فينفذ تصرف].
كذلك أيضاً لو أنهما اشتريا عمارةً بمليون، فهذه العمارة تكون ملكاً للطرفين، فلو أن أحدهما أجَّر هذه العمارة في الموسم بخمسمائة ألف أو بمليون أو بأي مبلغ ما دام أنه في حدود التصرف المعقول والمقبول وفق عرف أهل التجارة، نقول: إن التأجير الذي تم تأجير صحيح، وعقده صحيح، فليس للآخر أن يقول: أن أملك من العمارة نصفها فلا تؤجرها، أو يقول: العمارة أملك نصفها فلا تبعها، ولا يقول أيضاً: الخمسة ملايين أملك نصفها فلا تشترِ أية عمارة، ولا تشترِ العمائر، ليس من حقه، كل منهما يتصرف في هذا المال وفق المصلحة، ووفق ما فيه خير الشركة، وما يعود عليهما بالنفع

‌‌تصرف الشريك في مال الشركة بحكم الملك في نصيبه

قوله: [بحكم المُلك في نصيبه، وبالوكالة في نصيب شريكه]: (المُلك أو المِلك أو المَلك) هو مثلث من المثلثات، بحكم المُلك في نصيبه، وبحكم الوكالة في نصيب صاحبه، إذا اشترك الاثنان في مال الشركة فإن كلاهما أصيل في ماله وكيل في مال الآخر.
وقول المصنف: [بحكم]: يعني: أن القاضي والفقيه والمفتي يفتي ويحكم بصحة هذا التصرف بناءً على أن عقد الشركة يقتضي أنه مالك لنصيبه؛ لأنه ماله وخرج من ماله، ويقتضي أيضاً أنه وكيل عن صاحبه

‌‌تصرف الشريك في مال الشركة بالوكالة في نصيب شريكه

قوله: [وبالوكالة في نصيب شريكه]: يعني: بحكم الوكالة.
وإذا قلتَ: إن الشريك مع شريكه وكيلٌ، تترتب عليه أحكام الوكالة

‌‌أحكام الوكالة المترتبة على تصرف الشريك في مال الشركة بالوكالة

وبناءً عليه: فأول مسألة أن يده على مال صاحبه يدُ أمانة، وقد قدَّمنا في باب الوكالة أن الوكالة تقتضي أن يكون أميناً على مال موكله، فإذا قلتَ: إن يده يدُ أمانة، تتفرع جميع الأحكام المتعلقة على يد الأمانة.
فتقول
‌‌الأمانة
- أولاً: مقتضى كونِها يد أمانةٍ: أن يتصرف بكل نزاهة بعيداً عن الخيانة والإضرار، فكل من الشريكين يجب عليه أن يكون ناصحاً لشريكه، وأن يكون قلبُه وقالَبُه على وَفْق المصلحة، فلا يُظْهِرُ أنه شريكُه في الظاهر ويريد أن يضر به في الباطن.
- ثانياً: لا يتعامل في الظاهر بما يخالف مقتضى الأمانة.
إذاً: عندنا جانبان: - ما يتعلق بقلبه إذا غش أخاه.
- إذا كان في ظاهره أنه لا يريد تنمية مال التجارة، ولا يريد تنمية مال الشركة.
فإنه يأثم شرعاً؛ لأنه دخل مع أخيه على النصيحة للمسلم، وأنه يريد أن يستثمر ماله، فيجب عليه أن يتعاطى جميع الأسباب.
قال بعض العلماء: ومقتضى ذلك أنه لو كان هناك عمل معين من التجارات يحسن القيام به والظروف مهيأة للقيام به، وعلم أن مصلحة مال الشركة أن يدخل في هذا المال فتأخر؛ فإنه يعتبر خلاف الأمانة، ولا يخلو من تبعةٍ ومسئوليةٍِ أمام الله عزَّ وجلَّ، لماذا؟ لأنهما حينما تعاقدا -والله مطلع على هذا العقد وآمرٌ لكل منهما أن يفي بمقتضى العقد- قد تعاقدا أن ينصح كل منهما للآخر، وتعاقدا على أن يبذل كل منهما ما في وسعه لتنمية المال كأنه ماله.
وعلى هذا: أولاً: ينبغي عليه النصيحة لمن يعامله ويشاركه
‌‌الضمان عند التعدي أو التقصير في النقد والبيع والشراء
ثانياً: لا يجوز له أن يتسبب في إدخال أي ضرر من خلال تصرفه في مال الشركة، فكل تصرف من الشريكين يُضْمَن بضابط الوكالة، فإن كان التصرف الذي قام به معتبراً عند أهل الخبرة، وليس فيه تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان عليه، وإن تعدى أو فرط من خلال تصرفه فإنه يضمن المال، ولا يكون -في هذه الحالة- الشريكُ متحملاً المسئولية.
أ- بيع النسيئة: ومثال ذلك لو أن اثنين اشتركا بمليون لاستثماره في التجارات، ثم شاء الله عزَّ وجلَّ أن أحدهما أخذ من المليون نصفها -مثلاً- واشترى نوعاً من السلع، وأصبح يبيعها بالنسيئة والأجل ولا يبيعها نقداً، أو يبيع بعضها نسيئةً وبعضها حاضراً ونقداً، فنقول: إن الوكيل لا يجوز له أن يبيع نسيئة إلا إذا أذن له موكله.
وعلى هذا: فلو أنه اشترى -مثلاً- بمليون ريال سلعاً، فباع نصفها نقداً ونصفها نسيئةً، نقول لشريكه: ما رأيك في هذه المسألة؟ هل استأذنك؟ فإن قال: لم يستأذني فإن مقتضى الوكالة ألا يبيع نسيئةً حتى يستأذن صاحبه، فإن عَدَلَ عن هذا الأصل فقد تعدَّى وفرَّط.
فنقول: بالنسبة لما بعتَه نقداً فهو بينك وبين أخيك، وما بعتَه نسيئةً فإنك تتحمل المسئولية عن جميع المبلغ، والمقدار الذي يتعلق بشريكك تدفعه له ولا يتحمل قيمة ذلك نسيئةً، هذا بيع، وأنت تصرفت فيه من عند نفسك، وتتحمل مسئوليته.
هذا إذا كان بيع النقد وبيع النسيئة.
ب- البيع عن طريق فيه مخاطرة: ولو أن اثنين دفع كل منهما عشرة آلاف ريال، فأصبح رأس مال الشركة عشرين ألف ريال، واشتريا به محلاً تجارياً، كأن يكون محل طعام، أو محل أدوية، أو محل أكسية أو نحو ذلك، فقام أحدهما وباع وأصبح يصرف البضاعة عن طريقٍ فيه مخاطرة.
ومن المعلوم أن البيع: - يكون نقداً.
- ويكون -مثلاً- عن طريق الشيكات.
والذي عن طريق الشيكات ليس كالذي هو نقد، فالنقد مضمون الحق؛ ولكن الذي عن طريق الشيك لا يأمن أن يكون الشيك بدون رصيد، وأيضاً لا يأمن ضياع الشيك، أو تحمل المسئولية في هذا الشيك، ففيه نوع من المخاطرة.
فإذا باع وأخذ وقبض المبلغ فلا إشكال، ولا ضرر على الشريك الآخر.
لكن لو أنه باع بالشيك، ثم تبين أن الشيك بدون رصيد، فقد تكون هناك مسئولية، ولا شك أنه سيتحمل المسئولية، فهذا الشيك -الذي هو بدون رصيد- سيضطر إلى انتظار تسديد المبلغ من هذا الشخص، فلو كان هذا الشخص قد تحمل عشر عمليات أو ثلاث عمليات أو أربع أو خمس، بهذه الطريقة، فسيصبح مديوناً لخمسة أو ستة، فلو دخلت الشركة في هذا الدين ربما جلست سنوات، وهذا مفلس، لو فرضنا أنه مفلس، وأعطى الشيك بدون رصيد، فستتضرر الشركة بتأخر سداده.
فحينئذٍ نقول: ما دمت قد أعطيت على هذه الوجه الذي فيه وجه النسأ فإنك تتحمل المسئولية لوحدك، وإذا رضي الشريك أن يدخل معه، وقال: أتحمل معك المسئولية فلا إشكال، أما إذا قال الشريك: لم أسمح لك أن تبيع بهذه الطريقة، وقد بعت بها؛ فإنك تتحمل المسئولية، وحينئذٍ تغرم للشريك حصته، فلو كانت الصفقة التي أتممتها -فرضاً- بخمسة آلاف ريال، فإن للشريك فيها ألفين وخمسمائة ريال تعطيه إياها نقداً قيمة المبيع حاضراً، ثم وجهه على هذا الذي ماطل.
إذاً: حينما قلنا: إنه بحكم الوكالة في مال صاحبه يستلزم هذا أن تترتب مسائل الوكالة على هذا النوع من المعاملة، وهذه فائدة: أن العلماء قدموا باب الوكالة على باب الشركة؛ لأن هناك مسائل في الشركة تترتب على الوكالة، ولأن الشركة تعتبر نوعاً من أنواع الوكالة؛ ولأن كلاً من الشريكين ينظر إلى المصلحة في ماله أو في الجزء الذي يتعلق به من مال الشركة.
ج- البيع بغير نقد البلد: وقول المصنف: [وبالوكالة في نصيب شريكه]: يطَّرِد في جميع المسائل، فلو أن الوكيل باع بغير نقد البلد، مثلاً: المعروف عندنا أننا نتعامل بالريالات، فباع بالدولارات، والبيع بالدولارات مشكلتها أنه إذا باع بغير نقد البلد لم يأمن أن تكون القيمة ناقصة، فاليوم -مثلاً- قيمة الدولار ثلاثة ريالات، وقد تكون في الغد ريالين، فحينئذٍ تكون -مثلاً- السلعة بثلاثة آلاف ريال، فإذا باعها فسيبيعها بألف دولار اليوم؛ ولكن المبلغ إذا صُرِف في الغد فسيصرف بألفين.
إذاً: البيع بغير نقد البلد فيه مخاطرة، فربما ترتفع قيمة النقد فيكون أربح للشركة، وربما نزلت قيمة النقد فأضر بالشركة.
وبناءً على ذلك: إذا باع الوكيل بغير نقد البلد ضمن.
ففي جميع هذه المسائل: أن يبيع نسيئة، وأن يبيع بغير نقد البلد، وأن يخاطر، كل هذه المسائل يتحمل الشريك فيها المسئولية إذا لم يجرِ العُرْف بذلك، ولم يكن هناك شرط -أي: استئذان- فلو أنه استأذن صاحبه وشريكه وقال له: يا فلان! نحن لو أننا لم نبِع إلا نقداً لأضررنا بمصلحة الشركة، فأرى من مصلحة الشركة ومن كثرة من يتعامل معنا أن الأفضل والأصلح أن نقبل هذه الشيكات أو أن الأفضل والأصلح أن نبيع بالنسيئة والأجل إلى سنة أو إلى سنتين، فإن قال له: قبلت فيتحملان المسئولية معاً.
ولو أن هذا المماطل والمفلس جلس سنوات فإنهما يتحملان المسئولية معاً.
هذا بالنسبة لو استأذنه.
كذلك لو قال له: يا فلان! أريد أن أبيع بالدولارات، أو ثمة أناس سيأتونني بجنيهات فهل أبيع فقط بالريالات؟ أو أبيع بالعملة الأخرى؟ فإن له: بِعْ بأية عملة، فهذا تفويض.
ولو باع بأية عملة، فغلت العملة أو رخصت فإنها تكون على مال الشركة ربحاً وخسارة.
وهذا معنى قوله رحمه الله: [وبالوكالة في نصيب شريكه]
‌‌الضمان عند التعدي أو التفريط في الشرط
قال العلماء: كما أن النقود وصفة البيع والشراء يتحمل فيها الوكيل المسئولية، كذلك يتحمل المسئولية عن شرط الشركة.
أ- مخالفة المكان المشروط لعمل الشركة فيه: فمثلاً: لو أن اثنين دفع كل منهما خمسة آلاف ريال، فأصبح رأس مال الشركة عشرة آلاف ريال.
وقال: يا فلان! نشترك -يعني: هذه شركة بيننا-؛ ولكن أشترط أن تكون شركتنا في المدينة، أو أشترط أن يكون عملنا في مكة، أو أشترط أن يكون عملنا -مثلاً- في هذه القرية، ولا نخرج عنها، فأنا أرى أنه من الخطر أن نخاطر ونخرج بشركتنا إلى مكان آخر، فإن قال: قبلتُ وقع الاتفاق بينهما على أن عمل الشركة يكون في المدينة، أو في مكة، أو في أي موضع، ويجب على الشريك الآخر ألَّا يجاوز هذا الاتفاق، فلو أنه خرج بالمال من مكة التي اتُّفِق على البيع فيها فبمجرد خروجه من مكة يُصبح المال في ذمته، ويخرج المال من الوكالة إلى باب الضمان.
وعلى هذا لا يتاجر إلا في حدود ما اتُّفِق عليه.
ب- مخالفة السلع المشروطة: كذلك لو قال له: يا فلان! هذه عشرة آلاف ريال؛ ولكني لا أستطيع أن أعمل بهذه العشرة آلاف إلا في تجارة العود أو في تجارة الطيب عموماً، فإن قال له -مثلاً-: في تجارة الطيب فقال: لا أريد إلا العود، ولا أريد إلا الخشب من العود، أو أريد الدهن من العود، أو أريد الدهن من الأطياب، أو أريد ثلاثة أنواع من الطيب، فبمجرد خروجه عن هذا المتَّفَق عليه خرج عن الشركة، وأصبح متحملاً المسئولية بذلك التصرف وضامناً للمال.
ج- مخالفة نوع التعامل المشروط: وهكذا بالنسبة للتعامل، فإذا قال له: نتعامل مع التجار، ويكون بيعنا بالجملة.
فباع بالمفرَّق، فإنه في هذه الحالة يضمن.
وكل ما اتُّفِق عليه من بنود الشركة وصار بينهما شرطاً -بشرط ألَّا يتضمن الغرر، وألَّا يتضمن الضرر- فإنه يصبح لازماً للطرفين.
د- مخالفة العرف فيما يوجب الضرر: - أيضاً: بالعرف: قد يكون العرف دالاً على تضمين الشريك.
الآن -مثلاً- لو أن شخصاً اتفق مع آخر، فدفع أحدُهما عشرة آلاف، والآخر عشرة آلاف، فأصبح رأس المال عشرين ألفاً، فاحتِيْج أن يتاجَرَ في القماش، فقال أحد الشريكين للآخر: سأسافر وأحضر القماش الذي نريد أن نتاجر فيه.
فقال له: سافِرْ، فسافَرَ واشترى صفقة من القماش بعشرة آلاف، فأراد أن يأتي بها، ويجلبها إلى المكان المتفق عليه بين الطرفين، فإذا به متردد بين ثلاث وسائل: وسيلة أكثر خطراً وضرراً، ووسيلة أقل خطراً وضرراً، ووسيلة بينهما، ولا يُقْدِم أحدٌ على النقل بالوسيلة التي هي أكثر مخطارة إلا ويتحمل المسئولية، فإنه لو كان -مثلاً- نقل البضاعة عن طريق البحر غير مأمون، فحينئذٍ يعدل إلى البر، فإن أصر على نقلها بالبحر نقول: يستأذن شريكه، فإن أذِنَ فالحمد لله، فلو غرقت السفينة غرقت عليهما، فإن لم يستأذنه فالعرف قاضٍ أنه إذا سلك هذا الطريق فقد خاطر وغرر بمال الشركة، فيتحمل المسئولية.
إذاً: كوننا نقول: يُعطى حكم الوكالة، فهذا يوجب الدخول في جميع التصرفات.
فكل ما يتصرف به الشريك في مال الشركة يتصرف به وَفق ما هو معروف وبمجرد خروجه عن المعروف المألوف يتحمل المسئولية، وبمجرد خروجه عن الشرط المتفق عليه بين الطرفين يتحمل المسئولية.
وقس على هذا ما يكون من مسائل التجارة بمال الشركة
‌‌شروط شركة العنان
[ويشترط أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين، ولو مغشوشين يسيراً]: الشركة تأتي على أقسام: القسم الأول: ما يسمى بشركة الأموال.
والقسم الثاني: يسمى بشركة الأعمال.
والقسم الثالث: يسمى بشركة الوجوه.
فشركة الأموال تشمل نوعين: - العنان.
- والمفاوضة.
ورأس المال -في كل من العنان والمفاوضة-: من النقود، على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- في شركة المفاوضة؛ لأن الأمر أوسع منه في شركة العنان، وأما بالنسبة لشركة الأموال فلابد من أن يجتمع الطرفان أو الشريكان أو الثلاثة الشركاء أو الأربعة في المال، بخلاف شركة الأعمال، فقد يكون العمل من أحدهما والمال من الآخر، أو يكون العمل من الاثنين، فالأول: مضاربة، والثاني: شركة أبدان
‌‌شروط متعلقة بالشريكين
بالنسبة لمسألة الشروط المتعلقة بشركة العنان: فبعضها يتعلق بالشريكين، وبعضها يتعلق بمحل الشركة الذي هو المال المتفق عليه، وما ينتج عنه من الربح.
فأما بالنسبة للشريكين فقد ذكرنا أنه يُشترط فيهما أهليتهما للشركة، وذكرنا هذه الأهلية وضوابطها
‌‌الشروط المعتبرة في محل الشركة

يبقى

‌‌السؤال
ما هو الشرط المعتبر في محل الشركة؟ محل الشركة: مكان التعاقد، فإذا تعاقدا على شركة العنان، فينبغي أن يكون لها ضوابط وشروط: أ- رأس المال المعلوم: الشرط الأول: رأس مال، وأن يكون معلوماً: وبناءً على ذلك: فلو قال له: أشاركك بمالٍ، ولم يبين نوع المال ولا جنسه ولا قدره ولا صفته، فإن الشركة لا تصح؛ لأنها شركة بمجهول.
وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن شركة العنان إذا وقعت بمال معلوم -والمال المعلوم: كقولك: أشاركك بعشرة آلاف مني وعشرة آلاف منك، فالعشرة آلاف ريال معلومة- فحينئذٍ تصح.
وأما بالنسبة للجهالة فيستوي أن يكون جهالةَ جنس، أو جهالةَ نوع، أو جهالةَ قَدْر، وقد فصلنا في أنواع الجهالات في باب البيوع.
لكن من أمثلتها: النقدان: فإن قال له: أشاركك بذهب، أو أشاركك بفضة فقد حدد الجنس، وحدد النوع بقوله: ذهب، أو قوله: فضة؛ ولكنه لم يحدد قَدْر الذهب وقَدْر الفضة، ولا نوع الذهب والفضة، هل هو تِبْر أم مصوغ أم مضروب، فحينئذٍ تكون جهالة، فهذا النوع من الجهالة يقتضي عدم صحة الشركة.
فلابد أن يعين تعييناً يوجب ارتفاع الجهالة، وقد ذكرنا ضوابط التعيين وما ينبغي أن يلتزم به المتعاقدان إذا اشترطنا العلم بالثمن والمُثمن.
يقول العلماء: إن محل الشركة الذي اتفق عليه الطرفان -وهو رأس المال- يُنَزَّل منزلة الثمن والمُثْمَن في البيع، لأن المراد من الثمن والمُثْمَن في المعاوضة بينهما: الربح، وكذلك في الشركة حينما دفعتَ أنتَ خمسة آلاف، ودفعتُ أنا خمسة آلاف، فمقتضى ذلك والمقصود من ذلك: أن تربح هذه العشرة، فتربح في نصيبك، ويربح أيضاً من يشاركك في نصيبه.
إذاً: الخلاصة: يشترط في صحة عقد الشركة أن يكون رأس المال معلوماً، فلا يصح أن يكون بالمجهول، ورأس المال إما أن يكون من النقدين؛ الذهب والفضة، أو يكون من غير النقدين، وسنبين حكم شركة العنان بغير النقدين، كالعُروض، فمثلاًَ: لو جاء يُمَثِّل بالنقدين عرفنا المثال؛ لكن من غير النقدين، مثل أن يقول له: أشاركك بهذا الكيس من الأرز -على القول بصحة شركة العنان بالعُروض، وسنبين ما هو الصحيح في هذه المسألة-، فلو دفع أحدهما كيس أرز، والثاني كيس سكر، على أن يباع وبقيمتهما تكون الشركة، فقالوا: إذا كان مجهول الكمية لا يصح؛ لأنه ربما ظن صاحبه أن هذا الكيس سعته مائة كيلو، ولربما ظن أنه مائة وخمسين، وإذا به أقل من ذلك، فإذا كان الطعام جزافاً وكان غير معين وزناً ولا كيلاً فإنه حينئذٍ لا يصح أن يُشارك عليه؛ لكن لو عُرِف أن هذا النوع من الأكياس فيه مائة كيلو فالمعروف عرفاً كأنه تلفظ به؛ لكن نتكلم إذا كان مجهول القدر، فهذا مثال الجهالة في رأس المال إذا كان من العُروض.
أو يقول له: أشاركك بسيارة من عندي بقيمة سيارة من عندك.
فالسيارة التي عنده أو قيمة هذه السيارة مجهولة، لا ندري هل هي غالية فتكون كما يرجو الشريك، أو تكون دون ذلك؟! الخلاصة: أنه يشترط أول شيء: العلم برأس المال، ولا يصح أن يكون رأس مال شركة العنان مجهولاً.
نعم.
ب- أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين: [ويشترط أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين]: هذا هو الشرط الثاني: النقدان هما: الذهب والفضة، وسبب تسميتهما بالنقدين كما قال بعض العلماء: أنهم كانوا في القديم إذا دفعت الدراهم وهي من الفضة، أو دفعت الدنانير وهي من الذهب، فإنها تُنْقَد وتُخْتَبر؛ لأنها ربما كانت زائفة، وربما كانت مغشوشة، فقد يكون ظاهرها ذهباً؛ ولكنها مغشوشة في داخلها، ويعرف ذلك بإنكسارها عند محاولة كسرها، كذلك تختبر بالضرب على الأرض، والصيارفة لهم ذوق وحس في ذلك.
فإذا اتفق اثنان على شركة عنان برأس مال من ذهب أو رأس مال من فضة من النقدين، الدراهم أو الدنانير، وفي زماننا الريالات أصلها فضة، والدولارات والجنيهات والليرات والدنانير أصلها ذهب، فهذه العُملة إذا اتُّفِق على أي نوع منها ننظر إلى رصيده وأصله، ننظر إلى الأصل، فإذا اتُّفِق في الريالات فشركة العنان هذه بفضة، وإذا اتفق على الجنيهات فهي شركة عنان بذهب، فإذا اتفق الطرفان على شركة عنان بذهب بقدر معلوم، فإن الشركة تصح بإجماع العلماء، وكل العلماء متفقون على أن الشريكين إذا دفعا من النقدين من الذهب أو الفضة واتفق النوع أنه ذهب من الطرفين أو فضة من الطرفين فإن شركة العنان صحيحة، وليس هناك خلاف بين أهل العلم، وقد حكى هذا الإجماع غير واحد من العلماء رحمهم الله وأشار إلى ذلك الإمام ابن قدامة، والإمام ابن المنذر وغيرهما رحمة الله عليهم: أنه إذا اتفق الطرفان على ذهب مضروب أو فضة مضروبة -وفي زماننا العُملة على حسبها- أن الإجماع قائم؛ هذا إذا اتحد يعني: كان ذهباً من الطرفين، أو فضةً من الطرفين، أو أية عملة أخرى متحدة من الطرفين.
أما لو أن أحدهما دفع ذهباً والآخر دفع فضة فحينئذٍ شدّد طائفة من العلماء ونُسب هذا القول إلى الجمهور، فقالوا: لا يصح أن يدفع أحدهما بالذهب والثاني بالفضة؛ لأنه إذا وقع العقد على هذه الصورة فإنه يتضمن عقدين في عقد واحد، وأيضاً ربما تضمن الغرر.
وتوضيح ذلك: قالوا: لأنه إذا دفع أحدهما الذهب ودفع الآخر الفضة؛ فمعناه أننا سنضطر: إما إلى صرف الذهب، أو إلى صرف الفضة؛ لأنه لا يمكن أن تكون الشركة مُقَدَّرة حتى نعلم قدر رأس المال، فنحتاج -مثلاً- لو كان الرواج للذهب إلى أن نصرف الفضة بالذهب، فإذا كانت الدراهم في يوم الشركة نقول -مثلاً- الثلاثة دراهم أو الخمسة دراهم بدينار، فلو صُرِفت الثلاثة بدينار فإنها قد تأتي في الغد بأقل، وقد تأتي في الغد بأكثر، وقيل: إذا اتَّفَقَ اليوم فإن الصرف غداً يختلف، وحينئذٍ يتفقان على رأس مال بقيمة، وفي الغد تختلف القيمة، فلا يؤمَن الغرر، وحينئذٍ يدفع رأس مال معلوم أم مجهول؟ قيل: مجهول، صحيح أنه في الظاهر معلوم؛ لكنه سيئول إلى جهالة، إذْ لا نضمن أن يكون الصرف غالياً، ولا نضمن أن يكون الصرف رخيصاً، وكذلك في زماننا، لو دفع أحدهم بالريالات، ودفع الآخر بالدولارات فمعنى ذلك أنه يحتاج إلى صرف الدولارات بالريالات إذا كان الرواج للريالات، أو يحتاج إلى صرف الريالات بالدولارات إذا كان التعامل بالدولارات، وهذا الصرف لا يُضمن؛ لأنه إذا قال له: ادفع ثلاثين ألف ريال، وأدفع أنا عشرة آلاف دولار؛ لأن الصرف اليوم للدولار بثلاثة ريالات، فحينئذٍ يكون قد اتفق معه على شيء لا تُضْمَن نتيجته، فاليوم كما ذكرنا ربما تكون بثلاثة ريالات، وآخر النهار ربما يرتفع وربما ينخفض، وربما بقي على حاله.
فرأس المال متردد ومتذبذب ولا يمكن أن يُضمن بقاؤه على حال واحدة.
فلذلك شدد فيه طائفة من العلماء رحمهم الله؛ لكن على القول بأنه يجوز أن يدخل في الشركة بذهب مقابل فضة، وبفضة مقابل ذهب.
فالسؤال: كيف تطبق الأحكام؟ قالوا: يكون احتساب الصرف بيوم العقد، وهذا المبلغ يُنَزَّل على يوم العقد، وعند التقاضي يُرجع إلى القيمة يوم الاتفاق ويوم التعاقد.
وهذا لا شك أنه يوجِد شبهةً.
والذي ذكره أصحاب القول المانع، حتى نُسب إلى الجمهور، وشبهتهم قوية؛ لأنه لو أرادا أن يتخذا رأس ماليهما خاصةً عند حصول ضرر أو حصول مفسدة أو حصول أمر يوجِب انفساخ الشركة فجأة، فإننا قد نصرف الأربعة ريالات بدولار، وحينئذٍ يكون رُبُعُ المال مستهلَكلاً للطرف الثاني، مثلاً: لو أن الشركة دخلت بمائة ألف ريال، وهذه المائة ألف في الأصل مقسومة: خمسون ألفاً من هذا، وخمسون ألفاً من هذا، فالخمسون ألفاً من أحدهما كانت دولارات فصُرِفت ريالات في يوم التعاقد، وفي اليوم الذي حصل فيه ما يوجب فسخ الشركة ورجوع كل منهما برأس ماله على صاحبه أو على مال الشركة يوجب أن نعرف كم لهذا من الدولارات، فحينئذٍ سنضطر لو أنه صفيت الشركة على المائة ألف نفسها؛ لكنها نفس المائة ألف في ذلك اليوم كانت الدولارات غالية، فسيدخل قدر من صاحب الدولارات على صاحب الريالات؛ لأنه لا يستطيع أن يعاوضه إلا بحصول نقص في رأس المال، وكذلك أيضاً العكس، فلو أنها صرفت في النقص؛ فحينئذٍ سيأخذ صاحب الريالات ربحاً؛ لأنه سيحصل هناك نوع من الفضل، فلو فرضنا أنه في يوم التصافي بينهما، وعندنا الخسارة وعندنا الربح، فأنت إذا جئت تنظر إلى مائة ألف ريال، فإن خمسين ألف ريال منها لكل واحد منهما، فلا تستطيع أن تؤمِّن رأس مال هذا إلا بأكثر من خمسين ألفاً، في حالة ما إذا جئت تصرف دولارات حتى ترد له رأس ماله، وحينئذٍ يحصل الضرر فيدخل أحدهما على الآخر في حال الزيادة، وفي حال النقص لو أن الدولارات صُرفت بنصف قيمتها، يعني: كانت بأربعة ريالات حينما اتفقا على الشركة، وحينما فسخا الشركة كانت قيمة الدولار ريالين، فإذا كانت قيمة الدولار ريالين فمعناه أن هذا نصف القيمة، وستصبح المائة ألف فيها ما هو ربح، فيُقسم رأس المال ويُعطى هذا الدولارات التي له، ويُعطى هذا الريالات التي له، ويبقى نصف قيمة الدولارات الذي يعادل الثمن؛ لأنه يدخل بتشطير المبلغين، هذا الثمن سيأخذ (1 على 16) الطرف المقابل، وهذا القدر الذي هو (1 من 16) في الأصل من قيمة الدولارات.
إذاً: دخول العملتين المختلفتين في شركة بهذا الوجه يوجد نوعاً من التداخل ونوعاً من الإضرار لأحد الشريكين في مال الآخر، وفي حال الغلاء قد يتضرر الطرف الذي بالعملة الثابتة، وفي حال الرخص يتضرر الطرف الذي شارك بالعملة غير الثابتة، والتي صُرِف مال الشركة بها.
وعلى هذا فإنه يقوي مذهب من قال: إنه لابد من اتحادهما في النوع.
أي: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة.
وقوله رحمه الله: [من النقدين]: فيه مسألتان: المسألة الأولى: صحة شركة العنان إذا كانت من الذهب أو الفضة: على التفصيل الذي ذكرناه.
وهذا -كما ذكرنا- إجماع؛ أنك لو اتفقت مع أخيك على ريالات أو دولارات فإنه لا إشكال في صحة شركة العنان.
ج- النقد المضروب: المسألة الثانية في (النقدين): يشترط أن يكونا مضروبين: فلو أنه اتَّفَق معه بذهب أو فضة من غير النقد المضروب لم تصح الشركة، مثلاً: لو قال أحدهما: أدفع حلياً وأساور، مثل: البناجر، عندي مائة بنجرة من الذهب

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 7 ( الأعضاء 0 والزوار 7)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 381.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 375.15 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.54%)]