تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 38 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كتاب الصيام والحج من الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 19 - عددالزوار : 22 )           »          واتساب يستخدم وضع الإضاءة المنخفضة لمكالمات الفيديو.. كيف يعمل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          هل يعانى هاتف أيفون 16 من مشكلات فى عمر البطارية؟ إليكم ما نعرفه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          استكشف مزايا أنظمة شبكة Wi-Fi مقارنة بأجهزة التوجيه التقليدية فى منزلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          كوالكوم تلغي إنتاج نظام Windows المصغر على أجهزة الكمبيوتر بهذا المعالج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          تطبيق ChatGPT متوفر الآن لنظام Windows.. اعرف التفاصيل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          ما تخافش لو اتسرق منك.. 3 مزايا جديدة من جوجل تساعدك على استعادة هاتفك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          Android 15 متاح الآن لهواتف Pixel.. كيفية التحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          علامات إدمان الأطفال للهواتف الذكية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          هل سقط الماء على اللاب توب؟ إليك كيفية إصلاحه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #371  
قديم 10-02-2023, 03:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
صـ 2961 الى صـ 2975
الحلقة (371)

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 11 ] إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام .

إذ يغشيكم النعاس أمنة منه أي : يلقي عليكم النوم للأمن الكائن منه تعالى [ ص: 2960 ] مما حصل لكم من الخوف من كثرة عدوكم .

وقد كان أسهرهم الخوف ، فألقى تعالى عليهم النوم فأمنوا واستراحوا . وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد ، كما قال جل ذكره : ثم أنـزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وقرئ : ( يغشيكم ) من الإغشاء ، بمعنى التغشية والفاعل في الوجهين هو الله تعالى وقرئ : ( يغشاكم ) على إسناد الفعل إلى النعاس .

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم ( بدر ) في العريش مع الصديق رضي الله عنه ، وهما يدعوان ، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ، ثم استيقظ متبسما ، فقال : « أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل ، على ثغاياه النقع » . ثم خرج من باب العريش ، وهو يتلوا : سيهزم الجمع ويولون الدبر

ثم ذكرهم تعالى منة أخرى تدل على نصره إياه بقوله سبحانه : وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به أي : من الحدث الأصغر والأكبر ، وهو تطهير الظاهر ويذهب عنكم رجز الشيطان أي : وسوسته ، بأنكم على هذا الرمل لا تتمكنون من المحاربة ، ومع فقد الماء كيف تفعلون ؟ فأزال تعالى بإنزاله ذلك ، فكان لهم به طهارة باطنة ، فكملت لهم الطهارتان ، أي : من وسوسة أو خاطر سيئ ، وهو تطهير الباطن : وليربط على قلوبكم أي : يقويها بالثقة ، بالأمن وزوال الخوف .

ويثبت به الأقدام أي : على الرمل .

قال مجاهد : أنزل الله عليهم المطر ، فأطفأ به الغبار ، وتلبدت به الأرض ، وطابت نفوسهم ، وثبتت به أقدامهم .

قال الجشمي : قال القاضي : وهو أشبه بالظاهر .

وقيل بالصبر وقوة القلب التي أفرغها عليهم ، حتى ثبتوا لعدوهم . وقوله ( به ) ، يرجع إلى الماء المنزل ، أو إلى ما تقدم من البشارة والنصر .

ثم أشار تعالى إلى نعمة خفية أظهرها تعالى لهم ليشكروه عليها بقوله :
[ ص: 2961 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 12 ] إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان .

إذ يوحي ربك إلى الملائكة أي : الذين أمد بهم المسلمين ، أني معكم أي : بالعون والنصر .

قال الجشمي : يحتمل مع الملائكة ، إذا أرسلهم ردءا للمسلمين ، ويحتمل مع المسلمين ، كأنه قيل : أوحي إلى الملائكة أني مع المؤمنين ، فانصروهم وثبتوهم .

وقوله تعالى : فثبتوا الذين آمنوا أي : بدفع الوسواس وبالقتال معهم والحضور مددا وعونا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب أي : الخوف .

ثم علمهم تعالى كيفية الضرب بقوله تعالى : فاضربوا أمر للمؤمنين أو للملائكة . وعليه ، ففيه دليل على أنهم قاتلوا : فوق الأعناق أي : أعالي الأعناق التي هي المذابح ، تطييرا للرءوس ، لأنها فوق الأعناق .

واضربوا منهم كل بنان أي : أصابع ، جمع ( بنانة ) ، قيل : المراد بالبنان ، مطلق الأطراف مجازا ، تسمية للكل بالجزء ، لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل .

والمعنى : اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 13 ] ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب .

ذلك أي : الضرب أو الأمر به بأنهم شاقوا الله ورسوله أي : خالفوهما فيما شرعا .

وقوله تعالى : ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب تقرير [ ص: 2962 ] لما قبله ، إن أريد بالعقاب ما وقع لهم في الدنيا ، أو وعيد بما أعد لهم في الآخرة ، بعد ما حاق بهم في الدنيا ، وبيان لخسرانهم في الدارين .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 14 ] ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار .

ذلكم خطاب للكفرة على طريقة الالتفات فذوقوه أي : ذلك العذاب أيها الكفار في الدنيا وأن للكافرين عذاب النار في الآخرة .

ثم نهى تعالى عن الفرار من الزحف ، مبينا وعيده بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 15 ] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار .

أي : الظهور بالانهزام ، و ( الزحف ) الجيش الكثير ، تسمية بالمصدر ، و الجمع زحوف ، مثل فلس وفلوس .

ويقال : زحف إليه ، أي : مشى ، وزحف الصبي على استه قبل أن يقوم . شبه بزحف الصبيان مشي الجيش الكثير للقتال ، لأنه لكثرته يرى كأنه يزحف ، أي : يدب دبيبا قبل التداني للضراب أو الطعان .

قال أبو السعود : زحفا منصوب ، إما على أنه حال من مفعول : لقيتم أي : زاحفين نحوكم ، أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر ، هو الحال منه ، أي : يزحفون زحفا .

وأما كونه حالا من فاعله أو منه ، ومن مفعوله معا كما قيل فيأباه قوله تعالى : فلا تولوهم الأدبار إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابق إلى العدو أو بكثرتهم ، بل توجه العدو إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الإدبار عادة ، والمحوج إلى النهي عنه .

[ ص: 2963 ] وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين ، حيث تولوا مدبرين ، وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفا - بعيد .

والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال ، وهم كثير جم وأنتم قليل ، فلا تولوهم أدباركم ، فضلا عن الفرار ، بل قابلوهم وقاتلوهم ، فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم .

قال الشهاب : عدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار تقبيحا للانهزام ، وتنفيرا عنه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 16 ] ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير .

ومن يولهم يومئذ أي : يوم اللقاء دبره إلا متحرفا لقتال أي : مائلا له .

يقال : تحرف وانحرف واحرورف : مال وعدل ، وهذا التحرف إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء ، وإما بالفر للكر ، بأن يخيل عدوه أنه منهزم ليغره ، ويخرجه من بين أعوانه ، فيفر عنه ، ثم يكر عليه وحده أو مع من في الكمين من أصحابه ، وهو باب من مكايد الحرب : أو متحيزا إلى فئة أي : منضما إلى جماعة أخرى من المسلمين ليستعين بهم : فقد باء أي : رجع بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير أي : ما صار إليه من عذاب النار .

تنبيهات :

الأول : دلت الآية على وجوب مصابرة العدو ، أي : الثبات عند القتال ، وتحريم الفرار منه يوم الزحف ، وعلى أنه من الكبائر ، لأنه توعده عليه وعيدا شديدا .

الثاني : ظاهر الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن ، وعلى كل حال ، إلا حالة التحرف ، أو التحيز ، وهو مروي عن ابن عباس ، واختاره أبو مسلم .

قال الحاكم : وعليه أكثر الفقهاء .

[ ص: 2964 ] وروى عن جماعة من السلف ، أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم ( بدر ) ، لقوله تعالى : ومن يولهم يومئذ وأجيب بأن الإشارة في : ( يومئذ ) إلى يوم لقاء الزحف كما يفيده السياق ، لا إلى يوم بدر .

الثالث : ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى : أو متحيزا إلى فئة أي : جماعة أخرى من المسلمين ، سوى التي هو فيها ، سواء قربت تلك الفئة أو بعدت وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس ، لكثرة الجيش من ناحية المجوس ، فقال عمر رضي الله عنه : لو تحيز إلي لكنت له فئة .

وفي رواية عنه : أيها الناس ! أنا فئتكم .

وقال الضحاك : المتحيز إلى فئة ، الفار إلى النبي وأصحابه .

وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه ، وجنح إلى هذا ابن كثير حيث قال : من فر من سرية إلى أميره ، أو إلى الإمام الأعظم ، دخل في هذه الرخصة .

ثم أورد حديث عبد الله بن عمر المروي عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم ، قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة ، فكنت فيمن حاص ، فقلنا : كيف نصنع ، وقد فررنا من الزحف ، وبؤنا بالغضب ، ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا ! ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت لنا توبة ، وإلا ذهبنا ! فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : من القوم ؟ فقلنا : نحن الفرارون . فقال : « لا ، بل أنتم العكارون ، أنا فئتكم وفئة المسلمين » ، قال : فأتيناه حتى قبلنا يده .

قال الترمذي : حديث حسن ، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد . انتهى .

أي : وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة .

قال الحاكم في ( مسألة الفرار ) : إن [ ص: 2965 ] ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده ، فإن ظن المقاومة لم يحل الفرار ، وإن ظن الهلاك جاز الفرار إلى فئة وإن بعدت ، وإذا لم يقصد الإقلاع عن الجهات . وحمل عليه حديث ابن عمر المذكور .

وعن الكرخي : أن الثبات والمصابرة واجب ، إذا لم يخش الاستئصال ، وعرف عدم نكايته للكفار ، والتجأ إلى مصر للمسلمين ، أو جيش ، وهكذا أطلق في ( " شرح الإبانة " ) فلم يبح الفرار إلا بهذه الشروط الثلاثة ، ولم يعتبر العدد الآتي بيانه .

الرابع : روي عن عطاء أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى : الآن خفف الله عنكم قال الحاكم : إذا أمكن الجمع فلا نسخ وأقول : كنا أسلفنا أن السلف كثيرا ما يعنون بـ ( النسخ ) تقييد المطلق ، أو تخصيص العام ، فلا ينافي كونها محكمة إطلاقهم النسخ عليها .

قال بعض الأئمة : هذه الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة ، وإن تضاعف عدد المشركين أضعافا كثيرة ، لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في السورة هذه : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا

وعن ابن عباس : من فر من اثنين فقد فر ، ومن فر من ثلاثة فلم يفر .

وبالجملة ، فلا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف ، فإن هذه الآية مقيدة بها ، فيكون الفرار من الزحف محرما بشرط بينه الله في آية الضعف .

وفي ( " المهذب " ) : إن زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين ، جاز الفرار ، لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون ، فالأفضل الثبات ، وإن ظنوا الهلاك ، فوجهان : يلزم الانصراف [ ص: 2966 ] لقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

والثاني : يستحب ولا يجب ، لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ، فإن لم يظنوا الهلاك لم يجز الفرار ، وإن ظنوه فوجهان :

يجوز لقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولا يجوز ، وصححوه لظاهر الآية .

ثم بين تعالى أن نصرهم يوم بدر ، مع قلتهم ، كان بحوله تعالى وقوته ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 17 ] فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم .

فلم تقتلوهم أي : بقوتكم ولكن الله قتلهم أي : سبب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم وألقى الرعب في قلوبهم ، وقوى قلوبكم ، وأمدكم بالملائكة ، وأذهب عنها الفزع والجزع .

وما رميت أي : أنت يا خاتم النبيين ، أي : ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين إذ رميت أي : بالحصباء ، لأن كفا منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر ولكن الله رمى أي : بلغ بإيصال ذلك إليهم ليقهرهم .

وقال أبو مسلم في معنى الآية : أي : ما أصبت إذا رميت ، ولكن الله أصاب .

والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة ، وذلك ظاهر في أشعارهم .

وقد روي عن غير واحد ، أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبي صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين يوم بدر ، حين خرج من العريش ، بعد دعائه وتضرعه واستكانته ، فرماهم بها وقال : « شاهت الوجوه » . ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ، ففعلوا ، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين ، فلم يبق أحد منهم إلا ناله ما شغله عن حاله ، وانهزموا .

تنبيه :

قال الجشمي : تدل الآية أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته [ ص: 2967 ] وتمكينه ، إذ معلوم أنهم قتلوا ، وأنه رمى ، ولذلك قال : إذ رميت ولهذا يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه .

وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر ، صارت أقوى ، فلذلك قال : فلم تقتلوهم

وقال في ( " العناية " ) : استدل بهذه الآية والتي قبلها على أن أفعال العباد بخلقه تعالى ، حيث نفى القتل والرمي .

والمعنى : إذ رميت أو باشرت صرف الآلات .

والحاصل : ما رميت خلقا إذا رميت كسبا . وأورد عليه أن المدعى وإن كان حقا ، لكن لا دلالة في الآية عليه ، لأن التعارض بين النفي والإثبات الذي يتراءى في بادئ النظر ، مدفوع بأن المراد ما رميت رميا تقدر به على إيصاله إلى جميع العيون ، وإن رميت حقيقة وصورة ، وهذا مراد من قال : ( ما رميت حقيقة إذ رميت صورة ) ، فالمنفي هو الرمي الكامل ، والمثبت أصله وقدر منه .

فالإثبات والنفي لم يردا على شيء واحد ، حتى يقال : ( المنفي على وجه الخلق ، والمثبت على وجه المباشرة ) ، ولو كان المقصود هذا لما ثبت المطلوب بها ، الذي هو سبب النزول ، من أنه أثبت له الرمي ، لصدوره عنه ، ونفى عنه ، لأن أثره ليس في طاقة البشر ، ولذا عدت معجزة له ، حتى كأنه لا مدخل له فيها أصلا . فمبنى الكلام على المبالغة ، ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع ، لأن معناه الحقيقي غير مقصود . هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام إذ لو كان المراد ما ذكر ، لم يكن مخصوصا بهذا الرمي ، لأن جميع أفعال العباد كذلك بمباشرتهم وخلق الله . انتهى .

وهذا التحقيق جيد ، وقد نبه عليه أيضا العلامة ابن القيم في ( " زاد المعاد " ) حيث قال :

وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله ، وأنه هو الفاعل حقيقة ، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة ، مذكورة في غير هذا الموضع .

ومعنى الآية : أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي ، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه ، فالرمي يراد به الحذف والإيصال ، فأثبت لنبيه الحذف ، ونفى عنه الإيصال . انتهى .

وقوله تعالى : وليبلي المؤمنين منه أي : ليمنحهم من فضله بلاء حسنا [ ص: 2968 ] أي : منحا جميلا ، بالنصر والغنيمة والفتح ، ثم بالأجر والمثوبة ، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره ، فيعرفوا حقه ويشكروه .

قال أبو السعود : واللام ، إما متعلقة بمحذوف متأخر ، فالواو اعتراضية ، أي : وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة ، فعل ما فعل ، لا لشيء غير ذلك ، مما لا يجديهم نفعا ، وإما برمي ، فالواو للعطف على علة محذوفة ، أي : ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي . . إلخ . وتفسير البلاء هنا بالمنحة هو ما اختاره المحققون من قولهم : أبلاه الله ببلية إبلاء حسنا ، إذا صنع به صنعا جميلا ، وأبلاه معروفا ، قال زهير في قصيدته التي مطلعها :


صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو وأقفر من سلمى التعانيق والثقل


والتعانيق والثقل : مواضع :


جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو


أي : ( إحسان فعلهما بكم ، فأبلاهما خير البلاء ، أي : صنع الله إليهما خير الصنيع الذي يبتلي به عباده ، والإنسان يبلى بالخير والشر ) ، أي : صنع بهما خير الصنيع الذي يبلو به عباده .

واستظهر الطيبي تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده . قال ابن الأعرابي : يقال : أبلى فلان إذا اجتهد في صفة حرب أو كرم ، ويقال : أبلى ذلك اليوم بلاء حسنا .

إن الله سميع أي : لدعائهم واستغاثتهم عليم أي : بمن يستحق النصر والغلب وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 18 ] ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين .

ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن ، أو القتل ، أو الرمي . ومحله الرفع ، أي : المقصود أو الأمر ذلكم .

وقوله : وأن الله موهن كيد الكافرين معطوف عليه ، أي : [ ص: 2969 ] مضعف بأس الكافرين وحيلهم بنصركم وخذلانهم ، أي : أن المقصود إبلاء المؤمنين ، وتوهين كيد الكافرين .

قال ابن كثير : هذا بشارة أخرى ، مع ما حصل من النصر ، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل ، مصغر أمرهم ، وأنه في تبار ودمار ، أي : وقد وجد المخبر على وفق الخبر ، فصار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولله الحمد والمنة .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 19 ] إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين .

إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح خطاب للمشركين ، أي : إن تطلبوا الفتح ، أي : القضاء وأن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين ، فقد جاءكم القضاء بما سألتم .

روى الإمام أحمد والنسائي والحاكم ، وصححه ، عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال ، حين التقى القوم : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه ، فأحنه - أي : فأهلكه - الغداة ، فكان المستفتح .

وعن السدي ، أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر : أخذوا بأستار الكعبة ، فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعز الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين ، فقال تعالى : إن تستفتحوا الآية .

وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ; أن هذه الآية إخبار عنهم بما قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك [ ص: 2970 ] الآية ، قيل : في هذا الخطاب تهكم بهم ، يعني في قوله تعالى : فقد جاءكم الفتح لأن الذي جاءهم الهلاك والذلة . كذا في ( " العناية " ) .

وهو مبني على أن الفتح بمعنى النصر ، وله معنى آخر وهو الحكم بين الخصمين والقضاء . وبهما فسرت الآية أيضا .

وإن تنتهوا أي : عن الكفر وعداوة الرسول فهو خير لكم أي : في الدنيا والآخرة وإن تعودوا أي : لمحاربة الرسول : نعد أي : لنصره عليكم ولن تغني أي : تدفع عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين أي : بالنصر . قرئ بكسر ( إن ) استئنافا ، وفتحها ، على تقدير اللام .

تنبيه :

جوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى : إن تستفتحوا للمؤمنين ، أي : إن تطلبوا النصر باستغاثتكم ربكم ، فقد حصل لكم ذلك ، فاشكروا ربكم ، والزموا طاعته .

وقوله تعالى : وإن تنتهوا أي : عن المنازعة في أمر الأنفال ، وعن طلب الفداء على الأسرى الذي عوتبوا عليه بقوله تعالى : لولا كتاب من الله سبق فقال تعالى : وإن تنتهوا

عن مثله - : فهو خير لكم وإن تعودوا إلى تلك المنازعات نعد عليكم بالإنكار ، وتهييج العدو ; لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة ، وترك المخالفة ، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة ، إذا لم يكن الله معكم بالنصر ، فإنه مع الكاملين في إيمانهم .

وهذا الوجه قرره الرازي ونقله عن القاضي .

قال البيضاوي : ويؤكده الآية بعد ، فإن المراد بها الأمر بطاعة الرسول ، والنهي عن الإعراض عنه ، والله أعلم .
[ ص: 2971 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 20 ] يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون .

يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه أي : تعرضوا عنه بمخالفة أمره : وأنتم تسمعون أي : القرآن الناطق بوجوب طاعته ، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 21 ] ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون .

ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا أي : ادعوا السماع وهم لا يسمعون أي : سماع تدبر واتعاظ ، وهم المنافقون أو المشركون .

فالمنفي سماع خاص ، لكنه أتى به مطلقا للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا ، بجعل سماعهم بمنزلة العدم . وقيل : السماع عن التصديق .

قال الزمخشري : والمعنى أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة ، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور ، من قسمة الغنائم وغيرها ، كان تصديقكم كلا تصديق ، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن .

ثم بين تعالى سوء حال المشبه بهم ، مبالغة في التحذير ، وتقديرا للنهي ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 22 ] إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون .

إن شر الدواب أي : ما يدب على الأرض ، أو شر البهائم : عند الله الصم أي : عن سماع الحق البكم أي : عن النطق به الذين لا يعقلون أي : لا يفهمونه ، جعلهم تعالى من جنس البهائم ، لصرفهم جوارحهم عما خلقت له ، ثم جعلهم شرها لأنهم [ ص: 2972 ] عاندوا بعد الفهم ، وكابروا بعد العقل ، وفي ذكرهم في معرض التشبيه بهذا الأسلوب غاية في الذم .

وقد كثر في التنزيل تشبيه الكافرين بنحو هذا ، كقوله تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء وقال تعالى : أولئك كالأنعام بل هم أضل
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 23 ] ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون .

وقوله تعالى : ولو علم الله فيهم أي : في هؤلاء الصم البكم خيرا صدقا ورغبة ، لأسمعهم أي : الحجج والمواعظ ، سماع تفهم وتدبر ، أي : لجعلهم سامعين حتى يسمعوا سماع المصدقين ، أي : ولكن لم يعلم الله فيهم شيئا من ذلك ، لخلوهم عنه بالمرة ، فلم يسمعهم كذلك ، لخلوه عن الفائدة وخروجه عن الحكمة ، وإليه أشير بقوله تعالى : ولو أسمعهم لتولوا أي : ولو أسمعهم سماع تفهم ، وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية ، لتولوا عما سمعوه من الحق .

وهم معرضون أي : عن قبوله جحودا وعنادا .

قال الرازي : كل ما كان حاصلا ، فإنه يجب أن يعلمه الله ، فعدم علم الله بوجوده ، من لوازم عدمه ، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده .

تنبيه :

قد يتوهم أن الشرطيتين في الآية مقدمتا قياس اقتراني ، هكذا : لو علم فيهم خيرا لأسمعهم ، ولو أسمعهم لتولوا ، ينتج : لو علم فيهم خيرا لتولوا ، وفساده بين .

وأجيب : بأنه إنما يلزم النتيجة الفاسدة لو كانت الثانية كلية ، وهو ممنوع .

واعترض بأن هذا المنع ، وإن صح في قانون النظر ، إلا أنه خطأ في تفسير الآية ، لابتنائه على أن المذكور قياس مفقود [ ص: 2973 ] شرائط الإنتاج ، ولا مساغ لحمل كلام الله عليه .

وأجيب : بأن المراد منع كون القصد إلى ترتيب قياس ، لانتفاء شرط ، لا أنه قياس فقد شرطه ، كما أنه يمنع منه عدم تكرار الوسط أيضا ، وإنما المقصود من المقدمة الثانية تأكيد الأولى ، إذ مآله إلى أنه انتفى الإسماع ، لعدم الخيرية فيهم ، ولو وقع الإسماع ، لا تحصل الخيرية فيهم ، لعدم قابلية المحل . كذا في " العناية " .

وقد حاول بعضهم تصحيح كونها قياسا شرطيا ، متحد الوسط ، صحيح الإنتاج ، بتقدير : لو علم فيهم خيرا في وقت ، لتولوا بعده .

وقوله تعالى
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 24 ] يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون .

يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الاستجابة : بمعنى الإجابة . قال :


وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب


( يريد : فلم يجبه .

وقائله كعب بن سعد الغنوي ، والقصيدة في الأصمعيات رقم 14 ) .

والمراد بها الطاعة والامتثال ، وإنما وحد الضمير في قوله : دعاكم - أي : الرسول - لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله تعالى .

وقال الزمخشري : لأن استجابته صلى الله عليه وسلم ، كاستجابته تعالى ، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد .

وقوله : لما يحييكم قال عروة بن الزبير - فيما رواه ابن إسحاق - أي : للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل ، وقواكم بها بعد الضعف ، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم .

وإنما سمي الجهاد حياة ، لأن في وهن عدوهم بسببه حياة لهم وقوة ، أو لأنه سبب الشهادة الموجبة للحياة الدائمة ، أو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة ، [ ص: 2974 ] كما قال تعالى : وإن الدار الآخرة لهي الحيوان أي : الحياة الدائمة ، فيكون مجازا مرسلا ، بإطلاق السبب على المسبب ، أو استعارة . وقيل : لما يحييكم أي : من العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب ، كما أن الجهل موته .

قال الشهاب : وإطلاق الحياة على العلم ، والموت على الجهل استعارة معروفة ، ذكرها الأدباء ، وأهل المعاني . وأنشد الزمخشري لبعضهم :


لا تعجبن الجهول حلته فذاك ميت ، وثوبه كفن


وقد ألم فيه بقول أبي الطيب ، من قصيدته التي أولها :


أفاضل الناس أغراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن


ومنها


لا تعجبن مضيما حسن بزته وهل تروق دفينا جودة الكفن


والأظهر أن يعنى بـ ( ما يحييكم ) ، ما يصلحكم من أعمال البر والطاعة ، فيدخل فيه ما تقدم وغيره .

تنبيه :

استدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على وجوب إجابته إذا نادى أحدا وهو في الصلاة .

روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : كنت أصلي ، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعاني ، فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ ألم يقل الله : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا الآية .

وقوله تعالى : واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه يحتمل وجوها من المعاني .

[ ص: 2975 ] أحدهما : أنه تعالى يملك على المرء قلبه فيصرفه كيف يشاء ، فيحول بينه وبين الكفر ، إن أراد هدايته ، وبينه وبين الإيمان ، إن أراد ضلالته ، وهذا المعنى رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس ، وصححه ، وقاله غير واحد من السلف .

ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول : « يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك » .

فقيل : يا رسول الله ! آمنا بك ، وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال : « نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى ، يقلبها »
.

رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس ولفظ مسلم :

« إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد ، يصرفها كيف شاء » ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم مصرف القلوب ، صرف قلوبنا إلى طاعتك » . انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه عن عبد الله بن عمرو .

وفي رواية : « إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله ، فإذا شاء أزاغه ، وإذا شاء أقامه » - رواه الإمام أحمد عن عائشة - .

وروي أيضا مثله عن جابر وبلال ، والنواس بن سمعان وأم سلمة ، كما ساقه ابن كثير .

وعلى هذا المعنى ، فالآية استعارة تمثيلية ، لتمكنه من قلوب العباد ، فيصرفها كيف يشاء ، بما لا يقدر عليه صاحبها .

شبه بمن حال بين شخص ومتاعه ، فإنه يقدر على التصرف فيه دونه .

ثانيها : أنه حث على المبادرة إلى الطاعة ، قبل حلول المنية ، فمعنى ( يحول بينه وبين قلبه ) ، يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها ، وهو التمكن من إخلاص القلب ، ومعالجة أدوائه وعلله ، ورده سليما ، كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة ، وأخلصوها لطاعة الله ورسوله .

فشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه ، والذي به يعقل ، في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #372  
قديم 10-02-2023, 03:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
صـ 2976 الى صـ 2990
الحلقة (372)



[ ص: 2976 ] ثالثها : أنه مجاز عن غاية القرب من العبد ، لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما ، وانفصال أحدهما عن الآخر .

و يحول إما استعارة تبعية معناه يقرب ، أو استعارة تمثيلية . وهذا المعنى نقل عن قتادة حيث قال : الآية كقوله تعالى : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وفيه تنبيه على أنه تعالى مطلع ، من مكنونات القلوب على ما عسى أن يغفل عنه صاحبها .

وأنه إليه تحشرون أي : فيجزيكم بأعمالكم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 25 ] واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب .

واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة الفتنة : إما بمعنى الذنب كإقرار المنكر ، وافتراق الكلمة والتكاسل في الجهاد وإما بمعنى العذاب .

فإن أريد الذنب فإصابته بإصابة أثره ، وإن أريد العذاب ، فإصابته بنفسه .

و : لا تصيبن جواب للأمر ، أي : إن إصابتكم لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم ، بل تشملهم وغيرهم بشؤم صحبتهم ، وتعدي رذيلتهم إلى من يخالطهم ، كقوله تعالى : ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس قاله القاشاني .

وقد روى الإمام أحمد عن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من قوم يعلم فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون ، ثم لم يغيروه ، إلا عمهم الله بعقاب .

وروي نحوه عن عدي بن عميرة وحذيفة والنعمان وعائشة وأم سلمة .

[ ص: 2977 ] قال الكرخي : ولا يستشكل هذا بقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى لأن الناس إذا تظاهروا بالمنكر ، فالواجب على كل من رآه أن يغيره ، إذا كان قادرا على ذلك فإذا سكت فكلهم عصاة . هذا يفعله ، وهذا برضاه . وقد جعل تعالى ، بحكمته الراضي بمنزلة العامل ، فانتظم في العقوبة . انتهى .

وذكر القسطلاني : أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي ، فلا يتحقق كون الإنسان كارها له ، إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين ، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده ، فكل من لم يكن بهذه الحالة فهو راض بالمنكر ، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار . انتهى .

وعن ابن عباس : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم ، فيعمهم الله بالعذاب واعلموا أن الله شديد العقاب أي : لمن يخالف أوامره .

ثم نبه تعالى عباده المؤمنين السابقين الأولين على نعمه عليهم ، وإحسانه إليهم ، حيث كانوا قليلين فكثرهم ، مستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم ، ورزقهم من الطيبات ، ليشكروه بدوام الطاعة ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 26 ] واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون .

واذكروا أي : يا معشر المهاجرين إذ أنتم قليل أي : في العدد ، مستضعفون في الأرض أي : مقهورون في أرض مكة قبل الهجرة ، تستضعفكم قريش تخافون أن يتخطفكم الناس أي : أهل مكة .

و ( تخطفه ) و ( اختطفه ) بمعنى استلبه وأخذه [ ص: 2978 ] بسرعة فآواكم أي : إلى المدينة : وأيدكم بنصره يعني أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره ، وذلك بمظاهرة الأنصار ، وإمداد الملائكة ، والتثبيت الرباني ، ورزقكم من الطيبات أي : الغنائم لأنها لم تطب إلا لهم لعلكم تشكرون أي : المولى على ما فضل به وأولى .

وما ذكرنا من كون الخطاب في الآية للمهاجرين خاصة ، هو أنسب بالمقام والسياق ، والسياق يشعر به . وقيل : الخطاب للعرب كافة وعليه قول قتادة بن دعامة السدوسي ـ رحمه الله ـ في هذه الآية : كان هذا الحي من العرب أذل الناس وأشقاه عيشا ، وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا ، وأثبته ضلالا .

والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس . وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا الله على نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله . انتهى .

وأقول : الأمر في العرب ، وإن كان كما ذكر ، لكن في تنزيل بعض ألفاظ الآية عليه تكلف لا يخفى فالظاهر ما ذكرنا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 27 ] يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون .

يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون لما ذكرهم تعالى بإسباغ نعمه عليهم ليشكروه ، وكان من شكره الوقوف عند حدوده ، بين لهم ما يحذر منها ، وهو الخيانة .

ويدخل في خيانة الله تعطيل فرائضه ، ومجاوزة حدوده ، وفي خيانة رسوله رفض سنته ، وإفشاء سره للمشركين . وفي خيانة أمانتهم الغلول في المغانم ، أي : السرقة منها ، وخيانة كل ما يؤتمن عليه الناس من مال أو أهل أو سر ، وكل ما تعبدوا به .

[ ص: 2979 ] وقد روي في نزول الآية شيء مما ذكرنا . ولفظ الآية مطلق يتناوله وغيره .

ومن ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن عبد الله بن أبي قتادة قال : نزلت في أبي لبابة حين حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة وأمرهم أن ينزلوا على حكم سعد ، فاستشار قريظة من أبي لبابة في النزول على حكم سعد ، وكان أهل أبي لبابة وأمواله فيهم ، فأشار إلى حلقه - أنه الذبح - قال أبو لبابة : ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله ، ثم حلف ألا يذوق ذواقا حتى يموت ، أو يتوب الله عليه .

وانطلق إلى المسجد ، فربط نفسه بسارية ، فمكث أياما ، حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد ، ثم أنزل الله توبته ، وحلف لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فحله ، فقال : يا رسول الله إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة ، فقال : « يجزيك الثلث أن تصدق به » .

قال بعض المفسرين : دل هذا السبب على جواز إظهار الجزع على المعصية ، وإتعاب النفس وتوبيخها ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي لبابة .

ودل على أنه يستحب إتباع المعصية بالصدقة ، ولأنه عليه السلام قال : يجزيك ثلث مالك ، وهذا سبيل قوله في هود إن الحسنات يذهبن السيئات

وفي قوله : وأنتم تعلمون دليل على أن ذنب العالم بالخطيئة أعظم منه من غيره ، لأن المعنى : وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله .

قال الرازي : ثم إنه لما كان الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد ، نبه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضارة المتولدة من ذلك الحب فقال :
[ ص: 2980 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 28 ] واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم .

واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة أي : محنة من الله ليبلوكم ، هل تقعون بهما في الخيانة ، أو تتركون لهما الاستجابة لله ولرسوله ، أو لا تلهون بهما عن ذكره ولا تعتاضون بهما منه .

فسموا ( فتنة ) اعتبارا بما ينال الإنسان من الاختبار بهم ، ويجوز أن يراد ( بالفتنة ) الإثم أو العذاب ، فإنهم سبب الوقوع في ذلك .

قال الحاكم : قد أمر الله بالعلم بذلك ، وطريق العلم به التفكر في أحوالهما وزوالهما ، وقلة الانتفاع بهما ، وكثرة الضرر ، وأنه قد يعصي الله بسببهما .

وقوله تعالى : وأن الله عنده أجر عظيم أي : لمن آثر رضاه على جمع المال وحب الولد ، فلم يورط نفسه من أجلهما .

وقد جاء التحذير من فتنتهما صراحة مع الترهيب الشديد في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون قيل : هذه الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة ، وما فرط منه لأجل ماله وولده .

ولما حذر تعالى فيم تقدم عن الفتنة بالأموال والأولاد ، بشر من اتقاه في الافتتان بهما ، وفي غيره بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 29 ] يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم .

يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم

[ ص: 2981 ] قال المهايمي : أشار تعالى إلى أن من ترك الخيانة واستجاب لله ، فلا يخاف على أهله وماله وعرضه ، أي : كما خاف أبو لبابة .

فإن من اتقاه تعالى فلا يجترئ أحد على أهله وحوزته ، لأنه يؤتى فرقانا يفارق به سائر الناس من المهابة والإعزاز . انتهى .

وقيل : فرقانا أي : نصرا ، لأنه يفرق بين الحق والباطل ، وبين الكفر بإذلال حزبه ، والإسلام بإعزاز أهله .

ومنه قوله تعالى : يوم الفرقان وقيل : بيانا وظهورا يشهر أمركم ، ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض من قولهم : بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان ، أي : طلع الفجر .

وقيل : فصلا بين الحق والباطل ، ومخرجا من الشبهات ، كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم

والفرقان ( كالفرق ) مصدر ( فرق ) ، أي : فصل بين الشيئين ، سواء كان بما يدركه البصر ، أو بما تدركه البصيرة ، إلا أن الفرقان أبلغ ، لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل ، والحجة والشبهة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 30 ] وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .

وقوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين

لما ذكر الله تعالى المؤمنين نعمه عليهم بقوله تعالى :

[ ص: 2982 ] واذكروا إذ أنتم قليل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نعمته عليه خاصة ، في حفظه من مكر قريش به ليشكره تعالى في نجاته من مكرهم ، واستيلائه عليهم ، وذلك أن قريشا ، لما أسلمت الأنصار ، وأخذ نور الإسلام في الانتشار ، فرقوا أن يتفاقم أمره ، فاجتمعوا في دار الندوة ـ ( وهي دار بناها قصي بن كلاب ليصلح فيها بين قريش ، ثم صارت لمشاورتهم ، وهي الآن مقام الحنفي ، والندوة الجماعة من القوم ، وندا بالمكان اجتمع فيه ، ومنه النادي ) ـ ليتشاوروا في أمره صلى الله عليه وسلم .

فقال أبو البحتري بن هشام : رأيي أن تحبسوه في بيت ، وتشدوا وثاقه ، وتسدوا بابه ، غير كوة ، تلقون إليه طعامه وشرابه منها ، وتتربصوا به ريب المنون .

وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : ليثبتوك أي : ليحبسوك ويوثقوك ، لأن كل من حبس شيئا وربطه فقد جعله ثابتا لا يقدر على الحركة منه .

ثم اعترض هذا الرأي شيخ نجدي دخل معهم ، فقال : بئس الرأي ! يأتيكم من يقاتلكم من قومه ، ويخلصه من أيديكم ! ثم قال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمله ، وتخرجوه من بين أظهركم ، فلا يسركم ما صنع ، واسترحتم .

وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : أو يخرجوك يعني من مكة ، ثم اعترض النجدي أيضا بقوله : بئس الرأي ! يفسد قوما غيركم ، ويقاتلكم بهم . فقال أبو جهل - لعنه الله - : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما ، وتعطوه سيفا ، فيضربوه ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا ، وهذا ما ذكره تعالى بقوله : أو يقتلوك

ثم قال النجدي اللعين : صدق هذا الفتى ، هو أجودكم رأيا ، فتفرقوا على رأي أبي جهل ، مجمعين على قتله ، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، وأذن الله له في الهجرة ، فأمر عليا ، فنام في مضجعه ، وقال له : اتشح ببردتي ، [ ص: 2983 ] فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه .

ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذ قبضة من تراب ، فأخذ الله بأبصارهم عنه ، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ : يس والقرآن الحكيم إلى قوله فهم لا يبصرون

ومضى مع أبي بكر إلى الغار ، وبات المشركون يحرسون عليا ، يحسبون أنه النبي . فلما أصبحوا ساروا إليه ليقتلوه ، فرأوا عليا ، فقالوا : أين صاحبك ؟ فقال : لا أدري ! فاتبعوا أثره ، فلما بلغوا الغار ، رأوا نسج العنكبوت على بابه ، فقالوا : لو دخله لم يبق لنسج العنكبوت أثر . وخيب الله سعيهم ، وأبطل مكرهم .

ثم مكث صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثا ، ثم خرج إلى المدينة
.

روي ذلك عن ابن عباس من طرق عند ابن إسحاق ، والإمام أحمد والحاكم والبيهقي ، دخلت روايات بعضهم في بعض .

وقوله تعالى : ويمكر الله أي : يدبر ما يبطل مكرهم . وقوله : والله خير الماكرين أي : أعظمهم تأثيرا ، قاله المهايمي وأفاد أيضا في مناسبة هذه الآية مع ما قبلها ; أن هذه تشير إلى أن المتقي كما يجعل الله له فرقانا يمنع من الاجتراء على أهله وماله وعرضه ظاهرا يحفظه من مكر من مكر به ، بل يمكر له على ماكره . انتهى .

ثم أخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم ودعواهم الباطل عند سماع آياته تعالى بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 31 ] وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين .

وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا أي : مثل هذا لو نشاء لقلنا مثل هذا أي : المتلو .

وهذا غاية المكابرة ونهاية العناد .

كيف لا ؟ ولو استطاعوا شيئا من ذلك , [ ص: 2984 ] فما الذي كان يمنعهم من المشيئة ، وقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله ، وقرعوا على العجز ، وذاقوا من ذلك الأمرين ، ثم قورعوا بالسيف ، فلم يعارضوا سواه ، مع فرط أنفتهم ، واستنكافهم أن يغلبوا ، خصوصا في باب البيان الذي هم فرسانه ، المالكون لأزمته ، وغاية ابتهاجهم به .

وقوله تعالى : إن هذا إلا أساطير الأولين أي : ما سطروه وكتبوه من القصص . قيل : ( أساطير ) لا واحد له ، وقيل : هو جمع؛ أسطر وسطور وأسطار ، جموع سطر وأحاديث . والأصل في السطر الخط والكتابة . يقال : سطر : كتب ، ويطلق على الصف من الشيء كالكتاب والشجر . كذا في القاموس وشرحه .

وقد روي أن قائل هذا النضر بن الحارث من كلدة ، وأنه كان ذهب إلى بلاد فارس وجاء منها بنسخة حديث رستم وأسفنديار ، ولما قدم ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله ، وهو يتلو على الناس ما قصه تعالى من أحاديث القرون .

قال : لو شئت لقلت مثل هذا ، فزعم أنه مثل ما تلقفه ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس ، جلس فيه النضر فحدثهم من متلقفاته . ثم يقول : بالله ! أينا أحسن قصصا ، أنا أو محمد ؟

وقد أمكن الله تعالى منه يوم بدر ، وأسره المقداد ، ثم أمر صلى الله عليه وسلم به ، فضربت عنقه .


وإسناده قوله إلى الجميع ، إما لرضا الباقين به أو لأن قائله كبير متبع ، وقد كان اللعين قاصهم الذي يعلمهم الباطل ويقودهم إليه ، ويغرهم بمثل هذه الجعجعة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 32 ] وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم .

وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم [ ص: 2985 ] هذا أسلوب من الجحود بليغ ، لأنهم عدوا حقية القرآن محالا ، فلذا علقوا عليه طلب العذاب الذي لا يطلبه عاقل ، ولو كان ممكنا لفروا من تعليقه عليه .

والمعنى ، إن كان هذا القرآن حقا منزلا ، فعاقبنا على إنكاره بالسجيل ، كما فعلت بأصحاب الفيل ، أو بعذاب آخر .

وفي إطلاقهم ( الحق ) عليه ، وجعله من عند الله ، تهكم بمن يقول ذلك ، من النبي أو المؤمنين . وفائدة التعريف فيه الدلالة على أن المعلق به كونه حقا على الوجه ، يدعيه صلى الله عليه وسلم ، وهو تنزيله ، لا الحق مطلقا ، لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع ، غير منزل كالأساطير ، فالتعريف للعهد .

و : ( أمطر ) استعارة أو مجاز ( لأنزل ) .

قال الزمخشري : وقد كثر الإمطار في معنى العذاب . فإن قلت : ما فائدة قوله : من السماء والإمطار لا يكون إلا منها ؟ قلت : كأنه أريد أن يقال : فأمطر علينا السجيل ، وهي الحجارة المسومة للعذاب ، فوضع : حجارة من السماء موضع ( السجيل ) ، كما تقول : صب عليه مسرودة من حديد ، تريد درعا .

وقوله : بعذاب أليم أي : سوى الإمطار المذكور ، أو من عطف العام على الخاص .

وعن معاوية ، أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ! قال : أجهل من قومي قومك ! قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة ، ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له .

أي : الذي هو الأصلح لهم ، ولكن لشدة جهلهم وعتوهم وعنادهم استفتحوا على أنفسهم ، واستعجلوا تقديم العقوبة ، كقوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب وقوله : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة ، كما قال قوم شعيب له : فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين

[ ص: 2986 ] وعن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير أن قائل ذلك النضر بن الحارث ، صاحب القول السالف .

قال عطاء : لقد أنزل في النضر بضع عشرة آية ، فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر .

وروى البخاري عن أنس أن قائل ذلك أبو جهل .

وروى ابن مردويه عن بريدة قال : رأيت عمرو بن العاص واقفا يوم أحد على فرس وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فاخسف بي وبفرسي .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 33 ] وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون .

وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم بيان للموجب لإمهالهم ، وعدم إجابة دعائهم .

واللام لتأكيد النفي ، والدلالة على أن تعذيبهم ، والنبي بين أظهرهم ، غير مستقيم في الحكمة ، لأن سنته تعالى ، وقضية حكمته ، ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانيها ، لأنه لو نزل العذاب في مكانهم لأصاب كل من كان فيه ، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم .

وقوله تعالى : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ذكروا فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أن المراد استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين .

قال الطيبي : وهذا الوجه أبلغ ، لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة .

[ ص: 2987 ] والثاني : أن المراد به دعاء الكفرة بالمغفرة ، وقولهم : ( غفرانك ) في طوافهم بالبيت ، كما رواه ابن أبي حاتم ، فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعا من عذابه ، ولو من الكفرة .

والثالث : أن المراد بالاستغفار التوبة ، والرجوع عن الجميع ما هم عليه من الكفر وغيره ، فيكون القيد منفيا في هذا ، ثابتا في الوجهين الأولين .

قال القاشاني : العذاب سورة الغضب وأثره ، فلا يكون إلا من غضب النبي ، أو من غضب الله المسبب من ذنوب الأمة ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان صورة الرحمة ، لقوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ولهذا لما كسروا رباعيته قال : « اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون » ، ولم يغضب كما غضب نوح عليه السلام وقال : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا

فوجوده فيهم مانع من نزول العذاب ، وكذا وجود الاستغفار ، فإن السبب الأولي للعذاب لما كان وجود الذنب ، والاستغفار مانع من تراكم الذنب وثباته ، بل يوجب زواله ، فلا يتسبب لغضب الله ، فما دام الاستغفار فيهم فهم لا يعذبون . انتهى .

روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنزل الله علي أمانين لأمتي : وما كان الله ليعذبهم الآية ، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة » .

قال ابن كثير : ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه ، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك ، لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ، فقال الله : فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني .

[ ص: 2988 ] وروى الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : العبد آمن من عذاب الله عز وجل ما استغفر الله عز وجل .

ثم بين تعالى أنهم أهل للعذاب لولا المانع المتقدم بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 34 ] وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون .

وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي : وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم ، وحالهم الصد عن المسجد الحرام ، كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، ومن صدهم عنه إلجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الهجرة .

قال القاشاني : أي : ليس عدم نزول العذاب لعدم استحقاقهم لذلك بحسب أنفسهم ، بل إنهم مستحقون بذواتهم ، لصدودهم ، وصدهم المستعدين ، وعدم بقاء الخيرية فيهم ، ولكن يمنعه وجودك ووجود المؤمنين المستغفرين معك فيهم .

ثم قال : واعلم أن الوجود الإمكاني يتبع الخير الغالب ، لأن الوجود الواجبي هو الخير المحض ، فما رجح خيره على شره فهو موجود بوجوده بالمناسبة الخيرية ، وإذا غلب الشر لم تبق المناسبة ، فلزم استئصاله وإعدامه .

فهم ما داموا على الصورة الاجتماعية كان الخير فيهم غالبا ، فلم يستحقوا الدمار بالعذاب ، وأما إذا تفرقوا فما بقي إلا شرهم خالصا فوجب تدميرهم ، كما وقع في واقعة بدر .

ومن هذا يظهر تحقيق المعنى الثاني في قوله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة

لغلبة الشرع على المجموع حينئذ . انتهى .

وقوله تعالى : وما كانوا أولياءه رد لما كانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم ، [ ص: 2989 ] نصد من نشاء ، وندخل من نشاء ، أي : ما كانوا مستحقين ولاية أمره ، لشركهم : إن أولياؤه إلا المتقون أي : من الشرك ، فلهم أن يصدوا المفسدين : ولكن أكثرهم لا يعلمون أي : أنهم لا ولاية لهم عليه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 35 ] وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون .

وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء أي : تصفيرا : وتصدية أي : تصفيقا بالأكف .

روى ابن أبي حاتم أن ابن عمرو رضي الله عنهما حكى فعلهم ، فصفر ، وأمال خده ، وصفق بيديه .

وعن ابن عمر أيضا قال : إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفرون ويصفقون .

وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، يصفرون ويصفقون .

وعن مجاهد أنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته .

وقال الزهري : يستهزئون بالمؤمنين .

وهذه الجملة إما معطوفة على : وهم يصدون فيكون لتقرير استحقاقهم للعذاب ، أو على قوله : وما كانوا أولياءه فيكون تقريرا لعدم استحقاقهم لولايته .

قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه هذا الكلام ؟ قلت : هو نحو من قوله ـ أي : ( الفرزدق ) ـ :


وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا


والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء ، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة .

[ ص: 2990 ] وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال والنساء ، وهم مشبكون بين أصابعهم ، يصفرون فيها ويصفقون .

وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته ، ويخلطون عليه .

ما كنت أخشى ، أي : ما كنت أعلم . وأداهم : جمع ( أدهم ) ، وهو الأسود من الحيات . والعرب تذكر ( الأدهم ) ، وتريد به ( القيد ) ، كما في قصة القبعثرى .

والمحدرجة : السياط . انتهى .

فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون أي : اعتقادا وعملا ، وفيه إشعار بأن هذا الفعل المبطل لحرمة البيت كفر ، للاستهانة بشعائره تعالى والسخرية بها .

والعذاب المذكور هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي ، كما قاله غير واحد من السلف واختاره ابن جرير .

تنبيه :

قال ابن القيم في ( " إغاثة اللهفان " ) : المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق ، والمخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة ، أشباه هؤلاء المشركين ، قال ابن عرفة وابن الأنباري : المكاء والتصدية ليسا بصلاة ، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية ، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار . وهذا كقولك : زرته فجعل جفائي صلتي ، أي : أقام الجفاء مقام الصلة .

والمقصود أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه ، فيهم شبه من هؤلاء ، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر ، فلهم قسط من الذم ، بحسب تشبههم بهم ، وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم ، والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر ، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح ، لئلا يتشبهوا بالنساء ، فكيف إذا فعلوه ، لا لحاجة ، وقرنوا به أنواعا من المعاصي قولا وفعلا . انتهى .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #373  
قديم 10-02-2023, 03:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
صـ 2991 الى صـ 3005
الحلقة (373)



[ ص: 2991 ] وقال قبله : ومن مكائد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين ، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين ، سماع المكاء والتصدية ، والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن ، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان .

وقال شيخه تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى ، في بعض فتاويه : وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ بالشبابات والاجتماع على ذلك ، دينا وطريقا إلى الله وقربة ، فهذا ليس من دين الإسلام ، وليس مما شرعه لهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من خلفائه ، ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين ، بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عهد أصحابه ، ولا تابعيهم بإحسان ، ولا تابعي التابعين ، بل لم يكن أحد من أهل الدين من الأعصار الثلاثة ، لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا العراق ولا بخراسان ولا المغرب ولا مصر يجتمع على مثل هذا السماع ، وإنما ابتدع في الإسلام بعد القرون الثلاثة ، ولهذا قال الشافعي - لما رأى ذلك - : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه ( التغبير ) ، يصدون به الناس عن القرآن ، وسئل عنه أحمد فقال : أكرهه ، هو محدث . قيل ، أتجلس معهم ؟ قال : لا ! وكذلك كرهه سائر أئمة الدين ، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه ، فلم يحضره مثل إبراهيم بن أدهم ، ولا الفضيل بن عياض ، ولا معروف الكرخي ، ولا أبو سليمان الداراني ولا أحمد بن أبي الحواري ، ولا السري السقطي ، وأمثالهم .

والذين حضروه من الشيوخ من المحمودين ، تركوه في آخر أمرهم ، وأعيان المشايخ عابوا أهله ، كما ذكر ذلك الشيخ عبد القادر ، والشيخ أبو البيان وغيرهما من الشيوخ ، وما ذكره الإمام الشافعي رضي الله عنهم أنه من إحداث الزنادقة ، من كلام إمام خبير بأصول الإسلام ، فإن هذا السماع لم يرغب فيه ، ويدعو إليه في الأصل ، إلا من هو متهم بالزندقة ، كابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم .

[ ص: 2992 ] ثم قال رحمه الله : نعم ! قد حضره أقوام من أهل الإرادة والمحبة ، ومن له نصيب في المحبة ، لما فيه من التحريك لهم ، ولم يعلموا غائلته ، ولا عرفوا مغبته ، كما دخل قوم من الفقهاء في أنواع من كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام ظنا منهم أنه حق موافق ، ولم يعلموا غائلته ، ولا عرفوا مغبته ، فإن القيام بحقائق الدين علما وقولا وعملا وذوقا وخبرة لا يستقل به أكثر الناس ، ولكن الدليل الجامع هو الاعتصام بالكتاب والسنة .

ثم قال رحمه الله : ومن كان له خبرة بحقائق الدين ، وأحوال القلوب ، ومعارفها وأذواقها ، عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلب منفعة ولا مصلحة ، إلا وفي ضمن ذلك من المفسدة ما هو أعظم منه ، فهو للروح كالخمر للجسد ، يفعل في النفوس أعظم ما تفعله حميا الكؤوس . ثم قال : وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا يقرب إلى الجنة ، إلا وقد حدث به ، ولا شيئا يبعد عن النار ، إلا وقد حدث به ، وإن هذا السماع لو كان مصلحة ، لشرعه الله ورسوله ، فإن الله يقول : اليوم أكملت لكم دينكم الآية .

وإذا وجد السامع به منفعة لقلبه ، ولم يجد شاهد ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله ، لم يلتفت إليه . كما أن الفقيه إذا رأى قياسا لا يشهد له الكتاب والسنة ، لم يلتفت إليه انتهى .

وقد سلف لنا شيء من هذا البحث عند قوله تعالى : فاذكروني أذكركم فليراجع .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 36 ] إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون .

إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون [ ص: 2993 ] نزلت فيمن ينفق على حرب النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين ، وبيان سوء مغبة هذا الإنفاق ، وقد ذهب الضحاك إلى أنه عني بها المطعمون منهم يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلا من قريش ، يطعم كل واحد منهم ، كل يوم عشرة جزر .

وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم أنها نزلت في أبي سفيان ، ونفقته الأموال في ( أحد ) لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

روى محمد بن إسحاق عن الزهري أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان ، ومن كانت له في تلك العير تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم ، وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا ، ففعلوا . قال : ففيهم ـ كما ذكر عن ابن عباس ـ أنزلت الآية . ولا يخفى شمول الآية لجميع ذلك .

واللام في ليصدوا لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل ، لأن غرضهم الصد عما هو سبيل الله بحسب الواقع ، وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم .

وسبيل الله طريقه وهو دينه ، واتباع رسوله ، ولما تضمن الموصول معنى الشرط ، والخبر بمنزلة الجزاء ، وهو : فسينفقونها اقترن بالفاء ( ينفقون ) إما حال ، أو بدل من : ( كفروا ) وفي تضمن الجزاء من معنى الإعلام والإخبار ، التوبيخ على الإنفاق ، والإنكار عليه ، كما في قوله : وما بكم من نعمة فمن الله

وفي تكرير الإنفاق في شبه الشرط والجزاء ، الدلالة على كمال سوء الإنفاق ، كما في قوله : إنك من تدخل النار فقد أخزيته وقولهم : من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى ، والمعنى : الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله ، والصد عن اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، سيعلمون عن قريب سوء [ ص: 2994 ] مغبة ذلك الإنفاق ، وانقلابه إلى أشد الخسران ، من القتل والأسر في الدنيا ، والنكال في العقبى : قال المتنبي :


إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا


( والأذى هنا المن )

وفي جعل ذات الأموال تصير : حسرة أي : ندما وتأسفا - وهي عاقبة أمرها - مبالغة .

والمراد بالغلبة في قوله : ثم يغلبون الغلبة التي استقر عليها الأمر ، وإن كانت الحرب بينهم سجالا قبل ذلك . فإن قلت : غلبة المسلمين متقدمة على تحسرهم ، بالزمان ، فلم أخرت بالذكر ؟

قلت : المراد أنهم يغلبون في مواطن أخر بعد ذلك . كذا في ( " العناية " ) .

تنبيه :

قال بعضهم: ثمرة الآية خطر المعاونة على معصية الله تعالى ، وأن الإنفاق في ذلك معصية ، فيدخل في هذا معاونة الظلمة على حركاتهم في البغي والظلم ، وكذلك بيع السلاح والكراع ، ممن يستعين بذلك على حرب المسلمين .

والذين كفروا إلى جهنم يحشرون
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 37 ] ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون .

ليميز الله الخبيث من الطيب أي : الكافر من المؤمن ، أو الفساد من الصلاح . واللام متعلقة بـ : يحشرون أو : يغلبون أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مما أنفقه المسلمون في نصرته ، واللام متعلقة بقوله : ثم تكون عليهم حسرة ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم

أي : فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض ، حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم ، أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ، [ ص: 2995 ] ليزيد به عذابه كمال الكانزين .

أولئك إشارة إلى الخبيث ، لأنه مقدر بالفريق الخبيث ، أو إلى المنفقين : هم الخاسرون لخسرانهم أنفسهم وأموالهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 38 ] قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين .

قل للذين كفروا يعني أبا سفيان وأصحابه ، فالتعريف فيه للعهد أو للجنس ، فيدخل هؤلاء دخولا أوليا إن ينتهوا أي : عن الكفر وقتال النبي صلى الله عليه وسلم : يغفر لهم ما قد سلف أي : من الكفر والمعاصي وإن يعودوا إلى قتاله : فقد مضت سنت الأولين أي : الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير ، أو الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر .

وقوله : فقد مضت إلخ دليل الجزاء ، والتقدير : انتقمنا منهم فقد مضت ......... إلخ .

تنبيه :

استدل بالآية على أن الإسلام يجب ما قبله ، كما جاء في الحديث وأن الكافر إذا أسلم ، لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس .

وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب ، لعموم الآية ، واستدلوا بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبي عليه قبل إسلامه .

أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عن مالك : لا يؤاخذ كافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم ، ولم يعد طلاقهم شيئا ، لأن الله تعالى قال : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف كذا في ( " الإكليل " ) .
[ ص: 2996 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 39 ] وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير .

وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي : شرك أو إضلال لغيرهم ، وفتن منهم للمؤمنين عن دينهم ويكون الدين كله لله أي : يخلص التوحيد لله ، فلا يعبد غيره فإن انتهوا أي : عن الكفر والمعاصي ظاهرا : فإن الله بما يعملون أي : ببواطنهم بصير أي : فيجازيهم ، وعليه حسابهم ، فكفوا عنهم ، وإن لم تعلموا ببواطنهم . كقوله تعالى : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم الآية ، وفي الآية الأخرى : فإخوانكم في الدين

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل » .

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة : لما علا ذلك الرجل بالسيف ، فقال : لا إله إلا الله ، فضربه فقتله ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لأسامة : « أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ، فكيف نصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ » فقال : يا رسول الله إنما قالها تعوذا ، فقال : « هلا شققت عن قلبه » ؟ وجعل يقول ويكرر عليه : « من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة » ؟ قال أسامة : حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ .
[ ص: 2997 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 40 ] وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير .

وإن تولوا أي : أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا فاعلموا أن الله مولاكم أي : ناصركم ومعينكم ، فثقوا بولايته ونصرته نعم المولى فلا يضيع من تولاه ونعم النصير فلا يغلب من نصره .

ثم بين تعالى مصرف ما أحله لهذه الأمة وخصها به ، وهو الغنائم ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 41 ] واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنـزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير .

واعلموا أنما غنمتم من شيء أي : قل أو كثر من الكفار فأن لله أي : الذي منه النصر المتفرع عليه الغنيمة خمسه شكرا له على نصره وإعطائه الغنيمة وللرسول أي : الذي هو الأصل في أسباب النصر ولذي القربى وهم بنو هاشم والمطلب واليتامى أي : من مات آباؤهم ولم يبلغوا ، لأنهم ضعفاء ، والمساكين لأنهم أيضا ضعفاء كاليتامى وابن السبيل وهو المسافر الذي قطع عليه الطريق ويريد الرجوع إلى بلده ، ولا يجد ما يتبلغ به .

وفي هذه الآية مسائل :

الأولى : قال الفقهاء : ( الغنيمة ) المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب ، أي : ما ظهر عليه المسلمون بالقتال . وهل هي والفيء والنفل شيء واحد أو لا ؟ وسنفصله في آخر المسائل .

[ ص: 2998 ] الثانية : ( ما ) في : ( أنما ) بمعنى الذي والعائد محذوف ، وكان حقها - على أصولهم - أن تكتب مفصولة .

قال الشهاب : وقد أجيز في ( ما ) هذه أن تكون شرطية .

الثالثة : قوله تعالى : من شيء بيان للموصول ، محله النصب ، على أنه حال من عائد الموصول ، قصد به الاعتناء بشأن الغنيمة ، وألا يشذ عنها شيء ، أي : ما غنمتموه كائنا ما كان يقع عليه اسم الشيء ، حتى الخيط والمخيط .

الرابعة : ( الخمس ) بضم الميم ، وسكونها ، لغتان قد قرئ بهما .

الخامسة : أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه ، وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى ، وقسمة الباقي بين الغانمين بالعدل ، للراجل سهم ، وللفارس ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه .

هكذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر .

ومن الفقهاء من يقول : للفارس سهمان .

والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤونة نفسه وسائسه ، ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة رجلين .

ومنهم من يقول : يسوى بين الفرس العربي والهجين في هذا ، الهجين يسمى البرذون والأكديش .

ويجب قسمتها بينهم بالعدل ، فلا يحابى أحد ، لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يقسمونها .

وفي صحيح البخاري أن سعد بن أبي وقاص رأى أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ وفي مسند أحمد أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : ثكلتك أمك ابن أم [ ص: 2999 ] سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم . كذا في ( " السياسة الشرعية " ) لابن تيمية .

في ( " زاد المعاد " ) لابن القيم : كان صلى الله عليه وسلم إذا ظفر بعدوه ، أمر مناديا فجمع الغنائم كلها ، فبدأ بالأسلاب فأعطاها لأهلها ، ثم أخرج خمس الباقي فوضعه حيث أراه الله وأمره به من مصالح الإسلام ، ثم يرضخ من الباقي لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد ، ثم قسم الباقي بالسوية بين الجيش : للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم ، وكان ينفل من صلب الغنيمة بحسب ما يراه من المصلحة .

وقيل : بل كان النفل من الخمس ، وجمع لسلمة بن الأكوع في بعض مغازيه ، بين سهم الراجل والفارس ، فأعطاه خمسة أسهم ، لعظم غنائه في تلك الغزوة .

قال ابن تيمية : وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية وبني العباس ، لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر .

السادسة : ذهب الجمهور إليه أن ذكر الله تعالى في قوله : فأن لله للتعظيم ، أي : تعظيم الرسول ، كما في قوله تعالى : والله ورسوله أحق أن يرضوه أو لبيان أنه لا بد في الخمسة من إخلاصها لله تعالى ، وأن المراد قسمة الخمس على المعطوفين عليه ، وتمسك بعضهم بظاهر ذلك ، فأوجب سهما سادسا لله تعالى ، يصرف في وجوه الخير ، أو يؤخذ للكعبة قال : لأن كلام الحكيم لا يعرى عن الفائدة ، ولأنه ثبت اختصاصه في آية الصدقات في قوله تعالى : وفي سبيل الله فكذا هنا .

وهذا مروي عن أبي العالية ، والربيع والقاسم وأسباطه ويؤيد ما للجمهور ، ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو بوادي القرى ، وهو معترض فرسا ، فقلت : يا رسول الله ! ما تقول في الغنيمة ؟ فقال : « لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش » . قلت : فما أحد أولى به [ ص: 3000 ] من أحد ؟ قال ، « لا ، ولا السهم تستخرجه من جيبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم » . ومن لطائف الحسن أنه أوصى بالخمس من ماله وقال : ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه ؟

السابعة : خمس النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له ، كان أمره في حياته مفوضا إليه ، يتصرف فيه بما شاء ، ويرده في أمته كيف شاء .

روى الإمام أحمد أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت : يا عبادة ! كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ؟ فقال عبادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم ، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتناول وبرة بين أنملتيه فقال : « إن هذه من غنائمكم ، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط ، وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس ، في الله تبارك وتعالى ، القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر ، وجاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ، ينجي الله تبارك وتعالى به من الغم والهم » .

قال ابن كثير : هذا حديث حسن عظيم .

وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن عبسة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : « ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود عليكم » - واستدل به على أنه عليه الصلاة والسلام كان يصرفه لمصالح المسلمين .

[ ص: 3001 ] وكان له صلى الله عليه وسلم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه ، عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك ، رواه أبو داود عن محمد بن سيرين والشعبي مرسلا ، وأحمد والترمذي عن ابن عباس .

وللعلماء فيما يصنع بخمسه صلى الله عليه وسلم من بعده مذاهب :

فمن قائل : يكون لمن يلي الأمر من بعده ، قال ابن كثير : روي هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة وجماعة . وجاء فيه حديث مرفوع .

ومن قائل : يصرف في مصالح المسلمين ، قال الأعمش عن إبراهيم : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح .

ومن قائل : بأنه يصرف لقرابته صلى الله عليه وسلم .

ومن قائل : بأنه مردود على بقية الأصناف : ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . واختاره ابن جرير . وللمسألة حظ من النظر .

الثانية : أجمعوا على أن المراد ( بذوي القربى ) قرابته صلى الله عليه وسلم .

وذهب الجمهور إلى أن سهم ذوي القربى يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب خاصة ، لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية ، وفي أول الإسلام ودخلوا معهم في الشعب غضبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحماية له ، مسلمهم طاعة لله ولرسوله ، وكافرهم حمية للعشيرة ، وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل ، وإن كانوا ابني عمهم ، لم يوافقوهم ، بل حاربوهم ونابذوهم ، ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول ، ولهذا كان ذمهم أبو طالب في قصيدته بقوله منها :

[ ص: 3002 ]
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا عقوبة شر عاجلا غير آجل


( نوفل : هو ابن خويلد ، كان من شياطين قريش ، قتله علي بن أبي طالب يوم بدر ) .


بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل


( لا يخيس ، من قولهم : خاس بالعهد إذا نقضه وأفسده . والعائل : الحائر ) .


لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضا بنا والغياطل


( قيضا : عوضا ، والغياطل : بنو سهم ) .


ونحن الصميم من ذؤابة هاشم وآل قصي في الخطوب الأوائل


( الصميم : الخالص من كل شيء ، والذؤابة : الجماعة العالية ، وأصله الخصلة من شعر الرأس ) .

وقال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل : مشيت أنا وعثمان بن عفان ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ، ونحن وهم بمنزلة واحدة منك ؟ فقال : « إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد » . - رواه مسلم .

وفي رواية : أنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام - أفاده ابن كثير - .

وقد روي عن ابن عباس وزين العابدين والباقر أنه يسوى في العطاء بين غنيهم وفقيرهم ، ذكورهم وإناثهم ، لأن اسم القرابة يشملهم ، ولأنهم عوضوه لما حرمت عليهم الزكاة ، وقياسا على المال المقر به لبني فلان .

واعتبر الشافعي أن سهمهم استحق بالقرابة ، فأشبه الميراث . قال : فللذكر منه مثل حظ الأنثيين . انتهى .

وقال في ( " العناية " ) : إنه كان لعبد مناف ـ جد النبي صلى الله عليه وسلم ـ خمس بنين : هاشم وعبد شمس ونوفل والمطلب وأبو عمرو ، وكلهم أعقبوا إلا أبا عمرو .

التاسعة : سهم اليتامى : قيل يخص به فقراؤهم ، وقيل : يعم الأغنياء والفقراء ، [ ص: 3003 ] حكاه ابن كثير . والأظهر الثاني ، والسر فيه ما قدمناه في سورة البقرة ، فتذكره فإنه مهم .

العاشرة : المساكين : المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ويكفيهم ، وابن السبيل : ذكرنا معناه أولا .

الحادية عشرة : قال بعضهم : يقتضي ما ذكر في هذه الآية وما في صدر هذه السورة من الأنفال ، وما في سورة الحشر من قوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله

أن القسمة في الأموال المظفور بها ثلاثية : نفل : وغنيمة ، وفيء ، ويقتضي إطلاق جعل النفل لله ولرسوله ، والغنيمة لمن ذكر مخمسة ، والفيء لمن ذكر بلا قيد . التخميس أن لكل من الثلاثة حكما يخالف الآخر ، وإن النفل ما يعطى لمن له من العناية والمقاتلة ما ليس لغيره ، وفاء لعدته بذلك ، قبل إحراز الغنيمة كالسلب ، وإن الغنيمة ما أحرز بالقتال ، سوى ما شرط التنفيل به ، لأنه لا يخمس ، والفيء ما أخذ من الكفار بغير قتال ، كالأموال التي يصالحون عليها ، والجزية والخراج ، ونحو ذلك ، وإلى هذا التفصيل ذهب الجمهور .

وذهب بعضهم إلى اتحاد الثلاثة ، وعدم التفرقة بينها ، وإلى دخولها في الغنيمة ، وقال : ما أطلق في آية الأنفال ، وآية الحشر ، مقيد بآية الغنيمة هذه . وهذا هو مراد قول بعضهم : إنهما منسوختان بهذه ، بمعنى أن إطلاقهما مقيد بهذه ـ والله أعلم ـ .

وقوله تعالى : إن كنتم آمنتم بالله أي : فاعملوا بما ذكر ، وارضوا بهذه القسمة فالإيمان يوجب العمل بالعلم ، والرضا بالحكم .

وقد جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس ، في حديث وفد عبد القيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : « وآمركم بأربع ، وأنهاكم عن أربع : آمركم بالإيمان بالله » . [ ص: 3004 ] ثم قال : « هل تدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا الخمس من المغنم » ، الحديث - فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان ، وقد بوب البخاري على ذلك في باب الإيمان من صحيحه ، فقال : ( باب أداء الخمس من الإيمان ) ، وساق الحديث المذكور .

وقوله تعالى : وما أنـزلنا معطوف على : ( بالله ) أي : إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا أي : محمد عليه الصلاة والسلام ، أي : من الآيات والملائكة والنصر ، يوم الفرقان أي : يوم بدر ، فإنه فرق فيه بين الحق والباطل . و ( الفرقان ) بمعناه اللغوي ، والإضافة فيه للعهد يوم التقى الجمعان يعني جمع المؤمنين وجمع الكافرين ، فالتعريف للعهد ، وكان التقاؤهما يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان ، والمؤمنون يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشرة رجلا ، والمشركون ما بين الألف والتسعمائة ، فهزم الله المشركين ، وقتل منهم زيادة على سبعين ، وأسر منهم مثل ذلك .

والله على كل شيء قدير فيقدر على نصر القليل على الكثير ، كما فعل بكم يوم بدر .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 42 ] إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم .

إذ أنتم بدل من يوم الفرقان أو ظرف لمحذوف ، أي : اذكروا إذ أنتم يا معشر المؤمنين بالعدوة الدنيا يعني بشفير الوادي الأدنى من المدينة ، وهم يعني [ ص: 3005 ] المشركين أبا جهل وأصحابه بالعدوة القصوى أي : البعدى عن المدينة ، مما يلي مكة والركب أسفل منكم أي : العير التي فيها أبو سفيان ، بما معه من التجارة التي كان الخروج لأجلها ، أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من ( بدر ) .

لطيفة :

قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت ، وذكر مراكز الفريقين ، وأن العير كانت أسفل منهم ؟ قلت : الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته ، وتمهد أسباب الغلبة له ، وضعف شأن المسلمين ، والتياث أمرهم ، وأن غلبتهم في مثل هذا الحال ، ليست إلا صنعا من الله سبحانه ، ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته ، وباهر قدرته ، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء ، وكانت أرضا لا بأس بها ، ولا ماء بالعدوة الدنيا ، وهي خبار - ( ما لان من الأرض واسترخى ) ـ تسوخ فيه الأرجل ، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة ، وكانت العير وراء ظهور العدو ، مع كثرة عددهم ، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم ، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ، ليبعثهم الذب عن الحريم ، والغيرة على الحرب ، على بذل جهيداهم في القتال ، وألا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه ، فيجمع ذلك قلوبهم ، ويضبط همومهم ، ويوطن نفوسهم ، على ألا يبرحوا موطنهم ، ولا يخلوا مراكزهم ، ويبذلوا منتهى نجدتهم ، وقصارى شدتهم ، وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر ، ليقضي أمرا كان مفعولا ، من إعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين ، مبهمة غير مبينة ، حتى خرجوا ليأخذوا العير ، راغبين في الخروج ، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم ، حتى نفروا ليمنعوا غيرهم ، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا ، وهؤلاء بالعدوة القصوى ، ووراءهم العير يحامون عليها ، حتى قامت الحرب على ساق ، وكان ما كان ، انتهى .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #374  
قديم 10-02-2023, 03:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
صـ 3006 الى صـ 3020
الحلقة (374)



[ ص: 3006 ] قال الناصر في ( " الانتصاف " ) : وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري ، وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز .

وقوله تعالى : ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد أي : ولو تواعدتم أنتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال ، لخالف بعضكم بعضا ، فثبطكم قلتكم وكثرتهم ، على الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له . قاله الزمخشري .

وفي حديث كعب بن مالك قال : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .

وروى ابن جرير عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقى السقاة وشهد الناس بعضهم إلى بعض .

ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا أي : ولكن جمع بينكم على هذه الحال على غير ميعاد ، ليقضي ما أراد من إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، من غير ملأ منكم .

وقوله : كان مفعولا أي : حقيقا بأن يفعل ، وقيل : ( كان ) بمعنى ( صار ) ، أي : صار مفعولا ، بعد أن لم يكن ، وقيل : إنه عبر به عنه لتحققه حتى كأنه مضى .

وقوله تعالى : ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة أي : إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد ، لينصركم عليهم ، ويرفع حجة الحق على الباطل ، ليصير الأمر ظاهرا ، والحجة قاطعة ، والبراهين ساطعة ، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة ، فحينئذ يهلك من هلك ، أي : يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره ، أنه مبطل لقيام الحجة عليه ، ويؤمن من آمن عن حدة وبصيرة ويقين ، بأنه دين الحق ، الذي يجب [ ص: 3007 ] الدخول فيه ، والتمسك به .

وذلك أن ما كان من وقعة ( بدر ) ، من الآيات الغر المحجلة ، التي من كفر بعدها ، كان مكابرا لنفسه ، مغالطا لها .

لطائف :

الأولى : قوله تعالى : ليهلك بدل من : ( ليقضي ) أو متعلق بـ : ( مفعولا ) .

الثانية : الحياة والهلاك استعارة للكفر والإسلام ، وقرئ : ( ليهلك ) بفتح اللام .

الثالثة : ( حي ) يقرأ بتشديد الياء ، وهو الأصل ، لأن الحرفين متماثلان متحركان ، فهو مثل شد ومد ، ومنه قول عبيدة بن الأبرص :


عيوا بأمرهم كما عيت ببيضتها الحمامه


ويقرأ بالإظهار وفيه وجهان :

أحدهما : أن الماضي حمل على المستقبل ، وهو ( يحيا ) ، فكما لم يدغم في المستقبل ، لم يدغم في الماضي ، وليس كذلك شد ومد ، فإنه يدغم فيهما جميعا .

والوجه الثاني : أن حركة الحرفين مختلفة ، فالأولى مكسورة ، والثانية مفتوحة ، واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين ، ولذلك أجازوا في الاختيار : لححت عليه ، وضبب البلد ، إذا كثر ضبه ، ويقوي ذلك أن الحركة الثانية عارضة ، فكأن الياء الثانية : ساكنة ، ولو سكنت لم يلزم الإدغام ، وكذلك إذا كانت في تقدير الساكن ، والياآن أصل ، وليست الثانية بدلا من ( واو ) ، فأما الحيوان ، ف ( الواو ) فيه بدل من ( الياء ) . وأما الحواء ، فليس من لفظ ( الحية ) ، بل من ( حوى يحوي ) إذا جمع - قاله أبو البقاء - .

وإن الله لسميع عليم أي : بكفر من كفر وعقابه ، وإيمان من آمن وثوابه .

وقوله تعالى :
[ ص: 3008 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 43 ] إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور .

إذ يريكهم الله في منامك قليلا منصوب بـ ( اذكر ) ، أو بدل آخر من ( يوم الفرقان ) ، وذلك أن الله عز وجل أراه إياهم في رؤياه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه ، فكان تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم : ولو أراكهم كثيرا لفشلتم أي : لجبنتم وهبتم الإقدام .

ولتنازعتم في الأمر أي : أمر الإقدام والإحجام ، فتفرقت كلمتكم ، ولكن الله سلم أي : عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته إنه عليم بذات الصدور أي : يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع . ولذلك دبر ما دبر .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 44 ] وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور .

وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا وذلك تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به ، فيزداد يقينهم ، ويجدوا ، ويثبتوا .

قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ! فأسرنا رجلا منهم ، فقلنا له : كم كنتم ؟ قال : ألفا ! - رواه ابن أبي حاتم وابن جرير - .

ويقللكم في أعينهم أي : في اليقظة ، حتى قال أبو جهل : إن محمدا وأصحابه أكلة جزور ، مثل في القلة ، ( كأكلة رأس ) ، أي : أنهم لقلتهم يكفيهم ذلك .

و ( أكلة ) بوزن ( كتبة ) ، جمع ( آكل ) ، بوزن فاعل ، والجزور الناقة ، كذا في ( " العناية " ) .

ليقضي الله أمرا أي : من إظهار الخوارق الدالة على صدق دين الإسلام ، وكذب دين الكفر .

كان مفعولا أي : كالواجب فعله على الحكيم ، لما فيه من الخير الكثير . قاله المهايمي .

[ ص: 3009 ] لطائف :

الأولى : قال الزمخشري : فإن قلت : الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر ، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم ؟

قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعده ، ليجترئوا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم تفجؤهم الكثرة ، فيبهتوا ويهابوا ، وتفل شوكتهم ، حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم ، وذلك قوله : يرونهم مثليهم رأي العين ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أولا وكثرتهم آخرا .

الثانية : قال الزمخشري أيضا : فإن قلت : بأي طريق يبصرون الكثير قليلا ؟ قلت : بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستلون به الكثير ، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين - وكان بين يديه ديك واحد - فقال : ما لي لا أرى هذين الديكين أربعة ؟ انتهى .

قال الناصر في ( " الانتصاف " ) : وفي هذا - يعني كلام الزمخشري - دليل بين على أن الله تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة ، أو قرب ، أو ارتفاع حجب ، أو غير ذلك ، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا ، لما أمكن أن يستر عنهم البعض ، وقد أدركوا البعض ، والسبب الموجب مشترك .

فعلى هذا يجوز أن يخلق الله الإدراك مع اجتماعها ، فلا ربط إذن بين الروية ونفيها في مقدرة الله تعالى ؟ وهي رادة على القدرية المنكرين لرؤية الله تعالى ، بناءا على اعتبار هذه الأسباب في حصول الإدراك عقلا ، وأنها تستلزم الجسمية ، إذ المقابلة والقرب وارتفاع الحجب إنما تتأتى في جسم .

فهذه الآية حسبهم في إبطال زعمهم ، ولكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون . والله الموفق .

الثالثة : لا يقال : إن قوله تعالى : ليقضي الله أمرا كان مفعولا مكرر مع ما سبق . [ ص: 3010 ] لأنا نقول : إن المقصود من ذكره أولا هو اجتماعهم بلا ميعاد ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين ، على وجه يكون معجزة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم ، والمقصود منه هاهنا بيان خارق آخر ، وهو تقليلهم في أعين المشركين ، ثم تكثيرهم للحكمة المتقدمة .

وفي قوله تعالى : وإلى الله ترجع الأمور تنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها ، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زادا ليوم المعاد .

ثم أرشد تعالى عباده المؤمنين إلى آداب اللقاء في ميدان الوغى ، ومبارزة الأعداء ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 45 ] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون .

يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا أي : إذا حاربتم جماعة فاثبتوا للقائهم واصبروا على مبارزتهم ، فلا تفروا ولا تجبنوا ولا تنكلوا ، وتفسير ( اللقاء ) ب ( الحرب ) لغلبته عليه ، كالنزال ولم يصف الفئة بأنها كافرة ، لأنه معلوم غير محتاج إليه .

واذكروا الله كثيرا أي : في مواطن الحرب ، مستظهرين بذكره مستنصرين به ، داعين له على عدوكم لعلكم تفلحون أي : تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة .

وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه ، التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس ، ثم قام في الناس فقال : « يا أيها الناس ! لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف » .

[ ص: 3011 ] ثم قال : « اللهم !منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم »
.

وفي الآية إشعار بأن على العبد ألا يفتر عن ذكر ربه ، أشغل ما يكون قلبا ، وأكثر ما يكون هما ، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ، ويقبل إليه بكليته ، فارغ البال ، واثقا بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال . . .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 46 ] وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين .

وأطيعوا الله ورسوله أي : في كل ما يأمران به وينهيان ، وهذا عام والتخصيص بالذكر هنا فيه تأكيد : ولا تنازعوا أي : باختلاف الآراء ، أو فيما أمرتم به فتفشلوا أي : تجبنوا ، إذ لا يتقوى بعضكم ببعض .

وتذهب ريحكم أي : قوتكم وغلبتكم ، ونصرتكم ودولتكم ، شبه ما ذكر في نفوذ الأمر وتمشيته بالريح وهبوبها ، ويقال : هبت رياح فلان ، إذا دالت له الدولة ونفذ أمره ، قال :


إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها
فما تدري السكون متى يكون


واصبروا أي : على شدائد الحرب ، وعلى مخالفة أهويتكم الداعية إلى التنازع ، فالصبر مستلزم للنصر إن الله مع الصابرين أي : بالنصر .

قال ابن كثير رحمه الله : وقد كان للصحابة رضي الله عنهم ، وفي باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله ، وامتثال ما أرشدهم إليه ، ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ولا يكون لأحد من بعدهم ، فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما أمرهم ، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا ، وفي المدة اليسيرة مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم ، [ ص: 3012 ] من الروم والفرس والترك ، والصقالبة والبربر والحبوش ، وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم ، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين .

تنبيه :

قال بعض المفسرين في قوله تعالى : ولا تنازعوا أي : لا تختلفوا فيما أمركم به من الجهاد ، بل ليتفق رأيكم .

قال : ولقائل أن يقول : استثمر من هذا وجوب نصب أمير على الجيش ليدبر أمرهم . ويقطع اختلافهم ، فإن بلزوم طاعته ، ينقطع الاختلاف ، وقد فعله صلى الله عليه وسلم في السرايا ، وقال : اسمعوا وأطيعوا ، وإن أمر عليكم عبد حبشي . انتهى .

ولما أمر تعالى المؤمنين بالثبات والصبر عند اللقاء ، أمرهم بالإخلاص فيه ، بنهيهم عن التشبه بالمشركين ، في انبعاثهم للرياء ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 47 ] ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط .

ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا أي : فخرا بالشجاعة : ورئاء الناس أي : طلبا للثناء بالسماحة والشجاعة ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط أي : لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه ، وقد أتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة أن ارجعوا ، فقد سلمت عيركم ، فأبوا ، وقالوا : لا نرجع حتى نأتي بدرا ، فننحر بها الجزر ، ونسقي بها الخمر ، وتعزف علينا فيه القيان ، وتسمع بنا العرب ، فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم ، فوافوها ، فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان ، أي : لا يكن أمركم رياء ولا سمعة ولا التماس ما عند الناس ، وأخلصوا لله [ ص: 3013 ] النية والحسبة ، في نصر دينكم ، ومؤازرة نبيكم ، لا تعملوا إلا لذلك ، ولا تطلبوا غيره .

و ( الرئاء ) مصدر ( راءى ) ، إذا أظهر العمل للناس ليروه غفلة عن الخالق ، وقد يقال راياه مراياة ورياء ، على القلب .

و : بطرا ورئاء إما مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال .

و ( يصدون ) إما حال ، بتأويل اسم الفاعل ، أو بجعله مصدر فعل هو حال ، وإما مستأنف .

ونكتة التعبير بالاسم أولا ثم الفعل ، الإعلام بأن البطر والرياء دأبهم ، بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 48 ] وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب .

وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم أي : في معاداة الرسول والمؤمنين ، بأن وسوس إليهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس أي : من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإني جار لكم أي : مجير ومعين لكم فلما تراءت الفئتان أي : تلاقتا ، وتراءت كل واحدة صاحبتها ، فرأى الملائكة نازلة من السماء لإمداد المؤمنين ، نكص على عقبيه أي : ولى هاربا قفاه : وقال إني بريء منكم أي : من عهد جواركم إني أرى أي : من الملائكة النازلة لإمداد المؤمنين ما لا ترون إني أخاف الله أي : أن يعذبني قبل يوم القيامة والله شديد العقاب أي : فلا يبعد مع إمهالي إلى القيامة ، أن يعذبني لشدة عقابه .

تنبيه :

ذكروا في التزيين وجهين :

أحدهما : أن الشيطان وسوس لهم من غير تمثيل ، في صورة إنسان ، وهو مروي عن [ ص: 3014 ] الحسن والأصم .

فالقول على هذا مجاز عن الوسوسة ، والنكوص وهو الرجوع استعارة لبطلان كيده .

وثانيهما : أنه ظهر في صورة إنسان ، لأنهم لما أرادوا المسير إلى بدر ، خافوا من بني كنانة ، لأنهم كانوا قتلوا رجلا ، وهم يطلبون دمه ، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتمثل إبليس اللعين في صورة سراقة الكناني ، وقال : أنا جاركم من بني كنانة ، فلا يصل إليكم مكروه منهم . فقوله ( إني جار لكم ) على الحقيقة .

وقال الإمام : معنى ( الجار ) هنا الدافع للضرر عن صاحبه ، كما يدفع الجار عن جاره . والعرب تقول : أنا جار لك من فلان ، أي : حافظ لك ، مانع منه . وهذا القول الثاني ذهب إلى جمهور المفسرين .

روى مالك في الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلا ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ ، منه في يوم عرفة » .

وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله عن الذنوب العظام . إلا ما رأى يوم بدر ، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة .

قال الإمام : وكان في تغيير صورة ( إبليس ) إلى صورة ( سراقة ) معجزة عظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن كفار قريش لما رجعوا إلى مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم ، حتى بلغتني هزيمتكم ، فعند ذلك تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة ، بل كان شيطانا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 49 ] إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم .

إذ يقول المنافقون أي : بالمدينة ، و ( إذ ) منصوب ب ( اذكر ) مقدرا ، أو [ ص: 3015 ] ب ( زين ) والذين في قلوبهم مرض يجوز أن يكون من صفة المنافقين ، وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، لأن هذه صفة للمنافقين ، لا تنفك عنهم .

قال تعالى : في قلوبهم مرض أو تكون الواو داخلة بين المفسر والمفسر نحو : أعجبني زيد وكرمه .

ويجوز أن يراد : الذين هم على حرف ، ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام .

وعن الحسن : هم المشركون .

غر هؤلاء يعنون المؤمنين دينهم فظنوا أنهم ينصرونهم به على أضعافهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم أي : من يعتمد عليه سبحانه وتعالى فإنه ينصره على أضعافه ، بالغين ما بلغوا ، لأنه عزيز غالب على ما أراد ، وهو يريد نصر أوليائه ، حكيم وحكمته تقتضي نصرهم . وهو جواب لهم من جهته تعالى ، ورد لمقالتهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 50 ] ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق .

ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا أي : يقبض أرواحهم ( الملائكة ) أي : ملائكة القهر والعذاب مما يناسب هيئات نفوسهم يضربون وجوههم لإعراضهم عن الحق ، ولهيآت الكبر والعجب والنخوة فيها : وأدبارهم لميلهم إلى الباطل ، وشدة انجذابهم إليه ، ولهيئات الشهوة والحرص والشره وذوقوا عذاب الحريق عطف على ( يضربون ) بإضمار القول ، أي : ويقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب الآخرة . وجواب ( لو ) محذوف ، لتفظيع الأمر وتهويله .

وقال ابن كثير : وهذا السياق ، وإن كان سببه وقعة بدر ، ولكنه عام في حق كل كافر . وفي سورة القتال مثل هذه الآية ، وتقدم في الأنعام نحوها ، وهو قوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أي : بالضرب فيهم بأمر ربهم .
[ ص: 3016 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 51 ] ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد .

ذلك إشارة إلى ما ذكر من الضرب والعذاب بما قدمت أيديكم أي : ما كسبتم من الكفر والمعاصي وأن الله ليس بظلام للعبيد أي : بأن يأخذهم بلا جرم .

فإن قيل : ما سر التعبير ب ( ظلام ) بالمبالغة ، مع أن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ، ونفي الكثرة لا ينفي أصله ، بل ربما يشعر بوجوده ، وبرجوع النفي للقيد ؟

وأجيب بأجوبة :

منها : أنه نفي لأصل الظلم وكثرته ، باعتبار آحاد من ظلم ، كأنه قيل : ظالم لفلان ولفلان وهلم جرا ، فلما جمع هؤلاء عدل إلى ( ظلام ) لذلك ، أي : لكثرة الكمية فيه .

ومنها : أنه إذا انتفى الظلم الكثير ، انتفى الظلم القليل ، لأن من يظلم يظلم للانتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره ، مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا .

ومنها : أن ( ظلاما ) للنسب ، ك ( مطار ) ، أي : لا ينسب إليه الظلم أصلا .

ومنها : أن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب ، فلو كان تعالى ظالما ، كان ظلاما ، فنفى اللازم ، لنفي الملزوم .

ومنها : أن في ( الظلام ) لنفي الظالم ، ضرورة أنه إذا انتفى الظلم انتفى كماله ، فجعل نفي المبالغة كناية عن نفي أصله ، انتقالا من اللازم إلى الملزوم .

ومنها : أن العذاب من العظم بحيث ، لولا الاستحقاق ، لكان المعذب بمثله ظلاما بليغ الظلم متفاقمه ، فالمراد تنزيهه تعالى ، وهو جدير بالمبالغة .

وأيضا لو عذب تعالى عبيده بدون استحقاق وسبب ، لكان ظلما عظيما ، لصدوره عن العدل الرحيم . كذا في ( " العناية " ) .

[ ص: 3017 ] وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول : « إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا ، يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه » . والحديث طويل جليل ، معروف عند المحدثين ، بالحديث المسلسل بالدمشقيين .

ثم بين تعالى أن سير المشركين المستمر وعادتهم الدائمة ، مع ما أرسل به النبي صلى الله عليه وسلم كسير الأمم السالفة مع رسلهم ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 52 ] كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب .

كدأب آل فرعون والذين من قبلهم خبر لمقدر ، أي : دأب هؤلاء كدأب آل فرعون وممن تقدمهم من الأمم ، كقوم نوح ، وهو عملهم الذي دأبوا ، أي : استمروا عليه ، ثم فسره فقال : كفروا بآيات الله فأخذهم الله أي : قبل يوم القيامة : بذنوبهم أي : كما أخذ هؤلاء ، لأنهم اجترءوا على معاصيه بما رأوا لأنفسهم من القوة فضعفهم إظهارا لقوته .

إن الله قوي شديد العقاب قال المهايمي : تأخير العذاب إنما يكون للرحمة ، لكنه لما اشتد عنادهم اشتد غضبه ، لأنه شديد العقاب لمن اشتد عناده معه ، فلا يكون في حقه رحمة .
[ ص: 3018 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 53 ] ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم .

ذلك أي : التعذيب الذي علم كونه مؤاخذة بالذنوب بأن الله أي : بسبب أنه تعالى : لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم بتبديله إياها بالنقمة

حتى يغيروا ما بأنفسهم من وجبات تلك النعم من اعتقاد أو قول أو علم .

وهذا إخبار عن تمام عدله وقسطه في حكمه ، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه ، كقوله تعالى : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

قال القاشاني : كل ما يصل إلى الإنسان هو الذي يقتضيه استعداده ، ويسأله بدعاء الحال ، وسؤال الاستحقاق .

فإذا أنعم على أحد النعمة الظاهرة أو الباطنة لسلامة الاستعداد ، وبقاء الخيرية فيه لم يغيرها حتى أفسد استعداده ، وغير قبوله للصلاح ، بالاحتجاب وانقلاب الخير الذي فيه بالقوة إلى الشر ، لحصول الرين وارتكام الظلمة فيه ، بحيث لم يبق له مناسبة للخير ، ولا إمكان لصدوره منه ، فيغيرها إلى النقمة عدلا منه وجودا ، وطلبا من ذلك الاستعداد إياها بجاذبة الجنسية والمناسبة ، لا ظلما وجورا . انتهى .

وأن الله سميع عليم أي : فيغير إذا غيروا ، غضبا عليهم بما يسمع منهم أو يعلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 54 ] كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين .

كدأب آل فرعون والذين من قبلهم فكان مبدأ تغييرهم أنهم : كذبوا بآيات ربهم [ ص: 3019 ] أي : الذي رباهم بالنعم ، فصرفوها إلى غير ما خلقت له بمقتضى تلك الآيات ، فكانت ذنوبا فأهلكناهم أي : زيادة على سلبه النعم بذنوبهم أي : بما صرفوا بها النعم إلى غير ما خلقت له وأغرقنا آل فرعون لإغراقهم النعم في بحر الإنكار بنسبتها إلى فرعون حيث أقروا بآلهيته وكل أي : من الفرق المكذبة الكافرة ، أو من آل فرعون ومن قبلهم ، وكفار قريش .

كانوا ظالمين أي : بصرف النعم إلى غير ما خلقت له ، وهو نوع من الإغراق لها في بحر الإنكار لأنه مرجع التغيير لها . كذا أول المهايمي .

وفيه إشارة إلى دفع ما يتوهم من التكرار في الآيتين ، بتغير التشبيهين فيهما ، فلا يحتاج إلى دعوى التأكيد ، فمعنى الأول : حال هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر ، فأخذهم وآتاهم العذاب ، ومعنى الثاني : حال هؤلاء كحال آل فرعون في تغييرهم النعم ، وتغيير الله حالهم بسبب ذلك التغيير ، وهو أنه أغرقهم .

وقيل : إن النظم يأباه ، لأن وجه التشبيه في الأول كفرهم المترتب عليه العقاب ، فينبغي أن يكون وجهه في الثاني قوله : ( كذبوا ) لأنه مثله ، إذ كل منهما جملة مبتدأة بعد تشبيه ، صالحة لأن تكون وجه الشبه ، فتحمل عليه كقوله تعالى :

إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب وأما قوله : ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة فكالتعليل لحلول النكال ، معترض بين التشبيهين ، غير مختص بقوم ، فجعله وجها للتشبيه بعيد عن الفصاحة . كذا في ( " العناية " ) .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 55 ] إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون .

إن شر الدواب عند الله الذين كفروا أي : أصروا على كفرهم ورسخوا فيه : فهم لا يؤمنون أي : فلا يتوقع منهم إيمان .
[ ص: 3020 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 56 ] الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون .

الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون أي : لا يخافون عاقبة الغدر ، ولا يبالون بما فيه من العار والنار .

تنبيهات :

الأول : قال المهايمي : أشار تعالى إلى أنه كيف يترك نعمه على من غير أحواله التي كانت أسباب النعم ، وقد كان بها إنسانيته ، فبتغييرها لحق بالدواب ، وبإنكار المنعم صار شرا منها ، والنعم تسلب ممن لا يعرف قدرها ، فكيف لا تسلب ممن ينكر المنعم ؟ .

الثاني : دلت الآية على جواز تحقير العصاة ، والاستخفاف بهم ، حيث سماهم تعالى ( دواب ) ، وأخبر أنهم ( شر الدواب ) .

الثالث : قالوا : نزلت الآية في يهود بني قريظة ، رهط كعب بن الأشرف ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان عاهدهم ألا يحاربوه ، ولا يعاونوا عليه ، فنقضوا العهد ، وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا ، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد أيضا . ومالؤوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة ، فوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الرابع : ( الذين ) بدل من الموصول الأول ، أو عطف بيان له ، أو نصب له على الذم . وضمن عاهدت معنى الأخذ ، حتى عدي ب ( من ) ، أي : أخذت منهم عهدهم .

وقيل : ( من ) صلة ، وقال أبو حيان : هي للتبعيض ، لأن المباشر بالذات للمعاهدة بعض القوم ، وهي الرؤساء والأشراف .

الخامس : قوله : وهم لا يتقون حال من فاعل ينقضون أي : يستمرون على النقض ، والحال أنهم لا يتقون العار فيه ، لأن عادة من يرجع إلى دين وعقل وحزم




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #375  
قديم 10-02-2023, 03:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
صـ 3021 الى صـ 3035
الحلقة (375)


أن يتقي [ ص: 3021 ] نقض العهد ، حتى يسكن الناس إلى قوله ، ويثقون بكلامه ، فبين الله عز وجل أن من جمع بين الكفر ونقض العهد ، فهو شر من الدواب .

ثم شرع تعالى في بيان أحكام الناقضين ، بعد تفصيل أحوالهم ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 57 ] فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون .

فإما تثقفنهم في الحرب أي : فإما تصادفنهم وتظفرن بهم فشرد بهم من خلفهم أي : فرق بهم من وراءهم من المحاربين ، يعني : بأن تفعل بهم من النكال وتغليظ العقوبة ، ما يشرد غيرهم خوفا ، فيصيروا لهم عبرة ، كما قال : لعلهم يذكرون أي : لعل المشردين يتعظون بما شاهدوا ما نزل بالناقضين ، فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر .

قال في ( " التاج " ) : وقيل : معنى : فشرد بهم فسمع بهم وقيل : فزع بهم ، ولا يخفى أن هذه المعاني متقاربة .

وأصل التشريد الطرد والتفريق ، ويقال : شرد به تشريدا ، سمع الناس بعيوبه . قال :


أطوف بالأباطح كل يوم مخافة أن يشرد بي حكيم


معناه أن يسمع بي ، و ( حكيم ) رجل من بي سليم كانت قريش ولته الأخذ على أيدي السفهاء .

استشهد به في اللسان في مادة : ( ش ر د ) .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 58 ] وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين .

وإما تخافن من قوم خيانة بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد ، إثر بيان [ ص: 3022 ] الناقضين له بالفعل . و ( الخوف ) مستعار للعلم ، أي : وإما تعلمن من قوم من المعاهدين نقض عهد فيما سيأتي ، بما لاح لك منهم من دلائل الغدر ، ومخايل الشر .

فانبذ إليهم أي : فاطرح إليهم عهدهم على سواء أي : على طريق مستو ، قصد بأن تظهر لهم النقض ، وتخبرهم إخبارا مكشوفا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد ، كي لا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلا ، وإن كانت في مقابلة خيانتهم .

وقوله : إن الله لا يحب الخائنين تعليل للأمر بالنبذ ، إما باعتبار استلزامه النهي عن مناجزة القتال ، لكونها خيانة ، فيكون تحذيرا له صلى الله عليه وسلم منها ، وإما باعتبار استتباعه للقتال ، فيكون حثا له صلى الله عليه وسلم على النبذ أولا ، وعلى قتالهم ثانيا ، كأنه قيل : وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ، ثم قاتلهم ، إن الله لا يحب الخائنين ، وهم من جملتهم ، ولما علمت من حالهم . أفاده أبو السعود .

تنبيه :

دلت الآية على جواز معاهدة الكفار لمصلحة ، ووجوب الوفاء بالعهد إذا لم يظهر منهم أمارة الخيانة ، وتدل على إباحة نبذ العهد لمن توقع منهم غائلة مكر ، وأن يعلمهم بذلك ، لئلا يعيبوا علينا بنصب الحرب مع العهد .

روى أصحاب السنن أنه كان بين معاوية وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب ، حتى إذا انقضى العهد غزاهم ، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول : الله أكبر ! [ ص: 3023 ] الله أكبر ! وفاء لا غدر ، فإذا هو عمرو بن عبسة فأرسل إليه معاوية فسأله ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من كان بينه وبين قوم عهد ، فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء » فرجع معاوية . وروى الإمام أحمد عن سلمان الفارسي أنه انتهى إلى حصن أو مدينة ، فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم ، فقال :

إنما كنت رجلا منكم فهداني الله عز وجل للإسلام ، فإن أسلمتم فلكم ما لنا ، وعليكم ما علينا ، وإن أنتم أبيتم ، فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، فإن أبيتم نابذناكم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين .

يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها .

هذا ، وما ذكر من وجب إعلامهم ، وإنما هو عند خوف الخيانة منهم وتوقعها ، كما هو منطوق الآية .

وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد ، بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة ، وهو في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرعهم إلا وجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران ، وذلك على أربعة فراسخ من مكة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 59 ] ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون .

ولا يحسبن قرئ بالياء والتاء الذين كفروا سبقوا أي : فاتوا وأفلتوا [ ص: 3024 ] من أن يظفر بهم إنهم لا يعجزون أي : لا يفوتون الله من الانتقام ، إما في الدنيا بالقتل ، وإما في الآخرة بعذاب النار .

وقرئ بفتح ( أن ) على تقدير لام التعليل ، وهذا كقوله تعالى : أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون وقوله تعالى : لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير وقوله تعالى : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 60 ] وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون .

وأعدوا لهم أي : لقتال ناقضي العهد السابق ذكرهم ، أو الكفار مطلقا ، وهو الأنسب بسياق النظم الكريم ما استطعتم من قوة أي : من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها ، أطلق عليه القوة مبالغة .

قال الشهاب : وإنما ذكر لأنه لم يكن لهم في ( بدر ) استعداد تام ، فنبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان .

ومن رباط الخيل ( الرباط ) في الأصل مصدر ربط ، أي : شد ، ويطلق بمعنى المربوط مطلقا ، كثر استعماله في الخيل التي تربط في سبيل الله ، فالإضافة إما باعتبار عموم المفهوم الأصلي ، أو بملاحظة كون الرباط مشتركا بين معان أخر ، كانتظار الصلاة وملازمة [ ص: 3025 ] ثغر العدو ، والمواظبة على الأمر ، فإضافته لأحد معانيه للبيان ، كعين الشمس ، ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركا .

وإذا كان من إضافة المطلق للمقيد ، فهو على معنى ( من ) التبعيضية .

وقد يكون ( الرباط ) جمع ربيط ، كفصيل وفصال .

قال في ( " التاج " ) : يقال : نعم الربيط هذا ، لما يرتبط من الخيل ، ثم إن عطفها على ( القوة ) مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادها ، كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة ترهبون به أي : تخوفون بذلك الإعداد عدو الله وهو المثبت له شريكا ، المبطل لكلمته وعدوكم أي : الذي يظهر عداوتك ، فتخوفونهم لئلا يحاربوكم باعتقاد القوة في أنفسهم دونكم .

تنبيه :

دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية ، اتقاء بأس العدو وهجومه .

ولما عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية ، أيام حضارة الإسلام ، كان الإسلام عزيزا عظيما ، أبي الضيم ، قوي القنا ، جليل الجاه ، وفير السنا ، إذا نشر لواء سلطته على منبسط الأرض ، فقبض على ناصية الأقطار والأمصار ، وخضد شوكة المستبدين الكافرين ، وزحزح سجوف الظلم والاستعباد ، وعاش بنوه أحقابا متتالية وهم سادة الأمم ، وقادة مشعوب ، وزمام الحول والطول وقطب روحي العز والمجد ، لا يستكينون لقوة ، ولا يرهبون لسطوة .

وأما اليوم ، فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة ، ومالوا إلى النعيم والترف فأهملوا فرضا من فروض الكفاية ، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض ولذا تعاني اليوم من غصته ما تعاني ، وكيف لا يطمع العدو بالممالك الإسلامية ، ولا ترى فيها معامل للأسلحة ، وذخائر الحرب ، بل كلها مما يشترى من بلاد العدو ؟

أما آن لها أن تتنبه من غفلتها ، وتنشئ معامل لصنع المدافع والبنادق والقذائف والذخائر الحربية ؟ فلقد ألقى عليها تنقص العدو بلادها من أطرافها درسا يجب أن تتدبره ، وتتلافى ما فرطت به قبل أن يداهم ما بقي منها بخيله ورجله ، [ ص: 3026 ] فيقضي - والعياذ بالله - على الإسلام وممالك المسلمين ، لاستعمار الأمصار ، واستعباد الأحرار ، ونزع الاستقلال المؤذن بالدمار . وبالله الهداية .

وقوله تعالى : وآخرين أي : وترعبون قوما آخرين من دونهم أي : من دون من يظهر عداوتكم ، وهم المنافقون لا تعلمونهم أي : أنهم يعادونكم الله يعلمهم أي : أنهم أعداؤكم ، يظهرون عداوتهم إذا رأوا ضعفكم .

ثم شجعهم سبحانه على إنفاق المال في إعداد القوة ، ورباط الخيل ، مبشرا لهم بتوفية جزائه كاملا ، بقوله تعالى : وما تنفقوا من شيء في سبيل الله أي : الذي أوضحه الجهاد : يوف إليكم أي : في الدنيا من الفيء والغنيمة والجزية والخراج ، وفي الآخرة بالثواب المقيم : وأنتم لا تظلمون أي : بترك الإثابة .

تنبيهات :

الأول : هذه الآية أصل في كل ما يلزم إعداده للجهاد من الأدوات .

الثاني : في قوله تعالى : ترهبون به إشارة إلى التجافي عن أن يكون الإعداد لغير الإرهاب كالخيلاء .

وفي حديث الإمام مالك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « الخيل ثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ولرجل وزر ، فأما الذي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله ، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي له ستر ، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام ، فهي على ذلك وزر » .

الثالث : ما ذكرناه في تأويل ( الآخرين ) من أنهم المنافقون ، يشهد له قوله تعالى:

وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم

ثم بين تعالى جواز مصالحة الكفار بقوله :
[ ص: 3027 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 61 ] وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم .

وإن جنحوا أي : مالوا وانقادوا للسلم بكسر السين وفتحها ، لغتان ، وقد قرئ بهما ، أي : الصلح والاستسلام بوقوع الرهبة في قلوبهم ، بمشاهدة ما بكم من الاستعداد ، وإعتاد العتاد فاجنح لها أي : فمل إلى موافقتهم وصالحهم وعاهدهم ، وإن قدرت على محاربتهم ، لأن الموافقة أدعى لهم إلى الإيمان .

ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين ، أجابهم إلى ذلك ، مع ما اشترطوا من الشروط الأخر . و ( السلم ) يذكر ويؤنث ، كما في _" القاموس "_ .

قال الزمخشري : ( السلم ) تؤنث تأنيث نقيضها ، وهي الحرب .

قال العباس بن مرداس :


السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جرع


وتوكل على الله أي : لا تخف في الصلح مكرهم ، فإنه يعصمك من مكرهم ، إنه هو السميع لأقوالهم العليم أي : بأحوالهم ، فيؤاخذهم بما يستحقون ويرد كيدهم في نحرهم .
لقول في تأويل قوله تعالى :

[ 62 ] وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين .

وإن يريدوا أن يخدعوك أي : بالصلح لتكف عنهم ظاهرا ، وفي نيتهم الغدر : فإن حسبك الله أي : كافيك بنصره ومعونته .

قال مجاهد : يريد قريظة .

ثم علل كفايته له ، بما أنعم عليه من تأييده صلى الله عليه وسلم بنصره وبالمؤمنين ، فقال تعالى : هو الذي أيدك بنصره أي : يوم بدر بعد الضعف ، من غير إعداد قوة ولا رباط : وبالمؤمنين
[ ص: 3028 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 63 ] وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم .

وألف بين قلوبهم أي : جمع بين قلوبهم وكلمتهم ، بالهدى الذي بعثك الله به إليهم ، بعد ما كان فيها العصبية والضغينة لو أنفقت ما في الأرض جميعا أي : من الذهب والفضة ما ألفت بين قلوبهم إذ لا يدخل ذلك تحت قدرة البشر ، لكونه من عالم الغيب ولكن الله ألف بينهم أي : بين قلوبهم بدينه الذي جمعهم إليه ، إنه عزيز أي : غالب في ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن حكيم أي : فاقتضت حكمته ذلك ، لما فيه من تأييد دينه ، وإعلاء كلمته .

قال الزمخشري ـ رحمه الله تعالى ـ : التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الآيات الباهرة ، لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة في أدنى شيء ، وإلقائه بين أعينهم ، وإلى أن ينتقموا ، لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتحدوا وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتواد ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب ، فهو يقلبها كما شاء ، ويصنع فيها ما أراد .

وقيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ، ودق جماجمهم ، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى ، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ، ويديم التحاسد والتنافس .

وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها ، وتكرهه وتنفر عنه ، فأنساهم الله تعالى ذلك كله ، حتى اتفقوا على الطاعة ، وتصافوا وصاروا أنصارا وعادوا أعوانا

وما ذاك إلا بلطيف صنعه ، وبليغ قدرته . انتهى .

[ ص: 3029 ] وإنما ضعف القول الثاني لأنه ليس في السياق قرينة عليه . كذا في ( " العناية " ) .

أقول : لكن شهرة ما كن بين هذين البطنين من التعادي الذي تطاول أمده ، واستحال قبل البعثة نضوب مائه ، يصلح أن يكون قرينة . ونقل علماء السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما لقي في الموسم الرهط من الخزرج ، ودعاهم إلى الله تعالى . فأجابوه وصدقوه ، قالوا له : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، نعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك . رواه ابن إسحاق وغيره .

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم ( حنين ) ، قال لهم : « يا معشر الأنصار ! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي » ؟ كلما قال شيئا قال : « الله ورسوله أمن » .

لطيفة :

روى الحاكم أن ابن عباس كان يقول : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء . ثم يقرأ : لو أنفقت ما في الأرض الآية .

وعند البيهقي نحوه . وقال موجود في الشعر :


إذا بت ذو قربى إليك بزلة فغشك واستغنى فليس بذي رحم

ولكن ذا القربى الذي إن دعوته
أجاب ، وأن يرمي العدو الذي ترمي


[ ص: 3030 ] قال : ومن ذلك قول القائل :


ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم وبلوت ما وصلوا من الأسباب


فإذا القرابة لا تقرب قاطعا وإذا المودة أقرب الأسباب


قال البيهقي : لا أدري هذا موصولا بكلام ابن عباس ، أو هو قول من دونه من الرواة .

قال الرازي : احتج أصحابنا بهذه الآية ، على أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات ، كلها من خلق الله تعالى ، وذلك لأن الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم . انتهى .

ولما بين تعالى كفايته لنبيه صلى الله عليه وسلم عند مخادعة الأعداء ، في الآية المتقدمة ، أعلمه بكفايته له في جميع أموره مطلقا ، فقال تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 64 ] يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين .

يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين قال العلامة ابن القيم في مقدمة ( " زاد المعاد " ) في تفسير هذه الآية : أي الله وحده كافيك ، وكافي أتباعك ، فلا يحتاجون معه إلى أحد .

ثم قال : وهاهنا تقديران :

أحدهما : أن تكون الواو عاطفة لـ ( من ) على الكاف المجرورة ، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار ، على المذهب المختار ، وشواهده كثيرة وشبه المنع منه واهية .

والثاني : أن تكون الواو واو ( مع ) ، وتكون ( من ) في محل نصب عطفا على الموضع فإن ( حسبك ) في معنى كافيك ، أي : الله يكفيك ، ويكفي من اتبعك ، كما يقول العرب : حسبك وزيدا درهم ، قال الشاعر :


إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند


وهذا أصح التقديرين . وفيها تقدير ثالث ، أن تكون ( من ) في موضع رفع بالابتداء ، [ ص: 3031 ] أي : ومن اتبعك من المؤمنين ، فحسبهم الله .

وفيها تقدير رابع ، وهو خطأ من جهة المعنى ، وهو أن يكون ( من ) في موضع رفع عطفا على اسم الله ، ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك .

وهذا ، وإن قال به بعض الناس ، فهو خطأ محض ، لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن الحسب والكفاية لله وحده ، كالتوكل والتقوى والعبادة .

قال الله تعالى : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده ، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده ، حيث أفردوه بالحسب ، فقال تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل

ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله ، فإذا كان هذا قولهم ، ومدح الرب تعالى لهم بذلك ، فكيف يقول لرسوله : الله وأتباعك حسبك ؟ وأتباعه ، قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ، ولم يشركوا بينه وبين رسوله ؟ هذا من أمحل المحال ، وأبطل الباطل . ونظير هذه قوله : ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله ، كما قال تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وجعل الحسب له وحده ، فلم يقل : وقالوا حسبنا الله ورسوله ، بل جعله خالص حقه ، كما قال : إنا إلى الله راغبون ولم يقل وإلى رسوله ، بل جعل الرغبة إليه وحده . كما قال تعالى : فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده ، كما أن العبادة والتقوى والسجود لله وحده ، والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى ونظير هذا قوله تعالى : أليس الله بكاف عبده [ ص: 3032 ] ف ( الحسب ) هو ( الكافي ) ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده ، فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية ؟ والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد ، أكثر من أن نذكرها هنا . انتهى .

قال الخفاجي في ( " العناية " ) : وتضعيفه الرفع لا وجه له ، فإن الفراء والكسائي رجحاه ، وما قبله وما بعده يؤيده . انتهى .

وأقول : هذا من الخفاجي من الولع بالمناقشة ، كما هو دأبه ، ولو أمعن النظر فيما برهن عليه ابن القيم وأيده بما لا يبقى معه وفقة لما ضعفه ، والفراء والكسائي من علماء العربية ، ولأئمة التأويل فقه آخر ، فتبصر ولا تكن أسير التقليد .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 65 ] يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون .

يا أيها النبي حرض المؤمنين أي : حثهم : على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 66 ] الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين .

الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين

[ ص: 3033 ] في الآية مسائل :

الأولى : مشروعية الحض على القتال ، والمبالغة في الحث عليه ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه عند صفهم ، ومواجهة العدو ، كما قال لهم يوم بدر ، حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم : « قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض » ، فقال عمير بن الحمام : عرضها السموات والأرض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نعم » ! فقال : بخ بخ ، فقال : « ما يحملك على قولك بخ بخ » ؟ قال : رجاء أن أكون من أهلها . قال : « فإنك من أهلها » . فتقدم الرجل ، فكسر جفن سيفه ، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ، ثم ألقى بقيتهن من يده ، وقال : لئن أنا حييت حتى آكلهن ، إنها لحياة طويلة ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه .

الثانية : ذهب الأكثرون إلى أن قوله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا شرط في معنى الأمر بوجوب مصابرة الواحد للعشرة أي : بألا يفر منهم .

روى البخاري عن ابن عباس قال : لما نزلت : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين كتب عليهم ألا يفر واحد من عشرة ، ولا عشرون من مائتين ، ثم نزلت : الآن خفف الله عنكم الآية ، فكتب أن لا يفر مائة من مائتين .

وفي رواية أخرى عنه قال : لما نزلت : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين شق ذلك على المسلمين ، فنزلت : الآن خفف الله عنكم الآية ، فلما خفف الله عنهم من العدة ، نقص عنهم من الصبر ، بقدر ما خفف عنهم .

[ ص: 3034 ] قال في ( " اللباب " ) : فظاهر هذا أن قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم ناسخ لما تقدم في الآية الأولى ، وكان هذا الأمر يوم بدر ، فرض الله سبحانه وتعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين ، فثقل ذلك على المؤمنين ، فنزلت : الآن خفف الله عنكم أيها المؤمنون وعلم أن فيكم ضعفا يعني في قتال الواحد للعشرة ، فإن تكن منكم مائة صابرة محتسبة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله . فرد العشرة إلى الاثنين ، فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا ، فأيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ، ومن فر من اثنين فقد فر . انتهى .

قال في ( " العناية " ) : وذهب مكي إلى أنها مخففة لا ناسخة ، كتخفيف الفطر للمسافر . وثمرة الخلاف أنه لو قاتل واحد عشرة ، فقتل ، هل يأثم أو لا ؟ فعلى الأول يأثم ، وعلى الثاني لا يأثم .

وقال الرازي : أنكر أبو مسلم الأصفهاني دعوى النسخ في الآية ، وقال : الأمر الذي فهم من الآية مشروط بكون العشرين قادرين على الصبر ، أي : إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين ، فليشتغلوا بمقاومتهم .

ثم دل قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم على أن ذلك الشرط غير حاصل منهم ، فلم يكن التكليف لازما عليهم .

وبالجملة ، فالآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص ، والثانية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هؤلاء الجماعة ، فلم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا فلا نسخ ، ولا يقال إن قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم مشعر بأن هذا التكليف كان متوجها عليهم قبله ، لأن لفظ التخفيف لا يستلزم الدلالة على حصول التثقيل قبله ، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام ، كقوله تعالى في ترخيصه للحر في نكاح الأمة : يريد الله أن يخفف عنكم وليس هناك نسخ ، وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر ، فكذا هاهنا .

[ ص: 3035 ] ومما يدل على عدم النسخ ذكر هذه الآية مقارنة للأولى وجعل الناسخ مقارنا للمنسوخ ، لا يجوز إلا بدليل قاهر .

قال الرازي : بعد تقرير كلام أبي مسلم : إن ثبت إجماع الأمة قبل أبي مسلم على حصول النسخ في الآية ، فلا كلام عليه ، وإلا فقول أبي مسلم صحيح حسن . انتهى .

الثالثة : في قوله تعالى : بأنهم قوم لا يفقهون إشارة إلى علة غلبة المؤمنين عشرة أمثالهم من الكفار ، فالظرف متعلق بـ : ( يغلبوا ) أي : بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى واليوم الآخر ، لا يقاتلون احتسابا وامتثالا لأمر الله تعالى ، وإعلاء لكلمته ، وابتغاء لرضوانه ، كما يفعله المؤمنون ، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية ، واتباع خطوات الشيطان ، وإثارة ثائرة البغي والعدوان ، فلا يستحقون إلا القهر والخذلان . أفاده أبو السعود .

الرابعة : قال الرازي : احتج هشام على قوله : إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها ، بقوله : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إذ يقتضي أن علمه يضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت .

وأجاب المتكلمون بأن معناه : الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله ، وأما قبل ذلك فقد كان الحاصل العمل بأنه سيقع أو سيحدث . انتهى .

وقال الطيبي رحمه الله : معناه الآن خفف الله عنكم لما ظهر متعلق علمه تعالى ، أي : كثرتكم الموجبة لضعفكم بعد ظهور قتلكم وقوتكم .

الخامسة : في ( الضعف ) لغتان : الفتح والضم ، بهما قرئ . وهو يؤكد كونهما بمعنى فيكونان في الرأي والبدن . وقيل : ( الفتح ) في الرأي والعقل ، و ( الضم ) في البدن . وهو منقول عن الخليل وقرئ : ( ضعفاء ) بصيغة الجمع .

السادسة : إن قيل : إن كفاية عشرين لمائتين تغني عن كفاية مائة لألف وكفاية مائة لمائتين تغني عن كفاية ألف لألفين ، لما تقرر من وجوب ثبات الواحد للعشرة في الأولى ، وثبات الواحد للاثنين في الثانية ، فما سر هذا التكرير ؟




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #376  
قديم 10-02-2023, 03:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
صـ 3036 الى صـ 3050
الحلقة (376)


أجيب : بأن سره كون كل عدة بتأييد القليل [ ص: 3036 ] على الكثير لزيادة التكرير المفيد لزيادة الاطمئنان ، والدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة ، لا تتفاوت ، فإن العشرين قد لا تغلب المائتين ، وتغلب المائة الألف ، وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل ثم الأكثر على الترتيب الطبيعي .

قال في ( " الفتح " ) : وقد قيل في سر ذلك : إن بشارة للمسلمين بأن جنود الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف .

السابعة : قال في ( " البحر " ) : انظر إلى فصاحة هذا الكلام ، حيث أثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر ، وحذف نظيره من الثانية ، وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة وحذفه من الأولى ، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ، ثم ختمت بقوله :

والله مع الصابرين مبالغة في شدة المطلوبية ، ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر ، اكتفاءا بما قبله .

قال الشهاب : هذا نوع من البديع يسمى الاحتباك ، وبقي عليه أنه ذكر في التخفيف

بإذن الله وهو قيد لهما ، وقوله : والله مع الصابرين إشارة إلى تأييدهم ، وأنهم منصورون حتما لأن من كان الله معه لا يغلب .

وبقي فيها لطائف ، فلله در التنزيل ما أحلى ماء فصاحته ! وأنضر رونق بلاغته !
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 67 ] ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم .

ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض

روى الإمام أحمد عن أنس قال : استشار النبي صلى الله عليه وسلم في الأسارى يوم بدر فقال : « إن الله قد أمكنكم منهم » ، [ ص: 3037 ] فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ! اضرب أعناقهم ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقالته وقال : « إنما هم إخوانكم بالأمس » ، وعاد عمر لمقالته ، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم ، فقام أبو بكر الصديق فقال : يا رسول الله ! نرى أن تعفو عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء . قال فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم ، فعفا عنهم ، وقبل منهم الفداء .

وأخرج مسلم في ( أفراده ) من حديث عمر بن الخطاب ، قال ابن عباس : لما أسروا الأسارى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : « ما ترون في هؤلاء الأسارى » ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ! هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما ترى يا ابن الخطاب » ؟ قال : قلت لا ، والله يا رسول الله ! ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده . فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت .

فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة » ، لشجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : ما كان لنبي الآية .


ذكره الحميدي في ( " مسنده " ) عن عمر بن الخطاب ، من أفراد مسلم بزيادة فيه .

ومعنى : ما كان لنبي ما صح له وما استقام وقرئ ( للنبي ) على العهد ، والمراد [ ص: 3038 ] على كل ، نبينا صلى الله عليه وسلم ، وإنما نكر تلطفا به ، حتى لا يواجه بالعقاب . وقرئ ( أسارى ) .

ومعنى : يثخن في الأرض يكثر القتل ويبالغ فيه ، حتى يذل الكفر ، ويقل حزبه ، ويعز الإسلام ، ويستولي أهله . يقال : أثخن في العدو ، بالغ في قلتهم . كما في ( " الأساس " ) ، وأثخن في الأرض قتلا إذا بالغ . وقال ابن الأعرابي : أثخن إذا غلب وقهر .

قال الرازي : وإنما حمله الأكثرون على القتل ، لأن الدولة إنما تقوى به .

قال المتنبي :


لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم


ولأنه يوجب قوة الرعب ، وشدة المهابة ، فلذلك أمر تعالى به . وقوله تعالى : تريدون عرض الدنيا أي : متاعها الزائل ، بفداء أسارى بدر .

والعرض ما لا ثبات له ولو جسما ، ومنه استعار المتكلمون ( العرض ) المقابل ( للجوهر ) ، قاله الشهاب .

والله يريد الآخرة أي : يريد لكم ثوابها والله عزيز أي : غالب على ما أراد .

حكيم أي : فيما يأمر به عباده .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 68 ] لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .

لولا كتاب من الله سبق لمسكم أي : لأصابكم فيما أخذتم أي : بسببه ، وهو الفداء : عذاب عظيم أي : شديد ، بقدر إبطالكم الحكمة العظيمة ، وهي قتلهم ، الذي هو أعز للإسلام ، وأهيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم . والمراد ب ( الكتاب ) الحكم ، وإنما أطلق عليه لأنه مكتوب في اللوح .

ولأئمة التفسير أقوال في تفسيره ، فقيل : هو أنه لا يعذب قوما إلا بعد تقديم النهي ، ولم يتقدم نهي عن ذلك ، وقيل : هو أنه لا يعذب المخطئ في اجتهاده ، وقيل : هو كون أهل بدر مغفورا لهم . وقيل : هو حل المغانم .

وللرازي مناقشة في هذه الأقوال ، واختار أن ( الكتاب ) هو حكمه في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة ، لأنه كتب على نفسه الرحمة ، وسبقت رحمته غضبه .

[ ص: 3039 ] أقول : لعل الأمس في تهويل ما اكتسبوه ، تفسير ( الكتاب ) بما في قوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون والله أعلم ـ .

تنبيهات :

الأول _ قال الرازي : قال ابن عباس : هذا الحاكم إنما كان يوم بدر ، لأن المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوي سلطانهم ، أنزل الله بعد ذلك في الأسارى : حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها

وأقول : هذا الكلام يوهم أن قوله : فإما منا بعد وإما فداء يريد حكم الآية التي نحن في تفسيرها ، وليس الأمر كذلك ، لأن الآيتين متوافقتان ، فإن كلتيهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان ، ثم بعده أخذ الفداء . انتهى .

وقال بعضهم : لا تظهر دعوى النسخ من أصلها ، إذ النهي الضمني كما هنا مقيد ومغيا بالإثخان ، أي : كثرة القتال اللازمة لها قوة الإسلام وعزته ، وما في سورة القتال من التخيير ، محله بعد ظهور شوكة الإسلام بكثرة القتال ، فلا تعارض بين الآيتين ، إذ ما هناك بيان للغاية التي هنا . نقله في ( " الفتح " ) .

الثاني : قال القاضي : في الآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون ، وأنه قد يكون خطأ ، ولكن لا يقرون عليه .

الثالث : قال ابن كثير : وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء ، أن الإمام مخير فيهم ، إن شاء قتل ، كما فعل ببني قريظة ، وإن شاء فادى بمال ، كما فعل بأسرى بدر ، بمن أسر من المسلمين ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع ، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين .

[ ص: 3040 ] وإن شاء استرق من أسر ، هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة ، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة ، مقرر في موضعه .

الرابع : قال بعض مفسري الزيدية : في هذه الآية سؤال وهو أن يقال : إن كان فعلهم اجتهادا وخطأ ، فلم عوتبوا ؟ ويلزم أن لا معصية ، وإن تمكنوا من العلم وقصروا ، فكيف أقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وجواب ذلك من وجهين :

الأول : عن أبي علي أن ذلك كان معصية صغيرة . قال الحاكم : وكانوا متمكنين من العلم ، إذا ما عاتبهم .

وقيل : كان خطأ وقصروا فعوتبوا على التقصير . انتهى .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 69 ] فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم .

فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا أي : كلوا بعضه بعد إخراج الخمس حلالا ، أي : مطلقا عن العتاب والعقاب ، من ( حل العقال ) .

طيبا أي : لذيذا هنيئا ، أو حلالا بالشرع ، طيبا بالطبع .

قيل : هذا الأمر تأكيد لحل المغنم ، لأنه علم مما تقدم من قوله : واعلموا أنما غنمتم الآية ، وإشارة لاندراج مال الفداء في عمومها ، ف ( ما غنمتم ) هنا ، إما الفدية ، لأنها غنيمة ، أو مطلق الغنائم .

والمراد بيان حكم ما اندرج فيها من الفدية وجعل الفاء عاطفة على سبب مقدر ، أي : أبحت لكم الغنائم ، فكلوا قد يستغنى عنه بعطفه على ما قبله بمعناه ، أي : لا أؤاخذكم بما أخذ من الفداء فكلوه . كذا في ( " العناية " ) .

قال أبو السعود : والأظهر أنها للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي : دعوه فكلوا مما غنمتم . ثم قال : وقيل : ( ما ) عبارة عن الفدية ، فإنها من جملة الغنائم ، ويأباه اتساق النظم الكريم وسياقه . انتهى . وهو متجه .

[ ص: 3041 ] واتقوا الله أي : في مخالفة أمره ونهيه إن الله غفور رحيم فيغفر لكم ويرحمكم إذا اتقيتموه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 70 ] يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم .

يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى أي : لمن في ملكتكم ، كأن أيديكم قابضة عليهم وذلك تخليصا لهم من أسر الضلال بضعف الإيمان إن يعلم الله في قلوبكم خيرا أي : قوة إيمان وإخلاصا فيه يؤتكم خيرا مما أخذ منكم أي : من الفداء ، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه ، أو يثيبكم في الآخرة ويغفر لكم والله غفور رحيم
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 71 ] وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم .

وإن يريدوا أي : الأسرى خيانتك أي : نكث ما بايعوك عليه من الإسلام بالردة ، أو منع ما ضمنوا من الفداء فقد خانوا الله من قبل أي : من قبل ( بدر ) بالكفر به .

فأمكن منهم أي : فأمكنك منهم ، أي : أظفرك بهم قتلا وأسرا ، كما رأيتم يوم بدر ، فسيمكن منهم إن عادوا إلى الخيانة والله عليم حكيم أي : عليم بما في بواطنهم من إيمان وتصديق ، أو خيانة ونقض عهد ، حكيم يجازي كلا بعلمه ، الخير بالثواب ، والشر بالعقاب .

[ ص: 3042 ] روى ابن هشام في ( السيرة ) أن فداء المشركين يوم بدر كان أربعة آلاف درهم بالرجل إلى ألف درهم ، إلا من لا شيء له ، فمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه .

وقال ابن إسحاق : كان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس ، وذلك أنه كان رجلا موسرا ، فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهبا .

وفي صحيح البخاري عن أنس أن رجالا من الأنصار قالوا : يا رسول الله ! ائذن لنا ، فنترك لابن أختنا عباس فداءه . قال : « لا والله ! لا تذرون منه درهما » .

وروى ابن إسحاق أن العباس قال : يا رسول الله ! قد كنت مسلما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الله أعلم بإسلامك ، فإن يكن كما تقول ، فإن الله يجزيك ، وأما ظاهرك فقد كان علينا ، فافتد نفسك وابني أخيك نوفلا وعقيلا وحليفك عتبة » . قال : ما ذاك عندي يا رسول الله ! قال : « فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل » ، فقلت لها : إن أصبت في سفري هذا ، فهذا المال الذي دفنته لبني : الفضل وعبد الله وقثم ؟ قال : والله ! يا رسول الله ، إني لأعلم أنك رسول الله ، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل ، فاحسب لي يا رسول الله ، ما أصبتم من عشرين أوقية من مال كان معي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا ، ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك » .

ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ، فأنزل الله عز وجل فيه : يا أيها النبي قل لمن في أيديكم الآية .

قال العباس : فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام ، عشرين عبدا كلهم في يده مال ، يضرب به ، مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل .


[ ص: 3043 ] وروى ابن إسحاق أيضا أن العباس كان يقول : في نزلت ، والله ! حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي .

وروى ابن جريج عن عطاء بن عباس ، أن عباسا وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بما جئت به ، ونشهد أنك رسول الله ، لننصحن لك على قومنا ، فأنزل الله تعالى : إن يعلم الله في قلوبكم الآية . قال ، فكان العباس يقول : ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا ، وأن لي الدنيا ، لقد قال : يؤتكم خيرا مما أخذ منكم فقد أعطاني خيرا مما أخذ مني مائة ضعف . وقال : ويغفر لكم وأرجو أن قد غفر لي .

وروى البيهقي عن أنس قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين ، فقال : « انثروه في مسجدي » . قال ، وكان أكثر ما أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إلى الصلاة ، ولم يلتفت إليهم ، فلما قضى الصلاة فجاء فجلس إليه ، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه ، إذ جاءه العباس فقال : يا رسول الله ! أعطني ، فاديت نفسي ، وفاديت عقيلا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خذ » ، فحثا في ثوبه ، ثم ذهب يقله ، فلم يستطع . فقال : مر بعضهم يرفعه إلي ، قال : لا ، قال : « فارفعه أنت علي » ، قال : لا ! فنثر منه ، ثم احتمله على كاهله ، ثم انطلق ، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه ببصره حتى خفي عنه ، عجبا من حرصه .

فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم . وفي رواية : وما بعث إلى أهله بدرهم .
ورواه البخاري تعليقا .

وفي رواية : فجعل العباس يقول وهو منطلق : أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا ، وما ندري ما يصنع في الأخرى !

ثم ذكر تعالى أصناف المؤمنين ، وقسمهم إلى مهاجرين وأنصار فقال :
[ ص: 3044 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 72 ] إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير .

إن الذين آمنوا وهاجروا أي : من مكة إلى المدينة لنصر الله ورسوله وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أي : طاعته والذين آووا ونصروا أي : وطنوا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وبذلوا إليهم أموالهم ، وآثروهم على أنفسهم ، ونصروهم على أعدائهم أولئك بعضهم أولياء بعض أي : يتولى بعضهم بعضا في النصرة والمظاهرة ، ويقوم مقام أهله ونفسه ، ويكون أحق به من كل أحد ، ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار .

قال ابن إسحاق : وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فقال فيما بلغنا : « تآخوا أخوين أخوين » ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : « هذا أخي » . وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وعم النبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم أخوين . وإليه أوصى حمزة يوم ( أحد ) ، حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت .

وجعفر ذو الجناحين الطيار في الجنة ومعاذ بن جبل أخوين ، وأبو بكر الصديق وخارجة بن زيد أخوين ، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين ، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين ، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين ، والزبير بن العوام وسلمة [ ص: 3045 ] بن سلامة أخوين ، وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخوين وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين ، وسعيد بن زيد وأبي بن كعب أخوين ، ومصعب بن عمير وأبو أيوب الأنصاري أخوين ، وأبو حذيفة وعباد بن بشر أخوين ، وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أخوين ، وأبو ذر الغفاري والمنذر بن عمرو أخوين ، وسلمان الفارسي وأبو الدرداء أخوين ، وحاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين ، وبلال الحبشي وأبو رويحة الخثعمي أخوين .

ولما خرج بلال إلى الشام ، وأقام فيها مجاهدا ، قال له عمر : إلى من نجعل ديوانك ؟ قال : مع أبي رويحة ، لا أفارقه أبدا ، للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد بينه وبيني . فضم إليه ، وضم ديوان الحبشة إلى خثعم ، لمكان بلال منهم .

قال ابن إسحاق : فهؤلاء من سمى لنا ممن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من أصحابه :

تنبيه :

نقل الواحدي عن ابن عباس وغيره ، أن المراد من هذه الولاية ، هي الولاية في الميراث . قال ابن كثير : لما تآخوا كانوا يتوارثون بذلك إرثا مقدما على القرابة ، حتى نسخ الله ذلك بالمواريث ، ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد .

قال الخفاجي : فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري ، إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري . واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة ، ثم توارثوا بالنسب بعد ، إذ لم تكن هجرة .

والولي القريب والناصر ، لأن أصله القرب المكاني ، ثم جعل للمعنوي ، كالنسب والدين والنصرة .

فقد جعل صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام التناصر الديني أخوة ، وأثبت لها أحكام الأخوة الحقيقية من التوارث ، فلا وجه لما قيل إن هذا التفسير لا تساعده اللغة ، فالولاية على هذا ، والوراثة المسببة عن القرابة الحكمية . انتهى .

[ ص: 3046 ] ومراده ب ( ما قيل ) ، ما ذكره الرازي في تضعيف تفسير الولاية بالوراثة ، حيث قال : واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى ، لأن هذا اللفظ مشعر بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب .

ويقال : السلطان ولي من لا ولي له ، ولا يفيد الإرث ، وقال تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ولا يفيد الإرث ، بل الولاية تفيد القرب ، فيمكن حمله على غير الإرث ، وهو كون بعضهم معظما للبعض ، مهتما بشأنه ، مخصوصا بمعاونته ومناصرته ، والمقصود أن يكونوا يدا واحدة على الأعداء ، وأن يكون حب كل واحد لغيره جاريا مجرى حبه لنفسه .

وإذا كان اللفظ محتملا لهذا المعنى ، كان حمله على الإرث بعيدا عن دلالة اللفظ ، لا سيما وهم يقولون : إن ذلك الحكم صار منسوخا بقوله تعالى في آخر الآية : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأي حاجة تحملنا على حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به ، ثم الحكم بأنه صار منسوخا بآية أخرى مذكورة معه ؟ هذا في غاية البعد ، اللهم إلا إذا حصل إجماع المفسرين على أن المراد ذلك ، فحينئذ يجب المصير إليه ، إلا أن دعوى الإجماع بعيدة انتهى .

وأقول : لعموم هذا الخطاب ونظمه وجه في إثبات التوارث ، لا سيما وقد نفى تعالى ولاية من لم يهاجر نفيا استغرق أقرب الأقارب حيث قال : والذين آمنوا ولم يهاجروا أي : بأن أقاموا في بواديهم : ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا أي : إلى المدينة . وقوله تعالى : وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر أي : إذا استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني ، فيجب عليكم أن تنصروهم على أعدائهم المشركين ، لأنهم إخوانكم في الدين إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق أي : عهد ومهادنة إلى مدة ، فلا تعينوهم عليهم ، لئلا تخفروا ذمتكم ، وتنقضوا عهدكم والله بما تعملون بصير أي : فلا تخالفوا أمره .

[ ص: 3047 ] تنبيهات :

الأول : احتج من ذهب إلى أن المراد من قوله تعالى : ما لكم من ولايتهم من شيء أي : من توليتهم في الميراث ، وأنه هو المراد في الآية السابقة أيضا ، بقوله تعالى :

وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر فإن هذا موالاة في الدين ، فحينئذ لا يجوز حمل الموالاة المنفية على النصرة والمظاهرة ، لأنها لازمة لكل حال لكلا الفريقين .

وأجاب الرازي بما معناه : إن الولاية هنا ليس المراد بها مطلق التولي حتى يرده ما ذكروه ، بل عني بها معنى خاص ، وهو علاقة شديدة ، ومحبة أكيدة ، وإيثار قوي ، وأخوة وثيقة ، ولا يلزم من النصر التولي ، فقد ينصر المرء ذميا لأمر ما ولا يتولاه ، ويدافع عن عبده أو أمته ويعينهما ولا يتولاهما - والله أعلم - .

الثاني : يظهر أن هذه الآية كسوابقها مما نزل إثر واقعة بدر ، وطلب من كل من آمن من البادين أن يهاجر ، ليكثر سواد المسلمين ، ويظهر اجتماعهم ، وإعانة بعضهم لبعض ، فتتقوى بألفتهم شوكتهم ، ولم يزل طلب الهجرة إلا بفتح مكة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا هجرة بعد فتح مكة » . رواه البخاري عن مجاشع بن مسعود .

الثالث : شمل نفي الموالاة عن الذين لم يهاجروا وقتئذ ، حرمانهم من المغانم والفيء . روى الإمام أحمد عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 3048 ] إذا بعث أميرا على سرية ، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا . وقال : « اغزوا بسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ، فأيتها ما أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ثم ادعهم من التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين ، وأن عليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا واختاروا دارهم ، فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية ، فإن أجابوا فاقبل منهم ، وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم » .

قال ابن كثير : انفرد به مسلم ، وعنده زيادات أخر .

الرابع : قرأ حمزة ( ولايتهم ) بكسر الواو ، والباقون بفتحها .

قال الشهاب : جاء في اللغة : ( الولاية ) مصدرا بالفتح والكسر ، فقيل : هما لغتان فيه بمعنى واحد ، وهو القرب الحسي والمعنوي ، وقيل : بينهما فرق ، فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه ، والكسر ولاية السلطان ، قاله أبو عبيدة . وقيل الفتح من النصرة والنسب . والكسر من الإمارة . قاله الزجاج .

وخطأ الأصمعي قراءة الكسر ، وهو المخطئ لتواترها ، واختلفوا في ترجيح إحدى القراءتين . ولما قال المحققون من أهل اللغة : إن ( فعالة ) بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء ، ويجعل فيه كاللفافة والعمامة ، وفي المصادر يكون في الصناعات وما يزاول بالأعمال ، كالكتابة والخياطة ، ذهب الزجاج وتبعه غيره إلى أن الولاية لاحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعة ، لذا جاء فيها الكسر ، كالإمارة .

وهذا يحتمل أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك ، فتكون حقيقة ويحتمل - كما في بعض شروح الكشاف - أن تكون استعارة ، كما سموا الطب صناعة . انتهى .

وقوله تعالى :
[ ص: 3049 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 73 ] والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير .

والذين كفروا بعضهم أولياء بعض أي : فلا يتولاهم إلا من كان منهم ، ففيه إشارة إلى نهي المسلمين عن موالاتهم ، وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم ، وإن كانوا أقرب وقد استدل به على أنه لا توارث بين المسلمين والكفار .

روى الحاكم في ( " مستدركه " ) عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يتوارث أهل ملتين ، ولا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما ، ثم قرأ : والذين كفروا الآية ، رواه الشيخان عنه بلفظ : « لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم » .

وقوله تعالى : إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير أي : إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التواصل ، وتولي بعضكم بعضا ، ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار ، تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة ، لأن المسلمين ما لم يصيروا يدا واحدة على الشرك ، كان الشرط ظاهرا ، والفساد زائدا ، في الاعتقادات والأعمال .

وقيل : الضمير المنصوب للميثاق أو حفظه أو النصر أو الإثبات . وقيل إنه للاستنصار المفهوم من الفعل ، والفتنة : إهمال للمؤمنين المستنصرين بنا ، حتى يسلط علينا الكفار ، إذ فيه وهن للدين . ؟

قال الشهاب : وفيه تكلف ، أي : فالأوجه عوده للتولي والتواصل - كما بينا - .

قال الرازي : بيان هذه الفتنة والفساد عن وجوه :

الأول : أن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين ، وقلة عددهم وزمان قوة الكفار ، وكثرة عددهم ، فربما صارت تلك المخالطة سببا لالتحاق المسلم بالكفار .

[ ص: 3050 ] الثاني : أن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم ، فيصير ذلك سببا لجرأة الكفار عليهم .

الثالث : أنه إذا كان جميع المسلمين كل يوم في الزيادة في العدد والعدد صار ذلك سببا لمزيد رغبتهم فيما هم فيه ، ورغبة المخالف في الالتحاق بهم . انتهى .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 74 ] والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم .

والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم عود لذكر المهاجرين والأنصار ، للثناء عليهم ، والشهادة لهم ، مع الموعد الكريم ، فلا تكرار ، لما أن مساق الأول لإيجاب التواصل بينهم ، فذكرهم هاهنا لبيان تعظيم شأنهم ، وعلو درجتهم .

قال الرازي : وبيانه من وجهين :

الأول : أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم ، وذلك يدل على الشرف والتعظيم .

والثاني : وهو أنه تعالى أثنى عليهم هاهنا من ثلاثة أوجه :

أولها : قوله : أولئك هم المؤمنون حقا فقوله : أولئك هم المؤمنون يفيد الحصر ، وقوله : حقا يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين ، وقد كانوا كذلك ، لأن من لم يكن محقا في دينه ، لم يتحمل ترك الأديان السالفة ، ولم يفارق الأهل والوطن ، ولم يبذل النفس والمال ، ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين المتسابقين .

وثانيها : قوله : لهم مغفرة والتنكير يدل على الكمال ، أي : مغفرة تامة كاملة .

وثالثها : قوله : ورزق كريم والمراد منه الثواب الرفيع الشريف . انتهى .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #377  
قديم 10-02-2023, 03:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
صـ 3051 الى صـ 3065
الحلقة (377)




[ ص: 3051 ] وقد أثنى تعالى على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه الكريم ـ والله أعلم ـ .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 75 ] والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم .

والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم أي : من جملتكم ، أي : المهاجرون والأنصار ، في استحقاق ما استحقيتموه من الموالاة والمناصرة ، وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم .

وهل المراد من قوله : ( من بعد ) هو من بعد الهجرة الأولى ، أو من بعد الحديبية . وهي الهجرة الثانية ، أو من بعد نزول هذه الآية ، أو من بعد يوم بدر ؟ أقول :

واللفظ الكريم يعمها كلها ، والتخصيص بأحدهما تخصيص بلا مخصص .

وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله أي : في حكمته وقسمته ، أو في اللوح ، أو في القرآن ، لأن كتاب الله يطلق على كل منها إن الله بكل شيء عليم فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه ، التي هي منتهى الصواب والحكمة والصلاح .

تنبيهات :

الأول : إن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والمناصرة عند من فسر ما تقدم من قوله : بعضهم أولى ببعض وما بعده بالتوارث .

أخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال : كان الرجل يحالف الرجل ، ليس بينهما [ ص: 3052 ] نسب ، فيرث أحدهما من الآخر ، فنسخ ذلك آية الأنفال فقال :

وأولو الأرحام إلخ ، إلا أن في إسناده من فيه مقال .

وأما من فسر الموالاة المتقدمة بالنصرة والمعونة والتعظيم ، فيجعل هذه الآية إخبارا منه سبحانه وتعالى بأن القرابات بعضهم أولى ببعض ، وذلك أن تلك الآية ، لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث ، بين الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة ، إلا ما خصه الدليل ، فيكون المقصود من الآية إزالة هذا الوهم .

قال الرازي : وهذا أولى ، لأن تكثير النسخ من غير ضرورة وحاجة ، لا يجوز .

الثاني : استدل بالآية من ورث ذوي الأرحام ، وهم من ليسوا بعصبات ، ولا ذوي سهام . قال : ويعضده حديث : « الخال وارث من لا وارث له » ، وأجاب من منع توريثهم بأن المراد من الآية من ذكر الله من ذوي السهام والعصبات ، ومن الحديث : « من كان وارثه الخال فلا وارث له » ، ورد بأنها عامة فلا موجب للتخصيص ، وبأن معنى الحديث : من كان لا وارث له غيره ، لحديث : « أنا عماد من لا عماد له » .

ثم إن الذين أثبتوا ميراثهم اختلفوا في أنهم هل يرثون بالقرب ، أو بالتنزيل ، وهل يرث القريب مع البعيد ، وهل يفضل الذكر على الأنثى أو لا ؟ والآية محتملة . أفاده بعض مفسري الزيدية .

قال ابن كثير : ليس المراد بقوله : وأولو الأرحام خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا عصبة ، بل يدلون بوارث كالخالة والخال ، والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم ، كما يزعمه بعضهم ، ويحتج بالآية ويعتقد ذلك صريحا في المسألة ، بل الحق أن الآية عامة ، تشمل جميع القرابات ، كما نص عليه ابن عباس [ ص: 3053 ] ومجاهد وعكرمة ، والحسن وقتادة وغير واحد ، وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص ، ومن لم يورثهم يحتج بأدلة ، من أقواها حديث : « إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث » .

قالوا : فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى ، فلما لم يكن كذلك ، لم يكن وارثا . انتهى .

ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال ، إذ لا يلزم من ثبوت الحق تعيين الفرض ، على أن معنى الحديث أعطى كل ذي حق حقه مفصلا ومجملا ، وقد أعطاهم حق الأولوية العامة ، ووكل بيان ما يفهم من إجمال الإرث بعمومها لاستنباط الراسخين وفهمهم على قاعدة عمومات التنزيل .

وقد رأيت في هذه المسألة مقالة بديعة أوردها الحسن الصابئ في ( " تاريخ الوزراء " ) في أخبار وزارة أبي الحسن بن الفرات ، نأثرها هنا ، لأنها جمعت فأوعت ، قال رحمه الله :

ونسخة ما كتب به أبو خازم إلى بدر المعتضدي جواب كتابة إليه في أمر المواريث : وصل كتاب الأمير ، يذكر أنه احتيج إلى كتابي بالذي أراه واجبا من مال المواريث لبيت المال ، ومالا أراه واجبا منه ، وتلخيص ذلك وتبيينه - وأنا أذكر للأمير الذي حضرني من الجواب في هذه المسألة والحجة فيما سأل عنه ليقف على ذلك إن شاء الله - .

الناس مختلفون في توريث الأقارب ، فروي عن زيد بن ثابت أنه جعل التركة - إذا لم يكن للمتوفى من يرثه من عصبة وذي سهم - لجماعة من المسلمين وبيت مالهم ، وكذلك يقول في الفصل بعد السهمان المسماة ، إذا لم تكن عصبة ، ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة سوى زيد بن ثابت .

وقد خالفه عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وجعلوا ما يفضل من السهمان ردا على أصحاب السهام من القرابة ، وجعلوا [ ص: 3054 ] المال لذي الرحم إذا لم يكن وارث سواه .

والسنة تعاضد ما روي عنهم ، وتخالف ما روي عن زيد بن ثابت ، وتأويل القرآن يوجب ما ذهبوا إليه ، وليس لأحد أن يقول في خلاف السنة والتنزيل بالرأي .

قال الله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم فصير القريب أولى من البعيد ، وإلى هذا ذهب عمر وعلي وعبد الله رضي الله عنهم ومن تابعهم من الأئمة ، وعليه اعتمدوا ، وبه تمسكوا - والله أعلم _ .

ولو كان في هذه المسألة ما يدل عليه شاهد من الكتاب والسنة ، لكان الواجب تقليد الأفضل والأكثر من السابقين الأولين ، وترك قبول من سواهم ممن لا يلحق بدرجتهم بسابقته .

وإذا رد أمر الناس إلى التخيير من أقاويل السلف ، فهل يحيل أو يشكل على أحد أن زيدا لا يفي علمه بعلم عمر وعلي وعبد الله ؟ وإذا فضلوا في السابقة والهجرة ، فمن أين وجب أن يؤخذ بما روي عن زيد بن ثابت ، واطراح ما روي عنهم ، وقد استدلوا مع ذلك بالكتاب فيما ذهبوا إليه ، وبالسنة فيما أفتوا به ؟ والرواية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتوريث من لا فرض له في الكتاب من القرابة .

فمن ذلك ما ذكر لنا عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهروي عن المقدام ابن معدي كرب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الخال وارث من لا وارث له يرث ماله ، ويعقل عنه » .

وكذلك بلغنا عن شريك بن عبد الله عن ليث ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، وعن ابن جريج عن عمر بن سلمة ، عن طاوس عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك .

وذكر عن عبادة بن أبي عباد عن محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال : توفي ثابت بن أبي الدحداح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي : « أله فيكم نسب » ؟

[ ص: 3055 ] قال : فدفع تركته إلى ابن أخته فقد أوجب عليه السلام
، بما نقلته عنه هذه الرواية ، توريث من لا سهم له من القرابة مع عدم أصحاب السهمان المبينة في الكتاب .

وأعطى الجدة السدس من الميراث ، ولا فرض لها ، وفي ذلك الاتفاق ، وفيما صير لها من السدس ، دليل على أن من لا سهم له من القرابة في معناها ؟ إذا بطلت السهام ولم يكن من أهلها ، وأنه أولى بالميراث من الأجنبي .

والمروي عن زيد بن ثابت أنه جعل المفضل عن سهام الفرائض وكل المال ، إذا سقطت السهام بعد أهلها ، لجماعة المسلمين ، فجعلهم كلهم وارثا ، وجعل ما يصير لهم من ذلك - في خلاف مال الفيء المصروف إلى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى المصالح إذا كان ذلك - يكون فيما روي عنه للناس كافة ، وعددهم لا يحصى ، فغير ممكن أن يقسم ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض ، مشارقها ومغاربها .

وإذا امتنع ذلك وخرج إلى ما ليس بممكن ، فسد وثبت ما قلناه من قول أكابر الأئمة .

وقد تأول بعض المتأولين قول الله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب فقال فيه : كان الناس يتوارثون بالحلف دون القرابة ، فلما أوجب الله المواريث لأهلها من الأقارب ، منع الحليف بما فرض من السهمان فغلطوا وصرفوا حكم الآية إلى الخصوص ، فذلك غير واجب مع عدم الدليل ، لأن مخرجها في السمع مخرج العموم .

وبعد ، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه ، وكانت السهام التي نسخت ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض ، لوجب في بدء ، وما قالوا إذا كان لا وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على أول فرضهما ، وعلى المقدم من حكمها ، لأن الذي منعهما إذا ثبت هذا التأويل ( من له سهم ) دون ( من لا سهم له ) ، فإذا ارتفع المانع ، رجع الحكم إلى بدئه .

ولا اختلاف بين الفريقين أن الحليف لا يرث الحليف اليوم ، وإن كان لا وارث سواه ، وهذا يدل على فساد تأويلهم ، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت الحق للأقارب غير الذي ذهبوا إليه ، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها اختصاص القريب بالإرث دون البعيد . [ ص: 3056 ] وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد ، وترك الرواية عن عمر وعلي وعبد الله عليهم السلام جانبا ، وأسقط التعاقل بين الأجنبي والقريب ، وأن يجعل ذا الرحم أولى ، لأنه لا يفضل الأجنبي بالقرابة .

وترتيب المواريث في الأصل ، يجري على من تقدمه من فضل غيره في المناسبة ، كالأخ للأب والأم ، والأخ للأب ، وابن العم للأب والأم ، وابن العم للأب واختصاصهما قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع ، قال الله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وولد الولد ، من سفل منهم ومن ارتفع ، يعمهم هذا الاسم ، إلا أن الأقرب منهم في معنى الآية ، أحق من الأبعد ، فإذا كان ذلك كذلك ، كان القريب أولى من الأجنبي بالتركة للرحم التي تقرب بها دونه .

وبعد ، فإن العلماء نفر يسير لا يعرفون الصواب في هذه المسألة ، إلا فيما روي عن الخليفتين عمر وعلي صلوات الله عليهما ، وما روي عن ابن مسعود ، ثم لم يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم ، إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس جد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ، وترجمان القرآن ، وبحر العلم ، ومن كان إذا تكلم سكت الناس ، ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم ! فقهه في الدين وعلمه التأويل ، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة ، ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب .

وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعلي [ ص: 3057 ] وعبد الله والجماعة ، وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين ، أعزه الله ، يستقضون الحكام ، فيقضون برد المواريث على الأقارب ، ولا ينكرون ذلك على من قضى به من قضاتهم ، ولا تردونه متجاوزا للحق فيه ، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة ، وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف ، واقتدى بخلفاء الله ، ومال إلى أفضل المذهبين ، وإلى الله الرغبة في عصمة الأمير ، وتسديده ، والحمد لله رب العالمين . انتهى .

ونقل أبو الحسن الصابي قبل نسخة أبي الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة في المواريث ، وفيها نقل ما كتبه عبد الحميد في كتاب مواريث أهل الملة ، وأنه حكى فيه أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم ومن اتبعهم من الأئمة الهادين رحمة الله عليهم ، رأوا أن يرد على أصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفترضة في كتاب الله تبارك وتعالى من المواريث ، وإذا لم يكن للمتوفى عصبة يحوز باقي ميراثه ، وجعلوا رضي الله عنهم تركة من يتوفى ولا عصبة له لذوي رحمه ، إن لم يكن له وارث سواهم ، ممتثلين في ذلك أمر الله سبحانه إذ يقول : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في توريثه من لا فرض له في كتاب الله تعالى من الخال وابن الأخت والجدة . انتهى .

الثالث : استدل بالآية الإمامية على تقديم الإمام علي كرم الله وجهه على غيره في الإمامة ، لاندراجها في عموم الأولوية .

والجواب - على فرض صحة هذه الدلالة - أن العباس رضي الله عنه كان أولى بالإمامة ، لأنه كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه .

[ ص: 3058 ] [ ص: 3059 ]
[ ص: 3060 ] سورة التوبة

هي مدنية بإجماعهم . قيل : سوى آيتين في آخرها لقد جاءكم رسول من أنفسكم فإنهما نزلتا بمكة . وفيه نظر . فقد روى البخاري عن البراء أنها آخر سورة نزلت ، واستثنى بعضهم ما كان للنبي . . - لما ورد أنها نزلت في قوله صلى الله عليه وسلملأبي طالب : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك .

وهي مائة وتسع وعشرون آية ولهذه السورة عشرة أسماء :

1- براءة : سميت بها لافتتاحها بها ، ومرجع أكثر ما ذكر فيها إليها .

2- التوبة : لتكرارها فيها ، كقوله تعالى : فإن تبتم فهو خير لكم فإن تابوا وأقاموا الصلاة وقوله : ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء وقوله : فإن يتوبوا يك خيرا لهم وقوله: عسى الله أن يتوب عليهم وقوله : لقد تاب الله على النبي وقوله تعالى : ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة وقوله : التائبون العابدون وهما أشهر أسمائها .

3- الفاضحة : أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس :

سورة [ ص: 3061 ] التوبة ، قال : التوبة هي الفاضحة ، ما زالت تنزل : ومنهم ومنهم ، حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها .

4- سورة العذاب : رواه الحاكم عن حذيفة ، وذلك لتكرره فيها .

5- المقشقشة : رواه أبو الشيخ عن ابن عمر ، والقشقشة معناها التبرئة ، وهي مبرئة من النفاق .

6- المنقرة : أخرجه أبو الشيخ عن عبيد بن عمير لأنها نقرت عما في قلوب المشركين . أي بحثت .

7- البحوث : بفتح الباء ، صيغة مبالغة ، رواه الحاكم عن المقداد .

8- الحافرة : ذكره ابن الغرس ، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين ، أي بحثت عنها ، مجازا .

9- المثيرة : رواه ابن أبي حاتم عن قتادة لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم أي أخرجتها من الخفاء إلى الظهور .

10- المبعثرة : لأنها بعثرت أسرارهم أي أظهرتها .

11- المدمدمة : أي المهلكة لهم .

12- المخزية .

13- المنكلة : أي المعاقبة لهم .

14- المشردة : أي الطاردة لهم والمفرقة جمعهم .

وليس في السور أكثر أسماء منها ومن الفاتحة .

تنبيه :

للسلف في وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها أقوال :

1-

روى الحاكم في ( المستدرك ) عن ابن عباس قال : سألت علي بن أبي طالب : لم لم تكتب في ( براءة ) البسملة؟ قال : لأنها أمان . وبراءة نزلت بالسيف .

أي فنزولها لرفع [ ص: 3062 ] الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى ، مشفوعا بوصف الرحمة . ولذا قال ابن عيينة : اسم الله سلام وأمان ، فلا يكتب في النبذ والمحاربة . قال الله تعالى : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا قيل له : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب البسملة . قال : إنما ذلك ابتداء منه يدعوهم ، ولم ينبذ إليهم . ألا تراه يقول : سلام على من اتبع الهدى؟

فمن دعي إلى الله عز وجل فأجاب ، ودعي إلى الجزية فأجاب ، فقد اتبع الهدى ، فظهر الفرق . وكذا قال المبرد : إن التسمية افتتاح للخير ، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود ، فلذلك لم تفتتح بالتسمية .

2- عن ابن عباس قال : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا سطر البسملة ، ووضعتموها في السبع الطوال ، ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وإذا نزلت عليه الآية يقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت ( الأنفال ) من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت ( براءة ) من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وظننت أنها منها . وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها أو من غيرها ، من أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب البسملة ، ووضعتها في السبع الطوال . أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن ورواه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه ، والحاكم وصححه .

[ ص: 3063 ] قال الزجاج : والشبه الذي بينهما أن في ( الأنفال ) ذكر العهود ، وفي ( براءة ) نقضها .

3- أخرج أبو الشيخ عن أبي روق قال : ( الأنفال ) و ( براءة ) سورة واحدة .

ونقل مثله عن مجاهد ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن سفيان . وقال ابن لهيعة : يقولون إن ( براءة ) من ( الأنفال ) ، ولذلك لم تكتب البسملة في ( براءة ) ، وشبهتهم اشتباه الطرفين ، وعدم البسملة . ويرده تسمية النبي صلى الله عليه وسلم كلا منهما .

وقال الحاكم : استفاض النقل أنهما سورتان .

وقال أبو السعود : اشتهارها بهذه الأسماء- يعني الأربعة عشر اسما المتقدمة- يقضي بأنها سورة مستقلة ، وليست بعضا من سورة الأنفال ، وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها خلاف الظاهر ، انتهى .

ونقل صاحب ( الإقناع) أن البسملة ثابتة لـ ( براءة) في مصحف ابن مسعود قال : ولا يؤخذ بها .

وعن مالك أن أولها لما سقط سقطت معه البسملة ، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها ، كذا في ( الإتقان) .

ثم اعلم على أن القراء أجمعوا على ترك البسملة في آخر هذه السورة اتباعا لسقوطها في الرسم من مصحف الإمام ، إلا ابن منادر فإنه يسمي في أولها ، كما في مصحف ابن مسعود .

وقال السخاوي في ( جمال القراء) : إنه اشتهر تركها فى أول براءة .

وروي عن عاصم التسمية فى أولها، وهو القياس . لأن إسقاطها ، إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة ، بل من الأنفال . ولا يتم الأول ، لأنه مخصوص بمن نزلت فيه ، ونحن إنما نسمي للتبرك وأما الابتداء بما بعد أول براءه ، فلا نص للمتقدمين من أئمة القراء فيه ، وظاهر إطلاق كثير التخيير فيها ، واختار السخاوي [ ص: 3064 ] الجواز ، وقال: ألا ترى أنه يجوز بغير خلاف أن يقول : ( بسم الله الرحمن الرحيم وقاتلوا المشركين وإلى منعها ذهب الجعبري ، وتعقبه السخاوي فقال : إن كان نقلا فمسلم، وإلا فرد عليه ، لأنه تفريغ على غير أصل .

وقال ابن الجزري في ( النشر ) : من اعتبر بقاء أثر العلة التي من أجلها حذفت البسملة أولها ، وهي نزولها بالسيف ، لم يبسمل . ومن لم يعتبر ذلك، أو لم يرها، بسمل بلا نظر والله أعلم .

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 1 ] براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين .

وقوله تعالى :

براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين خبر لمحذوف ، وتنوينه للتفخيم ، أي : هذه براءة ، أو مبتدأ مخصص بصفة ، وخبره : ( إلى الذين ) .

و ( البراءة ) في اللغة انقطاع العصمة ، يقال : برئت من فلان براءة ، أي : انقطعت بيننا العصمة ، ولم يبق بيننا علقة .

فإن قيل : حق البراءة أن تنسب إلى المعاهد ، فلم لم تنسب إليهم ، ونسبت إلى الله ورسوله ؟

أجيب : أن ( عاهدتم ) إخبار عن سابق صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة ، فنسب إلى الكل ، كما هو الواقع ، وإن كان بإذن الله أيضا .

وأما البراءة فهي إخبار عن متجدد ، فكيف ينسب إليهم ، وهم لم يحدثوه بعد ، وإنما يسند إلى من أحدثه ؟

وقال الناصر : إن سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مقام نسب فيه النبذ إلى المشركين ، لا يحسن أدبا ، ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 3065 ] لأمراء السرايا حيث يقول لهم :

« إذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله ، فأنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله فيهم أو لا ! وإن طلبوا ذمة الله ، فأنزلهم على ذمتك ، فلأن تخفر ذمتك ، خير من أن تخفر ذمة الله » !

فانظر إلى أمره صلى الله عليه وسلم بتوقير ذمة الله ، مخافة أن تخفر ، وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع ، فتوقير عهد الله ، وقد تحقق من المشركين النكث ، وقد تبرأ منه الله ورسوله بألا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر . فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه .

وقال الشهاب : ولك أن تقول : إنما أضاف العهد إلى المسلمين ، لأن الله علم أن لا عهد لهم ، فلذا لم يضف العهد إليه ، لبراءته منهم ، ومن عهدهم في الأزل .

وهذا نكتة الإتيان بالجملة اسمية خبرية ، وإن قيل : إنها إنشائية للبراءة منهم ، ولذا دلت على التجدد . انتهى .

قال ابن إسحاق : نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم ، ألا يصد عن البيت أحد جاءه ، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام . وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين الناس من أهل الشرك .

وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة ، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في ( تبوك ) ، وفي قول من قال منهم ، فكشف الله سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #378  
قديم 10-02-2023, 03:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
صـ 3066 الى صـ 3080
الحلقة (378)




[ ص: 3066 ] وقال ابن كثير : وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة ( تبوك ) ، وهم بالحج ، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك ، وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم ، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلم المشركون ألا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي بالناس : براءة من الله ورسوله فلما قفل ، وأتبعه بعلي بن أبي طالب ، لكونه مبلغا عنه صلى الله عليه وسلم ، ولكونه عصبة له ، كما سيأتي .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 2 ] فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين .

فسيحوا في الأرض أربعة أشهر أي : فقولوا لهم : سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد ، آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر ، وذلك من يوم النحر إلى عشر يخلون من ربيع الآخر .

والمقصود تأمينهم من القتل ، وتفكرهم واحتياطيهم ، ليعلموا أنهم ليس لهم بعدها إلا السيف ، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم .

وهذه الأربعة الأشهر كانت عهدا لمن له عهد دون الأربعة الأشهر ، فأتمت له .

فأما من كان له عهد موقت ، فأجله إلى مدته ، مهما كانت ، لقوله تعالى : فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم كما يأتي .

روي هذا عن غير واحد ، واختاره ابن جرير . وقال مجاهد : هذا تأجيل للمشركين مطلقا ، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها ، ومن كانت أكثر حط إليها ، [ ص: 3067 ] ومن كان عهده بغير أجل حد بها ، ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله ، يقتل حيث أدرك ويؤسر ، إلا أن يتوب ويؤمن .

أقول : ولا يرد عليه إطلاق قوله تعالى : إلى مدتهم لأن له أن يجيب بأن الإضافة للعهد ، أي : المدة المعهودة وهي الأربعة الأشهر . والله أعلم .

واعلموا أنكم غير معجزي الله يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم ولكن لحكمة ولطف بكم ، أي : فلا تفوتونه وإن أمهلكم وأن الله مخزي الكافرين أي : مذلهم بالقتل في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 3 ] وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم .

وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله ( الأذان ) بمعنى الإيذان ، وهو الإعلام ، كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء .

وارتفاعه كارتفاع : ( براءة ) وهذه الجملة معطوفة على مثلها ، والفرق بين معنى الجملة الأولى والثانية أن تلك إخبار بثبوت البراءة ، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين ، وعلق الأذان بالناس ، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعام لجميع الناس ، من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث كذا في ( " الكشاف " ) .

ويوم الحج الأكبر : قيل يوم عرفة ، وقيل يوم النحر .

[ ص: 3068 ] قال ابن القيم : وهو الصواب ، لأنه ثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعليا رضي الله عنهما ، أذنا بذلك يوم النحر ، لا يوم عرفة .

وفي سنن أبي داود بأصح إسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر ، وكذلك قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة .

ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه ، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والابتهال والاستقامة ، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة ، ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة ، لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة ، ثم أذن لهم يوم النحر في زيارته ، والدخول عليه إلى بيته ، ولهذا كان فيه ذبح القرابين ، وحلق الرؤوس ، ورمي الجمار ومعظم أفعال الحج وعمل يوم عرفة ، كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم ، انتهى .

تنبيه :

روى الأئمة هاهنا آثارا كثيرة ، نأتي منها على جوامعها :

قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ( تبوك ) حين فرغ ، فأراد الحج ثم قال : « إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج » ، حتى لا يكون ذلك : فأرسل أبا بكر وعليا فطافا بالناس في ( ذي المجاز ) وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها ، وبالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات ، [ ص: 3069 ] عشرون من ذي الحجة ، إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلهم بالقتال ، إلى أن يؤمنوا .

وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي رضوان الله عليه قال : لما نزلت [براءة] على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج ، قيل له : يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر ، فقال : « لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي » ، ثم دعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال له : « اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ، أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته » .

فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( العضباء ) ، حتى أدرك أبا بكر الصديق ، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال : أمير أو مأمور ؟ فقال : بل مأمور ، ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته » .

وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة ، إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة ، فهو له إلى مدته ، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان .

ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم .


قال ابن إسحاق : فكان هذا من أمر ( براءة ) فيمن كان من أهل الشرك من أهل [ ص: 3070 ] العهد العام ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى .

وروى البخاري عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين ، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : « ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان » .

قال حميد : ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب ، فأمره أن يؤذن ببراءة .

قال أبو هريرة : فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .


وفي رواية أخرى للبخاري ، قال أبو هريرة : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، وإنما قيل ( الأكبر ) من أجل قول الناس - للعمرة - الحج الأصغر ، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك . هذا لفظ البخاري في ( " كتاب الجهاد " ) .

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ب ( براءة ) ، فقال : ما كنتم تنادون ؟ قال : كنا ننادي : « أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله - أو أمده - إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة الأشهر ، فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك » . قال : فكنت أنادي حتى صحل صوتي ، ( صحل الرجل وصحل صوته : بح ) .

[ ص: 3071 ] وقوله تعالى : فإن تبتم فهو خير لكم أي : فإن تبتم أيها المشركون ، من كفركم ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد ، فهو خير لكم من الإقامة على الشرك رأس الضلال والفساد وإن توليتم أي : عن الإيمان وأبيتم إلا الإقامة على ضلالكم وشرككم فاعلموا أنكم غير معجزي الله أي : غير فائتين أخذه وعقابه وبشر الذين كفروا أي : جحدوا نبوتك وخالفوا أمر ربهم بعذاب أليم أي : موجع يحل بهم .

وفيه من التهكم والتهديد ما فيه ، كيلا يظن أن عذاب الدنيا ، لو فات وزال خلصوا من العذاب ، بل العذاب معد لهم يوم القيامة .

ثم استثنى تعالى من ضرب مدة التأجيل ، لمن له عهد مطلق بأربعة أشهر ، ومن له عهد مؤقت بتأجيله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 4 ] إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين .

إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا أي : من شروط الميثاق فلم يقتلوا منكم أحدا ولم يضروكم فقط .

قال أبو السعود : وقرئ بالمعجمة ، أي : لم ينقضوا عهدكم شيئا ، من ( النقض ) ، وكلمة ( ثم ) ، للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة ولم يظاهروا أي : لم يعاونوا عليكم أحدا أي : عدوا من أعدائكم .

فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ثم حرض تعالى على الوفاء بذلك ، منبها على أنه من باب التقوى بقوله سبحانه : إن الله يحب المتقين أي : فاتقوه في ذلك .
[ ص: 3072 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 5 ] فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم .

فإذا انسلخ أي : انقضى الأشهر الحرم أي : التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض ، وحرم فيها قتالهم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أي : من حل أو حرم - كذا قاله غير واحد - .

قال ابن كثير : هذا عام ، والمشهور تخصيصه بغير الحرم ، لتحريم القتال فيه ، لقوله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم

وخذوهم أي : ائسروهم واحصروهم أي : احبسوهم في المكان الذي هم فيه ، لئلا يتبسطوا في سائر البلاد واقعدوا لهم أي : لقتالهم ، كل مرصد أي : طريق وممر فإن تابوا أي : عن الكفر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم أي : فاتركوا التعرض لهم إن الله غفور رحيم أي : يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر .

تنبيهات :

الأول : ما ذكرناه من أن المراد ( بالأشهر الحرم ) أشهر العهد ، هو الذي اختاره الأكثرون .

سماها ( حرما ) لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم ، فالألف واللام للعهد ، ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة ، تأكيدا لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم ، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها .

وقيل : المراد ( بالأشهر الحرم ) : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، روي ذلك عن ابن عباس [ ص: 3073 ] والضحاك والباقر ، واختاره ابن جرير .

وضعف بأنه لا يساعده النظم الكريم ، لأنه يأباه ترتبه عليه ( بالفاء ) ، فهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر .

قال ابن القيم : الحرم هاهنا هي أشهر التسيير أولها يوم الأذان ، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة ، وهو يوم الحج الأكبر ، الذي وقع فيه التأذين بذلك ، وآخرها العاشر من ربيع الآخر . وليست هي الأربعة المذكورة في قوله : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم فإن تلك واحد فرد هو رجب ، وثلاثة سرد وهي ذو القعدة وتالياه .

ولم يسير المشركين في هذه الأربعة ، فإن هذا لا يمكن ، لأنها غير متوالية ، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم . انتهى .

وقالوا : يلزم على هذا بقاء حرمة تلك الأشهر ، وتكلف الجواب بنسخها ، إما بانعقاد الإجماع عليه ، أو بما صح من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم ، مع أن هذا الإجماع كلاما ، وقد خالف بعضهم في بقاء حرمتها ، إلا أنهم لم يعتدوا به كما قاله في ( " العناية " ) .

وفيها : إن لك أن تقول : منع القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة ، لا يقتضي منعه في كل ما شابهها ، بل هو مسكوت عنه ، فلا يخالف الإجماع ، ويكون حله معلوما من دليل آخر .

وأقول : يظهر لي هذا الثاني وأن المراد بالأربعة الأشهر هي المعروفة ، وأن قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم هي هذه الأربعة ، لأنها حيثما أطلقت في التنزيل لا تنصرف إلا إليها ، فصرفها إلى غيرها يحتاج إلى برهان قاطع .

قال في ( " فتح البيان " ) : ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم ، وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم [ ص: 3074 ] النحر ، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة ، خمسين يوما ، تنقضي بانقضاء شهر المحرم ، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون ، وبه قال جماعة من أهل العلم . انتهى .

ولا يقال : إن الباقي من الأشهر الحرم ثمانون يوما ، إذ الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة ، بسبب النسيء ، ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة ، وفيها حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « إن الزمان قد استدار » الحديث ، لأنا نقول : كان ذو القعدة عامئذ هو ذا الحجة بحسابهم ، لا في الواقع ، وكذلك ذو الحجة ، والمحرم ، فعوملوا بحسابهم .

الثاني : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) في قوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم هذه آية السيف الناسخة لآيات العفو والصفح والإعراض والمسالمة . انتهى .

وروي عن الضحاك أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة محمد : فإما منا بعد وإما فداء

ورده الحاكم بأنه لا شبهة في أن براءة نزلت بعد سورة محمد ، ومقتضى كلام الحاكم ، أنها لا ناسخة ولا منسوخة ، قال : لأن الجمع من غير منافاة ممكن ، فحيث ورد في القرآن ذكر الإعراض ، فالمراد به إعراض إنكار ، لا تقرير ، وأما الأسر والفداء ، فالمراد به أنه خير بين ذلك ، لا أن القتل حتم ، إذ لو كان حتما ، لم يكن للأخذ معنى بعد القتل . انتهى .

ويشمل عمومها مشركي العرب وغيرهم ، واستدل بقوله تعالى : واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد على جواز حصارهم والإغارة عليهم وبياتهم .

[ ص: 3075 ] الثالث : فهو من قوله تعالى : فإن تابوا الآية ، أن الأمر بتخلية السبيل معلق على شروط ثلاثة : التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فحيث لم تحصل جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر .

ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه ، في قتال مانعي الزكاة ، على هذه الآية الكريمة وأمثالها .

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يرحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه .

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة » .

وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإذا شهدوا ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم » . رواه البخاري وغيره .

الرابع : ذكر ابن القيم خلاصة بديعة في سياق ترتيب هديه صلى الله عليه وسلم مع الكفار والمنافقين ، من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل ، مما يؤيد فهم ما تشير إليه هذه السورة ، قال رحمه الله :

أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، ولم يأمره إذ يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه : يا أيها المدثر قم فأنذر فنبأه بقوله : اقرأ وأرسله بـ : يا أيها المدثر ثم أمره أن ينذر عشيرته [ ص: 3076 ] الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم أنذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم أنذر العالمين ، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح ، ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن لم يقاتله ، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله ، ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة .

فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأمر أن يقاتل من نقض عهده لما نزلت سورة ( براءة ) ، نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، أو يدخلوا في الإسلام .

وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ، ونبذ عهودهم إليهم ، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسما أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم .

وقسما لهم عهد موقت لم ينقضوه ، ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم له عهدهم إلى مدتهم .

وقسما لم يكن لهم عهد ، ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم .

فقتل الناقض لعهده ، وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول ( براءة ) على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة .

ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة ، والمحاربون له [ ص: 3077 ] خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن . وخائف محارب .

وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ، ويكل سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهي أن يصلي عليهم وأن يقوم على قبورهم ، وأخبره أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم ، فلن يغفر الله لهم ، فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين . انتهى .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 6 ] وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون .

وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون أي : وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم ، أي : استأمنك بعد انقضاء أشهر العهد ، فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله ، أي : القرآن الذي تقرؤه عليه ، ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، وتقوم عليه حجة الله به ، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين ، وإن أبى فإنه يرد إلى مأمنه وداره التي يأمن فيها ، ثم قاتله إن شئت .

وقوله تعالى : ذلك يعني الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن ، بسبب أنهم قوم لا يعلمون ، أي : جهلة ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ، ولا يبقى لهم معذرة .

تنبيهات :

الأول : دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى ، وأنه يمكن من العود من غير غدر به ولا خيانة ، ولذا ورد في الترهيب من عدم الوفاء بالعهد والغدر ما يزجر أشد الزجر .

[ ص: 3078 ] فروى البخاري في ( " تاريخه " ) والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أمن رجلا على دمه فقتله ، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا » .

وروى أحمد والشيخان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة » .

قال ابن كثير : من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام ، في أداء رسالة أو تجارة ، أو طلب صلح أو مهادنة ، أو حمل جزية ، أو نحو ذلك من الأسباب ، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا أعطي ، ما دام مترددا في دار الإسلام ، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه .

قال الحاكم : وإنما يجار ويؤمن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر ، لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله : حتى يسمع كلام الله

الثاني : قال الحاكم : تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله .

الثالث : استدل بهذه الآية من ذهب إلى كلام الله بحرف وصوت قديمين ، وهم الحنابلة ، ومن وافقهم كالعضد .

قالوا : لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق ، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات .

فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات ، والقول بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يشير بقوله كلام الله إلا لها ، وقد اعترف الرازي بقوة هذا ، لإلزام من خالف فيه ، وقد مضى لنا في قوله تعالى : وكلم الله موسى تكليما في آخر سورة النساء ، فارجع إليه .

[ ص: 3079 ] الرابع : قال الرازي : دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين ، وأنه لا بد من النظر والاستدلال ، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا ، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر ، بل يقال له : إما أن تؤمن ، وإما أن نقتلك ، فلما لم يقل له ذلك ، بل أمهل وأزيل الخوف عنه ، ووجب تبليغه مأمنه ، علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين ، وأنه لا بد من الحجة والدليل ، فلذا أمهل ليحصل لها النظر والاستدلال .

ثم بين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ، ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعدها السيف المرهف بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 7 ] كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين .

كيف يكون للمشركين عهد أي : أمان عند الله وعند رسوله أي : وهم كافرون بهما ، فالاستفهام بمعنى الإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام يعني أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على ترك الحرب معهم عشر سنين فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم أي : فما داموا مستقيمين على عهدهم ، مراعين لحقوقكم ، فاستقيموا لهم على عهدهم .

إن الله يحب المتقين أي : فاتقوه في نقض عهد المستقيمين على عهدهم .

قال ابن كثير : وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون ، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد ، ومالؤوا حلفاءهم ، وهم بنو بكر ، على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتلوهم معهم في الحرم أيضا ، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان ، ففتح الله عليه البلد الحرام ، ومكنه من نواصيهم ، ولله الحمد والمنة ، فأطلق من أسلم منهم ، بعد القهر والغلبة عليهم ، فسموا الطلقاء ، وكانوا [ ص: 3080 ] قريبا من ألفين ، ومن استمر على كفره ، وفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث إليه بالأمان والتسيير في أربعة أشهر ، يذهب حيث شاء ، ومنهم صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ، ثم هداهم الله للإسلام .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 8 ] كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون .

كيف وإن يظهروا عليكم أي : يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق لا يرقبوا فيكم إلا أي : قرابة ويمينا ولا ذمة أي : عهدا .

وهذه الجملة مردودة على الآية الأولى ، أي : كيف يكون لهم عهد ، وحالهم ما ذكر ؟ وفيه تحريض للمؤمنين على التبرء منهم ، لأن من كان أسير الفرصة ، مترقبا لها ، لا يرجى منه دوام العهد .

قال الناصر : ولما طال الكلام باستثناء الباقين على العهد ، أعيدت ( كيف ) تطرية للذكر ، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض . انتهى .

ثم استأنف تعالى بيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد بقوله : يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم أي : ما تتفوه به أفواههم وأكثرهم فاسقون أي : متمردون ، لا عقيدة تزعمهم ، ولا مروءة تردعهم .

وتخصيص الأكثر ، لما في بعض الكفرة من التفادي عن العذر ، والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #379  
قديم 10-02-2023, 05:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله




تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3081 الى صـ 3095
الحلقة (379)


القول في تأويل قوله تعالى :

[ 9 ] اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون .

اشتروا بآيات الله أي : استبدلوا بها ثمنا قليلا أي : من متاع الدنيا ، يعني [ ص: 3081 ] أهويتهم الفاسدة فصدوا عن سبيله أي : فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم إنهم ساء ما كانوا يعملون
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 10 ] لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون .

لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون أي : المجاوزون الغاية في الظلم والمساوئ .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 11 ] فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون .

فإن تابوا أي : مما هم عليه من الكفر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين أي : فهم إخوانكم ، لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، فعاملوهم معاملة الإخوان ، وفيه من استمالتهم واستجلاب قلوبهم ما لا مزيد عليه .

وقوله : ونفصل الآيات لقوم يعلمون جملة معترضة للحث على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 12 ] وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون .

وإن نكثوا أي : نقضوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر أي : فقاتلوهم .

وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم ، للإيذان بأنهم صاروا بذلك [ ص: 3082 ] ذوي رياسة وتقدم في الكفر ، أحقاء بالقتل والقتال .

وقيل : المراد بالأئمة رؤساؤهم وصناديدهم ، وتخصيصهم بالذكر إما لأهمية قتلهم ، أو للمنع من مراقبتهم ، ولكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم ، فإن قتلهم غالبا يكون بعد قتل من دونهم . أفاده أبو السعود .

إنهم لا أيمان لهم جمع يمين أي : لا عهود لهم على الحقيقة ، حيث لا يراعونها ولا يعدون نقضها محذورا ، فهم وإن تفوهوا بها ، لا عبرة بها .

وقرئ ( لا إيمان ) بكسر الهمزة ، أي : لا إسلام ، ولا تصديق لهم ، حتى يرتدعوا عن النقض والطعن لعلهم ينتهون أي : عن الكفر والطعن ويرجعون إلى الإيمان .

تنبيه :

قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : استدل بهذه الآية من قال إن الذمي يقتل إذا طعن في الإسلام أو القرآن أو ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بسوء ، سواء شرط انتفاض العهد به أم لا ، واستدل من قال بقبول توبتهم بقوله : لعلهم ينتهون انتهى .

ثم حض على قتالهم بتهييج قلوب المؤمنين وإغرائهم بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 13 ] ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين .

ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم أي : التي حلفوها في المعاهدة وهموا بإخراج الرسول يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة ، حسبما ذكر في قوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا فيكون نعيا عليهم جنايتهم القديمة ، وهم بدءوكم أول مرة أي : بالقتال يوم بدر ، حين خرجوا لنصر غيرهم فما نجت وعلموا بذلك ، استمروا على وجوههم طلبا للقتال ، بغيا وتكبرا .

وقيل : بنقضهم العهد ، وقتالهم مع حلفائهم [ ص: 3083 ] بني بكر لخزاعة ، أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وكان ما كان . قاله ابن كثير .

وقال الزمخشري : أي : وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولا بالكتاب المنير ، وتحداهم به ، فعدلوا عن المعارضة ، لعجزهم عنها ، إلى القتال ، فهم البادئون بالقتال ، والبادئ أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله ، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم .

أتخشونهم أي : أتخافون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم فالله أحق أن تخشوه بمخالفة أمره وترك قتالهم إن كنتم مؤمنين يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ، ولا يبالي بمن سواه ، كقوله تعالى : ولا يخشون أحدا إلا الله قاله _الزمخشري _ . وفيه من التشديد ما لا يخفى .

ثم عزم تعالى على المؤمنين الأمر بالقتال لحكمته بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 14 ] قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين .

قاتلوهم يعذبهم الله أي : بآلام الجراحات والموت بأيديكم أي : تغليبا لكم عليهم ويخزهم أي : بالأسر والاسترقاق ، فيجتمع في حقهم العذاب الحسي والمعنوي ، وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين أي : ممن لم يشهد القتال .
[ ص: 3084 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 15 ] ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم .

ويذهب غيظ قلوبهم أي : بما كابدوا من المكاره والمكايد ويتوب الله على من يشاء أي : فيحصل لك أجرهم والله عليم حكيم أي : في أفعاله وأوامره .

وقد أنجز الله سبحانه لهم هذه المواعيد كلها ، فكان إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة ، دالة على صدقه وصحة نبوته .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 16 ] أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون .

أم حسبتم أن تتركوا أي : على ما أنتم عليه ، ولا تؤمروا بالجهاد ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة أي : بطانة يفشون إليهم أسرارهم .

والواو في ( ولما ) حالية ، و ( لما ) للنفي مع التوقع ، والمراد من نفي العلم نفي المعلوم بالطريق البرهاني ، إذ لو شم رائحة الوجود ، لعلم قطعا ، فلما لم يعلم لزم عدمه قطعا ولم يتخذوا عطف على : جاهدوا داخل في حيز الصلة ، والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه ، والحال أنه لم يتبين الخلص من المجاهدين منكم من غيرهم ، بل لا بد أن تختبروا ، حتى يظهر المخلصون منكم ، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله ، لوجه الله ، ولم يتخذوا وليجة ، أي : بطانة من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم . ودلت ( لما ) على أن تبين ذلك وإيضاحه متوقع كائن ، وإن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين ، وفي الآية اكتفاء بأحد القسمين ، حيث لم يتعرض للمقصرين ، وذلك لأنه بمعزل من الاندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين ، وهذا كما قال :


وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يلني


[ ص: 3085 ] وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين وقال تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة الآية ، وقال تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه الآية ، وكلها تفيد أن مشروعية الجهاد اختبار المطيع من غيره .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 17 ] ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون .

ما كان للمشركين أي ما صح لهم وما استقام أن يعمروا مساجد الله أي التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له , أي يعمروا شيئا منها , فهو جمع مضاف في سياق النفي , ويدخل في المسجد الحرام دخولا أوليا , إذ نفي الجمع يدل على النفي عن كل فرد , فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية . وقرئ ( مسجد الله ) بالتوحيد, تصريحا بالمقصود وهو المسجد الحرام , أشرف المساجد في الأرض , الذي بني على أول يوم من عبادة الله وحده , لا شريك له وأسسه خليل الرحمن .

قال في ( " البصائر " ) : ( يعمر ) إما من العمارة التي هي حفظ البناء ، أو من العمرة التي هي الزيارة ، أو من قولهم : عمرت بمكان كذا أي : أقمت به . انتهى .

شاهدين على أنفسهم بالكفر أي : بحالهم وقالهم ، وهو حال من الضمير في [ ص: 3086 ] يعمروا

أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون وهذا كقوله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولهذا قال تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 18 ] إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين .

إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله أي : لم يعبد إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين أي : إلى الجنة .

وإبراز اهتدائهم مع ما بهم من الصفات السنية ، في معرض التوقع ، لقطع أطماع الكفرة عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاع بأعمالهم التي يحسبون أنهم في ذلك محسنون ، ولتوبيخهم بقطعهم أنهم مهتدون ، فإن المؤمنين ما بهم من هذه الكمالات ، إذا كان أمرهم دائرا بين لعل وعسى ، فما بال الكفرة وهم هم ، وأعمالهم أعمالهم ! ! وفيه لطف للمؤمنين ، وترغيب لهم في ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء ، ورفض الاغترار بالله تعالى . - كذا حرره أبو السعود - .

وقال الناصر : وأكثرهم يقول : إن ( عسى ) من الله واجبة ، بناء منهم على أن استعمالها غير مصروفة للمخاطبين .

والحق أن الخطاب مصروف إليهم ، كما قال الزمخشري ، أي : فحال هؤلاء المؤمنين حال مرجوة العاقبة عند الله معلومة ، ولله عاقبة الأمور .

[ ص: 3087 ] تنبيهات :

الأول : قال الزمخشري : ( العمارة ) تتناول زم ما استرم منها وقمها ، وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح ، وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذكر ، ومن الذكر درس العلم ، بل هو أجله وأعظمه ، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا ، فضلا عن فضول الحديث .

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من غدا إلى المسجد أو راح ، أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح » .

ورويا أيضا عن عثمان بن عفان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله تعالى ، بنى الله له بيتا في الجنة » .

وأخرج الترمذي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد ، فاشهدوا له بالإيمان » ، قال الله تعالى : إنما يعمر مساجد الله الآية .

الثاني : إنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم لدخوله في الإيمان بالله ، فترك للمبالغة في ذكر الإيمان بالرسالة ، دلالة على أنهما كشيء واحد ، إذا ذكر أحدهما فهم الآخر ، على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى الإيمان بكل ما يجب الإيمان به ، ومن جملته رسالة صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى : آمنا بالله وباليوم الآخر كذا في ( " العناية " ) .

[ ص: 3088 ] الثالث : في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر ، تفخيم لشأنهما وحث على التنبه لهما .

الرابع : دلت الآيتان على أن عمل الكفار محبط لا ثواب فيه .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 19 ] أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين .

أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين

روى العوفي في ( " تفسيره " ) عن ابن عباس أن المشركين قالوا : عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ، ويستكبرون به ، من أجل أنهم أهله وعماره ، فخير الله الإيمان والجهاد مع رسوله على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية ، وبين أن ذلك لا ينفعهم مع الشرك ، وأنهم ظالمون بشركهم ، لا تغني عمارتهم شيئا .

قال اللغويون : ( السقاية ) بالكسر والضم موضع السقي . وفي ( " التهذيب " ) : هو الموضع المتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها . انتهى .

وفي ( " التاج " ) : سقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء ، وكان يليها العباس رضي الله عنه في الجاهلية والإسلام . انتهى .

وروى الإمام مسلم عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام ; وقال الآخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو [ ص: 3089 ] يوم الجمعة ، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ، فأنزل الله عز وجل : أجعلتم سقاية الحاج الآية .

ورواه عبد الرزاق في ( " مصنفه " ) ولفظه : إن رجلا قال : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام . الحديث .

قال بعضهم : فظاهر هذه الرواية أن المفاضلة كانت بين بعض المسلمين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد ونظائرهما ، ونزلت الآية في ذلك ، مع أن الرواية السالفة عن ابن عباس تنافيه ، وكذا تخصيص ذكر الإيمان بجانب المشبه به ، وكذا وصفهم بالظلم لأجل تسويتهم المذكورة .

وأقول : لا منافاة ، وظاهر النظم الكريم فيما قاله ابن عباس لا يرتاب فيه ، وقول النعمان ( فأنزل الله ) ، بمعنى أن مثل هذا التحاور نزل فيه فيصل متقدم ، وهو هذه الآية ، لا بمعنى أنه كان سببا لنزولها كما بينها غير ما مرة .

وهذا الاستعمال شائع بين السلف ، ومن لم يتفطن له تتناقض عنده الروايات ، ويحار في المخرج ، فافهم ذلك وتفطن له .

وتأييد أبي السعود نزولها في المسلمين بما أطال فيه ذهول عن سباق الآية وعن سياقها ، فيما صدعت فيه من شديد التهويل ، وعن لاحقها في درجات التفضيل ، وقصر الفوز والرحمة والرضوان على المشبه به .

لطيفة :

لا يخفى أن السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان ، فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين ، أي : أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله . . . إلخ ، ويؤيده قراءة من قرأ ( سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام ) أو : أجعلتموها كإيمان من آمن . . إلخ .

قال أبو البقاء : الجمهور على ( سقاية ) بالياء ، وصحت الياء لما كانت بعدها تاء التأنيث .

ثم بين تعالى مراتب فضل المؤمنين ، إثر بيان عدم الاستواء وضلال المشركين وظلمهم ، بقوله سبحانه :
[ ص: 3090 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 20 ] الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون .

الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله أي : من أهل السقاية والعمارة ، وهم وإن يكن لهم درجة عند الله ، جاء على زعمهم ومدعاهم . قاله في ( " العناية " ) .

وأولئك هم الفائزون أي : لا أنتم . أي : المختصون بالفوز دونكم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 21 ] يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 22 ] خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم .

خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ثم نهاهم تعالى عن موالاة المشركين ، وإن كانوا أقرب الأقربين ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 23 ] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون .

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء أي : بطانة وأصدقاء ، تفشون إليهم أسراركم ، وتمدحونهم وتذبون عنهم إن استحبوا أي : اختاروا : الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون [ ص: 3091 ] أي : لوصفهم الموالاة في غير موضعها ، ولتعديهم وتجاوزهم عما أمر الله به .

ثم أشار تعالى إلى أن مقتضى الإيمان ترك الميل الطبيعي إذا كان مانعا من محبة الله ، ومحبة واسطة الوصول إليه ، ومحبة ما يعلي دينه بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 24 ] قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين

قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم أي : أقاربكم الأدنون ، أو قبيلتكم .

قال أهل اللغة : عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون ، أو قبيلته ، كالعشير - بلا هاء - مأخوذة من ( العشرة ) ، أي : المعاشرة ، لأنها من شأنهم ، أو من ( العشرة ) الذي هو العدد لكمالهم ، لأنها عدد كامل وأموال اقترفتموها أي : اكتسبتموها وتجارة تخشون كسادها أي : فوات وقت نفادها بفراقكم لها .

ومساكن ترضونها أي : منازل تعجبكم الإقامة فيها من الدور والبساتين أحب إليكم من الله أي : المنعم بالكل ورسوله وهو واسطة نعمه وجهاد في سبيله أي : مما يعلي دينه فتربصوا أي : انتظروا : حتى يأتي الله بأمره أي : بقضائه ، وهو عذاب عاجل ، أو عقاب آجل ، أو فتح مكة ، وهذا أمر تهديد وتخويف . أي : فارتقبوا قهر الله بدعوى محبته بالإيمان ، وتكذيبها بترجيح محبة غيرهوالله لا يهدي القوم الفاسقين أي : الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين والمؤثرين لما ذكر على رضاه تعالى .

[ ص: 3092 ] تنبيهات :

الأول : قال بعضهم : ثمرة الآيتين تحريم موالاة الكفار ، ولو كانوا أقرباء ، وأنها كبيرة لوصف متوليهم بالظلم ، ووجوب الجهاد ، وإيثاره على كل هذه المشتهيات المعدودة طاعة لله ورسوله .

الثاني : قال الرازي : الآية الثانية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين ، وبين جميع مهمات الدنيا ، وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا .

الثالث : في هذه الآية وعيد وتشديد ، لأن كل أحد قلما يخلص منها ، فلذا قيل إنها أشد آية نعت على الناس كما فصله في ( " الكشاف " ) بقوله :

وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها ، كأنها تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين ، واضطراب حبل اليقين فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله ، والثبات على دين الله ، ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والأخوات ، والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ، ويتجرد منها لأجله ؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته فلا يدري أي طرفيه أطول ؟ ويغويه الشيطان عن أجل حظ من حظوظ الدين ، فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره ؟ !

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 25 ] لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين .

لقد نصركم الله في مواطن كثيرة أي : في مواقف حروب كثيرة ، ووقعات شهيرة ، كغزوة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة ، وكانت غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 3093 ] على ما ذكر في الصحيحين - من حديث زيد بن أرقم ، تسع عشرة غزوة ، زاد بريدة في حديث : قاتل في ثمان منهن ويقال : إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون ، وقيل ثمانون .

ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم أي : فاعتمدتم عليها ، حيث قلتم : لن نغلب اليوم من قلة : فلم تغن عنكم شيئا أي : من أمر العدو مع قلتهم ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت أي : برحبها وسعتها .

والباء للملابسة والمصاحبة ، أي : ضاقت مع سعتها ، عليكم ، وهو استعارة تبعية ، إما لعدم وجدان مكان يقرون به آمنين مطمئنين من شدة الرعب ، أو أنهم لا يجلسون في مكان ، كما لا يجلس في المكان الضيق ثم وليتم مدبرين أي : منهزمين .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 26 ] ثم أنـزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنـزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين .

ثم أنـزل الله سكينته أي : ما تسكنون به ، وتثبتون من رحمته ونصره ، وانهزام الكفار ، واطمئنان قلوبهم للكر بعد الفر على رسوله وعلى المؤمنين أي : الذين انهزموا ، وإعادة الجار للتنبيه على اختلاف حاليهما ، أو الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفروا ، أو على الكل ، وهو الأنسب .

ولا ضير في تحقيق أصل السكينة في الثابتين من قبل ، والتعرض لوصف الإيمان للإشعار بعلية الإنزال . أفاده أبو السعود .

وأنـزل جنودا لم تروها يعني الملائكة وعذب الذين كفروا أي : بالقتل والأسر والسبي وذلك جزاء الكافرين لكفرهم في الدنيا .
[ ص: 3094 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 27 ] ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم .

ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء أي : منهم ، لحكمة تقتضيه ، أي : يوفقه للإسلام والله غفور أي : يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي رحيم أي : يتفضل عليهم ويثيبهم .

تنبيهات :

الأول : فيما نقل في غزوة ( حنين ) ، وتسمى غزوة ( أوطاس ) ، وهما موضعان بين مكة والطائف ، فسميت الغزوة باسم مكانهما ، وتسمى غزوة ( هوازن ) ، لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة ، في شوال سنة ثمان من الهجرة ، فإن الفتح كان لعشر بقين من رمضان ، وبعده أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة ليلة ، وهو يقصر الصلاة ، فبلغه أن هوازن وثقيف جمعوا له ، وهم عامدون إلى مكة ، وقد نزلوا ( حنينا ) وكانوا حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، يظنون أنه إنما يريهم ، فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوف من بني نصر ، وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جشم بن معاوية وبني سعد بن بكر ، وناسا من بني هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية ، والأحلاف وبني مالك بن ثقيف بن بكر .

وفي جشم دريد بن الصمة رئيسهم وكبيرهم ، شيخ كبير ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب ، وكان شجاعا مجربا ، وجميع أمر الناس إلى مالك بن عوف .

فلما أتاهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة ، أقبلوا عامدين إليه ، فأجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم ، يرى أنه أثبت لموقفهم ، فلما نزل بأوطاس ، اجتمع إليه الناس ، فقال دريد : [ ص: 3095 ] بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس . قال : نعم مجال الخيل ، لا حزن ضرس ، ولا سهل دهس ، ما لي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، ويعار الشاء وبكاء الصغير ؟ قالوا : ساق مالك مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم ليقاتلوا عنها ، فقال : راعي ضأن والله ! وهل يرد المنهزم شيء ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك !

ثم قال : ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا : لم يشهدها أحد منهم : قال : غاب الحد والجد ، لو كان يوم علاء ورفعة لم يغب عنهم كعب ولا كلاب ، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلا . فمن شهدها منكم ؟ قالوا : عمرو وعوف ابنا عامر . قال : ذانك الجذعان ، لا ينفعان ولا يضران ; ثم أنكر على مالك رأيه في ذلك وقال له : لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا ، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم ، وعليا قومهم ، ثم الق الصبيان على متون الخيل شيئا ، فإن كانت لك ، لحق بك من وراءك ، وإن كانت لغيرك ، كنت قد أحرزت أهلك ومالك .

قال : لا ، والله لا أفعل ذلك ، إنك قد كبرت ، وكبر عقلك ، والله لتطعنني يا معشر هوازن ، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري ! وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكر أو رأي . قالوا : أطعناك .

فقال دريد : هذا يوم لم أشهده ، ولم يفتني . ثم قال مالك للناس : إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ، ثم شدوا شدة رجل واحد .

وبعث عيونا من رجاله فأتوه ، وقد تفرقت أوصالهم ، فقال : ويلكم ! ما شأنكم ؟ قالوا : رأينا رجالا بيضا ، على خيل بلق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى . فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد .


فلما سمع بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي يستعلم خبرهم ، فجاءه وأطلعه على جلية الخبر ، وأنهم قاصدون إليه ، فاستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية مائة درع - وقيل أربعمائة - وخرج في اثني عشر ألفا من المسلمين : عشرة آلاف الذين صحبوه من المدينة ، وألفان من مسلمة الفتح ، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية ، ومضى لوجهه ، وفي جملة من اتبعه عباس بن مرداس ، والضحاك بن سفيان [ ص: 3096 ] الكلابي ، وجموع من عبس وذبيان ، ومزينة ، وبني أسد .
ومر في طريقه بشجرة سدر خضراء ، وكان لهم في الجاهلية مثلها ، يطوف بها الأعراب ويعظمونها ، ويسمونها ذات أنواط ، فقالوا : يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط ، فقال لهم : « قلتم كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده ! لتركبن سنن من كان قبلكم » .

ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة ، وهو واد حزن فتوسطوه في غبش الصبح ، وقد كمنت هوازن في جانبيه ، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد ، وناداهم صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا ، وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر ، والفضل وقثم ابنا العباس ، وجماعة سواهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء ( دلدل ) ، والعباس آخذ بشكائمها ، وكان جهير الصوت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة ـ ( قيل : وبالمهاجرين ) ـ فما سمعوا الصوت وذهبوا ليرجعوا ، صدهم ازدحام الناس عن أن يثنوا رواحلهم ، فاستقاموا وتناولوا سيوفهم وتراسهم ، واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد اجتمع منهم حوالي المائة ، فاستقبلوا هوازن ، والناس متلاحقون ، واشتد الحرب ، وحمي الوطيس .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #380  
قديم 10-02-2023, 05:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3096 الى صـ 3110
الحلقة (380)


ولما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته ، ثم قبض قبضة من تراب الأرض ، ثم استقبل به وجوههم وقال : « شاهت الوجوه » ! فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ، ثم صدق المسلمون الحملة عليهم ، وقذف الله في قلوب هوازن الرعب .

فلم يملكوا أنفسهم ، فولوا منهزمين ، ولحق آخر الناس ، وأسرى هوازن مغلولة بين يديه ، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم ، واستحر القتل في بني مالك من ثقيف ، فقتل منهم يومئذ سبعون رجلا ، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس ، واتبعتهم طائفة من خيل [ ص: 3097 ] المسلمين الذين توجهوا من ( نخلة ) ، فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه .

وبعث صلى الله عليه وسلم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن ، أبا عامر الأشعري عم أبي موسى ، فقاتلهم ، وقتل بسهم رماه به سلمة بن دريد بن الصمة ، فأخذ أبو موسى الراية ، وشد على قاتل عمه ، فقتله ، وانهزم المشركون ، وانفضت جموع أهل هوازن كلها ، واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة ، ثم جمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا حنين وأموالها ، فأمر بها فحبست ( بالجعرانة ) بنظر مسعود بن عمرو الغفاري .

وسار صلى الله عليه وسلم من فوره إلى الطائف ، فحاصر بها ( ثقيف ) خمس عشرة ليلة ، وقاتلوا من وراء الحصون ، وأسلم من كان حولهم من الناس ، وجاءت وفودهم إليه ، ثم انصرف صلى الله عليه وسلم عن الطائف ، ونزل الجعرانة فيمن معه من الناس وأتاه هناك وفد هوازن ، مسلمين راغبين ، فخيرهم بين العيال والأبناء والأموال ، فاختاروا العيال والأبناء ، وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : « ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم » ، وقال المهاجرون والأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لم تطب نفسه عوضه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نصيبه ، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم .


وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بين ذكر وأنثى ، والإبل أربعة وعشرون ألفا ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة ، وأربعة آلاف أوقية فضة ، وقسم صلى الله عليه وسلم الأموال بين المسلمين ، ونقل كثيرا من الطلقاء ـ وهم الذين من عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإطلاق يوم فتح مكة من الأسر ونحوه ـ يتألفهم على الإسلام ، مائة مائة من الإبل ، ومنهم مالك بن عوف النصري . فقال حين أسلم :


ما إن رأيت ولا سمعت بمثله في الناس كلهم بمثل محمد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدي
ومتى يشأ يخبرك عما في غد

وإذا الكتيبة عردت أنيابها
بالسمهري وضرب كل مهند

فكأنه ليث على أشباله
وسط الهباءة خادر في مرصد


[ ص: 3098 ] الثاني : قال الإمام ابن القيم في ( " زاد المعاد " ) في فصل جود فيه :

الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية والنكت الحكمية ما نصه :

كان الله عز وجل قد وعد رسوله ، وهو صادق الوعد ، وأنه إذا فتح مكة ، دخل الناس في دينه أفواجا ، ودانت له العرب بأسرها ، فلما تم له الفتح المبين ، اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام ، وأن يجمعوا ويتأهبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، ليظهر أمر الله ، وتمام إعزازه لرسوله ، ونصره لدينه ، ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح ، وليظهر الله سبحانه رسوله وعباده ، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها ، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب ، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين ، وتبدو للمتوسمين .

واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة ، والكسرة مع كثرة عددهم وعددهم ، وقوة شوكتهم ليطامن رؤوسا رفعت بالفتح ، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا رأسه منحنيا على فرسه ، حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه ، وخضوعا لعظمته ، واستكانة لعزته ، أن أحل له حرمه وبلده ، ولم يحل لأحد قبله ولا لأحد بعده ، وليبين سبحانه لمن قال : « لن نغلب اليوم عن قلة » ، أن النصر إنما هو من عنده ، وأنه من ينصره ، فلا غالب له ، ومن يخذله ، فلا ناصر له غيره ، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه ، لا كثرتكم التي أعجبتكم ، فإنها لم تغن عنكم شيئا ، فوليتم مدبرين ، فلما انكسرت قلوبهم ، أرسلت إليها خلع الجبر مع بريد النصر ، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنودا لم تروها ، وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون

[ ص: 3099 ] ومنها : أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائم مكة ، فلم يغنموا منها ذهبا ولا فضة ، ولا متاعا ولا سبيا ، ولا أرضا كما روى أبو داود ، عن وهب بن منبه ، قال : سألت جابرا : هل غنموا يوم الفتح شيئا ؟ قال : لا !

وكانوا قد فتحوها بإيجاف الخيل والركاب ، وهم عشرة آلاف ، وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيش من أسباب القوة ، فحرك سبحانه قلوب المشركين لغزوهم ، وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ، ونعمهم وشياههم ، وسبيهم معهم نزلا وضيافة ، وكرامة ، لحزبه وجنده ، وتمم تقديره سبحانه بأن أطمعهم في الظفر ، وألاح لهم مبادئ النصر ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا .

فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه ، وبرزت الغنائم لأهلها ، وجرت فيها سهام الله ورسوله ، قيل : لا حاجة لنا في دمائكم ، ولا في نسائكم وذراريكم ، فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة ، فجاءوا مسلمين .

فقيل : إن من شكر إسلامكم وإتيانكم أن نرد عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم .

و : إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم

ومنها : أن الله سبحانه افتتح غزوات العرب بغزوة بدر ، وختم غزوهم بغزوة حنين ، ولهذا يقرن بين هاتين الغزاتين بالذكر ، فيقال : بدر وحنين ، وإن كان بينهما سبع سنين ، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزاتين ، والنبي صلى الله عليه وسلم رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيهما ، وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فالأولى خوفتهم وكسرت من حدهم ، والثانية استفرغت قواهم ، واستنفدت سهامهم ، وأذلت جمعهم حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله .

[ ص: 3100 ] ومنها : أن الله سبحانه جبر بها أهل مكة ، وفرحهم بما نالوه من النصر والمغنم ، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم ، وإن كان عين جبرهم ، وعرفهم تمام نعمته عليهم بما صرف عنهم من شر هوازن ، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة ، وإنما نصروا عليهم بالمسلمين ، ولو أفردوا عنهم ، لأكلهم عدوهم . . . إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله تعالى . انتهى .

الثالث : قال بعضهم : دلت الآية على أنه يجب الانقطاع إلى الله تعالى ، والاتكال عليه .

ودل ما حكي في القصة على جواز ما ورد حسنه من جواز التأليف ، وملاطفة المؤمنين والرمي بالحصا حالة الحرب ، والأصوات التي يرهب بها . انتهى .

ولابن القيم في ( " زاد المعاد " ) فصول حسنة في فقه هذه الواقعة . فلينظر .

الرابع : قوله : ويوم حنين قيل : منصوب بمضمر معطوف على ( نصركم ) ، أي : ونصركم يوم حنين ، واستظهر عطفه على محل في مواطن بحذف المضاف في أحدهما ، أي : ومواطن يوم حنين ، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين .

قال أبو مسعود : ولعل التغيير للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر . انتهى .

قال الشهاب : فيكون عطف ( يوم حنين ) على منوال ( ملائكته وجبريل ) ، كأنه قيل : نصركم الله في أوقات كثيرة ، وفي وقت إعجابكم بكثرتكم ، ولا يرد عليه ما قيل إن المقام لا يساعد عليه ، لأنه غير وارد ، لتفضيل بعض الوقائع على بعض ، ولم يذكر المواطن توطئة ليوم حنين كالملائكة ، إذ ليس يوم حنين بأفضل من يوم بدر ، وهو فتح الفتوح ، وسيد الواقعات ، وبه نالوا القدح المعلى ، والدرجات العلى ، لأن القصد في مثله إلى أن ذلك الفرد فيه من المزية ما صيره مغايرا لجنسه ، لأن المزية ليس المراد بها الشرف ، وكثرة الثواب فقط ، حتى يتوهم هذا ، بل ما يشمل كون شأنه عجيبا ، وما وقع فيه غريبا ، للظفر بعد اليأس ، والفرج بعد الشدة ، إلى غير ذلك من المزايا . انتهى .

[ ص: 3101 ] ثم أشار تعالى إلى أن موالاة المشركين ، مع عدم إفادتها التقوية المحصلة للنصر ، تضر بسريان نجاسة بواطنهم إلى بواطن المؤمنين الطاهرة ، فقال :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 28 ] يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم .

يا أيها الذين آمنوا أي : المطهرة بواطنهم بالإيمان إنما المشركون نجس أي : ذوو نجس ، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، هو مجاز عن خبث الباطن ، وفساد العقيدة ، مستعار لذلك ، أو هو حقيقة ، لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ، ولا يجتنبون النجاسات ، فهي ملابسة لهم ، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها ، مبالغة في وصفهم بها .

فلا يقربوا المسجد الحرام أي : لحج أو عمرة كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، قال المهايمي : لأن المسجد الحرام يجتمع فيه المتفرقون في الأرض ، ليسري صفاء القلوب من بعض إلى بعض ، وها هنا يخاف سريان الظلمات في العموم .

بعد عامهم هذا أي : بعد حج عامهم هذا ، وهو عام تسع من الهجرة ، حين أمر أبو بكر على الموسم ، وتقدم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتبع أبا بكر بعلي رضي الله عنهما ، لينادي في المشركين : « ألا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان » . فأتم الله ذلك ، وحكم به شرعا وقدرا .

وإن خفتم عيلة أي : فقرا بسبب منعهم من الحرم ، لانقطاع أرفاق كانت لكم من قدومهم فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء أي : من فتح البلاد ، وحصول المغانم ، وأخذ الجزية ، وتواجه الناس من أقطار الأرض .

قال ابن إسحاق : إن الناس قالوا : لتقطعن عنا الأسواق ، فلتهلكن التجارة ، وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق ، فقال الله تعالى : [ ص: 3102 ] وإن خفتم عيلة إلى قوله :

وهم صاغرون أي : هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق ، فعوضهم الله مما قطع عنهم بأمر الشرك ، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية . انتهى .

إن الله عليم أي : بما يصلحكم : حكيم أي : فيما يأمر به وينهى عنه .

تنبيهات :

الأول : دلت الآية على نجاسة المشرك ، كما في الصحيح « المؤمن لا ينجس » ، وأما نجاسة بدنه ، فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات ، لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب .

وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم ، وقال أشعث عن الحسن : من صافحهم فليتوضأ ، رواه ابن جرير ، ونقله ابن كثير .

وأقول : الاستدلال بكونه تعالى أحل طعام أهل الكتاب غير ناهض ، لأن البحث في المشركين وقاعدة التنزيل الكريم التفرقة بينهم وبين أهل الكتاب ، فلا يتناول أحدهما الآخر فيه .

وقال بعض المفسرين اليمنيين : مذهب القاسم والهادي وغيرهما ، أن الكافر نجس العين ، آخذا بظاهر الآية ، لأنه الحقيقة ويؤيد ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني قال : فإنه قال : للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نأتي أرض أهل الكتاب فنسألهم آنيتهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : « اغسلوها ثم اطبخوا فيها » ،

[ ص: 3103 ] وقال زيد والمؤيد بالله والحنفية والشافعية : إن المشرك ليس نجس العين ، لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشرك ، واستعار من صفوان دروعا ولم يغسلها ، وكانت القصاع تختلف من بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأسارى ولا تغسل ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطبخون في أواني المشركين ولا تغسل . وأولوا الآية بما تقدم من الوجوه ، وكل متأول ما احتج به الآخر . انتهى .

الثاني : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) في قوله تعالى : فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا إن الكافر يمنع من دخول الحرم ، وإنه لا يؤذن له في دخوله ، لا للتجارة ولا لغيرها ، وإن كانت مصلحة لنا ، لأن المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله ، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء وغيرهم .

واستدل بظاهر الآية من أباح دخوله الحرم سوى المسجد ، لقصره في الآية عليه ، واستدل الشافعي بظاهر الآية على أنهم لا يمنعون من دخول سائر المساجد ، لقوله : ( الحرام ) ، وقاس عليه غيره سائر المساجد .

واستدل أبو حنيفة بظاهرها أيضا على أن الكتابي لا يمنع دخوله لتخصيصه بالمشرك . انتهى . وهو المتجه .

قال الشهاب : وبالظاهر أخذ أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، إذ صرف المنع عن دخوله الحرم للحج والعمرة ، بدليل قوله تعالى : وإن خفتم عيلة فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم ، وهو ظاهر ، أي : لأن موضع التجارات ليس عين المسجد . ونداء علي كرم الله وجهه بقوله : « ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك » ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، يعينه ، فلا يقال إن منطوق الآية يخالفه . انتهى .

الثالث : قال الناصر : قد يستدل بقوله تعالى : فلا يقربوا الآية ، من يقول إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وخصوصا بالمناهي ، فإن ظاهر الآية توجه النهي [ ص: 3104 ] إلى المشركين ، إلا أنه بعيد ، لأن المعلوم من المشركين أنهم لا ينزجرون بهذا النهي ، والمقصود تطهير المسجد الحرام بإبعادهم عنه ، فلا يحصل هذا المقصود إلا بنهي المسلمين عن تمكينهم من قربانه .

ويرشد إلى أن المخاطب في الحقيقة المسلمون ، تصدير الكلام بخطابهم في قوله :

يا أيها الذين آمنوا وتضمينه نصا بخطابهم بقوله : وإن خفتم عيلة وكثيرا ما يتوجه النهي على من المراد خلافه ، وعلى ما المراد خلافه ، إذا كانت ثم ملازمة كقوله : لا أرينك ها هنا ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون انتهى .

الرابع : ( العيلة ) مصدر من ( عال ) بمعنى افتقر . قرئ ( عائلة ) ، وهو إما مصدر بوزن فاعلة ، أو اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر ، أي : حالا عائلة ، أي : مفقرة .

قال ابن جني : هذه من المصادر التي جاءت على فاعلة ، كالعاقبة والعافية . ومنه قوله تعالى : لا تسمع فيها لاغية أي : لغوا ومنه قولهم : مررت به خاصة ، أي : خصوصا وأما قوله تعالى : ولا تزال تطلع على خائنة منهم فيجوز أن يكون مصدرا ، أي : خيانة ، وأن يكون على تقدير : نية أو عقيدة خائنة . وكذا ها هنا يقدر : إن خفتم حالا عائلة . انتهى .

الخامس : إن قيل : ما وجه التعليق بالمشيئة في قوله تعالى : إن شاء مع أن المقام وسبب النزول ، وهو خوفهم الفقر ، يقتضي دفعه بالوعد بإغنائهم من غير تردد ؟

فالجواب : أن الشرط لم يذكر للتردد ، بل لبيان أنه بإرادته لا سبب له غيرها ، فانقطعوا إليه ، واقطعوا النظر عن غيره ، ولينبه على أنه متفضل به ، لا واجب عليه ، لأنه لو كان بالإيجاب لم يوكل إلى الإرادة ، فلا يقال إن هذا لا حاجة إلى أخذه من الشرط ، مع قوله : من فضله ، لأن قوله : من فضله يفيد أنه عطاء وإحسان ، وهذا يفيد أنه بغير إيجاب ، وشتان بينهما ، وقيل إنه للتنبيه على أنه بإرادته ، لا بسعي المرء وحيلته :


لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بنجوم أقطار السماء تعلقي


[ ص: 3105 ] كذا في ( " العناية " ) .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 29 ] قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون اعلم أنه لما ذكر تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم ، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام وعدم الخوف من الفاقة المتوهمة من انقطاعهم ، ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية ، منبها في تضاعيف ذلك على بعض طرق الإغناء الموعود على الوجه الكلي ، مرشدا إلى سلوكه ابتغاء لفضله ، واستنجازا لوعده .

قال مجاهد : نزلت الآية حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الروم ، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك .

وقال الكلبي : نزلت في قريظة والنضير من اليهود ، فصالحهم ، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين . انتهى .

ولا يخفى شمول الآية لكل ذلك بلا تخصيص .

قال ابن كثير : هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب - اليهود والنصارى - وكان ذلك في سنة تسع ، ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ، ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم ، فأوعبوا معه ، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ، ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جدب ، ووقت قيظ وحر .

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام [ ص: 3106 ] لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، ونزل بها ، وأقام بها قريبا من عشرين يوما ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال ، وضعف الناس ، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى . انتهى .

والتعبير عن ( أهل الكتاب ) بالموصول المذكور ، للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للأمر بالقتال ، فإنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، كما أمر تعالى ، إذ لديهم من فساد العقيدة ، فيما يجب له تعالى وفي البعث ، أعظم ضلال وزيغ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله يعني ما ثبت تحريمه في الكتاب والسنة .

وقيل : المراد برسوله الرسول الذي يزعمون اتباعه ، فالمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا ، إذ غيروا وبدلوا اتباعا لأهوائهم .

وقوله : هاب : فيكون المراد : لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم ، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم ، وقوله تعالى : دين الحق من إضافة الموصوف للصفة ، أو المراد بالحق : الله تعالى .

وقوله : حتى يعطوا الجزية أي : ما تقرر عليه أن يعطوه .

قال ابن الأثير : الجزية المال الذي يعقد عليه الكتابي الذمة ، وهي فعلة من الجزاء كأنها جزت عن قتله .

وقال الراغب : سميت بذلك للاجتزاء بها عن حقن دمهم .

وقال الشهاب : قيل مأخذها من ( الجزاء ) بمعنى القضاء . يقال : جزيته بما فعل ، أو جازيته ، أو أصلها الهمز من ( الجزء والتجزئة ) ، لأنها طائفة من المال يعطى ، وقيل : إنها معرف ( كزيت ) ، وهو الجزية بالفارسية . انتهى .

وقوله تعالى : عن يد حال من فاعل : ( يعطوا ) و ( اليد ) هنا إما بمعنى الاستسلام والانقياد ، يقال : هذه يدي لك ، أي : استسلمت إليك ، وانقدت لك ، وأعطى يده أي : انقاد .

كما يقال في خلافه : نزع يده من الطاعة . لأن من أبى وامتنع ، لم يعط يده ، بخلاف المطيع [ ص: 3107 ] المنقاد ، وإما بمعنى النقد ، أي : حتى يعطوها نقدا غير نسيئة ، فيكون ك ( اليد ) في قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تبيعوا الذهب والفضة . . . إلى قوله : ( يدا بيد ) » .

وإما بمعنى الجارحة الحقيقية ، و ( عن ) بمعنى الباء ، أي : لا يبعثون بها عن يد أحد ، ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ .

وإما بمعنى : من طيبة نفس ، قال أبو عبيدة : كل من انطاع لقاهر بشيء أعطاه ، من غير طيب نفس به وقهر له ، من يد في يد ، فقد أعطاه عن يد . ( " مجاز القرآن " ج 1 ص 256 ) .

وإما بمعنى الجماعة ، أنشد ابن الأعرابي :


أعطى فأعطاني يدا ودارا وباحة حولها عقارا


الأساس ج 2 ص 560 واللسان ج 15 ص 425 , بيروت ومنه الحديث : « وهم يد على من سواهم » . أي : هم مجتمعون على أعدائهم ، يعاون بعضهم بعضا - قاله أبو عبيدة - وإما بمعنى الذل - نقله ابن الأعرابي وحكاه وجها في الآية - .

هذا إن أريد باليد يد المعطي ، وإن أريد بها يد الآخذ ، فاليد إما بمعنى القوة ، أي : عن يد قاهرة مستولية ، ويقولون : ما لي به يد أي : قوة ، وإما بمعنى السلطان ، وهو كالذي قبله ، ومنه يد الريح سلطانها . قال لبيد :


نطاف أمرها بيد الشمال


لما ملكت الريح تصريف السحاب ، جعل لها سلطان عليه .

وإما بمعنى النعمة ، أي : عن إنعام عليهم بذلك ، لأن قبول الجزية ، وترك أنفسهم عليهم ، نعمة عليهم .

[ ص: 3108 ] قال الناصر في ( " الانتصاف " ) : وهذا الوجه أملى بالفائدة .

وإما بمعنى الغنى ، حكاه في ( " العناية " ) ، ونقله ( " التاج " ) من معاني اليد .

وقوله تعالى : وهم صاغرون أي : أذلاء .

تنبيهات :

الأول : قوله تعالى : عن يد إما حال من الضمير في : ( يعطوا ) ، أو من الجزية أي : مقرونة بالانقياد ، ومسلمة بأيديهم ، وصادرة عن غنى ، ومقرونة بالذلة ، وكائنة عن إنعام عليهم . كذا في ( " العناية " ) .

الثاني : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : هذه الآية أصل قبول الجزية من أهل الكتاب .

الثالث : قال أيضا : استدل من قال بأن معنى اليد فيما تقدم الغنى ، أنها تجب على معسر ، ومن قال بأنه لا يرسل بها ، على أنه لا يجوز توكيل مسلم بها ، ولا أن يضمنها عنه ، ولا أن يحيل بها عليه .

الرابع : قال السيوطي أيضا : استدل بقوله تعالى : وهم صاغرون من قال إنها تؤخذ بإهانة ، فيجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه ، ويحني ظهره ، ويضعها في الميزان ، ويقبض الآخذ لحيته ، ويضرب لهزمتيه .

قال : ويرد به على النووي حيث قال : إن هذه سيئة باطلة . انتهى .

قلت : ولقد صدق النووي عليه الرحمة والرضوان ، فإنها سيئة قبيحة ، تأباها سماحة الدين ، والرفق المعلوم منه ، ولولا قصده الرد على من قاله لما شوهت بنقلها ديباجة الصحيفة .

ثم رأيت ابن القيم رد ذلك بقوله : هذا كله مما لا دليل عليه ، ولا هو مقتضى الآية ، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه ، قال : والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الله تعالى عليهم ، وإعطاء الجزية ، فإن ذلك الصغار وبه قال الشافعي . انتهى .

[ ص: 3109 ] ثم قال السيوطي : واستدل بالآية من قال : إن أهل الذمة يتركون في بلد أهل الإسلام ، لأن مفهومها الكف عنهم عند أدائها ، ومن الكف ألا يجلوا ، ومن قال لا حد لأقلها ، ومن قال هي عوض حقن الدم لا أجرة الدار . انتهى .

الخامس : روى أبو عبيد في كتاب " الأموال " عن ابن شهاب قال : أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب ، أهل نجران ، وكانوا نصارى .

السادس : قال أبو عبيد : ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب ، وعلى المجوس بالسنة .

وقال ابن القيم : فلما نزلت آية الجزية ، أخذها صلى الله عليه وسلم من ثلاث طوائف : من المجوس ، واليهود ، والنصارى ، ولم يأخذها من عباد الأصنام .

فقيل : لا يجوز أخذها من كافر غير هؤلاء ومن دان بدينهم ، اقتداء بأخذه وتركه . وقيل : بل تؤخذ من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب ، والأول : قول الشافعي رحمه الله ، وأحمد ، ( في إحدى روايتيه ) .

والثاني : قول أبي حنيفة ، وأحمد رحمهما الله في الرواية الأخرى .

وأصحاب القول الثاني يقولون : إنما لم يأخذها من مشركي العرب ، لأنها إنما نزل فرضها بعد أن أسلمت دارة العرب ، ولم يبق فيها مشرك ، فإنها نزلت بعد فتح مكة ، ودخول العرب في دين الله أفواجا ، فلم يبق بأرض العرب مشرك ، ولهذا غزا بعد الفتح تبوك ، وكانوا نصارى ، ولو كان بأرض العرب مشركون لكانوا يلونه ، وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين .

ومن تأمل السير ، وأيام الإسلام ، علم أن الأمر كذلك ، فلم تؤخذ منهم الجزية لعدم من يؤخذ عنه ، لا لأنهم ليسوا من أهلها ، قالوا : وقد أخذها من المجوس ، وليسوا بأهل كتاب ، ولا يصح أنه كان لهم كتاب ، ورفع وهو حديث لا يثبت مثله ، ولا يصح سنده .

ولا فرق بين عباد النار ، وعباد الأصنام ، بل أهل الأوثان أقرب حالا من عباد النار ، وكان فيهم من التمسك بدين إبراهيم ما لم يكن في عباد النار ، بل عباد النار أعداء إبراهيم الخليل ، فإذا أخذت منهم الجزية فأخذها من [ ص: 3110 ] عباد الأصنام أولى ، وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت في " صحيح مسلم " أنه قال : « إذا لقيت عدوك من المشركين ، فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث ، فأيتهن أجابوك إليها ، فاقبل منهم ، وكف عنهم » . ثم أمره أن يدعوهم إلى الإسلام ، أو الجزية ، أو يقاتلهم .

وقال المغيرة لعامل كسرى : « أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله ، أو تؤدوا الجزية » .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش : « هل لكم في كلمة تدين لكم بها العرب ، وتؤدي العجم إليكم بها الجزية ؟ » . قالوا : ما هي ؟ قال : « لا إله إلا الله » .

ثم ذكر ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران على ألفي حلة ، النصف في صفر ، والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعا ، وثلاثين فرسا ، وثلاثين بعيرا ، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح ، يغزون بها ، والمسلمون ضامنون بها ، حتى يردوها عليهم ، إن كانت باليمن كيدة أو غدرة ، وعلى ألا يهدم لهم بيعة ، ولا يخرج لهم قس ، ولا يفتنوا عن دينهم ، ما لم يحدثوا حدثا ، أو يأكلوا الربا .

ولما وجه معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل محتلم دينارا أو قيمته من الثياب .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 469.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 463.52 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.24%)]