شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 4 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حكم قراءة الحائض القرآن عن طريق الحاسوب المحمول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          آدم عليه السلام ، قصة ادم عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          نساء لم يذكر القرآن أسمائهن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          ° l|l° ♥♥ حملة الحجاب الشرعي ♥♥ °l|l° (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          أقوال الإمام الشافعي،من أقوال الإمام الشافعي رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          الآثار السلبية للحمية القاسية وما يعالج منها معنوياً وكيميائياً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          من هو الذي ألقي عليه شبه عيسى عليه السلام ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          {قال إن فيها لوطًا} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          تقسيم الأعمال والمشاريع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          من هدي النبي ﷺ في النوم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-07-2020, 05:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,435
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (28)

صـــــ198 إلى صــ207

قوله رحمه الله:
[فإِن قُطِعَ منَ المِفْصَلِ غَسلَ رَأسَ العَضُدِ مِنْه]: هذا مبني على ما ذكرناه من كون الكعبين، والمرفقين داخلين في الغسل ولا يمكن إستيعابهما إلا بالشروع في العضد كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم، فصار طرف العضد داخلاً من هذا الوجه، فإذا بقي بعد قطع اليد شيء منه وجب غسله، وفيه نظر، حاصله أن غسل العضد إن كان للإستيعاب لم يلزمه غسله عند قطع ما قبله، وإن كان غسله مفروضاً أصلاً صحّ غسله، فعلى الأول يكون تابعاً، وعلى الثاني يكون أصلاً، فيسقط في الأول لسقوط أصله دون الثاني حيث إنه أصل مأمور بغسله.
قوله رحمه الله:
[ثمّ يرفع نظره إلى السماء ويقول ما ورد]: رفع النظر إلى السماء بعد الفراغ من الوضوء لم يصح فيه شيء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصحيح أنه يقتصر على القول من ذكر الشهادة،
فيقول:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، وقد صح عنه -عليه الصلاة والسلام- أن من قالها عند تمام وضوءه، فُتِحَت له أبوابُ الجنّة الثمانيةِ يدخل من أيها شاء -نسأل الله العظيم أن يجعلنا، وإياكم ذلك الرجل-.
قوله رحمه الله:
[وتُباحُ مَعُونته، وتَنْشِيفُ أَعْضَائِه]: الإباحة: إستواء طرفي الحكم أي: لا يؤمر به ولا ينهى عنه،
وقوله:
[تُباحُ مَعونتُه] أي: معونة المتوضئ، كما ثبت في الأحاديث الصّحيحة من صبِّ الصّحابة رضي الله عنهم لوضوء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث أنس، وحذيفة، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم في الصحيح، فإنها كلّها دلّت على مشروعية خدمة الأحرار بعضهم لبعض، وخاصة إذا كان من أهل الفضل، وكبار السن، والوالدين، فإنّ هؤلاء خدمتهم عبادة، وقربة لله -جل وعلا-، وتجب عند وجود الحاجة، كالمشلول، ونحوه.وإذا كان صغير السن، وأردت أن تخدمه فلا حرج إذا قُصد بذلك وجه الله لا رياءً، ولا سمعةً لكن الأفضل لطالب العلم ألا يمكّنَ الناس من خدمته في بداية طلبه للعلم، أو في صغر سنه لما في ذلك من الفتنة، والإنسان في مقتبل عمره لا يأمن الفتنة بخلاف كبار السن، فإن الخشوع فيهم أكثر، وقربهم من الموت يُبْعدهم من قصد إهانة الناس غالباً، مع ما لهم من حق كبر السن، ولذلك يستحب بعض العلماء أن الإنسان إذا كان صغير السن ولو كان من العلماء أنه يتورع عن خدمة الناس له حتى يكون ذلك أبلغ في إخلاصه، وفي طاعته لله -جل وعلا-، أُثر عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-
أنه قال:
(إن صحبت رفقة في سفر؛ فلا يعلموا بصيامك؛
إنهم إن علموا بصيامك قالوا:
أنزلوا الصائم، أكرموا الصائم احملوا الصائم حتى يذهب أجرك)
أي: لا يزالوا يكرمونك حتى يذهب أجرك بما يكون منهم من إكرام، ولذلك ينبغي للإنسان أن يتورع، وقد عهدنا علماء أجلاء -رحمة الله عليهم- بلغوا من العلم شأواً عظيماً كانوا يتورعون عن خدمة الناس لهم خاصةً في هذه الأزمنة التي قل أن يُوجد فيها المُخلِص وكذلك إن وجد المُخلص قد يوجد المُغالي، وكثير من البدع، والأهواء، والغلو في الصالحين نشأ بسبب الخدمة، ولذلك لا ينبغي أن يُتخذَ الدين طريقاً لإهانة عباد الله -جل وعلا- فإن الله أخرج الناس بالإسلام من العبودية لغيره إلى العبودية له -سبحانه وتعالى-، وقد تكلم الإمام ابن القيم -رحمة الله عليه- كلاما نفيسا في الفوائد،
وقال:
إن كثيراً من الفساق يغترون بصحبة الصالحين حتى يكونوا جريئين على المعاصي بسبب فضلهم على الصالح بخدمته، ولذلك تجده يخدمه فيغتر بصحبته، فيجرأ على حدود الله، ولا يصلح من حاله، وتصبح صحبته للعالم صحبة شكلية للخدمة، لكن أن ينتفع بعلمه، ويستفيد من ورعه وتقواه لا تجد لذلك أثراً حتى -والعياذ بالله- يفسد عليه دينه.والمنبغي أن يحمل الإنسان نفسه على أتم الوجوه، وأقربها إخلاصاً لله -جل وعلا-، خرج عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-
من المسجد فخرج معه أصحابه يشيّعوه قال:
مالكم؟ قالوا: رأيناك تسير وحدك فأردنا أن نشيّعك، قال: (إليكم عنّي إنها فتنة للتابع، والمتبوع) هذا عبد الله بن مسعود في عصر الخيرية،
وفي القرون المفضلة يقول:
إنها فتنة للتابع أي: أن الإنسان إذا سار مع العالم، دون أن يسأله، ودون أن يستفيد من علمه ذلك فتنة للتابع بالإغترار بالصحبة، ورؤية الناس له مع أهل الفضل،
وأيضاً فتنة للمتبوع أي:
أن العالم ربما دخله الغرور برؤية من حوله ممن يشيّعه، ويسير معه.
ولذلك الأسلم والأكمل أن الإنسان يتورع وإذا نظر الله إليك قد حباك العلم والفضل لا تهين عباده ولا تأخذ منهم أجراً ولا جزاءً ولا شكوراً كَمُلَ أجرك عنده -جل وعلا-،
ولذلك قال تعالى:
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (1) لكن لا يعني هذا التحريم،
والمنع ولكن نقول:
أن الإنسان إذا خشي الفتنة على نفسه، أو على من معه، فإنه ينبغي عليه أن يتورّع، وهذه المسألة أحبُّ أن أُنبه عليها؛ لأنه حصل فيها كثير من الدَخَل، فلقد رأينا كثيراً من طلاب العلم يصحبون العلماء، ويكون في بداية صحبته للعالم كأحسن ما أنت رآءٍ أدباً، وخلقاً، واستفادة من العالم، وكثرة سؤال، ومدارسة له، ولكن ما إن يدخل إلى مقام خدمته، والقيام على شأنه، ويداخله في أموره الخاصة إلا وتغير حاله فيخرج عن حدِّ الأدب، ولربما يأتي وقت، وقد رأينا ذلك بأعيننا في بعض ضعاف النّفوس في حال صحبتهم لمشائخنا يأتي وقت يجرؤ فيه على أن يُفتي فيه بحضرة العالم، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من المزالق الخطيرة إذا صحبت أهل العلم لا حرج أن تخدمهم، وأنت تريد وجه الله؛ ولكن اعلم أن صحبة العلماء للعلم، والفائدة، وليست للمظاهر، والأمور التي قد تكون فتنة على الإنسان في دينه، ودنياه، وآخرته.
قال رحمه الله: [تُباحُ مَعُونتُه]: أي: يجوز أن يعاونه الغير.
قوله رحمه الله: [وتَنْشيفُ أَعضائه]: التنشيف: هو التجفيف أي: يباح التنشيف، ويجوز، ولكن الأفضل أن لا ينشف أعضاء الوضوء لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أنه قال:
[مَا مِنْ مُسْلم يُقرِّبُ وضُوءَه فيُمضمِضَ، ويَسْتَنْشق، ويَغسِل وجْهَه إلا خَرجتْ كُلُّ خَطيئةٍ نَظرتْ إِليها عَيْناهُ مَعَ المَاءِ أَوْ مَعَ آخرِ قَطْرِ الماءِ] فقوله: [مَع الماءِ، أوْ مع آخِرِ قَطْرِ المَاءِ]، وكذلك قال في اليدين: [حتى تَخْرجَ مِنْ تَحتِ أَظْفارِ أَصابِعه مَعَ الماءِ، أوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الماء] فقد دلّ على فضيلة عدم تنشيف الأعضاء، وترك الماء يتقاطر حتى يكون أكثر طهارة من الذنوب، والخطايا.
وكذلك ثبتت السُّنة بتأكيد هذا المعنى المستنبط في الوضوء، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما اغتسل،
وجاءته أمّ المؤمنين بمنديل قالت رضي الله عنها:
[فلم يُرِده، وجعل يَنْفضُ الماءَ بيديْه].
ولهذا استحَبّ طائفةٌ من العلماء أنه يُبقي الأعضاء مبلولة، حتى يكون ذلك أدعى لخروج خطاياه، مع الماء أو مع آخر قطر الماء على ظاهر الحديث.
[باب المسح على الخفين]

قال رحمه الله:
[باب المسح على الخفين]: تقدم معنا في مباحث الوضوء أن المسح هو: إمرار اليد على الشيء تقول: مسحت الرأس إذا أمررت يدك عليه،
والمراد به هنا:
(إمرارُ اليدِ مبلولةً على الخُفّين، وما في حكمهما)،
والخفان:
مثنّى خُف، وهو النّعل من الجلد، أو الأدم الذي يكون للقدم، والأصل فيه أن يكون ساتراً لموضع الفرض، وذلك من أصابع الرجلين إلى الكعبين، وهما داخلان، كأنه يقول رحمه الله في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة برُخْصةِ المسح على الخفين.
أما مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله فقد تكلم المصنف -رحمه الله- على صفة الوضوء الشرعية فلما فرغ من بيانها وَذِكْرِ المواضع التي أمر الله -عز وجل- بغسلها، ومسحها في الوضوء ناسب أن يذكر ما يتعلق بآخر عضو من أعضاء الوضوء، وهما الرجلان حيث رخّص الله -جل وعلا- بسنة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يمسح المكلف على ساتر مخصوص لهما، فناسب بعد الفراغ من باب الوضوء أن يذكر باب المسح على الخفين لأنه متعلق بآخر فرض من فرائض الوضوء وهو غسل الرجلين، والمسح على الخفين رخصة من رخص الشرع، وهذه الرُّخصة ثبتت مشروعيتها بالأحاديث الصحيحة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى بلغت مبلغ التواتر، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: [فيه " أي: في المسح على الخُفين " أربعون حديثاً عن أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرفوعة]، ومثله عن الحافظ إبن عبد البر رحمه الله،
وقال الحسن رحمه الله:
[حدّثني سبعونَ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّه مسحَ على الخُفّينِ].
ولذلك قال بعض العلماء عن أحاديث المسح على الخفين:
إنها بلغت سبعين حديثاً،
وقد أشار إلى ذلك صاحب الطلعة رحمه الله بقوله:
ثُمّ مِنَ المشْهُورِ ما تَواتَرا ... وهْوَ ما يرْويهِ جَمعٌ حُظِراكَذِبُهم عُرْفاً كَمسْح الخفِّ ... رفعُ اليَديْنِ عَادِمٌ للخُلْفِ وقَدْ روى حَديثَهُ مَنْ كَتبا ... أَكثُر مِنْ سِتّينَ مِمّنْ صَحِباأي أكثر من سِتّين من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رووا هاتين السنُتين عن المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الأولى:
رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام.
والثانية: المسح على الخفين،
والأحاديث التي وردت في المسح على الخفين منها:
ما هو قولي،
ومنها:
ما هو فعلي، ولذلك لا إشكال في مشروعيته، وكان السلف الصالح -رحمة الله عليهم- عندهم خلاف في الصدر الأول وقع من بعض الصحابة رضي الله عنهم، ثم إنتهى بعد بلوغ السنة لهم.
قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: [ليس في المسح على الخُفّين عن الصحابة إختلاف لأن كل من رُوي عنه منهم إنكاره، فقد روي عنه إثباته]، ولذلك اتفقت الكلمة على مشروعية هذه الرخصة وأثر عن بعض السلف من العلماء أنه خصّها بالسفر لكنّه قال بأصلها، وهو إحدى الروايات الثلاث عن الإمام مالك -رحمة الله عليه- وسُنبين أنّ الصحيح أنها رخصة لا تختص بالسفر لحديث حذيفة رضي الله عنه في إثباتها، وفعلها في الحضر، وهو ثابت في صحيح مسلم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالَ عند سُباطةِ قومٍ قال:[فَصَببْتُ عليه الوضوء، فتوضّأ، ومسح على خُفّيه] وذلك في الحضر فالمسح على الخفين ثابت، وثبوته معتبر عند السلف، ومن بعدهم حتى كان بعض العلماء يدخل في عقيدة أهل السنة، والجماعة القول بمشروعية المسح على الخفين مبالغة في الرد على أهل البدع، والأهواء الذين لا يقولون بمشروعيته، والسبب في ذلك أن ثبوته ثبت بالتواتر، فأصبح من الأمور التي ثبتت مشروعيتها بدليل القطع، وما ثبت مشروعية بدليل القطع، وأنكره من اعتقد ثبوته بالقطع الذي لا شك فيه فقد كفر -والعياذ بالله-؛ لأنه يكذب الشريعة، وكل قطعي ثابت في الشريعة في الكتاب، أو السُّنة فإن إنكاره لمن اعتبر قطعيته، وثبوته يعتبر إنكاراً، وتكذيباً للشرع فيكفر بذلك كما هو مقرّر في العقيدة.
وهذا المسح رخصة على سبيل التخيير، لا إلزام فيها.
قال رحمه الله: [باب المسح على الخفين]: أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة بالمسح على الخفين،
ومنها:
أولاً: مشروعيته ببيان الدليل الشرعي على ثبوته.
ثانياً: هل مشروعيته على سبيل اللزوم، أو لا؟
ثالثاً:
ما هي الشروط المعتبرة في الخفين الممسوح عليهما.
رابعاً:
ما هي صفة المسح هل هي لأعلى الخفّ، وأسفله، أو للأعلى، دون الأسفل، أو للأسفل، دون الأعلى؟
خامساً: هل المسح على الخفين مؤقت؟ وإذا كان كذلك فما هي المدة المؤقتة فيه؟ إلى غير ذلك من المسائل المتعلقة بالمسح على الخفين، ثم من عادة الفقهاء -رحمة الله عليهم- أنهم يعتنون بذكر حكم النظير مع نظيره فيدخلون المسح على العمامة إذا قالوا بمشروعيتها في باب المسح على الخفين، فيذكرون أحكام المسح، ويُتْبعونها بأحكام المسح على الجبائر، والعصائب، وقد يُتْبعونها كذلك بالمسح على الخمر بالنسبة للنساء على القول بمشروعيته، وكلّ ذلك سيبينه المصنف رحمة الله عليه في هذا الباب.
قال رحمه الله:
[يَجُوزُ يوماً، ولَيْلَة لُمقيمٍ]: يجوز أي: المسح على الخفين،
ولما قال:
يجوز فهمنا منه أنه مشروع على سبيل الإباحة، والتخيير،
فلا إلزام فيه للمكلف أي:
أنه لا يجب على الإنسان أن يمسح على الخفين، وإنما ذلك مباح له، وجائز، فإن ترتبت مصالح من قصد إحياء السُّنة، ودلالة الناس عليها؛ فإنه يثاب ويعتبر مندوباً في حقه، وقد يصل إلى الوجوب إذا توقف بيان هذه السنة على تطبيقها، وفعلها.
قال رحمه الله:
[يَجوزُ يوماً، وليلةً لمُقيم]: قوله: [لمقيم] الإقامة: ضد السفر، وتتحقق الإقامة حقيقة إذا كان الإنسان في موضعه الذي هو نازل فيه سواء كان في بادية، أو حاضرة، وتتحقق الإقامة -أيضاً- بالحكم وهي: الإقامة الحكمية كأن يكون الإنسان مسافراً، ثم نوى أن يمكث في بلد أربعة أيام، فأكثر غير يومي الدخول، والخروج.

وفي هذه الجملة دليل على مشروعية المسح على الخفين للمقيم،
فيصبح القول بجوازه عاماً أي:
شاملاً للسفر، والحضر.
وللعلماء قولان في هذه المسألة:
منهم من يقول: المسح مختص بالسفر، وهو إحدى الروايات عن الإمام مالك -رحمة الله عليه-؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسح في السفر، والسفر يناسبه التخفيف، وذلك أن حديث المغيرة رضي الله عنه في إثبات المسح كان في سفره -عليه الصلاة والسلام-
لغزوة تبوك فقال:
أصحاب هذا القول إنه يختص بالسفر.
وقال الجماهير: إن المسح لا يختص بالسفر، بل يشمل السفر، والحضر؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال كما في صحيح مسلم من حديث علي:
[يَمسحُ المُسافرُ ثَلاَثة أيامٍ، والمقيمُ يَوماً، وليلةً] فدلّ على أنه مشروع للمسافر، وللمقيم، وهي دلالة من السُّنة القولية،
كذلك دلت السُّنة الفعلية على مشروعية المسح في الحضر كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما:
إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتى سُبَاطَة قَومٍ فَبالَ قَائِماً، ثم قال لي: [اُدْنُ]، فدنوتُ حتى كنت عند عقبيه،
قال:
فلما فرغ صببت عليه وضوءه حتى قال: [ثُمّ مَسحَ علَى خُفّيهِ] وهذا في الحضر، فدلّ على مشروعية المسح في الحضر كما هو مشروع في السفر.
(1) ص, آية: 86.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 07-07-2020, 05:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,435
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (29)

صـــــ207 إلى صــ216


وفي حديث صفوان بن عسال المرادي -رضي الله عنه- في السنن قال: [أَمَرَنا رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ لا ننزِعَ خِفَافنا ثلاثةَ أيام بِلَيالِيهنَّ للمُسَافِر، ويوماً وليلةً للمُقِيم] فأثبت مشروعية المسح حضراً، وسفراً.
وبناءً على ذلك فإنه يترجح قول الجماهير بأن المسح يشرع حضراً، وسفراً، وعلى هذا فلا تتقيد رخصته بالسفر كما ذكر من يقول إنه متقيّد بالسفر؛ لأن ورود المسح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث المغيرة رضي الله عنه في السفر لا يقتضي تخصيص الحكم بالسفر لوجود الحكم نفسه في الحضر بدليل السنة القولية والفعلية كما تقدم.
قوله رحمه الله: [ولِمسَافرٍ ثَلاثةَ بِلَيالِيهَا]: أي: أنّ المسح على الخفين مؤقت للمسافر، كما هو مؤقت للمقيم، وتعرف هذه المسألة بمسألة توقيت المسح على الخفين،
وذلك على قولين:
فذهب الجمهور رحمهم الله من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية إلى أن المسح على الخفين مؤقت ثلاثة أيام للمسافر، ويوماً، وليلة للمقيم، وحجتهم ما سبق من حديث علي رضي الله عنه في صحيح مسلم، وحديث صفوان بن عسّال المُرادي رضي الله عنه في السنن،
وقد تقدم ذكرهما في المسألة السابقة قالوا:
إنهما نصّا على أنّ المسح مؤقت بيوم، وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر.
وأما بالنسبة للقول الثاني فقال: المسح على الخفين غير مؤقت، وهذا هو مذهب المالكية -رحمة الله عليهم-، والليث، وهو مروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.وقد احتج المالكية على عدم التأقيت بحديث أُبيِّ بن عمارة أنه سألَ النبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عن المسح على الخفين فقال:
يا رسول الله أمسح على الخفين يوماً؟ قال: " نَعمْ " قال: " ويَوْمينِ "؟ قال: " نَعمْ " قال: " وثَلاثةً "؟ قال نَعمْ، وفي رواية: " وما شِئْتَ " قالوا: إن هذا الحديث أصل في عدم تأقيت المسح على الخفين،
ومعناه:
أنك إذا لبست الخفين فامسح ما بدا لك، وينتهى الوقت عند نزعك للخفين، وعند أصحاب هذا القول لا يتأقت، لا في السفر، ولا في الحضر، فالإنسان يمسح مدة لبسه للخفين.
وأصح القولين فى نظري والله اعلم أن المسح يتأقت،
وذلك لما يلي:

أولاً:
لصحة دلالة السُّنة على ذلك.
ثانياً:
أن حديث أُبيِّ بن عمارة ضعيف.ضعفه الإمام أحمد، والبخاري، والدارقطي،
وغيرهم من أئمة الحديث رحمهم الله قال إبن معين رحمه الله:
(إِسْنادُه مُظْلِمٌ)، ولذلك لا يعارض السُّنة الصحيحة التي أثبتت المسح مؤقتاً.
قوله رحمه الله:
[مِنْ حَدَثٍ بَعْدَ لُبْسٍ عَلى طَاهرٍ]: قوله [مِنْ حَدثٍ] مِنْ: للابتداء أي: يبدأ تأقيت المسح من الحدث الأول بعد اللبس على طهارة، فيبدأ التأقيت بالثلاثة الأيام إذا كان الإنسان مسافراً، واليوم، والليلة إذا كان مقيماً مِنَ الحَدثِ بعد لُبسه، فمن المعلوم أن لُبس الخفين يكون بعد طهارة كاملة تامة، فإذا كان متطهراً، ولبس خُفّيه فإنه ينتظر أول حدث بعد لُبْسه للخُفّين، فإذا أحدث بدأ التوقيت بذلك الحدثِ إلى مثله يوماً، وليلةً، أو ثلاَثة أيامٍ على حسب حاله مسافراً كان، أو مقيماً.
فعلى سبيل المثال:
لو لبس الخفَّ الساعة العاشرة صباحاً، وهو على طهارة، ثم أحدث الساعة الحادية عشرة فإنه يَعْتدّ بوقت حدثه، وهو الساعة الحادية عشرة فإن كان مقيماً كان له المسح منها إلى مثلها في اليوم التالي، فينتهي توقيت المسح له في الحادية عشرة من اليوم التالي إذا كان مقيماً، وهكذا الحال في السفر ينتهي في مثل وقت الحدث بعد ثلاثة أيام.
ونصّه رحمه الله على إِعتبار الحدث معناه:
أنه لا عبرة بوقت اللُّبس، ولا بوقت المسْح الأول الذي يقع بعد اللبس، وإنما العبرةُ بالحدثِ لأنه بحصوله شُرِع له أن يمسح فاعتدّ بوقته بِغضِّ النّظر عن كونه مسح بعده، أو انتظر مدة.
ولذلك قال العلماء رحمهم الله:
أن العبرة بوجود السبب، وهو الحدث، فأحاديث التوقيت جعل الشرع فيها المدة محدودة للرخصة، وإستباحة الرخصة إنما يكون بوقوع الحدث نفسه، لا بلُبس المكلّف، ولا بمسحه.
قوله رحمه الله: [عَلى طَاهرٍ مباحٍ]: يشترط في الخف أن يكون طاهراً، وأن يكون مباحاً،
ومفهوم الشرط أنه لا يصح المسح على خفٍ نجس لأن الخف النجس
أولاً:
لا تصح الصّلاة به لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه نزع نعليه لما أخبره جبريل أنهما ليستا بطاهرتين، فدلّ على أن حذاء المصلي لا بد، وأن يكون طاهراً، فلا يتأتى فيه أن يمسح على هذا النوع، وهو النجس.
الأمر الثاني: أنه بالمسح باليد المبلولة على خفّ نجس العين، أو متنجس في موضع المسح، فإنه يتنجس بمرور يده على موضع النجاسة، أو على الخف نفسه إذا كان نجس العين، وبذلك لا تتحقق الطهارة المقصودة من المسح، بل يحصل ضدها، وهو النجاسة، فلم يصحّ المسح.
وقوله رحمه الله: [مباحٍ] أي: أن يكون الخف مباحاً،
ويخرج بقوله:
[مباحٍ] ما كان حراماً كالمغصوب فبيّن رحمه الله أنه لا يصح المسح إذا وقع على خفّين مغصوبين؛ لأن من شرط صحة المسح على الخفين أن يكونا مباحين، والمغصوب غير مباح، وهذا على مذهب الحنابلة رحمهم الله.
قوله رحمه الله: [ساترٍ للمفروضِ]: ساتر هذا الشرط الثالث،
وهو:
أن يكون الخفّ ساتراً لمحل الفرض، وهو الرِّجْلُ لأن البدل يأخذ حكم المُبْدل، والمسح بدل عن ما أمر الله بغسله، وهو الرجلان فوجب أن يستر جميع الرّجْلين اللّتين أمر الله بغسلهما، فلا بد من أن يكون ساتراً من أطراف الأصابع إلى الكعبين، والكعبان داخلان كما قررناه في آية الوضوء، فلو كان على نصف القدم، فإنه لا يجوز أن يمسح عليه لأنه غير سائر لمحل الفرض، ولو كان دون الكعبين، بحيث ستر جميع الرجل، إلا الكعبين فإنه لا يصح أن يمسح عليه لأنه غير ساتر لمحل الفرض.
قوله رحمه الله: [يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ]: يثبت بنفسه هذا الشرط مبني على أنه إذا وردت الرخصة في الشّرع ينبغي تقييدها بالوصف الذي ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فالخفاف التي كانت موجودة، ومعروفة في زمانه عليه الصلاة والسلام تثبت بنفسها، فيخرج ما لا يثبت؛ لأن الذي لا يثبت بنفسه عُرضة إلى أن يكشف منه محل الفرض، وبناء عليه فإنه لا يمُسح عليه، ولا يعتبر على صفة الخف الذي ورد دليل الشرع باستباحة المسح عليه، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن خُفّه مَشْدوداً، ولو كان مما يشدُّ، أو كان غير ثابت وينزل عن الكعبين لبُين ذلك، ولكان ظاهراً من الأحاديث التي جاءت بذكر مسحه -صلوات الله وسلامه عليه- على خفيه.
قوله رحمه الله: [مِنْ خُفٍ، وجَوْرَبٍ صَفِيقٍ، ونحوهما]: قوله: [مِنْ خُفٍّ] من: بيانية، وقوله: [وجورب] الواو للعطف الموجب للتشريك في الحكم أي سواء مسح على خف، أو جورب، والفرق بينهما أن الخفاف تكون من الجلد،
أما الجوارب فإنها تكون من القماش ولها صورتان:

الصورة الأولى:
أن تكون كلُّها من القماش؛ كجورب الصّوفِ، والقُطن الخالصين.
والصورة الثانية: أن تكون من القماش المنعّل،
وصورته:
أن يكون أعلاه من الصوف، ويكون أسفله الجلد فهذا يسمونه الجوربَ المنعَّلَ فهو من القماش لكن أسفله مما يلي الأرض، أو موطئ القدم منه من الجلد، وهو موجود في زماننا، ويعتبر جورباً منعلاً، وكلا النوعين داخل معنا هنا،
وفيهما مسألتان:
المسألة الأولى: هل يجوز أن يمُسح على الجوارب كما يمُسح على الخفاف؟
المسألة الثانية: هل ذلك شامل لكلِّ جورب؟
أما المسألة الأولى:
وهي هل يمسح على الجورب كما يمسح على الخف؛
ففيها قولان مشهوران:
القول الأول: يُمسح على الجوارب كما يُمسح على الخفّ، وبه قال الإمام أحمد، وطائفة من أهل الحديث رحمهم الله.
القول الثانى:
أنه لا يمسح على الجوارب، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله.فالذين قالوا بمشروعية المسح على الجورب إحتجوا بحديث الترمذي،
وأحمد:
[أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسحَ على الجَوْربَيْنِ].
والذين لا يرون جواز المسح على الجوربين قالوا
أولاً:
إنه لم يثبت في الجوربين ما ثبت في الخفين، فلا وجه للإستثناء، والرُّخصة.
وثانياً: أنه يُحمل قوله على الجوربين على الرواية بالمعنى،
فيكون المراد بهما:
الخفان من الجلد، لا الجوربان من القماش.
والذي يظهر والله أعلم جواز المسح على الجوربين لصحّةِ حديثه، فقد صحّحه غير واحد من أئمة الحديث منهم الإمام أحمد، والترمذي رحمة الله عليهما،
وقد جاءت هذه السُّنة عن تسعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم:
عليٌ، وعمار، وإِبن مسعود، وأنس، وإِبن عمر، والبراء، وبلال، وإبن أبي أوفى، وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم.ً
ثانياً:
أنّ حمل الحديث على الخفين خلاف الظاهر، والمعروف أن إطلاق الجورب له معنى، وإطلاق الخف له معنى، وليس الصحابي يجهل دلالة اللفظين فإنّه عبر بلغة صحيحةٍ، ولذلك قالوا إن رواية مُنَعَّلَين تدل على الجلد، ويمكن أن يجاب عنها بأنّ المنعلين المراد بها بعض أفراد الجوارب، وهي الجوارب التي لها بطانة من الجلد.
ومن أهل العلم من أجاب: بأن المراد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح على الجورب مع النعل، والنعل لا تغطي كل الظاهر فلم يحتج إلى نزعها عند المسح، لأن النعل لا يلزم مسحه لأنه من باطن كالخف فاقتصر على مسح الجورب، فقال الصحابي على الجورب المنعل يعني أنه مسح مع وجود النعل، والمقصود الجورب، وعلى هذا يصح القول بالمسح على الجوربين.
أما المسألة الثانية: فإن الجورب الذي يجوز المسح عليه يشترط فيه أن يكون صفيقاً، وعلى ذلك كلمة أكثر من يرى المسح على الجوربين، أنه لا بد، وأن يكون صفيقاً، وهي عبارات العلماء، لأن الجوارب الخفيفة الشّفافة هذه لم تكن موجودة على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ إنما كانوا يلبسون الجوارب الثخينة، وكانوا يمشون بها، ولذلك كانوا يلفون الخرق على أقدامهم، وهو المعبّر عنه بالتساخين في بعض الروايات،
وهذا يدل على ما اعتبره العلماء من اشتراط الصّفاقة أي:
كونه صفيقاً، وأيضاً النظر يقتضيه، فإن الجورب منزّل منزلة الخفِّ، والخفُّ أصله من الجلد، ولا يمكن للجورب أن ينزّل منزلَته إلا بالثّخانة، والصّفاقة، وعلى هذا فإنه يصح المسح عليه إذا كان صفيقاً ثخيناً فالذي يشف البشرة، أو يكون غير ثخين فإنه لا يمُسح عليه؛ لأنه غير معروف على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
ومن قال بجوازه يقوله بالقياس فيقول:
أقيس هذا الشّفاف على الجورب الموجود على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ويجاب عنه:
بأنه قياس مع الفارق، والفارق هنا مؤثر، ومن شرط صحة القياس، واعتباره أن لا يكون قياساً مع الفارق،ثم إن المسح على الخفين رخصةٌ جاءت على صفة مخصوصة فيقتصر الحكم على الوارد، والقياس في مثل هذا ضيق.وعليه فإنه لا يصح المسح على الجوربين إلا إذا كانا صفيقين، كما نبه عليه الأئمة منهم الإمام ابن قدامة -رحمة الله عليه- في المغني، وغيره من أصحاب المتون المشهورة في المذهب الحنبلي الذي يقول بجواز المسح على الجوربين كالإمام الحجّاوي في الإقناع، وابن النجّار في المُنتهى، وغيرهم رحمهم الله كلهم نصّوا على كونه صفيقاً إخراجاً للخفيف الذي يصف البشرة، أو يكون غير ثخين.
قوله رحمه الله: [ونَحْوِهِما] أي نحو الجورب الثخين بمعنى: أنه لا يختص الحكم بالجلد، ولا بالقماش فإذا وجد الساتر للقدمين من غيرهما، ولكنه على صفة الخفّ، والجورب في الثّخانة صَحّ المسح عليه،
وهذا ما يدل عليه قوله:
[نحوهما] المتضمن لمعنى الشَّبَهِيةِ.
قوله رحمه الله: [وعلى عِمَامةٍ لرجُل]: بعد أن فرغ -رحمه الله- من بيان أحكام المسح على الخفين شرع في بيان أحكام المسح على العمامة،
والعمامة مأخوذة من قولهم:
عمَّ الشيء إذا شمله، وصفت العمامة بكونها عمامة؛ لأنها تشمل الرأس بالغطاء فهي تستره،
والعمامة تأتي على صور فمنها:
العمامة التي لها ذؤابة، ومحنّكة،
ومنها:
العمامة التي لها ذؤابة غير محنكة،
والعمامة:
التي لا ذؤابة لها، وليست بمحنكة هذه ثلاث صور للعمائم.فأما ما كان من العمائم له ذؤابة سواء كان محنّكاً، أو غير محنّك فإنه يشرع المسح عليه لأنها على صفة عمائم المسلمين كما يشهد لذلك الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه عمّم عبدَ الرحمن بنَ عوفٍ رضي الله عنه وأرسل العذبة بين كتفيه،
وقال:
[هَكذا فَاعتمَّ يا ابنَ عَوْفٍ] فالعمامة تكون لها عذبة سواء كانت مُحنّكة، أو غير مُحنّكة، وسواء أرسل عذبتها بين الكتفين من خلفه، أو أرسلها من جهة المقدمة على صدره من الجهة اليمنى تفضيلاً للأيمن على الأيسر، هذا بالنسبة لعمائم المسلمين.وهناك نوع ثالث من العمائم وهي العمامة المقطوعة التي لا عذبة لها، ولا ذؤابة كانت شعاراً لأهل الذِمّة لأن أهل الذِمِّة إذا كانوا مع المسلمين فإنهم يكون لهم شعار يعرفون به، ويتميزون به عن المسلمين حتى لا يلتبسوا بهم، فلا بد من وجود علامة فارقة لهم، في ملبسهم بحيث يتميزون عنهم في المجامع وغيرها، وأول من سنَّ ذلك عُمر رضي الله عنه، فكانت لهم العمائم مقطوعة، والزنّار مَشْدوداً في أوساطهم، ولها أصل في السُّنة أن الكفار إذا دخلوا بلاد المسلمين لا يشابهونهم في اللباس، فلذلك كان رضي الله عنه يلزمهم بعمائم مخصوصة، ولباس مخصوص حتى يكون علامة لهم، فهذا النوع من العمائم يختص بأهل الذمّة، فالأصل منع المسلمين من لُبسه، وشدد العلماء -رحمهم الله- فيه لأن فيه مشابهة بأهل الذمة، فمِثلُ هذه العمائم لا يمسح عليه.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-07-2020, 05:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,435
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (30)

صـــــ217 إلى صــ228

قوله رحمه الله: [وعلى عمامة لرجُلٍ محنّكةٍ، أو ذاتِ ذُؤابة]: وعلى عمامة لرجل، فالمرأة لو إعتمت فإن اعتمامها،
وعصب رأسها يكون على حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون بدون حاجة فتكون -والعياذ بالله- ملعونة، لأنها تتشبّه بالرجال، وقد يفعل هذا بعض المسترجلات من النساء -نسأل الله السلامة والعافية-،
وفي الحديث الصحيح أنّ النبيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[لَعَنَ المُسْتَرجِلاتِ مِنَ النساءِ].
الحالة الثانية:
أن تحتاج إلى عصب رأسها لشدِّ رأسٍ من وجع، أو ألم، أو نحو ذلك، فهذا أمر مستثنى من التحريم لوجود الحاجة فهذه العصائب التي قد تشبه العمامة في بعض أحوالها لا يُمسحُ عليها، والأصل أن العمائم تختص بالرجال، والنساء لا عمائم لهن.
الأصل في مشروعية المسح على العمامة حديث المغيرة -رضي الله عنه- أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَسَحَ على نَاصِيته، وعلى العمامة، وورد -أيضاً- أَمرُه -عليه الصلاة والسلام- بالمسح عليها، وحسّنه بعض أهل الحديث، فهذه السنة الثابتة بالفعل، والقول أصل في جواز المسح على العمامة،
ويُشترط فيها كما قال:
[ذاتِ ذؤابةٍ، أو مُحنّكة] أي موضوعة تحت الحنك وتعبيره بـ[أو] في قوله [أو محنكة] فيه دليل على عدم إختصاص الرخصة بالعمامة المحنكة، بل المهم أن تكون من عمائم المسلمين لها ذؤابة، سواء كانت محنَّكة، أو غير محنَّكة.
وإذا كانت العمامة محنَّكة كانت المشقة بنزعها أكبر، ولذلك لم يشرع المسح على كل ساتر للرأس فالطاقية، والعمامة المقطوعة لا يشقُّ نزعهما، فلم يرخص بالمسح عليهما، وعليه فالمنع من المسح على العمامة المقطوعة في أحد الوجهين راجع إلى عدم المشقة بالنزع كالقلنسوة.
قوله رحمه الله: [وعلى خُمُرِ نِساءٍ مُدَارةٍ تَحتَ حُلوقِهنّ]: أي ويجوز المسح من المرأة على خمارها،
والخمار:
فعال من الخَمْر، والخَمْر أصله التّغطية، ومنه قوله -عليه الصلاة والسلام-: [خَمّروا الآنيةَ] أي: غطوها، وسُمّيت الخمرُ خمراً -والعياذ بالله-؛ لأنها تغطي العقل، فكأن الإنسان إذا شربها صار كمن لا عقل معه، ووصف الخمار بكونه خماراً؛ لأنه يستر رأس المرأة، ويغطيه،
والأصل في مشروعية المسح عليه حديث بلال في صحيح مسلم عنه رضي الله عنه أنه قال:
[مَسحَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلم على الخُفينِ، والخمَارِ، أي أذن بالمسح على الخمار للنساء،
وفي مسند أحمد بلفظ:
[إمسحوا على الخفين والخمار]، وفيه أيضاً أثر أم سلمة رضي الله عنها، وقياساً على العمامة في كونها ساترين يشقُّ نزعهما.
قوله رحمه الله: [مدارة تحت حلوقهن]: أي تكون تحت الحلق قالوا: إنه ينبغي أن يكون ذلك الخمار مداراً مثل: المِسْفَع، ونحوه يكون تحت الحلق، كالحال في المحنّك من عمائم الرجال حتى تحصل المشقة بنزعه، فيرخص بالمسح عليه، وهذا مبني على أن الرخصة فيهما مبنية على مشقّة النزع.
قوله رحمه الله: [في حدثٍ أصغَر]: بعد أن بيّن -رحمه الله- ما الذي يمسح عليه، ووقت المسح شرع في بيان محل المسح هل هو في جميع الأحداث، أو في بعضها؟ فبيّن رحمه الله إختصاص المسح على الخفين، والعمامة، والخمار بالحدث الأصغر، دون الأكبر، فلا يجوز للإنسان أن يمسح عليها في الحدث الأكبر إجماعاً، بل يجب عليه غسل القدمين، والرأس في الطهارة من الحدث الأكبر، والأصل في هذا ما ثبت في الحديث الصحيح، وهو حديث صفوان بن عسّالٍ المُراديِ -رضي الله عنه-
وأرضاه قال:
[أَمَرنا رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا نَنْزِعَ خِفَافَنا من بولٍ، أو نومٍ، أو غائطٍ؛ لكن من جنابةٍ]،
فدل على أن الخف يمسح عليه في الحدث الأصغر المعبر عنه بقوله:
[من بولٍ، أو غائطٍ، أو نومٍ] دون الأكبر الذي يجب فيه نزع الخفين،
وهو معنى قوله: [لكِنْ منْ جَنابةٍ] أي لكن نزعهما من جنابة، فدلّ على أن الحدث الأكبر لا رخصة فيه بالمسح على الخفين، بل يجب فيه الرجوع إلى الأصل، وهو غسل العضو.
قوله رحمه الله: [وعلى جَبِيرةٍ لم تَتَجاوز قَدرَ الحَاجةِ]: شرع رحمه الله في بيان أحكام المسح على الجبيرة بعد أن بيّن -رحمه الله- المسح على الخفّين، والعمائمِ، والخُمُرِ.
ويرد السؤال: أليست الجبيرة يمسح عليها كما يمسح على العمامة هذا من قماش، وهذا من قماش، وكلاهما ساتر لمحل الفرض، فلماذا أفردها؟
الجواب:
أن الجبيرة تخالف ما تقدم في كونها في الحدث الأصغر، والأكبر، فإن الإنسان إذا جَبرّ كسراً ووضعها فإنه يحتاج إلى بقائها مدة معينة، فسبب الرخصة قائم بخلاف المسح على الخفين، والعمامة، والخمر، فإنه ليس مرتباً على سبب، ولا علة، وإنما هي رخصة مطلقة على أحد الوجهين عند أهل العلم رحمهم الله.
والأصل في المسح على الجبائر:
حديث ذي الشّجَةِ الذي رواه الدارقطني، وغيره أنّ رجلاً من أصحابِ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سافَر مع أصحابهِ فأصابتهُ شِجَاج،
أو كانت به جراح قال:
فأجنب، فسألَ أصحابَه هلْ من رُخصة؟
قالوا:
لا رخصة،
وإغتسل أي:
يلزمك الغسل، فاغتسل فمات، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [قَتَلُوه قَتَلهُمُ الله هلا سَأَلوا إِذْ جَهِلُوا إنما شِفَاءُ العِيِّ السُّؤالُ]،
وفي بعض الروايات:
[قَدْ كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَعصُبَ جُرحَه] فأخذوا منه مشروعية المسح على العصائب، والجبائر وهذا الحديث متكلم في سنده، والقول بضعفه في رواية الجبائر أقوى، ولكن أصول الشريعة، وقواعدها العامة تدل على مشروعية المسح على الجبائر، ولذلك اتفقت كلمة العلماء، وأجمعوا على أنه يجوز المسح على الجبيرة لماذا؟
لأن التكليف شرطه الإمكان قال تعالى:
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) فإذا كان بإمكان المكلف أن يفعل كُلّف، وإن لم يكن بإمكانه لم يكلف، فهذا الذي أصابه الكسر في يده، أو ساعده، أو زنده، أو كفه ليس بإمكانه أن ينزع الجبيرة حتى يغسل، ويترتب على نزعه ضرر عظيم ولأن الشريعة لما أذنت له أن يتداوى؛ فقد أذنت بلازم التداوي من بقاء الجبيرة، فتبقى الجبيرة على ما هي عليه، ويمسح عليها، ويحلّ هذا الساترُ محل الأصل بشروطه،
وهي:
أولاً: وجود الحاجة، وهو أن يتحقق من وجود الكسر الذي يحتاج إلى الجبر.
ثانياً: أن يشدّ بقدر الحاجة، فلو فُرضَ أن موضع الكسر الذي يحتاج بسببه إلى الجبر محدّد بخمسة أصابع ويحتاج الطبيب إلى إصبع قبل، وبعد يعني من البداية، والنهاية، فهذا الزائد الذي هو الإصبع السابق واللاحق في حكم الأصل فيشرع تغطيته بالجبيرة، ولا حرج عليه.
قوله رحمه الله: [وعلى جَبِيرةٍ لم تَتجَاوز قدرَ الحاجةِ، ولو في أَكْبر]: للقاعدة الشرعية: " أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها "
وهي إحدى القواعد المشهورة عند العلماء بالقواعد الخمس وهي:
" الأمُورُ بمقاصِدِها "
و " اليَقينُ لا يُزالُ بالشكِ "
و " الضررُ يُزالُ "
و " المشقّةُ تَجلِبُ التيْسِير و
"
العادةُ مُحكّمةٌ "
هذه الخمس القواعد انبنى عليها الفقه الإسلامي بمعنى: أن كثيراً من مسائل الفقه تفرع عليها،
والقاعدة الرابعة منها تقول:
[المشقةُ تجلبُ التَّيسير]، وتفرعت منها قواعد،
منها قولهم:
[الضَّروراتُ تُبيحُ المحظُوراتِ] ثم ضبطت بقولهم: [ما أبيح للحَاجَةِ، والضَّرورةِ يُقدّرُ بِقَدْرها] أي: أن ما حكمنا بإباحته، وجوازه بناء على وجود ضرورة، أو حاجة فإن الواجب أن نتقيّد فيه بقدر الضرورة، والحاجة، وأن لا نزيد على ذلك،
وهذا ما بنى عليه المصنف رحمه الله قوله في هذه المسألة:
[لم تَتَجاوزْ قَدْرَ الحَاجةِ].
وقوله رحمه الله: [ولو في أكبر] أي ولو كان المسح على الجبيرة في حدث أكبر، ومن هنا خالفت الجبيرة المسح على الخفين والعمامة والخمار في كونها لا تختص بالحدث الأصغر بل إنها تكون في الحدث الأصغر، والأكبر، ومن هنا قال العلماء رحمهم الله لا يمسح في طهارة كبرى على غير الجبيرة.
قوله رحمه الله: [إلى حَلِّها]: أي إلى أن يحلّ الجبيرة، ويُرجع في ذلك إلى قول أهل الخبرة،
فإن قال الأطباء:
تبقى شهراً فإنها تؤقت بالشهر، وإن قالوا شهرين فكذلك، فلا يُتجاوز القدر الذي حكم الأطباء بالحاجة إليه، فإذا زاد عليه، فإنه لا يصح له أن يمسح في ذلك الزائد من الزمان.
قوله رحمه الله: [إِذَا لَبِسَ ذَلكَ بَعدَ كمالِ الطهارةِ]: المراد به بيان شرط جواز المسح على الخفين، والعمامة، والخمار، والجبيرة،
وهو:
أن يلبسها على طهارة كاملة،
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال:
[فأَهْويتُ لأَنزعَ خُفّيه؛ فقال: دَعْهُما فإني أَدخَلْتُهما طَاهِرتَيْنِ]، وهذا يدل على إشتراط لبس الخفين على طهارة تامة، ولا بد من أن تكون الطهارة تامة بحصولها بغسل الرجلين، فلو غسل إحدى الرجلين، ثم أدخلها في الخف بعد غسلها وقبل غسل الثانية لم يصحّ.
واستثنى بعض العلماء رحمهم الله الطهارة في شدِّ الجبيرة في الحالات التي يتعذر أن يتطهّر فيها فتشد الجبيرة قبل حصول الطهارة، فخفّف فيها لوجود الحرج الموجب للرّخصةِ.
قوله رحمه الله: [ومنْ مَسحَ في سفرٍ، ثمّ أقامَ، أو عكس، أو شكّ في ابتدائهِ فمسحُ مقيمٍ]: هذه المسألة مفرعة على الأصل حيث عرفنا أن المقيم يمسح يوماً، وليلة على الخف،
والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن فلو فرضنا:
أنك كنت مسافراً فمسحت اليوم الأول، ثم رجعت إلى البلد في اليوم الثاني، فأصبحت مقيماً في اليوم الثاني فهل نقول العبرة بالابتداء، فتتم مسحك مسح مسافر، أو نقول العبرة بالانتهاء فتقطع مسحك؛ لأنك أتممت مسح المقيم؟ هذا إذا كان في سفر، ثم أقام، وكذلك إذا كان مقيماً، ثم سافر، فلو أنه لبس الخف على طهارة وهو مقيم ثم مسح عليه نصف يوم ثم سافر بعد ذلك فهل يُتمّ مسح يوم وهو مسح المقيم، أو يتمّ ثلاثة أيامٍ وهي مسح المسافر، لأنه أصبح مسافراً وهكذا لو شكّ وهو في سفرٍ هل أحدث بعد لبس الخفّ حال إقامته فيتم مسح مقيم، أو أحدث حال سفره، فيتم مسح مسافر؟ ثلاثة أحوال ذكرها المصنف رحمه الله وهي مسألة خلافية،
وللعلماء فيها قولان:
القول الأول: أنه يُردّ إلى الأصل، واليقين، وهو مسح اليوم، والليلة، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة رحمهم الله.
والقول الثاني: أنه يمسح بحاله الطارئ، فلو طرأ عليه السفر أتم ثلاثاً، ولو طرأت عليه الإقامة اعتبر اليوم والليلة فإن كان قد أمضاها في السفر، وزاد عليها إنتهى مسحه بمجرد إقامته، وهذا هو مذهب الحنفية.
وأما المالكية فإنه لمّا كان مذهبهم عدم التأقيت في المسح فإن هذه المسألة على مذهبهم غير واردة؛ لأنه لا فرق عندهم بين مسح المقيم، والمسافر.
وأقوى القولين: هو القول بالرجوع إلى اليقين، لأن المسح على الخفين رخصة، ونشكُّ في بقائها فوجب علينا الرجوع إلى اليقين، وهو مسح اليوم، والليلة لأنه مقطوع به على كلا الوجهين، وما زاد على اليوم، والليلة فإنه مشكوك في ثبوت الرخصة فيه، فوجب الأخذ باليقين، وإلغاء ما زاد عليه،
وهذا معنى قولهم في القاعدة:
[الشّكُ في الرُّخَصِ يُوجِبُ الرُّجوعَ إِلى الأَصل.
قوله رحمه الله: [وإنْ أَحْدثَ ثُمّ سَافَر قَبلَ مَسْحِه فَمسْحُ مُسافِرٍ]: بناه على ظاهر الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: [يمسح المسافر]، وإن كان الأصل يقتضي أن العبرة بالحدث، فكان يلزم إعمالاً للأصل أن يقال إن العبرة بالحدث فإن وقع حدثه في السفر أو في الحضر فالعبرة بالحدث وهذا هو الصحيح إتباعاً للأصل الذي تقرر أن الحدث سبب الرخصة الشرعية بالمسح فوجب الإعتداد به، ولا عبرة بالمسح فننظر متى كان حدثه، فإن كان في حال إقامته، ثم سافر مسَح مسْح مقيم، والعكس بالعكس، وهذا هو المذهب في الأصل، وأجيب عن الظاهر، باعتبار الشرع لسبب الرخصة، وهو أولى بالإعتبار.
قال المصنف رحمه الله:
[ولا يَمسَحُ قلانسَ، ولُفافةً]: شرع -رحمه الله- في بيان ما لا يمسح عليه فبين عدم جواز المسح على القلانس، وهي كالطواقي الموجودة في زماننا فلا تأخذ حكم العمامة، وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله،
وهي المذهب كما أشار إلى ذلك في الإنصاف بقوله:
[إحداهما: لا يباحُ، وهو المذهبُ] لأن الأصل وجوب مسح الرأس والعمامة ثبت الدليل باستثنائها، فبَقيَ ما عداها على الأصل من وجوب نزعه، ومسح الرأس عملاً بالآية الكريمة.
وأما اللفافة:
فهي ما يدار على العضو مثل: لفائف الأطباء في زماننا، وهي المسمّاة بالشاش فهذه لا يمسح عليها،
وكذلك لفائف الرجلين:
وهي التساخين، وذلك لأن الأصل يوجب غسل الرجلين، واليدين، والوجه، وجاءت الرخصة بالجبيرة فبقي ما عداها على الأصل، لكن يستثنى منها ما كان الضرر فيه، والمشقة كالجبيرة.
قوله رحمه الله:
[ولا ما يَسْقُط من القَدَمِ، أو يُرى منه بَعضُه]: ذكرنا أن من شرط المسح على الخفين أن يثبت بنفسه، فلا ينكشف من محل الفرض شيء، فإذا كان الخف لا يثبت، وينكشف من محل الفرض شيء؛ لم يصحّ المسح عليه لأنه مخالف لما ثبت في السنة بالرخصة في المسح عليه.
قوله رحمه الله: [فإنْ لَبِسَ خُفاً على خفٍ قبلَ الحدثِ، فالحكمُ للفَوْقَاني]: إختلف العلماء -رحمهم الله- في مسألة المسح على خفٍ،
فوق خف:
فقال بعض العلماء: الرخصة تختصّ بالخفّ إذا باشر القدم.
وقال بعضهم: يجوز المسحُ على خفٍ فوق خف أي لا يشترط أن يكون الخُفُّ على القدم مباشرة فدرج المصنف -رحمه الله- على هذا القول.
والأول أقوى، وذلك أن الذي ورد في السُّنة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسحه على خفٍ يلي محل الفرض، وعلى هذا لا يقوى القول بالمسح على خف فوق خف؛ لأنه يلي ما حُكْمه المسح.
لكن على القول بالجواز ينبني عليه أن الحكم للخف الفوقاني،
أي:
الأعلى منهما، وهكذا لو لبس أكثر من خف، وقيل بالجواز كان المسح للأعلى، وألحق به بعضهم العمامة على العمامة.
قوله رحمه الله: [ويَمْسحُ أَكثَر العِمامة]: لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسح على عمامته كما في حديث المغيرة -رضي الله عنه- ولم يحكِ المغيرة -رضي الله عنه- تكلّف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تتبعه للمسح لكورِ العمامةِ،
بل قال:
[ومَسحَ على ناصيته، وعلى العِمَامةِ]، فدلّ هذا على أنه إذا مُسح على العمامة فإنه يمسح أكثرها، ولا يُشترط في صحة المسح الاستيعاب، لما فيه من المشقة المخالفة للمقصود من الرخصة.
قوله رحمه الله:
[وظَاهرِ قَدمِ الخفِّ] المراد به بيان محل المسح في الخفين، وهو ظاهر الخفين، وعليه فإنه لا يجب مسح أسفلهما،
ودليل ذلك حديث علي رضي الله عنه الصحيح عند أبي داود أنه قال:
[لَوْ كَانَ الدِّين بالرّأي لكَان أَسْفَل الخفّ أولى بالمسح منْ أعلاه، وقد رأيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسحُ على ظاهرِ خُفّيهِ]، وفي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عند أبي داود،
والترمذي بسند حسن قال:
[رأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسحُ على ظهورِ الخفّين] فدلّ هذانِ الحديثانِ على أن الواجب مسحُ ظاهر الخفّ، وأعلاه، وأنه لا يجب مسح أسفله.
قوله رحمه الله: [مِنْ أَصابِعه إلى سَاقِه، دونَ أَسْفَلِه، وعَقِبِه]: قوله: [من]: للابتداء،
وقوله: [أصابعه] أي أصابع القدمين،
وقوله:
[إلى ساقه] أي: ينتهي المسح إلى السّاق، ومراده إدخال الكعبين؛ لأن إدخالهما كاملين لا يكون إلا بالشروع في أول الساق، وليس المراد مسح السّاق، لأن السّاق غير داخل في محل الفرض، وصورة المسح على الخفين: أن يُمرّ أصابع كفّيه مفرّقة على ظاهر الخفين، من أطراف أصابع القدمين إلى الساق، ولا يمسح العقبين، ولا أسفل الخفين لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يثبت عنه أنه مسح أسفل الخفين.
قوله رحمه الله:
[وعلى جَميع الجَبِيرَةِ]: هذا من الفوارق بين المسح على الخفين،
والمسح على الجبيرة أن في المسح على الجبيرة يجب عليه أن يستوعبها بالمسح إذا كانت محاذية لمحل الفرض مثل:
الجبيرة على الساعد بخلاف المسح على الخفين، فإنه لا يجب إستيعاب الخفين، بل يقتصر على مسح أعلاه، مع أن كلاً منهما محاذياً لمحل الفرض.
قال رحمه الله:
[ومتى ظهر بعض محل الفرض]: أي انكشف، سواء في المسح على الخفين، أو في المسح على الجبيرة فإنه يوجب انتقاض المسح، وذلك لعلّة ذكرها أهل العلم -رحمة الله عليهم-، وهي أنه إذا ظهر جزء من المستور الذي مُسح عليه بدل غسله، فقد توجه الخطاب في الشرع بغسله، ولا يستطيع أن يغسل؛ لأن شرط الموالاة قد فُقِدَ فإنّ مُضي المدة بين وضوئه الذي مسح فيه، وبين انكشاف العضو يقتضي بطلان شرط الموالاة، وإذا بطل شرط الموالاة تعذر أن يغسل، فيُرجع إلى الأصل من وجوب الوضوء عليه.
توضيح ذلك:
لو فرضنا أن إنساناً توضأ،
ثم نزع من خفه ما بان به محل الفرض فحينئذ نقول:
إنه في الأصل مطالب بغسل رجليه، وهو محل الفرض ورُخّص له بالمسح على خفيه بشرط أن يبقى على الصورة التي أذن الشرع بها من استتمام المدة، والخفّ ساتر، فإذا نزع، وانكشف جزء من محل الفرض، فقد توجه خطاب الشرع بالأصل، وهو غسل الموضع؛ لأنه فقد شرط المسح فلما توجه الخطاب بالأصل وهو غسل الموضع، وقد مضت فترة لا يمكن معها أن يتحقق شرط الموالاة حُكم بإنتقاض طهارته، وبطلانها، وكلُّ ذلك مبني على سبب فوات شرط الموالاة، ولذلك لو انكشف جزء من محل الفرض في الخفين، وكان قريب العهد بمسح الرأس كأن يكون مسح برأسه، ثم مسح على خفيه، وبعد دقيقة مثلاً إنكشف جزء من محل الفرض، أو خلع خفه؛ فإنه يمكنه أن يغسل رجليه، وتصح طهارته لأن شرط الموالاة لم يفقد فالعلة في المسألة هي فقد شرط الموالاة كما نبّه على ذلك الإمام الموفق -رحمة الله عليه- في المغني.
(1) البقرة، آية: 286.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 13-07-2020, 03:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,435
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (32)

صـــــ238 إلى صــ249


[باب نواقض الوضوء]

قوله رحمه الله: [مِنْ سَبيلٍ]: السبيل هو الطريق،
وقال بعض العلماء:
إن هناك فرقاً بين السبيل، والطريق،
فالسبيل بالنسبة للمعنويات كما في قوله تعالى:
{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (1) أي: ضلالهم وبُعدُهم عن طاعة الله -عز وجل-،
وقوله سبحانه:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} (2) أي: سبيل الخير قالوا: السبيل يختصّ بالمعنويات الذي هو الهداية،
والضلال:
تقول سبيلي طاعة الله -عز وجل- وسبيلي: اتباع الكتاب، والسُّنة هذا في المعنويات، وأما الطريق ففي المحسوسات، فلا يقال طريق للمعنويات، ولا يقال سبيل للمحسوسات إلا على سبيل التّجوز هذا قول بعض المفسرين يختاره في الفرق بين تعبير القرآن بالسبيل،
وتعبيره بالطريق وأورد عليه قوله تعالى:
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} فاستعمل السبيل بمعنى الطريق،
وعكسه في قوله سبحانه: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} وأجابوا بحملهما على المجاز.
قوله رحمه الله:
{مِنْ سَبِيلٍ}: للإنسان سبيلان: القبل، والدبر، وهذان السبيلان هما الأصل الذي عبّر العلماء بأن الخروج منه يوجب نقض الوضوء
قال رحمه الله:
[وخَارجٌ من بقيةِ البَدنِ إِنْ كَانَ بَوْلاً، أو غَائِطاً] أي: وينقض الوضوء الخارج من غير السبيلين إن كان بولاً، أو غائطاً، وهذا يدل على أن البول، والغائط إذا خرجا من غير المخرج المعتاد نقضا الوضوء، فإذا فتحت فتحة عوضاً عن مخرج البول المعتاد، وخرج منها البول نقض، وهكذا الغائط، ولم يفصّل رحمه الله في مكان المخرج؛ لأن العبرة عنده بالخارج، فيستوي أن تكون الفتحة فوق السرة أو تحتها لكن بشرط إنسداد الفتحة الأصلية،
وقوله:
[إن كان بولاً، أو غائطاً] تحقيق لنوعية الخارج، فإذا فتحت الفتحة، وخرج منها الخارج إن كان متغيراً كالبول، والغائط نقض، ومفهومه: أنه إذا خرج الشراب، أو الطعام من بقية البدن، ولم تكن فيه صفات البول، والغائط لم ينقض، فلو فُتِحت له الفتحة وخرج الشراب منها على حاله كاللبن ليس فيه صفات البول لم ينقض، وهكذا لو خرج الطعام غير متغير لم ينقض الطهارة، وهذا كله راجع إلى أن أصحاب هذا المذهب مذهب الحنابلة أنهم يرون خروج النجس من أيِّ موضع من البدن ناقضاً.
دليلهم على ذلك قالوا:
إنه ينزّل مَنْزِلة المستحاضةِ فإن المستحاضة خرج منها الدّم، وهو نجس من غير المجرى الذي هو مجرى البول فأوجب إنتقاض الوضوء، مع أنه من غير مجرى البول، وليس ذلك إلا لعلّة،
وهي كونه نجساً ففرّعوا عليه:
أن كل خارج نجس من سائر البدن ينقض، وهذا فيه نظر: فإن دم الإستحاضة إجتمع فيه المخرج، والخارج المخرج الذى هو القبل،
والخارج أي:
كونه نجساً، ولذلك نقول إنه إذا خرج من سائر البدن لم ينقض؛ لأنه لم يجتمع فيه الوصفان الموجبان لانتقاض الطهارة، وهما خروجه من المخرج، وكونه خارجاً نجساً بل وُجد فيه وصف واحد وهو كونه خارجاً نجساً، ولكنه ليس من الموضع هذا بالنسبة لمسألة أن كل خارج نجس من سائر البدن يوجب إنتقاض الوضوء.من الأدلة على أنه لا ينقض الوضوء، وهو من أقواها حديث عباد بن بشر -رضي الله عنه- لما قام على الشعب يحرسه، وجاءه السّهم العائِر فنزفَ، وهو يصلي، فلولا أنه خشي على صاحبه لما قطع صلاته، فأقرَّ على ذلك من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينكر عليه إستمراره في الصلاة، مع كون الخارج نجساً، لأنه لم يخرج من المخرج المعتبر فلم يوجد فيه الوصفان الموجبان لانتقاض الطهارة، فدلّ على أن خروج الدّم من غير السبيلين لا يوجب إِنتقاض الوضوءِ.
قوله رحمه الله: [أو كَثيراً نجساً غَيْرهما]: غيرهما أي: غير البول، والغائط، وهو الدم مثلاً، والنّجس غير البول،
والغائط يشمل أمثلة منها:
الدم، والقيح، والقيء، كلّ ذلك يعتبر نجساً، ويعتبر من النّجس الخارج من غير السبيلين، وهو من غير البول، والغائط، وجميعها ناقضة للوضوء.فأصحاب هذا القول ينظرون إلى صفة الخارج، لا إلى المخرج،
ومن هنا قال رحمه الله:
[منْ بَقِيةِ البَدنِ]، فمن قاء فقد إِنتقض وضوءه على هذا الأصل لأنه نجس خارج من البدن، ومن رعف انتقض وضوءه لأن الدم نجس فيوجب إِنتقاض الوضوء، وكذلك من خرج منه القيح؛ لأن القيح متولد من الدم، وما تولد من نجس فهو نجس والفَرْعُ يأخذُ حكمَ أصْلِه.
هذه الأمور كلها إذا خرجت أوجبت انتقاض الوضوء على الأصل الذي قررناه من كون الخارج النجس يوجب انتقاض الوضوء، وقلنا إن الصحيح أن الخارج النجس لا يُعتبر ناقضاً للوضوء؛ إلا القيء ففيه تفصيل واستثناء ثبت به الدليل.
لكن هنا شرط ذكره المصنف عبّر عنه بقوله: [كثيراً] فمفهوم قوله: [كثيراً] أنه لو كان قليلاً، لا ينقض الوضوء.وتفصيل ذلك: قالوا إذا خرج من الإنسان دم يسير؛ كالبثرة التي تسمى في عرف الناس اليوم بـ (الحبة) تكون على ظاهر الجسد فينزف الدم منها قليلاً، أو يعصرها فيُخرج دمها اليسير فإنه لا ينقض الوضوء، وأيضاً لو استاك فأدْمى لُثّته، فخرج دم قليل من طرف اللثة، أو جرح جرحاً صغيراً وخرج دم يسير هذا كله لا ينقض الطهارة لكونه يسيراً؛ لكن لو كان كثيراً انتقض وضوءه، إذاً يفرقون بين القليل، والكثير من النجاسات الخارجة من غير السبيلين.
فيرد السؤال:
ما هو الضابط الذي يفرق فيه بين القليل، والكثير عندهم؟
والجواب:
أن لهم أقوالاً متعددة منها: ما اختاره غير واحد، ومنهم الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله ونصّ عليه في المغني، والعمدة، وكذلك اختاره الزركشي من أئمة الحنابلة، وفقهائهم -رحمة الله عليهم-: أن الكثير ما لا يتفاحش في النفس أي الشيء الذي إذا رأيته لم تره كثيراً هذا اليسير، وضدّه الكثير، وحينئذ يرد إشكال، وهو أن الناس يختلفون فلو قلنا بهذا الضابط، فكيف نقدَره بنظر الناس؟
والجواب: أن أصحاب هذا القول رجعوا إلى إعتبار أوساط الناس من عقلائهم قالوا: فيخرج الموسوس والقصّاب.
أما الموسوس: فلأن أقل شيء عنده كثير -نسأل الله السلامة والعافية- يستعظم كل شيء، فهذا لا يُعتبر تفاحش مثله مؤثراً، وعليه أن يسأل من يثق به.
أما النوع الثاني: فالقصّاب، وهو الجزّار؛ لأنه يستهين بالدماء فالذي يتفاحش عنده شيء كثير، فهو معتاد على الدماء، فيخرج هذان النوعان القصاب، والموسوس،
قالوا:
فلا نلتفت لمن يُعظِّم الأمر، ولا لمن يُحقره؛ وإنما يُنظر إلى غالب الناس في أوساطهم.ومنهم من يحدُّه بالقطرة، والقطرتين، ومنهم من اعتبر في القيء ما يملأ الفم فنقض به، دون ما لم يملؤه.أما استثناء اليسير، وعدم نقض الطهارة به،
فدليلهم عليه:
أنه ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: أنهم عصروا البُثر، واغتفروا اليسير كما جاء عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقد عصر إِبن عمر بثرةً، ثم صلّى،
ولم ير بذلك بأساً قالوا:
فهذا يدل على أن القليل لا ينقض الطهارة.
قوله رحمه الله: [وزوالُ العَقْلِ] المراد به: ذهاب العقل، وبذهابه يزول الإدراك من الإنسان، فلا يعي الأمور،
ولا يعلمها كما قال تعالى:
{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فبيّن سبحانه أن السكران لا يعلم ما يقول، وأن السكر موجب لزوال الإدراك بالأشياء، وإذا كان الإنسان متطهراً، ومعه عقله إستطاع أن يعلم بخروج الخارج خاصة إذا كان من الريح، بعكس ما إذا زال فإنه قد يخرج منه الخارج ولا يعلم به، ومن هنا إعتبر الفقهاء رحمهم الله زوال العقل مظنةً للحدث بناء على اعتبار الشرع للنوم ناقضاً للوضوء كما سيأتي.
وزوال العقل يرجع إلى أربعة أسباب:
النوم، الجنون، والإغماء، والسكر،
وبيانها فيما يلي:
السبب الأول: النوم، وهو ناقض للوضوء في أصحّ أقوال العلماء رحمهم الله، وقد بينتها في شرح البلوغ وأن الذي يترجح هو القول باعتباره ناقضاً إذا زال معه الشعور؛
لما ثبت في حديث صفوان بن عسّالٍ المُرادِي رضي الله عنه قال:
[أَمَرنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كُنّا في سفرٍ ألا نَنْزعَ خِفَافَنا ثلاثةَ أيامٍ بِليَالِيهن من بولٍ، أو غائطٍ، أو نومٍ] فدلّ هذا الحديث الصحيح على أن النوم ناقض في الأصل حيث جعله كالبول، والغائط مساوياً لهما في نقض الطهارة لا من جهة دلالة الإقتران المجرّدة، بل بدلالتها المشاركة في الوصف، والحكم لأنه في سياق النص المبيّن للحدث، فدلّ على أن الأصل إعتباره ناقضاً،
وكذلك حديث علي رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
[العينان وِكَاءُ السَّهِ فإذا نامتِ العينانِ إستطلقَ الوِكَاءُ] ودلّ دلالة واضحة على أن العبرة في النوم بالشعور الذي يدرك معه الإنسان خروج الريح، فإذا غلبه النوم على ذلك نقض على ظاهر هذه السنة، ومن هنا فرّق بين النوم الذي يزول معه الشعور، وعكسه، وصارت هذه السنة أصلاً في نقض طهارة الوضوء بزوال الادراك والشعور بالخارج، وأكّد ذلك حديث إِبن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين لما بات مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند خالته ميمونة رضي الله عنها قال: [ثمَّ نامَ النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتّى نَفَخَ] ثم ذكر إستيقاظه ووضوءه ثم صلاته بالليل، فدلّ على أن النوم ناقض لأنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ بعد إستيقاظه، ولم يذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل الخلاء، ثمّ قوله رضي الله عنه: [حتى نَفَخَ] يؤكد أنّ النوم ناقض عند زوال الشعور بالخارج كما قدمنا، وإن كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنام عيناه، ولا ينام قلبه، ولكن هذا على سبيل التشريع لسائر الأمة.
السبب الثاني:
الجُنون، وبه يزول العقل كلّية، وهو ناقض للوضوء بالإجماع كما حكاه الإمام ابن المنذر رحمه الله، وغيره، وإذا كانت الأدلة قد دلّت على إنتقاض الوضوء بالنوم فإنّ إنتقاضه بالجنون أولى وأحرى، فتكون قد نبّهت بالأدنى على ما هو أعلى، وأولى بالحكم منه.
السبب الثالث: الإغماء: وبه يزول الإدراك أيضاً، وكثيراً ما يقع في حالات الصَّرع، وهو في حكم الجنون في كثير من مسائله، ولذلك حُكي الإجماع على إعتباره ناقضاً من نواقض الوضوء، ومستند هذا الإجماع دليل السنة في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [لما مَرِضَ مَرَضَ الموتِ أراد الصلاة فأغْمي عليه، فاغتسل ليصلي، ثم أغمي عليه، فأفاق، فاغتسل] فدلّ على أن الإغماء ناقض للطهارة الصغرى، والكبرى.
السبب الرابع من زوال العقل: السُّكر سواءً كان بسبب مباح، وهو أن يسكر على وجه يعذر به شرعاً مثل: أن يشرب شراباً يظنه ماءً فيسكر، فإنه معذور في سكره للجهل، أو يسكر على وجه محرم شرعاً كأن يشرب المسكر، والمخدر، على وجه لا يعذر به شرعاً والعياذ بالله عالماً به ففي كلتا الحالتين لو شرب ما يزيل عقله من المسكرات، والمخدرات -أعاذنا الله وإياكم منها- فإنه يحكم بانتقاض وضوئه على تفصيل حاصله أن السكر له ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: يسميها العلماء الهزة، والنشاط، والطرب، وهي أول ما يكون لمن شرب الخمر -والعياذ بالله-.
والمرتبة الثانية:
أقصى درجات السكر، وهي أن يسقط كالمغشي عليه لا يعرف الأرض من السماء ولا يعي ما يقول، ولا ما يقال له كالمجنون.
والمرتبة الثالثة: وسط بين المرتبتين.فاعلم -رحمك الله- أنه إذا كان السكران في بداية السكر، وهي الهزّة، والنشاط فإنّه مكلف إجماعاً؛ لأنه في حكم المستيقظ، فإذا فعل أيَّ فعل في بداية سكره عند هزته، ونشاطه فإنه يحكم بمؤاخذته؛ لأن الأصل فيه أنه مكلف حتي يؤثر فيه المؤثر، وهو هنا لم يبلغ الدرجة التي يؤثر فيه السكر فيها وكذلك الحال بالنسبة للطهارة فإنه باق على الأصل فيها في هذه المرتبة، ما دام أنه يشعر بالخارج.
أما المرتبة الثانية: وهي أن يبلغ منه السكر غايته كأن يسقط كالمجنون فهذا لا يؤاخذ إجماعاً، وحكمها في الطهارة أنها موجبة لانتقاض الطهارتين الصغرى، والكبرى؛ لأنه كالمجنون.
وأما الحالة الثالثة: وهي المترددة بين الحالتين فهي التي فيها الخلاف بين العلماء في السكران هل هو مكلف، أو غير مكلف؟ وهي هنا توجب إنتقاض الطهارة، فإذا سكر -والعياذ بالله- المتوضيء فإنه يحكم بانتقاض وضوئه، ويلزمه أن يعيده على هذا التفصيل.
قوله رحمه الله: [إلا بيسيرَ نومٍ مِنْ قَاعدٍ]: استثنى المصنف رحمه الله النائم إذا كان قاعداً، فلم يحكم بانتقاض وضوئه لحديث أنس رضي الله عنه في الصحيح قال: " كان الصّحابةُ ينتظرونَ العِشَاء حتى تَخْفِقَ رؤُوسُهم ثم يُصلون، ولا يَتوضّؤُون ".
وقوله رحمه الله: [أو قائم]: لأن اليسير من القائم في حكم اليسير من القاعد، لا فرق بينهما، وهذا مبني على الفرق في النوم بين اليسير، والكثير.والذي يترجح في هذه المسألة أن العبرة بالشعور، سواء طال النوم، أو قصر لأن السنة في حديث علي رضي الله عنه المتقدم دلت على أن سبب اعتبار النوم ناقضاً هو زوال الشعور، وهو ما يدل عليه النظر أيضاً لأن النوم ليس بحدث بذاته وإنما هو مظنة الحدث فاعتبر فيه الوصف المؤثر، وهو زوال الشعور بالخارج. ثم إن هذا القول تجتمع به الأحاديث المتعارضة كما بيناه في شرح البلوغ، وعليه فيستوي أن يكون قائماً، أو قاعداً المهم هو زوال الشعور.قوله رحمه الله: [ومس ذكر متصل]: أي أن من نواقض الوضوء مسّ الذكرِ سواءً قصد الشهوة عند مسّه، أو لم يقصدها، وسواء وجد اللّذة، أو لم يجدها، فمن مسّ الذكر وجب عليه أن يعيد وضوءه لما ثبت في حديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: [من مس ذكَرَه فَلا يُصلّي حتّى يتوضّأَ] وجه الدلالة من الحديث: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بالوضوء من مس الذكر مطلقاً.
وقال بعض العلماء: من مس ذكره فلا ينتقض وضوؤه لحديث قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي الحنفي -رضي الله عنه- أنه أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو يبني المسجد، فسأله عن مسِّ الذكرِ؟
فقال عليه الصلاة والسلام:
[وهَلْ هُو إِلا بضعةٌ مِنْك].
قالوا:
إن هذا الحديث دلّ على أن مسّ الذكر لا يوجب إنتقاض الوضوء.والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول بنقض الوضوء بمسِّ الذّكر لقوة دلالة السُّنة على ذلك،
وأما حديث طلقٍ رضي الله عنه فيجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أنه منسوخ؛ لأن طلق بن علي الحنفي رضي الله عنه قدم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند بناء مسجده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول قدومه للمدينة، وسأله هذه المسألة؛ كما جاء في نفس الحديث، وحديث: [من مس ذَكرَه] رواه المتأخرون إسلاماً من الصحابة؛ كبُسرةَ بنت صفوان، وأبي هريرة رضي الله عن الجميع،
وإذا تعارض حديثان:
أحدهما: من رواية متأخر الإسلام، والآخر من رواية متقدمٍ في إسلامه، قدّمت رواية المتأخر في إسلامه، خاصّة، وأن حديث طلق رضي الله عنه كان عند أول قدومه عليه الصلاة والسلام للمدينة، فيكون بعد الهجرة مباشرة، وأبو هريرة رضي الله عنه أسلم عام خيبر، وهذا يقوي القول بالنسخ كما إختاره بعض الأئمة، كابن حبان، والطبراني، وابن العربي، والحازمي في كتابه الإعتبار، وغيرهم، وإذا لم يكن هذا المسلك صريحاً في إثبات النسخ إلا أنه يُقَوِّي مسلك الترجيح لحديث بسرة على حديث طلق رضي الله عنهما.ثم إن حديث بسرة رضي الله عنها ناقل عن الأصل، لأنه أوجب الوضوء؛ بخلاف حديث طلق رضي الله عنه حيث بقي على الأصل الموجب لعدم الإنتقاض، واختار جمع من علماء الأصول،
والفقهاء أنه:
إذا تعارض نصّان أحدهما: ناقل عن الأصل،
والآخر:
عكسه، فإنه يقدّم النّص النّاقل؛ لأن فيه زيادة علم، وحكم؛ فصار راجحاً على غيره.
الوجه الثاني: أن يجُمع بين حديث طلق بن علي رضي الله عنه، وبين حديث بسرة رضي الله عنها فيكون سؤال طلق بن علي رضي الله عنه عن مسّ الذكر من فوق الثوب،
فقال له عليه الصلاة والسلام:
[وهَلْ هُو إِلا بَضْعة مِنْك] أي: إذا مسسته بحائل فكأنك لمست يداً، أو نحو ذلك من الأعضاء.
وأما إذا لمسه مباشرة فإنه يحُمل عليه حديث: [مَنْ مَسّ ذكرهُ فَلْيَتَوضّأ] وقد صحّح غير واحد من أهل العلم منهم الإمام أحمد، وأبو زرعة، حديث الأمر بالوضوء من مس الذكر، وصوّبه الإمام البخاري -رحمه الله-، فلذلك يقوى الحكم بأن مسَّ الذكر يوجب انتقاض الوضوء.
إذا ثبت أن مس الذكر يوجب انتقاض الوضوء فيستوي في ذلك ما يلي:
أولاً: أن يكون بشهوة، أو بدون شهوة،
ودليل ذلك عموم قوله:
[مَنْ مَسّ] حيث لم يفرق بين قصد الشهوة، ووجودها، وعدم ذلك.
ثانياً: أن من مسّ حلقة الدبر إنتقض وضوئه؛
وذلك لعموم قوله:
[من مس فَرْجَه] في حديث أم حبيبة رضي الله عنها، والفرج يشمل القبل، والدبر.
ثالثاً: أنّ هذا الحكم يشمل المرأة،
وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام:
[من مس فرجه]،
فإن قوله:
[مَنْ] من صيغ العموم عند الأصوليين تشمل الرجال،
والنساء وقوله:
[فرجه] يشمل عضو الرجل والمرأة قبلاً كان، أو دبراً.
رابعاً:
أن هذا الحكم يستوي فيه أن يمسّ فرجه، أو يمسّ فرج غيره،
وكونه عليه الصلاة والسلام يخصه بقوله:
[فرجه] يكون مخرجاً على كونه خرج مخرج الغالب، فلا يعتبر مفهومه.
خامساً:
أنه عام يشمل الصغير، والكبير، فلو مسّت المرأة فرج صبيها، أو صبيتها انتقض وضوءها، وذلك لعموم الخبر من جهة المعنى.
سادساً: أنه يَخْرج من هذا مسّ المنفصل فقال بعض العلماء: لو قُطِعَ العضو، فَمس؛ لم يأخذ الحكم.
(1) الأنعام، آية: 55.
(2) يوسف، آية: 108.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 13-07-2020, 03:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,435
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (33)

صـــــ250 إلى صــ262


[باب نواقض الوضوء]

قوله رحمه الله: [بظهر كفِّه، أو بَطْنِه]: وهذا اختيار بعض العلماء،
وخالفهم غيرهم فقال:
إن العبرة بباطن الكف لقوله عليه الصلاة والسلام: [منْ أَفْضَى بِيده إلى ذَكرِه]؛ والإفضاء يكون بباطن الكف، لا بظاهرها،
وفي قوله:
[من أفضى] فيه إشعار بالقصد بخلاف ظاهر الكف الذي يقع فيه المكان من غير قصدٍ غالباً.
قوله رحمه الله: [ولمْسُهُما منْ خُنثى مُشكِلٍ]: [ولمسهما]: أي لمس العضوين،
وقوله:
[من خُنثى مشكلِ] أي: يوجب انتقاض وضوء الخنثى مشكل إذا حصل منه مس العضوين وهكذا غيره إذا لمسهما من الخنثى المشكل لأن لمس أحدهما موجب للشك هل هو عضو زائد، أو حقيقي، فإذا لمس عضوي الذكورة، والأنوثة تحققنا من لمسه للفرج الأصلى فانتقض الوضوء.
قوله رحمه الله: [ولمس ذكرٍ ذكره، أو أنثى قبله] هذا راجع إلى الشخص الممسوس والأول راجع إلى الشخص اللامس.
[لشهوة فيهما]: سواءً مَسّ أو مُسّ؛
لكن هنا في الحالة الأخيرة قال:
[لشهوة] فجعل الحكم مرتبطاً بالشهوة كما ذكرناه، فإن لم توجد الشهوة فإنه لا يحكم بالانتقاض بالنسبة للممسوس، وهذا بالنسبة للخنثى مبني على الشك فيه، فإن لمسه ذكر بشهوة انتقض الوضوء للمس في أصل مسألته، لأنه لمس لأنثى بشهوة، لأن الأصل في الخنثى أنه أنثى، وهكذا الحكم في لمس الأنثى لفرج الخنثى، لأنه مس لفرج الغير، واعتبرت الشهوة تقوية للحكم بالنقض في الصورة الثانية دون الأولى، لأن الأولى الشهوة فيها موجبة للنقض سواء مس الذكر الفرج، أو غيره.
قوله رحمه الله: [ومسه امرأة بشهوة]: معناه أن من نواقض الوضوء أن يمس الرجل المرأة بشهوة، وقد اختلف العلماء -رحمهم الله-
في هذه المسألة:
فمنهم من قال: لمس النساء كله ينقض الوضوء سواءً كانت محرماً، أو غير محرم، وسواءً وجد الشهوة، أو لم يجدها،
وهذا القول إِحتج أصحابه بظاهر قوله تعالى:
{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) قالوا: إن الله -عز وجل- حكم بانتقاض الوضوء بلمس النساء، حيث ذكره مع النواقض.
وقال طائفة من العلماء:
إن لمس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يصلي بالليل، وعائشة -رضي الله عنها- معترضة بين يديه قالت: [فإذَا سَجَدَ غَمَزَني]،
ولما ثبت أيضاً في الحديث الصحيح أنها قالت:
إفتقدت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجالت يَدي فوقعت على قدمه ساجداً يقول: [يا مُقَلّبَ القُلوبِ ثَبّتْ قَلْبِي عَلى دِينِكَ] قالوا: فهذا يدل على أن لمسها ولمسه لها لا يوجب إنتقاض الوضوء؛ ولأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حمل أمامة بنت أبىِ العاص في الصلاة قالوا: ولم ينتقض وضوءه، ولِمَا جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- من تقبيله بعضَ نسائه قبل خروجه إلى الصلاة كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالوا: فمجموع هذه النصوص يدلّ على أن لمسَ النّساء لا يوجب إنتقاض الوضوء.
وجمع بعض العلماء بين القولين فقالوا: إن لمسَ النساء يُوجب إنتقاض الوضوء إذا وجد الشهوة، أو قصدها، ولا يوجب انتقاض الوضوء إذا لم يجد الشهوة،
وحملوا قوله تعالى:
{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} على الجماع، والسياق، والسباق دال عليه، والقاعدة (أن السِّياق، والسِّباق محكم)، وسباق الآية، وسياقها يدل على أن المراد بـ {لَامَسْتُمُ} الجماع ثم زيادة المبنى في قوله: {لَامَسْتُمُ}،
والقاعدة: (أنّ زيادةَ المبْنى تَدُلُّ على زِيادَةِ المعْنَى)، والسُّنة تصرف {لَامَسْتُمُ} من ظاهرها إلى هذا المعنى الذي يقويه السياق والسباق مع قرينة اللغة كما ذكرنا.
وبناءً على ذلك قالوا: وجود الشهوة، والإحساس بها مظنّة الحدث أي ينزّل منزلة الحدث.
وفرَّع بعض العلماء على هذا تفريعات ولكن لا يقوى الدليل عليها كقول بعضهم: إن مجرد النظر إلى المرأة كزوجته لو نظر إليها بشهوة انتقض وضوءه بل قال بعضهم: بأن النظر إلى الأمرد بشهوة يوجب إِنتقاض الوضوء، والذي يقوى كما قدمنا أن العبرة بالحدث نفسه إلا ما استثناه النص من تنزيل المظنة منزلة الحدث كالنوم،
وأما ما عداه فيبقى على الأصل لظاهر السُّنة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
[لا يَقْبلُ الله صَلاةَ أَحدِكُم إِذَا أَحْدَث حَتّى يَتوضّأَ] فنبقى على الأصل من طهارته، وأما مظنات الحدث الضعيفة لا يقوي اعتبارها.
قوله رحمه الله: [أو تمسُّه بها]: أي بشهوة فالضمير عائد إليها، فإذا مسته المرأة بشهوة فإنه يحكم بانتقاض وضوئها كالرجل.
قوله رحمه الله: [ومسُّ حلقةِ دبرٍ]: لقوله -عليه الصلاة والسلام-
في حديث أم الؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها:
[من مسّ فَرْجَه] قالوا: دل على أن الدبر منزَّلٌ منزلة القبل، ولذلك يحكم بانتقاض الوضوء بمسه، وظاهر قولهم القبل، والدبر يختصّ بالآدمي فلو مسّ فرج حيوان؛ فإنه لا ينتقض وضوءه،
وقال بعض السلف:
إنه لو مس فرج بهيمة فإنه يحكم بانتقاض وضوئه؛ ولكنه مذهب ضعيف، والجماهير على أن مس الفرج يختصُّ بالآدمي دون غيره.
قوله رحمه الله: [لا مسّ شَعرٍ، وظُفْرٍ]: إذا قلنا إن مس المرأة يوجب انتقاض الوضوء فأعضاء المرأة تنقسم إلى قسمين عند العلماء:
الأول: ما هو متصل.
والثاني:
ما اختلف فيه هل هو في حكم المتصل، أو المنفصل.فإذا تقرر أن اللمس يؤثر فلا إشكال في تأثيره في الأعضاء المتصلة كاليد، والصدر، والرِّجْل،
ونحوها ولكن يرد السؤال:
عن الأعضاء التي اختلف فيها كالشعر، والظفر؟
فقال بعض العلماء:
شعر المرأة في حكم المنفصل، وليس في حكم المتصل، وهي قاعدة تكلم عليها الأئمة ومنهم الإمام ابن رجب في القواعد الفقهية تقريباً الخامسة أو السادسة هل شعر الإنسان، والحيوان في حكم المتصل، أو المنفصل؟ وكذلك العظم؟ وجهان، ثم ذكرهما رحمه الله.
فإن قلنا: شعر الإنسان في حكم المتصل ينتقض الوضوء بلمسه، وإن قلت شعر الإنسان في حكم المنفصل فإنه لا ينتقض بلمسه الوضوء.
وتتفرع على هذا مسائل:منها: إن قلنا: شعر المرأة في حكم المنفصل فلو غطّت به وجهها في الإحرام وجبت عليها الفدية؛ لأنه منفصل عنها، وليس بمتصل، ويتفرع عليها إن قلنا إنه منفصل لو لمسه المتوضيء لا يحكم بانتقاضه لأنه في حكم المنفصل، أما لو قلنا إنه في حكم المتصل وسدلت شعرها على وجهها حتى غطته عن الشمس فإنه في حكم المتصل، ولا يوجب الفدية عليها، وإن قلت إنه في حكم المتصل، ولمسه الرّجل فإن اللمس يوجب إنتقاض الوضوء، فدرج المصنف رحمه الله على أن الشعر في حكم المنفصل، وهو قول الجمهور رحمهم الله وليس في حكم المتصل، والدليل على ذلك النقل والعقل.
أما النقل: فإن الشعر إذا جزَّ من البهيمة، وهي حية فهو طاهر،
وليس بنجس لقوله تعالى:
{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا}، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن ما أبِينَ من الحيّ فهو كميتتِهِ فلما أُبين الشعر، ولم يحكم الشرع بنجاسته بكونه كميتة البهيمة دل على أنه ليس من أجزائها المتصلة، بل هو في حكم المنفصل، بخلاف ما لو قطعنا يد البهيمة، أو رجلها فإنها بالإجماع نجسة كميتتها.فدلّ هذا الدليل النقلى على أن الشعر في حكم المنفصل من الحيوان، لا في حكم المتصل.
وأما دليل العقل: فهو النظر حيث إن الشعر ليس فيه حياة روح، وألم وإنما فيه حياة النمو فقط، ولذلك لو أحرق طرف شعره لم يشعر بالألم، وهكذا إذا قصّه بخلاف بقيّة أعضاء البدن، وأجزائه.
وبهذا يتقرر أن الشعر في حكم المنفصل، لا في حكم المتصل،
فإذا قلنا:
إن لمس المرأة ينقض الوضوء فلمس شعرها لم ينتقض وضوؤه على الصحيح، ومن فوائد ذلك أنه لو طَلقَ شعرها لم تطلق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قوله رحمه الله: [وظُفُرٍ]: كذلك الظفر لأن كلاً من الشعر، والظفر الحياة فيهما حياة نمو، وليست بحياة روح؛ فلو أحرقت ظفراً فإنه لا يسري الألم إلا بعد فترة فدلّ على أنه كالشعر ليست حياته حياة روح؛ ولكنها حياة نمو كالشعر، فلمسه من المرأة لا ينقض وضوء الرجل اللامس له.
قوله رحمه الله: [وأمردٍ]: معناه أن الأمرد إذا نظر إليه فإنه لا ينتقض وضوءه، وهذا أقوى من جهة الأصل لما ذكرنا أن الأصل طهارة الناظر حتى يدل الدليل على إنتقاضها، ولا دليل على ذلك، ومحل الخلاف إذا نظر إليه بشهوة أما إذا لم يكن بشهوة فلا ينقض إجماعاً، وكلهم متفقون على حرمة النظر إلى المردان بالشهوة، والخلاف في إنتقاض الوضوء، وعدمه، والجماهير على عدم الانتقاض بالنظر إليه بشهوة.
قوله رحمه الله: [ولا مع حائل]: أي أن من شرط نقض الوضوء باللمس أن لا يكون هناك حائل بين بشرة المرأة، وبشرة الرجل اللامس، فإذا وجد حائل فإنه لا ينتقض الوضوء، وضبط بعضهم الحائل بما لا تنتقل معه حرارة البدن.
قوله رحمه الله: [ولا ملموس بدنه, ولو وجد منه شهوة]: أي أن النقض يختص باللامس دون الملموس فالمرأة على هذا لا ينتقض وضوؤها إذا لمسها الرجل، وقوله (ولو) إشارة إلى وجود القول المخالف، وهو الذي يقول بنقض وضوء الملموس بشرط أن تجد المرأة الملموسة الشهوة.
قوله رحمه الله:
[وينقض غسل ميت]: أي وينقض الوضوء غسل الميت؛ فمن غسّل ميتاً فإنه ينتقض وضوءه، وفيه حديث السنن عند البيهقي والدارقطني بسند ضعيف، ولا يصح فيه حديث كما قاله الإمام أحمد، وغيره من أئمة الجرح، والتعديل، وقد ذكرنا هذه المسألة في شرح بلوغ المرام وذكرنا الكلام في هذا الحديث، وأن الذي يترجح هو القول بعدم إنتقاض الوضوء،
وأنه يبقى على الأصل من كونه طاهراً لما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
[لا يَقْبلُ الله صلاةَ أَحدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حتى يَتوضَّأَ]؛ وتغسيل الميت ليس بحدث، وليس في معنى الحدث لعدم ثبوت النصّ بانتقاض الوضوء به.
قوله رحمه الله:
[وأكلُ اللحْمِ خاصةً من الجَزُور]: كان في أول الإسلام إذا أكل الإنسان اللحم وجب عليه أن يتوضأ لقوله عليه الصلاة والسلام: [تَوضّئوا مما مَسّتِ النّار] فأمر بالوضوء من كل شيء طُبِخَ في النار، ثم نسخ ذلك، وبقى في الجزور لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيل له: أنتَوضّأُ من لحومِ الغَنمِ؟
قال: " إنْ شئت "
قيل له: أنتوضّأُ من لحومِ الإِبلِ؟ قال: " نعم " فنصّ -عليه الصلاة والسلام- على وجوب الوضوء من لحوم الإبل، دون غيرها.وذهب طائفة من العلماء إلى أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل منسوخ، وهو مذهب مرجوح،
واحتجوا له بحديث جابر رضي الله عنه قال:
[كانَ آخرُ الأمرينِ مِنْ رسولِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تركُ الوضوءِ مما مسّتِ النارُ] وهذا الحديث الذي ذكروا أنه ناسخ فيه علّة أشار إليها ابن أبي حاتم -رحمة الله عليه-
في كتابه العلل في الجزء الثاني وهي:
أن هذا الحديث أصله أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكل كَتِفَ شاةٍ، ثم صلّى، ولم يتوضّأ، فرواه الرّاوي بالمعنى فعمّم، وإلا فهو خاصُّ بالغنم، فلا يقوى على معارضة النصِّ الصريح المتقدم، ولذلك يبقى الحكم أن من أكل لحم الجزور يجب عليه أن يعيد الوضوء.
ويرد السؤال: هل إذا شرب لبن الجزور يجب عليه أن يعيد وضوءه؟
الجواب:
لا، وحديث الأمر بالوضوء من لبن الجزور ضعيف.واختلف في الكبد والسنام؟
فقال بعض العلماء: إنه يتوضأ منها؛ لأن ذكر اللحم خرج مخرج الغالب، فلم يعتبر مفهومه، كقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} فقوله: {لَحْمَ خِنْزِيرٍ} لا مفهوم له؛ لأن الخنزير كلّه حرام لحمه، وشحمه، كذا هنا فالسائل سأل عن الغالب، مع أن النصّ إذا ورد في جواب السؤال لم يعتبر مفهومه أيضاً،
وقيل:
إنه لا يتوضأ منها وهو أقوى من جهة النص فإن السؤال ورد على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنتوضأ من لحوم الإبل؟ فنص على اللحوم، ولم يذكر الكبد، ولا بقية أجزاء الإبل كالسنام ونحوه فإنه ليس بلحم؛ وإنما هو شحم فمن أكل سنام البعير لا يدخل في هذا الحكم، وهكذا من شرب لبن الإبل فإنه لا يحكم بانتقاض وضوءه؛ لأن الأصل الطهارة حتى يدل الدليل على انتقاضها ولا دليل، والدليل إنما ورد في اللحم فيبقى الحكم مقصوراً عليه.
وهنا مسألة وهي قول بعض العلماء:
يجب الوضوء من لحوم الإبل؛ لأن فيها زهومة، وقوة، فلو أكل لحم السباع وجب عليه أن يتوضأ؛ لأن فيها ما في الإبل من القوة.
وقد يرد السؤال: كيف يأكل لحم السبع، وقد حرم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكل كلِّ ذي نابٍ من السِّباع؟
والجواب:
تتأتى صورة المسألة فيما لو كان الإنسان في مخمصة فاضطر إلى أكل لحم أسد أو سبع وكان متوضئاً قبل ذلك فحينئذٍ يرد السؤال: هل انتقض وضوءه كالحال في لحم الإبل، أو لم ينتقض؟
وأصح الأقوال:
أنه لا ينتقض وضوؤه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم.
قوله رحمه الله: [وكُلُّ ما أَوْجَب غُسْلاً أَوجَبَ وضُوءَاً إِلا الموتَ]: هذا قول بعض العلماء أن إنتقاض الطهارة الكبرى يوجب انتقاض الطهارة الصغرى، ومن ذلك خروج المني يوجب انتقاض الوضوء، وهكذا لو جامع أهله إنتقض وضوءه فكلُّ ما أوجب الطهارة الكبرى يوجب الطهارة الصغرى،
وبناءً على ذلك قالوا:
يجب عليه الوضوء من موجبات الغسل إلا الموت فإنه لا يوجب الوضوء فإذا مات الميت لا يجب أن يُوضّأ لما ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال في الرجل الذي وقصته دابته: [إِغْسِلُوه بِمَاءٍ، وسِدْرٍ، وكفّنُوه في ثَوبيهِ، فإنه يُبْعثُ يومَ القِيَامةِ مُلَبّياً] قالوا: فدل هذا على أنه لا يجب على الميت أن يُوضّأ، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في غسل إِبنته زينب رضي الله عنها: [ابدأْنَ بِمَيامِنهَا، وبِأعْضَاءِ الوُضُوءِ مِنْها] وهذا يدل على الاستحباب لا على الحتم، والإيجاب بقرينة البداءة بالميامن إذ لو كان الوضوء واجباً لقدّمه على ذكر الميامن، ولقال: (إِبْدأنَ بِأَعْضَاءِ الوضُوءِ مِنْها، وبمَيامِنها) لأن الواجب مقدم بحكم الشرع على ما دونه.
قوله رحمه الله: [ومَنْ تَيقّنَ الطّهارةَ، وشَكَّ في الحَدَثِ، أو بالعَكْسِ بَنَى عَلى اليَقِينِ]: بعد أن بيّن رحمه الله أنواع الأحداث الموجبة لإنتقاض الطهارة شرع في مسألة مهمة تعمّ بها البلوى، وهي مسألة الشكّ في الطهارة، والحدث،
فقال رحمه الله:
[ومنْ تَيقّنَ الطّهارةَ، وشكَّ في الحَدثِ] اليقين هو أحد مراتب العلم الأربعة وهي: اليقينُ، والظنُ، والشَّكُ، والوهْمُ،
فاليقين:
هو أعلى مراتب العلم، ثمّ يليه الظنُ، ثم الشَّكُ، ثم الوهْمُ،
فالوهم:
بداية العلم بالشيء قدّروه من 1% إلى 49% فهو الظنُّ المرجوح يقابل الظنَّ الرَّاجح، وأما الشك: فهو إستواء الإحتمالين، ومقدّر بـ 50% وحدها؛ لأنها الدرجة التي تستوي فيها النِّسْبَتان، وأما الظنُ فهو أرجح الإحتمالين، ولذلك يُعبِّرُ عنه البعضُ بغالب الظنِ، وقدّروه من 51% إلى 99%،
وأما اليقين:
فهو تمام العلم بالشيء، وكماله بحيث لا يكون معه أيُّ إحتمال معارض، وهو في نسبة التمام 100%.وعلى هذا فإن الإنسان إذا كان متطهراً، وشكَّ في خروج الريح منه، أو شكّ هل قضى حاجته بعد هذا الوضوء،
فيكون محدثاً فإننا نقول له:
إِعْمَلْ باليقين، وهو الطّهارة، وألغ الشك وهو الحدث، واحكم بكونك طاهراً حتى تستيقن أنك أحدثت، وكذلك العكس، فلو أنه أحدث، ثمّ شَكّ هل توضأ بعد حدثه، أو لا؟
فإننا نقول له:
أَعمل اليَقِينَ، وهو الحدث وأَلغِ الشَّكَ وهو الطهارة، واحكم بأنك ما زلت محدثاً حتى تستيقن أنك توضأت.
ودليل هذا الحكم:
حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: شُكي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجلُ يُخيَّل إليه أنه يَجدُ الشّيءَ في الصّلاةِ؟ أي: شكا أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الرجل إذا قام يُصلّي خُيل إليه أَنّ الريحَ قد خرجت، فانتقض وضُوؤه فقال عليه الصلاة والسلام: [لا يَنْصرفْ حتّى يسمعَ صَوْتاً، أو يجدَ رِيحاً] فمن رحمة الله -عز وجل- بالعباد أنه قطع الوساوس، والشكوك، ولو فُتح باب الوسوسة، والشك لتعذّب الناسُ، ولحصل بهم من الضرر ما الله به عليم، فلو أن الإنسان بمجرد الوسوسة ينتقض وضوءه لما استطاع أحد أن يصلي؛ لأنه بمجرد أن يتطهر يتسلّطُ عليه الشيطان بوساوسه، ولذلك جزم الشرع باعتبار الأصل، وألغى الشك، وإنبنت على هذا قاعدة مشهورة عند أهل العلم، وهي إحدى قواعد الفقه الخمسة،
وهي قولهم:
" اليقينُ لا يُزَالُ بِالشّكِ " والتي من فروعها قولهم: " الأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلى مَا كَانَ " فالأصل أنك متوضئ، وشككت في الحدث، فالأصل بقاء الوضوء على ما كان عليه، فتقول: أنا متوضئ حتى استيقن انتقاض الوضوء، والعكس بالعكس، فلو أن إنساناً قضى حاجته قبل صلاة المغرب مثلاً، وشكَّ هل توضأ بعد ما قضى حاجته، أو لم يتوضأ؟
فإننا نقول: اليقين أنه محدثٌ، والشّكُ أنه مُتوضّئٌ فيطالب بفعل الوضوء؛ لأن اليقين فيه أنه محدثٌ، والأصل بقاء ما كان على ما كان.
وهنا مسألة: وهي أننا عرفنا أنه لو تيقن الوضوء وشك في الحدث فإنه يحكم بكونه متوضئاً ولو تيقن الحدث وشك في الوضوء فإنه يحكم بكونه محدثاً،
فلو أن إنساناً قال لك:
أنا متأكد أنني توضأت ومتأكد أنني أحدثت ولكن لا أدري أيهما السابق؟ فما الحكم؟
والجواب:
أننا نطالبه بالتذكر قبل الحدث، والوضوء فإذا تذكر شيئاً جزم بعكسه،
فنقول له:
ما الذي تتذكر قبلهما؟ قال: أتذكر أنني قضيت الحاجة، فنقول: إذاً تيقنا حدثاً قبل الاثنين، وتيقنا بعد ذلك الحدث طهارة فأنت على يقين من كونك متطهراً، حتى نجزم بأن الحدث المصاحب لاحقٌ غير سابقٍ، والواقع أننا لا نعلم حاله فنبقى على اليقين الموجب للحكم بالطهارة، ونلغي ذلك الحدث المصاحب لها لأنه لم يثِبت تأثيره في تلك الطهارة لإحتمال أنه تكرر حدثه قبل طهارته المستيقنة.
هذا معنى قول العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: يؤمرُ بالتّذكر قبل الحدث، والطهارة،
ويأخذ بالعكس ولو قال:
أتذكر قبلهما وضوءاً،
وطهارة أيضاً أي:
أنا على يقين أنني قبل الظهر قضيت الحاجة، وتوضأت ولا أدري السابق، وعلى يقين أنني توضأت للضحى، وأنني أحدثت، ولكن لا أدري أقبل صلاة الضحى، أو بعد صلاة الضحى؛ تقول بنفس الحكم يؤمر بالتذكر قبل الاثنين أي قبل الشك الأول،
وقبل الشك الثاني ثم يؤخذ بالمثل فلو قال:
عند شروق الشمس كنت على طهارة صلاة الفجر، وصليت ركعتي الإشراق فنقول: قد تيقنت بعد ذلك الوضوء حدثاً، وهو الحدث الأول، وتيقنت طهارة في الحدث الثاني، وشككت في تأثير الحدث عليه إذاً فأنت الآن متطهر،
ومن ثم قالوا:
في الأوتار يحكم بالعكس، وفي الأشفاع يحكم بالمثل يعني يؤمر بالتذكر فإن كانت الحالات شفعية يُؤخَذُ بالمثل، وإن كانت وترية يُؤخَذ بالعكس، فهذا هو معنى قوله رحمه الله:[فإن تَيقنَهما، وجهلَ السابقَ، فهو بضدِّ حاله قَبلَهما]: لأن الحالة وترية فيأخذ بضدها كما سبق بيانه.
قوله رحمه الله: [ويَحرُم على المُحدثِ مسُّ المُصْحَفِ، والصلاةُ، والطّوافُ]: شرع رحمه الله في هذه الجملة في بيان موانع الحدث الأصغر فقال: [ويَحْرمُ على المحدثِ مس المُصْحفِ]، وهو القرآن فلا يجوز له مسّه، ولا حمله،
ولا فتحه دليل ذلك ظاهر القرآن على أحد القولين في تفسير قوله تعالى:
{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (2) وإن كان الصحيح أن المراد به: اللوح المحفوظ، وأنه لا يمسّه إلا الملائكة لكي ينفي الله -جل وعلا- تسلّط الشياطين على الوحي كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} (3) فالآية الصحيح أنها محمولة على اللوح المحفوظ؛ لكن فيها وجه عند أهل العلم بحملها على المصحف، وعليه فاستدلوا به على حرمة مسِّ المحدث للقرآن.
(1) النساء، آية: 43.
(2) الواقعة: آية: 79.
(3) الشعراء، آية: 210 - 211.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 13-07-2020, 03:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,435
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (34)

صـــــ263 إلى صــ275


[باب نواقض الوضوء]

أما الدليل الثاني: فحديث عمرو بن حزم، وهو حديث تلقته الأمة بالقبول كما صرح بذلك الأئمة كالحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، وغيرهم رحمهم الله، وهو كتاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لأهل اليمن وفيه:
[أَنْ لا يمس القرآنَ إلا طاهر] وقوله: [إلا طَاهِر] أي متوضئ، فدل على إشتراط الطهارة لمس المصحف،
وقد اعترض على هذا الإستدلال بأن قوله:
[إلا طاهر] يعنى به المسلم أي: أنه مسلم، وليس بمشرك، وهذا الإعتراض مردود،
لأنهم فهموا من قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[إن المؤمن لا ينجس] أن الكافر هو النجس، فهو الذي يوصف بكونه غير متطهر، فيكون قوله: [إلا طاهِر] المراد به تحريم مسِّ الكافر للقرآن، وهذا غير صحيح،
لأن الشرع دلّ على وصف المسلم بكونه على غير طهارة كما في قوله سبحانه:
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}،
وقوله عليه الصلاة والسلام لأم سلمة رضي الله عنها:
[ثم تُفيضينَ الماء على جَسدك فإذَا أَنتِ قَدْ طَهرت]، وهذان النصان يدلان على أن الطهارة منتفية عن الجنب المسلم، وأنه بفعلها صار متطهراً، فدل على جواز وصفه بكونه على غير طهارة، وأن نفي الطهارة وإثباتها جائز في حقِّ المسلم،
وقد جاء هذا صريحاً في قوله عليه الصلاة والسلام:
[إِني كُنْتُ عَلى غيرِ طَهارة] فإذا تبين أنه لا تلازم بين الوصف بالنجاسة، والوصف بغير الطهارة، وعليه فيكون الإعتراض على حديثنا بحديث أبي هريرة مردوداً بثبوت السنة بجواز وصف المسلم بكونه على غير طهارة،
فيكون قوله:
[إلا طاهر] المراد به المسلم المتطهر، دون من كان عليه حدث.
الدليل الثالث: ما روى مالكٌ في الموطأ: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان إبنهُ يقرأ عليه القرآنَ، والمصحف بين يديه،
قال ابنه:
فتَحكّكتُ فقال لي أبي: (لعلّك لمَسْتَ أي: لمَستَ ذَكَركَ؟ قال: نعم. قال: قم فتوضأ) فدل على أنه كان معروفاً ومعهوداً عند الصحابة رضي الله عنهم أن مس المصحف لا يكون إلا للمتوضِّئ؛ لأنه كان يقرأ، والمصحف بين يديه، فهذا يدلّ على أن هدي الصحابة -رضوان الله عليهم-، والسلف الصالح الأمر بالوضوء لمس الصحف.
قوله رحمه الله: [والصّلاةُ]: أي: ويحرم على المحدث الصلاة،
لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} فأمر الله بالوضوء للصلاة، وفرضه على عباده فدل على عدم جواز الصلاة بدونه، ولأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: [لا يَقْبلُ الله صَلاةَ أحَدِكُم إِذَا أَحْدَثَ حَتّى يَتوضأ]، وهذا التحريم عام لجميع الصلوات فريضة كانت، أو نافلة،
لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه الصحيح:
[مِفْتَاحُ الصلاةِ الطُهُور] فدلّ على أن الصلاة لا تجوز بغير طهارة، وهو عام في جميع الصلوات، فريضة كانت، أو نافلة.
قوله رحمه الله: [والطَّوافُ] بالبيت أي ويحرم على المحدث أن يطوف بالبيت؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال:
[الطوافُ بالبيْتِ صَلاةٌ] فأعطاه حكم الصلاة، فدلّ على أنه يجب له الوضوء، وهذا هو مذهب جمهور العلماء أن الطواف بالبيت تُشترط له الطهارة؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نزّله منزلة الصلاة، فيؤمر بالوضوء له؛ كما يؤمر للصلاة.وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه لا تشترط الطهارة للطواف، وهو مذهب مرجوح.ومن الأدلة على اشتراط الطهارة ما ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أنه قال لعائشة رضي الله عنها لما حاضت:
[إِصنَعِي مَا يَصْنَعُ الحاجُّ غَير أَنْ لا تَطُوفِي بِالبيْتِ] فحرم عليها أن تطوف، وأمرها أن تغيّر نسكها من التمتع إلى القران بسبب وجود الحدث المانع من صحة الطواف، وهذا يدلُّ على أنّ الطواف بالبيت تُشْترط له الطهارة، ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما طاف بالبيت إلا متوضّئاً، كما ثبت في صفة طوافه في حديث جابرٍ، وعائشةَ رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.
[باب الغسل]

قوله رحمه الله:
[الغسل] الغسل في اللغة: هو صبّ الماء على الشيء،
وأما في اصطلاح الشرع:
(فتعميم البدن بالماء بنية مخصوصة)، وبهذان الوصفان يتحقق الغسل المأمور به شرعاً، وقولهم: " بنيةٍ مخصوصةٍ " المراد بها نية التقرب إلى الله مع قصد رفع الحدث،
وهذا هو مذهب الجمهور:
أن الغسل تُشترط فيه نيّةُ رفع الحدث،
وخالفهم الحنفية كما تقدم في الوضوء وزاد المالكية وصفاً ثالثاً:
وهو الدَّلك، ومرادهم إمرار اليد على الجسد أثناء الغُسل، وظاهر الكتاب، والسنة يدلان على عدم إشتراطه،
فقوله سبحانه وتعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} يقتضي الحكم بالطهارة بإصابة الماء لظاهر الجسد، دون إشتراط أمر زائدٍ،
وهو الدّلك وأكّدت ذلك السنة كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها في الصحيح أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها:
[إنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثي عَلى رَأسِك ثَلاثَ حَثَياتٍ، ثُمَّ تُفيضينَ الماءَ عَلى جَسَدِكِ، فإذا أَنتِ قَدْ طَهُرتِ]، فبيّن عليه الصلاة والسلام بقوله: [تُفِيضِينَ الماءَ عَلى جَسَدِك] أن العبرة بوصول الماء إلى ظاهر الجسد، ولم يشترط أمراً زائداً عليه، وهو الدَّلك، وهذا هو الراجح.
ومحل الخلاف بين القولين:
إذا أمكن وصول الماء إلى ظاهر الجسد من دون دلك، أما لو كان وصول الماء إلى ظاهر الجسد لا يتحقق إلا بالدّلكِ كما في حالة قِلّة الماء فإنه يجب الدّلكُ عند الجميع، لأن الجمهور يرونه في هذه الحالة مستثنى لتوقف الواجب عليه، وما لا يَتمُّ الواجبُ إِلا به فهو واجب.
قوله رحمه الله: [باب الغُسل]: الغسل عبادة شرعية شرعها الله -جل وعلا- وأوجبها على الجنب، والحائض، والنفساء، ونحوهم ممن هو مأمور بالغسل، والعلماء -رحمهم الله- من عادتهم أنهم يذكرون باب الغسل في كتاب الطهارة؛
والسبب في ذلك: أن الغسل طهارة كُبرى فبعد أن بيّن -رحمه الله- الوضوء، وهو الطهارة الصُغرى شرع في بيان أحكام الطهارة الكبرى، وهي الغسل.
قد يسأل سائل فيقول: إذا كان الغسل طهارة كبرى، والوضوء طهارة صغرى، فقد كان الأنسب أن يبدأ بالكبرى قبل الصغرى؛ لأن الصغرى قد تندرج تحت الكبرى؟
ويجاب عن ذلك من وجهين:

الوجه الأول:
أن الفقهاء، والمحدثين -رحمة الله عليهم- يقدّمون الوضوء على الغسل مراعاة لترتيب القرآن فإن الله -عز وجل- في آية المائدة بيّن حكم الوضوء، ثم أتبعه بالغسل.
الوجه الثاني: أنّ الوضوء أكثرُ من الغسل بمعنى: أنك تتوضأ في اليوم أكثر من مرّة، والغسل لا يقع إلا في أحوال قليلة بالنسبة للوضوء.وقد يجلس الأعزب سنة كاملة لا يجنب، ولا يغتسل غسلاً واجباً إلا مرة واحدة فلما كان الوضوء أكثر وقوعاً، أو كما يقول العلماء أعمّ بلوى إِبتدأ العلماء -رحمهم الله- بالوضوء، ثم ثنّوا بالغسل بعده.
وبعبارة مختصرة تقول: قُدم الوضوء لعموم البلوى به، وأُخّر الغسل لقلّة وقوعه بالنسبة للوضوء.
قوله رحمه الله: [ومُوجِبهُ خُروجُ المنيّ دَفَقاً بِلَذةٍ]: وموجبه الموجب: هو المتسبّب أي: أن هذا الغسل يتسبب في لزومه على المكلف خروج المني دفقاً بلذة؛
أي:
إذا خرج المني من الإنسان دفقاً، وبلذة لزمه الغسل.
أما الخروج: فهو ضدُّ الدُّخول كما هو معلوم،
ومراد العلماء بخروج المني:
أن يجاوز رأسَ الإحْلِيلِ، وهو نهاية مجرى البول من الذكر، فإذا بلغ المني ذلك الموضع بمعنى أنه قذفه العضو؛ وجب الغسل، فهذا هو المراد بالخروج،
ولما قال المصنف:
خروج فهمنا من ذلك أنه إذا لم يخرج لا يجب الغسل.ففائدة تعبير الفقهاء بخروج أنك لو سُئلت عن رجل حصل منه تحرك الشهوة، ونزع المني من الصُّلب أثناء الصلاة، فأمسك العضو حتى سلّم فصلاته صحيحة، ولا يُحكم بوجوب الغسل عليه؛ إلا بعد الخروج وتحققه فإذاً الوصف بالخروج معتبر، فمفهومه أنه إذا لم يخرج لم يجب الغسل، وقد دلّ على ذلك قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [إنما الماءُ مِنَ الماءِ] أي: إنما الماءُ, وهو الغسل " مِنْ " سببيه أي: بسبب الماء، وهو خروج المني، فإذا خرج المني وجب الغسل فإذا لم يحصل الخروج لم يجب الإغتسال بالماء، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: [إذا فَضَخْتَ الماءَ، فَاغْتَسِلْ].
والمني: هو الماء الأبيض الثّخينُ بالنسبة للرجل، والأصفرُ الرّقيقُ بالنسبة للمرأة، ورائحته كطَلْع النَّخْلِ والعَجِينِ يخرج دفقاً عند وجود اللّذة الكُبرى
قوله رحمه الله: [خُروجُ المنيّ دَفَقاً]: والدفق وصف معتبر اشترطه الفقهاء رحمهم الله لقوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (1) فوصف الله -جل وعلا- منيَّ الإنسان بكونِه دافقاً،
ولذلك قالوا:
إذا خرج المني دفقاً؛ وجب الغسل.
[بلذّة]: اللذّة: وصف معتبر، وهي اللذّة الكبرى، وخرج بقولهم اللذة الكبرى ما يخرج باللذّة الصغرى، وهو المذْيُ، وهو قطرات يسيرة لزجة تخرج عند بداية الشهوة، فمثل هذه القطرات لا تأخذ حكم المني، فلا يجب بها الغسل.
قال رحمه الله:
[خُروجُ المنيّ دَفَقاً بِلَذّة]: أي إذا خرج المني من المكلّف بهذه الصورة الجامعة للوصفين دفقاً، وبلذّة وجب الغسل.
والدليل على هذا:
ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أنه قال:
[إِذَا فَضَخْتَ الماءَ فاغْتَسِلْ] فدلّ على وجوب الغسل بخروج المني بالصفة التي ذكرناها،
وظاهر قول المصنف:
[خُروجُ المني] العموم أي: سواء خرج المني في يقظة، أو منام،
وفي اليقظة:
سواء كان بجماع، أو بغير جماع،
وإذا خرج في المنام سواء:
تذكّر الاحتلام، أو لم يتذكّره.
أما الدليل على وجوب الغسل بمجرد خروجه في يقظة،
أو منام:
فما ثبت في الصحيح من حديث أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [إنما الماءُ مِنَ الماءِ] فقد بيّن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن وجوب الغسل من الجنابة مبني على وجود الماء، وهو المني فإذا وجدنا الماء وهو المني حكمنا بوجوب الغسل، وعلى هذا لو أن إنساناً نام، ثم استيقظ فوجد أثر المني في ثوبه؛ فهل يجب عليه الغسل لو لم يذكر الاحتلام؟
الجواب: نعم لظاهر الحديث حيث أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالغسل، دون نظرٍ إلى كونه ذاكراً، أو غير ذاكر، وبناءً على ذلك، فالعبرة بوجود الماء سواءً تذكّر أنه رأى شيئاً، أو لم يتذكر.ولو استيقظ من نومه فوجد بللاً في ثوبه، ثم لم يَدْرِ هل هو منيٌّ فيغتسل، أو مذْيٌ فلا غسل عليه فما الحكم؟
والجواب: أنه إذا وجد علامة المنيِّ حكم بكونه منياً، وإذا وجد علامة المَذْي حكم بكونه مَذْياً نجساً، وإن لم يستطع التمييز، وشكَّ رجع إلى اليقين من كونه مَذْياً، فلا يجب عليه غسل، حتى يستيقن، أو يغلب على ظنّه أنه مني.
قوله رحمه الله: [لا بِدُونِهما مِنْ غَيْر نَائمٍ]: [لا بدونها]: اللام نافية أي: لا يجب الغسل من مني خرج بدون دفق،
ولذة لقوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} فوصفه سبحانه بكونه دافقاً، وأما اللّذة فهي وصفه الطبعي، فاجتمع في اعتبار الوصفين الشرع، والطبع.
[مِنْ غيرِ نَائمٍ]: وهو المستيقظ، فلو أن إنساناً كان مستيقظاً، وخرج منه المني بدون دفق، ولا لذة فما الحكم؟
والجواب: أنه لا يجب عليه الغسل لظاهر الآية السابقة كما قلنا وهو اختيار المصنف رحمه الله إلا أن هذين الوصفين يعتبران في المستيقظ، دون النائم؛ لأن النائم ليس عنده شعور فسقط اعتبارهما فيه، واعتبر وجود المني بعد
إستيقاظه بغض النظر عن صفة خروجه لعموم قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: [إنما الماءُ مِنَ الماءِ] وبناءً على ذلك في حكمه أُعمل عموم النص في هذا الحديث، وحُكم بوجوب الغسل عليه، ولذلك لما سئل -عليه الصلاة والسلام-
عن المرأة ترى ما يرى الرجل هل عليها غسل فقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: [نَعمْ إِذَا رأَتِ الماءَ، إنما هُنَّ شَقَائِقُ الرَجَالِ].
قوله رحمه الله:
[وإِنْ إِنتَقلَ، ولَمْ يَخرُجْ؛ إِغْتسَلَ لَهُ]: هذا الوجه الثاني الذي أشرنا إليه في أول الباب ومراده رحمه الله: أنه إذا شعر بانتقاله من الصُّلب، دون أن يخرج من الذَّكر؛ فإن العبرة بالإنتقال، لا بالخروج، والصحيح ما ذكرنا سابقاً أن العبرة بالخروج؛
لقوله عليه الصلاة والسلام:
[إِذَا فَضَخْتَ المَاءَ فاغْتَسِلْ].
قوله رحمه الله:
[فإِنْ خَرجَ بَعْدَه؛ لم يُعِدْهُ]: أي أنه في المسألة السابقة إذا اغتسل بعد شعوره بإنتقاله وقبل خروجه، ثم خرج بعد الغسل لم تجب عليه إعادة الغسل، وقدّمنا أن الصحيح أن العبرة بالخروج.
قوله رحمه الله:
[وتَغْييبُ حَشفةٍ أصْليّةٍ في فرج أَصْلي قُبُلاً كَانَ أو دُبُراً]: هذا هو السبب الثاني الذي يجب به الغسل، وهو تغييب حشفة أصلية،
والتغييب:
هو المواراة تقول غَيَّبَ الشيء في التراب إذا واراه فيه، والغائب هو المتواري عن الأنظار،
وتغييب الحشفة:
الحشفة هي رأس الذكر،
والمراد بالتغييب:
أن يحصل الإيلاج فبعض العلماء يقول: إيلاج،
وبعضهم يقول:
تغييب، والمعنى واحد،
فلما قال تغييب الحشفة فهمنا من ذلك:
أنه لو أَلْزَقَ رأسَ العضو بالفرج، دون إدخال فإنه لا يجب الغسل، سواء كان من قبل، أو دبر فلا يترتب عليه الحكم الشرعي المترتب على الإيلاج، وهذا يكاد يكون بالإجماع؛ لأن التغييب شرط معتبر في إيجاب الغسل، وقد أشار إليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بقوله:
[إِذَا إِلْتَقى الختَانان فقدْ وَجَبَ الغُسْلُ] فكنّى -صلوات ربي وسلامه عليه-
عن الإيلاج بقوله:
[إذا إلتقى] فإن هذا لا يحصل إلا بإيلاج رأس العضو فعندها يحاذي موضعُ ختانِ الرّجل موضعَ ختانِ المرأةِ كما ذكر أهل العلم رحمهم الله، وبناءً على ذلك فشرط هذا الموجب الثاني أن يحصل تغييب لرأس العضو، أو قدره من مقطوعه.
قوله رحمه الله:
[في فَرْجٍ أَصْلِيٍّ قُبلاً كَانَ، أو دُبُراً] الفرج هنا عام يشمل الأنثى، والذكر، والحي، والميت، والحيوان، والإنسان، فإذا حصل إيلاج في هذه الصور كلها وجب الغسل، وهذا فيه أصل، وفيه مقيس على الأصل.أما الأصل فهو إيجاب الغسل بالإيلاج، وقد دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-
في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام:
[إِذَا ألزقَ الختانَ بِالخِتانِ] وقوله عليه الصلاة والسلام: [إذا مس الخِتَانُ الخِتَانَ] وقوله: [إِذا جلَسَ بين شُعَبِها الأربع، ثم جَهَدها فَقدْ وجب الغُسْل] هذه الألفاظ الصحيحة دلت على أن العبرة بإيلاج رأس العضو، وهذا منصوص جماهير السلف، والخلف من أهل العلم -رحمة الله عليهم-.
أما بالنسبة للملحق بهذا الأصل ففرج الدبر بالنسبة للآدمي، وهو محرم وطؤه سواء كان من إمرأة، أو من رجل، وكذلك فرج البهيمة قبلاً كان، أو دبراً فإن وطء هذه الفروج جميعها يعتبر آخذاً حكم ما ذكرناه بالقياس؛ لأن الشرع ينبّه بالنّظيرِ على نَظِيره، وهذا هو مذهب جماهير العلماء رحمهم الله.وخالف بعض أهل العلم،
فقال:
لا يجب إلا إذا حصل الإيلاج في فرج الأنثى بالجماع، وأما غيرها فلا يجب به غسل.والصحيح ما ذكرناه، لأنه ملحق بالأصل.
قوله رحمه الله: [تَغْييبُ حَشَفةٍ في فرجٍ أصْلِي]: هذا التغييب ظاهره الإطلاق أي: سواء كان في يقظة، أو في منام، فإن التكليف مبني على الحكم الوضعي بمعنى أنه متى ما حصل الإيلاج حكمنا بوجوب الغسل بغضّ النّظر عن كونه حاصلاً في اليقظة، أو المنام.
قوله رحمه الله:
[تَغييبُ حَشفةٍ في فَرْج أصْلِيٍّ]: خرج من هذا الفرج الغير الأصلي، ومثّل له العلماء بالخنثى المشكل، فقال بعض العلماء -رحمهم الله-
وهو يكاد يكون مذهب الجمهور:
أنه إذا جامع الخنثى، وكان مُشكلاً، فإنه لا يُحكم بوجوب الغسل عليه لأن العبرة بالفرج الأصلي، والخنثى إذا لم يتبين أنه ذكر،
أو أنثى فإننا نَعْمَل بقاعدة:
" اليَقينُ لا يُزالُ بِالشّكِ " فاليقين أن المجامع طاهر، وشككنا في هذا الفرج هل هو أصلي فيكون بمثابة وطء فرج أصلى فحينئذٍ يجب الغسل، أو هو غير أصلي فلا يكون جِمَاعاً مؤثراً، فلما شككنا رجعنا إلى اليقين،
هذا هو وجه إسقاط الغسل يقولون:
إن المجامع الأصل فيه الطهارة، وشككنا في جماعه فرجعنا إلى الأصل من طهارته، ولم نوجب عليه غُسلاً، ومَنْ خالفهم فإنه يقول إن الأحكام في الخُنثى المشكل مبنيّة على أنه أنثى حتى نستيقن ذكورته فنوجب الغسل من هذا الوجه طرداً للأصل.وعليه فكل واحد يعتبر اليقين في هذه المسألة من وجه فالمصنف رحمه الله، ومن يقول بقوله: يعتبرون اليقين في المجامع، وهو الرجل أنه طاهر،
وأصحاب القول المخالف:
يعتبرونه في المحلِّ، وهو الخنثى المشكل لأن اليقين أنه أنثى كما تقدم معنا في مسائل اللمس.
قوله رحمه الله: [قُبُلاً، أو دُبراً]: هذا للتنويع سواء وقع في قبل، أو دبر يخرج من هذا الفرج غير الأصلي كما ذكرنا في الخنثى المشكل، أو يكون مصنّعاً كما يفعله بعض المصورين في زماننا والعياذ بالله، فهو فرج غير أصلي، فالإيلاج فيه لا يوجب الغسل.
وخالف في هذا بعض العلماء:
فقال الإيلاج موجب للغسل للمولج فيه، سواء كان الذي ولج عضواً، أو غيره، وهو أحد الوجهين عند الشافعية، ومما يتخرج على، هذه المسألة الآن المناظير الطبية تولج من الدبر إذا احتيج إلى ذلك لكشف مرض جراحي، أو غيره، فعلى الوجه الذي مشى عليه المصنف رحمه الله لا يجب الغسل،
وعلى الوجه الثاني:
يجب.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 18-07-2020, 06:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,435
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (36)

صـــــ289 إلى صــ301


[باب الغسل]

قوله رحمه الله: [ويَغْسلُ يَديْه ثَلاثاً، وما لوّثَه]: المراد به أن يغسل كفّيه ثلاث مرات.
والمصنف هنا قال: [يغسل يديه ثلاثاً] ثم أجمل، والحقيقة غسل اليدين،
أو الكفين في الغسل من الجنابة له حالتان:

الحالة الأولى:
أن يغسل الكفّين قبل أن يعمّم البدنَ بالماء.
الحالة الثانية: أن يغسل الكفّين بعد غَسْل الفرج تَهيُأً للوضُوءِ.
فأما الحالة الأولى: وهي أن يغسل كفيه عند إبتداء الغسل فقد ثبت في الصحيحين كما في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-
في قولها:
[بدأ فغسل يديه]، وفي رواية مسلم [يَغْسِل كَفّيه] لكن ليس فيها التصريح بالتثليث،
وقد جاء في حديث ميمونة رضي الله عنها في قولها:
[فأفرغ على يديه فغسلهما مرّتين، أو ثلاثاً] والغسل للكفين في ابتداء الغسل من الجنابة مناسبته: أن اليدين ناقلتان للماء، والماء ينبغي أن يكون طهوراً، فينبغي أن تكون آلته محافظة على الطهورية، فإذا كانت اليد نظيفة، بقي الماء على أصل الطهورية، وإذا كانت اليدان ليستا بنظيفتين؛ فإن ذلك أدعى لخروج الماء عن وصفه بالطُّهورية خاصةً، وأن الكف تنقلُ ماءً يسيراً، ولذلك أُمِرَ بغسلهما قبل الوضوء لمن استيقظ من نومه.
أما الحالة الثانية لغسل الكفين: فإنها تكون بعد غسل الفرج، والمناسبة فيها ظاهرة؛
لأنها تلوثت بالأذى وقد أشارت إليها أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها بقولها: [ثمّ أَفْرغَ بِيمينِه عَلى شِمَالِه فَغَسل مَذَاكيِرَه ثم دلك يَدَه بِالأَرْضِ].
قال رحمه الله: [يغسل يديه ثلاثاً، وما لوّثه]: اللّوث يطلق بمعنى التلطيخ، فالتلويث التلطيخ، يقال لوّث الماء إذا لطخه،
وقد يطلق بمعنى:
المرض،
والعاهة في العقل ومنه قولهم:
(اللّوثة) نسأل الله السلامة والعافية،
وقد يطلق بمعنى:
الحاجة؛ وهي حاجة الإنسان،
والمقصود بالتلويث في قوله:
[ما لوثه]: يعني ما أصاب يده من القذر، وهذا يدل على أن المراد بغسل الكفين ما يكون بعد إزالة الأذى عن الفرج فكان من هدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه يبتدئ فيصب الماء على كفّيه -صلوات الله وسلامه عليه-، ويغسلهما ثم يُفْرِغ بيمينه على يساره، فيغسل فرجَه -صلوات الله وسلامه عليه-، ومواضع الأذى كما تقدّم ذكره في حديث ميمونة -رضي الله عنها وأرضاها-، فيغسل الأذى الذي على الفرج، وما جاوره كالفخذين، والرُّفْغَين، ونحوهما، ولما انتهى -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين من حديث ميمونة رضي الله عنها من غسل فرجه، وإزالة الأذى دَلَكَ يديه بالأرض،
ولذلك قال العلماء:
يَبْتدئُ بغسل الكفّين ثمّ يُثنّي بالفرج، ثم يدلك يديه للغسلة الثانية، وهذه الغسلة الثانية آكد من الأولى، فإن الأولى قد تكون اليدان طاهرتين، ولا يحتاج فيها إلى تجديد غَسل؛ ولكن في الثانية لمكان الأذى، وتلطّخ اليدين ناسب أن يدلكهما -عليه الصلاة والسلام-.
قال بعض العلماء رحمهم الله: السُّنة لمن اغتسل في أَرضٍ تُرابيِّة أن يدْلكَ يديه بالأرض التُّرابِيِّة والتّراب ينظف، ويُنْقِي كالصابون، والمطهّرات، فناسب أن يدلك -عليه الصلاة والسلام- يده بالأرض وورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام ضرب بها الحائط،
ولذلك قال بعض العلماء:
إذا كانت الأرض صلبة، وكان الحائط طيناً فإنه يضرب بيديه الحائط وللعلماء في ضربه -عليه الصلاة والسلام-
بيده على الأرض وعلى الحائط في غسله من الجنابة وجهان:
الوجه الأول: منهم من قال: عبادةٌ معلّلة تكون إذا وجدت عِلّتها،
والعلّة عندهم:
التنظيف، بمعنى أن الإنسان يضرب الحائط، ويدلك الأرض بقصْد التنظيف، فإذا كانت الأرض صلبة، أو كان الحائط من غير الطين، كالإسمنت، ونحوه فإنه تكون السُّنة بالغسل بالصابون، وما يحلُّ محل الطِّين لأن العِلة عندهم التنظيف، فكما أنه يحصل بالطين فعند فَقْدِه يحصل بما يناسبه، كالأُشنانَ، والصَّابون.
والوجه الثاني: قال: عبادة غير معلّلهٍ، ويُقتصر فيها على الصورة الواردة، فلا تشمل غيرها، ويكون وجود التّطهير في الطين تبعاً، لا أصلاً.
وعلى هذا القول: فإنه يُسنّ للإنسان، ولو كان الجدار، والأرض صلبةً أن يضرب بهما يده إتباعاً للسنة.والصحيح أنه عبادة معلّلة يضرب بيديه الجدار إذا كان من طين، ويدلك بهما الأرض إذا كانت ترابيّة وإذا زال الأذى بالصابون، والمُطهّرات المعروفة في زماننا أجزأه، وحلّ ذلك محل التراب، لأن التراب هنا ليس مقصوداً على وجه التعبّد فيجزئ عنه الصابون، والمطهرات لأنها تقوم مقامه، فيحصل بها المقصود شرعاً، وهو النظافة، والنقاء، بخلاف ما إذا كان التراب فيه معنى التعبّد، كما في غسل الإناء من ولوغ الكلب، فإنّ غيره لا يقُوم مقامه.
قوله رحمه الله:
[يتوضّأ]: إتفقت الروايات في صفة غسله عليه الصلاة والسلام على أنه توضّأ فيه ولذلك لا خلاف بين العلماء رحمهم الله في أن الغسل الكامل مشتمل على الوضوء تأسياً به عليه الصلاة والسلام.
وظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قولها:
[ثم يتوضأ وضوءَه للصّلاةِ] أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضّأ وضُوءاً كاملاً أوّلاً، ثم أفاض الماء بعد ذلك على رأسه،
وجسده كما دلّ عليه قولها:
[ثم يأخُذ الماءَ، ويدخل أصابِعَه في أصُولِ الشّعر حتى إذا رأى أنْ قَدْ إِسْتبرأ حَفَنَ على رأسِه ثلاثَ حَثَياتٍ ثُمّ أفاضَ على سائِر جَسَدهِ، ثم غسَلَ رِجْلَيْه] وعلى هذا تكون السنة البداءة بالوضوء قبل تعميم الجسد، وأما حديث ميمونة رضي الله عنها؛ فقد دلّ على أنّ الوضوء لم يكن كاملاً حيث نصّت على أنه توضّأ، وأخّر غسل رجليه، ثمّ عمّم بدنه،
ثمَّ أتمَّ الوضوء بعد ذلك بغسل رجليه كما يدلّ عليه قولها رضي الله عنها:
[ثمّ مَضْمَضَ، واسْتَنْشَقَ، ثم غسَلَ وجْهَه، ويَديهِ، ثم غسَلَ رَأسَه ثَلاثاً، ثم أفرغَ عَلى جَسَدِه، ثمّ تَنَحّى مِنْ مَقَامِه فغَسَل قَدَميْه] فدلّ على أنه لم يُتمّ وضوءَه أوّلاً وأنه أخّر غسل رجليه، وفي حديث عائشة رضي الله عنها غَسَلَ الرجلين آخرَ الغُسْل لكنه زائد على الغسل الأصلي كما يفهم من ظاهره،
ومن هنا إنقسم العلماء رحمهم الله في بيان سبب ذلك على وجهين:
الوجه الأول: أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راعى إختلاف المكان، ففي حال وجود الطين أخّر غسل رجليه إلى آخر الغسل، حتى لا يتكرر غسله لها مرة ثانية، كما حدث في حديث عائشة رضي الله عنها.
الوجه الثاني: أنه فعل ذلك تعبداً، فمنْ توضأ في غسله أخّر غسلَ رجليه حتى ولو كان المكان نظيفاً ولا يَخْشَى من تَلوّثِهما بالطِّين عند تعميم البدن بالماء.
والوجه الأول: هو الأقوى، والعلم عند الله، لأنه معلوم من حاله في زمانه عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يمكن أن يُعَمّم بدنه بالماء إلا، وتطاير عليه رذاذ الطين، واحتاج إلى الغسل ثانية، وعليه فيؤخر إذا كان الموضع كذلك، وأما إذا كان نظيفاً كما في زماننا فإنه يتمُّ الوضوء، ولا يؤخر غسل رجليه، لأن الأصل يقتضي تقديم أعضاء الوضوء،
كما دلّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام:
[إبدأن بميامِنها وبأعضاء الوضوء منها] فهذا يقتضي عدم تأخير أعضاء الوضوء، إلا إذا وجد الموجب، ويدل على أن الأصل تقديمها في الغسل.
والمسألة الثانية: هل هذا الوضوء مقصود للغسل، أو مقصود لذاته،
للعلماء وجهان:

الوجه الأول:
وضوؤه في الغسل إنما هو لشرف أعضاء الوضوء،
أي: أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدأ بالوضوء لفضل أعضاء الوضوء.
الوجه الثاني:
هو عبادة مقصودة أي: أنه طهارة مقصودة.
وأقوى الوجهين الوجه الأول: أنه قصد تقديم أعضاء الوضوء على سائر البدن لشرفها، ويدل على ذلك أمره عليه الصلاة والسلام بالبداءة بغسل أعضاء الوضوء في غسل الميت؛
كما ثبت في الصحيح حيث إنه قال لأم عطية رضي الله عنها حينما غسّلت إِبنته زينبَ رضي الله عنها:
[إِبْدَأنَ بِمَيامنها وبأَعْضَاءِ الوُضُوءِ منهَا] فلمّا أمرَ بتوضئتها في الغسل دلّ على أنه راعى البداءة بالأفضل، فراعى ذلك في غسل الحي، والميت فدل على أنه لشرف أعضاء الوضوء.
قوله رحمه الله: [ويحثي عَلى رَأسِه ثَلاثاً تُرَوِّيه] هذه هي السنة بعد أن يغسل وجهه، ويديه يحثي على رأسه الماء، كما ثبت في حديثي أم المؤمنين عائشة،
وميمونة رضي الله عنهما قالت ميمونة رضي الله عنها:
[ثم غَسَلَ وَجْهَه، ويَديْه، ثمّ غَسَلَ رَأسَه ثَلاثاً]،
وقول المصنف رحمه الله:
[ترَوِّيهِ] مأخوذ من رِيِّ الماء،
والمراد: أن تكون كل واحدة من الثلاث قد روّت أصول شعر الإنسان،
وهذه هي السنة كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:
[ثمَّ يأخذُ الماءَ، ويُدْخِل أصابعَهُ في أصُولِ الشَّعر حتّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدْ إِسْتَبْرأ حَفَنَ على رأسِه ثَلاثَ حَثَياتٍ]، وهذا يدل على عنايته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوصول الماء إلى أصول الشعر؛ لأنها محل الفرض المأمور بغسله،
وأما التثليث:
فهو السنة من قوله وفعله عليه الصلاة والسلام كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها حيث قال لها عليه الصلاة والسلام: [إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثي عَلى رَأسكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ] وقالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: [ثم يُخلّل بِيديْه شَعَره حَتّى إِذا ظنّ أنه قد أَرْوى بَشَرَته أَفاضَ عَليْه الماءَ ثلاثَ مرّاتٍ] فالسّنة أن يحثي على رأسه الماء ثلاثاً، ثم جاءت هذه السنة مفصِّلة في حديث عائشة رضي الله عنها حيث بيّنت أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ الماء بكفّه؛ فَبدأَ بِشقِّ رأسِه الأيمنِ، ثم شِقِّهِ الأيسرِ،
ثمّ عَمّمَ الرَّأسَ كله بعد ذلك كما في قولها رضي الله عنها في الصحيحين: [كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا إِغْتسَلَ مِنَ الجنابةِ دَعا بشيء نحوَ الحِلابِ فَأَخذ بِكَفّه، فبَدَأ بِشِقِّ رأسه الأيمنِ، ثمّ الأيسرِ، ثم أخذَ بِكفّيه، فَقَالَ بِهما على رَأسِه] ففصّلت رضي الله عنها ما جاء في الروايات الأخر فذكرت أنه كان يأخذ كفاً واحدة لشق رأسه الأيمن، ثمّ مثْلها للأيسر،
ولذلك عطفته بقولها: ثم الأيسر أي: أخذ كفاً أخرى للأيسر، ثم يأخذ بكفّيه في الثالثة لكل الرأس.
قوله رحمه الله: [ويعمُّ بَدَنه غُسْلاً ثَلاثاً، ويَدْلِكُه، ويَتَيامنُ]: قوله: [يعمُّ بدنه]: بمعنى أن يصبّ على جسده الماء صبَّةً يعمِّمُه بها،
والأصل في تعميم البدن قوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}،
وكذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها وفيه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها:
[ثُمّ تُفِيضينَ الماءَ على جَسَدِكِ] فقوله: [تُفِيضِينَ] من الإفاضة، والمراد بها تعميم سائر البدن، وكذلك قول عائشة رضي الله عنها: [ثم أَفاضَ على سَائِر جَسَده].
لكن قال المصنف: [ثلاثاً]: أي ثلاث مرات أي: أنه يغسل جميع البدن بتعميمه ثلاث مرات، وهذا فيه خلاف بين العلماء؛
فمن أهل العلم من قال:
السُّنة أن يعمَّ البدنَ بغسلةٍ واحده، ولا يزيد إلى الثلاث وهو الذي يترجح في نظري والعلم عند الله، وهو قول طائفة من السلف -رحمة الله عليهم- وممن رُوي عنه هذا القول الإمامُ مالك، وكذلك عن الإمام أحمدَ رواية فأصحاب هذا القول شددوا في الغسلة الثانية، والثالثة لأنه يفعلها معتقداً الفضل، ولم يفعلها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع أنه ثلّث في الأعضاء، ومن ثمّ قالوا التثليث في الغسل بدعة، وشددوا فيه بقصد العبادة؛ لكن لو أنه غسل الغسلة الأولى قاصداً رفع الجنابة، ثم غسل المرة الثانية، والثالثة لمبالغة التنظيف كما هو الحال الآن يغسل بالصابون، ثم يحتاج إلى صبّةٍ ثانية، وصبّةٍ ثالثة، فلا حرج لأنها خرجت إلى قصد النظافة، لا إلى قصد العبادة، وفَرْقٌ بين قَصْدِ العبادةِ، وقصد النظافة.أما لو ثلّث غسل بدنه قاصداً العبادة فهو بدعة في قول من ذكرنا، وهذا القول هو الصحيح فإنّ النّاظر في أحاديث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غُسْله كلّها نصّت على أنه أفاضَ إفاضَةً واحدةً -عليه الصلاة والسلام-، ولم يُثنِّ، ولم يُثلّثْ -وبأبي، وأمي عليه الصلاة والسلام- لو كان الفضل في التثنية، والتثليث لما تركه -عليه الصلاة والسلام-، ولفعله في غسله، ولو مرة واحدة، أو لتكرر منه كما تكرر منه التثليث في الوضوء.والمصنف رحمه الله مشى على الرواية الثانية عن الإمام أحمد، ويقول بها بعض الشافعية -رحمة الله عليهم- أنه يستحب التثليث في الغسل.
قوله رحمه الله: [ويَدْلِكُه، ويتيامن]: ويدلِكه أي: يدلك البدن مبالغة في الإنقاء، والتطهير، وإيصال الماء إلى البدن.
والدلك للعلماء فيه قولان:القول الأول: أن الدّلك مستحب، وليس بواجب، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله.القول الثاني: أنّ الدَّلكَ واجب، ومن اغتسل، ولم يدلك بدنه لم يصحّ غسلُه، وهو مذهب المالكية رحمهم الله.
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بأن: الدّلك مستحب، وليس بواجب.
أما الدليل على عدم الوجوب فما ثبت في الصحيحين من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال لها:
[إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثي عَلى رَأسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ] فقوله: [إنما يَكْفِيكِ] أي: يجزيك،
وهذا الإجزاء لا يكون إلا في الواجبات قال عليه الصلاة والسلام: [إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثي عَلى رَأسكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ، ثُمَّ تُفِيضينَ الماءَ على جَسَدِكِ فإِذا أَنتِ قَدْ طَهُرتِ -وفي رواية- فإذا أَنتِ تَطْهُرينَ] وجه الدلالة: أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرها بالتَّعميم، ولم يُبيّن لها وجوبَ الدّلك،
وقال:
[تُفِيضِينَ] والإفاضة: الصبّ فدلّ على أن الواجب: هو وصول الماء إلى ظاهر الجسد لقوله: [تُفِيضِينَ الماءَ عَلى جَسَدِكِ]، فإذا حصلت هذه الإفاضة حكمنا بالإجزاء، دون إشتراط أمرٍ زائدٍ عليها، وهو الدَّلْكُ.لكنّ الإمام مالك -رحمة الله عليه- انتزعَ وجوبَ الدلكِ من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: [أَنّ النّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِغتسلَ بِالصَّاعِ] ومعلوم أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان رَبْعَة من الرّجال ليس بالطويل البَائِن، ولا بالقصير فكان -عليه الصلاة والسلام- وسطاً من الرجال فلا يُعْقَلُ أنّ الصّاع يغسلُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويجزيه إلا إذا كان يدلك عليه الصلاة والسلام، وبناءً على ذلك فإنه من ناحية الاستنباط صحيح.
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله:
أن الدّلك ليس بواجب في الأصل لصحة دلالة الكتاب والسنة على ذلك، ويحمل دليل وجوبه على حالة: ما إذا كان الماء قليلاً، وتوقّف وصول الماء لجميع البدن على الدّلك، فإنّه واجب من جهة ما لا يتمُّ الواجبُ إِلا بِه فهُو واجب، والاستثناء بالصُّور المخصوصة لا يقتضي التّعميم في جميع الأفراد، وبناءً على ذلك يُنْظر في الماء الذي يُغتسل به إن كان يستطيع إيصاله لجميع البدن، دون أن يكون دلك فإن هذا هو القدر الذي أوجبه الله على المكلف وإن كان الماء قليلاً بحيث لا يستطيع إيصاله إلى جميع البدن إلا إذا دلك فحينئذٍ يلزمه الدلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لا أنه واجب أصالة.وعلى مذهب المالكية أنه لا بد من الدّلك؛ فإنه إذا كان الموضع لا يستطيع أن يوصل إليه يده كأن يكون مثلاً وراء الظهر؛ فإنه يستخدم الواسطة كما هو معروف في زماننا باسم (اللِّيفة) يحكُّ بها ظهره، وأشار إلى هذه المسألة بعضهم بقوله:وصِلْ لما عَسُر بالمنْدِيلِ ... ونحوِهِ كَالحَبْلْ والتّوكِيلِ
ومحلُّ الخلاف بين القولين:
إنما هو في حالة ما إذا أمكن إيصال الماء إلى ظاهر الجسد بدون دلْكٍ، أما إذا توقف الإيصال على الدلك كما في حال قلة الماء فالجميع متفقون على وجوبه لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
كذلك كلهم متفقون على إِستحباب الدلك لما فيه من بالغ النقاء المقصود شرعاً في تطييب البدن وتنظيفه، ويختلفون في الإلزام به.
قوله رحمه الله: [ويَتَيامنُ]: ويتيامن: أي يبدأ باليمين قبل اليسار لقوله عليه الصلاة والسلام: [إبدأنَ بِميامِينهَا] في غسل إبنته زينبَ رضي الله عنها.
قوله رحمه الله: [ويَغسِلُ قَدَميْه مَكَاناً آخرَ]: هذا الذي سبقت الإشارة إليه، وأنه إنْ كان الموضع نظيفاً، فلا حاجة إلى تأخير غسل الرجلين، وإن كان غير نظيف، فإنّهُ يؤّخر غسلَ رجليه إلى آخر الغسل تأسياً بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وينتقل إلى مكان آخر حتى لا تتلوث الرجلان، ويمكنه تنظيفها.
قوله رحمه الله:
[والمجزئُ أنْ يَنويَ، ويُسَمّيَ، ويَعُمّ بدَنه بالغُسْلِ]:هذه فائدة تقديم صفة الكمال على صفة الإجزاء أنه يأمن من التكرار لكن لو قدّم صفة الإجزاء، وأتبعها بصفة الكمال لكرّر.
وقوله رحمه الله: [والمجزئ أن ينوي، ويسمِّيَ]: شرع بهذه الجملة في بيان صفة الإجزاء، وصفة الإجزاء تقوم على الأركان، والواجبات، والشروط، فلا تشتمل على المستحبات، والمندوبات، وهي الصفة الثانية من صفات الغسل التي لا يصح إلا بها كما قدمنا.[أنْ ينْويَ]: يعني النّية، وقد تقدم بيانها.
[ويسمّيَ]: ويسمّي هذا على القول بوجوب التسمية، والصحيح أنها ليست بواجبة فليس هناك حديث صحيح أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوجب التسمية في الغُسْلِ، وإنما أوجبها مَنْ أوجبها فيه قياساً على الوضوء،
وهذا القياس ضعيف لما يلي:
أولاً: أنه يعترض عليه بفساد الاعتبار، وهو أحد القوادح الأربعة عشر في القياس،
وفساد الاعتبار: أن يكون القياس في مقابل نصِّ من الكتاب، أو السُّنة، أو في مقابل إجماع، وقد ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النص،
وهو قوله عليه الصلاة والسلام:
[إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلى رَأسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ]، ولم يذكر التسمية،
وقال الله في كتابه:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ولم يأمر بالتسمية،
وقد أمر بالتسمية في المطعوم فقال سبحانه وتعالى:
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}.
ثانياً: أن هذا القياس من باب ردِّ المُختلف فيه إلى المُخْتلف فيه، فلك أن تقول لمن يستدل بهذا القياس أنازعك في الأصل الذي تحتج به، وهو وجوب التسمية في الوضوء،
فكيف تقيسُ فرعاً على أصل إختلفنا فيه يعني:
أنا لا أسلّم لك أن الوضوء تجب فيه التسمية، فكيف تلزمني بالغسل قياساً على الوضوء ومن شرط صحة القياس بالنسبة للإلزام أن يكون الخصم، أو المحتج عليه بالقياس مُسَلِّماً بحكم الأصل فإذا كان غير مسلم بحكم الأصل، فإنه لا يُلْزم به، لكن يكون القياس من باب الالتزام، لا الإلزام يعني لمن يحتج به أن يحتجّ به لنفسه؛ لأنه يرى وجوب التسمية في الوضوء
فيقول: أنا أوجب التسمية في الغسل كما أوجبها في الوضوء من باب إلحاق النَّظير بنظيره.
قوله رحمه الله:
[ويَعمَّ بدَنه بالغُسْلِ مَرةً]: لأن الله تعالى أمر بتطهير البدن في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وهذا يحصل بتعميم البدن بالماء مرة واحدة، لأن الأمر لا يقتضي التكرار، وفي حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها صرّح عليه الصلاة والسلام بأن العبرة بتعميم البدن،
دون أن يُوجب التّكرار فقال عليه الصلاة والسلام:
[إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلى رَأسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ، ثُم تُفِيضِينَ الماءَ عَلى جَسَدِكِ فَإذَا أَنتِ قَدْ طَهُرتِ] ولم يأمرها بتكرار ذلك للبدن كلِّه فدلّ على أن التعميم لمرةٍ واحدةٍ يعتبر كافياً، فمن دخل في بركة مثلاً، وانغمس فيها غمسةً واحدةً قاصداً الطهارة من الجنابة، أو فَعلتْ ذلك المرأةُ ناويةً طهارتها من حيض، أو نفاس أجزأهما.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 18-07-2020, 06:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,435
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (37)

صـــــ301 إلى صــ312


[باب الغسل]

قوله رحمه الله: [ويَتَوضّأ بِمُدِّ]: بعد أن بيّن -رحمه الله- صفة الغسل الكاملة،
والمجزئة يسأل السائل:
ما هو هدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الماء الذي يُغتسل به؟
فقال رحمه الله: [ويتوضأ بمُدٍّ، ويَغْتَسِلُ بِصَاعٍ]: قوله: [يَتَوضَّأ بِمُدٍّ]،
المدُّ:
هو ضربٌ من المكاييل التي كانت في زمان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان هناك المدّ، وهو أصغرها، وضابطه عند العلماء (مِلءُ اليَدينِ المتَوسِطَتَين، لا مَقْبُوضَتَيْن، ولا مَبْسُوطَتَين) يعني أوسط الرجال لو حفن حَفْنةً ملأت هذا المدَّ وهذا المدُّ مازال موجوداً إلى الآن في المدينة، ويتوارثه الناس من زمانه عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا، ويُعْتبر حجة؛ لأنه من نقل الكافّة عن الكافّة كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وبيّن أنه مما توافرت الدواعي لحفظه،
وهو: ربع صاع بالنسبة لمدِّ المدينة، وعرف المدينة باقٍ على الأصل وقد حرّرت ذلك بنفسي بالنّقل عن كبار السن،
وعندهم طريقة:
أنه إذا صنع الصّانع المدَّ لا بد من أن يُحرّر، والتَّحْرير أنهم يأخذون صاعاً قديماً حُرّر على أقدم منه، وهكذا حتى يضبطوه؛ ولم تكن عندهم المعايير المنضبطة مثل التي في المصانع الآن، فالصاع رُبَّما وسَّعه الصَّانع،
وربما ضيَّقه ففي بعض الأحيان عند تَحْريره للمدِّ الجديد يقول لك:
هذا المد مَسْح أي: إذا امتلأ الطعام إمسحه، ولا تزد،
وفي بعض الأحيان يقول لك:
إملأه حتى يتساقط يعني أن تحريره، وضبطه: أن تملأه حتى يتناثر،
والمدُّ يعدل ربعَ الصَّاع والصاع النبوي هو: صاع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو أربعة امداد يعني من كل مدّ الذي هو ملءُ اليدين المتوسطتين لو ملأت بها أربع مرات، أو حثوت بها أربع مرات طعاماً، أو تراباً ملأت الصّاع،
وهذا الصّاع كما قلنا وِحْدَة من الكيل فوق المدّ تارة يقولون للمد الصغير:
هذا صاع نبوي، ولكن المشهور الصاع الكبير، ويسمونه ربع صاع.وكذلك -أيضاً- هناك وحدة ثالثة مشهورة في زماننا وهي المدّ الكبير،
والمدُّ الكبر ثلاثةُ أضعاف الصّاع يعني:
ثلاثة آصع تملأ المد الكبير، وهو الذي يُسَمى في زمان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ[الفَرَقْ] وهو الوارد في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له في فدية الأذى في النُّسك: [أَطْعِمْ فرَقاً بَيْنَ سِتّةِ مسَاكينَ] فالفرق: المدُّ الكبيرُ،
وعليه إذا كان يسع الثلاثة آصع فمعناه:
أنه إِثنا عَشَر مداً صغيراً، والمراد بالمدِّ الوارد في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها المتقدم المدُّ الصغيرُ، وليس المدّ الكبير المشهور في زماننا،
وكذلك ورد عنه عليه الصلاة والسلام:
[أنه إِغْتَسلَ بإناءٍ قَدْرَ الحِلاب] والمراد بقدر الحلاّب أي: الإناء الذي يسع حليب الناقة لو حُلِبت ملأته، وهذه ضوابط العرب في القديم؛ أحياناً يقدّرون بمثل هذا، وأحياناً يقدّرون بشيء تقريبي وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه اغتسل إلى خمسة أمدادٍ من المدِّ النبوي الصغير الذي ذكرناه، وكلُّ هذا على التخيير، وهدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس ملزماً؛ لأنه دلالة فعل، بمعنى لا يلزمك، ولا يجب عليك أن تلتزم بالصاع، أو بالحلاب، أو بخمسة أمداد، بل في بعض الأحيان لو اغتسل الإنسان بالصاع ربما أخلّ فلا تُطْلَبُ السُّنة بضياع الفرض؛ وإنما يغتسل بالصاع من يَضْبِطُ الماءَ، ويُحْسِن صَبّه على البدن فالمقصود إذا تيسر للإنسان أن يصيب هذه السُّنة فليصبها، وهو أفضل تأسّياً به عليه الصلاة والسلام، وإذا لم يتيسر له، فإنه لا حرج عليه في الزيادة، دون إسراف.
قال رحمه الله: [فإِنْ أَسْبغَ بِأَقَلَّ] أسبغ بمعنى عمّم أو استوعب أعضاء الفرض ومراده: أن هذا القدر ليس بواجب أن يلتزمه، فلا حرج إذا إغتسل بأقل منه، مثل الصبي الذي هو في الخامسة عشر من عمره، أو الإنسان صغير الحجم قد يستطيع بأقل من الصاع أن يعمّم بدنه، فليس مراده أن يغتسل بالصَّاع للإلزام فجاء بهذه العبارة حتى يفيد أنه للندب، والاستحباب لا للحتم، والإيجاب.
وقوله رحمه الله: [أو نَوى بِغُسْلِه الحَدَثيْنِ أَجْزَأَهُ]: مراده: أن ينوي بغسله رفع الحدثِ الأصغرِ،
والأكبرِ فإنه يُجزيه لظاهر السُّنة في قوله عليه الصلاة والسلام: [وإِنما لِكُلّ إِمْرِئٍ ماَ نَوى] فلا يلزمه وضوء بعد غسله، وله أن يصلي مباشرة كما فعل عليه الصلاة والسلام، في إغتسالاته.
وقال بعض العلماء:
إنه يجزيه مطلقاً نوى، أو لم ينو،
والأقوى:
أنه إذا نوى يجزيه،
وهذا بالإجماع أي:
أنّ من اغتسل ناوياً رفع الحدثين أنه يجزيه، ويرتفع حدثاه الأصغر، والأكبر، وإذا وقع الوضوء في الغسل أجزأه قولاً واحداً؛
لكن عند أبي ثور رحمه الله:
أنه يجب عليه أن يتوضأ أثناء الغسل، وهذا القول يعتبر من مفردات أبي ثور، وهو الإمام الفقيه إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي -رحمة الله عليه- كان من أصحاب الشافعي ثم اجتهد،
قال عنه الإمام أحمد:
(أعرفه بالسُّنة منذ ثلاثين عاماً) -رحمة الله عليه- فهذا الإمام الجليل يرى أن الوضوء في الغسل واجب، ولكنه قول مرجوح، بل قال بعض العلماء رحمهم الله إنه شاذّ،
فلا يؤثر في الإجماع المنعقد أنه لا يجب الوضوء في الغسل وذلك لظاهر القرآن في قوله سبحانه:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ولم يوجب الله الوضوء،
ولما ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها الذي ذكرناه أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها:
[إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلى رَأسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ] هذا الحديث من أهمّ أحاديث الغسل، ولذلك أقول -رضي الله عن أم سلمة وأرضاها-، -ونسأل الله العظيم أن يُعْظِم أجرها بهذا الحديث- وانظروا كيف يظهر فضل سؤال العلماء، فإن هذا الحديث دفع إشكالات كثيرة في الغسل من الجنابة وأزال اللبس في كثير من الأمور التي قيل بوجوبها، وهي ليست بواجبة، وما كان هناك مخرج إلا بهذا الحديث، وهذه فائدة سؤال العلماء فقد سألت أم سلمة -رضي الله عنها- رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالت -يا رسول الله- إِنّي إمرأة أَشُدُّ ضَفَرَ شَعْر رَأسِي، أَفَأَنْقُضُهُ إذا اغْتَسَلْتُ مِنَ الجَنَابَةِ؟
قال:
[لا، إِنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ، ثُمّ تُفِيضِينَ الماءَ عَلى جَسَدِكِ فإِذَا أَنتِ قَدْ طَهُرتِ] يستفاد منه ما لا يقل عن عشرين مسألة من مسائل الغسل من الجنابة -رضي الله عنها وأرضاها-.
قوله رحمه الله:
[ويُسَنّ لِجُنبٍ غَسلُ فَرْجِه]: إذا وقعت الجنابة من جماع، أو استيقظ الإنسان وهو جنب يسنُّ له أن يغسل فرجه إذا أراد أن يؤخر غسل الجنابة؛ لظاهر حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وحديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين.
أما حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم في صحيحه قالت: [كَانَ رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا كَانَ جُنُباً، وأَرادَ أَنْ يَنَام، أَوْ يَأكُلَ غسَلَ فَرْجَه، وتوضأَ].
وأما حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين ففيه أنه قال: -يا رسولَ اللهِ - أينامُ أحدُنَا، وهُو جُنُبٌ؟
قال عليه الصلاة والسلام:
[تَوضّأ، واغْسِلْ ذَكَرك ثمّ نَمْ] فقال: [واغْسِلْ ذَكَرَكَ] فدل على مشروعية الغسل حتى إن بعض الأطبّاء يعتبره محموداً من الناحية الطبية لأنه لا يُؤْمن أنه إذا تأخر المني في الموضع أن تتولّد منه بعض الجراثيم، وقد ينشأ منها بعض الأمراض، ولأنه إذا يبس على العضو ربما حصل منه بعض الضرر، ولذلك كان من هديه -عليه الصلاة والسلام- أنه يغسل فرجه.
وقوله رحمه الله:
[ويُسَنّ] يدل على أنه ليس بواجب، وإنما هو سنة مستحبة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليست واجبة،
وأمّا أمره عليه الصلاة والسلام به لعُمَر رضي الله عنه لما سأله كما في الصحيحين:
[أَينامُ أَحدُنا وهو جُنُبٌ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تَوضّأ، واغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثُمّ نَمْ] فإنه مصروف عن ظاهره الدّال على الوجوب، إلى النّدب،
والصّارف له ما ثبت في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند أصحاب السنن أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
[إنما أمرتُ بالوضُوء إِذَا قُمْتُ إِلى الصَّلاةِ]، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَما سُئلَ أَينامُ أحدُنا، وهو جُنُب؟
قال:
نعم، ويتوضَّأ إِنْ شاء] فدلّ هذان الحديثان على أن الأمر للإستحباب، لا للوجوب.
وقوله: [ويُسَنّ لجُنُبٍ غَسْلُ فَرْجِهِ] يشمل الذكر، والأنثى لقولِه عليه الصلاة والسلام: [توضّأ واغسل ذكرك]، وهو بلفظه خاص بالرجال؛ لأنه ورد جواباً للسؤال فلا يُعتبر مفهومه، وبمعناه عام في الرجال، والنّساء؛ لأن العلّة واحدة فيهما.
قوله رحمه الله: [والوُضُوءُ لأكلٍ، ونومٍ]: أي: ويسن الوضوء لمن عليه الغسل، إذا أراد أن يأكل أو ينام، والأصل في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح الذي ذكرناه حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عند أحمد،ومسلم في صحيحه -رحمة الله عليهما- أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[كانَ إِذَا كَان جُنُباً، وأَرادَ أنْ يَنَام، أو يأكُل توضأ وضُوءَهُ للصّلاةِ] فدلّ على أنّ السُّنة للجنب أن يتوضأ عند إرادة الأكل، والنّوم، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: [توضّأ] أن يكون الوضوء تاماً على صفة الوضوء الشرعي وهذا مذهب الجمهور رحمهم الله.
ومن العلماء من قال:
إن المراد به غسل اليد، وحمله على الوضوء اللغوي.
والصحيح مذهب الجمهور؛ لأنه إذا تعارضت الحقيقة الشّرعية، واللّغوية؛ فإننا نُقدّم الحقيقةَ الشرعيةَ على اللّغويةِ، لأنها الأصل المعهود في خطاب الشرع؛ كما هو مقرر في الأصول.
قال بعض العلماء: وضوء الجنب لا ينتقض بالحدث الأصغر فلو توضأ، ثم خرج منه ريح لا ينتقض وضوؤه،
وهو الوضوء الذي يلُغز به بعض الفقهاء فيقول:
متوضئ لا ينتقض وضوؤه ببولٍ، ولا غائطٍ ولا ريح؟
فقد تقول المستحاضة يقول:
هذه معذورة، والمرادُ غيرُ معذورٍ،
فتقول:
هو الجنب إذا توضأ وعليه الجنابة كما أشار إلى ذلك الإمام السيوطي رحمه الله بقوله:قُلْ لِلْفَقِيهِ ولِلْمُفِيدِ ... وَلِكُلّ ذِي بَاعٍ مَدِيدِمَا قُلتُ فِي مُتَوضِّئ ... قَدْ جَاءَ بِالأَمْرِ السَّدِيدِلا يَنْقُضُونَ وضُوءَهُ ... مَهْمَا تَغَوّطَ أَوْ يَزِيدِ
وهذا الوضوء للجنب قيل:
إنه شطر الجنابة كما ورد في حديث شدّادٍ رضي الله عنه عند إبن أبي شيبة بسند رجاله ثقات، كما قال الحافظ رحمه الله أنَّ
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إِذَا أَجْنَبَ أَحدُكُمْ مِنَ اللّيل، ثمّ أَرادَ أَنْ يَنامَ فَلْيتوضّأ فإنه نِصْفُ غُسْلِ الجَنابَةِ] وهو أقوى الأقوال بالنسبة لتعليله.
وأما غسل الذكر فقد قيل: إنه إذا أجنب تمددت العروق بخروج المني، فناسب أن يغسل العضو حتى تنقبض، ومن هنا ردّه بعض العلماء إلى هذه الفائدة الطبية فنحمد الله -تبارك وتعالى- على هذه النعم الظاهرة، والباطنة، وعلى هذا الخير الكثير، والرحمة المهداة، والنعمة المسداة التي أكرمنا الله -عز وجل- بها في هذه الشريعة -نسأل الله العظيم أن يحيينا، ويميتنا عليها-.
قوله رحمه الله:
[ومُعَاوَدَةِ وَطْءٍ]: الوطء: الجماع، ومُراده رحمه الله أَنّ الرجل إذا جامع أهله، ثم أراد أن يعود فإنه يتوضأ لقوله عليه الصلاة والسلام: [إِذَا جامَع أَحدُكُمْ أَهْله، ثُمَّ أرادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتوضّأ] والأمر في الحديث مصروف عن ظاهره كما تقدم بقوله عليه الصلاة والسلام: [إنما أمِرْتُ بِالوضُوءِ عِنْدَ القِيام إلى الصّلاةِ] وقد بيّن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العلّة في الأمر بالوضوء للجنب إذا أراد العود؛
فقال عليه الصلاة والسلام في رواية الحاكم في المستدرك:
[إِنه أَنشَطُ لِلْعَوْدِ]، وهي تقوّي أنّ الأمر للإستحباب.
[باب التيمم]

التيمُّمُ مأخوذ من قولهم: أمَّ الشيءَ؛ إذا قصده،
ومنه قوله تعالى:
{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي لا تقصدوا رديء التمر، والخارج من الأرض لتنفقوا منه زكاة أموالكم،
ومن ذلك قول الشاعر:
تَيمَّمتُها مِنْ أَذرِعاتٍ وأهلُها ... بِيَثْرِبَ أدْنى دَارَها نظَرٌ عَالِيأي: قَصَدتها.
فالتيمم: القصد.
أما في الإصطلاح فإنه: (القصدُ إلى الصّعيدِ الطّيبِ بضَربِ اليدين بصِفةٍ مخصوصةٍ، ونيّة مخصوصة) فالمراد بالصّعيد: كل ما صعد على وجه الأرض،
وأصل الصعود:
علوّ الشّيءِ، وارتفاعه، فلما كان محل التيمم بما على ظاهر الأرض وُصِفَ ذلك الظاهر بكونه صعيداً.
وقولهم: [الطَيّب]: المراد به الطاهر، فلا يجوز التيمم بالأرض المتنجسة،
وقولهم:
[الصَّعيد] عامٌّ شاملٌ لكل ما على وجه الأرض من الحجارة، والتراب، والغبار لعموم النصِّ كما سيأتي إن شاء الله بيانه.
وقولهم: [بصِفةٍ مَخْصُوصةٍ]: هي التي ورد النصّ بها في قوله سبحانه: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فتكون بمسح الوجه، والكفّين،
وقد بيّنها عليه الصلاة والسلام بفعله حينما قال لعمار رضي الله عنه كما في الصحيحين:
[إنما كانَ يَكْفِيكَ هكذا قال: وضَرَبَ النبيُ صلّى الله عليه وسلم بكَفّيه الأرضَ، ونَفَخَ فيها، ثُمّ مَسَح بِهما وجْهَهُ، وكَفيْهِ]، وقولهم: [بنِيّةٍ مَخْصُوصَةٍ] وهي: استباحة الصّلاة والطّواف، ومسّ المصحف، ونحوه مما تُشترط له الطّهارة، والنّية واجبة في التيمم بلا خلاف.والتعبير بالإستباحة لأن التيمم مبيح،
وليس برافع للحدث لقوله عليه الصلاة والسلام: [الصعيدُ الطّيبُ طُهورُ المسْلمِ، ولو لَمْ يَجِدَ الماءَ عَشرَ سِنينَ، فإذا وجَد الماءَ فليتّقِ الله، وليُمِسَّه بَشَرَته] فلو كان رافعاً للحدث لا وجبت عليه طهارة الغسل بعد وجود الماء.
شرع الله التيمم في كتابه: بقوله -سبحانه وتعالى-: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} في آيتي النساء والمائدة.وشرعه سبحانه، وتعالى بهدي رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام لعمار رضي الله عنه:
[إِنما كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقولَ بِيديْكَ هَكَذا، ثُمّ ضَربَ بِكَفيه الأَرْضَ، ثم مَسَح بِهما وَجْهَه، وكَفّيهِ]، وكذلك -أيضاً- ثبت في الصحيحين من حديث عمران ابن حصين -رضي الله عنه- أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مرّ على رجل لم يصلِّ في القوم فقال: [يا فُلانُ مَا مَنعكَ أَنْ تُصَلّي فِي القَوْم؟] قال: أَصابتْني جَنابةٌ، ولا ماء، فقال عليه الصلاة والسلام: [عَليكَ بالصّعيدِ الطيبِ فإنه يَكْفِيكَ] وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه الصحيح عند أحمد،
والترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال:
[الصعيدُ الطّيبُ طُهُورُ المسْلمِ ولَوْ لَمْ يَجِدَ الماءَ عَشرَ سِنينَ]، وفي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه قوله عليه الصلاة والسلام: [أُعْطِيتُ خَمْساً لمْ يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلِي]، ومنها قوله: [وجُعِلَتْ لِيَ الأَرضُ مَسْجِداً وطَهُورَاً] فدلّت هذه الأحاديث الصحيحة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أنّ التيمم مشروع.وأجمع العلماء -رحمهم الله- على مشروعية التيمم على تفصيل سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-.
أما بالنسبة لمناسبة هذا الباب لما قبله فهي: أنه لما فرغ من بيان الطهارة المائية بالغسل شرع في بيان الطهارة البدلية عنها وهي التيمم؛ فكان حديثه عن الطهارة بالماء التي هي أصل، ثم هنا شرع في طهارة التراب التي هي بدل عن الأصل، والكلام عن البدل يكون بعد الكلام عن المُبْدَل منه، فبعد أن بيّن -رحمه الله- حكم الطهارة بالأصل، وهو الماء شرع في بيان حكم الطهارة بالبدل، وهو التراب.
قوله رحمه الله:
[وهو بَدلُ طهارةِ الماءِ إذا دَخَلَ وقْتُ فَريضةٍ]: قوله: [وهو] أي: التيمُّمُ [بَدلُ طهارةِ الماءِ إذَا دَخلَ وقْتُ فريضةٍ] بدل طهارة الماء: أي أنه ليس بأصل، وإنما شُرِعَ على صورة مخصوصة، وفي أحوال مخصوصة،
ولذلك يمكن للفقيه أن يقول للمكلف:
تيمّم إذا وجد مُوجبات الرخصة،
ويمكن أن يقول له:
لا تتيمّمْ إذا لم تتوفر تلك المُوجبات،
ولذلك قال:
وهو بدل، والبدل يحتاج أن تعرف شروطه، والقيود التي نصّبها الشرع لقيامه مقام المُبْدل منه، ثم هذه البدلية تشمل الطهارة الصغرى،
وهي:
الوضوء، والكبرى،
وهي: الغسل، فيقع التيمم بدلاً عن الوضوء. والغسل، وللمكلف إذا تيمم أن يستبيح الصلاة مباشرة، ومذهب بعض العلماء رحمهم الله أن هذه الطهارة تقع بدلاً عن طهارة الخبث، فقالوا فيمن وقعت عليه نجاسة،
وليس عنده ماء يغسل به تلك النجاسة:
إنه يتيمَّمُ،
فجعلوا التّيممَ بدلاً عن الطهارة بنوعيها:
طهارة الحدث، والخبث.
فإذاً بدليته عن ثلاثة: عن الوضوء، والغسل بالإجماع، وعن طهارة الخبث على أحد قولي العلماء رحمهم الله.
قوله رحمه الله: [إذا دَخلَ] هذا شرط، والشروط في المتون الفقهية تعتبر مفاهيمها، ويقيّد ذلك بالتزام صاحب المتن، أو باستقراء منهجه.
وقوله رحمه الله:
[إذا دخلَ وقتُ فريضةٍ] مفهومه: أنه إذا لم يدخل وقت الفريضة أنه لا يتيمَّمُ للفريضة، لكن لو تيممَ لغير الفريضة؛ كأن تكون عليه جنابة، وتيمم للمسِ مصحفٍ، أو للطواف بالبيت، فلا حرج عليه، سواء كان ذلك في وقت الفريضة، أو في غيره؛ لأن النافلة، ومسّ المصحف ليس لهما ميقات كالفريضة، أما الفريضة فلا يصح التيمم لها إلا بعد دخول وقتها،
فلو أن إنساناً سألك وقال:
لم أجد الماء فتيممت قبل أذان الظهر، ثم دخل وقت الظهر، فصليتها؟
تقول: إن شرط صحة التيمم للفريضة أن يكون بعد دخول وقتها، فإذا تيمم قبل دخول الوقت بطل تيممه بدخول الوقت بعد ذلك لأنه يُحْتَسبُ للفريضة السابقة، ويبطل بدخول وقت الفريضة اللاحقة، فلا يصح تيمُّمُك قبل الظهر للظهر، وهكذا بقية الفرائض.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 18-07-2020, 06:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,435
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (38)

صـــــ313 إلى صــ322


[باب التيمم]

أما الدليل على اشتراط التيمم لدخول الوقت؛
فقالوا:
إنه الأصل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (1) إلى أن قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وجه دلالتها على اشتراط دخول الوقت: أنه كان في أول الإسلام يجب على المكلف إذا دخل وقت الفريضة أن يتوضَّأ، حتى ولو كان متوضِّئاً، وكانوا يتوضَّؤون عند دخول وقت كل صلاة، ولو كانوا متوضئين؛
كما في حديث عبد الله بن حَنْظلةٍ رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَمَر بالوضُوءِ لكلّ صلاةٍ طَاهراً كانَ، أوْ غَيرَ طَاهرٍ]، ثم نُسِخَ ذلك بفعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة الخندق؛ كما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنهما أنّ عُمَرَ جاء إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وقال: " -يا رسول الله -، والله ما كِدْتُ أصلي العصرَ حتّى كادتِ الشّمسُ تغربُ " فقال -عليه الصلاة والسلام-: " واللهِ، مَا صَليْتُها " قال: " فتوضّأ، ثمّ صلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى المغرب، وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند أحمد،
والنسائي بسند صححه غير واحد أنه قال:
[حُبِسْنَا يومَ الخندقِ عنِ الصّلاةِ حتى كَان بعدَ المغربِ بهويٍ من اللّيلِ كُفِينا،
وذلك قول الله عز وجل:
{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} قال: فَدَعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلالاً فأقامَ الظُّهرَ، فصلاها؛ فأحسَنَ صَلاتها كما كان يصليها في وَقْتِها، ثُمّ أمرَه فأقامَ العصرَ فصلاّها فأحسَنَ صلاَتها كما كَان يُصلِّيها في وقْتِها،
ثم أمره فأقَامَ المغربَ فَصلاّها كذلك]
قالوا:
هذا نسخٌ لوجوب الوضوء عند دخول الوقت، ودلّ على أنه يُشْرع للمكلف أن يجمع بوضوء واحد بين صلوات، ولا حرج عليه في ذلك، فأصبح الوضوء رافعاً للحدث،
وبناءً على ذلك قالوا:
نُسخ الحكم في الوضوء، وبقي التّيَمُّمُ على الأصل من كونه مطلوباً عند دخول الوقت؛ لأنه ورد النصّ على العموم في الطهارة، وأنها مقيّدة بدخول الوقت،
وذلك في قوله سبحانه:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ولا يقام لفعل الصلاة المفروضة إلا بعد دخول وقتها، فلما جاء الناسخ في الوضوء بَقِيَ غيرُه على الأصل،
قالوا:
فبقي التيمم على الأصل، ومن هنا لا يُتَيَمَّمُ إلا عند دخول وقت الفريضة.
قوله رحمه الله:
[أَوْ أبِيحَتْ نَافلةٌ]: عندنا صلاتان: المفروضة، والنافلة،
فإن قلت: إن التيمم لا يكون إلا عند دخول وقت الصلاة، وقيّدته بالصلاة تقيده في الفريضة بوقتها،
فتقول: يَتيمم لصلاة الظهر بعد زوال الشمس، ويَتيمم لصلاة المغرب بعد غروب الشمس، وهكذا.
وإذا كانت الصلاة نافلة: إِعْتبرتَ فيها الأوقات المنهيّ عنها،
فتقول:
يَتيمَّمُ في وقتٍ تُباح فيه النافلة، فلو أنه تيمّم بعد صلاة الصبح، أو بعد صلاة الفجر، وقبل طلوع الشمس لِفِعْلِ نافلة مطلقة؛ فإنه لا يصحُّ تيمُّمُه؛ لوقوعه في غير الوقت المعتبر لإجزاء التيمم للصلاة، فيجوز له أن يتيمم لفعل النافلة المطلقة في جميع الأوقات، إلا الأوقات التي نُهي عن صلاة النافلة فيها، وأما ذوات الأسباب فعلى القول بجواز فعلها في أوقات النهي يصحّ التيممُ لها فيها، وعلى القول بالمنع يُمنع من التيمم للنوافل جميعها في الأوقات المنهي عنها، وأما لمس المصحف، وحمله، أو قراءته للجنب؛ فيتيمم له في كل وقت؛ لأن الشرع لم يحظره في وقت من الأوقات.
قوله رحمه الله: [وعَدِمَ الماء]: وعدم الماء: هذا شرط؛
دلّ عليه قوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فنصّ سبحانه على إشتراط عدم وجود الماء، فدلّ ذلك على أَن التيمم رخصة عند فَقْدِ الماء،
وعَدمِه وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رخّص لمن فقد الماء أن يتيمم كما في حديث عمران رضي الله عنه أنّ الرجل حينما قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[أصابَتْني جنابةٌ، ولا مَاء] قال عليه الصلاة والسلام: [عَليْكَ بالصّعيدِ الطَّيبِ فإنه يَكْفِيكَ] فأمره بالتيمم لما أخبره أنه لا يجد الماء،
كذلك جاءت السُّنة في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
[إِنّ الصَّعيدَ الطيّبَ طَهُور المسلم ولو لم يَجِدَ الماءَ عَشْرَ سِنينَ، فإذَا وجدَ الماءَ فليُمِسّهُ بشَرته] صححه الإمام الترمذي، والحاكم وابن حبان، وأبو حاتم، والذهبي، والنووي، وغيرهم رحمهم الله، فنصّ عليه الصلاة والسلام على رخصة التيمم بشرط عدم وجود الماء، ولو طالت المدة فدلّ على أن فقد الماء موجب للإذن برخصة التيمم، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن فقد الماء موجب لرخصة التيمم من حيث الجملة،
أما من حيث التفصيل فمنهم من يقول:
عدم الماء سواء كان في سفر، أو في حضر، فكلّ من لم يجد الماء في سفر، أو حضر أبيح له أن يتيمم.
ومنهم من قيّده بالسفر.والصحيح أن الحكم عام يشمل السفر، والحضر لعموم النصِّ.
ثم إنّ عَدَمَ الماء يتحقق بأمرين:
الأمر الأول: بيقينٍ يُقْطَع به بعدم وجودِ الماء، وهذا بلا إشكال أنه يُعتبر مبيحاً للتيمم،
مثالَّ ذَلك:
أن يكون الإنسان في مكان يعلم أنه لا يوجد فيه ماء أصلاً، ويكون على يقينٍ بذلك؛
فحكمه: أنه يجوز له التيمم لظاهر النصوص في الكتاب، والسُّنة.
الأمر الثاني:
أن يغلبَ على ظنّه الفقد،
بمعنى:
أن يكون إحتمال وجود الماء ضئيلاً، فإذا كان احتمال وجود الماء ضئيلاً؛ فإن العبرة بغالبِ ظنِّهِ لا بِنادرهِ " لأنّ الشريعة مبينة أحكامها على الغالب، لا على النادر،
ومن قواعدها:
"
النادِرُ لا حُكْمَ له ".
ومن قواعدها أيضاً:
"
الغَالبُ كَالْمُحقَّقِ " فلما كان غالب ظنِّك أنّ الماء غير موجود في هذا الموضع، أو في هذا المكان؛ فإنه يُعتبر كأنك قطعت بعدم وجوده، فيُنزَّل غالبُ ظنِّك منزلةَ اليقين بعدمِ الوجود.وبناءً على ذلك تستبِيح التيمم باليقين، وبغلبة الظن،
وتبقى عندنا حالتان:

الحاله الأولى:
أن تَشكّ في وجوده،
يعني:
يستوي عندك هل هو موجود، أو غير موجود،
مثال ذلك: من نزل في موضع، وهو مسافر، ولا يدري هل فيه ماء، أو لا ماء فيه.
ففي هذه الحالة يطالب بالبحث، والتّحري حتى يصل إلى غالب الظنِّ بأحد الإحتمالين؛ فإذا غلب على ظنه وجود الماء عَمِل به فلم يحلّ له أن يتيمم، وإن ترجّح ظنه بالفقد، أو قطع به، فحينئذٍ يترخّصُ بالتيمُّمِ.
الحالة الثانية: أن تتوهم عدم وجوده، ويغلب على ظنّك وجوده، فهذه الحالة لا إشكال في أنه لا يجوز فيها التيمم، إلا إذا تغيّر هذا الظن، وصار لعكسه.وهذه الحالة هي الغالب في المدن، والقرى، فلا يجوز لصاحبها أن يتيمّم مباشرة ما دام أنّ الماء يغلب على الظّنِ وجوده.
وإذا لم يجد الماء؛
فقولٌ واحد عند العلماء أنه:
يتيمم؛ إلا ما قدمنا من خلاف بعضهم في الحضر وهو ضعيف، والجماهير على أنّ التيمم رخصة في الحضر، والسفر، دون فرق بينهما، ما دام أنه لم يجد الماء.
قوله رحمه الله:
[أو زادَ على ثمنِه كَثيراً، أو ثمنٍ يُعْجِزهُ]: المراد به أن لا يجد الماء إلا بثمن زائد عن قيمته زيادة ذات بال،
وهو ما أشار إليه بوصفه لها بقوله:
[كثيراً] ومفهوم ذلك أنه إذا وجد الماء زائداً على قيمته زيادة قليلة لزمه أن يشتريه، وأما إذا كانت كثيرة كان غبناً عليه.وهذه الحالة وهي زيادة ثمن الماء كثيراً،
وما بعدها وهي قوله:
[أو ثَمنٍ يُعْجِزُه] رُخِّصَ فيها بالتيمم عند من يعتبر الرخصة فيها بناءً على أن الماء، وإن كان موجوداً حقيقة لكنّه بالزيادة عن ثمنه، والعجز عنه صار مفقوداً حكماً، فأصبحت هذه الحالة بمثابة حالة الفَقْدِ الحقيقةِ للماء، وفي الحقيقة بالنسبة لمن لم يجد الماء إلا بثمن ليس عنده؛ فلا إشكال أنه في حكم فاقد الماء، لأنه ليس بإمكانه أن يشتريه، لأنه بعجزه عن ثمنه صار كالعاجز عن العين نفسها، فَرُخّص له، وصار الماء غير موجود في حقِّه حُكْماً.
وأما إذا كان يجد الماء زائداً على ثمنه كثيراً فقد رخص فيها بعض الفقهاء رحمهم الله بناء على ما قدمنا أن الزيادة الكثيرة ضررٌ عليه في ماله،
ومن ثم قالوا:
لا يلزمه أن يتحمل الضّرر في ماله على هذا الوجه كما لا يلزمه تحمل الضّرر في نفسه، فقاسوا ضرر المال هنا على ضرر النفس، فكما يُرخَّص للمكلف أن يتيمّم عند خوفه الضّرر عن نفسه بالإغتسال كذلك يُرخَّص له أن يتيمم ويترك الماء الزائد على ثمن مثله كثيراً دفعاً للضرر الذي سيلحقه في ماله، وعلى هذا القول الذي مشى عليه المصنف رحمه الله فإن هذه الزيادة تتقيد بالمكان الذي فيه الماء، فتكون زيادة كثيرة على ثمن مثله في ذلك المكان الذي هو فيه.
قوله رحمه الله: [أوْ خَافَ باسْتعمالِه، أَوْ طَلبِه ضَررُ بَدنِه]: صورة ذلك أن يكون الإنسان مريضاً، وإذا اغتسل هلك، أو زاد عليه مرضه، وكذلك إذا كان في زمانٍ شديد البردِ؛ فلو اغتسل خاف على نفسه المرض أو الموت، ففي هذه الحالة يُرخّص له أن يعدل من الغسل إلى التيمم، وهكذا لو كان الوضوء يُضِرُّ به، وينتهي به إلى تلف نفسه، أو حصول ضرر بجسمه؛ جاز له أن يعدل إلى التيمم، وهذا اختيار بعض العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد اختار رحمه الله أنه لو خاف باستعمال الماء زيادة مرضه، كالزُكام، ونحوه أنّ من حقِّه أن يعدل إلى التيمم؛ لما فيه من وجود الضرر، والله -عز وجل- كلف العباد بما لا ضرر فيه على أنفسهم، وأجسادهم،
ولذلك قالوا:
إذا كان استعماله للماء يُفضي إلى تلف النفس، أو حصول ضرر بها، أو زيادة سُقْمٍ، ومرض؛ جاز له أن يعدل إلى الرُّخصة، ويتيمّم.أما الدليل على أن من خاف باستعمال الماء الضرر من مرض،
وغيره أن يتيمم فقوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فبيّن سبحانه عذر المرض بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} فدلّ على أن من كان مريضاً، وخاف باستعمال الماء أن يهلك، أو يستضر جاز له أن يتيمم، وأما خوف الإستعمال المفضي إلى الهلاك، والموت فقد جاء اعتباره موجباً للرخصة في حديث عمروِ بنِ العَاصِ رضي الله عنه أنه لمّا بَعَثه النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة ذاتِ السّلاسِلِ،
واحتلم في ليلة باردةٍ شديدةِ البرد قال:
[فأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ فَتيمّمْتُ ثُمّ صَلّيْتُ بِأَصْحَابِي فَلمّا بَلَغَ النبي صلّى الله عليهِ وسلم قال له: [يا عَمْرُو صلّيتَ بِأَصْحَابِكَ، وأَنتَ جُنُب!؟] فقلت: ذكَرتُ قولَ الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فتيمّمتُ، ثم صلّيتُ، قال: فَضحِكَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولمْ يَقُلْ شَيئاً] فترخّص عمرو رضي الله عنه بسبب خوفه الهلاك، وهذا يُقوي ما تقدم، ويدل أيضاً على أن من خاف أن يُصاب بالضّرر بسبب الغسل، أو الوضوء، وغلب على ظنّه ذلك فإنّ له أن يترخّص بالتيمم.
وقد ذكر المصنف رحمه الله في هذه العبارة أن سبب الخوف بحصول الضرر من إحدى حالتين:
الأولى: الإستعمال بمعنى أنه لو اغتسل، أو توضأ حصل له الضّرر.
والثانية:
الطلب بمعنى أن حصول الضّرر، أو خوف حصوله ناشئ من طلبه للماء،
مثل:
أن يخاف لو ذهب يبحث عن الماء يقتل كما يحصل ذلك في الأرض المُسْبِعَةِ،
وهي:
التي فيها السباع، أو يكون هناك عدو يتربّص به، فإذا خرج لطلب الماء قتله، أو يوجد ضرر في نفس المكان الذي يأخذ منه الماء، كالحيّة، ونحوها، فإذا خاف الضرر بسبب الإستعمال، أو الطلب فالحكم واحد.
قوله رحمه الله: [أَوْ عَلَى رَفِيقِهِ]: أي: خاف على رفيقه من إستعماله، أو طلبه،
مثال ذلك:
أن يكون الإنسان عنده ماء، وهو محدث، وهذا الماء لو توضّأ به إحتاج إليه رفيقه لشرب؛
فحينئذٍ قالوا:
لو قلنا له: توضأ بهذا الماء، أو اغْتَسِلْ به هَلك رفيقُه،
فقالوا:
حَلّ له التيمّم، وهذا يسمى بالفَقْد الحُكمي، فإن الماء موجود حقيقة، ولكنه في حكم المفقود؛ نظراً لما يترتب على استعماله من وجود الضّرر بالنفس المحرّمة.
كذلك -أيضاً- لو خاف على رفقته، كأن يكون معه جماعة من باب أولى وأحرى.
قوله رحمه الله:
[أو حرمته] والحرمة مثل زوجته ونسائه ومحارمه، والمراد: أن يخاف باستعماله، أو طلبه الضّرر على هؤلاء كما قدمنا في الخوف على رفيقه، فيكون معه أهله ونساؤه محتاجين إلى الماء فإذا استعمله تضرروا أو يكونوا معه ولا ماء عندهم فإذا طلب الماء لهم خاف عليهم الهلاك، أو الإعتداء على عرضهم، فجميع هذه الحالات موجبة للرخصة إذا تحقق فيها الضّرر، أو غلب على ظنّ المكلف حصوله.
وقوله رحمه الله: [أو مَالِهِ] أي خاف إن استعمل الماء، أو طلبه أن يحصل الضّرر في ماله، مثل راعي الغنم في البادية، إن ترك غنمه، وذهب يطلب الماء غلب على ظنّه أنها تُسرق، أو يُعتدى عليها، أو يكون معه مال لا يستطيع حمله عند الطلب، ولا تركه خشية سرقته، فهذه الحالات، وأمثالها كلها مُوجبة للرخصة، ثم بيّن صور الضرر،
وذلك بقوله رحمه الله:
[بعَطَشٍ] أي: أنه إذا استعمل الماء في الغسل، أو الوضوء عطش هو، أو رفيقه، أو حُرمته، أو دابته فهلكوا، أو تضرّروا.
وقوله رحمه الله: [أو مَرَضٍ] أي: أنه إذا استعمل الماء في جسده حصل له الضّرر بالمرض، أو زيادته كما قدمنا.
وقوله رحمه الله: [أو هَلاكٍ] أي: أنه إذا استعمل الماء، أو طلبه هلك هو، أو رفيقه، أو حُرمته، أو تلف ماله.فكلها أضرار مؤثرة إذا غلب على الظنّ حصولها أوجبت الرخصة؛ لأنها إما أن يصل المكلف فيها إلى مقام الإضطرار، كما في حال الخوف على نفسه، وغيره، وإما أن يصل فيها إلى مقام الحاجة المنزلة منزلَة الضرورة،
وهي تُوجب الحرجَ الذي دلّ دليل الشرع على أنه لا يُكَلّف به كما في قوله تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وذلك في حالة هلاك المال، وزيادة المرض ونحوها.
قوله رحمه الله: [ونَحْوِه شُرِعَ التَّيَمُّمُ]: أي نحو هذه الصور، والأمثلة، فالفقهاء -رحمة الله عليهم- بيّنوا لك الأصل الذي هو خوف الضرر على النفس، أو الرفقة، أو المال، وبناءً على ذلك يجوز للإنسان أن يعدل إلى رخصة التيمم بوجود هذه الأعذار؛ سواءً كانت بالصّور الموجودة في زمانهم، أو بصور جديدة في زماننا يصل فيها المكلف إلى مقام الإضطرار، أو الحاجة.
قوله رحمه الله:
[ومَنْ وَجد َماءً يَكْفِي بعضَ طُهْرِه تَيممَ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ]: هذه المسألة من المسائل التي اختلف العلماء -رحمهم الله- فيها،
وصورتها:
أن يكون عندك ماء لا يكفي لغسل جميع البدن في طهارة الغسل، أو لا يكفي لغسل جميع أعضاء الوضوء في طهارة الوضوء، فالماء موجود، ولكنه غير كافٍ لاستيعاب الفروض،
فقال بعض العلماء:
يَعْدل إلى التيمم مباشرة.
وقال بعض العلماء: من كان عنده ماء يكفي لبعض الأعضاء دون بعضها؛ غسل البعض، ثم تيمم بنية ما بقي، وهذان قولان مشهوران عند أهل العلم، فالمصنف رحمه الله مشى على مذهب الجمع، فبين أن عليه أن يستعمل الماء، فيغسل به الأعضاء، ثم يتيمّم لما بقي، والذين قالوا بهذا القول إستدلوا بدليل الكتاب، والسنة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 18-07-2020, 06:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,435
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (39)

صـــــ323 إلى صــ333


[باب التيمم]

أما الكتاب فآية الوضوء، والغسل، وآية التيمم، فأما آية الوضوء،
والغسل فقالوا:
إنّ الله أمر فيها المكلف باستعمال الماء، فيستعمله، ولو لبعض أعضائه؛ لأنه قادر على ذلك، وأمكن تحقيق أمر الله تعالى فوجب عليه إعمال الأصل على هذا الوجه، فإذا استهلك الماء،
وبَقِيَ ما بقي من الأعضاء تحقّق فيه الشرط الشرعي المنصوص عليه في آية التيمم في قوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وحينئذ يُرخص له بالتيمم للباقي لأن هذا الشرط لا يتحقق إلا باستهلاك الماء على الوجه الشرعي بغسل ما يستطيع غسله من أعضاء الوضوء والغسل.
وأما دليلهم من السنة فحديث جابر رضي الله عنه قال: [خَرجْنَا في سفَر فأصابَ رجلاً منّا حجرٌ في رَأسِه، ثمّ احْتَلَم،
فسأَلَ أصحابَه:
هل تجدون لي رخصةً في التيمم؟
فقالوا:
ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل، فمات،
فلما قدمنا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِر بذلك فقال:
قَتلُوه قَتلَهم الله أَلا سَألُوا إذا لم يَعْلموا فإنما شِفَاءُ العِيِّ السؤالُ إِنما كانَ يَكْفيه أنْ يتَيمّمَ، ويَعْصرَ، أو يَعْصُبَ على جُرحِه، ثم يمسحُ عليهِ، ويغسلُ سائرَ جَسدِهِ]
ووجه الدلالة: ظاهر حيث أمره بالجمع بين التيمم، والغسل.
ومذهب القائلين بعدم الجمع أقوى حيث إن الماء الموجود لما كان غير كاف لجميع الطهارة صار في حكم المفقود، فتحقّق الشرط الموجب لرخصة التيمم، وقد عَمِلَ بهذا الأصل الجميع فنزلوا الموجود منزلة المفقود في مسائل التيمم، فكذلك هنا لأنه ماء غير كاف لجميع الأعضاء، والشَّرع لم يُجَزّئ أعضاءَ الوضوءِ، والغسل بل أمر بغسلها جميعها،
فكما أن من عجز عن الماء لمرض نقول:
الماء في حقّه مفقود حكماً؛ كذلك من وجد ماءً لا يكفي لجميع الأعضاء، فإن هذا الماء مفقود بحكم الشرع، لأن الشرع لم يعتبر في طهارة الغسل بعض أعضاء البدن، دون البعض، بل أمر بغسلها جميعاً، وبهذا لا يقوى الإحتجاج بآية الوضوء، والغسل على وجوب غسل الأعضاء.وأما الإستدلال بالسُّنة فإن الحديث لم يصحَّ، وهو ضعيف، كما نصّ عليه الأئمة رحمهم الله، والعمل على عدم ثبوته.
قوله رحمه الله: [ومَنْ جُرِحَ تَيمّم له، وغَسَلَ الباقِي]: الضمير في قوله: [له] عائد إلى الجرح،
وقوله:
[وغَسَلَ الباقِي] أي: باقي جسده،
ووجه ذلك:
أنه يستطيع غسل باقي جسده؛ فبقي على الأصل، والجرح لا يمكنه أن يغسله فرُخّصَ له بالتيمم من أجله. وهذه المسألة يعبر عنها العلماء بالجمع بين البَدلِ، والمُبْدل، ويقول بها فقهاء الحنابلة، والشافعية، وغيرهم في مسائل.
والأصل في البدل، والمبدل أن لا يجتمعا؛ لأنهما ضِدّان والضِّدان لا يجتمعان،
فأنت لا تستطيع أن تقول:
هذا حلو، مرّ؛ وتقصد في آنٍ واحدٍ،
ولكن إما أن تقول:
هذا حلو،
وإما أن تقول:
هذا مر، وإذا ثبت أنه لا يجمع بين البدل، والمُبدل فإن هذه المسألة مستثناة على هذا القول المرجوح.
وقال بعض العلماء: إنه إذا أمكنه أن يبلّ يده، ويُمرّها على الجرح مبلولة؛ فإنه يجزيه ذلك، ولا يطلب منه أن يتيمم للجرح.
قوله رحمه الله: [ويَجِبُ طَلَبُ الماءِ فِي رَحْلِه، وقُربِه]: أي يَلزم المكلّفَ عند دخول الوقت طلبُ الماءِ، وهذا بناءً على الأصل، لأن " ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ ".
قوله رحمه الله:
[في رَحْلِه، وقُرْبِهِ] الرّحل: المتاع،
والمراد: أن يبحث عن الماء في متاعه، فإذا كان في منزله، وحضرته الصلاة بحث في المنزل، وإن كان في فلاة، أو خارج المدينة بسيارته بحث أولاً في سيارته، وأمتعته هل يوجد فيها ماء هذا هو الأصل،
وقوله [قُرْبِهِ] أي: قريباً من متاعه، أو من موضع نزوله، فإذا لم يجد عنده بحث عند رفاقه، وزملائه، والمسافرين معه، وسألهم،
ويشمل قوله:
[قُرْبِهِ] المواضع القريبة من مكان نزوله،
وإذا كان مقيماً ولم يجد الماء بحث عند الجيران القريبين منه بسؤالهم: هل عندهم ماء، فلما كان مطالباً أن يبحث في رحله، وفي جماعته، والمكان الذي هو نازل فيه فإنّ ما قرب منه كذلك داخل في حكم الأصل من وجوب الطّلب، فيلزمه أن يبحث فيه، لكن لو كان بعيداً عنه؛
فإن البعيد فيه تفصيل:
فإن كان الوقت يسع بحيث يستطيع الحصول على الماء، والتطهر به قبل خروج وقت الفريضة، فحينئذ يجب عليه الطلب إذا ظن وجوده، وإلا فلا.
قوله رحمه الله: [وبِدِلالةٍ]: يعني: أن يسأل الناس عن مكان وجود الماء فإذا كان في قرية سأل أهلها، ولذلك يقولون من آداب السفر أن الإنسان إذا نزل في موضع أن يسأل عن مكان الماء حتى يتوضّأ ويغتسل، وأن يسأل عن القبلة، وأن يسأل عن موضع قضاء حاجته، قالوا هذه من الأمور التي يراعيها المسافر، وكانوا يستحبون للضيف إذا نزل أن يَدُلّه مضيفُه على هذه الأمور قبل أن يبتدئه بالسؤال عنها،
فكانوا يَعدُّونه من إكرام الضيف فيقول له:
القبلة كذا، وقضاء الحاجة هنا، والماء إذا أردته هنا.
و" الدِلالةُ " مأخوذة من الدليل، والمراد بها هنا الأمارة، والعلامة التي يُستدل بها، فيطلبها بالسؤال والبحث،
والدلالة:
أن يسأل الناس أن يَدَلُّوه: أين مكان الماء، وإذا ثبت أنه يجب عليه أن يطلب الماء،
ويجب عليه أن يبحث فإنه إذا سألك سائل وقال:
نزلت بقرية، ثم لم يكن عندي ماء، ثم جلست أنتظر لعل الماء يأتيني حتى خرج الوقت، أو تيممت قبل خروج الوقت، وصليت؛ فما الحكم؟
تقول له:
هل طلبت الماء؟
قال:
لا لم أطلبه،
تقول:
إذاً أنت آثم، قد كان ينبغي عليك أن تطلب الماء، لأن الله -عز وجل- أوجب عليك أن تتطهر بالماء أصلاً، وتطهرك بالماء يفتقر إلى وجوده، ووجوده يفتقر إلى طلبه؛ إذاً فأنت مأمور بطلبه، وبناءً على ذلك أنت آثم بتفريطك في السؤال، فقد كان المنبغي عليك أن تسأل،
ولذلك قالوا:
لو أنه صلّى في قرية، وكان بإمكانه أن يسأل عن جهة القبلة، ولم يسأل، واجتهد من عند نفسه، وصلّى، ثمّ تبين أنه على غير القبلة لزمه أن يُعيدَ؛ لماذا؟ لأنه بإمكانه أن يعرف القبلة بالسؤال ولما لم يسأل فرّط فألزم بالإعادة كذلك هنا في مسألة طلب الماء، ولا يقال إنه جاهل لهذا الحكم؛ لأنه معلوم بأصل الفطرة، والشّرع أن الجاهل يسأل فإذا جهل مكان الماء، أو جهة القبلة، ولم يسأل، وعنده من يدلُّه عليها لم يكن جهله على هذا الوجه عذراً.
قوله رحمه الله: [فإِنْ نَسِيَ قُدْرَتَه عَليْهِ، وتَيممَ أَعَادَ]
مراده: أن الشخص إذا كان قادراً على أن يحصل على الماء مثل: أن يكون قريباً منه، ثم نَسي، واعتقد أنه لا يستطيع أن يحصل عليه قبل خروج الوقت فإنه إذا تيمّم، ثم تذكر بعد ذلك، وتبيّن له خطَؤُه لزمته الإعادة للصلاة، وهذه المسألة نصَّ عليها الإمام أحمد رحمه الله،
ودليلها:
أنها طهارة تجب مع الذكر، فلم تسقط بالنسيان كما لو صلّى ناسياً حدثَه، ثم تذكّر لزمته الإعادة.
فالطهارة بالماء في حقه لازمة لأن الماء قريب منه وبإمكانه أن يتحصل عليه ويتطهر كما أمره الله، فإذا نسي قدرته على ذلك، وتبين أنه مخطئ سقط هذا الظن، ولم يُعْتبر،
ومن قواعد الفقه:
[لا عِبْرَةَ بالظّنِ البيّنِ خَطؤُه] أي: لا عبرة بالظنّ الذي بان خطؤُه.
قوله رحمه الله:
[وإِنْ نوى بِتيمّمه أحْداثاً]: هذا كما تقدم معنا جوازه في طهارة الماء، فيجمع بين حدثين في طهارة واحدة كالبول، والغائط، والجنابة، والحيض، فإنه يُجزيه،
وقد قال عليه الصلاة والسلام:
[إِنما الأَعْمَالُ بالنّياتِ، وإنما لِكُلِّ امْرِئ مَا نوَى] فبَيّن -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنّ من نوى شيئاً كان له، فإذا نوى أكثر من حدثٍ أجزأته نيته عما نواه.
قوله رحمه الله: [أو نَجاسةً عَلى بَدَنِه تَضرُّهُ إِزَالتُها] ِ:
أي: أن إزالته للنجاسة بغسلها يترتب عليه ضرر في بدنه، فإنه لا تلزمه إزالتها، ولكن يتيمم عنها،
ومن أمثلتها عند العلماء: الدّم إذا تجلّط، وتخثّر على موضع الجرح فإنك لو قلت أزلْهُ فإنه سوف يتضرّر بإزالته، كما في بعض الجراحات التي يصعب فيها إزالة هذا الدم المتجلط قبل إستواء الجرح، فعلى قول الجماهير بنجاسة الدم فإن هذا الدم لا يمكن أن يغسله، فطهارة الماء شبه متعذرة فيه،
وبناءً على ذلك قالوا: يَنْتقل إلى التيمم، وتُنزّلُ طهارةُ الخبثِ منزلةَ طهارةِ الحدثِ، فيتيمم من أجل هذه النجاسة، وذهب الجمهور إلى أنه لا تلزمه إزالتها أصلاً فلا يلزمه تيمم، وهو الصحيح؛ لأنه سقط التكليف بما فيه حرج فلم يلزمه البدل، وهو التيمم، لأنّ أصله وهو الماء لم يكلف به.
قوله رحمه الله: [أو عَدِمَ ما يُزِيلهَا]: الضمير عائد إلى النجاسة والمراد أن لا يجد الماء الذي يزيل النجاسة.
قوله رحمه الله:
[أو خَافَ بَرْداً]: أو خاف برداً،
أي:
خاف إذا إغتسل أن يهلك بسبب البرد، أو يحصل له ضررٌ.
قوله رحمه الله: [أو حُبِسَ في مِصْرٍ]: أي حبس في موضع داخل مدينة، ومنع من إيصال الماء إليه،
مثل: أن يوضع في غرفة، أو نحوها، وليس فيها ماء فتيمّم؛ فإنه يصح منه ذلك،
لقوله سبحانه:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وهو لم يجد الماء فتحقق فيه الشرط المعتبر،
ولقوله عليه الصلاة والسلام:
[الصَّعيدُ الطَّيبُ طَهُورُ المسلم، ولو لَمْ يجِدِ الماءَ عَشْرَ سِنينَ] وهذا لم يجد الماء فصار تيممه صحيحاً، فتصح صلاته ولا تلزمه الإعادة؛
خلافاً لمن قال: إن هذه الأعذار نادرة، فلا تتعلق بها الرخص.
قوله رحمه الله: [أوْ عَدِمَ الماءَ، والتُّراب صَلّى، وَلمْ يُعِدْ]
مراده: أن من لم يجد ماءً، ولا تراباً؛ فإنه يُصلّي على حالته، ولا تلزمه الإعادة بعد ذلك، وتُعْرف هذه المسألة بمسألة [فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ] وقد إختلف العلماء رحمهم الله فيها على أربعة أقوال:
القول الأول: يصلي، ولا يعيد.
القول الثاني:
لا يصلي، ويعيد.
القول الثالث: يصلي، ويعيد.
القول الرابع: لا يصلي، ولا يعيد.
وقد مشى المصنف رحمه الله على القول الأول، وهو أرجحها في نظري والعلم عند الله، وقد بينت ذلك في شرح البلوغ وعمدة الأحكام، ودلّ على رجحانه ما ثبت في الحديث الصحيح في قصة نزول آية التيمم حينما ضاعَ عِقْدُ عائشة رضي الله عنها وإلتمسَه الصَّحابةُ رضي الله عنهم، وحضرتِ الصّلاةُ بعضَهم، وليس عنده ماء، فصلّى، ثمّ لما رجعوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبروه؛ فصوّب فعلهم، ولم يأمرهم بالإعادة، وقد صلّوا بدون وضوء، ولا تيمم؛ لأن التيمّم لم يُشرع بعدُ، فدل على أن من فقد الطهورين صلى، ولا تلزمه إعادةٌ.
قال رحمه الله: [ويَجبُ التيمّم بترابٍ طَهُورٍ لَهُ غُبَارٌ] هذه العبارة قصد المصنف -رحمه الله- أن يبيّن بها الشيء الذي يَتَيمَّمُ به المكلف، وهذا مناسب لما قبله؛ لأنك إذا بيّنت الحالات التي يجوز فيها التيمّم والحالات التي لا يجوز فيها؛ سيسألك السائل إن كان من أهل التيمم بأيّ شيءٍ يكون التيمّم؟
قال رحمه الله: [ويَجِبُ التَّيَمُّمُ بِتُرابٍ لهُ غُبارٌ]: خصّ المصنف -رحمه الله- التيمم بالتُّراب على ظاهر ما ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بقوله:
[جُعِلتْ لي الأرضُ مَسْجداً، وتُربَتُها طَهُوراً]
أي: جعلت التربة لأمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَهوراً.
قالوا:
فدلّ هذا الحديث على أنّ التراب يُتيمم به، وهذا مستفاد من ظاهر آيتي النساء،
والمائدة في قوله سبحانه: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.إذا ثبت أنّ التراب يُتيمم به بدلالة نصّ الكتاب، والسُّنة؛ فإنّ العمل عند أهل العلم على ذلك، وليس هناك خلاف بين أهل العلم -رحمهم الله- أنّ التراب يُجزئ في التيمم.
ولكن الخلاف بينهم: هل يشترط أن يكون له غبار؟ هذه المسألة الأولى.
والمسألة الثانية: هل ينحصر التيمم في التراب، أو يشمله، وغيره مما صَعَدَ على وجه الأرض؟فأما بالنسبة للتراب الذي له غبار، فإنه لا خلاف فيه بين أهل العلم -رحمة الله عليهم- أنه لو حصل به التيمم يُجزيه، وذلك لظاهر نصّ الكتاب، والسُّنة، وأجمع عليه العلماء رحمة الله عليهم كما ذكرنا.
وأما اشتراط أن يكون له غبار؛ فهي مسألة خلافية بين أهل العلم -رحمهم الله-:
أصحها: أنه لا يشترط أن يكون له غبار، وذلك لظاهر الكتاب، والسنة،
فأما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ووجه الدلالة:
أن ظاهر قوله: {صَعِيدًا} العموم، فيشمل جميع ما صَعَدَ على وجه الأرض من التراب، ولم يخصّه سبحانه بكونه له غبار.
وأما السُّنة: فما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للرجل الذي لم يجد الماء: [عَليْكَ بالصَّعيدِ فإِنه يَكْفِيكَ]، وهو عامُّ أيضاً كالآية الكريمة، ومن هنا اجتمعت دلالة الكتاب، والسُّنة على أنّ التيمم يَصِحُ بكل ما على وجه الأرض من تُراب له غُبار، أو لا غُبار له.
وقد مشى المصنف رحمه الله على قول من يقول باشتراط أن يكون للتراب غبار،
واستدل أصحاب هذا القول بقوله سبحانه: {صَعِيدًا طَيِّبًا}
فقالوا: إن الوصف بالطِّيب يَقْتضي أَنْ يكون له غبار، وهذا مردود،
فإن الوصف بالطّيب المراد به:
طهارته من النجاسة،
والمراد به:
أن لا يتيمم بتراب نَجِسٍ.
ثم إننا نقول: إنه لو خُص التراب بما له غبار لخالف ذلك مقتضى الرُّخصة، فإننا نعلم أن كثيراً من الأرض في بعض الأماكن رمال لا غبار لها،
فلو قلنا:
إن التيمم لا يحصل إلا بتراب له غبار لأجحف بالناس ففي بعض الصحاري ربما تسير يوماً كاملاً، ولا ترى أرضاً لها غبار، وكذلك المناطق الجبلية والحِرَارِ.وأما المسألة الثانية وهي حصر التيمم في التراب، فأصحّ الأقوال كما سبقت الإشارة إليه أنه يجوز التيمم بكل ما على وجه الأرض سواء كان تراباً، أو غيره؛
وذلك لظاهر قوله تعالى:
{صَعِيدًا طَيِّبًا} والصّعيدُ كلُّ ما صعدَ على وجْهِ الأرض، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصف المدينة بكونها طيبة مع أنّ أَكْثرها حِرَار، وهذا الدليل إنتزعه الٍإمام ابن خزيمة -رحمه الله- كما أشار إليه في صحيحه من ظاهر السُّنة أن الله وصف المُتَيمم به بكونه صعيداً طيباً، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصف المدينة بكونها طيبة مع أن أكثر أرضها حرار؛ فدل على أن وصف الطّيب ليس منحصراً بالتراب الذي له غبار،
وأن المراد به:
الطهارة وتكون في كل شيءٍ بحسبه.إذا ثبت هذا فيجوز لك أن تتيمم بالتراب، وبغير التراب مما صعد على وجه الأرض، لكن يشترط أن يكون طاهرا، فلا يُتيمم بنجس.
والمصنف رحمه الله مشى على مذهب الذين قالوا: بتخصيص التيمم بالتراب؛
وقد استدلوا على مذهبهم بتخصيص التيمم بالتراب بقوله عليه الصلاة والسلام:
[جُعِلتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِدَاً، وتُرْبَتُها لَنا طَهُوراً]
ووجه الدلالة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصّ على أن التراب يُتيمم به، ومفهوم ذلك أن غيره لا يتيمم به.
وهذا الإستدلال يجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أنه إستدلال بمفهوم اللقب، ومفهوم اللقب ضعيف على القول الراجح عند الأصوليين.
الوجه الثاني:
أنّ النصّ الوارد في إباحة التيمم في دليل الكتاب عامُّ،
وهو قوله سبحانه وتعالى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} والحديث الذي استدلوا به ذكر فرداً من أفراد هذا العامِّ، وهو التراب، فلم يقتض هذا الذكر لهذا الفرد أن يكون العامُّ مخصصاً به، بل نقول إنه لا تعارض بينهما، فالآية تبقى على عمومها، وكون السنة وردت بفرد من أفراد ذلك العام يكون بمثابة التمثيل لا من باب إلغاء غيره،
والقاعدة:
" أن ذِكرَ الفَرْد مِنْ أَفْراد العَامّ لا يَقْتضي تَخصيصَ الحُكمِ بهِ ".
كذلك من أدلتهم على تخصيص التيمم بالتراب [أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَربَ بيديْه الأرضَ ومسحَ بِهما وجْهَه، وكفّيهِ]، ولا معنى للضرب إلا طلبُ الغبار، وهذا كما قلنا أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعل ذلك في بعض ما يجزئ التطهر به، وهو التراب، ومن طبيعته إذا تيمم به الإنسان أن يضرب بكفّيه عليه كما أن من طبيعته إذا تيمّم بالحجر أن يمسح عليه، فكلُّ فرد من أفراد العام يُراعي المتيممُ طبيعَتَه عند التيمم به،
ثمّ إننا نقول:
لا نسلم ما ذكرتم من أن المقصود بالضرب طلب الغبار على وجه يصير مخصصاً للرخصة،
لأنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام:
أنه نَفخَ في يَديْه بعد ضَرْبهما على الأرض، والنّفخ يزيل الغبار، فبطل ما ذكروه.
قوله رحمه الله:
[وفُروضُه مَسْحُ وجْهِهِ، ويَديْه إِلى كُوعَيهِ]: بعد أن بيّن رحمه الله: متى يجوز التيمم وما الذي يتيمم به شرع في بيان صفة التيمم، والمناسبة على هذا الترتيب واضحة،
وقوله رحمه الله:
[وفُروضُه] الضمير عائد إلى التيمم، وتقدم معنا بيان معنى الفرض لغة، واصطلاحاً،
والتعبير بقوله: [وفُروضُه] دالّ على أن المراد: بيان صفة الإجزاء التي لا يصحّ التيمم بدونها.
قوله رحمه الله: [مَسْحُ وجْهِهِ]:
الوجه: ما تحصل به المواجهة، وقد تقدم ضابط الوجه في صفة الوضوء، وأنه من منابت الشعر عند ناصيته إلى ما انحدر من الذقن، واللّحيين طولاً، وأما عرضاً، فمن الأذن إلى الأذن.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 17 ( الأعضاء 0 والزوار 17)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 374.62 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 368.74 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.57%)]