الوصايا النبوية - الصفحة 4 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح صحيح مسلم الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 794 - عددالزوار : 81361 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 60 - عددالزوار : 16637 )           »          حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          أندلسييو مدينة فاس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          أهلا يا رمضان شهر الإقبال على الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5055 - عددالزوار : 2237571 )           »          القائد المغولي الكبير تيمور لنك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          أفضل الكلام وأحبه إلى الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12 - عددالزوار : 329 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4638 - عددالزوار : 1515766 )           »          كيف نستعدُ لرمضانَ كما ينبغي؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26-09-2025, 01:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوصايا النبوية

الوصايا النبوية (35) الوصية بالخصال التي تدخل الجنة (موعظة الأسبوع)



كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن عبد الله بن سَلامٍ -رضي الله عنه- قال: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ، انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاثًا، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ، عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).
مجمل الوصية(1):
وصية عظيمة، جمعت جَلال الدين وجَمال الإسلام؛ لتؤسس منظومة المجتمع المتآخي الراقي، المتكاتف؛ مجتمع العطاء والرحمة والسخاء، الذي يتَّسم بمكارم الأخلاق ونُبل المعاملة. هذه الوصية ينقلها لنا الصحابي الجليل عبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ -رضي الله عنه-، فيقول: "لَمَّا قَدِمَ" أي: جاء وهاجَر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ "انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ" أي: اتَّجَه النَّاسُ ناحيته، وذَهَبوا إليه مُسرعين. "وَقِيلَ: قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ثَلاثًا، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ؛ لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ"، أي: رأيتُ مَلامِحَه "عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ"؛ لِما يَبْدُو عليه مِنَ النُّورِ والجَمالِ والهَيْبَةِ الصَّادِقَةِ. "فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ، أَنْ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ...). وذكر الخصال التالية التي بها يتربَّى النَّاسُ على الفَضائلِ والمكارمِ حتَّى يكونَ المجتمعُ مُتحابًّا متعاونًا، وبشَّر من حافظ عليها بالمكافأة العظمى، وهي الجنة.
الخصلة الأولى: (أَفْشُوا السَّلَامَ):
- السَّلامُ عَلَيْكُمْ: جملة قصيرة المبنى، عظيمة المعنى، تحمل في مضامينها رسالة محبة، وعنوان مودة، يحلو بها اللسان، يرسل قائلها إلى كل من سمعها الأمن والأمان، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ) (رواه مسلم).
- السَّلامُ عَلَيْكُمْ: تحية من عند الله، وعبادة وثواب، وسمة المسلم التي يعلو بها على من سواه، فعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: قيل: يا رسول الله، الرجلان يلتقيان، أيهما يبدأ بالسلام؟ فقال: (أَوْلَاهُمَا بِاللَّهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- السَّلامُ عَلَيْكُمْ: مِنْ مُوجِبات المغفرة والرحمة، فعن هانئ بن يزيد -رضي الله عنه- قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَالَ: (إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ بَذْلَ السَّلَامِ وَحُسْنَ الْكَلَامِ) (رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني).
الخصلة الثانية: (وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ):
(أَفْشُوا السَّلَامَ)، إحسان بالقول، و(أَطْعِمُوا الطَّعَامَ)، إحسان بالفعل، وترسيخ لقيمة البذل والتآلف، واستدعاء لمعاني الأخوة وحسن الجوار. عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الإسلام خير؟ قال: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ) (متفق عليه).
- (إِطْعَامُ الطَّعَامِ): يشمل الصدقة والهدية والضيافة ابتغاء وجه الله، بل يشمل فعله سائر الدواب والحيوانات. قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لَأَجْرًا؟ فقال: (فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) (متفق عليه).
- (إِطْعَامُ الطَّعَامِ): بأيِّ مقدار، ولو كان شق تمرة، فإنها تَرْبُو في كف الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ) (متفق عليه).
الخصلة الثالثة: (وَصِلُوا الْأَرْحَامَ):
- (وَصِلُوا الْأَرْحَامَ): وهم كل من تربطك بهم رحم أو قرابة، من جهة الأب أو الأم، وحقهم في البذل والعطاء مقدم على اليتامى والفقراء؛ قال الله -سبحانه-: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (البقرة: 215).
- (وَصِلُوا الْأَرْحَامَ): الأرحام مِنْ نِعَم الله، فهم سند في الحياة متين، وعضد في النوائب معين، هم سرور في الحزن، وعز في الذل، وسعة في الضيق، وجبر نفس في المكسور. كان العرب يتناشدون بالرحم ويعظمونها؛ فأنزل الله -تعالى-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء: 1).
- (وَصِلُوا الْأَرْحَامَ): تكون بالقول الطيب، والوجه النيِّر، وتعاهدهم بالزيارة والنصح، ومسانَدة المكروب، وعيادة المريض، والصفح عن عثراتهم، واجتناب الإضرار بهم قولًا أو فعلًا، فالثواب عليهم مضاعَف؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
الخصلة الرابعة: (وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ):
- (وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ): وقت عظيم، تخلو فيه النفس وتناجي خالقها، في أعظم زمن لإجابة الدعاء. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَنْزِلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟) (متفق عليه).
- (وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ): فأهل القِيامِ هم أصحاب الشَّرفِ والجَمالِ والقَبولِ بين الناس؛ فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ) (رواه البيهقي في شعب الإيمان، وحسنه الألباني). وسُئِلَ الحسن البصري -رحمه الله-: "ما بالُ المتَهجِّدين بالليل أحسن الناس وجوهًا؟ قال: لأنهم خَلَوْا بالرحمن -جل وعز-، فألبسهم نورًا من نوره".
- (وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ): فأهل القِيامِ هم أكثر الناس تَأَهُّلًا لدخول الجنات؛ قال -تعالى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات: 15-18).
المكافأة على الخصال: (تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ):
- (تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ): وصف بليغ طيب ناطق بالحفاوة، التي هي عطاء الله الخالص لخواص الناس، الذين أمضوا حياتهم في طريق السلام والإحسان، فالجزاء من جنس العمل؛ قال الله -تعالى-: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) (النحل: 30). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا)، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، ‌وَصَلَّى ‌بِاللَّيْلِ ‌وَالنَّاسُ ‌نِيَامٌ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
اللهم إنا نسألك الجنة وما قَرَّبَ إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قَرَّبَ إليها من قول وعمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه الوصية من أوائل أقواله -صلى الله عليه وسلم- أولَ مَقْدَمِه المدينةَ؛ ليؤكد على أهمية التكافل في المجتمع، وتقوية لحمته، ورَصِّ صفوفه قلبًا وقالبًا، وأن يَحْمِلَ الغنيُّ الفقيرَ، والميسورُ المعسرَ، وأن يَبْذُلَ المستطيعُ ما يستطيع من كلمة طيبة، وسلوك نَدِيٍّ، وصلة موصولة إلى الدرجات العلا، الغاية التي يسعى إليها كلُّ مسلم، ويتمنَّى بلوغَها كلُّ عاقل، وهي الجنة.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 03-10-2025, 03:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوصايا النبوية

الوصايا النبوية (36)

الوصية بأصول في التربية

(موعظة الأسبوع)



كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عند جده قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) (رواه أبو داود، وأحمد، وصححه الألباني في الإرواء).
مجمل الوصية:
في هذه الوصية توجيهان هما من أصول التربية:
الأول: ترسيخ الجانب التعبدي في نفوس الأطفال من الصغر، لينشأ الغَرْسُ موصولًا بربه -سبحانه وتعالى-، وهو ما تضمنه قوله: (مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ...).
الثاني: ترسيخ الجانب الأخلاقي، حيث تعويد الأطفال من الصغر على خُلُق العفة والحياء، وما يحيط بذلك من آداب. وهو ما تضمنه قوله: (وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ).
بيان ذلك من خلال ثلاث وقفات:
الأولى: أهمية تربية الأبناء على تعاليم الإسلام:
- الأبناء نعمة من الله، تمناها الأنبياءُ والصالحون: قال -تعالى-: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) (الكهف: 46)، وقال -تعالى- عن بعض أنبيائه: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) (مريم: 5).
- الأولاد مسؤولية الآباء من يوم الولادة، فالأطفال لا حساب عليهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَصَابِ حَتَّى يُكْشَفَ عَنْهُ) (رواه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني).
- مرحلة الطفولة هي مرحلة التعليم والغَرْسِ والتثبيت؛ قالوا: (التعليم في الصغر كالنقش على الحجر)، وقال الشاعر:
قد ينفع الأدب الأحداثَ في مَهَلٍ وَلَـيْسَ ينـفـع عند الكِبَرَةِ الأدبُ
إن الغصونَ إذا قَوَّمْتَها اعْتَدَلَتْ وَلَنْ يَلِينَ إذا قـَـوَّمْتَهُ الخَـشـَبُ
- أكثر الآباء مشغولون بالتربية الدنيوية (الشهادة، الصحة، المستقبل الوظيفي)، ويغفلون عن التربية الدينية (الصلاة، الأخلاق، المستقبل في الآخرة)؛ قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6).
- الحذر من ترك الأولاد لجهات غير أمينة (بيئة سيئة، التقنيات ووسائل الاتصالات الحديثة)(1)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ) (متفق عليه).
الثانية: لِمَ البداية بالصلاة؟
- الصلاة هي الشعيرة والمعلم الأعظم في بناء الدين، وبغيرها يسقط وينهدم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ) (رواه أحمد (23496) والترمذي (2616)، وصححه الألباني).
- الصلاة نجاة من هلاك الدنيا والآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ) (رواه النسائي، وصححه الألباني في صحيح النسائي)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- الصلاة هي العبادة الوحيدة التي لا عذر في تركها، حيث تؤدَّى على كل حال (في المرض والصحة، في السلم والحرب، في السفر والحضر)؛ قال -تعالى-: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) (النساء: 103).
- ولذا كانت أول ما يُربَّى عليه الصغار: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ(2).
- مشروعيَّةُ ضَرْبِ الولد (ذكرًا أو أنثى) على التَّقصير في الصلاة والواجبات إذا بَلَغَ عَشْرَ سِنينَ حتَّى يعتادَ على أدائها، قال: (وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ)(3).
الثالثة: سَدُّ كلِّ ذَرَائِعِ الْفِتْنَةِ بين الذُّكُورِ والإناثِ:
- تعاليم الإسلام للحفظ والوقاية (وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ).
قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "الحديث عام يعم البنين والبنات، والتفريق يكون بجعل كل واحد من البنين، وكل واحدة من البنات في فراش مستقل، ولو كانوا في غرفة واحدة؛ لأن وجود كل واحد مع الآخر في فراش واحد قد يكون وسيلة لوقوع الفاحشة، وفَّق الله الجميع لكل خير" (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز)، قال -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) (التغابن: 16).
التفريط ينشأ عنه الكوارث، ولا يجدي عند ذلك الندم (حوادث الزنا بين المحارم أكثرها بسبب ذلك).
بل يُعَلَّمُ الأبناءُ تعاليم وآداب الإسلام عمومًا، وللوالدين أجر (آداب اللباس، آداب النوم، آداب الكلام، آداب السلام، آداب الطعام، آداب المسجد، إلخ).
الخاتمة: الحثُّ على تعليم الأولاد كل ما ينفعهم ويصلحهم:
كما يُؤْمَرُ الصَّبيُّ والجارية بالصلاة لسبع، ويُضْرَبَانِ عليها لعشر، كذلك يُؤْمَرَانِ بصوم رمضان، ويُشَجَّعَانِ على كل خير، من قراءة القرآن، وصلاة النافلة، والحج والعمرة، والإكثار من التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد، ويُمْنَعَانِ من جميع المعاصي.
نسأل الله أن يحفظ أولادَنا وأولادَ المسلمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قبلَ عقودٍ يسيرة من الزمن، كان الأولادُ يتهافتونَ إلى الوالدِ مِنْ كلِّ مكانٍ تهافتَ الفراشة على الزَّهرة بمجرد دخوله إلى البيتِ، ويَهْرَعُونَ إلى الباب لاستقباله والسَّلامِ عليه، ويُحَاوِلُونَ الجلوسَ بالقرب منه وقتَ الأكلِ والشُّرْبِ، وكان الصِّغَارُ يتزاحمون على النَّومِ بجانب والدهم، ويمرحون ويفرحون لرؤيته وتقبيل يده. أما في عَصْرِ الإنترنت وانشغالِ مُعْظَمِ النَّاسِ بالهواتف (الغَبِيَّةِ) ووسائل (التَّقاطعِ) الاجتماعي -إنْ صَحَّ التَّعبيرُ-، فقد عَزَفَ أكثرُ الأطفال والمراهقين وحتى الشباب عن مُجَالَسَةِ آبائهم والحديث إليهم والاستفادة من تجاربهم، وفي حالات كثيرة يخرج الأبناءُ من الغرفة واحدًا بَعْدَ الآخر بمجرد دُخُولِ والدهم إليها، فيبقى وحيدًا فريدًا مع نفسه، وذلك بسبب انشغالهم بالصداقات الوهميَّة والألعاب الإلكترونية ومنصَّات التواصل الاجتماعي، أو ربَّما لكثرة غياب الوالد عن البيت، أو لأسباب أخرى.
(2) وللصلاة في الصغر فوائد كثيرة تَعُودُ على الأطفال: منها: تقوية علاقته بالله -تعالى-. ومنها: غَرْسُ قيم التواضع والشكر عمليًّا من خلال السجود وعلة ذلك. ومنها: أنها تربية نفسية حيث السكينة من كثرة الحركة والتوتر. ومنها: تعويد على الجماعية واجتناب الوحدة. ومنها: التَّعَوُّدُ على الالتزام والانضباط من خلال مواعيد الصلاة.
(3) ويُشْتَرَطُ في ضَرْبِ الصَّبيِّ على الصلاة أن يكون ضَرْبًا هَيِّنًا غير مُبَرِّحٍ، لا يَشُقُّ جلدًا، ولا يَكْسِرُ سِنًّا أو عَظْمًا، ويكون على الظهر أو الكتف وما أشبه ذلك، ويُتَجَنَّبُ الوجه؛ لأنه يُحَرَّمُ ضربه. والضرب نوع من العقوبة، وإلا فقد يكون غيره أنجع في العقوبة، فيُتَخَيَّرُ الأنسب.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10-10-2025, 01:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوصايا النبوية

الوصايا النبوية (37) الوصية بآداب الحضور إلى الصلاة (موعظة الأسبوع)



كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن أبي قتادة الحارث بن ربعي -رضي الله عنه-، قال: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: (مَا شَأْنُكُمْ؟) قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ؟ قَالَ: (فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) (رواه البخاري، ومسلم).
مجمل الوصية:
لَمَّا كانت الصَّلاة لقاءً بين العبد وربِّه، ناسب ذلك أن يستعدَّ العبد لهذا اللقاء، ويتأدَّب بالأدب اللازم مع الله -سبحانه وتعالى- عند الإتيان إلى الصَّلاة، فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- أرشدَهم إلى ما يلزمهم مِن السكينة والوقار عند قدومهم إلى الصَّلاة، وأمرهم بالهدوء والتأنِّي، والحكمة في ذلك ما نبَّه عليه -صلى الله عليه وسلم- كما وقع عند مسلم: (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ) (رواه مسلم: 603). وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- أمَّته إلى كثيرٍ مِن آداب الحضور إلى الصَّلاة، منها ما في هذا الحديث، وهو: الحث على السكينة والوقار عند الإتيان إلى الصَّلاة، وهي فرصة لذكر بقية آداب الحضور إلى الصَّلاة.
الخروج على أحسن هيئة:
فينبغي للمصلي أن يلبس عند مناجاة ربِّه أحسن ثيابه في صلواته من غير تفريق بين صلاة ليليَّة أو نهاريَّة، صلاة فجر أو غيرها؛ لقوله -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف: 31).
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "إن أهل العلم يستحبون للواحد المطيق على الثياب أن ‌يتجمل ‌في ‌صلاته ‌ما ‌استطاع ‌من ‌ثيابه ‌وطيبه ‌وسواكه" (التمهيد).
وأما الذين يأتون إلى المسجد في هيئة رثة، ورائحة كريهة، وثياب المهنة، ورداء العمل، وملابس النوم؛ فلا شك أن هؤلاء لم يكلِّفوا أنفسهم الاعتناء بأخذ الأدب اللازم في بيوت الله -تعالى-، وهم قد خالفوا قول الله: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، فيتأذَّى المصلون بالرائحة، وتزكم الأنوف بالنتن والعرق، ولو أن الإنسان أراد مقابلة شخص له جاه دنيوي لم يأتِ بهذه الملابس، بل إنه يرتدي أحسن ثيابه، ويتطيَّب بأحسن ما يجد، فكيف يهتم بالوقوف أمام المخلوق، ولا يهتم بالوقوف أمام الخالق!
التبكير بالحضور:
وذلك بانتظار إقامة الصَّلاة، والاشتغال بالذكر والنوافل في المسجد: قال -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (آل عمران: 133)، وقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) (المؤمنون: 61). وقد كان السلف -رحمهم الله- يهتمون بذلك جدًّا، وكانوا يشتاقون إلى الصَّلاة وقلوبهم متعلِّقة بالمساجد: قال عدي بن حاتم -رضي الله عنه-: "ما دخل وقت صلاة قط إلا وأنا أشتاق إليها"، وقال: "ما أُقيمت الصَّلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء"، وكذلك قال سعيد بن المسيب -رحمه الله-: "ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد".
الدعاء عند الخروج إلى الصَّلاة:
يستفتح خطواته إلى المسجد بالدعاء: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الصَّلاة، وهو يقول: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا) (رواه مسلم).
تقديم الرجل اليمنى عند الدخول:
وخُصَّت اليمنى بالدخول لشرفها، واليسرى بالخروج للدنيا: عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: "مِنَ السُّنَّةِ إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ الْيُمْنَى، وَإِذَا خَرَجْتَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ الْيُسْرَى" (أخرجه الحاكم، وقال: "صحيح على شرط مسلم"). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ، فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ، فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ" (متفق عليه).
الدعاء عند دخول المسجد والخروج:
فيسأل رحمة ربِّه عند الدخول، والفضل من الدنيا عند الخروج: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ) عند الدخول، وعند الخروج: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ) (رواه مسلم). وورد أيضًا في الحديث الصحيح: (أَعُوذُ بِاللهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (رواه أبو داود بإسناد جيد).
قال العلماء: (إنما طُلبت الرحمة في الدخول وطُلب الفضل في الخروج؛ لأن المصلي إذا دخل المسجد اشتغل بما يقرِّبه إلى الله -تعالى- وإلى رضوانه وجنته؛ من: الصَّلاة والذكر والدعاء، فناسب ذكر الرحمة، وإذا خرج اشتغل بابتغاء الرزق الحلال فناسب ذكر الفضل"، قال الله -تعالى-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) (الجمعة: 10).
التقدُّم إلى الصف الأول، والقرب من الإمام:
ففي الصف الأول مزايا عظيمة(1): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا) (رواه مسلم). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ) (رواه مسلم). وينبغي لطلبة العلم والحفظة أن يتقدَّموا إلى الصف الأول قبل غيرهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (رواه مسلم).
صلاة تحية المسجد:
من عظيم فضلها، اختلف العلماء في حكمها هل هي سنة أو واجبة؟: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ) (متفق عليه).
فائدة: تُصلَّى تحية المسجد ولو كانت أثناء خطبة الجمعة، والمسجد الحرام إذا دخله للطواف كان طوافه هو التحية، وإذا دخله للصلاة كان تحيته كبقية المساجد صلاة ركعتين.
عدم رفع الصوت في المسجد:
فلا يرفع صوته لا بقراءة القرآن ولا بغيره: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: اعتكف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فسمعَهم يجهرون بالقراءة، وهو في قُبَّةٍ له، فكشف الستْرَ وقال: (أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعَنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ، أَوْ قَالَ: فِي الصَّلَاةِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
والنهي أشد إذا كان في المسجد النبوي أو المسجد الحرام: عن السائب بن يزيد -رحمه الله- قال: "كنت قائمًا في المسجد -المسجد النبوي- فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر -رضي الله عنه-، قال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما -أشار إلى رجلين يتحدثان- فقال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-!" (رواه البخاري).
تسوية الصفوف:
- وهو من كمال صلاة المصلي، وعلامة على اتفاق قلوب المصلين: قال -صلى الله عليه وسلم-: (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ)، وفي رواية: (مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ)، وفي رواية: (اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)، وقوله: (لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ) (متفق عليه).
- وليحذر من تعمُّد ترك الخلل بين الصفوف: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللهُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، (وَمَنْ سَدَّ فَرْجَةً رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) (رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني).
- عظيم الأجر لمن وصل صفًّا وسدَّ فرجة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ) (أخرجه الإمام أحمد، وإسناده صحيح). وقال: (وَمَا مِنْ خُطْوَةٍ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خُطْوَةٍ مَشَاهَا رَجُلٌ إِلَى فَرْجَةٍ فِي الصَّفِّ فَسَدَّهَا) (رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن، وهو في صحيح الترغيب).
عدم هجر المسجد القريب:
- فلا يفعل إلا لغرض صحيح: لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِهِ وَلَا يَتَتَبَّعِ الْمَسَاجِدَ) (رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني)(2).
خاتمة:
تذكير بوصية اليوم، مع الإشارة إلى أهميَّة جميع الآداب السابقة معها ليحصل بذلك الأجر العظيم.
فاللهم اجعلنا من الذين يحافظون على صلاتهم، وارزقنا حسن الأدب في بيوتك الطاهرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) ذكر ابن حجر -رحمه الله- بعضًا منها، فمن ذلك: المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع القراءة، والتعلُّم منه، والفتح عليه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية مَن يكون قدامًا من المصلين، وسلامة موضع السجود من أذيال المصلين.
(2) فالذهاب إلى مسجد أبعد يؤدي إلى سلبيات؛ منها: هجر المسجد الذي يليه، وخلو المسجد وعدم عمارته، وإيحاش صدر الإمام وإساءة الظن به، أما إذا وجد غرض صحيح لتخطي الإنسان مسجده إلى مسجد آخر، مثل أن يكون إمام مسجده لا يقيم الفاتحة، أو لا يطمئن في صلاته، أو يرتكب بعض المخالفات الشرعيَّة، أو يجاهر ببدعة، أو يجاهر بمعصية، فلا بأس بذلك.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 17-10-2025, 09:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوصايا النبوية

الوصايا النبوية (38)

الحذر من صغائر الذنوب

(موعظة الأسبوع)



كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ)، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا: (كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضًا فَلَاةً فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا) (رواه أحمد والطبراني، وحسنه الألباني). وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
مجمل الوصية:
في هذه الوصية يحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من الذنوب الصغيرة؛ لأنه إذا كانت الكبائر ظاهرة، وأثرها واضحًا، فإن صغائر الذنوب قد تكثر في فعل الإنسان دون أن يشعر، فتصبح مهلكة له، فصغار الذنوب تجر بعضها بعضًا حتى تهلك المرء إذا لم يكفر عنها، ثم ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلًا طلبًا لمزيد من الفهم، بقوم نزلوا صحراء، فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا كمًّا كبيرًا فأججوا نارًا، فكذلك الذنوب الصغائر إذا انضمت وتراكمت استعظم أمرها، وكانت وبالًا على صاحبها، فالهلاك قد يكون بسبب أشياء صغيرة لا يراها الإنسان شيئًا بل يحتقرها.
ـ فيا من تستهين بالذنوب.. احذر الاستصغار، والإصرار، فإنهما طريق الهلاك، ولنا مع ذلك وقفات.
الوقفة الأولى: الهلاك بسبب الاستصغار(1):
ـ الغافل يرى ذنوبه صغيرة، لضعف هيبة الله في قلبه وعدم مبالاته بذنبه، حتى لو كان كبيرًا: قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه قال به هكذا فطار" (رواه الترمذي واللفظ له، وأخرجه البخاري باختلافٍ يسيرٍ). وقال أنس بن مالك: "إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات" (رواه البخاري)(2).
ـ الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء وعدم المبالاة، وترك الخوف من الله، مع الاستهانة بها - ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في رتبتها: قال بلال بن سعد -رحمه الله-: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت". وقال ابن القيم: "ولا يزال الشيطان يسهل على الإنسان محقرات الذنوب حتى يستهين بها، فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالًا منه" (التفسير القيم). وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله" (الداء والدواء).
الوقفة الثانية: الهلاك بسبب الإصرار:
ـ وهو المداومة على الذنب الصغير حتى يصير كبيرًا عند الله -تعالى-: قال ابن بطال -رحمه الله-: "المحقرات إذا كثرت صارت كبارًا مع الإصرار" (فتح الباري لابن حجر). وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار".
ـ إشارة مجملة إلى قصة برصيصا العابد حيث تدرج به الشيطان من ذنب إلى ذنب حتى أوقعه في الكفر والعياذ بالله.
الوقفة الثالثة: أهمية المراقبة في اجتناب المحقرات:
ـ المراقبة هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق -سبحانه وتعالى- على ظاهرك وباطنك: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الإحسان، فقال: (الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) (رواه مسلم). وقال ابن المبارك لرجل: "راقب الله تعالى"، فسأله عن تفسيره، فقال: "كن أبداً كأنك ترى الله عز وجل" (إحياء علوم الدين).
ـ كلما زادت مراقبة الله، زاد تعظيمه في النفوس، فيرى المؤمن ما يستهين به البعض عظيمًا: لما نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) (الحجرات: 2). قال ثابت بن قيس: "أنا والله الذي كنت أرفع صوتي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أخشى أن يكون الله قد غضب علي فحزن واصفر، ففقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنه فقيل: يا نبي الله إنه يقول: إني أخشى أن أكون من أهل النار إني كنت أرفع صوتي عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة" (أخرجه النسائي في الكبرى، والبخاري ومسلم بنحوه)(3).
خاتمة: المحقرات تسجل على العبد:
ـ الذنوب جراحات ورب جرح وقع في مقتل، وليس من رقع وخاط كمن ثوبه صحيح: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عَائِشَةُ، إِيَّاكِ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- طَالِبًا) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 8). وقال -تعالى-: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15).
ـ تذكير بالوصية: قال: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ).
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فهذه معاصٍ من جهة السمع، وهذه معاصٍ من جهة البصر، وهذه معاصٍ من جهة اليد، إلخ، فتهلك صاحبها إن لم يتداركه الله. وهذه أمثلة للإشارة إليها: (الحلف بغير الله ـ عدم الطمأنينة في الصلاة ـ سبق الإمام ـ التدخين ـ النظر إلى النساء الأجنبيات ـ الدخول على النساء في غياب الأزواج ـ الخلوة بالنساء في المصاعد والعيادات والمحلات المغلقة ونحوها ـ مصافحة النساء الأجنبيات ـ لبس الذهب للرجال ـ التشبه بين الرجال والنساء ـ سماع الأغاني ـ مشاهدة الأفلام والمسرحيات والمسلسلات ـ إسبال الثياب للرجال ـ التطفيف في الميزان ـ ظهار الرجل من امرأته ـ الغيبة والنميمة ـ ... وهناك ذنوب هي من الكبائر باتفاق يستهين بها كثير من الناس ويحقرونها).
(2) المقصود به: كأن المؤمن واقف عند سفح جبل ويرى ذنوبه مثل ذلك الجبل "يخاف أن يقع عليه"، أي: يخاف أن يقع هذا الجبل عليه، وهو في أسفله؛ وذلك لاستعظام المؤمن أمر معصية الله -عز وجل-، "وإن الفاجر"، أي: الفاسق "يرى ذنوبه كذباب"، أي: مثل تلك الحشرة الصغيرة في حجمها وأذاها؛ فذنبه سهل عنده لا يعتقد أنه يحصل له بسببه كبير ضرر، كما أن ضرر الذباب عنده سهل، "وقع على أنفه قال به هكذا فطار"، أي: عندما يقع على أنفه فيتأذى منه أزاحه بيده ليطير؛ وذلك لضعف هيبة معصية الله -سبحانه وتعالى- في قلب الفاجر.
(3) فالجزاء من جنس العمل: خاف الله في الدنيا خوفًا أقعده عن الخروج من بيته، فجازاه الله بالأمن من هذا الخوف في الدنيا قبل الآخرة.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 26-10-2025, 09:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوصايا النبوية

الوصايا النبوية (39)

الوصية بالاستخارة

(موعظة الأسبوع)



كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن جابر -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: (إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ -وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ- خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ-؛ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ. اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ-؛ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ ارْضَنِي بِهِ). ويسمي حاجته، وفي رواية (ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ) (رواه البخاري).
مجمل الوصية(1):
لما كان أهل الجاهلية إذا أرادوا أمرًا لجأوا إلى زجر الطير، والاستقسام بالأزلام والشرك(2)، شرع الله لنا على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الاستخارة بهذا الدعاء العظيم، الذي فيه أساس التوحيد، والاعتماد على الله -سبحانه وتعالى-، والإقرار بوجوده، وصفاته، وكماله، وقدرته، وإرادته، وربوبيته، وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، والتبري من الحول والقوة، واعتراف العبد بعجزه عن معرفة مصلحة نفسه، وأن الأمور بيد الله الذي فطره.
حاجتنا إلى الاستخارة في كل أمورنا:
- يتعرض المرء في حياته لكثير من الأمور الغيبية النتائج، ويقدم على أمور مجهولة العواقب، لا يدري خيرها من شرها، ولا نفعها من ضرها، أيقدم على هذا العمل أم لا، ومن أهمية الاستخارة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعلمهم ذلك في الكبير والصغير؛ قال جابر -رضي الله عنه-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن".
- الإنسان لا يدري: هل في هذا الأمر خير له أم لا، فالغيب من خصائص الرب العلام(3): قال -تعالى- لأفضل الناس عقلًا وفهمًا: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 188).
- وتتأكد الاستخارة مع الأجواء التي تواكب القرارات المصيرية (اختلاف الآراء - ترتب الآثار العظيمة على القرار): فكم من قرارات تميل إليها النفس بدون الاستخارة، ولا تدري بأن الخير في غيرها؛ قال -تعالى-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)، وقال -تعالى-: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء: 19). وقال عمر بن الخطاب: "ما أبالي على أي حال أصبحت على ما أحب أو على ما أكره، وذلك لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره" (أخرجه ابن أبي الدنيا في الفرج بعد الشدة).
أدب المسلم عند الاستخارة:
أيقن بأن الله -تعالى- سيوفقك لما هو خير، واجمع قلبك أثناء الدعاء وتدبره وافهم معانيه العظيمة، وارضَ بالمقدور؛ لأنه الخير الذي طلبته: روى من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ" (رواه أحمد بسند ضعيف). وقال مكحول: سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "إن الرجل ليستخير الله -تبارك وتعالى- فيخار له، فيسخط على ربه -عز وجل- فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خير له" (التفسير الوسيط).
- أيقِن أن في الاستخارة وقاية من الندم والتردد: قال ابن الحاج -رحمه الله-: "فعلى هذا فمن ترك الاستخارة والاستشارة يخاف عليه من التعب فيما أخذ بسبيله لدخوله في الأشياء بنفسه دون الامتثال للسنة المطهرة، وما أحكمته في ذلك؛ إذ إنها لا تستعمل في شيء إلا عمته البركات، ولا تترك من شيء إلا حصل فيه ضد ذلك. نسأل الله السلامة" (المدخل لابن الحاج).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وكان شيخنا -رضي الله عنه- يقول: المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله، والرضا بعده، فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية" (مدارج السالكين لابن القيم).
تنبيهات من فقه الاستخارة:
1- إذا احتجت إلى الاستخارة في وقت نهي، فاصبر حتى تحل الصلاة، فإن كان الأمر الذي تستخير له يفوت؛ فصلِّ في وقت النهي واستخر. وإذا منع مانع من الصلاة -كالحيض للمرأة- فلتنتظر حتى يزول المانع، فإن كان الأمر الذي تستخير له يفوت وضروري، فاستخر بالدعاء دون الصلاة.
2- إذا كنت لا تحفظ دعاء الاستخارة فاقرأه من ورقة أو كتاب، والأولى أن تحفظه.
3- يجوز أن تجعل دعاء الاستخارة في السجود الأخير، أو قبل السلام من الصلاة -أي: بعد التشهد-، أو بعد السلام من الصلاة وهو أقربها.
4- إذا استخرت فأقدم على ما أردتَ فعله واستمر فيه، ولا تنتظر رؤيا في المنام أو شيء من ذلك. ويجوز تكرير الاستخارة ثلاثًا.
استحسان مشاورة الصالحين وأهل الخبرة(4):
- يحسن بعد الاستخارة استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة: قال -تعالى-: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره" (نقله عنه ابن القيم في الوابل الصيب).
وقال النووي -رحمه الله-: "والاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأي والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خلق ضعيفًا، فقد تشكل عليه الأمور، وقد يتردد فيها فماذا يصنع؟" (رياض الصالحين).
خاتمة:
- وصية عظيمة ما أحوجنا إليها؛ لا سيما في زمان كثرت فيه الآراء والفتن والمغريات، وكل يدعو إلى وجهته بالترغيب والترهيب بالوسائل المختلفة مما يجعل كثيرًا من الناس في حيرة عند الاختيار: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ...).
جعلنا الله وإياكم من المتوكلين عليه، المفوضين له أمرهم وشأنهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاستخارة لغة: طلب الخيرة في الشيء. يقال: استخر الله يخر لك. واصطلاحًا: طلب الاختيار. أي طلب صرف الهمة لما هو المختار عند الله والأولى، بالصلاة أو الدعاء الوارد في الاستخارة (فتح الباري في شرح صحيح البخاري).
(2) بعض المسلمين يقلدون المشركين في ذلك، بالنظر في الأبراج والحظ، أو بالتخيير بين أوراق أو زهور أو نحوها من باب (أفعل - لا أفعل)، والبعض الآخر يتطير أو يتشاءم بأيام أو أشخاص، أو أحوال معينة؛ فأبطل الإسلام ذلك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ) (رواه البخاري). وشرع لنا صلاة الاستخارة.
(3) قال العلماء: كثرة فعل العبد للاستخارة علامة على قوة توحيده؛ لأنه يظهر فقره وضعفه وحاجته لربه في كل صغير وكبير.
(4) اختلف العلماء هل المقدم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيح ما رجَّحه الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في شرح رياض الصالحين أن الاستخارة تقدم أولًا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ... إِلَى آخِرِهِ). وقال البهوتي -رحمه الله-: "ولا يكون وقت الاستخارة عازمًا على الأمر الذي يستخير فيه أو على عدمه: فإنه خيانة في التوكل. ثم يستشير، فإذا ظهرت المصلحة في شيء فعله" (كشاف القناع).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 30-10-2025, 08:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوصايا النبوية

الوصايا النبوية (40)

الوصية بذكر الله بعد الصلاة

(موعظة الأسبوع)




كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيده، وقال: (يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ. فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وقفة بين يدي الوصية: (فضل معاذ بن جبل -رضي الله عنه-):
- النبي -صلى الله عليه وسلم- أصدق الخلق، يحلف له أنَّه يحبُّه! (تودُّد بالفعل والقول): أخذ بيده وقال: (يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ!)(1).
وقفة مع قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أُوصِيكَ):
- وصايا الأنبياء -عليهم السلام- أعظم الوصايا؛ لأنهم جمعوا الأوصاف الأربع التي يحصل بها الكمال في النصح: (أعظم الناس بيانًا - أعظم الناس حرصًا على مصلحة المنصوح - أعظم الناس صدقًا فيما يقولون - أكمل الناس علمًا ومعرفة).
- وهذه وصية من أعظم ناصح في البشرية: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128).
مجمل الوصية:
هذه وصية من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- للأمَّة كلِّها بهذا الذِّكر العظيم دبر كلِّ صلاة، لأنَّ الأصل في الخطاب العموم، ما لم يأت الدليل على الخصوصية.
- مدخل للتالي: لنقف وقفة مع فضل الذِّكر، من باب: "إذا كان هذا هو فضل الذِّكر عمومًا؛ فكيف بذكر أوصى به خير ناصح أمين خصوصًا؟!".
فضل الذِّكر:
- وصية اليوم هي نوع من التنبيه على فضل ذكر الله -عزَّ وجلَّ- عمومًا: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب: 35).
- ذِكْر الله -تعالى- خير الأعمال وأرضاها عند الله، وأرفعها في الدرجات: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَرْضَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟) قالوا: بَلَى. قال: (ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).
- ذكر الله تعالى يعوِّض العاجزين عن قيام الليل قيامهم، ويعوِّض البخلاء بأموالهم أن ينفقوها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ عَجَزَ مِنْكُمْ عَنِ اللَّيْلِ أَنْ يُكَابِدَهُ وَبَخِلَ بِالْمَالِ أَنْ يُنْفِقَهُ، وَجَبُنَ عَنِ الْعَدُوِّ أَنْ يُجَاهِدَهُ فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ) (رواه الطبراني والبزار، وقال الألباني: "صحيح لغيره").
- ذِكْر الله سبحانه وتعالى يجعلك من المفَرِّدين السابقين: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهُ -صلى الله عليه وسلم- يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ، فقال: (سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ)، قالوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: (الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ) (رواه مسلم).
- لا يغفل عن الذِّكر إلَّا الأغبياء: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا تَسْتَقِلُّ الشَّمْسُ فَيَبْقَى شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا سَبَّحَ اللَّهَ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَأَغْبِيَاءِ بَنِي آدَمَ)، قال الوليد -وهو أحد الرواة-: فسألت صفوان بن عمرو: مَا أَغْبِيَاءُ بَنِي آدَمَ؟ فقال: شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ. (أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، وحسنه الألباني)؛ فكيف بذكر أوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!
وقفة مع قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تدَعنَّ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ):
- اختلف الفقهاء في المقصود ب-"دُبُرِ كلِّ صلاةٍ" (قبل السلام أو بعده): قال الصنعاني -رحمه الله- في سبل السلام: "قوله: دبر الصلاة"، يحتمل أنَّه قبل الخروج؛ لأن دبر الحيوان منه، وعليه بعض أئمة الحديث، ويحتمل أنَّه بعدها وهو أقرب؛ والمراد بالصلاة عند الإطلاق المفروضة".
- دبر الصلاة وقت شريف، لا ينبغي للمصلِّي أن ينشغل عنه بشيء (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخصُّه بأنواع من الذِّكر): قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ) (رواه مسلم).
وقفة مع قوله -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ أعنِّي عَلَى ذِكْرَك وشُكْرِك، وَحُسْنِ عَبَادَتِك):
- بمعنى الاستعانة، فما لم يكن هناك عون من الله للإنسان على طاعته وعبادته، فلن يستطيع، فلا حول ولا قوَّة إلَّا بالله، لا حول عن معصية، ولا قوَّة على طاعة إلَّا بالاستعانة به سبحانه، وإلَّا فلا معنى لترديدها في كلِّ ركعة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5).
- (أعنِّي عَلَى ذِكْرَك): فلولا إعانة الله ما وفَّق العبد إلى أداء الصلاة التي فرغ منها، ولا لغيرها من الخير: عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: لَمَّا كان يوم الأحزاب، وخَنْدَقَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رأيته ينقل من تراب الخندق، حتَّى وارى عنِّي الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل من التراب يقول: (اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا، فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا، إِنَّ الْأُولَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا، وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا) قال: ثمَّ يمدُّ صوته بآخرها (متفق عليه).
- (وَعَلَى شُكْرِك): وتكون بالقول، وبالفعل، وبالقلب، على النعم التي لا تحصى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل: 18)، وقال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7).
- (وحُسْن عِبَادَتِك): ولم يقل: (وكثرة)، تنبيهًا على الإتقان، وإلَّا فالكثرة مع عدم الإحسان لا قيمة لها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) (رواه البخاري)؛ ولذا قال -تعالى-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك: 2).
- ومن حُسْنِ العِبَادَةِ التجرُّد عند العبادة عن كلِّ ما يُشْغِل عن الله -عز وجل-، والإخلاص فيها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ ‌صَدْرَكَ ‌غِنًى، ‌وَأَسُدَّ ‌فَقْرَكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ) (رواه أحمد، والترمذي).
خاتمة:
- وصية عظيمة ما أحوجنا إليها؛ لا سيَّما في هذا الزمان الذي ابتعد فيه كثير من الناس عن الذِّكر بأسباب كثيرة، ومن أكثرها شيوعًا وسائل الاتِّصالات الحديثة: قال: (: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ).
فَاللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وكان معاذ -رضي الله عنه- من النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة علية؛ فإنَّه قال له: يا معاذ والله إنِّي لأحبُّك. وكان يردفه وراءه. وروي فيه: أنَّه أعلم الأمَّة بالحلال والحرام، وأنَّه: يحشر أمام العلماء برتوة -أي: بخطوة-.
ومن فضله: أنَّه بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- مبلغًا عنه، داعيًا، ومفقِّهًا، ومفتيًا، وحاكمًا إلى أهل اليمن. وكان يشبِّهه بإبراهيم الخليل -عليه السلام-، وإبراهيم إمام الناس، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: إنَّ معاذًا كان أمَّة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين" (مجموع الفتاوى).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 28-06-2025, 11:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوصايا النبوية

الوصايا النبوية (23)

التسوية بين الأولاد في الهدية

(موعظة الأسبوع)



كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ)، فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. (متفق عليه). وفي لفظ مسلم: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا بَشِيرُ، أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟) قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: (أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ).
مجمل الوصية:
في هذه الوصية يُخْبِرُ النُّعمانُ بنُ بَشيرٍ الأنصاريُّ -رضيَ اللهُ عنهما- أنَّ أباه بَشيرًا قدْ أعطاهُ عَطيَّةً، أي: هِبةً، وكانت العَطيةُ غُلامًا خادمًا، سَأَلَتْه أمُّ النُّعمانِ من أبيهِ لابْنِها، ثم قالتْ -رضيَ اللهُ عنها- لِزَوجِها بَشيرٍ: لا أرْضَى بهذه العطيَّةِ حتَّى تُشهِدَ عليها رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنَّكَ أعْطَيتَه ذلك على سَبيلِ الهِبةِ، وغَرَضُها بذلك تَثبيتُ العَطيَّةِ؛ فذَهَبَ بَشيرٌ إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فذكَرَ له ما صَنَعَ، وأنَّ زَوجتَه أمَرَتْه أنْ يُشهِدَه، فسَأَلَه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: هلْ أَعْطيتَ باقيَ أولادك مِثلَ ما أَعطيتَ وَلَدَك النُّعمانَ؟ فقال: لا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ)؛ وذلِكَ للتَّأليفِ بيْن الإخوةِ، وقَطْعِ مُسَبِّباتِ الشَّحْناءِ والبَغْضاءِ بيْنَهم، ولإعانَتِهم على حُسنِ بِرِّ أبيهم. فاستجابَ بَشيرٌ لأمْرِ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ونَهيِهِ، فرَجعَ ورَدَّ العطيَّةَ الَّتي أعْطاها لابنِه؛ حتَّى يكونَ عادلًا بيْن أولادِه.
أشهر أسباب التفضيل بالباطل بين الأبناء في المعاملة والعطية:
البعض من الآباء قد يفضِّل بعض الأبناء على بعضهم لأسباب غير مشروعة، ومن ذلك:
1- أن يكون الابن من الجنس غير المرغوب فيه جهلًا؛ لكونه أنثى: فهو ممَّن قال الله فيهم: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (النحل: 58)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌مَنْ ‌عَالَ ‌جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ) وَضَمَّ أَصَابِعَهُ. (رواه مسلم).
2- أن يكون الابن قليل الحظ من الجمال: قال -تعالى-: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32).
3- أن يكون محبوبًا دون الآخرين؛ لذكائه، أو لكثرة حركته أو قِلَّتها: فهذه كسابقتها؛ فالأمر كله من الله لحكمٍ يريدها.
4- أن يكون الابن مصابًا بعاهات جسدية ظاهرة (شلل - عرج - تخلُّف عقلي - ...)، وهذا يحتاج إلى الكثير من الحنان والمحبة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ابْغُونِي الضُّعَفَاءَ، فَإِنَّمَا ‌تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (وماذا لو كنتَ حُرِمتَ من الأولاد؟).
5- بعضهم يبغض ولده لشبهه بمن يكرهه من القرابات: قال -تعالى-: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (فاطر: 18).
ويقال في الجميع: قال الله -تعالى-: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) (النساء: 11)(1).
فائدة مهمة:
لا يأثم الإنسان على المحبة القلبية (صِغَر سنٍّ - نَباهة - جمال - معاونة - ...)، لا سيما إذا كان سببها البِر والطاعة، مع الحذر من التفريق في المعاملة: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا) (يوسف: 8).
وجوب العدل بين الأولاد:
- لقد أوصى الإسلام ببر الوالدين، ولو كانا كافرين: قال -تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ . وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ? ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان: 14، 15).
- ولما كان عقوق الوالدين محرَّمًا، كان كل ما يؤدي إليه محرَّمًا كذلك، ومن الأمور المؤدية إلى العقوق: عدم العدل بين الأبناء في الهبة والعطية: قال النبي لبشير -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ، فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ، فَقَبَّلَهُ وَأَجْلَسَهُ عَلَى فَخِذِهِ، ‌ثُمَّ ‌جَاءَتْ ‌بِنْتٌ ‌لَهُ، ‌فَأَجْلَسَهَا ‌إِلَى ‌جَنْبِهِ، فَقَالَ: (فَهَلَّا عَدَلْتَ بَيْنَهُمَا؟) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-: "كانوا يستحبون أن يسووا بينهم حتى في القُبَل".
- التفضيل بين الأبناء في العطية ظلمٌ يسبب الأحقاد، ويزرع الضغائن، ويزيد الأبناء العاقّين عقوقًا وتمردًا: ففي رواية مسلم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌أَيَسُرُّكَ ‌أَنْ ‌يَكُونُوا ‌إِلَيْكَ ‌فِي ‌الْبِرِّ ‌سَوَاءً). قَالَ: بَلَى. قَالَ: (فَلَا إِذًا).
وقال يزيد بن معاوية: "أرسل أبي إلى الأحنف بن قيس، فلما وصل إليه قال له: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ قال: يا أمير المؤمنين، ثمارُ قلوبنا، وعمادُ ظهورنا، ونحن لهم أرضٌ ذليلة، وسماءٌ ظليلة، وبهم نصول على كل جليلة، فإن طلبوا فأعطِهم، وإن غضبوا فأرضِهم، يمنحوك ودهم، ويحبونك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقلًا ثقيلًا، فيملوا حياتك، ويودوا وفاتك، ويكرهوا قربك" (إحياء علوم الدين).
تنبيه مهم جدًّا:
الظلم من الوالد لا يُسوِّغ مقابلته بالإساءة، أو الظلم من الولد؛ لأن حق الوالدين أعظم من حق الولد، وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر، حيث قرن الله بينه وبين الشرك؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا ‌أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ -ثَلَاثًا-: ‌الْإِشْرَاكُ ‌بِاللهِ، ‌وَعُقُوقُ ‌الْوَالِدَيْنِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاثَةٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُمْ صَرْفًا وَلا عَدْلًا: عَاقٌّ، وَمَنَّانٌ، وَمُكَذِّبٌ بِالْقَدَرِ) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
أهمية معرفة الفرق بين النفقة والعطية:
- الجهل بالفرق بين العطية والنفقة يتسبب في المشاكل والنزاعات الكثيرة.
- النفقة تكون على قدر حاجة كل واحد من الأولاد وكفايته، وأما العطية فهي القدر الزائد على النفقة. (توضيح: نفقة الولد الكبير من الطعام والشراب والملبس والدراسة، والمواصلات، ونحوه، تكون أكثر من الصغير عادة؛ فلا يلزم التسوية).
قال العلماء -رحمهم الله-: "فإن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه؛ مثل: اختصاصه بحاجة أو زمانة، أو عمى، أو كثرة عائلة أو اشتغاله بالعلم، أو نحوه من الفضائل؛ فلا بأس به إذا كان لحاجة، ويحرم إذا كان على سبيل الأثرة".
- ويدخل في النفقة: تزويج المؤهَّل للزواج، وإعانة الطالب، والمريض، ونحوه.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "إذا احتاج أحدهم إلى تزويجه، والآخر لا يحتاج، فما العدل؟ الجواب: أن يُعطى من يحتاج إلى التزويج ولا يُعطى الآخر..." (الشرح الممتع)(2).
مسألة مهمة:
هل يجوز منع العطية عن الولد العاق أو من يستعين بها على المعصية؟ قال العلماء: "لو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه أو بدعته، أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله أو ينفقه فيها؛ جاز"(3).
كيفية تقسيم العطية بين الأولاد:
- ذهب جمهور العلماء إلى التسوية بين الذكر والأنثى في العطية: لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لبشير بن سعد: (‌سَوِّ ‌بَيْنَهُمْ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، وعلل ذلك بقوله: (أَيَسُرُّكَ ‌أَنْ ‌يَكُونُوا ‌إِلَيْكَ ‌فِي ‌الْبِرِّ ‌سَوَاءً؟) قال: بَلَى.
- والأنثى كالذكر في استحقاق برها، فكذلك في عطيتها؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ كَمَا تُحِبُّونَ ‌أَنْ ‌يُسَوُّوا ‌بَيْنَكُمْ ‌فِي ‌الْبِرِّ) (أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار)؛ ولأنها عطية في الحياة، فاستوى فيها الذكر والأنثى: كالنفقة، والكسوة.
نصيحة:
احذر من توزيع مالك كله على عيالك في حياتك، فالموت في عِلْم الله، والقلوب تتقلب؛ قال الله -تعالى-: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) (النساء: 11).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(1) الإشارة إلى بعض الحكايات عن أبناء ظلموا من الآباء، ثم كانوا هم العون لهم في الكبر.
(2) قال -رحمه الله-: "فإذا فرضنا أن أحدهم في المدارس ويحتاج إلى نفقة للمدرسة من كتب ودفاتر، وأقلام وحبر، وما أشبه ذلك، والآخر لا يقرأ، وهو أكبر منه، لكنه لا يحتاج، فهل إذا أعطى الأول يجب أن يعطي الثاني مثله؟ الجواب: لا يجب؛ لأن التعديل في الإنفاق يعني أن يعطي كل واحد منهم ما يحتاج إليه. مثاله: لو احتاج الولد الذكر إلى غترة وطاقية قيمتهما مائة ريال، واحتاجت الأنثى إلى قُروط في الآذان قيمتها ألف ريال -يعني: تتجمل بها ليتقدم لخطبتها الخطَّاب-، فما هو العدل؟ الجواب: العدل أن يشتري لهذا الغترة والطاقية بمائة ريال، ويشتري للأنثى القُروط بألف ريال، أضعاف الذكر عشر مرات، هذا هو التعديل).
(3) استثنى العلماء الولد العاق من العدل بين الأبناء في الأعطيات، قال الشربيني رحمه الله: "يُستثنى العاق والفاسق إذا عُلِم أنه يصرفه في المعاصي؛ فلا يُكره حرمانه" (مغني المحتاج).
كما عدوا زيادة الفضل سببًا في التفضيل؛ لما روى الإمام مالك عن عائشةَ زَوجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أن أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ كانَ نَحَلَها جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِن مَالِهِ بِالغَابَةِ" (الموطأ).
قال ابن حجر -رحمه الله-: "لو حرم فاسقًا لئلا يصرفه في معصية، أو عاقًا، أو زاد أو آثر الأحوج، أو المتميز بنحو فضل كما فعله الصديق مع عائشة -رضي الله تعالى عنهما- لم يُكرَه" (تحفة المحتاج).
وأجاز العلماء للأب أيضًا أن يعود في هبته لابنه العاق بعد إنذاره، قال الرملي -رحمه الله-: "فإنْ وجد (سببًا للرجوع في الهبة) ككون الولد عاقًّا، أو يصرفه في معصية، أنذره به (أي: باسترداد الهبة)، فإن أصر (الولد العاق أو العاصي) لم يُكره -أي: استرداد الهبة منه-" (نهاية المحتاج). فإذا كان استرداد العطية جائزًا، فمن باب أولى حرمانه منها ابتداءً.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فلو كان أحد الأولاد فاسقًا، فقال والده: لا أعطيك نظير إخوتك حتى تتوب؛ فهذا حسن، يتعين استثناؤه، وإذا امتنع من التوبة؛ فهو الظالم. فإن تاب: وجب عليه أن يعطيه" (المستدرك على مجموع الفتاوى).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 12-07-2025, 11:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوصايا النبوية

الوصايا النبوية (26)

(لا تغضب)

(موعظة الأسبوع)



كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رجلًا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أوصني، قال: (لا تَغْضَبْ)، فردَّد مرارًا، قال: (لا تَغْضَبْ) (رواه البخاري). وعن جارية بن قدامة السعدي -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله! قل لي قولًا ينفعني، وأقلل علي، لعلي أعيه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَغْضَبْ)، فأعدت عليه مرارًا، كل ذلك يقول لي: (لا تَغْضَبْ)، قال: ففكرت حين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله. (رواه أحمد، وصححه الألباني).
مجمل الوصية:
هذا رجل يطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوصيه وصيةً وجيزةً جامعةً لخصال الخير؛ ليحفظها عنه خشية ألا يحفظها لكثرتها، فوصاه النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يغضب، ثم ردد هذه المسألة عليه مرارًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يردد عليه هذا الجواب، أي: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به؛ لأن الغضب جماع الشر، والتحرز منه جماع الخير.
أقسام الغضب:
ينقسم الغضب إلى قسمين:
- الغضب المحمود: وهو أن يكون لله -عز وجل- عندما تنتهك حرماته، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلِمَةٍ ظُلِمَهَا قَطُّ مَا لَمْ تُنْتَهَكْ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَإِذَا ‌انْتُهِكَ ‌مِنْ ‌مَحَارِمِ ‌اللَّهِ ‌شَيْءٌ ‌كَانَ ‌أَشَدَّهُمْ ‌فِي ‌ذَلِكَ ‌غَضَبًا، وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ مَأْثَمًا" (أخرجه الحميدي، والبخاري بمعناه مختصرًا)(1).
وقال -تعالى-: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (الأعراف: 150). قال العلماء: فكانت تلك الحدة منه والغضب فيه صفة مدح له؛ لأنها كانت لله وفي الله.
- الغضب المذموم: وهو الذي جاء النهي عنه في الوصية، وهو خلق سيئ؛ ومنه: الغضب للنفس أو عصَبيةً وحميةً -وهو موضوع حديثنا إن شاء الله-.
آثار الغضب:
للغضب آثار سيئة على عموم حال الإنسان(2): عن سليمان بن صرد -رضي الله عنه- قال: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ ‌قَالَهَا ‌لَذَهَبَ ‌عَنْهُ ‌مَا ‌يَجِدُ، ‌لَوْ ‌قَالَ: ‌أَعُوذُ ‌بِاللهِ ‌مِنَ ‌الشَّيْطَانِ ‌الرَّجِيمِ) فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: "إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ!" (متفق عليه).
وجوانب آثار الغضب تتعدد:
- في الظاهر: تغير اللون، وشدة رعْدة الأطراف، وخروج الأفعال عن الترتيب والانتظام، واضطراب الحركة والكلام، حتى يظهر الزبد على الأشداق، وتشتد حمرة الأحداق، وتستحيل الخلقة، ولو يرى الغضبان في حال غضبه صورة نفسه لسكن غضبه حياءً من قبح صورته؛ لاستحالة خلقته.
- على اللسان: الأقوال المحرمة والقبائح، كالقذف والسب والفحش، والأيمان التي لا يجوز التزامها شرعًا، وطلاق الزوجة الذي يعقب الندم، وربما ارتقى الأمر إلى درجة الكفر، كما أن الغضبان لا ينتظم كلامه، بل يتخبط نظمه، ويضطرب لفظه، وقد يصيح صياحًا شديدًا أو يدعو على نفسه وأحب الناس إليه.
- على الأفعال: كالضرب فما فوقه إلى القتل عند التمكن، وأنواع الظلم والعدوان، فإن عجز عن التَشفي رجع غضبه عليه، فمزق ثوبه، وضرب نفسه وغيره ممن ليس له ذنب، وربما سقط وعجز عن الحركة، واعتراه مثل الغشية؛ لشدة استيلاء الغضب عليه.
- على صحة الإنسان: فهو سبب لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف، (كالسكري، والذبحة الصدرية، والسكتة القلبية، وغيرها).
على الدين والإيمان: وهذا أشد الآثار ضررًا(3).
ولذا جاء النهي عن مزاولة الأمور المهمة إن كان الإنسان تحت تأثير الغضب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ) (متفق عليه)، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الرِّضَا وَالغَضَبِ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "إنما كان ذلك؛ لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد".
أسباب معينة على ترك الغضب عند حصوله:
- تغيير الحال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الغَضَبُ؛ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
- الوضوء: خطب معاوية يومًا، فقال له رجل: كذبت! فنزل مغضبًا فدخل منزله، ثم خرج عليهم تقطر لحيته ماءً، فصعد المنبر، فقال: "أيها الناس، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إِنَّ الغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُطْفِئْهُ بِالمَاءِ، ثم أخذ في الموضع الذي بلغه من خطبته" (عيون الأخبار لابن قتيبة).
- ضبط النفس عن الاندفاع بعوامل الغضب: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ) (متفق عليه). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: "قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللهِ ‌مَا ‌تُعْطِينَا ‌الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَالَ لِنَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199)، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَاللهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ" (رواه البخاري).
- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن الرجل الغضبان: (إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قالَها ذَهَبَ عَنْهُ ما يَجِدُ، لَوْ قال: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ذَهَبَ عَنْهُ ما يَجِدُ)، وقال -تعالى-: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) (الأعراف: 200).
- السكوت: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عَلِّمُوا، وَيَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا، وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
- أن يذكر الله -عز وجل-: قال -تعالى-: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) (الكهف: 24). قال عكرمة: "يعني: إذا غضبت". وقال -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف: 201). قال سعيد بن جبير: "هو الرجل يغضب الغضبة، فيذكر الله -تعالى-، فيكظم الغيظ". قلتُ: وما أحسن قول العامة للغضبان: (وحِّد الله - صلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم).
- أن يذكر ثواب من كظم غيظه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ؛ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ) (أخرجه أبو يعلى، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة للألباني).
وعن عبد الرزاق قال: "جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه الماء يتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله -عز وجل- يقول: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) (آل عمران: 134)، فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: (وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) (آل عمران: 134)، قال: قد عفا الله عنك. قالت: (وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134)، قال: فاذهبي فأنت حرة".
ودخل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- المسجد ليلةً في الظلمة، فمر برجل نائم، فعثر به، فرفع رأسه وقال: "أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا. فهَمَّ به الحرس، فقال عمر: مه! إنما سألني أمجنون؟ فقلت: لا!" (رواه البيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر في تاريخ دمشق).
خاتمة:
- وصية عظيمة تنفع الإنسان في الدنيا والآخرة: قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله! قل لي قولًا ينفعني، وأقلل علي، لعلي أعيه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَغْضَبْ)، فأعدت عليه مرارًا، كل ذلك يقول لي: (لا تَغْضَبْ). قال: ففكرت حين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله.
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
(1) المقصود: أنه كان يسامح في حق نفسه... فأين نحن من ذلك؟ فكثير هم الذين يغضبون على الزوجات إذا تأخرت في إعداد الطعام، ولا يغضبون إذا أخرت الصلاة! وكثير هم الذين يغضبون إذا فرط الأولاد في الدراسة والمذاكرة، ولا يغضبون إذا فرطوا في الصلاة! وكثير هم الذين يغضبون إذا سبَّ أحدُهم أباه، ولا يغضبون إذا سَمِعوا من يسب الله أو دينه! وهلم جرًّا...
(2) الناس في قوة الغضب على درجات ثلاث: إفراط، وتفريط، واعتدال؛ فلا يحمد الإفراط فيها؛ لأنه يخرج العقل والدين عن سياستهما، فلا يبقى للإنسان مع ذلك نظر ولا فكر ولا اختيار. والتفريط في هذه القوة أيضًا مذموم؛ لأنه يبقى لا حمية له ولا غيرة، ومن فقد الغضب بالكلية عجز عن رياضة نفسه؛ إذ الرياضة إنما تتم بتسليط الغضب على الشهوة، فيغضب على نفسه عند الميل إلى الشهوات الخسيسة، ففقد الغضب مذموم؛ فينبغي أن يطلب الوسط بين الطريقين.
(3) من أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال: تسميتهم الغضب شجاعةً، ورجوليةً، وعزة نفس، وكبر همة! وتلقيبه بالألقاب المحمودة -غباوةً وجهلًا!- حتى تميل النَّفس إليه وتستحسنه، وقد يتأكد ذلك بحكاية شدة الغضب عن الأكابر في معرض المدح بالشجاعة، والنفوس مائلة إلى التشبه بالأكابر، فيهيج الغضب إلى القلب بسببه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 01-08-2025, 01:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوصايا النبوية

الوصايا النبوية (28)

(الوصية بدعاء تفريج الكرب وصلاح الحال)

(موعظة الأسبوع)




كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة -رضي الله عنها-: (مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ؟ أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ) (رواه النسائي في الكبرى، والحاكم في المستدرك، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
المعنى الإجمالي للوصية:
هذه وصية نبوية بالتزام هذا الدعاء العظيم بصلاح الحال صباحًا ومساءً، بل في عموم يومه وحاله؛ لا سيما عند الكرب والمحن والشدائد. وقد جاء برواية أخرى: (دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) (رواه أحمد، وأبو داود، وحسنه الألباني في صحيح الجامع). وقد اشتمل على جمل عظيمة تدل على عظيم استسلام وافتقار العبد، واعترافه بأنه لا مغيث له في شدته ومحنته إلا الله.
مجمل شأن الإنسان:
شأن الإنسان يتلخص في الأمور الثلاث العظيمة (الدين - الدنيا - الآخرة)، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ) (رواه مسلم).
وكل الناس، مؤمنهم وكافرهم، يحتاجون إلى صلاح هذه الثلاث، فنقف مع كل منها وقفة، ثم نقف على ما جاء في الدعاء.
الشأن الأول: الدِّين:
- هو أعظم ما يملك المسلم، فهو الذي خُلِق من أجله: قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (سورة الذاريات: 56).
- وهو الذي سيُحاسَب عليه من أول لحظة يُفارِق بها الدنيا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر قَبْضَ روح المؤمن فقال: (يَأْتِيهِ آتٍ، يَعْنِي فِي قَبْرِهِ، فَيَقُولُ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ ومَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-، قال: فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ: مَا رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَهِيَ آخِرُ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ اللَّهُ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) (سورة إبراهيم: 27)، فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْتَ) (رواه البخاري ومسلم).
- فعندما يُصلح الله لك دينك؛ فهذا يعني أنه سيهديك إلى الصراط المستقيم، ويجعل دينك سَلِيمًا من الشبهات والشهوات (وهذا يشمل صلاح العقيدة، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات): عن سعد بن هشام بن عامر -رضي الله عنه-، قال: "دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، فَقُلْنَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، تَقْرَأُونَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَتْ: اقْرَأْ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (سورة المؤمنون: 1)، قَالَ: فَقَرَأْتُ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إِلَى (لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) (سورة المؤمنون: 1-5)، قَالَتْ: هَكَذَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-" (أخرجه أحمد، والنسائي بلفظ مطول).
- صلاح الدين هو أساس الفلاح والسعادة في الشأنين الآخرين (الدنيا والآخرة): قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (فصلت: 30-31).
الشأن الثاني: الدنيا:
- الأصل فيها أنها دار امتحان وابتلاء للفوز بالجنة والنجاة من النار: قال -تعالى-: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 123-124).
- أباح الله لنا منها الطيبات الكثيرة (مال - زوجات - أولاد - صحة - عشيرة - قوة - جمال - ...): (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162).
- أكثر الناس فَسَدَتْ دنياهم بسبب كثرة الطيبات، فضيعوا دينهم وهم يتصورون أن ذلك صلاح الدنيا: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا . وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) (الكهف: 34-36). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
- صلاح الدنيا مقرون بصلاح الدين: قال -تعالى-: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (سورة الجن: 16).
- وإلا فأسعد الناس في الدنيا من صَلَح لهم دينهم، ولو حُرِمُوا طيبات الدنيا: مِنْ كلمات ابن تيمية -رحمه الله- الذهبية لما وُضِعَ في السجن: "مَا يَصْنَعُ أَعْدَائِي بِي؟ أَنَا جَنَّتِي وَبُسْتَانِي فِي صَدْرِي، إِنْ رُحْتُ فَهِيَ مَعِي لَا تُفَارِقُنِي، إِنْ حبسي خَلْوَة، وقتلي شَهَادَة، وَإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سِيَاحَةٌ" (الوابل الصيب)(1).
الشأن الثالث: الآخرة:
- أكثر الناس نسوا هذا الشأن: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر: 19)(2).
- وأفجأتهم ملائكة الموت عند رؤوسهم: قال -تعالى-: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ . حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) (التكاثر: 1-2)، وقال: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (سورة المؤمنون: 99-100).
- بل سيُفْجَأُون بالنار، وسينسون كل نعيم من طيبات الدنيا التي أفسدت الشأنين العظيمين (الدين والآخرة): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ) (رواه مسلم).
- بخلاف من أصلح الله لهم شأنهم كله، فعاشوا في الدنيا بالدين ليضمنوا صلاح الآخرة، ولو فقدوا متاع الدنيا كله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ) (رواه مسلم).
وقفة مع ما تضمنه الدعاء:
- (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ...): توسل إلى الله -تعالى- بأسمائه وصفاته؛ فهو -سبحانه- الحي القيوم؛ قال بعض أهل العلم -وهو اختيار الحافظ ابن القيم رحمه الله-: "الْحَيَّ، الْقَيُّومَ هما الاسم الأعظم".
فالْحَيُّ هو: ذو الحياة الكاملة من كل وجه، ليست مسبوقة بعدم، ولا يلحقها عدم، ولا يعتريها نقص؛ قال -تعالى-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) (الفرقان: 58).
والْقَيُّومُ هو: القائم بنفسه، القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم، فلو تركهم عنهم طرفة عين لكان ذلك هلاكًا مُحَقَّقًا لهم، عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كَرَبَهُ أمر قال: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وقوله: (وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ) أي: لا تتركني لضعفي وعجزي لحظة واحدة، بل أصحبني العافية دائمًا، وأعني بقوتك وقدرتك؛ فهو اعتراف بالفقر التام إليه -سبحانه-، والاستسلام الكامل لغناه عز وجل(3)؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ) ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ) (رواه مسلم).
خاتمة:
- وصية عظيمة في كلمات يسيرة، يعبِّر بها العبد عن صلته الدائمة بربه الذي ليس له غنى عنه طرفة عين.
- وصية جامعة بأعظم ما يطلبه الإنسان من المَلِك العَلَّام: صلاح شأنه كله (دينه، ودنياه، وآخرته).
فاللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تعني هذه العبارة: أن السعادة الداخلية للإنسان وراحة قلبه لا تتأثران بظروفه الخارجية أو بأفعال أعدائه؛ فالسعادة الحقيقية تكمن في الإيمان والتقوى، وهما موجودتان في قلب المؤمن، ولا يمكن لأحدٍ أن يحرمه منهما.
(2) التفسير: ولا تكونوا -أيها المؤمنون- كالذين تركوا أداء حقِّ الله الذي أوجبه عليهم، فأنساهم بسبب ذلك حظوظ أنفسهم من الخيرات التي تُنْجِيهِم من عذاب يوم القيامة. (التفسير الميسر).
(3) إذا تُرِكَ الإنسان لنفسه، وتخلَّى الله -تعالى- عنه، بدأ التَّمَزُّق ينتابه من كل ناحية، فهو بحاجة إلى مثل هذه الألطاف الربانية التي تصل إليه من طريق رحمة الله -تبارك وتعالى-. وإذا أردت أن تَعْرِفَ قدرَ طرفة العين، فانظر إلى مريض الجلطة، في لحظة يتجمد هذا الدم في عرق، ثم بعد ذلك تتلاشى كل هذه القدرات والإمكانات العقلية والبدنية، فيصبح هذا الإنسان القوي المفتول العضلات الذي يهز الأرض إذا مشى في لحظة وقد انتهى كل شيء! فالخلق ضعفاء.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 01-08-2025, 01:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,865
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوصايا النبوية

الوصايا النبوية (29)

(الوصية بصحبة الأخيار)

(موعظة الأسبوع)



كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ) (رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه الألباني).
مجمل الوصية:
في هذه الوصية إرْشَادٌ نَبَوِيٌّ لِمَنْ أَرَادَ سَلاَمَةَ نَفْسِه وَبَيْتِه وَعَلاَقَاتِه مَعَ النَّاسِ. وفيها يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا)، أي: لا تَتَّخِذْ صَاحِبًا ولا صَدِيقًا إِلَّا مِنَ المؤمنين؛ لأنَّ المؤمن يَدُلُّ صَدِيقَه عَلَى الإيمان وَالهُدَى وَالخَيْرِ، وَيَكُونُ عُنْوَانًا لِصَاحِبِه، وَأَمَّا غَيْرَ المؤمن فإنَّه يَضُرُّ صَاحِبَه، (وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ) أي: المُتَوَرِّعُ، والمراد: لا تَدْعُ أَحَدًا إِلَى طَعَامِكَ وَبَيْتِكَ إِلَّا الأتقياء؛ فإنَّ التقي يَعْرِفُ حُرْمَةَ البُيُوتِ وَيَحْفَظُ مَعْرُوفَكَ، بخلاف غَيْرِ الأتقياء؛ فَهُمْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ.
ففي الوصية: النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الأَصْحَابِ مِنَ الفَسَقَةِ، وَالأَمْرُ بِاتِّخَاذِهِمْ مِنَ الأَتْقِيَاءِ المؤمنين، وكذلك النَّهْيُ عَنْ دَعْوَةِ الفَسَقَةِ إِلَى الطَّعَامِ، وَالأَمْرُ بِدَعْوَةِ الصَّالِحِينَ إِلَيْهِ. وسنقف مع كل واحدة منهما وقفة.
أولًا: النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الأَصْحَابِ مِنَ الفَسَقَةِ، وَالأَمْرُ بِاتِّخَاذِهِمْ مِنَ الأَتْقِيَاءِ المؤمنين:
- (لاَ تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا): يَدُلُّ هذا الجزء من الوصية على أهمية انْتِقَاءِ الأصحاب من بين المؤمنين الصادقين، فالصاحب الصالح يُعِينُ عَلَى الخَيْرِ وَيَدْعُو إِلَى الإيمان والتقوى، وكما يقول الناس: "الصَّاحِبُ سَاحِبٌ".
- الأصحاب الصالحون قُوَّةٌ وَعَوْنٌ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَمُوَاجَهَةِ المِحَنِ وَالأَزَمَاتِ: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي . كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا . وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا . إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا) (طه: 29-35).
- الأصحاب الصالحون إذا نَسِيتَ ذَكَّرُوكَ، وإذا ذَكَرْتَ أَعَانُوكَ: قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إخواننا أحب إلينا مِنْ أهلينا وأولادنا؛ لأنَّ أهلينا يُذَكِّرُونَنَا الدنيا، وإخواننا يُذَكِّرُونَنَا الآخرة".
- الأصحاب الصالحون يُرْشِدُونَكَ إِلَى خَيْرِكَ، وَيُثَبِّتُونَكَ فِي مِحْنَتِكَ: كان ابن القيم -رحمه الله- يقول وهو يتكلم عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وَكُنَّا إِذَا اشْتَدَّ بِنَا الخَوْفُ، وَسَاءَتْ مِنَّا الظُّنُونُ، وَضَاقَتْ بِنَا الأَرْضُ؛ أَتَيْنَاهُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ نَرَاهُ وَنَسْمَعَ كَلاَمَهُ؛ فَيَذْهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَيَنْقَلِبَ انْشِرَاحًا وَقُوَّةً وَيَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً" (الوابل الصيب من الكلم الطيب).
- الأصحاب الصالحون أنت بينهم سَالِمٌ رَابِحٌ، ولو كنت مِنَ المُقَصِّرِينَ: ففي حديث الملائكة السيارة أنهم يقولون: (رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ هُمُ ‌الْقَوْمُ ‌لَا ‌يَشْقَى ‌بِهِمْ ‌جَلِيسُهُمْ) (متفق عليه).
قال أبو الفضل الجوهري -رحمه الله-: "إنَّ مَنْ أَحَبَّ أهل الخير نَالَ مِنْ بَرَكَتِهِمْ؛ كلب أحب أهل فضل وصَحِبَهُمْ فذكره الله في مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ".
- مُرَافَقَةُ الأصحاب الصالحين تَجْعَلُكَ مَعَهُمْ فِي الجنة ولو كنت دُونَهُمْ فِي الأعمال: عن أنس -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) قَالَ: لَا شَيْءَ، إِلَّا ‌أَنِّي ‌أُحِبُّ ‌اللهَ ‌وَرَسُولَهُ. قَالَ: (فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) (متفق عليه).
- الأصحاب الصالحون فِي الآخرة لاَ يَنْسَوْنَ صُحْبَتَكَ، فهم يَشْفَعُونَ لَكَ لو كنت مِنَ المُقَصِّرِينَ: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌مَا ‌مُجَادَلَةُ ‌أَحَدِكُمْ فِي الْحَقِّ يَكُونُ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِأَشَدَّ مُجَادَلَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِي إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ أُدْخِلُوا النَّارَ، قَالَ: يَقُولُونَ: رَبَّنَا، إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَحُجُّونَ مَعَنَا، فَأَدْخَلْتَهُمُ النَّارَ! قَالَ: فَيَقُولُ: اذْهَبُوا، فَأَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ مِنْهُمْ...) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
- وَأَمَّا الأَصْحَابُ الفاسدون، فأنت بينهم خَاسِرٌ ولو كنت مِنَ الصَّالِحِينَ: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) (متفق عليه). وفي حديث قاتل المائة نفس: (انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ) (رواه مسلم).
- إِنَّ كَثْرَةَ المُخَالَطَةِ تَجْلِبُ المُشَابَهَةَ؛ فاحذر التأويلات الفاسدة في مُرَافَقَةِ الفاسدين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني). قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "رَفِيقُ التقوى صَادِقٌ، وَرَفِيقُ المعاصي غَادِرٌ"(1).
- الأصدقاء على المعاصي في الدنيا يَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يوم القيامة: قال -تعالى-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67). وقال -تعالى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا . يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) (الفرقان: 27-29).
ثانيًا: النَّهْيُ عَنْ دَعْوَةِ الفَسَقَةِ إِلَى الطَّعَامِ والبيوت:
- (وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ): يُوَجِّهُ هذا الجزء من الوصية إلى ضرورة عَدَمِ إطعام غير الأتقياء وإكرامهم بالمُؤَاكَلَةِ.
- الإطعام يُحْدِثُ المُلاَطَفَةَ وَالمَوَدَّةَ وَالأُلْفَةَ، فَيَجِبُ أَنْ يَنْتَوِي المُطْعِمُ بذلك المؤمنين والصالحين: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا) (الإنسان: 8-9). وَالنَّهْيُ يَزْدَادُ تَأْكِيدًا إذا كان الإطعام فِي البيوت، فمن نِعَمِ اللهِ -تعالى- الجليلة على عباده أَنْ هَيَّأَ لهم بيوتًا يَأْوُونَ إليها وَيَسْكُنُونَ فِيهَا؛ فلا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَهَا إِلَّا الأتقياء؛ قال -تعالى-: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) (النحل: 80)(2).
- فالتقي تَسْعَدُ بِزِيَارَتِهِ وَإِطْعَامِهِ؛ فهو يَتَقَوَّى بِطَعَامِكَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَإِذَا دَخَلَ بَيْتَكَ لَمْ يَتَطَلَّعْ إِلَى عَوْرَاتِكَ، وَإِذَا رَأَى شَيْئًا سَتَرَهُ عَلَيْكَ، وَإِذَا جَالَسْتَهُ ذَكَرَ اللهَ، وَإِذَا أَكَلَ دَعَا وَشَكَرَ، وَإِذَا فَارَقَ أَثْنَى بِجَمِيلِكَ وَذَكَرَ، فأنت رَابِحٌ بعد زيارته، أَمَّا غَيْرُ الأتقياء مِنَ الفاسقين فَهُمْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَدُخُولُهُمْ يَجْلِبُ الشُّبُهَاتِ وَالمَحْظُورَاتِ، وَمُجَالَسَتُهُمْ تُؤْذِي النَّفْسَ بِمَا لَهُمْ مِنَ العَادَاتِ، وَإِكْرَامُهُمْ يَحْمِلُكَ التَّبِعَاتِ؛ قال -تعالى-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67)(3).
خاتمة:
وصية كريمة من الكريم -صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ أَرَادَ سَلاَمَةَ نَفْسِه وَبَيْتِه وَعَلاَقَاتِه مَعَ النَّاسِ: (لاَ تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ).
فاللهم إنا نسألك فِي الدنيا مُرَافَقَةَ الأتقياء، وَفِي الآخرة مُرَافَقَةَ الأنبياء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كثير مِنْ رُفَقَاءِ السَّوْءِ عِنْدَ الاخْتِلاَفِ يَتَحَوَّلُ إِلَى عَدُوٍّ لَدُودٍ، وَيَحْمِلُ رَايَةَ الحرب عَلَى مَنْ كَانَ صَاحِبًا لَهُ.
(2) فالبيت في الإسلام يَحْظَى بِمَكَانَةٍ عَظِيمَةٍ، فهو ليس مجرد مكان للإقامة، بل هو أساس بناء المجتمع والأسرة الصالحة؛ فهو اللبنة الأساسية في بناء مجتمع ملتزم بتعاليم الإسلام. وهو المأوى للإنسان وأسرته، حيث يجد فيه الراحة والأمان والطمأنينة. وهو المدرسة الأولى التي يتعلم فيها الأبناء القِيَم والأخلاق الإسلامية، وهو الذي تَخْرُجُ مِنْهُ الأسرة الصالحة التي هي أساس المجتمع القوي والمتماسك. وهو مكان لإقامة الصلوات والقيام والأذكار التي تَرْفَعُ مِنْ شَأْنِ الإنسان، وهو موطن المودة والرحمة بين أفراد الأسرة.
(3) قد يُسْتَثْنَى حال الضيوف الذين يُدْعَوْنَ إلى الطعام، إذا قَصَدَ المسلم بمخالطة أهل المعاصي ودعوتهم إلى طعامه أن يَتَأَلَّفَ قلوبهم ويَسْتَمِيلَهُمْ إليه؛ لأجل دعوتهم ونصحهم، فلا حرج في ذلك. وفي ذلك فقه للعلماء يتعلق بزمن التأليف وصورته ومدى أثره.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 204.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 198.11 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (2.89%)]