تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 42 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 234 - عددالزوار : 27965 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4478 - عددالزوار : 983867 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4014 - عددالزوار : 502442 )           »          عيد أضحى مبارك ، كل عام وانتم بخير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 125 )           »          سفرة إفطار عيد الأضحى.. كبدة مشوية بخطوات سهلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 101 )           »          9 نصائح لمطبخ نظيف خلال عزومات عيد الأضحى.. التهوية أساسية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 93 )           »          فتياتنا وبناء الذات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 80 )           »          إضاءات سلفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 68 )           »          ابن أبي الدنيا وكتابه “العيال” (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 74 )           »          خطبة عيد الأضحى المبارك 1445هـ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #411  
قديم 29-04-2023, 05:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُوسُفَ
المجلد التاسع
صـ 3576 الى صـ 3590
الحلقة (411)



القول في تأويل قوله تعالى:

[ 76 ] فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم

فبدأ أي فتى يوسف بأوعيتهم أي ففتشها قبل وعاء أخيه أي بنيامين، نفيا للتهمة ثم استخرجها أي السقاية من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف أي دبرنا لتحصيل غرضه ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك أي شرعه وقانونه. والجملة استئناف وتعليل لذلك الكيد وصنعه. أي: ما صح له أن يأخذ أخاه في قضاء الملك، فدبر تعالى ما حكم به إخوة يوسف على السارق، لإيصال يوسف إلى أربه، رحمة منه وفضلا. وفيه إعلام بأن يوسف ما كان يتجاوز قانون الملك، وإلا لاستبد بما شاء، وهذا من وفور [ ص: 3576 ] فطنته وكمال حكمته. ويستدل به على جواز تسمية قوانين ملل الكفر (دينا) لها والآيات في ذلك كثيرة.

وقوله تعالى: إلا أن يشاء الله يعني: أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره; لأن ذلك كله كان إلهاما من الله ليوسف وإخوته، حتى جرى الأمر وفق المراد.

نرفع درجات من نشاء أي بالعلم، كما رفعنا يوسف. وفي إيثار صيغة الاستقبال إشعار بأن ذلك سنة إلهية مستمرة، غير مختصة بهذه المادة.

وفوق كل ذي علم أي من أولئك المرفوعين عليم أي فوقه أرفع درجة منه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 77 ] قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون

قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل هذا تنصل منهم إلى العزيز بالتشبيه به. أي: إن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل، يعنون به يوسف.

فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا أي: منزلة، حيث سرقتم أخاكم من أبيكم، ثم طفقتم تفترون على البريء.

والله أعلم بما تصفون أي: من أمر يوسف.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 78 ] قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين

قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين لما تعين أخذ بنيامين وإبقاؤه عند يوسف بمقتضى فتواهم، طفقوا يعطفونه [ ص: 3577 ] عليهم، بأن له أبا شيخا كبيرا يحبه حبا شديدا يتسلى به عن أخيه المفقود، فخذ أحدنا بدله رقيقا عندك.

قال بعضهم: الفقه من هذه الجملة أن للكبير حقا يتوسل به، كما توسلوا بكبر يعقوب. وقد ورد في الاستسقاء إخراج الشيوخ. انتهى.

وفي ما عزموا عليه لإنقاذ أخيهم من شرك العبودية، المقضي عليه بها، ما يشف عن حسن طوية، ووفاء بالوعد، ويعرب عن أمانة، وصدق بر، وشدة تمسك بموثق أبيهم، محافظة على رضاه وإكرامه، وهكذا فليتمسك البار بمرضاة أبويه.

وقولهم: إنا نراك من المحسنين أي إلينا، فأتمم إحسانك بهذه التتمة. أو من المتعودين بالإحسان، فليكن هذا منه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 79 ] قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون

قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون أي إن أخذنا بريئا بمتهم; لأنه لا يؤخذ أحد بجرم غيره. قال بعضهم: إلا ما ورد في العقل.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 80 ] فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين

فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا أي يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد يأس، كما دل عليه (السين والتاء) فإنهما يزادان في المبالغة.

[ ص: 3578 ] قال أبو السعود: وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس، لما شاهدوه من عوذه بالله لما طلبوه، الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة، وأنه مما يجب أن يحترز عنه، ويعاذ بالله عز وجل، ومن تسميته (ظلما) بقوله: إنا إذا لظالمون و خلصوا بمعنى اعتزلوا وانفردوا عن الناس، خالصين، لا يخالطهم سواهم، و (نجيا) حال من فاعل خلصوا أي: اعتزلوا في هذه الحالة مناجين. وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع; إما لأن النجي (فعيل) بمعنى (مفاعل) كالعشير والخليط، بمعنى المعاشر والمخالط، كقوله: وقربناه نجيا أي مناجيا، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقا. يقال: هم خليطك وعشيرك أي: مخالطوك ومعاشروك. وإما لأنه صفة على (فعيل) بمنزلة صديق، وبابه. فوحد لأنه بزنة المصادر، كالصهيل والوحيد والذميل. وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي، أطلق على المتناجين مبالغة، أو لتأويله بالمشتق والمصدر، ولو بحسب الأصل، يشمل القليل والكثير، وتنزيل المصدر منزلة الأوصاف أبلغ في المعنى، ولذا قال الزمخشري: وأحسن منه -أي من تأويل نجيا بذوي نجوى، أو فوجا نجيا أي مناجيا- أنهم تمحضوا تناجيا لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه، بجد واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم على أي صفة يذهبون، وما يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب، فاحتاجوا إلى التشاور. انتهى.

لطيفة:

ذكر القاضي عياض في (الشفا) في (بحث إعجاز القرآن): أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام.

وقال الثعالبي في كتاب (الإيجاز والإعجاز) في الباب الأول: من أراد أن يعرف [ ص: 3579 ] جوامع الكلم، ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز، فليتدبر القرآن، وليتأمل علوه على سائر الكلام.

ثم قال: فمن ذلك قوله عز ذكره، في إخوة يوسف: فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس وتقليبهم الآراء ظهرا لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث. فتضمنت تلك الكلمات القصيرة معاني القصة الطويلة.

وقوله تعالى: قال كبيرهم أي في السن، كما هو المتبادر، وهو فيما يروى، (رؤبين): ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله أي عهدا وثيقا في رد أخيكم. وإنما جعل منه تعالى لكون الحلف كان باسمه الكريم. ومن قبل أي قبل هذا ما فرطتم في يوسف أي قصرتم في شأنه و (ما) إما مزيدة، و (من) متعلق بالفعل بعده، والجملة حالية، وإما مصدرية في موضع رفع بالابتداء، و (من قبل) خبره، أو في موضع نصب عطفا على معمول (تعلموا). وإما موصولة بالوجهين، أي: قدمتموه في حقه من الخيانة، ولم تحفظوا عهد أبيكم بعد ما قلتم: وإنا له لناصحون وإنا له لحافظون

فلن أبرح الأرض أي: فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لي أبي أي في الرجوع أو يحكم الله لي أي بالخروج من مصر، أو بخلاص أخي بسبب ما. وهو خير الحاكمين لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.

ثم أمر كبيرهم أن يخبروا أباهم بما جرى، فقال:
[ ص: 3580 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 81 ] ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين

ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق أي: نسب إلى سرقة صواع الملك، وما شهدنا إلا بما علمنا أي ما شهدنا عليه بالسرقة، إلا بما تيقناه من إخراج الصواع من رحله.

تنبيه:

استنبط بعضهم من هذا عدم جواز الشهادة على الكتابة بلا علم وتذكر. وكذا من سمع كلامه من وراء حجاب; لعدم العلم به -كذا في (الإكليل)- ولا يخفى أن مثل هذا مما يستأنس به في مواقع الخلاف.

وما كنا للغيب حافظين أي: وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 82 ] واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون

واسأل القرية التي كنا فيها يعنون مصر. أي: أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة. والعير التي أقبلنا فيها أي جئنا معها. وكان صحبهم قوم من كنعان وإنا لصادقون أي فيما أخبرناك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 83 ] قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم

قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا معناه: فرجعوا إلى أبيهم، فقالوا له ما قال لهم أخوهم. فقال: بل سولت، أي زينت وسهلت أنفسكم أمرا، ففعلتموه.

[ ص: 3581 ] لطيفة:

قال الزمخشري: أمرا أردتموه، وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته، لولا فتواكم وتعليمكم؟!.

قال الناصر: هذا من الزمخشري إسلاف جواب عن سؤال، كأن قائلا يقول: هم في الوقعة الأولى سولت لهم أنفسهم أمرا بلا مراء، وأما في هذه الوقعة الثانية، فلم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا، ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته، وما تركوه بمصر إلا مغلوبين عن استصحابه، فما وجه قوله ثانيا: بل سولت لكم أنفسكم أمرا كما قال لهم أولا؟ وإذا ورد السؤال على هذا التقرير; فلا بد من زيد بسط في الجواب، فنقول: كانوا عند يعقوب عليه السلام حينئذ متهمين، وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام، وقامت عنده قرينة تؤكد نفي التهمة وتقويها، وهي أخذ الملك له في السرقة، ولم يكن ذلك إلا من دين يعقوب وحده، لا من دين غيره من الناس، ولا من عادتهم. وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك تنبيها من الله تعالى على وجه اتهام يعقوب لهم، فعلم أن الملك إنما فعل ذلك بفتواهم له به، وظن أنهم أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة تعمدا; ليتخلف أخوهم، وكان الواقع أنهم استفتوا من قبل أن يدعي عليهم السرقة، فذكروا ما عندهم، ولم يشعروا أن المقصود إلزامهم بما قالوا. واتهام من هو بحيث تتطرق التهمة إليه لا حرج فيه، وخصوصا فيما يرجع إلى الوالد من الولد. ويحتمل -والله أعلم- أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم، أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله، سرقة، من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة عليه -والله أعلم-.

وقوله: بل سولت لكم أنفسكم أمرا واقع بمكانه من حالهم، وإن كان شرعهم يقتضي ذلك مخالفا لشرعنا، فالعمدة على الجواب الأول. اهـ.

[ ص: 3582 ] وقوله تعالى: فصبر جميل أي بلا جزع عسى الله أن يأتيني بهم جميعا أي بيوسف وأخيه المتوقف بمصر، فتذهب أحزانه بمرة واحدة إنه هو العليم الحكيم أي العليم بحالي وحالهم، الحكيم في تشديد الأمر لينظر مقدار الصبر فيفيض بقدره الأجر، ومن الأجر المعجل تعجيل الفرج.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 84 ] وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم

وتولى أي: أعرض عنهم أي عن بنيه كراهة لما جاؤوا به وقال يا أسفى على يوسف أي يا حزني الشديد، و (الألف) بدل من ياء المتكلم للتخفيف. وقيل: هي ألف الندبة، والهاء محذوفة. و (الأسف) أشد الحزن والحسرة على ما فات. وإنما تأسف على يوسف دون أخويه، والحادث رزأهما. والرزء الأحدث أشد على النفس، وأظهر أثرا; لأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفا على من لحق به، ولأنه لم يزل عن فكره، فكان غضا طريا عنده، كما قيل:


ولم تنسني أوفى المصيبات بعده وكل جديد يذكر بالقديم


ولأنه كان واثقا بحياتهما- دون حياته.

[ ص: 3583 ] وابيضت عيناه من الحزن وذلك لكثرة بكائه.

قال الزمخشري: إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين، وقلبته إلى بياض كدر. فهو كظيم أي مملوء من الغيظ على أولاده، ولا يظهر ما يسوؤهم. (فعيل) بمعنى (مفعول) كقوله: وهو مكظوم أو بمعنى شديد التجرع للغيظ أو الحزن; لأنه لم يشكه إلى أحد قط. فهو بمعنى (فاعل).

تنبيه:

دلت الآية على جواز التأسف والبكاء عند المصيبة.

قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟.

قلت: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره، وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن.

ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: « إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون » .

وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب.

وعن الحسن أنه بكى على ولد، أو غيره، فقيل له في ذلك؟ فقال: ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب.

وقوله تعالى:
[ ص: 3584 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 85 ] قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين

قالوا أي أولاد يعقوب لأبيهم على سبيل الرفق به، والشفقة عليه: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أي مريضا مشفيا على الهلاك، أو تكون من الهالكين أي بالموت. يقولون: إن استمر بك هذا الحال، خشينا عليك الهلاك والتلف، واستدل به على جواز الحلف بغلبة الظن. وقيل: إنهم علموه، لكنهم نزلوه منزلة المنكر، فلذا أكدوه. و(تفتأ) مضارع فتئ، مثلثة التاء. يستعمل مع النفي ملفوظا أو منويا; لأن موضعه معلوم، فيحذف للتخفيف كقوله:


فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي


أي: لا أبرح. ومعنى (تفتأ): لا تزال ولا تبرح.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 86 ] قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون

قال إنما أشكو بثي أي غمي وحالي، وحزني إلى الله أي لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم، إنما أشكو إلى ربي داعيا له، وملتجئا إليه، فخلوني وشكايتي.

وأعلم من الله أي لمن شكا إليه من إزالة الشكوى، ومزيد الرحمة ما لا تعلمون ما يوجب حسن الظن به، وهو مع ظن عبده به.

ولما علم من شدة البلاء مع الصبر، قرب الفرج، قوى رجاءهم، وأمرهم أن يرحلوا لمصر، ويتطلبوا خبر يوسف وأخيه بقوله:
[ ص: 3585 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 87 ] يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون

يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه أي تعرفوا من نبئهما، وتخبروا خبرهما ولا تيأسوا من روح الله أي: فرجه ورحمته المريحة من الشدة. إنه لا ييأس من روح الله -لم يقل (منه) إشارة إلى ظهور حصوله لمن لم ييأس- إلا القوم الكافرون أي بالله ورحمته، وقدرته على إفاضة الروح، بعد مضي المدة في الشدة، وسنته في إفاضة اليسر مع العسر، لا سيما في حق من أحسن الظن به.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 88 ] فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين

فلما دخلوا عليه أي على يوسف بعد ما رجعوا إلى مصر، ولانفهامه من المقام طوى ذكره إيجازا: قالوا يا أيها العزيز أي الملك القادر، المتمنع، مسنا وأهلنا الضر أي الشدة من الجدب، وجئنا ببضاعة مزجاة أي: بدراهم قليلة في مقابلة ما نمتاره. استقلوا الثمن واستحقروه; اتضاعا لهيبة الملك، واستجلابا لرأفته وحنانه. وأصل معنى (التزجية): الدفع والرمي، فكنوا به عن القليل الذي يدفع; رغبة عنه، لذلك فأوف لنا الكيل أي: أتممه ووفره بهذه الدراهم المزجاة، كما توفره بالدراهم الجياد. وتصدق علينا أي: برد أخينا، أو بالإيفاء، أو بالمسامحة وقبول ما لا يعد عوضا: إن الله يجزي المتصدقين أي يثيبهم أحسن المثوبة.

[ ص: 3586 ] تنبيهات:

الأول: في الآية إرشاد إلى أدب جليل، وهو تقديم الوسائل أمام المآرب، فإنها أنجح لها. وهكذا فعل هؤلاء: قدموا ما ذكر من رقة الحال، والتمسكن، وتصغير العوض، ولم يفجؤوه بحاجتهم; ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم، ببعث الشفقة، وهز العطف والرأفة، وتحريك سلسلة الرحمة -كما قدمنا- ومن ثم رق لهم، وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرفهم نفسه، -كما يأتي-.

الثاني: يؤخذ من الآية جواز شكوى الحاجة لمن يرجى منه إزالتها.

الثالث: استدل بعضهم بقوله تعالى: فأوف لنا الكيل على أن أجرة الكيال على البائع; لأنه إذا كان عليه توفية الكيل، فعليه مؤنته، وما يتم به.

الرابع: استدل بقوله تعالى: وتصدق علينا من قال: إن الصدقة لم تكن محرمة على الأنبياء -كذا في الإكليل- وهذا بعد تسليم نبوة إخوة يوسف. وفيها خلاف. وسيأتي في التنبيهات، آخر السورة، تحقيق ذلك.

الخامس: في قوله تعالى: إن الله يجزي المتصدقين حث على الإحسان، وإشارة إلى أن المحسن يجزى أحسن جزاء منه تعالى، وإن لم يجزه المحسن إليه.
ثم بين تعالى رأفة يوسف بتعرفه إليهم بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 89 ] قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون

قال أي: يوسف مجيبا لهم: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون أي شبان غافلون؟ استفهام تقرير، يفيد تعظيم الواقعة. ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف، وما أقبح ما أقدمتم عليه! كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت [ ص: 3587 ] وهل تعرف من خالفت؟ وهذه الآية تصديق لقوله تعالى: وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون

لطائف:

الأولى- أبدى المهايمي مناسبة بديعة في قول يوسف لهم: هل علمتم إثر قولهم: إن الله يجزي المتصدقين وهو أنهم أرادوا بقولهم: إن الله يجزي المتصدقين أنه يعطيهم في الآخرة ما هو خير من العوض الدنيوي، فأشار لهم يوسف بأنكم تريدون دفع الضرر العاجل، بوعد الأجر الآجل، ولا تدفعون عن أنفسكم الضرر الآجل، كأنكم تنكرونه، هل علمتم ضرر ما فعلتم بيوسف؟.

الثانية: قيل: من تلطفه بهم قوله: إذ أنتم جاهلون كالاعتذار عنهم; لأن فعل القبيح على جهل بمقدار قبحه، أسهل من فعله على علم. وهم لو ضربوا في طرق الاعتذار لم يلفوا عذرا كهذا. ألا ترى أن موسى عليه السلام، لما اعتذر عن نفسه لم يزد على أن قال: فعلتها إذا وأنا من الضالين ففيه تخفيف للأمر عليهم.

الثالثة: قال الزمخشري: فإن قلت: ما فعلهم بأخيه؟ قلت: تعريضهم إياه للغم والثكل، بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحدا منهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 90 ] قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين

قالوا أي: استغرابا وتعجبا من أن هذا لا يعلمه إلا يوسف: أإنك لأنت [ ص: 3588 ] يوسف قال أنا يوسف أي: الذي فعلتم به ما فعلتم، وهذا أخي أي من أبوي.

قال أبو السعود: زادهم ذلك مبالغة في تعريف نفسه، وتفخيما لشأن أخيه، وتكملة لما أفاده قوله: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه حسبما يفيده قوله: قد من الله علينا فكأنه قال: هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال، فأنا يوسف، وهذا أخي، قد من الله علينا بالخلاص مما ابتلينا به، والاجتماع بعد الفرقة، والعزة بعد الذلة، والأنس بعد الوحشة.

ثم علل ذلك بطريق الاستئناف التعليلي بقوله: إنه من يتق أي ربه في جميع أحواله، ويصبر أي: على الضراء، وعن المعاصي، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين أي أجرهم، وفي وضع الظاهر موضع الضمير تنبيه على أن المنعوتين بالتقوى والصبر، موصوفون بالإحسان.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 91 ] قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين

قالوا تالله لقد آثرك الله علينا أي فضلك بما ذكرت من التقوى والصبر، وسيرة المحسنين وإن كنا لخاطئين أي: وإن شأننا وحالنا أنا كنا متعمدين الذنب، لم نتق ولم نصبر، ففعلنا بك ما فعلنا، ولذلك أوثرت علينا. وفيه إشعار بالتوبة والاستغفار، ولذلك:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 92 ] قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين

قال لا تثريب أي: لا تعيير ولا توبيخ ولا تقريع: عليكم اليوم أي: وإن كنتم ملومين قبل ظهور منتهى فعلكم، ولا إثم عليكم; إذ يغفر الله لكم [ ص: 3589 ] أي: حقي لرضاي عنكم، وحقه أيضا لواسع رحمته، كما قال: وهو أرحم الراحمين أي: فكأنه لا خطأ منكم. و (اليوم) متعلق بالتثريب، أو بالمقدر في (عليكم) من معنى الاستقرار. والمعنى: ولا أثربكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام؟! فتعبيره بـ (اليوم) ليس لوقوع التثريب في غيره، لأن من لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره، فبعده بطريق الأولى.

وقال الشريف المرتضى في (الدرر): إن اليوم موضوع موضع الزمان كله كقوله:


اليوم يرحمنا من كان يغبطنا واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا


ثم زادهم تكريما بأن دعا لهم بالمغفرة، لما فرط منهم بقوله: يغفر الله لكم

وقوله: وهو أرحم الراحمين تحقيق لحصول المغفرة; لأنه عفا عنهم، فالله أولى بالعفو والرحمة لهم، وبيان للوثوق بإجابة الدعاء. وجوز تعلق (اليوم) بـ (يغفر). والجملة خبرية سيقت بشارة بعاجل غفران الله; لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم. والوجه الأول أظهر. والثاني من الإغراب في التوجيهات.

تنبيه:

قال بعضهم: إن تجاوز يوسف عن ذنب إخوته، وإبقاءه عليهم، ومصافاته لهم، تعلمنا أن نغفر لمن يسيء إلينا، ونحسن إليه، ونصفي له الود، وأن نغضي عن كل إهانة تلحق بنا، فيسبغ الله تعالى إذ ذاك علينا نعمه وخيراته في هذه الدنيا، كما أوسع على يوسف ويورثنا السعادة الأخروية. وأما إذا أضمرنا السوء للمسيئين إلينا، ونقمنا منهم، فينتقم الله منا، ويوردنا مورد الثبور، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.

ثم قال لهم يوسف:
[ ص: 3590 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 93 ] اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين

اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين أراد يوسف تبشير أبيه بحياته، وإدخال السرور عليه بذلك، وتصديقه بإرسال حلة من حلله التي كان يستشعر بها أو يتدثر، ليكون في مقابلة القميص الأول، جالب الحزن، وغشاوة العين. و (الإلقاء على وجهه) بمعنى المبالغة في تقريبه منه، لما ناله من ضعف بصره، فتتراجع إليه قوة بصره، بانتعاش قلبه، بشمه واطمئنانه على سلامته. وللمفرحات تأثير عظيم في صحة الجسم، وتقوية الأعضاء، وقد جود الكلام في ذلك الحكيم داود الأنطاكي في (تذكرته) في مادة مفرح بما لا يستغنى عن مراجعته.

وفي (الكنوز) من كتب الطب: الفرح، إن كان بلطف، فإنه ينفع الجسم، ويبسط النفس، ويريح العقل، فتقوى الأعضاء وتنتعش. انتهى.

ثم رأيت الرازي عول على نحو ما ذكرناه، وعبارته: قال المفسرون: لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه، فقالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه. قال المحققون: إنما عرف أن إلقاء القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى، ولولا الوحي، لما عرف ذلك; لأن العقل لا يدل عليه. ويمكن أن يقال: لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء، وضيق القلب، ضعف بصره، فإذا ألقي عليه قميصه، فلا بد أن ينشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد، وذلك يقوي الروح، ويزيل الضعف عن القوى، فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك النقصان. فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب. فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى. انتهى.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #412  
قديم 29-04-2023, 06:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُوسُفَ
المجلد التاسع
صـ 3591 الى صـ 3605
الحلقة (412)




[ ص: 3591 ] ولعل الرازي عنى بالمحققين الصوفية، أو من يقف على الظاهر وقوفا بحتا، ولا يخفى أن أسلوب التنزيل في كناياته ومجازاته أسلوب فريد، ينبغي التفطن له.

وقد جوز في قوله: يأت بصيرا أن يكون معناه يصير بصيرا، أو يجيء إلي بصيرا، على حقيقة الإتيان فـ (بصيرا) حال. قيل: ينصره قوله: وأتوني بأهلكم أجمعين أي: بأبي وغيره، وفيه نظر; لأن اتحاد الفعلين هنا في المبنى لا يدل على اتحادهما في المعنى. ولا يقال: الأصل الحقيقة; لأن ذلك فيما يقتضيه السياق، ولا اقتضاء هنا. فالأول أرق وأبدع، لما فيه من التجانس.

روي أن يوسف عليه السلام، بعد أن دعا لهم بالمغفرة قال لهم: إن الله بعثني أمامكم لأحييكم، وقد مضت سنتا جوع في الأرض، وبقي خمس سنين، ليس فيها حرث ولا حصاد. فأرسلني الله أمامكم ليجعل لكم بقية في الأرض، ويستبقيكم لنجاة عظيمة. وقد جعلني سبحانه أبا لفرعون، وسيدا لجميع أهله، ومتسلطا على جميع أرض مصر، فبادروا وأشخصوا إلى أبي، وأخبروه بجميع مجدي بمصر، وما رأيتموه، وقولوا له: كذا قال ابنك يوسف: قد جعلني الله سيدا لجميع المصريين، فهلم إلي، فتقم في أرض جاسان، وتكون قريبا مني أنت وبنوك، وبنو بنيك، ومواشيك، وجميع ما هو لك، وأعولك، ها هنا، فقد بقي خمس سنين مجدبة، فأخشى أن يهلك الأهل والمال. وكان نما الخبر إلى بيت فرعون. وقيل: جاء إخوة يوسف، فسر بذلك فرعون وخاصته، وأمره أيضا بأن يؤكد عليهم إتيانهم بأبيهم وأهلهم، ووعدهم خير أرض في مصر تكون لهم; لئلا يأسفوا على ما خلفوا. ثم زود يوسف إخوته أحسن زاد، وأعطاهم من الحلل والثياب والدراهم مقدارا وافرا، وبعث إلى أبيه بمثل ذلك، وأصحبهم عجلات لأطفالهم ونسائهم، وأوصاهم ألا يتخاصموا في الطريق -والله أعلم-.

وقوله تعالى:
[ ص: 3592 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 94 ] ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون

ولما فصلت العير أي: خرجت من مصر. يقال: فصل القوم عن المكان وانفصلوا، بمعنى فارقوه. قال أبوهم أي: لحفدته ومن حوله من قومه، من عظم اشتياقه ليوسف، وانتظاره لروح الله: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون الريح: الرائحة، توجد في النسيم. لأتنسم رائحته مقبلة إلي، كناية عن تحققه وجوده بما ألقى الله في روعه من حياته، وساق إليه من نسائم البشارة الغيبية بسلامته. وقد كان عظم رجاؤه بذلك من مولاه، ووثق بنيل مأموله ومبتغاه، ولذلك نهى بنيه عن الاستيئاس من روح الله. وإذا دنا أجل الضراء، أخذت تهب نسائم الفرج حاملة عرف السراء، يدري ذلك كل من قوي إحساسه، وعظمت فطنته، واستنارت بصيرته، فيكاد أن يلمس في نهاية الشدة زهر الفرج، ولا يحنث إن آلى أنه يجد من نسيمه أزكى الفرج. عرف ذلك من عرف، فأحرى بمن نالوا من النبوة ذروة الشرف.

وإضافة الريح إلى الولد معروفة في كلامهم: وفي حديث عند الطبراني: « ريح الولد من ريح الجنة » وقال الشاعر:


يا حبذا ريح الولد ريح الخزامى في البلد


وقوله: لولا أن تفندون بمعنى إلا أنكم تفندون. أو لولاه لصدقتموني. و(فنده)* نسبه إلى الفند بفتحتين. وهو ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن.

قال في (العناية): مأخوذ من الفند، وهو الحجر والصخرة، كأنه جعل حجرا لقلة فهمه، كما قال:


إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا


ثم اتسع فيه فقيل: فنده، إذا ضعف رأيه، ولامه على ما فعله.

وقوله تعالى:
[ ص: 3593 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 95 ] قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم

قالوا أي حفدته ومن عنده: تالله إنك لفي ضلالك القديم أي لفي ذهابك عن الصواب المتقدم، في إفراطك في محبة يوسف، ولهجتك بذكره، ورجائك للقائه، وكان عندهم أنه مات أو تشتت، فاستحال الاجتماع به، وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 96 ] فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون

فلما أن جاء البشير أي المخبر بما يسره من أمر يوسف ألقاه على وجهه أي: طرح البشير القميص على وجه يعقوب، أو ألقاه يعقوب نفسه على وجهه، فارتد بصيرا أي عاد بصيرا لما حدث فيه من السرور والانتعاش: قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون أي: من حياة يوسف، وإنزال الفرج، وجوز كون إني أعلم كلاما مبتدأ. والمقول " لا تيأسوا من روح الله" إن كان الخطاب لبنيه. أو إني لأجد ريح يوسف إن كان لحفدته ومن عنده.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 97 ] قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين

قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين الضمير لبنيه. طلبوا أن يستغفر لهم لما فرط منهم، أو لحفدته ومن عنده لقولهم: إنك لفي ضلالك القديم والأول أقرب وأصوب.

ولما كان من حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه، ويسأل له المغفرة، وعدهم بذلك.
[ ص: 3594 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 98 ] قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم

قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم أي: سوف أدعوه لكم، فإنه المتجاوز عن السيئات، الرحيم لمن تاب.

قال المهايمي: صرحوا بالذنوب دون الله; لمزيد اهتمامهم بها، وكأنهم غلب عليهم النظر إلى قهره. وصرح يعقوب بذكر الرب دون الذنوب، إذ لا مقدار لها بالنظر إلى رحمته التي ربى بها الكل. انتهى.

وهذا من دقائق لطائف التنزيل ومحاسنها فيه.

تنبيه:

قيل: في هذه الآيات دلالة على جواز التبشير ببشائر الدنيا واستحبابه، وجواز السرور بحصول النعم الحاصلة في الدنيا. وفيها دلالة على إرجاء الاستغفار والدعاء لوقت يرى أنه أحضر فيه قلبا من غيره أو أنه أفضل وأقرب للإجابة.

وقد روي أنه أخر الاستغفار إلى السحر. وتخصيص الأوقات الفاضلة بالاستغفار والدعاء معروف في السنة، ومنه شرع الاستغفار في السحر، وعقب الصلوات، وقضاء الحج. وكان الدعاء في السجود، وعند الأذان، وبينه وبين الإقامة، والإفطار من الصيام أقرب للإجابة مما عداه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 99 ] فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين

فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه إشارة إلى ورود يعقوب وآله على يوسف. [ ص: 3595 ] وذلك أنهم تخلوا عن آخرهم، وترحلوا من بلاد كنعان، وأركبوا أطفالهم ونساءهم على العجل التي بعث بها فرعون، وصحبوا ماشيتهم وسرحهم، وهبطوا أرض مصر -وروي أنهم كانوا سبعين نفسا- وتقدمهم يهوذا إلى يوسف ليدله على أرض (جاسان) فينزلوها. ثم خرج يوسف في مركبته، فتلقى أباه في (جاسان) ولما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلا. والمراد بدخولهم على يوسف وصولهم لملتقاه خارج البلد، وبإيواء أبويه ضمهما إليه، واعتناقهما واصطحابه لهما في مركبه. قالوا: عنى بأبويه والده وخالته; لأن أمه راحيل توفيت وهي نفساء بأخيه بنيامين، وتنزيل الخالة منزلة الأم; لكونها مثلها في زوجة الأب، وقيامها مقامها وتوقيرها، كتنزيل العم منزلة الأب في قوله: وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق

وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين أي من القحط وأصناف المكاره.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 100 ] ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نـزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم

ورفع أبويه على العرش أي: أجلسهما معه على سرير ملكه تكريما لهما وخروا له سجدا أي سجد له أبوه وإخوته الباقون، وكانوا أحد عشر، تحية وتكرمة له. وكان السجود عندهم للكبير يجري مجرى التحية عندنا.

وقال يا أبت هذا أي السجود تأويل أي تعبير رؤياي من قبل أي [ ص: 3596 ] التي رأيتها أيام الصبا، وهي سجود أحد عشر كوكبا والشمس والقمر قد جعلها ربي حقا أي: صدقا مطابقا للواقع في الحس، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن أي نجاني من العبودية، وجعل الملك مطيعا لي مفوضا إلي خزائن الأرض. وفي الاقتصار على التحدث بالخروج من السجن على جلالة ملكه، وفخامة شأنه من التواضع، وتذكر ما سلف من الضراء، استدامة للشكر، ما فيه من أدب النفس الباهر. وفيه إشارة إلى النعمة في الانطلاق من الحبس; لأنه كما قال عبد الملك بن عبد العزيز، لما كان في حبس الرشيد:


ومحلة شمل المكاره أهلها وتقلدوا مشنوءة الأسماء دار يهاب بها اللئام وتتقى
وتقل فيها هيبة الكرماء ويقول علج ما أراد ولا ترى
حرا يقول برقة وحياء ويرق عن مس الملاحة وجهه
فيصونه بالصمت والإغضاء


وقال شاعر من المسجونين:


خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا


ويؤثر عن يوسف عليه السلام أنه كتب على باب السجن: هذه منازل البلاء، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء، وقبور الأحياء.

هذا وقد حاول كثير من الأدباء مدح السجن بسحر بيانهم، فقال علي بن الجهم:


قالوا حبست فقلت ليس بضائري حبسي وأي مهند لا يغمد؟
أو ما رأيت الليث يألف غابه كبرا وأوباش السباع تردد
والبدر يدركه المحاق فتنجلي أيامه وكأنه متجدد
ولكل حال معقب ولربما أجلى لك المكروه عما تحمد
والسجن ما لم تغشه لدنية شنعاء نعم المنزل المتورد
بيت يجدد للكريم كرامة فيزار فيه ولا يزور ويحفد


[ ص: 3597 ] وأحسن ما قيل في تسلية المسجونين قول البحتري:


أما في رسول الله يوسف أسوة لمثلك محبوسا على الجور والإفك
أقام جميل الصبر في السجن برهة فآل به الصبر الجميل إلى الملك


نقله الثعالبي في (اللطائف واليواقيت).

وجاء بكم من البدو أي البادية، وقد كانوا أصحاب مواش، من بعد أن نـزغ أي أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي أي بالحسد. وأسنده إلى الشيطان، لأنه بوسوسته وإلقائه. وفيه تفاد عن تثريبهم أيضا. وإنما ذكره لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعا.

إن ربي لطيف لما يشاء أي لطيف التدبير له، والرفق به، إنه هو العليم بوجوه المصالح، الحكيم في أفعاله وأقضيته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 101 ] رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين

رب قد آتيتني من الملك أي بعضا منه عظيما، وهو ملك مصر، وعلمتني من تأويل الأحاديث أي تعبير الرؤيا، فاطر السماوات والأرض أي مبدعهما وخالقهما، أنت وليي أي مالك أموري، في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين أي من النبيين والمرسلين. دعا يوسف عليه السلام بهذا الدعاء لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته وما آثره به من العلم والملك، فسأل ربه عز وجل، كما أتم عليه نعمته في الدنيا، أن يحفظها عليه باقي عمره، حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام، وألحقه بالصالحين. فليس فيه تمن للموت، وطلب التوفي منجزا كما قيل.

[ ص: 3598 ] روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، إن كان محسنا فيزداد، وإن كان مسيئا فلعله يستعتب، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي » . وفي رواية: « وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي » .

تنبيهان:

الأول: في فقه هذه الآيات: قال بعض اليمانين: يستدل مما روي أن يوسف خرج للقاء أبيه، على حسن التعظيم باللقاء، وكذا يأتي مثله في التشييع، ومنه ما روي في تشييع الضيف: ويستدل مما روي أن المراد بأمه خالته -كما مر- أن من نسب رجلا إلى خالته فقال: يا ابن فلانة! لم يكن قاذفا لها. ويستدل من رفعهما على العرش -وهو السرير الرفيع- جواز اتخاذه، ورفع الغير، تعظيما للمرفوع، ويستدل من قوله: وجاء بكم من البدو على أن الانتقال منه نعمة، وذلك لما يلحق أهل البادية من الجفاء، والبعد عن موارد العلوم، وعن رفاهة المدنية، ولطف المعاشرة، والكمالات الإنسانية، وروي لجرير:


أرض الحراثة لو أتاها جرول أعني الحطيئة لاغتدى حراثا ما جئتها من أي وجه جئتها
إلا حسبت بيوتها أجداثا


[ ص: 3599 ] وفي الحديث: « من بدا جفا » أي: من حل البادية. وفي آخر: « إن الجفا والقسوة في الفدادين » . ففي هذا دليل على حسن النقلة من البوادي إلى المدن. اهـ. بزيادة.

الثاني: قص كثير نبأ استقرار يعقوب وآله بمصر. ومجمله: أن يوسف اختار لمستقرهم أرض جاسان، فلما دخلوا مصر أخبر يوسف فرعون بقدوم أبيه وإخوته وجميع ما لهم إلى أرض جاسان، ثم أدخل أباه على فرعون، فأكرمه وكلمه حصة. وسأله عن عمره، فأجابه: مائة وثلاثون سنة، وأقطعه وبنيه أجود أرض في مصر، وهي أرض رعمسيس، أي عين شمس، وملكها إياهم، ودعا له يعقوب ثم انصرف. ثم أخذ يوسف خمسة من إخوته، فمثلهم بين يدي فرعون، فقال لهم: ما حرفتكم فأجابوه -كما أوصاهم يوسف-: نحن وآباؤنا رعاة غنم! فقال فرعون ليوسف: إن كنت تعلم أن فيهم ذوي حذق، فأقمهم وكلاء على ماشيتي. وأجرى يوسف لأبيه وإخوته وسائر أهله طعاما على حسبهم. وأقاموا في أرض مصر بجاسان فتملكوا فيها، ونموا وكثروا جدا، وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة، فكانت مدة عمره كله مائة وسبعا وأربعين سنة. ولما دنا أجله قال ليوسف: لا تدفني بمصر إذا مت، بل احملني منها إلى مدفن آبائي، فأجابه لذلك. ثم بعد مدة أخبر يوسف بمرض أبيه، فأخذ ولديه وسار إلى أبيه، فانتعش أبوه بمقدمه، ورأى ولديه، فقال: من هذان؟ فقال: ابناي رزقنيهما الله ها هنا. فقال: أدنهما مني، فأدناهما، فقبلهما، ودعا لهما، وقال له: لم أكن أظن أني أرى وجهك، والآن أراني الله نسلك أيضا. ثم أعلم يوسف بدنو أجله، وبشره بأن الله سيكون معكم، ويردكم إلى أرض آبائكم، ثم دعا بقية بنيه، ودعا لهم بالبركة، وأوصاهم بأن يضموه إلى قومه، ويدفنوه مع آبائه في المغارة التي في حبرون، وهي المعروفة اليوم بمدينة الخليل، فإن فيها دفن إبراهيم، [ ص: 3600 ] وسارة امرأته، وإسحاق ورفقة زوجته، وليأة امرأة يعقوب. ولما فرغ يعقوب من وصيته لبنيه فاضت روحه، فوقع يوسف على وجه أبيه، وبكى وقبله. ثم أمر الأطباء أن يحنطوه ويصبروه. ولما انقضت أيام التعزية به، استأذن يوسف فرعون بأن يبرح لدفن أبيه; عملا بوصيته، فأذن له وسار من مصر، وصحبه إخوته آل أبيه وحاشيته، ووجهاء مصر، وأتباع فرعون في موكب عظيم، إلى أن وصلوا أرض كنعان، ودفنوه في المغارة -كما أوصى- ثم عاد بمن معه إلى مصر، ولم يزل يوسف يرعى إخوته بالإكرام والإحسان، إلى أن قرب أجله، فأوصاهم بأن ينقلوه معهم إذا عادوا إلى الأرض التي كتبها الله لآبائهم. ثم توفي يوسف، وهو ابن مائة وعشر سنين، فحنطوه، وجعلوه في تابوت بمصر.

هذا ما قصه قدماء المؤرخين، والله أعلم بالحقائق. وإنما لم يذكر هذا القرآن الكريم; لأن القرآن لم يبن على قانون التاريخ، فليس فيه شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار، وإنما هي الآيات والعبر، تجلت في سياق الوقائع، ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفاصيلها، وإنما يذكر موضع العبرة فيها، كما سيأتي الإشارة إليه في قوله تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وقوله: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ومضى في المقدمة بسط هذا البحث، فراجعه. وسنذكر إن شاء الله في السورة شيئا من الحكم والعبر المقتبسة من نبأ يوسف، فانتظر.

وقوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 102 ] ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون

ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف، البعيد درجة [ ص: 3601 ] كماله في جميع ما لا يتناهى من المحاسن والأسرار حتى صار معجزا. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: هذا من أخبار الغيوب السابقة، نوحيه إليك، ونعلمك به، لما فيه من العبرة والاتعاظ.

وقوله تعالى: وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون كالدليل على كونه نبأ غيبيا ووحيا سماويا. أي: لم تعرف هذا النبأ إلا من جهة الوحي; لأنك لم تحضر إخوة يوسف، حين أجمعوا أمرهم على إلقاء أخيهم في البئر، وهم يمكرون به، إذ حثوه على الخروج معهم، يبغون له الغوائل، وبأبيهم في استئذانه ليرسله معهم، أي: فلم تشاهدهم حتى تقف على ظواهر أسرارهم وبواطنها.

قال أبو السعود: وليس المراد مجرد نفي حضوره عليه الصلاة والسلام في مشهد إجماعهم ومكرهم فقط، بل سائر المشاهد أيضا. وإنما تخصيصه بالذكر لكونه مطلع القصة، وأخفى أحوالها، كما ينبئ عنه قوله تعالى وهم يمكرون والخطاب -وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم- لكن المراد إلزام المكذبين. والمعنى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك; إذ لا سبيل إلى معرفتك إياه سوى ذلك، إذ عدم سماعك ذلك من الغير، وعدم مطالعتك للكتب أمر لا يشك فيه المكذبون أيضا، ولم تكن بين ظهرانيهم عند وقوع الأمر حتى تعرفه كما هو، فتبلغه إليهم. وفيه تهكم بالكفار، فكأنهم يشكون في ذلك فيدفع شكهم. وفيه أيضا إيذان بأن ما ذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع. وما ينقله أهل الكتاب ليس على ما هو عليه. يعني: أن مثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور والمشاهدة، وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحي. ومثله قوله تعالى: وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وقوله: وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر انتهى.

وقوله تعالى:
[ ص: 3602 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 103 ] وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين

وما أكثر الناس يريد به العموم، أو أهل مكة: ولو حرصت أي جهدت كل الجهد على إيمانهم، وبالغت في إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك، بمؤمنين أي بالكتب والرسل; لميلهم إلى الكفر، وسبيل الشر. يعني: قد وضح بمثل هذا النبأ نبوته صلوات الله عليه، وقامت الحجة، ومع ذلك فما آمن أكثر الناس، كما قال تعالى: " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين " .

قال الرازي: ما معناه: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها; أن كفار قريش، وجماعة من اليهود، طلبوا من النبي عليه الصلاة والسلام قص نبأ يوسف تعنتا، فكان يظن أنهم يؤمنون إذا تلي عليهم، فلما نزلت وأصروا على كفرهم ; قيل له: وما أكثر الناس إلخ. وكأنه إشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 104 ] وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين

وما تسألهم عليه أي على هذا النصح، والدعاء إلى الخير والرشد، من أجر أي أجرة إن هو أي ما هو، يعني القرآن، إلا ذكر للعالمين أي: عظة لهم، يتذكرون به ويهتدون وينجون في الدنيا والآخرة. يعني: أن هذا القرآن يشتمل على العظة البالغة، والمراشد القويمة، وأنت لا تطلب في تلاوته عليهم مالا، ولا جعلا. فلو كانوا عقلاء لقبلوا، ولم يتمردوا.

[ ص: 3603 ] قال بعض اليمانين: في الآية دليل على أن من تصدر للإرشاد، من تعليم ووعظ; فإن عليه اجتناب ما يمنع من قبول كلامه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 105 ] وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون

وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون أي: وكم من آية على وحدانية الخالق، وقدرته الباهرة، ونعوته الجليلة، في السماوات: من كواكبها وأفلاكها، وفي الأرض: من قطع متجاورات، وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وقفار شاسعات، وحيوان ونبات، وثمار مختلفات، وأحياء وأموات، يشاهدونها، ولا يعتبرون بها.

قال الرازي: يعني أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد، والقدرة والحكمة، ثم إنهم يمرون عليها، ولا يلتفتون إليها، واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة، لا بد وأن تكون من أمور محسوسة، وهي إما الأجرام الفلكية، وإما الأجرام العنصرية. أما الأجرام الفلكية فهي قسمان: أفلاك وكواكب. أما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصانع. وقد يستدل بكون بعضها فوق البعض أو تحته. وقد يستدل بأحوال حركاتها، إما بسبب أن حركاتها مسبوقة بالعدم، فلا بد من محرك قادر، وإما بسبب كيفية حركاتها في سرعتها وبطئها، وإما بسبب اختلاف جهات تلك الحركات. وأما الأجرام الكوكبية: فتارة يستدل على وجود الصانع بمقاديرها وأحيازها وحركاتها، وتارة بألوانها وأضوائها، وتارة بتأثيراتها في حصول الأضواء والأظلال، والظلمات والنور.

وأما الدلائل المأخوذة من الأجرام العنصرية: فإما أن تكون مأخوذة من بسائط، وهي عجائب البر والبحر، وإما من المواليد وهي أقسام:

[ ص: 3604 ] أحدها: الآثار العلوية، كالرعد والبرق والسحاب والمطر والثلج والهواء وقوس قزح.

وثانيها: المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها وكيفياتها.

ثالثها: النبات وخاصية الخشب والورق والتمر، واختصاص كل واحد منها بطبع خاص وطعم خاص، وخاصية مخصوصة.

ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات في أشكالها وطبائعها وأصواتها وخلقتها.

وخامسها: تشريح أبدان الناس، وتشريح القوى الإنسانية، وبيان المنفعة الحاصلة فيها.

فهذه مجامع الدلائل.

ومن هذا الباب أيضا قصص الأولين، وحكايات الأقدمين، وأن الملوك إذا استولوا على الأرض وخربوا البلاد، وقهروا العباد; ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر، ثم بقي الوزر والعقاب.

ولما كان العقل البشري لا يفي بالإحاطة بشرح دلائل العالم الأعلى والأسفل; ذكر في الكتاب العزيز مجملا. انتهى.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 106 ] وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون

وما يؤمن أكثرهم أي: الناس، أو أهل مكة، بالله أي في إقرارهم بوجوده وخالقيته إلا وهم مشركون أي: بعبادتهم لغيره، وباتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا، وبقولهم باتخاذه تعالى ولدا. سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.

تنبيه:

كما تدل الآية على النعي عليهم بالشرك الأكبر، وهو أن يعبد مع الله غيره. فإنها تشير إلى [ ص: 3605 ] ما يتخلل الأفئدة وينغمس به الأكثرون من الشرك الخفي، الذي لا يشعر صاحبه به غالبا. ومنه قول الحسن في هذه الآية: ذاك المنافق، يعمل إذا عمل رئاء الناس، وهو مشرك بعمله. يعني: الشرك في العبادة. فصاحبه، وإن اعتقد وحدانيته تعالى -ولكن لا يخلص له في عبوديته بل يعمل لحظ نفسه، أو طلب الدنيا، أو طلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق; فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب. وهذا حال أكثر الناس، وهو الشرك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه ابن حبان في صحيحه: « الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل » . فالرياء كله شرك، وهو محبط للعبادة، مبطل ثواب العمل، ويعاقب عليه إذا كان العمل واجبا. فإنه تعالى أمر بعبادته خالصة. قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء فمن لم يخلص لله في عبادته; لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور، فلا يقبل منه.

وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه » .

وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: « إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر! قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء» .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #413  
قديم 29-04-2023, 06:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُوسُفَ
المجلد التاسع
صـ 3606 الى صـ 3620
الحلقة (413)




ومن الشرك نوع غير مغفور، وهو الشرك بالله في المحبة والتعظيم، بأن يحب مخلوقا كما يحب الله، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا الآية. وقال أصحاب هذا الشرك [ ص: 3606 ] لآلهتهم، وقد جمعتهم الجحيم: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله، والخضوع لهم والتذلل. وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوى من خلق من التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب، وكيف يسوى الفقير بالذات، الضعيف بالذات، العاجز بالذات، المحتاج بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم; بالغني بالذات، القادر بالذات، الذي غناه وقدرته وملكه ووجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام، من لوازم ذاته؟ فأي ظلم أقبح من هذا وأي حكم أشد جورا منه؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه. أفاده الشمس ابن القيم في (الجواب الكافي).

قال الحافظ ابن كثير: وثم شرك خفي لا يشعر به غالبا فاعله، كما روي عن حذيفة أنه دخل على مريض، فرأى في عضده سيرا فقطعه، ثم قال: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون

وفي الحديث: « من حلف بغير الله فقد أشرك » رواه الترمذي عن ابن عمر وحسنه. وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » . ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا عن زينب امرأة عبد الله قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه؟ قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح، وعندي عجوز ترقيني [ ص: 3607 ] من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير. قالت: فدخل فجلس إلى جانبي، فرأى في عنقي خيطا، فقال: ما هذا الخيط؟ قالت: قلت: خيط رقي لي فيه! فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » . قالت: قلت له: لم تقول هذا، وقد كانت عيني تفرق، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت؟! فقال: إنما ذاك من الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كف عنها، كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « أذهب الباس، رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما » .

وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من علق تميمة فقد أشرك » .

وأخرج أيضا عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك » .

وبما ذكر يعلم أن لفظ الآية يتناول كل ما يصدق عليه مسمى الإيمان، مع وجود مسمى الشرك، فأهل الشرك الأكبر ما يؤمن أكثرهم بأن الله هو الخالق إلا وهو مشرك به، بما يتخذه من الشفعاء، وما يعبده من الأصنام. وكذا أهل الشرك الأصغر من المسلمين، كالرياء مثلا، ما يؤمن أحدهم بالله إلا وهو مشرك به، بذلك الشرك الخفي. وعلى هذا، فالشرك يجامع الإيمان، فإن الموصوف بهما مما تقدم، مؤمن فيما آمن به، ومشرك فيما أشرك به. والتسمية في الشريعة لله عز وجل ولرسوله، فلهما أن يوقعا أي اسم شاءا على أي مسمى شاءا. فكما أن الإيمان في اللغة التصديق، ثم أوقعه الله عز وجل في الشريعة على جميع الطاعات، واجتناب المعاصي، [ ص: 3608 ] إذا قصد بكل ذلك، من عمل أو ترك، وجه الله تعالى; كذلك الشرك نقل عن شرك شيء مع آخر مطلقا، إلى الشرك في عبادته تعالى، وفي خصائص ربوبيته.

قال ابن القيم:

حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق، والتشبه للمخلوق به، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء، والخوف والرجاء، والتوكل به وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فضلا عن غيره مشبها بمن له الأمر كله، جل وعلا. فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل، مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة، أن يكون له وحده. ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير، بمن لا شبيه له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدة قبحه، وتضمنه غاية الظلم; أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة. ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين، لا قوام لها بدونهما: غاية الحب، مع غاية الذل. هذا تمام العبودية. وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله; فقد شبهه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع. وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم، ومضى على الفطرة من سبقت له من الله الحسنى. إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به. ومنها التوكل، فمن توكل [ ص: 3609 ] على غيره فقد شبهه به. ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به. ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا، فمن حلف بغيره فقد شبهه به. هذا في جانب التشبيه. وأما في جانب التشبه به، فمن تعاظم وتكبر، ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم، والخضوع، والرجاء، وتعليق القلب به، خوفا، ورجاء، والتجاء، واستعانة; فقد تشبه به، ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، ويذله غاية الذل.

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله عز وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته » . وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده، كملك الأملاك، وحاكم الحكام، ونحوه.

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: « أغيظ رجل على الله رجل يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله » .

فهذا غضب الله على من تشبه في الاسم، الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده، يحكم عليهم كلهم، ويقضي عليهم، لا غيره.

وتتمة هذا البحث في (الجواب الكافي) لابن القيم، فانظره.

وقوله تعالى:
[ ص: 3610 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 107 ] أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون

أفأمنوا أي: هؤلاء المشركون أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أي عقوبة تنبسط عليهم وتغمرهم أو تأتيهم الساعة بغتة أي فجأة وهم لا يشعرون أي: بإتيانها، وهذا كقوله تعالى: أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم وقوله: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 108 ] قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين

قل هذه سبيلي أي هذه السبيل، التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، سبيلي، أي طريقي ومسلكي وسنتي. والسبيل والطريق يذكران ويؤنثان. ثم فسر سبيله بقوله: أدعو إلى الله أي: إلى دينه وتوحيده، ومعرفته بصفات كماله، ونعوت جلاله: على بصيرة أي: مع حجة واضحة، غير عمياء أنا ومن اتبعني أي: آمن بي، يدعون إلى الله أيضا على بصيرة، لا على هوى. وسبحان الله أي: وأنزهه [ ص: 3611 ] وأجله وأقدسه عن أن يكون له شريك، أو ند أو كفء أو ولد أو صاحبة، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وما أنا من المشركين أي: على دينهم.

تنبيهات:

الأول: قال السمين أدعو إلى الله يجوز أن يكون مستأنفا، وهو الظاهر، وأن يكون حالا من الياء، و على بصيرة حال من فاعل " أدعو" . أي: أدعو كائنا على بصيرة، وقوله: ومن اتبعني عطف على فاعل " أدعو" ولذلك أكد بالضمير المنفصل. ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف، أي: ومن اتبعني يدعو أيضا، ويجوز أن يكون على بصيرة خبرا مقدما، و " أنا" مبتدأ مؤخرا و " من اتبعني" عطف عليه، ومفعول " أدعو" إما منوي، أي الناس، أو منسي.

الثاني: دل قوله تعالى على بصيرة على مزية هذا الدين الحنيف، ونهجه الذي انفرد به، وهو أنه لم يطلب التسليم به لمجرد أنه جاء بحكايته، ولكنه ادعى وبرهن وحكى مذاهب المخالفين، وكر عليها بالحجة، وخاطب العقل، واستنهض الفكر، وعرض نظام الأكوان، وما فيها من الإحكام والإتقان، على أنظار العقول، وطالبها بالإمعان فيها لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه -انظر (رسالة التوحيد) في تتمة ذلك.

الثالث: دلت الآية على أن سيرة أتباعه صلى الله عليه وسلم، الدعوة إلى الله.

قال الرازي: كل من ذكر الحجة، وأجاب عن الشبهة; فقد دعا بمقدار وسعه إلى الله. وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط، وهو أن يكون على بصيرة مما يقول، وعلى هدى ويقين، فإن لم يكن كذلك، فهو محض الغرور. انتهى.

ولا يخفى أن الدعوة إلى الله إنما هي بنشر مطالب الدين، وإذاعة آدابه وتعليمه.

قال بعضهم: ينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة، في حال مخالطته ومجالسته لهم، في بيان الواجبات والمحرمات، ونوافل الطاعات، وذكر الثواب والعقاب، على الإحسان [ ص: 3612 ] والإساءة. ويكون كلامه معهم بعبارة قريبة واضحة يعرفونها ويفهمونها، ويزيد بيانا للأمور التي يعلم أنهم ملابسون لها، ولا يسكت حتى يسأل عن شيء من العلم، وهو يعلم أنهم محتاجون إليه، ومضطرون إليه، فإن علمه بذلك سؤال منهم بلسان الحال. والعامة قد غلب عليهم التساهل بأمر الدين، علما وعملا، فلا ينبغي للعلماء أن يساعدوهم على ذلك بالسكوت عن تعليمهم وإرشادهم، فيعم الهلاك، ويعظم البلاء. وقلما تختبر عاميا -وأكثر الناس عامة- إلا وجدته جاهلا بالواجبات والمحرمات، وبأمور الدين التي لا يجوز ولا يسوغ الجهل بشيء منها. وإن لم يوجد جاهلا بالكل، وجد جاهلا بالبعض. وإن علم شيئا من ذلك، وجدت علمه به علما مسموعا من ألسنة الناس، لو أردت أن تقلبه له جهلا فعلت ذلك بأيسر مؤونة، لعدم الأصل والصحة فيما يعلمه. وعلى الجملة، فيتأكد على العلماء أن يجالسوا الناس بالعلم، ويحدثوهم به، ويبثوه لهم، ويكون كلام العالم معهم في بيان الأمر الذي جاؤوا من أجله، مثل ما إذا جاؤوا لعقد نكاح، يكون كلامه معهم فيما يتعلق بحقوق النساء من الصداق والنفقة والمعاشرة بالمعروف. أو لعقد بيع، يكون كلامه في صحيح البيوع وآدابها، وفوائد التجارة النافعة، واجتناب الغش والخداع وهكذا. ولا ينبغي للعالم أن يخوض مع الخائضين، ولا أن يصرف شيئا من أوقاته في غير إقامة الدين. وبالسكوت عن التذكير والتعليم، يغلب الفساد، ويعم الضرر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 109 ] وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون

وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أي لا ملائكة [ ص: 3613 ] من أهل السماء، رد لقول المشركين: لو شاء ربنا لأنـزل ملائكة وهذا كقوله تعالى: وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وقوله: وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين وقوله: قل ما كنت بدعا من الرسل الآية.

واحتج بقوله تعالى: إلا رجالا على أنه لم ينتظم في سلك النبوة امرأة.

والقرى: جمع قرية، وهي على ما في (القاموس): المصر الجامع، وفي (كفاية المتحفظ): القرية كل مكان اتصلت به الأبنية، واتخذ قرارا. وتقع على المدن وغيرهما. انتهى.

قال ابن كثير: والمراد بالقرى هنا المدن. أي: لا أنهم من أهل البوادي الذين هم أجفى الناس طباعا وأخلاقا. وهذا هو المعهود المعروف: أن أهل المدن أرق طباعا، وألطف من أهل بواديهم. وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين يسكنون في البوادي. ولهذا قال تعالى: الأعراب أشد كفرا ونفاقا الآية.

قال قتادة: إنما كانوا من أهل القرى; لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمور.

وقوله تعالى: أفلم يسيروا أي: هؤلاء المكذبون، في الأرض فينظروا أي نظر تفكر كيف كان عاقبة الذين من قبلهم أي: من الأمم المكذبة، كقوله تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها الآية، فإذا استمعوا خبر ذلك; رأوا أن الله أهلك الكافرين، ونجى المؤمنين. وهذه كانت سنته تعالى في خلقه، ولهذا قال تعالى: ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أي: الشرك والفواحش، وآمنوا بالله ورسله وكتبه.

[ ص: 3614 ] قال ابن كثير: أي: وكما نجينا المؤمنين في الدنيا، كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة، وهي خير لهم من الدنيا، كقوله تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد

أفلا تعقلون أي تستعملون عقولكم، فتعلموا أن الآخرة خير، أو تعلموا كيف عاقبة أولئك.
ثم بين تعالى أن العاقبة لرسله، وأن نصره يأتيهم إذا تمادى تكذيبهم، تثبيتا لفؤاده عليه الصلاة والسلام، فقال سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 110 ] حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين

حتى إذا استيئس الرسل أي: من إجابة قومهم وظنوا أي: علموا وتيقنوا، يعني: الرسل أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا يقرأ (كذبوا) بضم الكاف وتشديد الذال. أي: كذبهم قومهم بما جاءوا به ; لطول البلاء عليهم. ويقرأ بضم الكاف وتخفيف الذال، فالضمير في ظنوا -على ما اختاروه- للقوم. أي: ظنوا أن الرسل قد كذبوا. أي: ما وعدوا به من النصر.

وروي عن ابن عباس أن الضمير للرسل. أي: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر. وقال: كانوا بشرا، وتلا قوله تعالى: وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله وقد استشكلوه على ابن عباس، وتأولوا لكلامه وجوها.

[ ص: 3615 ] قال الزمخشري: أراد بالظن ما يخطر بالبال، ويهجس في القلب، من شبه الوسوسة، وحديث النفس، على ما عليه البشرية. انتهى.

وقيل: المراد بظنهم عليهم السلام ذلك; المبالغة في التراخي والإمهال، على طريق الاستعارة التمثيلية، بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب، باعتبار استلزام كل منهما; لعدم ترتب المطلوب، فاستعمل ما لأحدهما للآخر.

وقال الخطابي: لا شك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تكذب بالوحي، ولا تشك في صدق المخبر، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهم، لطول البلاء عليهم، وإبطاء النصر، وشدة استنجاز ما وعدوا به- توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان حسبانا من أنفسهم، وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من ذلك، فيكون الذي بني له الفعل أنفسهم، لا الآتي بالوحي. والمراد بـ (الكذب): الغلط، لا حقيقة الكذب، كما يقول القائل: كذبتك نفسك.

قال الحافظ ابن حجر: ويؤيده قراءة مجاهد: ((وظنوا أنهم قد كذبوا)) بفتح أوله مع التخفيف أي: غلطوا. ويكون فاعل (وظنوا) الرسل.

وقال أبو نصر القشيري: ولا يبعد أن المراد خطر بقلب الرسل، فصرفوه عن أنفسهم. أو المعنى: قربوا من الظن، كما يقال: بلغت المنزل، إذا قربت منه.

وقال الترمذي الحكيم: وجهه: أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر; أن يتخلف النصر، لا من تهمة بوعد الله، بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال، واشتد البلاء عليهم; دخلهم الظن من هذه الجهة.

وحكى الواحدي عن ابن الأنباري أنه قال: ما روي عن ابن عباس غير معول عليه، وأنه ليس من كلامه، بل تؤول عليه.

[ ص: 3616 ] قال ابن حجر: وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح ثم للزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس، فإنه صح عنه، أي: فرواه البخاري في تفسير البقرة بلفظ: ذهب بها هناك، وأشار إلى السماء، وزاد الإسماعيلي عنه: كانوا بشرا ضعفوا وأيسوا وظنوا أنهم قد كذبوا.

وروى البخاري أن عائشة كانت تقرأ (كذبوا) مشددة، وتتأولها على المعنى الأول، وأن عروة قال لها: لعلها (كذبوا) مخففة، فقالت: معاذ الله!.

قال الحافظ ابن حجر: وهذا ظاهر في أنها أنكرت القراءة بالتخفيف، ولعلها لم تبلغها ممن يرجع إليه في ذلك، وقد قرأها بالتخفيف أئمة الكوفة من القراء: عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. ووافقهم من الحجازيين أبو جعفر بن القعقاع. وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي، والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي في آخرين.

وقوله تعالى: فنجي من نشاء وهم الرسل والمؤمنون بهم. وقرئ (فننجي) بالتخفيف والتشديد. وقرئ (فنجا).

ولا يرد بأسنا أي: عذابنا. عن القوم المجرمين أي: إذا نزل بهم.

وفيه بيان من شاء الله نجاتهم; لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين، وهم من تقدم.
[ ص: 3617 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 111 ] لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب الضمير ليوسف وإخوته، أو للأنبياء وأممهم. ورجح الزمخشري الثاني بقراءة (قصصهم) بكسر القاف، جمع قصة. والمفتوح مصدر بمعنى المفعول. وأجيب بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة، وقد يطلق الجمع على الواحد، كما مر في " أضغاث أحلام" وسنذكر وجوه العبر منها بعونه تعالى.

ما كان أي: القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة حديثا يفترى أي: يختلق. ولكن تصديق الذي بين يديه أي: من الكتب المنزلة، فهو يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير.

قال بعض المحققين: المراد به أن قصص القرآن ليست مخترعة ولا مفتراة، بدليل وجود أمثالها بين الناس، قبل نزوله. فهي وإن اختلفت قليلا في بعض التفاصيل والجزئيات، عما يرويه الناس، إلا أنها توافقها في الجملة، وتصدقها في الجوهر، فلا تظنوا أيها المشركون أن النبي اخترعها بعقله، بل اسألوا عنها أهل الكتاب، تجدوا أنها معروفة بينهم، ومروية في كتبهم، فوجود قصص القرآن عند الناس من قبل من أعظم ما يصدقه ويؤيده; لأن النبي صلوات الله عليه، لم يطلع على كتب أهل الكتاب. ولا يتوهم من هذه الآية أن قصص القرآن يجب ألا تختلف عن قصص التوراة والإنجيل في شيء ما، كلا، إذ لو صح [ ص: 3618 ] هذا لما قال تعالى: إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون فقصصه قد تختلف عما عندهم، وتبين لهم حقه من باطله. فلا منافاة بين تصديق القرآن لقصصهم في الجملة، ومخالفته لها في بعض الجزئيات -كما قلنا- ويجوز أن يكون المراد بقوله: تصديق الذي بين يديه تصديق الحق الذي عندهم، لا كل الذي عندهم، وإلا لدخل في ذلك عقائدهم الفاسدة وأوهامهم وخرافاتهم وغيرها، مما جاء القرآن لإزالته ومحقه، ويستحيل أن يكون مصدقا لما جاء لإبطاله. فتنبه لذلك. ولا تكن من الغافلين. انتهى.

وقوله تعالى: وتفصيل كل شيء أي: تبيان كل ما يحتاج إليه من أحكام الحلال والحرام، والآداب والأخلاق، ووجوه العبر والعظات، ولذا كان أعظم ما تنقذ به القلوب من الغي إلى الرشاد، ومن الضلال إلى السداد، وتبتغى به الرحمة من رب العباد، كما قال تعالى: وهدى أي: من الضلالة ورحمة أي: من العذاب لقوم يؤمنون أي يصدقون به، ويعملون بأوامره، فإن الإيمان قول وعقد وعمل. وخصهم لأنهم المنتفعون به.

خاتمة في مباحث مهمة

الأول: فيما قيل في وجوه العبر في هذا القصص.

قال في (اللباب): الاعتبار والعبرة: الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد. والمراد منه التأمل والتفكر. ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه، وإخراجه من السجن، وتمليكه مصر بعد العبودية، وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة، واليأس من الاجتماع ; قادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته، وإظهار دينه. وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب، فكانت معجزة له صلى الله عليه وسلم.

[ ص: 3619 ] وقال بعضهم: إن قصة يوسف الصديق، جمة الفائدة، وجليلة العائدة، تحدو بكل امرئ أبي إلى الاقتداء بها. فإن من أطلق سوام الفكر في حياة يوسف عليه السلام رآها رغيدة، وألفاها هنيئة، وما ذلك إلا لطيب سيرته، وحميد سريرته، وتمسكه بعرى التقوى والفضيلة، ولا سيما فضيلة العفة والطهارة، التي ترفع قدر صاحبها، وتنزله المنزلة السامية. فعلى المرء أن يقتفي أثر هذه الفضيلة الجليلة، كيوسف، فيتسنم ذروة المجد في هذه الدنيا، وينال السعادة الدائمة في الآخرة. انتهى.

قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هذه السورة من جملة ما قص على النبي، صلوات الله عليه، من أنباء الرسل، وأخبار من تقدمه، مما فيه التثبت المشار إليه في قوله تعالى: وكلا نقص عليك الآية. وإنما أفردت على حدتها، ولم تنسق على قصص الرسل، مع أنهم في سورة واحدة; لمفارقة مضمونها تلك القصص. ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم السلام، وكيفية تلقي قومهم لهم، وإهلاك مكذبيهم؟ أما هذه القصة، فحاصلها: فرج بعد شدة، وتعريف بحسن عاقبة الصبر، فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه السلام بفقد ابنيه وبصره، وشتات بنيه. وامتحن يوسف عليه السلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والإخوة والسجن. ثم امتحن جميعهم بشمول الضر، وقلة ذات اليد: مسنا وأهلنا الضر الآية. ثم تداركهم الله بإلفهم، وجمع شملهم، ورد بصر أبيهم، وائتلاف قلوبهم، ورفع ما نزغ به الشيطان، وخلاص يوسف عليه السلام، وبكيد من كاده، واكتنافه بالعصمة، وبراءته عند الملك والنسوة، وكل ذلك مما أعقبه جميل الصبر، وجلالة اليقين، وحسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم، على توالي الامتحان، وطول المدة. ثم انجر في أثناء هذه القصة الجليلة إنابة امرأة العزيز، ورجوعها إلى الحق، وشهادتها ليوسف عليه السلام بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين. ثم استخلاص العزيز إياه، إلى ما [ ص: 3620 ] انجر في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر. فقد انفردت هذه القصة بنفسها، ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، وما جرى في أممهم، فلهذا فصلت عنهم. وقد أشار في سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضي وسلم ليتنبه المؤمنون إلى ما في طي ذلك. وقد صرح لهم ما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض إلى قوله: أمنا وكانت قصة يوسف عليه السلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر، وهجرهم، وتشققهم مع قومهم، وقلة ذات أيديهم، إلى أن جمع الله شملهم: واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وأورثهم الأرض، وأيدهم ونصرهم، وذلك بجليل إيمانهم، وعظيم صبرهم. فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص -والله أعلم-.

ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما السلام، في صبرهما، ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا، وما أعد لهما من عظيم الثواب، أنسب بحال نبينا عليه السلام في مكابدة قريش، ومفارقة وطنه، ثم تعقيب ذلك بظفره بعدوه، وإعزاز دينه، وإظهار كلمته، ورجوعه إلى بلده، على حالة قرت بها عيون المؤمنين، وما فتح الله عليه وعلى أصحابه، فتأمل ذلك! ويوضحه ختم السورة بقوله: حتى إذا استيئس الرسل الآية. فحاصل هذا كله الأمر بالصبر، وحسن عاقبة أولياء الله فيه -كذا في تفسير (البرهان) للبقاعي ملخصا-.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #414  
قديم 29-04-2023, 06:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُوسُفَ
المجلد التاسع
صـ 3621 الى صـ 3635
الحلقة (414)




وجاء في كتاب (النظام والإسلام) في بحث التربية والآداب في قصص القرآن ما مثاله:

طال الأمر على أمتنا، فأهملت ما في غضون كتابها من أساس التربية والحكمة، وكيف تنتقى الرجال الأكفاء في مهام الأعمال. يا ليت شعري! ما الذي أصابها حتى غضت النظر عن القصص التي قصها، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا [ ص: 3621 ] المؤرخين. القصص في كل أمة، عليها مدار ارتقائها، سواء كانت وضعية أم حقيقية، على ألسنة الحيوان أو الإنسان أو الجماد. على هذا تبحث الأمم، قديمها وحديثها. وناهيك بكتاب (كليلة ودمنة) وما والاه من القصص الناسجة على منواله في الإسلام، ككتاب (فاكهة الخلفاء) و (مقامات الحريري). جاء القرآن بقصص الأنبياء، وهي -لا جرم- أعلى منالا، وأشرف مزية. كيف لا وقد جمعت أحسن الأسلوب، واختيار المقامات المناسبة لما سيقت إليه، والقدوة الحسنة للكمل المخلصين من الأنبياء ومن والاهم، وتحققها في أنفسها، لوقوع مواردها، وإن حب التشبه طبيعة مرتكزة في الإنسان، لا سيما لمن يقتدي بهم. فهذه خمس مزايا اختصت بها هذه القصص، ونقصت في سواها. أليس من العيب الفاضح أن نقرأ قصص القرآن، فلا نكاد نفهم إلا حكايات ذهبت مع الزمان، ومرت كأمس الدابر؟! وما لنا ولها إذن؟ تالله إن هذا لهو البوار! ولم يكن هذا إلا للجهل بالمقصود من قصصها، وإنها عبرة لمن اعتبر، وتذكرة لمن تفكر، وتبصرة لمن ازدجر. أما الرجوع إلى التاريخ، ومقارنته بما قصه المؤرخون في كتبهم، وما سطره الأقدمون على مباينتهم، وما يقوله القاصون في خرافتهم; فتلك سبيل حائد عن الجادة، يضل فيه الماهرون، يرشدك لذلك ما تسمعه من نبأ فتية الكهف، وكيف يقول: سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فانظر كيف أسند العلم لله، ولم يعول على قول المؤرخين المختلفين، ثم لم يبين الحقيقة; لئلا يكون ذريعة للطعن في التنزيل. فإن قال: خمسة، قالوا: ستة، وإن قال: أربعة، قالوا سبعة. فكتب المؤرخين كثيرة الاختلاف في القصص، وما المقصود منها إلا ليكون عبرة. وبالإجمال: فليس القصد من هذه القصص إلا منافعها، والعبر المبصرة للسامعين: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب

[ ص: 3622 ] ولسنا ممن يتبجح بالقول بلا بيان، فلا نعتمد إلا على البرهان. تأمل هذا القصص، تجده لا يذكر إلا ما يناسب الإرشاد والنصح، ويعرض عن كثير من الوقائع، إذ لا لزوم لها، ولا معول عليها. فلا ترى قصة إلا وفيها توحيد وعلم ومكارم أخلاق، وحجج عقلية، وتبصرة وتذكرة، ومحاورات جميلة، تلذ العقلاء. ولأقتصر من تلك القصص على ما حكاه عن يوسف الصديق عليه السلام، وكيف جاوز فيها كل ما لا علاقة له بالأخلاق، من مدنية المصريين وأحوالهم، إلى الخلاصة والثمرة. ألا ترى كيف صدرت بحديث سجود الشمس والقمر والكواكب له في الرؤيا; دلالة على أن للطفل استعدادا يظهر على ملامحه، وأقواله، وأفعاله، ورؤياه؟ وهذا أعظم شيء اعتنى به قدماء الحكماء، من اليونان والفرس، كما ذكره المؤرخون وعلماء الأخلاق، كانوا يختبرون أبناءهم، ويتأملون ملامحهم; ليعرفوا ما استعدوا له من الصناعات والرئاسات والعلوم. ثم تأمل في قصة الإخوة، وحديث القميص والجب والذئب والدم; لتعلم ما نشاهده كل يوم من معاداة الأقران لمن ظهرت مبادئ الجمال النفسي، والخلق المرضي، والجلال الظاهر على ملامحه، فيعيبونه بما يشينه في نفسه أو عرضه أو خلقه; دلالة على أن هذه سنة في الكون لا تغادر نبيا، ولا حكيما، ولا عالما مهما حسنت أخلاقه، وجمل ظاهره وباطنه.....!.


كل العداوات قد ترجى إزالتها إلا عداوة من عاداك من حسد


جرت تلك السنة في الأناسي، فإذا صبر الصالح فاز بالولاية عليهم، وأحبوه بعد العداوة ولو بعد حين، وعادوا من آذاه! ثم انظر في حديث قصة امرأة العزيز، وكيف عف مع الشباب، وكيف ساس نفسه وصدق ظن مولاه في الأمانة، وأرضى إلهه، واتسم بالفضيلة، فتوازى جماله الباطني والظاهري..! ولنكتف بهذا القدر الآن، ولنشرع في الكلام على الآداب والأخلاق وتربية الأمراء والعفو والصفح، التي تضمنتها تلك القصة!.

فأما علم الأخلاق، وتربية رؤساء الأمم منها، فتأمل في كلام الحكماء -أولهم وآخرهم- [ ص: 3623 ] تجد إجماعهم على أن سياسة أخلاق النفس أولا فالمنزل فالمدينة، كل واحدة مقدمة للاحقتها ثمرة لسابقتها; إذ لا يعقل أن يسوس منزله من لم يسس نفسه، أو يسوس أمته من لم يدبر إدارة منزله!.

بايع الصحابة -عليهم رضوان الله- الخليفة الأول، فأخذ قماشا وذراعا وذهب إلى السوق في الغداة، فاستاء الصحابة ولاموه، فقال: إذا أضعت أهلي، فأنا للمسلمين أضيع! ففرضوا له دريهمات من بيت المال، فقال: إذن أنظر في شؤونكم! لذلك، نجد الغربيين -إذا ولوا رجلا إدارة بلادهم- أكثروا السؤال عن قرينته وإدارة منزله، علما منهم أن منزله أقرب إليه من الأمة.

فانظر هذه الحقائق من سيرة النبي يوسف الصديق كيف ذكرت في الكتب السماوية، ورتبت في القرآن ترتيبا محكما، ذكرت فيها السياسات الثلاث مرتبة هكذا: النفس فالمنزل فالمدينة، ترتيبا طبيعيا، تنبيها لبني الإسلام على معرفة هذا العلم وانتقائهم الأكفاء للأعمال العامة. فأشير فيها لتربية الأخلاق الفاضلة بالعفة في عنفوان الشباب مع الصديق. وليت شعري! كيف حفظ أخلاق آبائه وقومه والأنبياء في وسط مدنية المصريين وزخرفهم وجمالهم، وعبد الله وحده، ونسي ما يراه من أبي الهول وأبيس والأرباب المتفرقة...؟! يذكر هذا تبصرة لمن أحاطت بهم أمواج الحدثان من كل جانب، أن يحافظوا على أصول دينهم وقواعده، ثم ليفعلوا ما يشاءون في أمور دنياهم..!

ظهر صدق يوسف في أخلاقه الشخصية، فلم يكن ذلك كافيا لإدارة أموره العامة، فأودع السجن، وأحيط بالأحداث والجهلة من كل جانب، فأخذ يسوسهم كما يسوس الرجل أهل منزله، وبث عقيدته بينهم، ظاهرا بمظهر الكمال والإحسان والعطف عليهم: قال لا يأتيكما طعام ترزقانه الآية. وأخذ يقص عليهم سيرة أسلافه، وحبه [ ص: 3624 ] لمذهبهم، وبغضه لأصنام المصريين ونحوهم، فقال: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله الآية. ثم أخذ يذكرهم أن تفرق وجهة الأمة ضلال في السياسة، وأن توحيد وجهتها كياسة فيها، فقال: يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار فتفريق الوجهة شتات الجامعة. لم تسد أمة في الوجود إلا برجال يوحدون وجهتها أيا كانت، فيؤمون مقصدا واحدا! والتفصيل لا يخفى على أولي الألباب..!.

وفي (آراء أهل المدينة الفاضلة) للفارابي اثنتا عشرة جامعة بكل منهن قوم اتحدت بها: كاللغة، والوطن، والدين، والأخلاق، والجنس، والحكيم المرشد، والأب الأكبر، ونحو ذلك مما امتازت به أمة أو جماعة.

ولما تم له، عليه السلام، الأمران -سياسة النفس والعشيرة- أخرج من السجن معظما مبجلا، وترقى من تعليم الصعلوك في السجن إلى تعليم الملوك على العروش، وأخذ يربهم كيف يقتصدون الأموال، وعبر لهم السنبلات الخضر واليابسات، والبقرات السمان والعجاف، وأرشدهم إلى خزن البر وسنابله; لئلا يفسد، وغير ذلك من الأمور العامة. وهذه هي المرتبة الثالثة: سياسة الأمة بأجمعها بعد قطع تينك العقبتين.

والبراعة والكياسة في علوم العمران، وتدبير أمر الأمة، إما بوحي، وهذا خاص به وبأمثاله من الأنبياء عليهم السلام، وإما بتعليم وتدريب، وهو اللائق بسائر الناس.

ترشد هذه السيرة الشريفة إلى أن الأخلاق الفاضلة ما تثبت عليها النفس مع الحقير والعظيم والصغير والكبير، وأن الإنسان لا يستحقر تعليم الأصاغر، فإنه لا بد يوما ما أن يصل إلى الأكابر، كما في حديث هرقل مع أبي سفيان، وتعليم الصديق من في السجن. فبلغ صاحب السجن فرعون المصريين.

[ ص: 3625 ] ابتلي هذا النبي بالسراء والضراء فلم تتغير أخلاقه، وكان نموذج الكمال في سعة بيت الملك والجلال، وموضع الثقة في ضيق قبر السجن وعشرة الأسافل التي تتغير بها الأخلاق، وتنسى بها أصول الأعراق، وتنزل الكامل من عروش الفضيلة إلى أسفل مقاعد الرذيلة، ومن أوج الكمال إلى حضيض النقص!.

وهذه قصة يوسف -الذي تربى في مصر ونشأ فيها ولم تبهجه زخارف تلك المدنية إلى الرذيلة - جاءت عبرة للناس كافة وإلى المصريين خاصة! بهذه الأخلاق اعتلى يوسف عرش العظمة والجلال، فساس مصر بعد أن كان مسوسا، وملك بعد أن كان مملوكا! ليس الجزاء على الأخلاق والكمال خاصا بالآخرة، بل في الدارين: وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون

هذه هي الأخلاق الفاضلة، ذكرت في التنزيل نموذجا، في غضون هذه السيرة، للأمم الإسلامية ; ليأخذوا ثمرتها ولا يضيعوا الزمن في أصلها وموردها في التاريخ، كما يجمد المفسر على الإعراب أو الصرف أو البلاغة، وهذا غيض من فيض من حكم هذه القصة، وبها نفهم ما ذكر في أولها: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن دع قول الجاهلين، وفهم المتنسكين، وتجاوز خلط المؤرخين، واختلافهم، واصغ إلى ما في هذه القصة من هيئة تربية الحكام والأمراء، كما أشرنا سابقا، ولنزدك بيانا!:

قال علماء الأخلاق والحكماء: لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين، ورجال أعمال قائمين، وفضلاء مرشدين هادين، لهم شروط معلومة، وأخلاق معهودة; فإن كان القائم بالأعمال نبيا فله أربعون خصلة ذكروها. كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته. وإن كان رئيسا فاضلا [ ص: 3626 ] لمدينة فاضلة، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها. وسيدنا يوسف عليه السلام حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين. ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هدى لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال; إذ قد حاز الملك والنبوة! ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة; ولنذكر منها ثلاث عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن، وتنبيها للمتعلمين -العاشقين للفضائل- على نفائس الكتاب العظيم، وحبا في نظرهم في القرآن، وليعلموا أن تلك القصص وقد أودعت ما لم يكن ليخطر على بال من سمعه للتغني به ومجرد اللهو واللعب!.

أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة:

1 - العفة عن الشهوات، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين

2 - الحلم عند الغضب، ليضبط نفسه: قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم

3 - وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها: ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنـزلين فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون والصدر للين والعجز للشدة.

4 - ثقته بنفسه: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم

5 - قوة الذاكرة; ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون; ليضبط السياسات ويعرف للناس أعمالهم: وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون

[ ص: 3627 ] 6 - جودة المصورة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح: إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين

7 - استعداده للعلم، وحبه له، وتمكنه منه: واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث

8 - شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه، فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: يا صاحبي السجن الآية، وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما، فالأول بقوله: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله والثاني بقوله: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله الآية، وشهدا له بقولهما: إنا نراك من المحسنين

9 - العفو مع القدرة: قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين

10 - إكرام العشيرة: وأتوني بأهلكم أجمعين

11 - قوة البيان والفصاحة بتعبيره رؤيا الملك، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي [ ص: 3628 ] والرعية والسوقة، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على العلم والحكمة: فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين

12 - حسن التدبير: فما حصدتم فذروه في سنبله الآية.

ثم تأمل في اقتدار يوسف عليه السلام على سياسة الملك، وكيف اجتذب إليه القلوب بالإحسان: وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم الآية، ودبر الحيلة العجيبة بمسألة الصواع والاتهام بالسرقة ليضم أخاه إليه: فبدأ بأوعيتهم الآية، وعامل المحكومين بشرعهم ودينهم وملتهم وعادتهم، كما عليه جميع الأمم الشرقية الحية من الرفق بالأمة المحكومة لهم، فيسوسونهم بدينهم وعادتهم وشرعهم وأخلاقهم وأموالهم; اتباعا لما رسمته الشريعة الغراء مما يناسب حكم سيدنا يوسف عليه السلام، وذلك أنه أمر أتباعه أن يسألوهم: قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين الآية، فكانت شريعة بني يعقوب أن يستعبدوا السارق سنة عند صاحب المتاع، فعاملهم بما هم عليه، ولذلك يقول الله تعالى: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم امتدح على حسن خطته في السياسة ومراعاته عادة أولئك القوم. وهذه -وإن كانت مسألة بسيطة الظاهر- فهي أم السياسة ورأس علوم العمران، وأول ما يوصى به السواس والعقلاء!.

تالله! ما أجمل القرآن وما أبهج العلم! وليت شعري كيف يقول الله بعدها: نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ولولا ما فيها من مبدأ شريف وحكم عالية مع [ ص: 3629 ] وضوحها وبساطتها لذوي النظر السطحي والبله الغفل; ما أعطاها هذا الجلال والإعظام ومدح العلم! فحيا الله العلم وأدام دولته!.

ومن العجيب الغريب تدبير هذه الحيلة بإخفاء الصواع، ثم نظر أمتعتهم جميعا: فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه وهذه -وايم الله- هي بعينها ما يصنعه ملوك الأرض قاطبة اليوم من السياسات والتلطف في الأمور الخفية، وإلباسها ألبسة مختلفة لسياسة بلادهم، وطلبا لحصول المقاصد النافعة، ودخولا للبيوت من أبوابها، ولكن بينهم وبين هذا النبي بون بعيد...! فانظر كيف تعطي هذه القصة هذه الأمور العجيبة!.

لعمري! إن من طالع ما أمليناه بإمعان عن هذه القصة يتخيل عند تلاوتها أنه مشاهد أعمال الأمم الحاضرة والغابرة! وكأنما طالع آراء أهل المدينة الفاضلة، وعرف الحكماء وسواس الأمم، وشاهد جمال العلم والأدب والحكمة والموعظة الحسنة، حتى يعلم علم اليقين كيف قال الله في أول السورة: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ويقول في آخرها: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ويقول: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ثم ذكر أن الإنسان لا ينبغي له أن ييأس من روح الله فقال: حتى إذا استيئس الرسل الآية. ثم أفاد أن المقصود هو العبر والنظر لتأثير القصص وثمراتها، لا مجرد تفسيرها; إذ مجرد التفسير أمر بسيط يقنع به البسطاء. وإنما المقصد هو الاتعاظ والاعتبار، فقال: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى الآية. وهذه ترشدك -إن كنت من ذوي الهمة العالية- أن [ ص: 3630 ] تصبر نفسك مع الذين يتعلمون أمدا طويلا، ولا تعجل بالرئاسة حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنال حظا وافرا من الأخلاق والعلوم. فلا بأس بالوظائف ونفع الأمة مع دوام المثابرة على العلم والاستزادة منه! فلقد صبر هذا النبي عليه السلام أياما وأياما، ولبس للحوادث أثوابا وأثوابا، حتى إذا غلب اليأس جاء الفرج والرفعة!.

فتأمل! كيف كانت هذه السورة يقرؤها القارئون، ويسمعها الجاهلون وهم عن آياتها معرضون! فإذا سمعوا صوتا حسنا ظنوا أن هذا هو جمال القرآن، فقالوا للقارئ: سبحان من أعطاك! وفرحوا بما عندهم من العلم بظواهر ورونق القراءة، أو مجرد التفسير ومعرفة القصة، ولم ينظروا إلى الحكم المودعة فيها! فقبح الجهل! يترك الرجل أعمى وإن لبس الحلل وارتدى ثياب الفخار الكاذب والسراب الخداع.. كم للإنسان من آيات وعبر في السماوات والأرض فيعرض عنها! خلقت لنا الأبصار والأسماع والعقول لننظر ماذا في السماوات والأرض مما ذرأ المبدع في الكون، وتلا القرآن -وهو كلام مبدع الكون- وتلطف في تصوير المعاني، وألبسها أجمل لباس، فأعرض العقلاء فضلا عن العامة! فما للعامة لا يتعلمون؟ وما لذوي البصائر لا ينصحون ولا يبينون؟ وما للناس لا يكادون يفقهون؟.

ذكرنا نموذجا عن هذه السورة استنشاطا لهمم العقلاء، وحثا لمن لهم ذكاء وفطن وعقول راجحة -على الرجوع إلى كتابهم ونظرهم فيه، وإزالة لشبه من ارتاب في هذه القصص فأعرض! وجلي أن قصص القرآن جميعها مملوءة بالحكم كهذه القصة، وفي كل واحدة منها ما ليس في الأخرى كأنها ثمرات مختلف لونها! أين من يفقه هذا ممن يقف مع ألفاظها وهم عن آياتها معرضون؟ ولا عجب فإن نفوس الأسافل تأخذ الحكمة فترجعها من أفق سمائها إلى أرض ضعتها، كما يصير الماء في شجرة الحنظل مرا. فيقصدها هذا للنغمات، وذلك لقصة بسيطة، وآخر تسلية وتضييعا للزمن، وآخر يقف عند الألفاظ وإعرابها وصرفها وبلاغتها.

[ ص: 3631 ] ولكن هذا أرقى مما قبله -فقد سار في الطريق وهي الألفاظ، ولكن هيهات أن يصل للمقصود والثمرات إلا إذا أعد تلك القواعد مقدمة للمقصود وبحث فيه! وآخرون يسمعون الآيات فيعرضونها على التاريخ، والمؤرخون مختلفون كما قدمنا. وما مثل هؤلاء في سيرهم إلا كمثل رجل أوتي آلة بخارية ليسقي بها الحرث من النهر، فجلس بجانبها وترك استعمالها وأخذ يتفكر: من أين هذا الحديد؟ ولم يجلب الماء؟ وإلى أي مسافة يرتفع، وما العلة فيه، ومن أين يأتي الفحم الحجري، وفي أي الطرق يسير إلى أن يصل إلينا؟ فيمر عليه شهر وشهران فيذبل زرعه وتبور أرضه.! ذلك مثل من يقرأ القرآن ويجعل جل عنايته تطبيقه على كلام المؤرخين أو قواعد النحويين أو الصرفيين وعلماء البلاغة فحسب! اللهم إلا قدرا يسيرا للفهم! وهذا -لعمر الله- انتكاس على الرأس، واتخاذ الوسيلة مقصدا، كمثل من أراد الحج فجعل همته إعداد الذخائر سنين، فاختطفته المنون وفارق الحياة ولم يحج! ذلك مثلهم.!! انتهى.

المبحث الثاني:

احتج من جوز المعصية على الأنبياء -وهم الكرامية والباقلاني- بما جرى من إخوة يوسف وبيعهم أخاهم وكذبهم لأبيهم، وبما وقع من يوسف نفسه من أخذه أخاه وإيحاشه أباه.

قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله في (الملل والنحل):

ما احتجوا به لا حجة فيه; لأن إخوة يوسف، عليه السلام، لم يكونوا أنبياء، ولا جاء قط -في أنهم أنبياء- نص لا من قرآن، ولا من سنة صحيحة، ولا من إجماع، ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم! فأما يوسف عليه السلام فرسول الله بنص القرآن، قال عز وجل: ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به [ ص: 3632 ] إلى قوله: من بعده رسولا وأما إخوته فأفعالهم تشهد بأنهم لم يكونوا متورعين عن العظائم، فكيف أن يكونوا أنبياء؟! ولكن الرسولين -أباهم وأخاهم- قد استغفرا لهم وأسقطا التثريب عنهم!

وبرهان ما ذكرنا -من كذب من يزعم أنهم كانوا أنبياء- قول الله تعالى حاكيا عن الرسول أخيهم أنه قال لهم: أنتم شر مكانا ولا يجوز البتة أن يقوله لنبي من الأنبياء، نعم، ولا لقوم صالحين!; إذ توقير الأنبياء فرض على جميع الناس ; لأن الصالحين ليسوا شرا مكانا، وقد عق ابن نوح أباه بأكثر مما عق به إخوة يوسف أباهم، إلا أن إخوة يوسف لم يكفروا. ولا يحل لمسلم أن يدخل في الأنبياء من لم يأت نص ولا إجماع أو نقل كافة بصحة نبوته! ولا فرق بين التصديق بنبوة من ليس نبيا، وبين التكذيب بنبوة من صحت نبوته منهم! فإن ذكروا في ذلك ما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو زيد بن أرقم: (إنما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاد الأنبياء أنبياء!) فهذه غفلة شديدة وزلة عالم، من وجوه:

أولها: أنه دعوى لا دليل على صحتها!.

وثانيها: أنه لو كان ما ذكر لأمكن أن ينبأ إبراهيم في المهد كما نبئ عيسى عليه السلام، وكما أوتي يحيى الحكم صبيا; فعلى هذا القول لعل إبراهيم كان نبيا، وقد عاش عامين غير شهرين، وحاشا لله من هذا..!.

وثالثها: أن ولد نوح كان كافرا بنص القرآن: عمل عملا غير صالح. فلو كان أولاد الأنبياء أنبياء لكان هذا الكافر المسخوط عليه نبيا. وحاشا لله من هذا..!.

ورابعها: لو كان ذلك، لوجب ولا بد أن تكون اليهود كلهم أنبياء إلى اليوم، بل جميع أهل الأرض أنبياء; لأنه يلزم أن يكون الكل من ولد آدم لصلبه أنبياء; لأن [ ص: 3633 ] أباهم نبي، وأولاد أولادهم أنبياء; لأن آباءهم أنبياء وهم أولاد أنبياء، وهكذا... أبدا حتى يبلغ الأمر إلينا! وفي هذا من الكفر لمن قامت عليه الحجة وثبت عليه- ما لا خفاء به. وبالله تعالى التوفيق..!

ثم قال ابن حزم:

وذكروا -يعني الكرامية ومن وافقهم- أيضا أخذ يوسف عليه السلام أخاه، وإيحاشه أباه عليه السلام منه، وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرف أباه خبره وهو يعلم ما يقاسي به من الوجد عليه، فلم يفعل، وليس بينه وبينه إلا عشر ليال! وبإدخاله صواع الملك في وعاء أخيه، ولم يعلم بذلك سائر إخوته، ثم أمر من هتف: أيتها العير إنكم لسارقون وهم لم يسرقوا شيئا، ويقول الله تعالى: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وبخدمته لفرعون، وبقوله للذي كان معه في السجن: اذكرني عند ربك

قال ابن حزم: وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه، ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته، فنقول وبالله تعالى نتأيد: أما أخذه أخاه وإيحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه وليعود إخوته إليه، ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه وهم في مملكة أخرى، وحيث لا طاعة ليوسف عليه السلام ولا لملك مصر هنالك، وليكون ذلك سببا لاجتماعه وجمع شمل جميعهم! ولا سبب إلى أن يظن برسول الله يوسف عليه السلام الذي أوتي العلم والمعرفة بالتأويل -إلا أحسن الوجوه. وليس مع من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا. ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه، فكيف برسول الله صلوات الله عليه؟! وأما ظنهم -أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره ولم يفعل- فهذا جهل شديد ممن ظن هذا; لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين، في قوم رحالين خصاصين في لسان [ ص: 3634 ] آخر وطاعة أخرى ودين آخر وأمة أخرى! فلم يكن عند يوسف عليه السلام، علم بعد فراقه أباه بما فعل، ولا حي هو أو ميت; أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به، ولا وجد أحدا يثق به، فيرسل إليه; للاختلاف الذي ذكرنا. وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرضالشام ومصر لأمير واحد وملة واحدة، ولسانا واحدا وأمة واحدة، والطريق سابل، والتجار ذاهبون وراجعون، والرفاق سائرة ومقبلة، والبرد ناهضة وراجعة، فظن كل بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ كذلك، ولكن كما قدمنا، ودليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره، واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه، وانقيادهم له للجوع الذي كان عم الأرض، وامتيازهم عنده، فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب، فأتوه ضارعين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه. وأما قول يوسف لإخوته: إنكم لسارقون وهم لم يسرقوا الصواع، بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم; فقد صدق عليه السلام لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه، ولم يقل عليه السلام: إنكم سرقتم الصواع، وإنما قال: نفقد صواع الملك وهو في ذلك صادق لأنه كان غير واجد له، فكان فاقدا له بلا شك! وأما خدمته عليه السلام لفرعون فإنما خدمه تقية، وفي حق لاستنقاذ الله تعالى بحسن تدبيره، ولعل الملك أو بعض خواصه، قد آمن به إلا أن خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير، وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل وإلى حياة النفوس; إذ لم يقدر على المغالبة ولا أمكنه غير ذلك، ولا مرية في أن ذلك كان مباحا في شريعة يوسف عليه السلام بخلاف شريعتنا، قال الله تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وأما سجود أبويه فلم يكن ذلك محظورا في شريعتهما بل كان فعلا حسنا، وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى. ولعل ذلك السجود [ ص: 3635 ] كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام. إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل، وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك. وأما قوله عليه السلام للذي كان معه في السجن: اذكرني عند ربك فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد، وليس في قوله ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عز وجل، لكنه رغب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضه عليه! وهذا فرض من وجهين: أحدهما: وجوب السعي في كف الظلم عنه. والثاني: دعاؤه إلى الخير والحسنات. وأما قوله تعالى: فأنساه الشيطان ذكر ربه فالضمير الذي في (أنساه) وهو الهاء راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن، أي: أن الشيطان أنساه أن يذكر ربه أمر يوسف عليه السلام. ويحتمل أيضا أن يكون أنساه الشيطان ذكر الله تعالى، ولو ذكر الله عز وجل لذكر حاجة يوسف عليه السلام، وبرهان ذلك قول الله عز وجل: وادكر بعد أمة فصح يقينا أن المذكر بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر. وحتى لو صح أن الضمير من (أنساه) راجع إلى يوسف عليه السلام; لما كان في ذلك نقص ولا ذنب; إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء! وأما قوله: همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه فليس كما ظن من لم يمعن النظر حتى قال من المتأخرين من قال: (إنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة) ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم! فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم!! فإن قيل: إن هذا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد، قلنا: نعم! ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط! والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمن دون ابن عباس، أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك، إذ إنما أخذه عمن لا يدرى من هو، ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره; لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله، ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به! لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين: إما أنه هم بالإيقاع بها وضربها،




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #415  
قديم 29-04-2023, 06:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الرَّعْدِ
المجلد التاسع
صـ 3636 الى صـ 3650
الحلقة (415)






[ ص: 3636 ] كما قال تعالى: وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وكما يقول القائل: لقد هممت بك، لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها، وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته، على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قد القميص. والوجه الثاني: أن الكلام تم عند قوله: ولقد همت به ثم ابتدأ تعالى خبرا آخر فقال: وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل، وبهذا نقول. وبرهان ربه هاهنا: هو النبوة وعصمة الله عز وجل إياه، ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة، وهذا لا شك فيه! ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف، ينزه نفسه الرذلة عن مثل هذا المقام فيهلك. وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم الهلاك على من ظن به ذلك الظن; إذ قال للأنصاريين حين لقيهما: « هذه صفية » ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام هم بالزنى وهو يسمع قول الله تعالى: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء فنسأل من خالفنا عن الهم بالزنى: سوء هو أم غير سوء؟ فلا بد أنه سوء، ولو قال: إنه ليس بسوء لعاند الإجماع، فإذ هو سوء، وقد صرف عنه السوء، فقد صرف عنه الهم بيقين! وأيضا فإنها قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا وأنكر هو ذلك فشهد الصادق المصدق: " إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين " ، فصح أنها كذبت بنص القرآن، وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوءا، فما هم بالزنى قط. ولو أراد بها الزنى لكانت من الصادقين، وهذا بين جدا، وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال: وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن فصح عنه أنه قط لم يصب إليها.

انتهى كلام ابن حزم عليه الرحمة والرضوان. وإنما نقلت كلامه برمته; لأنه كما قيل:

*
وما محاسن شيء كله حسن...!!
*
[ ص: 3637 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

13- سُورَةُ الرَّعْدِ

سُمِّيَتْ بِهِ لِمَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ الدَّالِّ عَلَى الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَالثُّبُوتِيَّةِ، مَعَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمَلَكُوتِيَّةِ، وَمَعَ كَوْنِ الرَّعْدِ جَامِعًا لِلتَّخْوِيفِ وَالتَّرْجِيَةِ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ- قَالَهُ الْمَهَايِمِيُّ.

وَلِلسَّلَفِ رَأْيَانِ فِي أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ، وَيُقَالُ: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا مَدَنِيٌّ وَبَاقِيهَا مَكِّيٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَآيُهَا ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ.

[ ص: 3638 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

[ 1 ] المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ

قَالَ أَبُو السُّعُودِ: المر اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وَمَحَلُّهُ: إِمَّا الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ السُّورَةُ مُسَمَّاةٌ بِهَذَا الِاسْمِ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنَ الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ; إِذْ لَمْ يَسْبِقِ الْعِلْمُ بِالتَّسْمِيَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى تِلْكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: مُبْتَدَأٌ مُسْتَقِلٌّ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ أُشِيرَ بِهِ إِلَيْهِ إِيذَانًا بِفَخَامَتِهِ، وَإِمَّا النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ نَحْوَ: اقْرَأْ أَوِ اذْكُرْ، فَـ " تِلْكَ" مُبْتَدَأٌ كَمَا إِذَا جَعَلَ المر مَسْرُودًا عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، وَالْخَبَرُ عَلَى التَّقَادِيرِ، قَوْلُهُ تَعَالَى آيَاتُ الْكِتَابِ أَيِ الْكِتَابِ الْعَجِيبِ الْكَامِلِ الْغَنِيِّ عَنِ الْوَصْفِ بِهِ، الْمَعْرُوفِ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ، الْحَقِيقِ بِاخْتِصَاصِ اسْمِ الْكِتَابِ بِهِ، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْقُرْآنِ، أَوْ عَنِ الْجَمِيعِ الْمُنَزَّلِ حِينَئِذٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أَيْ: مِنَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ بِكَمَالِهِ الْحَقُّ أَيِ: الثَّابِتُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ فِي كُلِّ مَا نَطَقَ بِهِ، الْحَقِيقُ بِأَنْ يَخُصَّ بِهِ الْحَقِّيَّةَ لِعَرَاقَتِهِ فِيهَا، وَقُصُورِ غَيْرِهِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ فِيهَا. وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ، وَإِسْنَادِ الْإِنْزَالِ إِلَيْهِ بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَالتَّعَرُّضِ لِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى فَخَامَةِ الْمُنْزَلِ التَّابِعَةِ لِشَأْنِ جَلَالَةِ الْمَنْزِلِ وَتَشْرِيفِ الْمُنْزَلِ إِلَيْهِ، وَالْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ الْخَبَرِ- مَا لَا يَخْفَى....! انْتَهَى مُلَخَّصًا بِزِيَادَةٍ.

[ ص: 3639 ] لَطِيفَةٌ:

فِي " الَّذِي أُنْزِلَ" وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَ " الْحَقُّ" خَبَرُهُ، أَوِ الْخَبَرُ " مِنْ رَبِّكَ" وَ " الْحَقُّ" خَبَرٌ مَحْذُوفٌ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وَثَانِيهِمَا: مَحَلُّهُ الْجَرُّ بِالْعَطْفِ عَلَى (الْكِتَابِ) عَطْفُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ أَوْ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، أَوْ بِتَقْدِيرِ زِيَادَةِ الْوَاوِ فِي الصِّفَةِ، وَ (الْحَقُّ) خَبَرُ مَحْذُوفٍ، وَمَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ زِيَادَةَ الْوَاوِ فِي الصِّفَاتِ. وَآخَرُونَ عَلَى جَوَازِهَا لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ، أَيِ الْجَمْعُ وَالِاتِّصَالُ; لِأَنَّهَا كَمَا تَجْمَعُ الْمَعْطُوفَ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ تَجْمَعُ الْمَوْصُوفَ بِالصِّفَةِ، وَتُفِيدُ أَنَّ اتِّصَافَهُ بِهِ أَمْرٌ ثَابِتٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أَيْ: بِذَلِكَ الْحَقِّ لِرَفْضِهِمُ التَّدَبُّرَ فِيهِ شِقَاقًا وَعِنَادًا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 2 ] الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون

يخبر تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بقدرته رفع السماوات، أي خلقهن مرتفعات عن الأرض ارتفاعا لا ينال ولا يدرك مداه. وقوله تعالى: بغير عمد ترونها أي أساطين، جمع عماد أو عمود. وقوله تعالى ترونها إما استئناف للاستشهاد برؤيتهم السماوات كذلك، كقول الشاعر:


أنا بلا سيف ولا رمح تراني


أو صفة لـ (عمد) جيء بها إبهاما; لأن لها عمدا غير مرئية، وإليه ذهب كثير من السلف، ورجح ابن كثير [ ص: 3640 ] الأول، وأنها لا عمد لها، قال: وهذا هو اللائق بالسياق والظاهر من قوله تعالى: ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه والأكمل أيضا في القدرة. وقوله تعالى: ثم استوى على العرش تقدم تفسيره في سورة الأعراف، وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. وقوله تعالى: وسخر الشمس والقمر أي ذللهما لما أراد منهما من نفع العالم السفلي. وقوله تعالى: كل يجري لأجل مسمى أي لغاية معينة ينقطع دونها سيره، وهو قيام الساعة، كقوله تعالى: والشمس تجري لمستقر لها وقد بين ذلك في قوله تعالى: إذا الشمس كورت وإذا الكواكب انتثرت والاقتصار على الشمس والقمر; لأنهما أظهر الكواكب وأعظم من غيرهما، فتسخير غيرهما يكون بطريق الأولى. وقد جاء التصريح بتسخيرهما مع غيرهما في قوله تعالى: والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر وقوله تعالى: يدبر الأمر أي: أمر العالم العلوي والسفلي ويصرفه ويقضيه بمشيئته وحكمته على أكمل الأحوال، لا يشغله شأن عن شأن. وقوله تعالى: يفصل الآيات يعني: الآيات الدالة على وحدته وقدرته ونعوته الجليلة. أي: يبينها في كتبه المنزلة. وقوله تعالى: لعلكم بلقاء ربكم توقنون أي: لعلكم توقنون وتصدقون بأن هذا المدبر والمفصل، لا بد لكم من المصير إليه، بالبعث بعد الموت للجزاء; فإن من تدبر حق التدبر; أيقن أن من قدر على إبداع ما ذكر من الآيات العلوية; قدر على الإعادة والجزاء!.

[ ص: 3641 ] لطائف

الأولى: جوز في قوله تعالى: الله الذي رفع السماوات أن يكون الموصول خبرا، وأن يكون صفة، والخبر يدبر الأمر ورجح في (الكشف) الأول، بأن قوله الآتي وهو الذي مد الأرض عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات، وفي المقابل الخبرية متعينة، فكذا هذا ليتوافقا. والجملة مقررة لقوله: والذي أنـزل إليك من ربك الحق وعدل عن ضمير الرب إلى الجلالة لترشيح التقرير. كأنه قيل: كيف لا يكون المنزل ممن هذه أفعاله هو الحق؟ وتعريف الطرفين لإفادة أنه لا مشارك له فيها; لا سيما وقد جعل صلة للموصول، وهذا أشد مناسبة للمقام من جعله وصفا مفيدا لتحقيق كونه مدبرا مفصلا، مع التعظيم لشأنهما. والمقصود بالإفادة قوله: لعلكم بلقاء ربكم توقنون فالمعنى: أنه فعلها كلها لذلك.

الثانية: قال القاضي: قوله تعالى: رفع السماوات إلخ دليل على وجود الصانع الحكيم، فإن ارتفاعها على سائر الأجسام المساوية لها في حقيقة الجرمية، واختصاصها بما يقتضي ذلك ; لا بد وأن يكون بمخصص ليس بجسم ولا جسماني، يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته، وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات.

الثالثة: " يدبر" و " يفصل" يقرآن بالياء والنون. وهما مستأنفان. أو الأول حال من ضمير (سخر) والثاني من ضمير (يدبر) أو كلاهما من ضمائر الأفعال المذكورة.

ولما قرر الشواهد العلوية أردفها بذكر الدلائل السفلية على قدرته وحكمته. فقال تعالى:
[ ص: 3642 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 3 ] وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون

وهو الذي مد الأرض أي بسطها وجعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض لإخراج النعم الكثيرة منها.

قال الشهاب: استدل به بعضهم على تسطيح الأرض، وأنها غير كرية بالفعل. وأن من أثبته أراد به أنه مقتضى طبعها! ورد بأنه ثبت كريتها بأدلة عقلية، لكنه لعظم جرمها يشهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح! وهكذا كل دائرة عظيمة. ولا يعلم كريتها إلا هو تعالى.

وجعل فيها رواسي أي: جبالا ثوابت أوتادا لها يكثر فيها النبات وتنحفظ تحتها المياه وأنهارا متفجرة منها، وذلك لتكثير النبات والأشجار وحفظ الحيوان ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين أي: صنفين اثنين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، والصغير والكبير، والبستاني والجبلي.

قال المهايمي: ليفيد كل صنف فائدة غير فائدة الآخر، فكان كل صنف نعمة بعد الإنعام بأصول الأصناف، وجعل لإتمام الإنعام بالأصناف المختلفة الطبائع; لئلا تجتمع فتضار متناولها فصولا مختلفة إذ:

يغشي الليل النهار أي: يلبسه مكانه فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا فبطول الليل يحصل الشتاء، وبطول النهار يحصل الصيف، وبأحد الاعتدالين يحصل الخريف، وبالآخر الربيع إن في ذلك أي: في مد الأرض وما بعده لآيات لقوم يتفكرون [ ص: 3643 ] أي: لآيات باهرة لقوم يتفكرون فيستدلون بأن تكوين ما ذكر على هذا النمط البديع لا بد له من قادر حكيم! أو يتفكرون فيعلمون أن تكثير النعم لجلب محبة المنعم بصرفها إلى ما خلقت من أجله. والمحبة موجبة للرجوع إليه. وفيه إشارة إلى أن من دبر ذلك لمعايشهم، أفلا ينعم عليهم بإرسال رسل وإنزال كتب ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم؟ بلى، وهو أحكم الحاكمين.

لطائف:

الأولى: قال الرازي: من الاستدلال بأحوال الجبال، أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض. وذلك أن الحجر جسم صلب. فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك فلا تزال تتكامل فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة. ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض. فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه، ولهذا السبب. ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال; قرن بها ذكر الأنهار، مثل ما في هذه الآية، ومثل قوله: وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا

الثانية: أشار الرازي إلى أن الناس، كما ابتدأوا من زوجين اثنين بالشخص، هما آدم وحواء، فكذا الأشجار والزروع خلقت أولا من زوجين اثنين ثم كثرت، والله أعلم.

الثالثة: في قوله يغشي الليل النهار استعارة تبعية تمثيلية مبنية على تشبيه إزالة نور الجو بالظلمة، بتغطية الأشياء الظاهرة بالأغطية، أي يستر النهار بالليل. والتركيب وإن احتمل العكس أيضا -بالحمل على تقديم المفعول الثاني على الأول- فإن ضوء النهار أيضا ساتر لظلمة الليل، إلا أن الأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي. وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية، وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرا -باعتبار أن ظهوره في الأرض- [ ص: 3644 ] فإن الليل إنما هو ظلها، وفيما فوق موقع ظلها لا ليل أصلا. ولأن الليل والنهار لهما تعلق بالثمرات من حيث العقد والإنضاج، على أنهما أيضا زوجان متقابلان مثلها.

وقرئ ((يغشي)) من التغشية -أفاده أبو السعود-.
ثم بين تعالى طائفة من الآيات بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 4 ] وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون

وفي الأرض قطع متجاورات أي: بقاع متقاربات مختلفة الطبائع. فمن طيبة إلى سبخة، ومن صلبة إلى رخوة، مما يدل على قادر مدبر مريد حكيم في صنعه: وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان جمع صنو، وهي نخلة أصلها واحد وفروعها شتى، وفي (القاموس) النخلتان، فما زاد في الأصل الواحد، كل واحدة منهما صنو، ويضم. أو عام في جميع الشجر، وإفراد الزرع لأنه مصدر في الأصل يشمل القليل والكثير يسقى قرئ بالتحتية والفوقية بماء واحد أي: بماء المطر أو بماء النهر ونفضل بعضها على بعض في الأكل فتتفاضل قدرا وشكلا ورائحة وطعما. والأكل، قرئ بضم الهمزة والكاف وتسكينها وهو ما يؤكل، وهو هنا الثمر والحب. والمجرور إما ظرف لـ (نفضل) أو حال من بعضها، أي: نفضل بعضها مأكولا. أو: وفيه الأكل إن في ذلك أي: الذي فصل لآيات على وحدانيته تعالى وباهر قدرته لقوم يعقلون فإن من عقل ما تقدم جزم بأن من قدر على إبداعها وخلقها مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك البقاع المتباينة المتجاورة، وجعلها حدائق ذات بهجة; قادر على إعادة ما أبداه، بل هو أهون في القياس.
[ ص: 3645 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 5 ] وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: إن تعجب من شيء فقولهم عجيب حقيق بأن يقتصر عليه التعجب; لأن من شاهد ما عدد من الآيات العجيبة التي تدل على قدرة يصغر عندها كل عظيم- أيقن بأن من قدر على إنشائها ولم يعي بخلقها، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب. وجوز أن يكون خطابا لكل من يصلح له، أي: إن تعجب، يا من نظر في هذه الآيات، وعلم قدرة من هذه أفعاله، فازدد تعجبا ممن ينكر، مع هذا، قدرته على البعث، وهو أهون من هذه!.

قال أبو السعود: والأنسب بقوله: ويستعجلونك بالسيئة هو الأول و (عجب) خبر قدم على المبتدأ للقصر، والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم: ذاك أمرا عجيبا.

وقوله تعالى: أولئك أي المنكرون لقدرته على البعث الذين كفروا بربهم أي: تمادوا في الكفر; فإن من أنكر قدرته تعالى فقد أنكره; لأن الإله لا يكون عاجزا، وفيه تكذيب لخبره ولرسله عليهم السلام: وأولئك الأغلال في أعناقهم أي: السلاسل في أيمانهم مشدودة إلى أعناقهم يوم القيامة; لأنهم غلوا أفكارهم عن النظر في هذه الأمور، كما جعلوا خالقهم مغلول القدرة على ذلك وهو القادر الحكيم. وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
[ ص: 3646 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 6 ] ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب

ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة أي: يستعجلونك بالعقوبة قبل العافية والسلامة منها، وذلك أنهم سألوا رسول الله صلوات الله عليه، أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره.

قال الشهاب: والمراد بكونها قبل الحسنة، أن سؤالها قبل سؤالها، أو أن سؤالها قبل انقضاء الزمان المقدر لها!.

وقد خلت من قبلهم المثلات أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين. فما لهم لا يعتبرون بها ولا يخشون حلول مثلها؟ أو العقوبات التي يضرب بها المثل في الشدة. والجملة حالية أو مستأنفة. و (المثلات) قراءة العامة فيها فتح الميم وضم الثاء جمع مثلة -كسمرة وسمرات- وهي العقوبة الفاضحة. سميت بها لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، كقوله: وجزاء سيئة سيئة مثلها أو هي مأخوذة من المثال بمعنى القصاص، يقال: أمثلته وأقصصته بمعنى واحد، أو هي من المثل المضروب لعظمها. وقرئ بفتح الميم وسكون المثلثة، وهي لغة أهل الحجاز، وقرئ بضم الميم وسكون المثلثة، وقرئ بفتحهما وبضمهما.

وقوله تعالى: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم من الناس من حمل المغفرة على المتعارف منها، وهو مغفرة الذنوب مطلقا إلى حيث دل الدليل على التقييد في غير الموحد، فإن ظلمه -أعني شركه- لا يغفر.. وما عدا الشرك فغفرانه في المشيئة. ومنهم من ذهب إلى أن المغفرة مراد بها معناها اللغوي. وهو الستر والصفح، بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة، أي: إنه ذو صفح عظيم لا يعاجل بالعقوبة. مع أنهم يظلمون ويخطئون [ ص: 3647 ] بالليل والنهار. كما قال سبحانه: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة وهذا التأويل أنسب بالسياق الرهيب!.

وعجب من الشهاب حيث وافق الرازي في دعواه (إن تأخير العقاب لا يسمى مغفرة; لأنه مخالف للظاهر، ولاستعمال القرآن، وللزومه كون الكفار كلهم مغفورا لهم لأجل تأخير عقابهم إلى الآخرة) ولا يخفاك صحة تسميته مغفرة; لأنها في اللغة الستر، ومن أفراده الستر بالإمهال؟ ودعوى أنه مخالف للظاهر ولاستعمال القرآن، تحكم بحت على أسلوب القرآن، بإرجاعه إلى ما أصلوه. مع أن التحاكم إليه في الفروع والأصول، وهو الحجة في اللغة والاستعمال! ودعوى فساد اللزوم وتهويل خطبه فارغة; لأنه لا محذور في ذلك، لا سيما وهو المناسب لاستعجالهم العذاب المذكور قبل، فالتلازم صحيح! ثم من المقرر أن القرآن يفسر بعضه بعضا، فهذه الآية في معناها كآية ولو يؤاخذ الله الناس إلخ. فما ذكر من التأويل مؤيد بهذه الآية، فتفطن ولا تكن أسير التقليد..!

ولما بين تعالى سعة حلمه، قرنه ببيان قوة عقابه; ليعتدل الرجاء والخوف، فقال سبحانه: وإن ربك لشديد العقاب أي: لمن شاء، كما قال تعالى: فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين وقال تعالى: إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقال سبحانه: نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم
[ ص: 3648 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 7 ] ويقول الذين كفروا لولا أنـزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد

ويقول الذين كفروا وهم المستعجلون بالسيئة المتقدمون.

قال أبو السعود: وإنما عدل عن الإضمار إلى الموصول; ذما لهم ونعيا عليهم كفرهم بآيات الله تعالى التي تخر لها صم الجبال، حيث لم يرفعوا لهم رأسا، ولم يعدوها من جنس الآيات، وقالوا عنادا: لولا أنـزل عليه آية من ربه أي: مثل آيات موسى وعيسى عليهما السلام، أو مثل ما يقترحون من جعل الصفا ذهبا، أو إزاحة الجبال وجعل مكانها مروجا وأنهارا إنما أنت منذر أي: مرسل للإنذار والتخويف من سوء عاقبة ما يأتون ويذرون، وناصح كغيرك من الرسل، فما عليك إلا البلاغ، لا إجابة المقترحات ولكل قوم هاد أي: نبي داع إلى الحق مرشد بالآية التي تناسب زمنه، كقوله تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير تعريض بأنه عليه الصلاة والسلام ليس بدعا من الرسل. فقد خلا قبله الهداة الداعون إلى الله، عليهم السلام. أو المعنى: لكل قوم هاد عظيم الشأن، قادر على هدايتهم، هو الله سبحانه، فما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم. وإيتاؤهم الإيمان وصدهم عن الجحود; فإن ذلك لله وحده كقوله تعالى: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء أو المعنى: " لكل قوم هاد " قائد يهديهم إلى الرشد. وهو الكتاب المنزل عليهم الداعي بعنوان الهداية إلى ما فيه صلاحهم. يعني: أن سر الإرسال وآيته الفريدة إنما هو الدعاء إلى الهدى وتبصير سبله، والإنذار من الاسترسال في مساقط الردى. وقد أنزل عليك من الهدى أحسنه. فكفى بهدايته آية كبرى وخارقة عظمى. وأما الآيات المقترحة فأمرها إلى الله، وقد [ ص: 3649 ] لا يفيد إنزالها هداية! قال تعالى: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون مع ما يستتبع الإصرار بعدها من الأخذ بلا إمهال!: سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا

قال الشهاب: وجوز عطف (هاد) على (منذر) وجعل المتعلق مقدما عليه، للفاصلة فيدل على عموم رسالته وشمول دعوته. وقد يجعل خبر مبتدأ مقدر، أي: وهو هاد، أو وأنت هاد، وعلى الأول فيه التفات.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 8 ] الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار [ 9 ] عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال

الله يعلم ما تحمل كل أنثى جملة مستأنفة، جواب سؤال وهو: لماذا لم يجابوا لمقترحهم فتنقطع حجتهم فلعلهم يهتدون بأنه آمر مدبر عليم نافذ القدرة فعال لما تقتضيه حكمته البالغة دون آرائهم السخيفة؟ وهذا على أن (الهادي) بمعنى (الداعي إلى الحق).

وإن كان المراد به الله سبحانه; فالجملة تفسير لقوله (هاد) أو مقررة مؤكدة لذلك- كذا في (العناية).

وأشار الرازي إلى أن الآية: إما متصلة بما قبلها مشيرة إلى أنه تعالى واسع العلم لا يخفى عليه أن اقتراحهم عناد وتعنت، وأنهم لا يزدادون بإظهار مقترحهم إلا عنادا، فلذا لم يجابوا [ ص: 3650 ] إليه. وإما متصلة بقوله ويستعجلونك يعني: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات. فهو تعالى إنما ينزل العذاب بحسب ما يعلم أن فيه مصلحة.

ثم إن لفظ (ما) في قوله تعالى ما تحمل مصدرية أو موصولة، أي: حملها، أو ما تحمله من الولد، على أي حالة هو من ذكورة وأنوثة، وتمام وخداج، وحسن وقبح، وطول وقصر.... وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة.

وما تغيض الأرحام أي: تنقص من الحمل وما تزداد أي: تأخذه زائدا.

قال الزمخشري: ومما تنقصه الرحم وتزداده، عدد الولد; فإنها تشمل على واحد، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة. ويروى أن شريكا كان رابع أربعة في بطن أمه، ومنه جسد الولد فإنه يكون تاما ومخدجا. ومنه مدة ولادته، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر، وأزيد عليها، ومنه الدم فإنه يقل ويكثر.

وكل شيء عنده بمقدار أي: بقدر وحد لا يجاوزه حسب قابليته، كقوله تعالى: إنا كل شيء خلقناه بقدر وقوله: وخلق كل شيء فقدره تقديرا وذلك أنه تعالى خص كل مكون بوقت وحال معينين، وهيأ لوجوده وبقائه أسبابا مسوقة إليه تقتضي ذلك: عالم الغيب أي ما غاب عن الحس والشهادة أي ما شهده الحس الكبير أي العظيم الشأن الذي كل شيء دونه المتعال أي المستعلي على كل شيء بقدرته. أو المنزه عن صفات المخلوقين، المتعالي عنها.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #416  
قديم 29-04-2023, 06:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الرَّعْدِ
المجلد التاسع
صـ 3651 الى صـ 3665
الحلقة (416)





وأكثر القراء على حذف ياء المتعال تخفيفا، وصلا ووقفا، وقرئ بإثباتها فيهما على الأصل.
[ ص: 3651 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 10 ] سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار

سواء منكم من أسر القول أي في نفسه ومن جهر به أي لغيره ومن هو مستخف بالليل أي: طالب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته وسارب بالنهار أي: ذاهب في سربه، أي في طريقه يبصره كل أحد.

لطيفة:

قيل: إن (سواء) بمعنى الاستواء، وهو يقتضي ذكر شيئين، وهنا إذا كان (سارب) معطوفا على جزء الصلة أو الصفة; يكون شيئا واحدا.

وأجيب عنه بوجهين: (الأول) أن (سارب) معطوف على (من هو) لا على (مستخف) كأنه قيل: سواء منكم إنسان هو مستخف وآخر هو سارب. و(الثاني) أنه عطف على (مستخف)، إلا أن (من) في معنى الاثنين، كقوله:


نكن مثل من يا ذئب يصطحبان


كأنه قيل: سواء منكم اثنان هما مستخف وسارب. وعلى الوجهين (من) موصوفة لا موصولة. فيحمل الأولان على ذلك ليتوافق الكل.

وهناك وجه آخر وهو أن يكون الموصول محذوفا وصلته باقية، والمعنى: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار. وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع، خصوصا وقد [ ص: 3652 ] تكرر الموصول في الآية ثلاثا. ومنه قوله تعالى: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم والأصل: ولا ما يفعل بكم. وإلا كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه; لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف، لم يكن للنفي موقع، وإنما صحب في الأول الموصول لا الصلة، ومنه قول حسان رضي الله عنه:


فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء!


أي: ومن يمدحه وينصره.

وهذا الأخير نقله الناصر في (الانتصاف) وهو وجيه جدا. وأما تضعيف غيره له بلزوم حذف الموصول وصدر الصلة معا، وأن النجاة، وإن ذكروا جواز كل منهما، لكن اجتماعهما منكر; فهو المنكر; لأن أسلوب التنزيل هو الحجة، وإليه التحاكم في كل فن ومحجة. والجمود على القواعد ورد ما خالفها، إليها -من التعصب واللجاج، والغفلة عن مقام التنزيل في الاحتجاج!.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 11 ] له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال

له معقبات أي: لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب، ملائكة يتعاقبون عليه [ ص: 3653 ] من بين يديه ومن خلفه أي: من جوانبه كلها، أو من أعماله، ما قدم وأخر يحفظونه من أمر الله أي يراقبون ما يلفظ من قول وما يأتي من عمل، خيرا أو شرا، بأمره وإذنه، أو من أجل أمره لهم بحفظه. فـ (من) تعليلية أو بمعنى باء السببية، ولا فرق بين العلة والسبب عند النحاة، وإن فرق بينهما أهل المعقول.

وفي (الصحيح): « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار. ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر. فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون » .

وفي الحديث الآخر: « إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء، وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم » .

و (المعقبات) جمع معقبة من (عقب) مبالغة في (عقب) فالتفعيل للمبالغة والزيادة في التعقيب فهو تكثير للفعل أو الفاعل، لا للتعدية; لأن ثلاثيه متعد بنفسه. أصل معنى (العقب) مؤخر الرجل، ثم تجوز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة، كأن أحدهم يطأ عقب الآخر. قال الراغب: عقبه إذا تلاه نحو دبره وقفاه. وقيل: هو من (اعتقب) أدغمت التاء في القاف; وردوه بأن التاء لا تدغم في القاف من كلمة أو كلمتين. وقد قال أهل التصريف: إن القاف والكاف، كل منهما يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما. والتاء في (معقبة) واحدة (المعقبات) للمبالغة لا للتأنيث; لأن الملائكة لا توصف به. مثل نسابة وعلامة. [ ص: 3654 ] أو هي صفة جماعة وطائفة. و من بين يديه ظرف مستقر صفة معقبات أو ظرف لغو متعلق بها. و (من) لابتداء الغاية أو حال من الضمير الذي في الظرف الواقع خبرا. والكلام على هذه الأوجه يتم عند قوله ومن خلفه ويجوز أن يكون ظرفا لـ يحفظونه أي: معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، أي تحفظ ما قدم وأخر من الأعمال، كناية عن حفظ جميع أعماله. ويجوز أن يكون يحفظونه صفة لـ معقبات أو حالا من الظرف قبله، بمعنى أن المعقبات محيطة بجميع جوانبه.

تنبيهات:

الأول: ما قدمناه في معنى الآية هو الأشهر. وعن ابن عباس: هو السلطان الذي له حرس من بين يديه ومن خلفه.

قال الزمخشري: أي يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله. أي من قضاياه ونوازله، أو على التهكم به.

قال الرازي: وهذا القول اختاره أبو مسلم الأصفهاني. والمعنى: أنه يستوي في علم الله تعالى السر والجهر، والمستخفي بظلمة الليل والسارب المستظهر بالأعوان والأنصار، وهم الملوك والأمراء. فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره، ومن سار نهارا بالمعقبات، وهم الحراس والأعوان الذين يحفظونه; لم ينجه حرسه من الله تعالى! والمعقب العون; لأنه إذا أبصر هذا ذاك فلا بد أن يبصر ذاك هذا، فتصير بصيرة كل واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخر، فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ومن قدره! وهم وإن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه، فإنهم لا يقدرون على ذلك البتة!. والمقصود من هذه الجملة: بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره، عن حفظ الله وعصمته، ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار، ولذلك قال تعالى بعد: وإذا أراد الله بقوم سوءا الآية.

[ ص: 3655 ] الثاني: قدمنا أن الضمير في له معقبات لمن أسر أو جهر.. إلخ. وأرجعه بعضهم لله، وما بعده (لمن). قال الشهاب: فيه تفكيك للضمائر من غير داع. وقيل: الضمير (لمن) الأخير، وقيل: للنبي لأنه معلوم من السياق.

الثالث: أشار الرازي في معنى الآية الأشهر إلى سر اختصاص الحفظة ببني آدم، ما ملخصه: إنهم يدعون إلى الخيرات والطاعات بما يجده المرء من الدواعي القلبية إليها، وإن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب; لأن من آمن يعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم، فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها ; زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها، كما يزجره عنه إذا حضره من يعظمه من البشر. وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال; كان ذلك أيضا رادعا له عنها. وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل.!

إن الله لا يغير ما بقوم أي: من العافية والنعمة: حتى يغيروا ما بأنفسهم أي: من الأعمال الصالحة أو ملكاتها، التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى أضدادها: وإذا أراد الله بقوم سوءا أي: لسوء اختيارهم واستحقاقهم لذلك فلا مرد له أي: فلا رد لقضائه فيهم وما لهم من دونه من وال أي: يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم. وفيه دلالة على أن تخلف مراده تعالى محال. وإيذان بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية، قد غيروا ما بأنفسهم من الفطرة، واستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى وعذابه -أفاده أبو السعود-.

تنبيه:

في هذه الآية وعيد شديد وإنذار رهيب قاطع، بأنه إذا انحرف الآخذون بالدين والمنتمون إليه عن جادته المستقيمة، ومالوا مع الأهواء، وتركوا التمسك بآدابه وسنته القويمة; حل بهم ما ينقلهم إلى المحن والبلايا، ويفرق كلمتهم، ويوهي قوتهم، ويسلط عدوهم!.

[ ص: 3656 ] وفي حديث قدسي عند ابن أبي حاتم: « ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون » .

ولابن أبي شيبة: « ما من قرية ولا أهل بيت، كانوا على ما كرهت من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي، إلى ما يحبون من رحمتي » .

وقال القاشاني: لا بد في تغيير النعم إلى النقم، من استحقاق جلي أو خفي.

وعن بعض السلف: إن الفأرة مزقت خفي، وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته، وإلا ما سلطها الله علي! وتمثل بقول الشاعر:


لو كنت من مازن لم تستبح إبلي


أقول: المنقول عن بعض السلف محمول على شدة الخوف منه تعالى، وإلا فالتحقيق الفرق بين ما ينال الشخص والقوم، كما أشارت له الآية. وقد جود الكلام في ذلك، الإمام مفتي مصر في (رسالة التوحيد) في بحث الدين الإسلامي فقال:

كشف الإسلام عن العقل غمة من الوهم فيما يعرض من حوادث الكون الكبير (العالم) والكون الصغير (الإنسان). فقرر أن آيات الله الكبرى في صنع العالم إنما يجري أمرها على السنن الإلهية، التي قدرها الله في علمه الأزلي، لا يغيرها شيء من الطوارئ الجزئية. غير أنه لا يجوز أن يغفل شأن الله فيها. بل ينبغي أن يحيي ذكره عند رؤيتها، فقد جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، [ ص: 3657 ] فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله » . وفيه التصريح بأن جميع آيات الكون تجري على نظام واحد لا يقضي فيها إلا العناية الأزلية على السنن التي أقامته عليها. ثم أماط اللثام عن حال الإنسان في النعم التي يتمتع بها الأشخاص أو الأمم، والمصائب التي يرزؤن بها; ففصل بين الأمرين (الأشخاص والأمم) فصلا لا مجال معه للخلط بينهما.

فأما النعم التي يمتع الله بها بعض الأشخاص في هذه الحياة، والرزايا التي يرزأ بها في نفسه; فكثير منها كالثروة والجاه، والقوة والبنين، أو الفقر والضعة والضعف والفقد، وقد لا يكون كاسبها أو جالبها ما عليه الشخص في سيرته من استقامة وعوج أو طاعة وعصيان. وكثيرا ما أمهل الله بعض الطغاة البغاة، أو الفجرة الفسقة، وترك لهم متاع الحياة الدنيا; إنظارا لهم حتى يتلقاهم ما أعد لهم من العذاب المقيم في الحياة الأخرى!. وكثيرا ما امتحن الله الصالحين من عباده، وأثنى عليهم في الاستسلام لحكمه، وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة، عبروا عن إخلاصهم في التسليم بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون ! فلا غضب زيد، ولا رضا عمرو، ولا إخلاص سريرة، ولا فساد عمل مما يكون له دخل في هذه الرزايا، ولا في تلك النعم الخاصة، اللهم إلا فيما ارتباطه بالعمل ارتباط المسبب بالسبب على جاري العادة، كارتباط الفقر بالإسراف، والذل بالجبن، وضياع السلطان بالظلم. وكارتباط الثروة بحسن التدبير في الأغلب، والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم على الأكثر، وما يشبه ذلك مما هو مبين في علم آخر...!.

أما شأن الأمم فليس على ذلك ; فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية: من تصحيح الفكر، وتسديد النظر، وتأديب الأهواء، وتحديد مطامح الشهوات، والدخول [ ص: 3658 ] إلى كل أمر من بابه، وطلب كل رغيبة من أسبابها، وحفظ الأمانة، واستشعار الأخوة، والتعاون على البر، والتناصح في الخير والشر، وغير ذلك من أصول الفضائل، ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم، ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ولن يسلب الله عنها نعمته ما دام هذا الروح فيها. يزيد الله النعم بقوته وينقصها بضعفه، حتى إذا فارقها ذهبت السعادة على أثره وتبعته الراحة إلى مقره! واستبدل الله عزة القوم بالذل، وكثرهم بالقل، ونعيمهم بالشقاء، وراحتهم بالعناء، وسلط عليهم الظالمين أو العادلين فأخذهم بهم وهم في غفلة ساهون: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا أمرناهم بالحق ففسقوا عنه إلى الباطل، ثم لا ينفعهم الأنين، ولا يجديهم البكاء، ولا يفيدهم ما بقي من صور الأعمال، ولا يستجاب منهم الدعاء، ولا كاشف لما نزل بهم إلا أن يلجأوا إلى ذلك الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة، برسل الفكر والذكر والصبر والشكر: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وما أجل ما قاله العباس بن عبد المطلب في استسقائه. اللهم! إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يرفع إلا بتوبة..!.

[ ص: 3659 ] على هذه السنن، جرى سلف الأمة، فبينما كان المسلم يرفع روحه بهذه العقائد السامية، ويأخذ نفسه بما يتبعها من الأعمال الجليلة; كان غيره يظن أنه يزلزل الأرض بدعائه، ويشق الفلك ببكائه، وهو ولع بأهوائه، ماض في غلوائه، وما كان يغني عنه ظنه من الحق شيئا..!.

ولما خوف تعالى العباد بإنزال ما لا مرد له; أتبعه ببيان آيات قدرته وقهره وجلاله. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 12 ] هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال [ 13 ] ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال

هو الذي يريكم البرق خوفا أي: من الصواعق وطمعا أي بالمطر أن يحيي النبات وينشئ السحاب الثقال أي بالماء. ويسبح الرعد بحمده أي يسبح سامعوه من العباد الراجين للمطر متلبسين بحمده، أي: يضجون بـ (سبحان الله والحمد لله) فيكون على حذف مضاف أو إسنادا مجازيا للحامل والسبب، أو يسبح الرعد نفسه، بمعنى دلالته على وحدانيته تعالى وفضله، المستوجب لحمده. فيكون الإسناد على حقيقته والتجوز في التسبيح والتحميد. إذ شبه دلالته بنفسه على تنزيهه عن الشرك والعجز بالتسبيح والتنزيه اللفظي. ودلالته على فضله ورحمته، بحمد الحامد لما فيها من الدلالة على صفات الكمال.

قال الرازي: الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص. والتسبيح والتقديس وما يجري مجراهما ليس إلا وجود لفظ يدل على حصول التنزيه والتقديس لله سبحانه وتعالى. فلما كان حدوث [ ص: 3660 ] هذا الصوت دليلا على وجود متعال عن النقص والإمكان; كان ذلك في الحقيقة تسبيحا. وهو معنى قوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده

والملائكة من خيفته أي: وتسبح الملائكة من خوف الله تعالى وخشيته وإجلاله ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء أي: فيهلك بها من يشاء. وقوله تعالى: وهم يجادلون في الله يعني الكفرة المخاطبين في قوله تعالى هو الذي يريكم البرق وقد التفت إلى الغيبة إيذانا بإسقاطهم عن درجة الخطاب وإعراضا عنهم، وتعديدا لجناياتهم لدى كل من يستحق الخطاب. كأنه قيل: هو الذي يفعل أمثال هذه الأفاعيل العجيبة، من إراءة البرق، وإنشاء السحاب الثقال، وإرسال الصواعق الدالة على كمال علمه وقدرته، ويعقلها من يعقلها من المؤمنين، أو الرعد نفسه والملائكة. ويعملون بموجب ذلك من التسبيح والحمد والخوف من هيبته تعالى، و (هم) أي الكفرة الذين حكيت هناتهم مع ذلهم وهوانهم وحقارة شأنهم، يجادلون في شأنه تعالى، بإنكار البعث واستعجال العذاب، استهزاء، واقتراح الآيات. فالواو لعطف الجملة على ما قبلها من قوله تعالى: هو الذي يريكم أفاده أبو السعود.

أي: يريكم ما ذكر من الآيات الباهرة الدالة على القدرة والوحدانية. وأنتم تجادلون فيه، و (الجدال) أشد الخصومة، من (الجدل) بالسكون، وهو فتل الحبل ونحوه; لأنه يقوى به وتشتد طاقته وهو شديد المحال أي: والحال أنه شديد المماحلة والمماكرة والمكايدة لأعدائه، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون، من (محله) إذا كاده وعرضه للهلاك، ومنه (تمحل لكذا) إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه.

تنبيه:

ذكر في العلم الطبيعي: أن الصواعق شرارات تنطلق دفعة واحدة من تموجات السحب [ ص: 3661 ] ومصادمتها لبعضها; فيحصل في الهواء اهتزاز قوي. وأما الرعد فهو الصوت الذي يحصل من ذلك الانطلاق ويصل إلينا ببطء على حسب بعد السحب الحاملة للصواعق عنا. وعلى حسب اتساع السحب، يطول سماعنا لصوت الرعد. وإذا لمع البرق من السحابة، فقد تمت نتائج الصاعقة، فمتى مضت برهة لطيفة بين لمعان البرق وسماع الرعد، فقد أمن ضررها. فإن لم يمض بينهما شيء، بأن كان الإنسان قريبا من محل الصاعقة وسمع الرعد مع مشاهدة البرق في آن واحد; أمكن أن يصاب بالصاعقة في مرورها. وأما سبب انفجار الصاعقة فقالوا: من المعلوم أن انطلاق الكهربائية إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها، فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتنبجس بينهما شرارة كهربائية هي البرق. وحينئذ يقال: إن الأجسام الأرضية صعقت. هذا مجمل ما قالوه.

وقد حاول الرازي الجمع بين ما روي عن بعض السلف: أن الرعد ملك، وبين ما ثبت في العلم الطبيعي بما يدفع المنافاة فقال: اعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره؛ وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية. قال: وهذا عين ما نقلناه من أن الرعد اسم ملك من الملائكة يسبح الله، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء. فكيف يليق بالعاقل الإنكار؟! انتهى.

وقوله تعالى:
[ ص: 3662 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 14 ] له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال

له دعوة الحق أي" الدعاء الحق بالعبادة والتضرع والإنابة؛ وتوجيه الوجه ثابت له تعالى لا لغيره. لأنه الذي يجيب المضطر ويكشف السوء فهو الحقيق بأن يعبد وحده بالدعاء والالتجاء. فإضافة الدعوة للحق من إضافة الموصوف للصفة.

وفيها إيذان بملابستها للحق، واختصاصها به، وكونها بمعزل من شائبة البطلان والضياع والضلال، كما يقال: كلمة الحق.

ثم بين تعالى مثال من يعبد من الأصنام ويدعي في عدم النفع والجدوى بقوله: والذين يدعون من دونه أي: الأصنام الذين يدعوهم المشركون من دونه تعالى لا يستجيبون لهم بشيء أي: من مطلوباتهم إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه أي: إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه، أي كاستجابة الماء لمن مد يديه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بظمئه وحاجته إليه، فلا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه، جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم!. والغرض نفي الاستجابة على القطع بتصوير أنهم أحوج ما يكونون إليها لتحصيل مباغيهم; أخيب ما يكون أحد في سعيه لما هو مضطر إليه فضلا عن مجرد الحاجة. وحاصله: أنه شبه آلهتهم حين استكفائهم إياهم ما أهمهم بلسان الاضطرار في عدم الشعور فضلا عن الاستطاعة للاستجابة، وبقائهم لذلك في الخسران- بحال ماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه عبارة وإشارة. فهو لذلك في زيادة ظمأ وشدة خسران! والتشبيه على هذا من المركب التمثيلي في الأصل، أبرز في معرض التهكم، حيث أثبت [ ص: 3663 ] للماء استجابة، زيادة في التخسير والتحسير. فالاستثناء مفرغ من أعم عام المصدر، أي: لا يستجيبون شيئا من الاستجابة، والضمير في (هو) للماء و (بالغه) للفم، وقيل: الأول للباسط والثاني للماء. وبسط الكف: نشر الأصابع ممدودة كما في قوله:


تعود بسط الكف حتى لو أنه أراد انقباضا لم تطعه أنامله


وما دعاء الكافرين أي: عبادتهم والتجاؤهم لآلهتهم إلا في ضلال أي: في ضياع لا منفعة فيه لعدم إمكان إجابتهم.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 15 ] ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال

ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال إخبار عن عظمته تعالى وسلطانه الذي قهر كل شيء، بأنه ينقاد لجلاله وإرادته وتصريفه المكونات بأسرها من أهل الملأ الأعلى والأسفل، طائعين وكارهين لا يقدرون أن يمتنعوا عليه، وكذا تنقاد له تعالى ظلالهم حيث تتصف على مشيئته في الامتداد والتقلص والفيء [ ص: 3664 ] والزوال!. وقوله بالغدو والآصال إما ظرف لـ (يسجد) والباء بمعنى (في) والمراد بهما الدوام; لأنه يذكر مثله للتأييد، وإما حال من (الظلال) والمراد ما ذكر. أو يقال التخصيص; لأن امتدادها وتقلصها فيهما أظهر. هذا ما جرى عليه الأكثر في معنى (السجود) فيكون استعارة للانقياد المذكور، أو مجازا مرسلا لاستعماله في لازم معناه; لأن الانقياد مطلقا لازم للسجود.

وفي (تنوير الاقتباس): تأويل السجود بالصلاة والعبادة وجعل (طوعا وكرها) نشرا على ترتيب اللف. قال (طوعا) أهل السماء من الملائكة لأن عبادتهم بغير مشقة و (كرها) أهل الأرض; لأن عبادتهم بالمشقة، ثم قال: ويقال (طوعا) لأهل الإخلاص و (كرها) لأهل النفاق. ثم قال: (وظلالهم) يعني وظلال من يسجد لله أيضا، وتسجد غدوة عن أيمانهم، وعشية عن شمائلهم.

قال أبو السعود: وقد قيل: إن المراد حقيقة السجود، فإن الكفرة حال الاضطرار وهو المعني بقوله تعالى (وكرها) يخصون السجود به سبحانه. قال تعالى: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال أفهاما وعقولا بها تسجد لله سبحانه، كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثار التجلي كما قاله ابن الأنباري. ويجوز أن يراد بسجودها: ما يشاهد فيها من هيئة السجود تبعا لأصحابها. وأنت خبير بأن اختصاص سجود الكافر، حالة الضرورة والشدة، بالله سبحانه لا يجدي، فإن سجودهم لأصنامهم حالة الرخاء مخل بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور، فالوجه حمل السجود على الانقياد، ولأن تحقيق انقياد الكل في الإبداع، والإعدام له تعالى، أدخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه مع تحقيق سجودهم له تعالى. وتخصيص انقياد العقلاء بالذكر مع كون غيرهم أيضا كذلك لأنهم العمدة. وانقيادهم دليل انقياد غيرهم. انتهى.

[ ص: 3665 ] وهذه الآية كقوله تعالى: وله أسلم من في السماوات والأرض وقوله: أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله الآية.

تنبيه:

هذه السجدة من عزائم سجود التلاوة، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عقب قراءته واستماعه لهذه السجدة. كذا في (اللباب).
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 16 ] قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار

قل من رب السماوات والأرض أي خالقهما قل الله أمر بالجواب من قبله صلى الله عليه وسلم; إشعارا بتعينه للجواب، فهو والخصم في تقريره سواء. أو أمره بحكاية اعترافهم; إيذانا بأنه أمر لا بد لهم منه. كأنه قيل: احك اعترافهم، فبكتهم بما يلزمهم من الحجة قل أي: إلزاما لهم وتبكيتا: أفاتخذتم من دونه أولياء أي: أبعد أن علمتموه رب السماوات والأرض، عبدتم من دونه غيره، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك؟ أفاده الزمخشري.

لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا أي: لا يقدرون على نفع أنفسهم ولا على دفع الضر عنها، فكيف يستطيعونه لغيرهم؟! فإذن عبادتهم محض العبث والسفه! قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور لما بين ضلالهم وفساد




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #417  
قديم 29-04-2023, 06:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الرَّعْدِ
المجلد التاسع
صـ 3666 الى صـ 3680
الحلقة (417)



[ ص: 3666 ] رأيهم في الحجة المذكورة; بين أن الجاهل بها يكون كالأعمى، والعالم بها كالبصير، والجهل بمثلها كالظلمات، والعلم بها كالنور. وكما أن كل أحد يعلم بالضرورة أن الأعمى لا يساوي البصير، والظلمة لا تساوي النور، كذلك كل أحد يعلم بالضرورة أن الجاهل بهذه الحجة لا يساوي العالم بها أم جعلوا لله شركاء أي: بل أجعلوا، والهمزة للإنكار، وقوله: خلقوا كخلقه صفة لـ (شركاء) داخلة في حكم الإنكار فتشابه الخلق عليهم أي: خلق الله وخلقهم. والمعنى: أنهم ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله حتى يتشابه عليهم الخلق، فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا العبادة كما استحقها، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلا عما يقدر عليه الخالق.

قال الناصر: وفي قوله تعالى: خلقوا كخلقه في سياق الإنكار، تهكم بهم; لأن غير الله لا يخلق خلقا البتة، لا بطريق المشابهة والمساواة لله، تقدس عن التشبيه، ولا بطريق الانحطاط والقصور، فقد كان يكفي في الإنكار عليهم، أن الشركاء التي اتخذوها لا تخلق مطلقا، ولكن جاء في قوله تعالى كخلقه تهكم يزيد الإنكار تأكيدا!.

قل الله خالق كل شيء أي: لا خالق غير الله، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق، فلا يكون له شريك في العبادة! وهو الواحد أي: المتوحد بالربوبية القهار الذي لا يغالب، وما عداه مربوب ومقهور!.

ثم ضرب تعالى مثلين للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 17 ] أنـزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال

أنـزل من السماء أي المزن ماء أي مطرا فسالت أودية بقدرها أي: [ ص: 3667 ] بمقدار ملئها في الصغر والكبر، أي: أخذ كل واحد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيرا من الماء، وهذا صغير وسع بقدره فاحتمل السيل زبدا رابيا أي: فحمل ورفع، من قوة الجيشان، زبدا عاليا على وجه الماء: ومما يوقدون عليه في النار أي: من نحو الذهب والفضة والنحاس، مما يسبك في النار ابتغاء حلية أي: طلب زينة أو متاع كالآواني وآلات الحرب والحرث زبد مثله أي: مثل زبد السيل. وهو خبثه الذي ينفيه الكير كذلك يضرب الله الحق والباطل أي مثلهما، أي: إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما، مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل. وقد بين ذلك بقوله تعالى فأما الزبد فيذهب جفاء أي مقذوفا مرميا به، أي: فلا ينتفع به، بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح. وكذلك خبث ما يوقد عليه من المعادن يذهب ولا يرجع منه شيء، ولا يبقى إلا ما ينتفع به من الماء والمعدن كما قال: وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض أي: يبقى فيها منتفعا به كذلك يضرب الله الأمثال أي: يبين أمثال الحق والباطل.

تنبيهات:

الأول: قدمنا أن هذه الآية مثل ضربه الله للحق وأهله، والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلا لهما. فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس، فيحيون به وينفعهم بأنواع المنافع. وبالمعدن الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرا، يثبت الماء في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار. وكذلك المعدن يبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة، بزبد السيل وخبث المعدن، فإنه -وإن علا وارتفع وانتفخ- إلا أنه أخيرا يضمحل. [ ص: 3668 ] وكذلك الشبهات والتمويهات الزائفة قد تقوى وتعظم، إلا أنها في الآخرة تبطل وتضمحل وتزول، ويبقى الحق ظاهرا لا يشوبه شيء من الشبهات; لأنه لا بقاء إلا للنافع، وما تصارع الحق والباطل، إلا وفاز الحق بقرنه...!

الثاني: قوله تعالى بقدرها صفة (أودية)، أو متعلق بـ (سالت) أو (أنزل). وقرأ عامة القراء بفتح الدال، وقرأ زيد بن علي والأشهب وأبو عمرو في رواية، بسكونها.

الثالث: قوله تعالى احتمل بمعنى حمل، فالمزيد بمعنى المجرد- كذا قيل. ويظهر لي: أن إيثاره عليه لزيادة في معناه، وقوة في مبناه!.

الرابع: الأودية جمع واد، وهو مفرج بين جبال أو تلال أو آكام. والإسناد إليه مجاز عقلي، كما في (جرى النهر).

قال السمين: وإنما نكر الأودية وعرف السيل; لأن المطر ينزل في البقاع على المناوبة فيسيل في بعض أودية الأرض دون بعض. وتعريف السيل لأنه قد فهم من الفعل قبله وهو (فسالت)، وهو لو ذكر لكان نكرة. فلما أعيد أعيد بلفظ التعريف نحو: رأيت رجلا فأكرمت الرجل. انتهى.

وأصله لأبي حيان حيث قال: عرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل. والذي يتضمنه الفعل من المصدر وإن كان نكرة، إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة، كما كان لو صرح به نكرة. وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو: من كذب كان شرا له، أي الكذب. ولو جاء هنا مضمرا لكان جائزا عائدا على المصدر المفهوم من (فسالت). وأورد عليه: أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث، والمذكور المعرف عين، فإن المراد به الماء السائل؟ وأجيب: بأنه بطريق الاستخدام.

قال الشهاب: وهو غير صحيح، لا تكلف -كما قيل- لأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر. سواء كان حقيقيا أو مجازيا، وهذا ليس كذلك، لأن الأول [ ص: 3669 ] مصدر، أي حدث في ضمن الفعل، وهذا اسم عين ظاهر يتصف بذلك الحدث، فكيف يتصور فيه الاستخدام؟ نعم، ما ذكروه أغلبي لا مختص بما ذكر، فإن مثل الضمير اسم الإشارة، وكذا اسم الظاهر كما في قول بعضهم:


أخت الغزالة إشرافا وملتفتا


فالحق أنه إنما عرف لكونه معهودا مذكورا بقوله أودية وإنما لم يجمع لأنه مصدر بحسب الأصل.

الخامس: قوله تعالى ومما يوقدون عليه في النار جملة أخرى معطوفة على الجملة الأولى، لضرب مثل آخر. و (زبد) مبتدأ قدم عليه خبره، (من) في (مما) للابتداء أي: نشأ منه، وجوز كونها للتبعيض، أي: هو بعضه؛ ورده أبو السعود بأنه يخل بالتمثيل. وقوله في النار صفة مؤسسة; لأن الموقد عليه يكون في النار وملاصقا لها، وقيل: إنها مؤكدة. وقال أبو السعود: في زيادة النار إشعار بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصول الزبد. وعدم التعرض لإخراجه من الأرض لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل، كما أن لعنوان إنزال الماء من السماء دخلا فيه حسبما فصل فيما سلف، بل له إخلال بذلك. وسر التعبير بالموصول في قوله ومما يوقدون إلخ، الإيجاز بجمعه لأنواع المعادن مع إظهار الكبرياء بالتهاون بها، كأن أشرف الجواهر خسيس عنده تعالى; إذا عبر عن سبكه بإيقاد النار به، المشعر بأنه كالحطب الخسيس، وصوره بحالة هي أحط حالاته. وهذا لا ينافي كونه ضرب مثلا للحق. لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون به، مع الإشارة إلى كونه مرغوبا فيه منتفعا به بقوله ابتغاء حلية أو متاع فوفى كلا من المقامين حقه.

السادس: قدمنا أن قوله تعالى: كذلك يضرب الله الحق والباطل على حذف مضاف، أي: مثلهما، وسر الحذف الإنباء عن إكمال التماثل بين الممثل والممثل به، كأن المثل المضروب عين الحق والباطل.

[ ص: 3670 ] السابع: بدأ بالزبد في البيان في قوله فأما الزبد وهو متأخر في الكلام السابق; لأن في التقسيم يبدأ بالمؤخر كما في قوله: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت إلخ، وقد راعى الترتيب فيه، ولك أن تقول النكتة فيه أن الزبد هو الظاهر المنظور أولا، وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره. والآية من الجمع والتقسيم على ما فصله الطيبي. كذا في (العناية).

الثامن: قوله تعالى كذلك يضرب الله الأمثال تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله كذلك يضرب الله الحق والباطل إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول; أو بجعل ذلك إشارة إليهما. كذا في أبي السعود.

التاسع: أشار الحافظ ابن كثير إلى كثرة ضرب الأمثال النارية والمائية في التنزيل والسنة، قال:

وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين -ناري ومائي- وهو قوله: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله الآية، ثم قال: أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق الآية، وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين أحدهما قوله: والذين كفروا أعمالهم كسراب الآية، والسراب إنما يكون في شدة الحر، ولهذا جاء في (الصحيحين): « فيقال لليهود يوم القيامة: فما تريدون؟ فيقولون؟ أي ربنا! عطشنا فاسقنا. فيقال: ألا تردون؟ فيردون [ ص: 3671 ] النار، فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضا » . ثم قال تعالى في المثل الآخر أو كظلمات في بحر لجي الآية، وفي (الصحيحين) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا. وأصابت طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ! فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني، ونفع به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به، فهذا مثل الماء » . وفي (مسند الإمام أحمد) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار، يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها. قال: فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار! فتغلبوني فتتقحمون فيها... » وأخرجاه في (الصحيحين) أيضا. فهذا مثل ناري. انتهى.

ولما بين سبحانه شأن كل من الحق والباطل حالا ومآلا، تأثره ببيان حال أهل كل منهما مآلا، ترغيبا وترهيبا، بقوله:
[ ص: 3672 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 18 ] للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد

للذين استجابوا لربهم الحسنى أي: للمؤمنين الذين استجابوا لربهم بطاعته وطاعة رسوله، المثوبة الحسنى كما قال تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة فالحسنى مبتدأ قدم عليه خبره الموصول والذين لم يستجيبوا له وهم الكفرة لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أي: بما في الأرض ومثله معه من أصناف الأموال; ليتخلصوا عما بهم. وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان، ولأجله عدل عن أن يقال: وللذين لم يستجيبوا السوأى، كما تقتضيه المقابلة أولئك لهم سوء الحساب أي: في الدار الآخرة، فيناقشون على الجليل والحقير ومأواهم جهنم وبئس المهاد أي: المستقر. وفي قوله ومأواهم جهنم إشعار بتفسير الحسنى بالجنة; لانفهامها من مقابلتها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 19 ] أفمن يعلم أنما أنـزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب

أفمن يعلم أي يصدق أنما أنـزل إليك من ربك يعني القرآن الحق كمن هو أعمى أي: كمن لا يعلم ذلك، إلا أنه أريد تقبيح حاله فعبر عنه بالأعمى إنما يتذكر أولو الألباب أي: العقول المبرأة عن مشايعة الإلف ومتابعة الوهم.
[ ص: 3673 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 20 ] الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق

الذين يوفون بعهد الله أي: مما كلفهم به ولا ينقضون الميثاق أي: ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين العباد، وهو تعميم بعد تخصيص، وفيه تأكيد للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل. أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 21 ] والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب

والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل أي: من أرحامهم وقراباتهم وإخوانهم المؤمنين، بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم، والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم، وكف الأذى عنهم ويخشون ربهم أي: يعملون له أو يخافون وعيده فلا يعصونه فيما أمر ويخافون سوء الحساب

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 22 ] والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار

والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أي: يدفعون بالكلام الحسن الكلام السيئ إذا خاطبهم به الجاهلون، كما قال تعالى: ادفع بالتي هي أحسن الآية، أو يتبعون [ ص: 3674 ] السيئة الحسنة لتمحوها أولئك لهم عقبى الدار أي: عاقبة الدنيا وهي الجنة لأنها مرجع أهلها. فتعريف الدار للعهد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 23 ] جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب [ 24 ] سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار

جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم أي: آمن ووحد وعمل صالحا من هؤلاء.

قال أبو السعود: وفي التقييد بالصلاح قطع للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب.

وأصله للزجاج حيث قال: بين تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة، بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة.

وقرئ -شاذا- بضم لام (صلح). قال الزمخشري: والفتح أفصح.

والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار
ثم بين تعالى مآل مقابل الفريق الأول بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 25 ] والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار

والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل [ ص: 3675 ] ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار أي: عذاب جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 26 ] الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع

الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع هذا كقوله تعالى: أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون وتنكير (متاع) للتقليل كما في آية: قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا وقال: بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 27 ] ويقول الذين كفروا لولا أنـزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب

ويقول الذين كفروا لولا أنـزل عليه آية من ربه كقولهم: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون وتقدم الكلام على هذا غير مرة. وقوله تعالى: قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب جملة جرت مجرى التعجب من قولهم، مشيرة إلى أنه من باب العناد والاقتراح لما لا تقتضيه الحكمة من الآيات المحسوسة التي لا يمهل أحد بعد مجيئها، لا من باب طلب الهداية. وإلا فلو كان بغيتهم طلب الهداية بآية لكفاهم إنزال هذا الكتاب من مثله، صلوات الله عليه، آية، فإنه آية الآيات...!. ولكنهم قوم [ ص: 3676 ] آثروا الضلال على الهدى، زاغوا عنه فأزاغ الله قلوبهم. فطوى ما دل عليه هذه الجملة; إيجازا للعلم بها.

قال أبو السعود: قل إن الله يضل من يشاء إضلاله مشيئة تابعة للحكمة الداعية إليها، أي يخلق فيه الضلال لصرفه اختياره إلى تحصيله، ويدعه منهمكا فيه; لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد، كمن كان على صفتكم في المكابرة والعناد، والغلو في الفساد. فلا سبيل له إلى الاهتداء، ولو جاءته كل آية.

ثم قال: ويهدي إليه من أناب أي: أقبل إلى الحق، وتأمل في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة. وحقيقة الإنابة الدخول في نوبة الخير. وإيثار إيرادها في الصلة على إيراد المشيئة، كما في الصلة الأولى; للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها، والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى المكابرة. وفيه حث للكفرة على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد. وإيثار صيغة الماضي للإيماء إلى استدعاء الهداية لسابقة الإنابة، كما أن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم. انتهى.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 28 ] الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب

الذين آمنوا بدل من (من أناب) أي: آمنوا بالله ورسوله وكتابه وتطمئن قلوبهم بذكر الله أي تسكن وتخشى عند ذكره، وترضى به مولى ونصيرا. والعدول إلى صيغة المضارع لإفادة دوام الاطمئنان واستمراره ألا بذكر الله تطمئن القلوب أي: بذكره دون غيره تسكن القلوب أنسا به، واعتمادا عليه، ورجاء منه. وقدر بعضهم مضافا، أي بذكر رحمته ومغفرته، أو بذكر دلائله الدالة على وحدانيته. ورأى آخرون أن المراد [ ص: 3677 ] بذكر الله القرآن; لأنه يسمى ذكرا، كما قال تعالى: وهذا ذكر مبارك أنـزلناه وقال سبحانه: إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون لأنه آية بينة تسكن القلوب، وتثبت اليقين فيها. وهذا المعنى يناسب قوله: لولا أنـزل عليه آية من ربه أي: هؤلاء ينكرون كونه آية، والمؤمنون يعلمون أنه أعظم آية تطمئن لها قلوبهم ببرد اليقين. قال الشهاب: وهو أنسب الوجوه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 29 ] الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب

الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب الموصول إما مبتدأ، و طوبى لهم مبتدأ ثان وخبر في موضع الخبر الأول، وإما خبر لمحذوف، أي هم، وإما بدل من أناب وجملة طوبى لهم دعائية أو خبرية.

قال الزمخشري: (طوبى) مصدر من (طاب) كبشرى وزلفى. ومعنى (طوبى لك) أصبت خيرا وطيبا، ومحلها النصب أو الرفع.كقولك: طيبا لك، وطيب لك، وسلاما لك وسلام لك. والقراءة في قوله " وحسن مآب" بالرفع والنصب تدلك على محليها. واللام في لهم للبيان مثلها في (سقيا لك)، والواو في (طوبى) منقلبة عن ياء، لضمة ما قبلها. قال ثعلب: قرئ ((طوبى لهم)) بالتنوين.

قال الفاسي: ومن نون طوبى جعله مصدرا بغير ألف، كسقيا. وزعم بعضهم أنها كلمة أعجمية، وفي (لسان العرب) عن قتادة، أنها كلمة عربية، تقول العرب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا، وأنشد:
طوبى لمن يستبدل الطود بالقرى ورسلا بيقطين العراق وفومها

الرسل: اللبن، والطود: الجبل، والفوم: الخبز والحنطة. كذا في (تاج العروس).
[ ص: 3678 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 30 ] كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب

كذلك أرسلناك في أمة قد خلت أي مضت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك أي: لتبلغهم هذا الوحي العظيم والذكر الحكيم، كما بلغ من خلا قبلك من المرسلين أممهم. وقوله: وهم يكفرون بالرحمن جملة حالية أو مستأنفة، أي: يكفرون بالبليغ الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شيء، والعدول إلى المظهر الدال على الرحمة، إشارة إلى أن الإرسال ناشئ منها، كما قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وإلى أنهم لم يشكروا نعمة هذا الوحي الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية، وإلى أن الرحمن من أسمائه الحسنى ونعوته العليا، وقد كانوا يتجافون هذا الاسم الكريم. ولهذا لم يرضوا يوم الحديبية أن يكتبوا (بسم الله الرحمن الرحيم) وقالوا: ما ندري ما الرحمن الرحيم؟ كما في الصحيح. وقد قال تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن وفي (صحيح مسلم) عن ابن عمر مرفوعا: « أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن » .

قل هو أي: الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته: ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب أي: توبتي وإنابتي. فإنه لا يستحق ذلك غيره. ثم أشار تعالى إلى عظمة هذا الوحي وتفضيله على ما سواه بقوله:
[ ص: 3679 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 31 ] ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد

ولو أن قرآنا أي قرآنا ما سيرت به أي: بإنزاله أو بتلاوته الجبال أي أذهبت عن مقارها، وزعزعت عن أماكنها أو قطعت به الأرض أي: شققت حتى تتصدع وتصير قطعا أو كلم به الموتى أي خوطبت بعد أن أحييت بتلاوته عليها، والجواب محذوف، أي: لكان هذا القرآن; لكونه غاية في الهداية والتذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف. وعلى هذا التقدير، فالقصد بيان عظم شأن القرآن وفساد رأي الكفرة حيث لم يقدروا قدره العلي ولم يعدوه من قبيل الآيات، فاقترحوا غيره مما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام. وقدر الزجاج الجواب (لما آمنوا به) كقوله: ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى الآية، وعليه فالقصد بيان غلوهم في المكابرة والعناد وتماديهم في الضلال والفساد.

ونقل عن الفراء; أن الجواب مقدم عليه وهو قوله: وهم يكفرون بالرحمن وما بينهما اعتراض، وفيه بعد وتكلف. وأشار بعضهم إلى أن مراده أنها دليل الجواب، والتذكير في (كلم) لتغليب المذكر من الموتى على غيره.

وقوله تعالى: بل لله الأمر جميعا أي: له الأمر الذي عليه يدور فلك الأكوان وجودا وعدما، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد لما يدعو إليه من الحكم البالغة، وهو إضراب عما تضمنته (لو) من معنى النفي، أي: لو أن قرآنا فعل به ما ذكر لكان هذا القرآن، [ ص: 3680 ] ولكن لم يفعل، بل فعل ما عليه الشأن الآن; لأن الأمر كله له وحده، وعلى تقدير الزجاج السالف، فالإضراب متوجه إلى ما سلف من اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شرح. أي: فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعا، إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه الحكمة، من غير أن يكون لأحد عليه تحكم أو اقتراح. كذا في أبي السعود.

وقوله تعالى: أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا أي: أفلم يعلم ويتبين كقوله:


ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا


وقوله:


أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم


أي: ألم تعلموا! وييسرونني من إيسار الجزور، أي يقسمونني، ويروى: يأسرونني من (الأسر). أي: أفلم يعلموا أنه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم ; لأن الأمر له. ولكن قضت الحكمة أن يكون بناء التكليف على الاختيار.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #418  
قديم 29-04-2023, 06:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
المجلد العاشر
صـ 3681 الى صـ 3705
الحلقة (418)



ولا يزال الذين كفروا أي: من أهل مكة تصيبهم بما صنعوا قارعة أي: بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه، وعدم بيانه لتهويله أو استهجانه. والقارعة: الداهية التي تقرع وتقلق، يعني: ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر [ ص: 3681 ] والنهب والسلب أو تحل أي: تلك القارعة قريبا أي: مكانا قريبا من دارهم فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها حتى يأتي وعد الله أي: فتح مكة إن الله لا يخلف الميعاد أي: لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله وفي الآية وجه آخر، وهو حمل " الذين كفروا" على جميع الكفار، أي: لا يزالون، بسبب تكذيبهم، تصيبهم القوارع في الدنيا، أو تصيب من حولهم ليعتبروا، كقوله تعالى: ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون وقوله: أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 32 ] ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب

ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا أي: أمهلتهم وتركتهم ملاوة من الزمن، في أمن ودعة، كما يملى للبهيمة في المرعى: ثم أخذتهم فكيف كان عقاب أي: عقابي إياهم. وفيه من الدلالة على فظاعته ما لا يخفى. والآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما لقي من المشركين من التكذيب والاقتراح، على طريقة الاستهزاء به، ووعيد لهم.
[ ص: 3682 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 33 ] أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد

أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أي: مراقب لأحوالها ومشاهد لها، لا يخفى عليه ما تكسبه من خير أو شر. فهو مجاز; لأن القائم على الشيء عالم به، ولذا يقال: وقف عليه، إذا علمه فلم يخف عليه شيء من أحواله، والخبر محذوف تقديره: كمن ليس كذلك. وإنما حذف اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو قوله: وجعلوا لله شركاء أي: عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان، وقوله: قل سموهم تبكيت لهم إثر تبكيت، أي: سموهم من هم، وماذا أسماؤهم؟ فإنهم لا حقيقة لهم! أو صفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة؟.

وقال الرازي: إنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال: سمه إن شئت، يعني: أنه أخس من يسمى ويذكر، ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل. فكأنه تعالى قال: سموهم بالآلهة، على سبيل التهديد، والمعنى: سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها.

أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أي: بشركاء لا يعلمهم سبحانه. وإذا كان لا يعلمهم، وهو عالم بكل شيء مما كان ومما يكون، فهم لا حقيقة لهم. فهو نفي لهم بنفي لازمهم على طريق الكناية.

قال الناصر: وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء وأن الله لا يعلمهم كذلك; لأنهم ليسوا كذلك، وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله، إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة معبودة. ولكن [ ص: 3683 ] مجيء النفي على هذا السنن المتلو بديع لا تكتنه بلاغته وبراعته. ولو أتى الكلام على الأصل غير محلى بهذا التصريف البديع لكان: وجعلوا لله شركاء وما هم بشركاء. فلم يكن بهذا الموقع الذي اقتضته التلاوة.

وقوله تعالى: أم بظاهر من القول أي: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة، كتسمية الزنجي كافورا من غير بياض فيه ولا رائحة طيبة، لفرط الجهل وسخافة العقل، وهذا كقوله تعالى: ذلك قولهم بأفواههم ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها وعن الضحاك: إن الظاهر بمعنى الباطل، كقوله:


وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر


تنبيه:

قال الزمخشري: هذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها، مناد على نفسه بلسان طلق ذلق; أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه.

قال شارحوه: فإن قوله تعالى: أفمن هو قائم على كل نفس لما كان كافيا في هدم قاعدة الإشراك مع السابق واللاحق وما ضمن من زيادات النكت، وكان إبطالا من طريق حق، مذيلا بإبطال من طرف النقيض على معنى: ليتهم إذ أشركوا بمن لا يجوز أن يشرك به، أشركوا من يتوهم فيه ذلك أدنى توهم، وروعي فيه أنه لا أسماء للشركاء ولا حقيقة لها فضلا عن المسمى على الكناية الإيمائية. ثم بولغ بأنها لا تستأهل أن يسأل عنها على الكناية التلويحية استدلالا بنفي العلم عن نفي المعلوم. ثم منه إلى عدم الاستئهال مع التوبيخ، وتقدير أنهم يريدون أن ينبئوا عالم السر والخفيات بما لا يعلمه وهو محال على محال وفي جعل اتخاذهم شركاء، [ ص: 3684 ] ومجادلة الرسول عليه الصلاة والسلام إنباء له تعالى ; نكتة بل نكت سرية. ثم أضرب عن ذلك. وقيل: قد بين الشمس لذي عينين، وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول لا طائل تحته بل هو صوت فارغ.

فمن تأمل حق التأمل، اعترف بأنه كلام خالق القوى والقدر، الذي تقف دون أستار أسراره أفهام البشر...!

وقوله تعالى: بل زين للذين كفروا مكرهم إضراب عن الاحتجاج عليهم. كأنه قيل: دع ذكر ما كنا فيه من الدلائل على فساد قولهم; لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم، فلا ينتفعون بهذه الدلائل.

وقوله تعالى:

وصدوا عن السبيل أي: عن سبيل الله، وقرئ: بفتح الصاد أي: صدوا الناس ومن يضلل الله أي: يخلق فيه الضلال بسوء اختياره، أو يخذله فما له من هاد أي: من أحد يهديه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 34 ] لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق

لهم عذاب في الحياة الدنيا وهو ما نالهم على أيدي المؤمنين، أو ما فيه من عذاب الحيرة والضلة. فإن نفس غير المؤمنين في نكد مستمر وداء دوي لا برء له إلا الإيمان، كما فصل في موضع آخر. ولعذاب الآخرة أشق أي: من عذاب الدنيا كما وكيفا وما لهم من الله من واق أي: حافظ يعصمهم من عذابه.
[ ص: 3685 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 35 ] مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار

مثل الجنة التي وعد المتقون أي عن الكفر والمعاصي تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار

في الآية وجوه من الإعراب:

(الأول): أن (مثل) مبتدأ خبره محذوف، أي: فيما يقص ويتلى عليكم صفة الجنة، وجملة (تجري) مفسرة أو مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال من ضمير (وعد) أي: وعدها مقدرا جريان أنهارها. وهذا الوجه سالم من التكلف، مع ما فيه من الإيجاز والإجمال والتفصيل. وقدر الخبر فيه مقدما لطول ذيل المبتدأ، أو لئلا يفصل به بينه وبين ما يفسره، أو ما هو كالمفسر له.

(الثاني): أن خبره (تجري) -على طريقة قولك: صفة زيد أسمر- قيل: هو غير مستقيم معنى; لأنه يقتضي أن الأنهار في صفة الجنة، وهي فيها، لا في صفتها. مع تأنيث الضمير العائد على المثل حملا على المعنى.

(الثالث): أن ثمة موصوفا محذوفا، أي: مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار، وقوله (وظلها) مبتدأ محذوف الخبر أي: كذلك.
[ ص: 3686 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 36 ] والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنـزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب

والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنـزل إليك لأنه يحصل لهم به من المعاني والدلائل وكشف الشبهات ما لم يحصل لهم من تلك الكتب السالفة. قيل: عنى بهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، فإنهم يفرحون بما أنزل من القرآن; لما يرون فيه من الشواهد على حقيته التي لا يمترى فيها، ومن المعارف والمزايا الباهرة التي لا تحصى، كما قال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ومن الأحزاب يعني بقية أهل الكتاب والمشركين من ينكر بعضه وهو ما يخالف معتقدهم، وجوز أن يراد (بالموصول) من يفرح به منهم لمجرد تصديقه لما بين يديه وتعظيمه له وإن لم يؤمنوا. وبـ (الأحزاب) المشركون، خاصة المنكرين لما فيه من التوحيد. ولذا أمر برد إنكارهم بقوله تعالى: قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو أي: لا إلى غيره وإليه مآب أي: مرجعي للجزاء، لا إلى غيره.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 37 ] وكذلك أنـزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق

وكذلك أنـزلناه حكما عربيا أي: حاكما بالحق، أو حكمة عربية: ولئن اتبعت [ ص: 3687 ] أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق أي: لئن تابعتهم على دين، ما هو إلا أهواء بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج; فلا ينصرك ناصر ولا يقيك واق. وهذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب، وأن لا يزل زال عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة. وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الشكيمة بمكان -كذا في (الكشاف).
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 38 ] ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب

ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية أي: مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم، وهو رد لقولهم: لو كان نبيا لكان من جنس الملائكة كما قالوا: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وإعلام بأن ذلك سنة كثير من الرسل، فما جاز في حقهم لم لا يجوز في حقه؟ وقد قال تعالى له: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله أي: ما صح له ولا استقام ولم يكن في وسعه أن يأتي بما يقترح عليه، إلا بإرادته تعالى في وقته; لأن الآيات معينة بإزاء الأوقات التي تحدث فيها، من غير تغير وتبدل وتقدم وتأخر. فأمرها منوط بمشيئته تعالى، المبنية على الحكم والمصالح التي عليها يدور أمر الكائنات لكل أجل كتاب أي لكل وقت من الأوقات أمر مكتوب، مقدر معين أو مفروض في ذلك الوقت على الخلق حسبما تقتضيه الحكمة، فالشرائع معينة عند الله بحسب الأوقات، في كل وقت يأتي، بما هو صلاح ذلك الوقت، رسول من عنده. وكذا جميع الحوادث من الآيات [ ص: 3688 ] وغيرها، فليس الأمر على إرادة الكفار واقتراحاتهم، بل على حسب ما يشاؤه تعالى ويختاره، وفيه رد لاستعجالهم الآجال وإتيان الخوارق والعذاب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 39 ] يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب

يمحو الله ما يشاء أي: ينسخ ما يشاء نسخه من الشرائع لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت ويثبت أي: بدله ما فيه المصلحة، أو يبقيه على حاله غير منسوخ وعنده أم الكتاب أي: أصله.

قال الرازي: العرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أما له، ومنه أم الرأس: للدماغ، وأم القرى لمكة. وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى. فكذلك أم الكتاب، هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية يقول: يبدل الله ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله وعنده أم الكتاب يقول: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ. وما يبدل وما يثبت. كل ذلك في كتاب. وعن قتادة: أن هذه الآية كقوله تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها الآية.

تنبيه:

تمسك جماعة بظاهر قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت فقالوا: إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ. قالوا: يمحو الله من الرزق ويزيد فيه. وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر.

قال الرازي: هو مذهب عمر وابن مسعود. والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. انتهى.

[ ص: 3689 ] أشار بذلك إلى آثار أخرجها ابن جرير عن عمر وابن مسعود. وليس في الصحيح شيء منها.

ظهر لي في دمر في 12 ربيع الأول سنة 1324:

إن ما يستدل به الكثير من الآيات لمطلب ما، أن يدقق النظر فيه تدقيقا زائدا، فقد يكون سياق الآية لأمر لا يحتمل غيره، ويظن ظان أنه يستدل بها في بحث آخر، وقد يؤكده ما يراه من إطباق كثير من أرباب التصانيف على ذلك وإنما المدار على فهم الأسلوب والسياق والسباق.

خذ لك مثلا قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب فكم ترى من يستدل بها على العلم المعلق، ومحو ما في اللوح الذي يسمونه (لوح المحو والإثبات) ويوردون من الإشكالات والأجوبة ما لا يجد الواقف عليه مقنعا ولا مطمأنا.

مع أن هذه الآية، لو تمعن فيها القارئ; لعلم أنها في معنى غير ما يتوهمون. وذلك أنهم كانوا يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل البعثة، أن يأتي بآية كآية موسى وعيسى; توهما أن ذلك هو أقصى ما يدل على نبوة النبي في كل زمان ومكان، فأعلمهم الله تعالى أن دور تلك الآيات الحسية انقضى دورها، وذهب عصرها. وقد استعد البشر للتنبه إلى الآية العقلية وهي آية الاعتبار والتبصر. وإن تلك الآيات محيت كما محي عصرها. وقد أثبت تعالى غيرها مما هو أجلى وأوضح وأدل على الدعوة، وهو قوله تعالى قبلها: وما كان [ ص: 3690 ] لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 40 ] وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب

وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أي: من إنزال العذاب في حياتك أو نتوفينك أي: قبل ذلك فإنما عليك البلاغ أي: تبليغ الوحي وعلينا الحساب أي: حسابهم وجزاؤهم. قال أبو حيان: جواب الشرط الأول (فذلك شافيك) والثاني (فلا لوم عليك)، وقوله تعالى فإنما عليك إلخ دليل عليهما.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 41 ] أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب

أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أي: أرض الكفرة، ننقصها عليهم بإظهار دين الإسلام في أطراف ممالكهم.

قال ابن عباس: أي: أولم يروا أنا نفتح للرسول الأرض بعد الأرض; يعني أن انتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أنه تعالى ينجز وعده، ونظيره قوله تعالى: أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون [ ص: 3691 ] وقوله: سنريهم آياتنا في الآفاق

قال الشهاب: هذا مرتبط بما قبله. يعني لم يؤخر عذابهم لإهمالهم، بل لوقته المقدر، أو ما ترى نقص ما في أيديهم من البلاد وزيادة ما لأهل الإسلام، ولم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم به تعظيما له، وخاطبهم تهويلا وتنبيها عن سنة الغفلة. ومعنى نأتي الأرض يأتيها أمرنا وعذابنا. انتهى.

وقيل: ننقصها من أطرافها بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم. فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع؟.

تنبيه:

يذكرون -ها هنا- رواية عن ابن عباس ومجاهد: أن نقصها من أطرافها هو موت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها. ويؤيد من يعتمد ذلك بأن الجوهري حكى عن ثعلب: أن الأطراف يطلق على الأشراف، جمع طرف وهو الرجل الكريم، وشاهده قول الفرزدق:


واسأل بنا وبكم إذا وردت منى أطراف كل قبيلة من يتبع


يريد أشراف كل قبيلة. فمعنى الآية: أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات: موت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كان هذا مشاهدا محسوسا; فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر عليهم فيذلهم بعد العزة! ولا يخفاك أن هذا المعنى لا يذكره السلف تفسيرا للآية على أنه المراد منها، وإنما يذكرونه تهويلا لخطب موت العلماء بسبب [ ص: 3692 ] أنهم أركان الأرض وصلاحها وكمالها وعمرانها، فموتهم نقص لها وخراب منها. كما قال أحمد بن غزال:


الأرض تحيى إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيى إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف


ولذا قال الأزهري كما في (لسان العرب): أطراف الأرض نواحيها، الواحد طرف، و (ننقصها من أطرافها) أي نواحيها ناحية ناحية، وعلى هذا من فسر (نقصها من أطرافها) فتوح الأرضين. وأما من جعل (نقصها من أطرافها) موت علمائها فهو من غير هذا، قال: والتفسير على القول الأول.

وقوله تعالى: والله يحكم أي: ما يشاء كما يشاء، وقد حكم للإسلام بالعز والإقبال، وعلى الكفر بالذل والإدبار، حسبما يشاهد من المخايل والآثار. وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وبناء الحكم على الاسم الجليل، من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر، بالإشارة إلى العلة، ما لا يخفى، وهو جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها.

وقوله تعالى: لا معقب لحكمه اعتراض في اعتراض; لبيان علو شأن حكمه تعالى، وقيل: نصب على الحالية كأنه قيل: والله يحكم نافذا حكمه، كما تقول: جاء زيد لا عمامة على رأسه، أي: حاسرا. و (المعقب) من يكر على الشيء فيبطله، وحقيقته من يعقبه ويقفيه بالرد والإبطال. أفاده أبو السعود.

وهو سريع الحساب أي: فعما قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا بالقتل والأسر.
[ ص: 3693 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 42 ] وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار

وقد مكر الذين من قبلهم أي: مكر الكفار الذين خلوا، إيقاع المكروه بأنبيائهم والمؤمنين كما مكر هؤلاء، وقوله: فلله المكر جميعا إشارة إلى ضعف مكرهم وكيدهم لاضمحلاله وذهاب أثره، وأنه مما لا يسوء، وأن المكر المرهوب هو ما سيؤخذون به من إيقاع فنون النكال، وهم نائمون على فرش الإمهال، مما لا يخطر لهم على بال، كما يومئ إليه قوله تعالى: يعلم ما تكسب كل نفس أي: فيوفيها جزاءها المعد لها على ما كسبت من فنون المعاصي التي منها مكرهم، من حيث لا يحتسبون وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار أي العاقبة الحميدة، وعلى من تدور الدائرة، وهذا كقوله تعالى: ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا الآية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 43 ] ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب

ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم فإنه أظهر على رسالتي، من الحجج القاطعة والبينات الساطعة، ما فيه مندوحة عن شهادة شاهد آخر. قيل: جعل هذا شهادة (وهو فعل والشهادة قول) على سبيل الاستعارة; لأنه يغني عن الشهادة بل هو أقوى. انتهى. ولا يخفى أن الشهادة أعم من القول والفعل. على [ ص: 3694 ] أن المراد من تلك الحجج هي آيات القرآن والذكر الحكيم، وهي كلامه تعالى، وقد قال تعالى: ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي

وقوله تعالى: ومن عنده علم الكتاب أي: ومن هو من علماء أهل الكتاب فإنهم يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم من بشارات الأنبياء به. كما قال تعالى: الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وقال تعالى: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل

ويروى عن مجاهد أنه عنى بـ ومن عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام. ونوقش بأن السورة مكية، وإسلامه كان بالمدينة. وأجاب البعض بأن بعض السور المكية ربما وجد في مدني وبالعكس، وكأن هذه الآية من ذلك.

وقد روى الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في (دلائل النبوة): أن عبد الله بن سلام أسلم قبل الهجرة، حيث رحل إلى مكة قبلها، واستيقن نبوته صلوات الله عليه. ثم آب إلى المدينة وكتم إسلامه إلى أن كانت الهجرة. والله أعلم.
[ ص: 3704 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ

سُمِّيَتْ بِهِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى دَعَوَاتٍ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ، تَمَّتْ بِهَذِهِ اَلْمِلَّةِ.

كَالْحَجِّ وَجَعْلِ اَلْكَعْبَةَ قِبْلَةَ اَلصَّلَاةِ. مَعَ اَلدَّلَالَةِ عَلَى عَظَمَتِهَا، بِحَيْثُ صَارَتْ مِنَ اَلْمَطَالِبِ اَلْمُهِمَّةِ لِلْمُتَّفَقِ عَلَى غَايَةِ كَمَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ أَكْمَلُ اَلتَّحِيَّاتِ وَأَفْضَلُ التَّسْلِيمَاتِ مَعَ غَايَةِ كَمَالِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ اَلْقُرْآنِ! أَفَادَهُ الْمَهَايِمِيُّ.

وَهِيَ مَكِّيَّةُ اَلنُّزُولِ، قِيلَ: إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْرًا . وَهِيَ اِثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ آيَةً.

[ ص: 3705 ] بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ

اَلْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

[1] الر كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ .

الر كِتَابٌ خَبَرٌ لِـ )الر) عَلَى كَوْنِهِ مُبْتَدَأً. أَوْ خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ عَلَى كَوْنِهِ خَبَرًا لِمُضْمَرٍ ، أَوْ مَسْرُودًا عَلَى نَمَطِ اَلتَّعْدِيدِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ صِفَةٌ لَهُ : لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أَيْ : مِنَ اَلضَّلَالِ إِلَى اَلْهُدَى : بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أَيْ : أَمَرِهِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ : { إِلَى اَلنُّورِ } بِتَكْرِيرِ اَلْعَامِلِ . أَوْ مُسْتَأْنَفٌ ، كَأَنَّهُ قِيلَ : إِلَى أَيِّ نُورٍ ؟ فَقِيلَ : { إِلَى صِرَاطِ} إلخ وَ: {اَلْعَزِيزِ} اَلَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ بَلْ هُوَ اَلْقَاهِرُ اَلْقَادِرُ. وَ : { اَلْحَمِيدِ} اَلْمَحْمُودُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ لِإِنْعَامِهِ فِيهِمَا بِأَعْظَمِ اَلنِّعَمِ.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #419  
قديم 29-04-2023, 07:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
المجلد العاشر
صـ 3706 الى صـ 3720
الحلقة (419)



القول في تأويل قوله تعالى :

[2] الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد .

الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض قرئ لفظ الجلالة بالرفع على الابتداء وخبره ما بعده . أو على الخبرية لمحذوف . وقرئ بالجر ، عطف بيان لـ : العزيز الحميد وويل للكافرين أي : بما أنزلناه إليك : من عذاب شديد يوم القيامة وهو عذاب النار .

[ ص: 3706 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[3] الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد .

الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة أي : يؤثرونها عليها : ويصدون عن سبيل الله بتعويق الناس عن الإيمان : ويبغونها عوجا أي : يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب ، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة ، أو يبغون لها اعوجاجا ، أي : يطلبون أن يروا فيها عوجا قادحا ، على الحذف والإيصال : أولئك في ضلال بعيد أي : ضلوا عن طريق الحق ووقفوا دونه بمراحل ، والبعد في الحقيقة للضال نفسه ، وصف به فعله للمبالغة بجعل الضلال نفسه ضالا . وفي إيثار الظرف على )أولئك ضالون ضلالا بعيدا) دلالة على تمكنهم فيه ، باشتماله عليهم اشتمال المحيط على المحاط ، مبالغة في إثبات وصف الضلال . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[4] وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم .

وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم أي : ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا : لم نفهم ما خوطبنا به كما قال : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته

* فإن قلت * : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعا : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة . فإن لم تكن للعرب حجة ، فلغيرهم الحجة . [ ص: 3707 ] وإن لم تكن لغيرهم حجة، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة أيضا ؟ ( قلت) : لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ; لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل; فبقي أن ينزل بلسان واحد فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ; لأنهم أقرب إليه . فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر ; قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكد القرائح فيه ، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل وأسلم من التنازع والاختلاف ، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع اختلافها وكثرتها ، وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها ، وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها ، كما كلم أمته التي هو منها يتلوه عليهم معجزا ; لكان ذلك أمرا قريبا من الإلجاء . ومعنى : بلسان قومه بلغة قومه - كذا في (" الكشاف ") - .

وقال بعض المحققين : يقول قائل : ألا تدل هذه الآية على أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت للعرب خاصة ؟ نقول : لا ; لأنه جرت سنة الله أن يختار أمة واحدة ويعدها لتهذيب الأمم الأخرى ، كما يعد فردا واحدا منها لتهذيب سائر أفرادها . ولما كانت الأمة العربية هي المختارة لتهذيب الأمم وتعديل عوجها وإقامة منار العدل في ذلك العالم المظلم ; فقد وجب أن التهذيب الإلهي ينزل بلغتها خاصة حتى تستعد وتتهيأ لأداء وظيفتها . وقد أتم الله نعمته عليها ، فقامت بما عهد إليها بما أدهش العالم أجمع ، ولله في خلقه شؤون .

تنبيه :

استدل بالآية من ذهب إلى أن اللغات اصطلاحية . قال : لأنها لو كانت توقيفية لم تعلم إلا بعد مجيء الرسول ، والآية صريحة في علمها قبله .

[ ص: 3708 ] وقوله تعالى : فيضل الله من يشاء أي : لمباشرته أسبابه المؤدية إليه ، أو يخذله ولا يلطف به لعلمه أنه لا ينجع فيه الإلطاف : ويهدي من يشاء لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق . (والفاء) فصيحة ، كأنه قيل : فبينوه ، فأضل الله من شاء إضلاله وهدى من شاء . والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به ، وجريان كل من أهل الخذلان والهداية على سنته ، أمر محقق غني عن الذكر والبيان : وهو العزيز الحكيم أي : فلا يغالب ، ولا يقضي إلا بما فيه الحكمة .

ثم أشير إلى تفصيل ما أجمل في قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[5] ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور .

ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله أي : أنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم ، كقوم نوح ولوط . ومنه : أيام العرب ; لحروبها وملاحمها ; لأنها تعظم بها الأيام . وقيل : أيامه : نعماؤه عليهم . فتكون الآية بعدها تفصيلا لها . وقيل : هي أعم من النعماء والبلاء . والوجه الأول أولى فيما أراه ; لاختصاص كل آية بمقام ، والتأسيس خير من التأكيد . وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، بالإضافة إلى الاسم الجليل ، إيذان بفخامة شأنها . قال أبو بكر ابن العربي : هذه الآية في الوعظ المرقق للقلوب .

إن في ذلك أي : في التذكير بها : لآيات لكل صبار شكور أي : يصبر على بلائه ويشكر نعماءه . فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم ، أو أفاض عليهم من النعم ، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر . وقيل : أراد (لكل مؤمن) لأن الشكر [ ص: 3709 ] والصبر عنوان المؤمن . وتقديم ( الصبار) على (الشكور ) لتقدم متعلق الصبر - أعني الإيمان على متعلق الشكر - أعني النعماء - وكون الشكر عاقبة الصبر .
القول في تأويل قوله تعالى :

[6] وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم .

وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب أي : يبغونكم إياه : ويذبحون أبناءكم أي : المولودين صغارا : ويستحيون نساءكم أي : يبقونهن في الحياة : وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم الإشارة إلى فعل آل فرعون. ونسبته إليه تعالى للخلق أو الإقدار والتمكين . قيل : كون قتل الأبناء ، ابتلاء ظاهر . وأما استحياء النساء ، وهن البنات أي : استبقاؤهن ، فلأنهم كانوا يستخدمونهن ويفرقون بينهن وبين الأزواج ، أو لأن بقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل :


ومن أعظم الرزء فيما أرى بقاء البنات وموت البنينا


ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإلجاء من ذلك . و (البلاء) : الابتلاء بالنعمة ، وهو بلاء عظيم .

قال الزمخشري : البلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعا . قال تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة وقال زهير :


فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو


ولذا جوز أن تكون الإشارة إلى جميع ما مر ، الشامل للنعمة والنقمة .

[ ص: 3710 ] لطيفة :

أشار أهل المعاني إلى نكتة مجيء : ويذبحون هنا بالواو ، وفي سورة البقرة : يذبحون وفي الأعراف : يقتلون بدونها. والقصة واحدة - بأنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه - ، فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال . وحيث عطف - كما هنا - لم يقصد ذلك . والعذاب ، إن كان المراد منه الجنس ، فالتذبيح لكونه أشد أنواعه ، عطف عليه عطف جبريل على الملائكة ، تنبيها على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس . وإن كان المراد به غيره ، كاسترقاقهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة ، فهما متغايران ، والمحل محل العطف . وجوز أيضا كون العطف هنا للتفسير وكأن التفسير - لكونه أوفى بالمراد وأظهر - بمنزلة المغاير فلذا عطف .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[7] وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد .

وإذ تأذن ربكم أي : آذن وأعلم إعلاما بليغا - من جملة ما قال موسى لقومه - : لئن شكرتم أي : نعمه ، بصرفها إلى ما خلقت له . كالعقل إلى تصحيح الاعتقاد فيه واستعمال سائر النعم بمقتضاه : لأزيدنكم أي : من النعم : ولئن كفرتم إن عذابي لشديد فيصيبكم منه ما يسلب تلك النعم ويحل أشد النقم .

[ ص: 3711 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[8] وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد .

وقال موسى أي : لقومه : إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد أي : غني عن شكر عباده ، المحمود بأجل المحامد . وإن كفره من كفره . وهو تعليل لما حذف من جواب (إن) أي : إن تكفروا لم يرجع وباله إلا عليكم ، فإن الله لغني عن شكر الشاكرين .

وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل : أنه قال : « يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر » فسبحانه من غني حميد .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[9] ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب .

ألم يأتكم أي : في مؤاخذة من كفر : نبأ الذين من قبلكم قوم نوح [ ص: 3712 ] أي : مع كثرتهم : وعاد أي : مع غاية قوتهم : وثمود مع كثرة تحصنهم وصنائعهم : والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب

قال ابن جرير : هذا من تمام قول موسى لقومه ، يعني : وتذكاره إياهم بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل .

قال ابن كثير : وفيما قال ابن جرير نظر ; والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة ; فإنه قد قيل : إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه لقصه عليهم ، ولا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان في التوراة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضا ، أو عطف {الذين } على قوم نوح ، و : { لا يعلمهم } إلخ اعتراض ، ومعنى الاعتراض على الثاني : ألم يأتكم أنباء الجم الغفير الذي لا يحصى كثرة فتعتبروا بها ؟ إن في ذلك لمعتبرا . وعلى الأول : فهو ترق ، ومعناه : ألم يأتكم نبأ هؤلاء ومن لا يحصى بعدهم ؟ كأنه يقول : دع التفصيل فإنه لا مطمع فيه ، وفيه لطف لإيهام الجمع بين الإجمال والتفصيل .

وقوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم يحتمل الأيدي والأفواه أن يكونا الجارحتين المعروفتين . وأن يكونا من مجاز الكلام . وفي الأول وجوه :

أي : ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل ، كقوله : عضوا عليكم الأنامل من الغيظ أو وضعوها على أفواههم ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك. أو وضعوها على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن يكفوا ويسكتوا . أو أشاروا بأيديهم [ ص: 3713 ] إلى أفواه الرسل أن اسكتوا . و (في) بمعنى (إلى) أو وضعوا أيديهم على أفواه الرسل منعا لهم من الكلام ، أو أنهم أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليقطعوا كلامهم . ومن بالغ في منع غيره من الكلام ; فقد يفعل به ذلك . أو أشاروا بأيديهم إلى جوابهم وهو قولهم : إنا كفرنا أي : هذا جوابنا الذي نقوله بأفواهنا ، والمراد إشارتهم إلى كلامهم كما يقع في كلام المتخاطبين ، أنهم يشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقررونه ، أو يقررون ثم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب . قيل : وهو أقوى الوجوه المتقدمة ; لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل كل الإنكار ، جمعوا في الإنكار بين الفعل والقول . ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يمهلوا ، بل عقبوا دعوتهم بالتكذيب . وفي تصديرهم الجملة بـ ( أن ) ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد .

وفي الثاني - أعني المعنى المجازي - وجوه :

قال أبو مسلم الأصفهاني : المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج ، وذلك لأن إسماع الحجة إنعام عظيم ، والإنعام يسمى يدا ، يقال : لفلان عندي يد ، إذا أولاه معروفا . وقد تذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد ، كقوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعم وأياد ، وأيضا العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أياد ، وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي ، وفي العدد الكثير الأيادي. فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي . وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت ، ونظير قوله تعالى : إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم فلما كان القبول تلقيا بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردا في الأفواه . انتهى .

[ ص: 3714 ] وفي (" الرازي ") تتمة الأوجه فانظرها إن شئت .

قال في (" العناية ") : فإن قلت : قولهم : إنا كفرنا جزم بالكفر لا سيما وقد أكد بـ ( إن) ، فقولهم : وإنا لفي شك ينافيه ، قلت : أجيب بأن الواو بمعنى أو ، أي : أحد الأمرين لازم وهو : إنا كفرنا جزما فإن لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه . وأيا ما كان ، فلا سبيل إلى الإقرار . وقيل : إن الكفر عدم الإيمان عمن هو من شأنه ، فكفرنا بمعنى لم نصدق ، وذلك لا ينافي الشك ، أو متعلق الكفر الكتب والشرائع ، ومتعلق الشك وما يدعونهم إليه من التوحيد مثلا . انتهى . أي : فلا ينافي شكهم في ذلك كفرهم القطعي بالأول .

وقوله تعالى : مريب بمعنى موقع في الريبة ، من (أرابه ) أوقعه فيها ; أو ذي ريبة ، من (أراب) : صار ذا ريبة وهي صفة مؤكدة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[10] قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين .

قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض أي : وهو مما لا مجال للشك فيه لغاية ظهوره .

قال ابن كثير : هذا يحتمل معنيين : أحدهما : أفي وجوده شك ؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به . فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة ، ولكن قد يعرض لبعض الفطر شك واضطراب فيحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده ، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه فاطر السماوات والأرض - أي : الذي خلقهما وابتدعهما [ ص: 3715 ] على غير مثال سبق - فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما . فلا بد لهما من صانع وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء وإلهه ومليكه . والمعنى الثاني : أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له ، شك ؟ وهو الخالق لجميع الموجودات ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له ، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى . انتهى .

وسبق لنا في سورة الأعراف البحث في أن معرفته تعالى ضرورية أو نظرية فارجع إليه .

وفي إدخال همزة الإنكار على الظرف إيذان بأن مدار الإنكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيما لا يكاد يتوهم فيه الشك أصلا ، وفي العدول عن تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا : (أأنتم في شك مريب من الله) مبالغة في تنزيه ساحة جلاله عن شائبة الشك وتسجيل عليهم بسخافة العقول .

وقوله تعالى : يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم أي : يدعوكم إلى الإيمان بإرساله إيانا ، لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهمه قولكم : مما تدعوننا إليه ولام ( ليغفر) متعلقة بـ (يدعو) أي : لأجل المغفرة لا لفائدته ، تعالى وتقدس . أو للتعدية أي : يدعوكم إلى المغفرة ، كقولك : دعوتك لزيد . و (من) إما تبعيضية أي : بعض ذنوبكم وهو ما بينهم وبين الله تعالى دون المظالم ، أو صلة على مذهب الأخفش وغيره ، من زيادتها في الإيجاب ، أو للبدل أي : بدل عقوبة ذنوبكم ، أو على تضمين (يغفر ) معنى (يخلص) .

وادعى الزمخشري مجيئه بـ (من ) هكذا في خطاب الكافرين دون المؤمنين في جميع القرآن . قال : وكان ذلك للتفرقة بين خطابين ، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد .

قال في (" الكشاف ") : وللتخصيص فائدة أخرى وهي التفرقة بين الخطابين بالتصريح [ ص: 3716 ] بمغفرة الكل ، وإبقاء البعض في حق الكفرة مسكوتا عنه لئلا يتكلوا على الإيمان .

وقوله تعالى : ويؤخركم إلى أجل مسمى أي : يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين أي : آية مما نقترحه تدل على فضلكم علينا بالنبوة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[11] قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون .

قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده أي : بالرسالة والنبوة : وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله أي : بأمره وإرادته ، وهو لم يرد ذلك ، لقوله : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون

وعلى الله فليتوكل المؤمنون قال الزمخشري : أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم وما يجري علينا منكم . ألا ترى إلى قوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[12] وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون .

وما لنا ألا نتوكل على الله ومعناه : وأي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه : [ ص: 3717 ] وقد هدانا سبلنا أي : أرشد كلا منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له ، وأوجب عليه سلوكه في الدين . وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في التوكل ، قالوا على سبيل التوكيد القسمي ، مظهرين لكمال العزيمة : ولنصبرن على ما آذيتمونا أي : من الكلام السيئ والأفعال السخيفة . وقوله : وعلى الله فليتوكل المتوكلون فيه اهتمام بالتوكل عليه سبحانه ; لأن مقام الدعوة يقتضيه . ولذا أعيد ذكره .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 13 - 14 ] وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد .

ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد يخبر تعالى عما توعد به الكافرون رسلهم ، لما رأوهم صابرين متوكلين ، لا يهمهم شأنهم من الإخراج من الأرض ، والنفي من بين أظهرهم ، أو العود في ملتهم . والمعنى : ليكونن أحد الأمرين .

والسبب في هذا التوعد - كما قال الرازي - أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين ، وأهل الباطل يكونون كثيرين . والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين . فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة . فإن قيل : يتوهم من لفظ (العود ) أنهم كانوا في ملة الكفر قبل ! أجيب : بأن ( عاد) بمعنى صار . وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى ، أو الكلام على ظنهم وزعمهم [ ص: 3718 ] أنهم كانوا من أهل ملتهم قبل إظهار الدعوة . أو الخطاب للرسل ولقومهم ، فغلبوا عليهم في نسبة العود إليهم .

وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم إلخ وعد صادق للرسل ، وبشارة حقة . كما قال تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون وقال تعالى : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها والآيات في ذلك كثيرة . والإشارة في (ذلك) إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين . وقوله : لمن خاف إلخ ، أي : للمتقين ; لأنهم الموصوفون بما ذكر كقوله : والعاقبة للمتقين و (المقام) إما موقف الحساب ، فهو اسم مكان ، وإضافته إليه سبحانه لكونه بين يديه ، أو مصدر ميمي ، بمعنى : حفظي وقيامي لأعمالهم ليجازوا عليها . أو مقحم للتفخيم والتعظيم كما يقال : المقام العالي . وياء المتكلم في (وعيد) محذوفة للاكتفاء بالكسرة عنها في غير الوقف .

قال السمين: أثبت الياء هنا وفي (ق) في موضعين : كل كذب الرسل فحق وعيد فذكر بالقرآن من يخاف وعيد وصلا ، وحذفها وقفا ورش عن نافع . وحذفها الباقون وصلا ووقفا .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[15] واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد .

واستفتحوا أي : سألوا من الله الفتح على أعدائهم ، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم .

[ ص: 3719 ] من (الفتاحة) وهي الحكومة كقوله : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق فالضمير : للرسل ، وقيل : للكفرة ، وقيل : للفريقين ، فإنهم سألوا أن ينصر المحق ويهلك المبطل . وقوله : وخاب كل جبار عنيد أي: فنصروا عند استفتاحهم وأفلحوا : وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم . أو استفتح الكفار على الرسل وخابوا ولم يفلحوا . وإنما قيل : وخاب كل جبار عنيد ذما لهم وتسجيلا عليهم بالتجبر والعناد . أو استفتحوا جميعا فنصر الرسل وأنجز لهم الوعد ، وخاب أعداؤهم . و (الجبار) المتكبر على طاعة الله تعالى وعبادته . و (العنيد) المعاند للحق ، كخليط بمعنى مخالط .
القول في تأويل قوله تعالى :

[16] من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد

من ورائه جهنم جملة في محل جر صفة لـ (جبار) كناية عن تطلبها له وترصدها إياه ، ومن تطلب شيئا وترصده أدركه لا محالة . وقيل : على تقدير مضاف ، أي : من وراء حياته وانقضاء عمره ويسقى من ماء صديد وهو ما يسيل من جوف أهل النار ، قد خالط القيح والدم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[17] يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ

يتجرعه أي : يتكلف تجرعه لقهره عليه : ولا يكاد يسيغه لخبثه : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت أي : تحيط به أسبابه من الأهوال ، وما هو بمستريح مما نزل به : ومن ورائه عذاب غليظ أي : شديد متصل لا ينقطع .

[ ص: 3720 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[18] مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد .

[18] مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد

المثل مستعار للصفة التي فيها غرابة. شبه تعالى أعمالهم اللاتي كانوا يعملونها لأوثانهم أو يراؤون بها - كإنفاق الأموال وعقر الإبل للضيفان ، في حبوطها ; لكونها على غير تقوى وإيمان - برماد طيرته الريح العاصف . وقوله تعالى : لا يقدرون إلخ ، مستأنف ، فذلك للتمثيل بمعنى المقصود منه ومحصل وجهه ، أي : لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء منها ، أي : لا يرون له أثرا من ثواب ، كما لا يقدر ، من الرماد المطير في الريح ، على شيء .

قال أبو السعود : الاكتفاء ببيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للأصنام ، مع أن لها عقوبات هائلة ; للتصريح ببطلان اعتقادهم وزعمهم أنها شفعاء لهم عند الله تعالى ، وفيه تهكم بهم . وفي توصيف الضلال بالبعد ، إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب .

و (اشتد به) من ( شد ) بمعنى عد والباء للتعدية أو ملابسة . أو من ( الشدة ) بمعنى القوة ، أي : قويت بملابسة حمله . و (العصف ) قوة هبوب الريح ، وصف به زمانها على الإسناد المجازي ، كـ (نهاره صائم) وخبر (مثل) محذوف أي : فيما يتلى عليكم . وجملة : أعمالهم كرماد مستأنفة جوابا لسؤال : كيف مثلهم ؟ أو ( أعمالهم ) بدل من ( مثل) و ( كرماد ) الخبر .

وهذه الآية كقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وقوله تعالى : مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #420  
قديم 29-04-2023, 07:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
المجلد العاشر
صـ 3721 الى صـ 3735
الحلقة (420)



[ ص: 3721 ] وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 19 - 20 ] ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز .

ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز الخطاب للرسول صلوات الله عليه ، والمراد به أمته . أو لكل أحد من الكفرة لقوله (يذهبكم) والرؤية رؤية القلب .

وفي الآية وجهان من التأويل : أحدهما : أنها سيقت لبيان قدرته تعالى على معاد الأبدان يوم القيامة ، بأنه خلق السماوات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس . أي : أفليس الذي قدر على هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات والآيات الباهرات ، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد وبراري وقفار وبحار وأشجار ونبات وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير

وقال تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم

[ ص: 3722 ] الوجه الثاني : ترهيب المشركين بأنهم غير معجزين ، أي : إن يشأ يهلككم إذا خالفتم أمره ويخلف قوما خيرا منكم ، كقوله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم وقوله : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا

وقوله تعالى : بالحق أي : بالحكمة المنزهة عن العبث كقوله : ربنا ما خلقت هذا باطلا وقوله : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا وقوله : ما خلق الله ذلك إلا بالحق وذلك ليتفكر في خلقها ويستدل بها على وجود بارئها وقدرته ووحدته .

ثم أخبر تعالى عن تخاصم المجرمين في المحشر وتبرئهم من بعضهم ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[21] وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص .

وبرزوا لله جميعا أي : اجتمعوا لحسابه وقضائه يوم القيامة في براز من الأرض ، [ ص: 3723 ] وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحدا ، أو برزوا من قبورهم ، أي : ظهروا لذلك : فقال الضعفاء وهم الأتباع : للذين استكبروا أي : على الرسل وهم قادتهم - توبيخا لهم : إنا كنا لكم تبعا أي : تابعين ، مهما أمرتمونا ائتمرنا : فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء أي : بعض الإغناء : قالوا أي : المستكبرون : لو هدانا الله لهديناكم إحالة لضلالهم وإضلالهم ، على مقامه سبحانه ، أو لو هدانا باهتدائنا ، ولكن زغنا فأزاغنا ، كما قال تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص أي : منجى ومهرب من العذاب . ونظير الآية قوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين

واستظهر ابن كثير هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها لآية : وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار

ولا يخفى أن الآية في هذه السورة تصدق بالتخاصم في الموقف وفي النار ; لإفادتها أن ذلك أثر بروزهم ، وهو صادق بما ذكرنا ، فلا قرينة فيها ; لكون ذلك في النار فقط ، كما ادعاه . وربما كان قوله : وبرزوا يدل للموقف بمعناه المتقدم . ثم إن هذا التخاصم يجوز أن يكون متعدد المواطن لظاهر قوله : عند ربهم وقوله : في النار ويجوز أن يكون مرة واحدة . والمراد بالنار العذاب ووقوفهم عند ربهم ، واليأس محيط بهم ، وجهنم ترقبهم ، عذاب وأي عذاب ! .

[ ص: 3724 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[22] وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم .

وقال الشيطان لما قضي الأمر وهو الحكم بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء : إن الله وعدكم وعد الحق أي : على ألسنة رسله بأن في إتباعهم النجاة والسلامة ، أي : فوفى به وأنجز : ووعدتكم فأخلفتكم أي : ووعدتكم وعد الباطل ، وهو أن لا بعث ولا جزاء . ولئن كان، فالأصنام شفعاؤكم. ولم يصرح ببطلانه لدلالة قوله : فأخلفتكم عليه . والإخلاف مستعار لعدم تحقق ما أخبر به وكذبه ، أو مشاكلة . وفي الآية من الإيجاز البليغ شبه الاحتباك . حيث حذف أولا (فوفى به) لدلالة قوله بعد : فأخلفتكم عليه لأنه مقابله ، وحذف ثانيا (وعد الباطل) لدلالة : وعد الحق

وما كان لي عليكم من سلطان أي : حجة وبرهان : إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي أي : أسرعتم لطاعتي بمجرد ذلك ، أي : وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاؤوكم به ، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه : فلا تلوموني أي : بوعدي إياكم ، إذ لم يكن بطرق القسر : ولوموا أنفسكم أي : حيث استجبتم لي باختياركم ، حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل . ولم تستجيبوا ربكم ، إذ دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبراهين والحجج .

قال القاشاني : لما ظهر سلطان الحق على شيطان الوهم وتنور بنوره ، أسلم وأطاع وصار محقا ، عالما بأن الحجة لله في دعوته للخلق إلى الحق لا له . ودعوته إلى الباطل بتسويل الحكام [ ص: 3725 ] وتزيين الحياة الدنيا عليهم واهية فارغة من الحجة . وأقر بأن وعده تعالى بالبقاء بعد خراب البدن والثواب والعقاب عند البعث حق قد وفى به . ووعدي بأن ليس إلا الحياة الدنيا باطل اختلقته . فاستحقاق اللوم ليس إلا لمن قبل الدعوة الخالية عن الحجة فاستجاب لها وأعرض عن الدعوة المقرونة بالبرهان فلم يستجب لها . انتهى .

وحكي في (" الإكليل ") عن ابن الفرس : أن بعضهم انتزع من هذا إبطال التقليد في الاعتقاد . قال : وهو انتزاع حسن ; لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه ، ولم يطلبوا منه برهانا . فحكى الله تقبيحا لذلك الفعل منهم . انتهى .

ما أنا بمصرخكم أي : بمغيثكم ومنجيكم من العذاب : وما أنتم بمصرخي أي : مما أنا فيه . قال ابن الأعرابي : الصارخ : المستغيث ، والمصرخ : المغيث ، يقال : صرخ فلان إذا استغاث وقال : واغوثاه ! وأصرخته : أغثته. فالهمزة للسلب ، يعني أزلت صراخه ، وهو مد الصوت إني كفرت بما أشركتمون من قبل أي : كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم - أي : في الدنيا - يعني : جحدت أن أكون شريكا لله عز وجل ، وتبرأت منه ومنكم ، فلم يبق بيني وبينكم علاقة كقوله تعالى : ويوم القيامة يكفرون بشرككم وقوله : وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وقوله : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا إن الظالمين لهم عذاب أليم ابتداء كلام منه تعالى ، أو تتمة كلام الشيطان .

قال الزمخشري : وإنما حكى الله عز وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت ; ليكون لطفا للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بد لهم من الوصول إليه ، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول ، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم .

ولما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال ، عطف بمآل السعداء بقوله سبحانه :

[ ص: 3726 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[23] وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام .

وأدخل الذين آمنوا أي : بالله ورسوله وكتابه : وعملوا الصالحات أي : الطاعات : جنات تجري من تحتها الأنهار أي : من تحت مساكنها وشجرها ، أنهار الخمر والماء والعسل واللبن : خالدين فيها بإذن ربهم متعلق بـ (أدخل) أي : أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره : تحيتهم فيها سلام أي : تحييهم وتكرمهم الملائكة بالسلام عليهم، كقوله تعالى: وقال لهم خزنتها سلام عليكم وقوله : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم

ولما بين تعالى ما أعد للمشركين والمؤمنين من المآل الأخروي ، ضرب مثلا للشرك والإيمان - بأن مآل الثاني الثبات والاستقرار ; لأنه الذي ينفع الناس ، ومآل الأول إلى الدمار والاندحار - فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[24-25] ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون .

ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت يعني في الأرض ضارب بعروقه فيها : وفرعها أي : أعلاها ورأسها : في السماء تؤتي أكلها [ ص: 3727 ] أي : ثمرها : كل حين بإذن ربها أي : بإرادته وتكوينه : ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون أي: لأن فيها زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني المعقولة بالصور المحسوسة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[26] ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار .

ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت أي : استؤصلت وأخذت جثتها بالكلية : من فوق الأرض أي : لأن عروقها قريبة منه : ما لها من قرار أي : استقرار .

تنبيه :

لحظ في الممثل به - أعني الشجرة - أوصاف جليلة لتلحظ في جانب الممثل له . فمنها : كونها طيبة ، أعم من طيب المنظر والصورة والشكل ومن طيب الريح وطيب الثمرة وطيب المنفعة . وكون أصلها ثابتا أي : راسخا باقيا في أمن من الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء ليعظم الفرح به والسرور . وكون فرعها في السماء فدل على كمال حال تلك الشجرة من جهة ارتفاع أغصانها وقوتها في التصاعد ، مما يبرهن على ثبات الأصل ورسوخ العروق ، وجهة بعدها عن العفونات والأقذار فتكون ثمرتها نقية طاهرة طيبة عن جميع الشوائب ، وكون ثمرتها تجتنى كل حين فلا تنقطع بركاتها وخيراتها . ولا ريب أن وجود هذه الأوصاف مما يدل على فخامة الموصوف وإنافة فضله . ولا تخفى مطابقة هذا الممثل به للممثل له - أعني الحق - وهو الإسلام الذي جاء به خاتم الأنبياء عليهم السلام .

ولما كان المثل مضروبا للحق والباطل في الثبات وعدمه ، والقصد أهلهما ; صرح بهما فذلك له ، فقال في أهل المثل الأول :

[ ص: 3728 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[27] يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء .

يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة القول الثابت : هو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة وهو الحق . و (بالقول) جوزوا تعلقه بـ (يثبت) و (آمنوا ) . والمعنى على الأول : ثبتهم بالبقاء على ذلك ، أو ثبتهم في سؤال القبر به ، وعلى الثاني فالباء سببية ، والمعنى : آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عما لا يليق بجنابه . و(في الحياة) متعلق بـ (يثبت) أو بـ (الثابت) كما قاله أبو البقاء . واقتصر الزمخشري وأتباعه على الأول حيث قال :

القول الثابت الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه فاعتقده واطمأنت إليه نفسه . وتثبيتهم به في الدنيا ، أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا ، كما ثبت أصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم لم يتلعثموا ولم يبهتوا ولم تحيرهم أهوال الحشر . وقيل : معناه : الثبات عند سؤال القبر . فعن البراء بن عازب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، قال : فذلك قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت » رواه الشيخان وأهل السنن .

[ ص: 3729 ] وعليه ، فتفسير الآخرة بالقبر ; لكون الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا .

وقال في أصحاب المثل الثاني :

ويضل الله الظالمين أي : يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم ، ووصفهم بالظلم لوضعهم الشيء في غير موضعه ، أو لظلمهم أنفسهم حيث بدلوا فطرة الله التي فطر الناس عليها : ويفعل الله ما يشاء أي : من التثبيت والإضلال حسبما تقتضيه حكمته البالغة .

القول في تأويل قوله تعالى :

[28-30] ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار .

ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا يعني كفار مكة ، أتتهم نعمة الله ، وهي التوحيد والإيمان والهداية ببعثة رسول من أنفسهم ، فبدلوا شكرها كفرا عظيما وغمصا لها : وأحلوا قومهم أي : ممن أضلوه وصدوه عن الهدى فتابعهم : دار البوار أي : الهلاك .

جهنم عطف بيان لها : يصلونها وبئس القرار وجعلوا لله أندادا أي : من الأوثان فعبدوها : ليضلوا عن سبيله أي : عن عبادته وحده : قل أي : تهديدا لأولئك الضالين المضلين : تمتعوا أي : بشهوات الحياة الدنيا : فإن مصيركم إلى النار

[ ص: 3730 ]
لقول في تأويل قوله تعالى :

[31] قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال .

قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم وهو يوم القيامة : لا بيع فيه أي : ليتدارك به التقصير ، أو يفتدى به : ولا خلال أي : مخالة . مصدر بمعنى المصاحبة ; أي : لا مفاداة فيه ولا خلة أحد بمغنية شيئا من شفاعة أو مسامحة بمال يفتدي به ، كما قال تعالى : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال ؟ قلت : من قبل أن الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات فيعطون بدلا ليأخذوا مثله ، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها ، أو خيرا منها . وأما الإنفاق لوجه الله خالصا ، فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص ، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في اليوم : لا بيع فيه ولا خلال أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله . انتهى .

قال أبو السعود : والظاهر أن (من) متعلقة بـ ( أنفقوا ) وتذكير إتيان ذلك اليوم لتأكيد مضمونه ، من حيث أن كلا من فقدان الشفاعة وما يتدارك به التقصير ; معاوضة وتبرعا ، وانقطاع آثار البيع والخلال الواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق في سبيله تعالى . أو من حيث إن ادخار المال وترك إنفاقه ، إنما يقع غالبا للتجارات والمهاداة . فحيث لا يمكن [ ص: 3731 ] ذلك في الآخرة ، فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت .

وتخصيص التأكيد بذلك لميل الطباع إلى المال ، وكونها مجبولة على حبه والفتنة به . ولا يبعد أن يكون تأكيدا لمضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضا، من حيث إن تركها، كثيرا ما يكون بالاشتغال بالبيوع والمخالات. كما في قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ولما ذكر أحوال الكافرين لنعم الله تعالى ، وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكرا لنعمه ; شرع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام ، حثا للمؤمنين عليها وتقريعا للكفرة المخلين بها ، الواضعين موضعها الكفر والمعاصي ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[32] الله الذي خلق السماوات والأرض وأنـزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار .

الله الذي خلق السماوات والأرض وأنـزل من السماء أي : المزن : ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم أي : تعيشون به : وسخر لكم الفلك أي : السفن : لتجري في البحر بأمره أي : بإرادته : وسخر لكم الأنهار أي : فتجري حيث تشاؤون من شرب وسقي وسواهما .
القول في تأويل قوله تعالى :

[33] وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار .

وسخر لكم الشمس والقمر دائبين أي : يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما [ ص: 3732 ] الظلمات وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات : وسخر لكم الليل والنهار أي : يتعاقبان خلفه ، لمعاشكم وسباتكم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[34] وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار .

وآتاكم من كل ما سألتموه أي : ما تحتاجون إليه مما تصلح أحوالكم ومعايشكم به ، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال.

وقال القاشاني : من كل ما سألتموه بألسنة استعداداتكم ، فإن كل شيء يسأله بلسان استعداده ، كما لا يفيض عليه مع السؤال بلا تخلف وتراخ : وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها لعدم تناهيها : إن الإنسان لظلوم أي: بوضع نور الاستعداد ومادة البقاء في ظلمة الطبيعة ومحل الفناء وصرفه فيها. أو بنقص حق الله أو حق نفسه بإبطال الاستعداد كفار أي : بتلك النعم التي لا تحصى ، باستعمالها في غير ما ينبغي أن تستعمل ، وغفلته عن المنعم عليه به ، واحتجابه بها عنه . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[35] وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام .

وإذ قال إبراهيم أي : اذكر وقت قوله صلوات الله عليه .

قال أبو السعود : والمقصود من تذكيره ، تذكير ما وقع فيه من مقالاته عليه السلام على نهج التفصيل . والمراد به تأكيد ما سلف من تعجبه عليه السلام ببيان فن آخر من جناياتهم ، حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم ، بعد ما كفروا بالنعم العامة . وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام [ ص: 3733 ] حيث أسكنهم بمكة شرفها الله تعالى لإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى . وسأله تعالى أن يجعله بلدا آمنا ويرزقهم من الثمرات ، وتهوي قلوب الناس إليهم من كل أوب سحيق . فاستجاب الله دعاءه ، وجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء . فكفروا بتلك النعم العظام ، واستبدلوا بالبلد الحرام دار البوار . وجعلوا لله أندادا وفعلوا ما فعلوا .

رب اجعل هذا البلد يعني البلد الحرام ، مكة المكرمة : آمنا أي : ذا أمن . أو آمنا أهله واجنبني وبني أي : بعدني وإياهم : أن نعبد الأصنام
القول في تأويل قوله تعالى :

[36] رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم .

رب إنهن أضللن كثيرا من الناس أي : كن سببا في إضلالهم . كما يقال فتنتهم الدنيا وغرتهم ، إشارة إلى أنه افتتن بالأصنام خلائق لا تحصى. والجملة تعليل لدعائه. وإنما صدره بالنداء إظهارا لاعتنائه به، ورغبته في استجابته : فمن تبعني أي: على ملتي وكان حنيفا مسلما مثلي : فإنه مني ومن عصاني أي : فخالف ملتي : فإنك غفور رحيم أي : فإنك ذو الأسماء الحسنى ، والمجد الأسمى ، الغني عن الناس أجمعين . وتخصيص الاسمين إشارة إلى سبق الرحمة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[37] ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون .

ربنا إني أسكنت من ذريتي أي : بعض أولادي . وهم إسماعيل ومن ولد منه : [ ص: 3734 ] بواد هو وادي مكة : غير ذي زرع أي : لا يكون فيه زرع : عند بيتك المحرم أي : الذي حرمت التعرض له والتهاون به : ربنا ليقيموا الصلاة أي : لكي يأتوا بعبادتك مقومة في ذلك الموضع . وهو متعلق بـ : أسكنت أي : ما أسكنتهم هذا الوادي إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وحدك . وتكرير النداء وتوسيطه ; لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة .

فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم أي : تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقا ، فيأنسوا ويتعارفوا فيتآلفوا ويعودوا على بعضهم بالمنافع : وارزقهم من الثمرات أي : فتجلبها إليهم التجار : لعلهم يشكرون أي : نعمة إقامتهم عند بيتك المحرم بالصلاة فيها ، على كمال الإخلاص والتوحيد ، مع فراغ القلب .
القول في تأويل قوله تعالى :

[38] ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء .

ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء لأن الكل خلقه : ألا يعلم من خلق

قال الزمخشري : المعنى : إنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا. وأنت أرحم بنا منا بأنفسنا ولها ، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب . وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك ، وتخشعا لعظمتك ، وتذللا لعزتك ، وافتقارا إلى ما عندك ، واستعجالا لنيل أياديك ، وولها إلى رحمتك . وكما يتملق العبد بين يدي سيده رغبة في إصابة معروفه ، مع توفر السيد على حسن الملكة .

[ ص: 3735 ] وعن بعضهم : أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح ، فأراد أن يذكره فقال : مثلك لا يذكر استقصارا ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين ، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها . انتهى .

وجوز في قوله تعالى : وما يخفى على الله من شيء إلخ ، أن يكون من كلامه تعالى ، تصديقا لإبراهيم ، أو من كلامه عليه السلام .
القول في تأويل قوله تعالى :

[39] الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء .

الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق أي : ليقوما مقامي في الدعوة إليه تعالى وبث الحنيفية وإقامة الصلاة بعد ذهابي : إن ربي لسميع الدعاء أي : مجيبه .

قال الزمخشري : وإنما ذكر حال الكبر ، لأن المنة بهبة الولد فيها أعظم ، من حيث إنها حال وقوع اليأس من الولادة ، والظفر بالحاجة على عقب اليأس ، من أجل النعم وأحلاها في نفس الظافر .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 439.08 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 433.24 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.33%)]