|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#471
|
||||
|
||||
![]() فكل الأوصاف التي يمكن عن طريقها أن يستدل على اللقطة يضبطها الواجد والملتقط ويحفظ ذلك، وإذا خاف النسيان كتبه، ثم بين عليه الصلاة والسلام أنه يعرفها سنة، فأمر عليه الصلاة والسلام أن يعرفها سنة وسنبين كيفية التعريف، وحكم التعريف، واشتمل الحديث على أنه بعد مضي سنة كاملة إذا لم يأت صاحبها فإنه يملكها أي: يملك اللقطة حكما واجدها، ولذلك قال: فهي وديعة عندك، فاعتبرها كالوديعة، بمعنى: أنه يملكها حكما، لكن ليست بالوديعة الاصطلاحية التي تقدمت معنا أحكامها، إنما أراد أن صاحبها كأنه وضعها عندك وديعة، أي: إذ أذن لك الشرع بأخذها والتصرف فيها، فإنما هو حكما لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبها لا تقول له: والله عرفتها سنة ولم تأت فأنا أملكها، إنما أراد أن يبين أنه بعد مضي سنة في حالة عدم إتيان صاحبها فإن من حقك أن تتصرف فيها، وتكون كالمالك لها لكن حكما، بحيث لو جاء صاحبها لم ترتفع يده الحقيقية عن ذلك المال، (فإن جاء صاحبها يطلبها يوما من الدهر) هذا فهي دليل على أنه سواء طالت المدة أم قصرت، فيده لا زالت باقية على المال، وطول المدة -كما يسمى في عرفنا بالتقادم- لا يسقط الحقوق، وهذا يرد على ما تسير عليه بعض القوانين الوضعية من إسقاط الحقوق بالتقادم، سواء كان في عقود المنافع أو عقود المعاوضات الأخرى، فتجد مثلا من يغسل الثياب يقول: إذا لم تأت خلال ستة أشهر فلا تسأل عن مالك، وهذا ليس له من أصل، ولا يعتبر شرعا موجبا للحكم، فصاحب المال أحق بماله متى وجده ولو بعد دهر من الزمان، فالعبرة في رجوع الحق إلى صاحبه، بغض النظر عن المدة طالت أو قصرت، فبين عليه الصلاة والسلام أنه مع كون الملتقط يتعب في السؤال عن صاحبه، ويتحمل مشقة التعريف، وعناءه وعبء الحفظ للمال، ويطول الزمان، ويتصرف في المال، ويأخذه حكما، ومع ذلك لا يسقط ذلك حق صاحبه، فالمال لصاحبه، فأموال المسلمين محرمة إلا إذا أذن بها صاحبها، أو أخذت باستحقاق أذن به الشرع. ثم بين عليه الصلاة والسلام النوع الثاني من اللقطة وهي ضالة الإبل، وسأله زيد رضي الله عنه عن ضالة الإبل، فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها) ، أي: لا خوف عليها، فالإبل لا يضرها شيء، ولو مضت المدة طويلة، لأنها تصبر على الماء وترد على الشجر وتأكل، ويستطيع صاحبها بالتحري والسؤال أن يجدها، ثم إن الإبل من المعروف أنها تحن إل أحكام تعريف اللقطة قال رحمه الله: [ويعرف الجميع في مجامع الناس غير المساجد حولا] . ما تقدم من الأشياء الملتقطة التي تأخذ حكم اللقطة يجب تعريفها، والتعريف مأخوذ من المعرفة، والمراد بذلك: أن يأخذ الإنسان بالأسباب التي يتوصل من خلالها إلى معرفة صاحبها. حكم اللقطة بعد انتهاء وقت التعريف قال رحمه الله: [ويملكه بعده حكما، لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها، فمتى جاء طالبها فوصفها، لزم دفعها إليه] . (ويملكه) أي: يملك المال الملتقط، (بعده) أي: بعد التعريف سنة، (حكما) لا حقيقة، بحيث يتصرف فيه فيجوز له هبته، أو التصدق به، لكن يتصرف به حكما لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبه يوما يطلبه ووصفه بالصفة التي يعرف بها؛ وجب عليه أن يضمن له مثله إذا لم يكن موجودا، وهذا هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (فليكن وديعة عندك، فإن جاء صاحبها يطلبها يوما من الدهر فأدها إليه) . لكنه لا يتصرف بالمال إلا بعد أن يعرف صفاته، فيكتب جنس النقود: ذهب أو فضة، ثم يكتب نوعها إذا كانت من الفضة -مثلا- ريالات أو من الدراهم، أو من أي عملة من العملات، وهل هي من فئة المائة ريال أو من فئة الخمسمائة، وهل هي محفوظة برباط أو مفرقة، وهل كلها في موضع واحد في حقيبة، أم مفرقة في مواضع، وإذا كانت موضوعة في شيء كأن تكون داخل كتاب هل هي مفرقة أو مجموعة، فيكتب الصفات التي يمكن أن يتوصل بها إليها. وتنقسم الصفات إلى: صفات خارجة عن الشيء الملتقط، وصفات ملتصقة بالشيء الملتقط، فالشيء الخارج مثل: الوعاء والرباط، وأرقام الحقيبة إذا أمكنه أن يعرفها، وكذلك نوعية الحقيبة ولونها، وهل هي قديمة أو جديدة، وصفة الحالة التي كانت عليها، والمكان الذي وجدها فيه، مثلا: في السوق، أو في الكرسي الذي يجلس عليه الإنسان، فالإنسان غالبا يتذكر مثل هذه الأشياء، فهذه الصفات الخارجة يضبطها ويكتبها، وهذا أحوط، فيكتب ملاحظات المكان الذي وجدها فيه، والصفات التي وجدها عليها في هذه الحقيبة. كذلك أيضا الصفات للمال نفسه، من جهة نوعه وقدره، وفي زماننا نوعية العملة، وقد يكون المال مشتركا من الريالات والدولارات، وقد تكون ثلاث عملات، فيكتب صفات هذه العملات وصفات وضعها في الحقيبة، وهل معها شيء آخر أو ليس معها، كل هذا يكتبه ويدونه، ثم يتصرف في المال، فيبيعه أو يهبه أو يتصدق به لمن يشاء، فإذا جاء صاحب اللقطة يسأله يوما من الدهر قرب الزمن أو بعد، فالواجب عليه أن يضمن إذا وصف بالصفات المعتبرة. إعطاء اللقطة لصاحبها إذا جاء وما يشترط فيه وفي الحقيقة لا يكلف صاحب اللقطة أن يصف صفات دقيقة؛ بل يكفي لو وصف صفات غير مكتملة ولكنها تدل على صدقه، والرجل معروف بالأمانة فنرضى به؛ إذ ليس كل أحد يستطيع أن يتذكر، فقد يضع الشخص المال في الحقيبة وهو لا يعرف هل هو مربوط أم لا، مثل الأشخاص الذين يكونون في تجارة، فتارة يربط المال وتارة لا يربطه، فلا يستطيع أن يتذكر أن هذا الشيء على هذه الصفة، فلا يحرج صاحبها ذلك الإحراج، بل هناك دلائل تدل فعلا على صدقه، فمثلا: شخص جاء وقال: لقد ضاعت علي حقيبة من النوع الفلاني، وكان ضياعها في المطار، أو في محطة السيارات الفلانية، وكان ذلك يوم الجمعة، وكنت أضعها بين رجلي تحت الكرسي، لكنه لا يستطيع أن يقول لك: الذي بداخلها من فئات المئات أو من فئات الخمسينات، لكنه يقول: إنها عشرة آلاف ريال، أخذتها ووضعتها في الحقيبة، وفي بعض الأحيان يمكن أن يصف لك وصفا صحيحا من الخارج لكنه يعجز أن يعرف ما بداخلها، ويعطي شيئا تقريبيا يغلب على الظن معه أنه ماله، وهو رجل معروف بالأمانة والاستقامة ومتدين، وفيه خير، فإذا جاء وقال: في اليوم الفلاني بعت واشتريت، فأدخلت مالا وأخرجت مالا، وقد خرجت من البيت ومعي عشرون ألف ريال، وبعت واشتريت بحدود خمسة آلاف ريال، وأظن أن المبلغ ما بين خمسة عشر ألف ريال وعشرين ألف ريال، فلا ينقص عن خمسة عشر ولا يزيد عن عشرين، فعندما تنظر إلى هذا الكلام، مع أمانة الرجل وعدالته، وشهود الناس له على صدقه، تطمئن غالبا له. إذا: الوصف من صاحب الوديعة لا يشدد عليه إلا في أحوال، مثل أن يعرف منه الاحتيال والكذب، وقد سبق أن جاء بعض الأشخاص وعرفوا بعض الصفات، أو استطاعوا أن يطلبوا بعض الصفات، حتى يغلب على الظن انحصارها في الصفة الفلانية، ففي هذه الحالة يحتاط الإنسان. فإذا: لا بد من النصيحة، وهذا يختلف باختلاف الأحوال وظروف الأشخاص، فإن المال إذا كان بين أمة معروفة بالصدق ليس كحال ما لو كان على العكس. وقوله: [فمتى جاء طالبها فوصفها، لزم دفعها إليه] . فلم يحدد زمانا معينا، ولا وقتا معينا، فهو حق لا يسقط بالتقادم -كما ذكرنا- بل يلزمه ويجب عليه دفع اللقطة إلى صاحبها. وقت انتهاء التعريف باللقطة قال رحمه الله: (حولا) أي: سنة. وقد اختلف العلماء في القدر الذي تعرف فيه اللقطة، فورد عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بالتعريف ثلاث سنين، ومن أهل العلم من ضعف الرواية عنه في ذلك؛ لأن الرواية فيها شك، حيث قال: (لا أدري قال: ثلاثا أو سنة) فضعفت؛ لأن في الرواية الصحيحة (حولا وسنة) ، فالثابت في السنة أنه يعرفها سنة كاملة، وعليه العمل عند جمهرة أهل العلم. فإذا قلنا: إن السنة هي الحد الأعلى، فتختلف الأموال واللقطات بحسب غلائها وقيمتها وتتبع همة صاحبها، فإذا كانت -مثلا- مائة ريال، فإنه تتبعها همة صاحبها، لكنها ليست بذلك المال الكثير الذي يكلف ملتقطه بالتعريف سنة، فيخفف في المدة، فيمكن أن تكون إلى ثلاثة أشهر، أو إلى ثلث السنة أو ربعها وهو ثلاثة أشهر، أو نصفها وهو ستة أشهر، فيكون ذلك على حسب الأموال نفسها، فإن كان المال له بال كعشرة آلاف ريال أو أربعة آلاف ريال، وله همة وله حاجة بحيث إن صاحبه قد يبحث عنه طيلة العام، فإنه يعرف سنة كاملة. هذا من حيث مدة التعريف، فيعرف سنة كحد أعلى، وبعد السنة يحكم بملكيته. وأما إذا كان دون المال الكثير، وتتبعه همة صاحبه ولكنه ليس بذاك الذي له قيمة غالية، كالكتب أو الثياب أو الملبوسات أو الساعات أو نحوها، فيمكن أن يعرف بعض السنة، ولذلك أفتى الإمام أحمد رحمه الله بالتعريف إلى شهر، وبالتعريف إلى ثلاثة أشهر، وبعضهم يفتي بالتعريف إلى جمعة واحدة، وذلك إذا كان الشيء تتبعه همة صاحبه، ولكنه ليس بذلك الشيء الذي له القيمة التي يكلف لأجلها بالتعريف سنة كاملة. (حولا) أي: سنة؛ لأن السنة فيها جميع الفصول، وإذا سقط منه في أيام من السنة، فربما لا يعود إلا فيما هو قريب منها أو مثلها، فالسنة هي غاية نهاية اليأس غالبا، فإذا مرت سنة فإننا نقول: إنه ضائع عن صاحبه، فجعلت السنة كحد أعلى. مكان التعريف باللقطة قال رحمه الله: (في مجامع الناس) . فيكون التعريف في مجموعة من الناس؛ لأنه حق ضائع، فكل شخص من أهل ذلك الموضع يحتمل أن يكون صاحب المال، فالتعريف يكون في مجامع الناس. ومجامع الناس مثل: أمام المساجد، بشرط أن لا يشوش على المصلين والذاكرين، وفي الأسواق العامة والخاصة؛ لأن الناس تجتمع فيها، والحدائق التي يجلس فيها الناس، وهكذا بالنسبة للأماكن الخاصة التي يرتادونها؛ كالمدارس ونحوها، والدوائر إذا كانت قريبة منها، فيكون التعريف في المجامع. وقوله: (غير المساجد) ، أي: داخل المساجد، فيجوز أن يعرف عند باب المسجد، بشرط أن لا يزعج الناس، ومن هنا يفرق بين وضع ورقة الضائعات داخل المسجد وخارج المسجد، فإنه منهي عن نشد الضالة داخل المسجد، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا قال: أيكم رأى البعير الأحمر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا رده الله عليك، ثم قال: من رأيتموه ينشد ضالته في المسجد، فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لذلك) ، وقال تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور:36] ، فالمساجد هي بيوت الله، وقد بنيت من أجل ذكر الله، ولم تبن لأمور الدنيا. وعلى ذلك فلا يجوز التعريف بالأشياء الضالة في المساجد، ولا نشدها في المساجد، ويجوز خارج المسجد، ويجوز أن يضع إعلانا، ولكن الأفضل أن لا يوضع على أبواب المساجد؛ لأن الإعلانات على أبواب المساجد لا تجوز، فمثلا: إذا كانوا يريدون استئجار محل، أو ينشدون شيئا ضائعا، فسينشغل الناس عن ذكر الله، ولذلك فإن الأفضل والأحسن صيانة المساجد، بحيث تكون على أطراف الجدران خارجة عن المسجد، أما أن يوضع على الباب نفسه فسيؤدي إلى مضايقة الناس ومضايقة الداخل والخارج، وقد يفتح الباب نفسه إلى داخل المسجد، فيكون حكمه حكم داخل المسجد، فلا يجوز وضع إعلانات الضالة على الأبواب، إلا إذا كان الباب إلى الخارج، وبشرط ألا يضر، لكن المشاهد أنه يضر، وأنه يشغل الناس عند خروجهم. وعلى هذا فينبغي أن يكون الإعلان في ركن المسجد، أو في طرف المسجد، أو بعيدا من الباب، ولا يضيق على الداخل والخارج، ولو وضعه على الباب فضيق على الداخل والخارج فإنه يحمل الوزر في ذلك، حتى الإعلان عن محاضرة يؤدي إلى تزاحم الناس عند المداخل، ولذلك فلا ينبغي أن يتسبب الإنسان بأذية المصلين الداخلين أو الخارجين، فيوضع الإعلان في مكان خاص، وكون الشخص يحرص على أن يعرف الكل، هذا ليس بمهم، المهم أننا نتقي الله عز وجل، ونضع لوحة الإعلان في مكان بعيد عن الباب، ومن يريد الخير سيأتي، فلو جاء عشرة من الذين يريدون الخير وممن هم أهل الخير، فإن هذا أفضل من الغثاء الذين لا خير في حضورهم، وقد يكون حضورهم فيه ضرر. حكم تعريف اللقطة وقد اختلف العلماء رحمهم الله: إذا وجدت مالا وكان المال مما تتبعه همة صاحبه، وحكمنا بكونه لقطة، فهل التعريف به واجب أو ليس بواجب؟ وجهان لأهل العلم رحمهم الله، أصحهما: أن التعريف واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وعليه جرى أمر الخلفاء الراشدين في فتاوى بعضهم، كـ عمر وعلي رضي الله عنهما وغيرهما، فقد أفتوا بالتعريف وألزموا به وأمروا به. وقت التعريف ابتداء ثم هذا التعريف فيه تفصيل عند العلماء، فيرى بعض أئمة السلف والعلماء رحمة الله عليهم أن الأسبوع الأول الذي وجد فيه المال يكون التعريف فيه أشد، بحيث يعرف فيه في كل يوم، ففي اليوم الأول والأسبوع الأول الأمر أشد، ففي اليوم الأول لا يقتصر على مجرد وجدانه؛ بل عليه أن يسعى بالسؤال والتحري في موضع المال الذي وجده فيه، أو في المظان، فإذا كان الموضع الذي وجد فيه المال فلاة، وبجوار الفلاة منتدى يرتاده الناس، أو مسجد يصلي فيه الناس، فيحرص على أقرب المواضع مما هو مظنة أن يجد صاحب المال فيه، أو يرتاده صاحب المال، فيسعى في اليوم الأول، ويكون جهده في التعريف أكثر من الأيام التالية؛ لأنه في اليوم الأول تكون الهمة أشد، والاعتناء أكبر. ومن الخطأ أن تجد البعض بمجرد أن يأخذ المال يذهب به إلى بيته، فيصير الالتقاط سببا في إضاعة المال على أصحابه، لأنه إذا لم يذهب به ربما جاء صاحبه ووجده في مكانه، فيصبح التقاطه على هذا الوجه مخالفا لمقصود الشرع، وعلى ذلك جعل العلماء رحمهم الله اليوم الأول من الالتقاط أشد من غيره، والتعريف فيه آكد من غيره، خاصة إذا وجدت الأمارة، أو القرينة، أو العلامة، كأن يكون -مثلا- مقصودا لعبادة كيوم الجمعة، فلو سقط المال في يوم جمعة -وهنا أمارة من الزمان على أن صاحبه سيعود إليه- فينتظر إذا وجد المال بعد صلاة الجمعة ويقف عنده ويحتسب الأجر عند الله عز وجل، ويسأل ويراقب من يأتي ويبحث، وهذه هي النصيحة لعامة المسلمين، فينصح لصاحب المال. وحبذا لو أن الخطباء يتعرضون لمثل هذه المسائل التي تتضمن بعض التنبيه على السنن الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم مما تعم به البلوى، فالناس اليوم -إلا من رحم الله- بمجرد أن يأخذ المال يذهب به، وربما يجده في بلد غير بلده، فيسافر بالمال، فيغرر بحق صاحب الحق. ولذلك فيجب أن يكون التعريف في اليوم الأول آكد وأشد، ثم الأسبوع الأول عند طائفة من أهل العلم يعرف فيه يوميا؛ لأن الغالب أن هذا الأسبوع يبحث به صاحبه، فإن لم يتيسر له العودة في اليوم الأول لعذر؛ تيسر له في اليوم الثاني، وإن لم يتيسر له في اليوم الثاني، تيسر له في اليوم الثالث إلى الجمعة، فإنه ربما لم يتيسر له في أيام العمل، فيأتي يوم الخميس والجمعة ويبحث عن ماله في موضعه. هذا بالنسبة للواجب في التعريف من حيث الأصل، أن حكمه الوجوب، ويكون في الأيام الأول آكد منه من الأيام الأخر، ثم بعد ذلك إذا قلنا بالتعريف سنة، فمن أهل العلم من قال: يؤكد التعريف أسبوعيا، ففي كل جمعة يقوم في الناس، أو يضع إعلانا، ويتحرى عن صاحبه ويسأل، ومن أهل العلم من قال: إذا بحث عن صاحبه في اليوم الأول والأسبوع الأول، انتقل الحكم إلى الشهر، وكلما جاء شهر يجدد التعريف والسؤال والبحث والتحري عن صاحب المال حتى يجده، فالحكم أن التعريف لازم له. ويصح أن يعرف بنفسه، أو يوكل غيره، فيقوم بنفسه ويقول: أيها الناس! ويذكر الشيء مجملا كما سيأتي في صورة التعريف، أو يوكل، أي: يقول لشخص: قم وناد: من ضاع له شيء فليأتني، من أجل أن يتعرف على الشيء الضائع، فيصح التعريف بوكالة من شخص آخر. التعريف باللقطة أما صفة التعريف: فالواجب أن يحذر، فلا يذكر من المال ما يمكن أن يتمكن من معرفته به، أي: لا يذكر الصفات التي تختص بذلك المال، أو يهتدى إليه عن طريقها، وإنما يقول: من ضاع له شيء فليأت، ولا يقول: من ضاع له ذهب، أو من ضاعت له حقيبة، فإن بعض العلماء يرى أن يجمل عموما؛ لأن أهل الشر ربما تجمعوا عليه أربعة أو خمسة، فلو قال: من ضاعت عليه حقيبة؟ لأتى الأول وسيعرف أن المال في حقيبة، فإذا قال له: ما لونها؟ قال: بيضاء، فإذا قال: ليست بيضاء، فيأتي الثاني فيقول: حمراء وخضراء، فيقرب أهل الشر إلى المال، ولذلك الأفضل والأحسن أن يبهم، فيقول: من ضاع له شيء فليأت، وإذا قلنا -على الوجه الأول-: إنه يبهم، فيشمل ذلك النقود وغيرها، وعلى الوجه الثاني يصح أن يقول -مثلا-: من ضاعت عليه ساعة؟ من ضاع له قلم أو كتاب؟ فيحدد الجنس، ويمكن أن يحدد النوع، لكن القول الأول أحوط وأفضل وأولى، فإنه أكثر دلالة على صدق صاحب الشيء؛ لأنه لو جاء أحدهم وقال: ضاعت علي حقيبة حمراء، وفيها عشرة آلاف ريال، ففي هذه الحالة تطمئن له؛ لأنك ما ذكرت له شيئا، لكن لو أنك قلت: من ضاعت عليه حقيبة وفيها نقود فليأت -على قول الإجمال- فسيأتي الأول ويقول: ضاعت علي حقيبة صفراء، فيها -مثلا- عشرة آلاف، والثاني يقول: ثمانية آلاف، حتى يصلوا إلى عين المال، فإنه يمكن إذا كانوا ستة أو سبعة أشخاص أن يعرفوا قدر المال، ولذلك فإن الاحتياط في هذا الأمر أولى، فيأخذ الإنسان بالاحتياط، نصيحة لصاحب المال، ولصاحب الحق. تعريف اللقطة إذا كان الملتقط قاصرا قال رحمه الله: [والسفيه والصبي يعرف لقطتهما وليهما] . هذه الجملة شرع فيها المصنف رحمه الله في بيان الركن الثاني، فعندما بين اللقطة، وصفة الالتقاط، شرع في بيان الشخص الملتقط، فلا بد أن يكون بالغا عاقلا، ولا يكون صبيا أو مجنونا أو سفيها، فالصبي ليس له ولاية على نفسه؛ وإذا كان لا يلي على نفسه فمن باب أولى أن لا يلي مال غيره، فإذا التقط الصبيان مالا وجاءوا به، فإننا نطالب ولي الصبي أن يقوم مقامه، فوالد الصبي يقوم بتعريف المال على الصفة التي ذكرناها، ووالد المجنون كذلك، أو المسئول عنه، فإن كان محجورا عليه لسفه، أو كان رقيقا، فالسيد يقوم مقام عبده إلا إذا أذن له بذلك. حكم أخذ ما يظهر أن صاحبه تركه قصدا قال رحمه الله: [ومن ترك حيوانا بفلاة لانقطاعه، أو عجز ربه عنه، ملكه آخذه] . عند العلماء شيء يسمى: (الأصل) ، وشيء يسمى: (الظاهر) ، ففي الشريعة تتعلق بعض الأحكام بالأصول ونقول: الأصل كذا، ونلقي الحكم على هذا الأصل، فمثلا: إذا كان عندك ماء في البيت وحوله أطفال، أو سقطت نجاسة حوله، وأنت لا تدري هل سقطت في الماء نجاسة أم لا؟ فنقول: الأصل واليقين أنه طاهر، ولا يحكم بنجاسته، أو كان عندك فراش يلعب عليه أطفال، فيحتمل أن البول أصابه أو أن النجاسة أصابته، فنقول: اليقين أنه ما حدث شيء من هذا، فهو طاهر حتى تتأكد وتتيقن من أن هناك نجاسة، فتبقى على الأصل دائما حتى تجد ما ينقلك عن الأصل، وهناك شيء يسمى: دلالة الظاهر، والظاهر يحتكم إليه ويعمل به، والشريعة أناطت به أحكاما، فيبني عليها المسلم، ولا ينتقل إلى ضد ذلك الظاهر حتى يدل الدليل على خلافه. فبالنسبة للحيوان، إذا كان الحيوان من جنس ما يأخذ حكم اللقطة، ولكن جاءت دلائل على أن صاحبه لا يريده، أو على أن صاحبه قد تخلى عنه، فهذه الدلائل إن كانت بصريح قوله، كأن يقول: أيها الناس! من يريد أن يأخذ هذا المال فليأخذه، فهذا صريح القول، وهناك دليل ظاهر، ليس بقولي لكنه فعلي، فتستبيح به الشيء، فتأكل وتشرب وتعتبره حلالا بهذا الظاهر، كما لو أن شخصا فتح على جدار بيته صنبورا وأخرجه على الطريق، ووضع براد الماء، فصار الناس يشربون من هذا الماء، فبمجرد أن تمر على هذا الصنبور تعلم أن صاحبه قد أذن بالشرب منه، وهذه دلالة الظاهر. ولو بنى مسجدا وفتح أبوابه علمنا أنه قد أوقف هذا المسجد، مع أنه لم يتلفظ بذلك، وليس هناك دليل صريح من عباراته، لكن دلالة الظاهر دالة على أنه قد تصدق بهذا الشيء. وأيضا: في القديم كان الناس على الخير ولا يزالون -وقد رأيت هذا بعيني على مسارح المدينة- فقد كانوا إذا أرادوا الصدقة بالنخل يغرس صاحب البستان نخلات خارج السور، ويسقيها من داخل المزرعة، فكل من مر يعلم أن هذه النخلات صدقة، وإلى الآن ما زالت توجد في قباء في بعض المزارع من مزارع قدماء المدينة، فتجد السور مبنيا وهناك أربع نخلات خارج السور، فهذه دلالة ظاهر على أنها صدقة، لكن لا يستطيع أحد أن يأتي إلى داخل السور ويدخل إلى النخل ويقول: إنه مباح؛ لأن السور حينما بني عليه دل على أنه لصاحبه، وأن صاحبه لم يأذن بالدخول فيه. فهذه كلها دلالة ظاهر، يعمل بها ويحتكم إليها على تفصيل في القول. ومن دلالة الظاهر: أنهم كانوا في القديم تسير القافلة من الإبل ثم يتركون أشياء وراءهم، فيعرف السابلة وابن السبيل أن هذه الأشياء تركت لمن جاء، فمثلا: تأتي إلى موقد وتجد فحما فتعرف أنهم تركوه استغناء عنه، فتملكه وتأخذه، فهذه دلالة ظاهر دالة على التنبيه والإذن بالانتفاع، ويكون تمليكا للمنفعة، وتارة يكون تمليكا للذات، فسواء كان تمليكا للمنفعة أو تمليكا للذات، فإنه يعمل بهذا الظاهر ويحتكم إليه. ومن هذا: المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله، فمن يترك حيوانا أو يترك مالا غير الحيوان، فهذه دلالة ظاهر دالة على الإذن بأخذه. ومن أمثلتها في الشريعة: تقليد الهدي، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أفتل قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم) ، فكانت الإبل وبهيمة الأنعام تهدى إلى البيت، وتوضع القلائد عليها حتى يعلم كل شخص يجدها في الطريق أنها للهدي، فيحفظها ويسوقها إلى البيت، ثم إذا عطبت ولم تستطع السير ولم يمكن إيصالها إلى البيت، نحرت، ثم لطخ دمها في رقبتها للإشعار، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في الصحيح- عندما أراد أن يحج حجة الوداع أشعر هديه وقلد هديه، فهذا الإشعار فائدته: أنها لو عطبت دون البيت ومرضت وانقطع السير، فإنها تنحر؛ لأجل من يمر من أهل السبيل إذا وجد عليها الشعار عرف أنها من هدي البيت، وأنها صدقة، فيأكل، ولهذا فإن الشافعية لما منعوا بيع المعاطاة، ولم ينزلوا الصيغ القولية منزلة الفعلية، استثنوا مسألة الهدي؛ لأن النص فيها واضح، والسنة فيها ماضية، فالشريعة جعلت دلالة الظاهر منزلة منزلة التصريح عن الباطن، وبناء على ذلك فإذا وجد شيئا ودلت الدلائل على أن صاحبه تركه، وأذن بأخذه، فإنه يؤخذ ذلك الشيء، ويملكه واجده. وقوله: (لانقطاعه) أي: لعلة الانقطاع، (أو عجز صاحبه عنه) ففي بعض الأحيان يعجز الإنسان عن أن يسوق حيوانه معه، فيتركه، ويرى أن من المصلحة أن لا ينشغل به، كأن يكون حصل ما هو أهم، فحينئذ يملكه من وجده، ولا يأخذ حكم اللقطة، فيستثنى من أحكام اللقطة.
__________________
|
#472
|
||||
|
||||
![]() حكم أخذ النعل ونحوه لمن وجدها مكان نعله قال رحمه الله: [ومن أخذ نعله ونحوه ووجد موضعه غيره، فلقطة] . انظر إلى الورع عند العلماء رحمهم الله، فإن الشخص يذهب ليصلي وينال أجر الجماعة، ويرجع إلى بيته بدون حذاء، فتقول له زوجته: أين حذاؤك؟ فيقول: سرقت، فيقع في إثم التهمة بالسرقة، فهنا يقول المصنف: (ومن أخذ) ولم يقل: (ومن سرق) ، ولذلك كان العلماء ينهون عن هذا، والشخص بنبغي له أن يتورع، فأنت إذا قلت: سرق، فإن هذا يعني أن الشخص الذي أخذ حذاءك سارق، وربما كان الشخص الذي أخذه كفيف البصر، فأخطأ في حذائك، أو شخصا استعجل ووقع يده على حذائك، ولربما ظن أنه مثل حذائه فأخذه، فإذا قلت: سرق، فهذه تهمة، ولذلك لا يقال: سرق، بل يقال: أخذ، أو لعلي وضعته في موضع غير الموضع الذي بحثت عنه فيه. قال رحمه الله: (ومن أخذ نعله) ، وهذا يقع كثيرا في مجامع الناس، فإنه يحصل الخطأ في أخذ الحذاء، وقد يكون هناك نوع من التعمد -نسأل الله السلامة والعافية- والإثم في هذا أعظم، فإنه إذا تقصد أخذ الحذاء وسرقته فهذا أعظم؛ لأن الظلم في بيوت الله أعظم من الظلم خارج بيوت الله عز وجل. ولأن من خرج من بيته لطاعة الله عز وجل فهو في ذمة الله عز وجل حتى يعود؛ لأنه خارج في طاعة الله وإلى بيوت الله، ولذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم في حكم المصلي، فنهاه أن يشبك بين أصابعه، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا عمد أحدكم إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه، فإنه في صلاة) ، ولذلك كره العلماء رحمهم الله إذا خرج الإنسان إلى المصلى أن يبيع أو يشتري في طريقه إلى المسجد؛ لأنه في حكم المصلي، فلا يشتغل بشيء يلهيه عن الصلاة. إذا ثبت هذا، فإن الأمر في أخذ الأحذية والتقصد بأذية الناس وأخذ أحذيتهم من المساجد، يعتبر اعتداء على المال، واعتداء على حرمة المصلي، وانتهاكا لحرمة المسجد، والأدهى والأمر إذا كان هذا في يوم شديد الحر فإن المشقة تكون فيه أشد، فيرجع الإنسان حافيا في وهج الشمس، وهذا يضره أكثر، فكلما ترتب على سرقته ضرر، فإن الإثم فيه أشد، ولذلك يعظم الأمر بحسب ما ترتب عليه من ضرر -نسأل الله السلامة والعافية- ولذا لزم على الإنسان أن يحتاط، ولذلك كان بعض الفضلاء إذا وجد حذاء يشبه حذاءه لم يأخذه، حتى ولو كان يشبهه، ولو كان أقل منه قيمة وفيه شبه، بحيث يغلب على ظنه أنه قد أخذ حذاؤه، بحيث يقول: هذا بهذا، وحقي أجود، لكنه ما كان يأخذه، فيتركه حتى يأتي صاحبه، أو ينوي الصدقة به على من أخذه، وهو الأفضل، ويحتسب الأجر عند الله عز وجل، وقد كانوا يستبشرون بعظم البلاء في الطاعة، فكانوا يقولون: من دلائل القبول كثرة البلاء في الطاعة، وتجد الناس قديما عندما يريدون الحج يجدون المشقة في السفر، ويجلسون الأيام والشهور وهم في رحلة الحج، فالأجر أعظم والثواب أكثر، لكن إذا كان الإنسان لا يجد المشقة، فهذا من كرم الله عليه. حكم أخذ ما يشبه ما تملكه إذا وجدته موضعه عوضا عنه وقوله رحمه الله: [ومن أخذ نعله أو نحوه] . كمن أخذ قلمه، أو أخذ كتابه، وهذا يقع كثيرا في الأشياء المتشابهة، فقد يقع هذا في غير النعل، لكن النعل أكثر؛ لأن النعل يمكن أخذه بدون أن يدري الإنسان، لكن إذا كان صاحبه بجواره فلا يمكن، فإذا وضعت كتبا يشبه بعضها بعضا، أو وضعت ألبسة، كأن يضع الإنسان ألبسته مع قوم وجماعة من الناس، أو النساء في بعض الأحيان يخلعن لباسهن من العبي وغيرها، فيحصل كثير من الخطأ فيها، فالأفضل للإنسان أن ينوي الصدقة، وأن يحسن الظن بأخيه المسلم، والله يأجره؛ فالأفضل أن تنوي الصدقة حتى يكتب لك الأجر، فلا يتشدد الإنسان؛ لأنه لو أخطأ عليه أخوه فما عليه فيه تبعة، قال تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} [الأحزاب:5] ، وهو بشر فلا يؤاخذ على الخطأ، فالأفضل لك والأكمل أن تنوي به الصدقه حتى تحصل على الأجر. وقوله رحمه الله: [ووجد موضعه غيره، فلقطة] . أي: في موضع الحذاء، فبعض العلماء يقول كما ذكرنا: لا يأخذ الحذاء، وليس من حقه أن يأخذه، لاحتمال أن حذاءه سرق، وأن هذا الحذاء لغيره، لكن المصنف يقول: (ووجد موضعه غيره) ومعناه: أنه وجد مكان حذائه حذاء الغير، وهذا التفات للظاهر كما ذكرنا، وعند العلماء شيء يسمى: تعارض الأصل والظاهر، وقد ذكرنا الأصل والظاهر، ففي بعض الأحيان يتعارض الأصل والظاهر، فهل نقدم الأصل أو نقدم الظاهر؟ بعض العلماء يقدم الأصل، وبعضهم يقدم الظاهر، فالحذاء إذا وجده في موضع كالمسجد فالأصل أنه لغيره، أي: أنه ليس لقطة؛ لأنه مكان يرتاده الناس، وليس عندك دليل على أن صاحبه قد أضله، فتتركه، والظاهر أنه ما دام قد وضع حذاءه مكان حذائي فمعناه أن صاحبه قد أخطأ في حذائه، فتسري عليه أحكام اللقطة؛ لأن صاحبه لن يعود؛ لأنه أخذ حذاء بدل حذائه، لكن هذا ليس على كل حال؛ لأننا لو نظرنا لوجدنا أنه ربما أخذ حذاءك وجاء شخص مسكين يريد أن يصلي ووضع حذاءه مكان حذائك، فهو يريد أن يصلي ويخرج، وعندما يخرج لن يجد حذاءه، ولذلك فليس كل من وجد مكان حذائه حذاء آخر يأخذه على أنه بحكم اللقطة، فربما كان لشخص آخر غير الشخص الذي أخذ حذاءك، خاصة في مجامع الناس، مثل المساجد والمدارس والأماكن التي يكون فيها تجمع الناس، أو يدخل فيها أناس ويخرج أناس، فمن الصعوبة بمكان أن تقول: إن هذا الحذاء الذي وجدته مكان حذائي هو للذي أخذ حذائي، ويأخذ حكم اللقطة؛ لأن الأصل أنه لصاحبه حتى يدل الدليل على أنه بحكم اللقطة، وعلى هذا فلا يأخذ حكم اللقطة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. الأسئلة السؤال هل تسري هذه الأحكام على لقطة الحرم؟ حكم لقطة الحرم الجواب اختلف العلماء رحمهم الله في لقطة الحرم؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحرم: (ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد -وفي رواية: إلا لمعرف) ، فهذا يدل في ظاهره على أن لقطة الحرم لا يحل أخذها إلا بقصد التعريف، وأنها لا تملك، بل تعرف للأبد، هذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله وبعض السلف. ومن أهل العلم من فصل في هذا الحديث فقال: حديث الحرم لا يعارض أحاديث اللقطة، فالأصل العمل بأحاديث اللقطة لأنها عامة، وجاء حديث الحرم: (لا تلتقط لقطته) لأن الناس في لقطة الحرم ينتابهم شعور لا يوجد في غير لقطة الحرم في الغالب، وهذا الشعور مبني على أن مكة يأتيها الزوار دائما، فربما استخف الناس بلقطتها فيئسوا من أصحابها، فأخذوها للتملك، ولم يأخذوها للتعريف، فجاءت السنة بهذا المعنى؛ لأن الأحكام أيامها لم تستقر بعد، فبين عليه الصلاة والسلام أن لقطة الحرم لا تؤخذ بقصد الملك، وإنما تؤخذ بقصد التعريف، فقال عليه الصلاة والسلام: (ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف -وفي رواية-: لمنشد) . وهذا الوجه يختاره الحافظ ابن حجر، وبعض الأئمة والشراح، وهو قوي جدا، وفيه الجمع بين النصوص. والذي يظهر أنه إذا عرفها وقام بها أنه يكفيه ذلك، لكن في الحقيقة لما وجد في زماننا من يقوم على هذه اللقطات، ووجدت مكاتب خاصة في الحرم، جرى العمل في فتوى بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، ومنهم الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله، حيث يرى أنها لا تملك، وأنها تكون لبيت مال المسلمين، وهذا يكون باختيار من ولي الأمر، وولي الأمر إذا اختار قولا من أقوال العلماء وجب العمل به، وما دام أنه أخذ بهذه الفتوى -والشيخ عبد الله رحمه الله عليه إمام زمانه، وإمام الأئمة فقها وورعا، وفتاويه موزونة بالفقه، ويعتبر من الأئمة والعلماء الذين جمعوا بين فقه الأثر والنظر، ومن يعرف الفقه ويعرف فتاويه يعرف دقته وبعد نظره والتزامه بمنهج السلف رحمهم الله في تقرير الفتوى، وآداب الفتوى وضوابطها، وهو رحمه الله العالم العابد الذي تنعم العين بفتواه، وممن اختارهم الله برحمته الواسعة- فينبغي على الناس الالتزام بهذا ما دام أنه وضع وجرى العمل به، فتضم إلى بيت المال، ويكون حكمها حكم الصرف إلى بيت المال، فيعمل بهذه الفتوى، وحينئذ لا يجري على الخلاف الذي ذكرناه، والآن قد هيئت مكاتب للضائعات خاصة في داخل الحرم، فترد وتصرف إلى هذه المكاتب، وهي تتولى شأن هذه الضائعات، والله تعالى أعلم. حكم االزكاة عن اللقطة إذا بلغت النصاب السؤال هل تخرج الزكاة من اللقطة إذا بلغت نصاب الزكاة؟ الجواب لا تفرض الزكاة من اللقطة إذا كانت خلال السنة والحول؛ لأن الملكية لصاحبها، والزكاة لا تصح إلا بالنية، فلابد أن يكون صاحبها قد نوى زكاتها، فلو أخرجها من التقطها فلا تصلح زكاة؛ لأنه لم يؤمر بها، ويد صاحبها لم تزل إلى الأبد، بل هي باقية في يده، ولذلك قال المصنف رحمه الله: (يملكها حكما) ، وعلى هذا فلا تجب زكاتها على الملتقط؛ لأنه ليس بالمالك الحقيقي، ولا بالموكل لإخراج زكاتها، والأصل في الزكاة أنها لا تصح إلا بالنية، ولا نية في ملك هذا، فلا تجب فيها الزكاة. وإذا قلنا: إنه لا تجب الزكاة على الملتقط، فإذا مضت سنوات ووجد صاحب اللقطة العشرة الآلاف، أو العشرين ألفا، فإنه يزكي عنها لسنة واحدة، هذا هو الذي عليه العمل عند جمهور العلماء رحمهم الله، أن المال إذا فات عن صاحبه ويئس منه ثم وجده، فإنه يزكيه عند وجدانه لسنة واحدة، وإن مضت عليه عدة سنوات. حكم الدعوة إلى المناسبات داخل المسجد السؤال هل تجوز الدعوة إلى الوليمة أو المناسبة في داخل المسجد؟ الجواب رخص فيها بعض أهل العلم وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد النكاح في داخل المسجد، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه زوج الواهبة نفسها داخل المسجد، فقالوا: إن في النكاح معنى التعبد، أي: العبادة، فليس هو مثل البيع الذي يحرم أن يعامل به؛ لأن في النكاح شيئا من التعبد، ودعوة الناس إليه دعوة إلى المحبة والإلف، وتحقيق مقاصد الشريعة، ففيه وجه في الإذن به. ومن أهل العلم من منع الإجابة، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إذا سمعتم الرجل ينشد ضالته في المسجد، فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لذلك) قالوا: إن جملة (إن المساجد لم تبن لذلك) تعليلية، كقوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بالماء والسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه طيبا ولا تحنطوه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) ، فدل على أنه منع نشد الضالة لأن المساجد بنيت للعبادة، والنكاح ليس بعبادة، والدعوة إلى الأكل ليست بذاتها عبادة في أصلها، فمنعوا من هذا، وإذا احتيط فهو أقرب، لكن إذا جرى العرف في موضع وعملوا بما رخص، فلا ينكر عليهم، ولا يشدد عليهم. حكم تملك الأرض ببناء الحائط عليها السؤال جاء في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحاط حائطا على أرض فهي له) ، ألا يفهم من هذا الحديث أن من أحاط السور على الأرض فقد أحياها وتملكها؟ الجواب ذكرنا في مسألة الإحياء أن الإحياء يكون على مراحل، ومنها: تسوية الأرض وبناء الحائط، وقلنا: إن بناء الحائط لا يوجب الملكية، فيشكل على ذلك هذا الحديث، وهذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة عند أحمد والترمذي، وسماع الحسن من سمرة فيه خلاف، ومن أهل العلم من صححه كله، وحكم باتصاله، كما هو صنيع الإمام الترمذي، ومنهم من ضعفه كله كما قال بذلك بعض أئمة الحديث، ومنهم من فصل فيه واستثنى بعض الأحاديث، وليس هذا الحديث منها. وهناك شيء مهم جدا في مسألة تحسين الأحاديث وتصحيحها والعمل بها إذا تضمنت معنى زائدا عن المعنى الثابت في الأصول، فالحديث الذي يأتي حسنا لغيره؛ أي: من روايات جمعت طرقها، ورقينا الحديث إلى درجة الحسن لغيره، فتدخله شبهة الرواية بالمعنى، فلا نجعل هذا الحديث معارضا لما هو أصح وثابت، فقوله: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) نص على الإحياء، (ومن بنى حائطا) فيه شيء من الرواية بالمعنى، وقد يطلق الحائط بمعنى البستان، ويكون في هذا نوع من التجوز في العبارة. لكن مسألة الاقتصار على الحائط نفسه أنه إحياء، فجمهرة أهل العلم على أنه ليس بإحياء، وفي ذلك سنة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد بينا أن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحيا) وجود الإحياء، فلو قلنا: إن بناء الحائط على ظاهره، والحديث فيه ما فيه، فإن هذا من الصعوبة بمكان، وتجد الآن أن بناء الحائط من أيسر ما يكون، ولربما جاء الرجل إلى قطعة من الأرض تبلغ الكيلومترات وأحاط بها في يوم أو يومين، وهذا تضييق على المسلمين، ومنع للمقصود من الإحياء، وحصول للضرر حتى على الناس من الإحياء بهذه الصورة، فكل شخص يبني له حائطا، وينتهي الإشكال، وفي هذا من الضرر ما الله به عليم، ولذلك فإن هذا الحديث -وإن كان بعض العلماء يرى تحسينه- لا يقوى على معارضة المحفوظ الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع معارضته للأصول، ولذلك ينبغي أن يكون الإحياء إحياء يثبت بمثله الحكم. الحكم في اشتباه الوعاءين بنجاسة وطهارة السؤال إذا اشتبه وعاءان أحدهما طهور والآخر نجس، فقد ذكرتم رحمكم الله في الدرس الخامس من الزاد أن هذا يجري على مذهب المصنف في التفريق بين القليل والكثير، والإشكال أن خليلا رحمه الله ذكر المسألة وهو لا يرى التفريق، فهل يمكن أن يقال: الوعاءان بعد اليقين بطهورية أحدهما ونجاسة الآخر، طرح فيهما شراب ونحوه مما لا يؤثر في الطهورية، فاختفت المعالم فلا يظهر لون ولا ريح، وجزاكم الله خيرا؟! الجواب في الحقيقة هذا إشكال جيد، والذي وضع هذا الإشكال أحسب أنه طالب علم، وهو إشكال في موضعه. ومختصر خليل هذا المتن معتمد عند متأخري المالكية، وقد اختصره من كتب كثيرة من مذهب المالكية، وهو من أوسع كتب المالكية التي بني عليها فقههم، خاصة من بعد القرن التاسع الهجري، والمالكية عندهم أن القليل الذي دون القلتين لو وقعت فيه نجاسة، فلا نحكم بنجاسته إلا إذا غيرت لونه أو طعمه أو رائحته. واشتباه وعاءين أحدهما طهور والآخر نجس يستقيم هذا على مذهب الشافعية والحنابلة، الذين يقولون: إن ما دون القلتين ينجس بمجرد وقوع النجاسة ولو لم تغيره، فيمكن أن يحصل الاشتباه، لكن عند من يرى أننا نحكم بانتقال الطهور إلى النجاسة بالتغير الحقيقي، قد لا تقع هذه المسألة، وهذا في الغالب، والكلام الذي ذكرناه في الشرح كلام صحيح ومستقيم ويمشي على الأصول؛ لأن المالكي يفرق بوجود أحد الأوصاف الثلاثة: اللون أو الطعم أو الرائحة، فإذا اشتبه عنده طهور ونجس، ذهب إلى النجس في أوصافه، إما طعم النجاسة أو لونها أو رائحتها. وذكر خليل للمسألة لا يشكل على الذي ذكرنا؛ لأن خليلا ذكرها لاحتمال آحاد الصور، ومعنى هذا: أنه يمكن أن يوجد إناءان، أحدهما نجس والآخر طهور، وتغير لون الطهور، لكن طعمه لا يوجد فيه طعم النجاسة، ورائحة النجاسة لا توجد، لكن لونه كلون الدم، والذي عنده الوعاءان رجل كفيف البصر، ففي هذه الحالة لا يستطيع أن يرى اللون، أو مثلا: يتغير طعمه، ويكون الشخص مصابا بالزكام، فلا يشم الرائحة أو يجد النكهة، وهكذا إذا كان سقيما عليلا لا يستطيع أن يميز الطعم للسقم، فالفقيه يجد لهم مخرجا على كل حال. فـ خليل رحمه الله عندما ذكر هذا ذكره لآحاد الصور، ونحن ذكرناه للغالب؛ لأن الغالب في المذهب أنه يقع على هذا الوجه، وأنه يمكن أن يقع الاشتباه على مذهب الشافعية والحنابلة، لكن لا يقع على مذهب من يفرق بين النجس والطهور من جهة اللون والطعم والرائحة، إلا أنه لا يمنع وجود بعض الصور في الأحوال المنفردة على ما ذكرنا، وهذا لا يرد على ما ذكرنا، فيمكن أن يقال: إن الإمام خليلا رحمه الله نبه في ذلك على بعض الصور، والله تعالى أعلم. توضيح حديث: (رب مبلغ أوعى من سامع) السؤال هل يفهم من قوله عليه الصلاة والسلام: (رب مبلغ أوعى من سامع) أن العالم قد يأتي بقول لم يسبق لأحد أن قال به؟ الجواب هذا أمر غريب! فقوله: (أوعى) الوعاء يحفظ الشيء، والمعنى: رب مبلغ أكثر حفظا من سامع، هذا وجه، وفي رواية: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ، وهذا ليس له علاقة من جهة أنه يستنبط مسائل لم يسبق إليها؛ لأن مراد الحديث: أن فتوح الله على العباد مختلفة، فهناك أناس أعطاهم الله الحفظ ولم يعطهم الفهم، ومنهم من أعطاهم الله الفهم ولم يعطهم الحفظ، ومنهم من جمع الله لهم بين الاثنين، وفضله، قال تعالى: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [الجمعة:4] . فنبه عليه الصلاة والسلام إلى أن الشريعة تحفظ بالأمرين: بالحفظ والفهم، وهذا دليل على مسلك من يأخذ بظاهر النصوص، ومن يأخذ بمعنى النصوص، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) ، فدل على أن العبرة بالفهم وبالوعي، ومن هنا قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} [ص:29] ، فجعل العلة التدبر والفهم، والتدبر من الدبر، ودبر الشيء: آخره، ولن تستطيع أن تفهم الشيء إلا إذا بلغت إلى آخره، ولا يمكن أن يصل الإنسان إلى تدبر الأشياء إلا إذا كان على قدم راسخ من العلم، يدرك فيه ظاهرها وباطنها، وهذا يحتاج إلى قراءة النصوص ومعرفة الأصول والفروع، وكيف تبنى الأصول على الفروع، وكل هذا يفهم من منهج السلف، والأئمة المتقدمين رحمهم الله. أما أن يأتي بفهم في قرننا أو حتى بعد القرون الأولى ويقال: إن هذا فتح من الله، فينبغي عليك أن تعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) ، ومعناه: أن تفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لم يفت الطائفة المنصورة، وإذا مرت عشرة قرون، والأمة لم تفهم هذا الفهم، ثم يأتي رجل في القرن الرابع عشر فيستنبط فهما ما سبق إليه، فمعنى هذا أن تكون الأمة كلها في ضلال عن فهم الحديث، ويكون هذا على صواب، وما أظن أن أحدا هكذا؛ لأن الله تعالى يقول: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} [النساء:115] . وهذا ليس بالعلم؛ لأن العلم الحق الذي زكاه الله من فوق سبع سماوات، زكاه بصفات منصوص عليها بآية في كتابه، قال تعالى: {بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين} [الأحقاف:4] ، فلا يكون العلم صادقا إلا إذا كان أثريا، وكان هذا الأثر مبنيا على نص ووحي؛ لأنه ربما يكون الأثر رأيا اجتهاديا ليس مبنيا على أصول، بل يصطدم مع الشريعة، والأثارة مبنية على علم، وهو الوحي الكتاب والسنة. إذا: لا نستطيع أن نفهم من النصوص فهما لم يفهمه سلفنا، ولا نستطيع أن نفسر القرآن بتفاسير عصرية تبالغ في جر القرآن وجر الآيات في تفسيرها، حتى نجد من يتبجح ومن ينتسب إلى فهم القرآن وهو ممن ليس عنده إيمان، ونقرأ تفسيره وكلامه وليس عنده إيمان بأصول التفسير، ولا يعرف منهج السلف في التفسير، ولا يعرف ماذا قال الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان في تفسير الآية، كقوله تعالى: {فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق * لتركبن طبقا عن طبق} [الانشقاق:16 - 19] ، فلقد سمعت من يشار إليه بالبنان في الإعجاز يقول: الآن نفكر أن نقول: إن معنى الآية هو الصعود إلى القمر؛ لأننا لا نصعد إلا آخر الشهر عند ضعف القمر لا إله إلا الله!! {فلا أقسم بالشفق} [الانشقاق:19] * {والليل وما وسق} [الانشقاق:17] * {والقمر إذا اتسق} [الانشقاق:18] آيات من الزمان مرتبة ترتيبا يقصد منه الكمال؛ لأن الله يقسم بأول الزمان وآخره، حتى يجمع الكل بقسمه سبحانه، ويقسم بأول الشيء وآخره للدلالة على ذلك الوقت بعينه، كقوله تعالى: {والضحى * والليل إذا سجى} [الضحى:1 - 2] ، {والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها} [الشمس:1 - 2] ، يقسم بالزمان والمكان تنبيها عليه، فقوله: (والقمر إذا اتسق) أي: اكتمل، وقوله: (لتركبن طبقا عن طبق) أئمة التفسير والصحابة يقولون: أي: أنكم ستمرون في المراحل التي فيها البرزخ، يبعثكم الله فيها، ثم طبق آخر، ومرحلة ثانية، ومراحل النشر، والخروج من القبور، ثم عرصات القيامة، من عرصة إلى عرصة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وهو الذي جادل فيه المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز أن نأتي ونلغي هذا التفسير كله، ونقول: إن معناه الصعود إلى القمر؟! لماذا هذا التهور والجرأة على كتاب الله وكلام الله؟! أنترك كلام المشايخ والعلماء ونأخذ بهذه النظرية، والنظرية قابلة للأخذ والعطاء؟! فليس بمجرد أن نسمع بنظرية نقيم الدنيا ولا نقعدها، ونجر كتاب الله من أجل هذا الاكتشاف، حتى إذا جاء من يخطئ هذه النظرية نخطئ كتاب الله عز وجل!! لا يمكن هذا، ولا يجوز هذا، ولذلك ينبغي علينا التورع والتحفظ، وأن نضرب بالأفهام عرض الحائط إذا خالفت أقوال السلف، فنحن أمة قديمنا جديد وجديدنا قديم، لا صلاح لنا إلا بما سار عليه سلفنا وأئمتنا، وثق ثقة تامة أن كل شيء ينزع عن سلفك الصالح أنه ضلال مبين، وأي شيء ينهاك عن اتباع السلف أو يشكك في علمهم، أو يخفف من حبك لهم؛ فاعلم أنه بداية الضلال والنهاية، وإذا أردت أن تلقى الله على السبيل والمحجة والهداية فاستمسك بالذي كان عليه السلف الصالح رحمهم الله، ولا تعتقد في كتاب الله أي فهم، ولو قلت: هو من عندي، حتى تعرف من الذي قال بهذا الفهم، وهل هذا الفهم مبني على علم ونور اتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأئمة المشهود لهم الذين زكاهم الله عز وجل، وجعلهم أئمة في هذه الأمة، واختارهم؛ كالسلف الصالح، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية والفضل، فإن كان ذلك فنعمت به العين، فليستمسك به الإنسان. ثم اعلم أن الاستمساك به أن تستمسك به بقوة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور) ، ومحدثات الفهم، ومحدثات المنهج، فأي شيء يخالف هذا المنهج الموروث، فإننا لا نقبله ولا نعمل به، والكرامة كل الكرامة في اتباع السلف رحمهم الله. وقد تجد ضالا أو مبتدعا يقول في دين الله ما لا علم له، فيكون جريئا على أقوال السلف ويضرب بها عرض الحائط، ويأتيك بفهم من عنده في كتاب الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإذا بلغت به الجرأة في كتاب الله وسنة المصطفى هذا الحد، فلماذا لا تكون جريئا على التمسك بالحق؟ كما قال علي رضي الله عنه -وهو يتعجب من أهل الأهواء-: (فواعجبا من اجتماع هؤلاء على ضلالة، وتفرقكم على الحق!!) . فينبغي أن نستمسك بالحق، وأي فهم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقبل إلا من عالم له الحق، أن يتكلم في كتاب الله وسنة المصطفى، وما كان عليه السلف الصالح من أحاديث ونصوص، وما وضعوا لها من قواعد في شرحها وفهمها، ووالله لو أفنينا أعمارنا في تتبع ما قاله الأئمة في دواوين العلم في تفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفنيت أعمارنا وما حصلنا من ذلك إلا على ما أذن الله لنا منه، فكيف يأتي الإنسان ويقول: إننا لا نحتاج إلى هذا كله، بل نفهم مباشرة؟! فربما يأتي الإنسان بفهم لا يفهمه الأوائل. فلا ينبغي ولا يجوز للإنسان أن يخون الأمة، وعلى كل طالب علم أن يتقي الله في علمه، فإذا جلس في مجلس علم، واستمع له الناس؛ فليعلم أنه على شفير جهنم، فقبل أن ينظر إلى مدح الناس، عليه أن ينظر إلى نار جهنم أمام عينيه إن زلت قدمه، أو أصابه الهوى في قلبه فأصبح يقول على الله ما لا علم له، فيجب أن لا تقول إلا بحجة، فإن الناس لم يأتوا يستمعون إليك -سواء في محاضرة أو في درس أو في كتاب تؤلفه في الإعجاز، أو غير ذلك من المسائل المستنبطة -إلا وهم يأمنونك على دين الله وعلى شرع الله، فينبغي أن تتقي الله فيما تقول، وتتقي الله فيما تقرر وفيما تبين، ولا بد أن نكون على شرع الله عز وجل الذي أمر به وأذن به لعباده، قال تعالى: {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس:59] ، وقال تعالى: {وما ظن الذين يفترون على الله الكذب} [يونس:60] ، ما ظنهم بالله سبحانه وتعالى؟! ولذلك قرن الله بالشرك أن نقول على الله ما لا علم لنا به، ولذلك ينبغي على المسلم أن يخاف الله عز وجل، وأن يجمع بين العلم وبين الخوف من الله سبحانه وتعالى، وأصل العلم الخشية من الله تعالى. فأقول: إن كل من يشككك في السلف، أو ينزع الثقة من السلف، بطريق مباشر أو غير مباشر، فلا تلتفت إليه ولا تعول عليه، ويكفيك ما عند السلف من العلماء المشهود لهم بالعلم، والذين اتصل سندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخذ بعلمهم ودع ما سوى ذلك، وإذا جاء شخص يقول: لا تتبع أحدا إلا أنا، وأنا صاحب السنة وحدي، فقد زكى نفسه على الله، والسلف تجدهم يقولون: قولي صواب يحتمل الخطأ، وهو كأنه يقول: قولي صواب لا يحتمل الخطأ، ويأتي ويقول بلسان حاله: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا قولي أنا! بدليل أنه يأتي إلى المسألة ولا ينبه إلى أن هناك قولا مخالفا، فيختار هو باختياره وفهمه، ولا يقول: على قولين أصحهما، أو هناك قول ثان وثالث؛ ويقول الله تعالى، ويقول عليه الصلاة والسلام ضابط اللحية وحكم أخذ ما زاد منها على القبضة السؤال هل يجوز أخذ شيء من اللحية؟ أو أخذ شيء منها مما ينبت على الخدين؟ وما هو حد اللحية؟ وما صحة ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأخذ ما فوق القبضة؟ الجواب اللحية عند العلماء فيها وجهان: فمن أهل العلم من قال: إن اللحية ما نبت على عظم اللحي والذاقن، فعظم اللحية الفكان، وعلى هذا فتخص هذا اللحية بما على الفكين، وما كان فوق مما على الوجنة أجازوا أخذه، وما نزل مما على الحلق أو على الرقبة وتحت الصدر مما يلي الرقبة يجوز أخذه، قالوا: إنه ليس بلحية، ولذلك لو نبت لشخص شعر على رقبته، ولم ينبت له على وجهه، فليست بلحية؛ لأن اللحية أصلها عند العرب من اللحي، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أرخو اللحى) جاء مخصوصا بهذا الوجه. هذا ما ذهب إليه طائفة من العلماء رحمهم الله، فرخصوا في حلق شعر الوجنة، وهو الشعر الذي على الخدين، وقالوا: يجوز أخذه حلقا أو تخفيفا. وبعض أهل العلم يقول: إن التعبير باللحية هو الأصل، وما قارب الشيء أخذ حكمه، ولذلك اعتبر أن اللحية ما نبت على الخدين، فلا يؤخذ منه شيء، وكذلك ما نبت على الرقبة مما يلي اللحية لا يؤخذ منه شيء. فمن ترجح عنده القول بأن اللحية على الضابط الأول وأخذ برخصته، فلا ينكر عليه، وله أئمة وله سلف، ومن أخذ بالقول الثاني، فذلك أتقى لربه وأورع، وهو أنه لا يأخذ مما على الخد شيئا؛ بل يتركه، لكن لا ينكر على من فعل ذلك؛ لأن له سلفا وله علماء، وهناك علماء أجلاء من أهل العلم من السابقين ومن الماضين ومن الأحياء يرى هذا القول، فلا ينكر عليه، ولا يحتقر العالم إذا بقيت لحيته على اللحي وتأول في ذلك قول من قال بهذا، فلا ينكر عليه لأن له وجها، وله سلفا، حتى إن قوله له أصل من اللغة، لكن الأورع والأتقى لله عز وجل أن يترك ذلك كله، وأن لا يؤخذ منه إلا السبلة وهي الشعر الذي تحت الشفقة السفلى، فقد كانت اليهود تتركها، ولذلك تجد الآن بعض الشباب يحلق اللحية كلها ويترك هذه السبلة، وهذا فعل اليهود، والسبلة قد خفف فيها بعض الصحابة حتى كان بعضهم يأخذها، ويأخذ بعضها ويخفف منها، ويقولون: إن هذا يرخص فيه من جهة العشرة الزوجية، فخففوا في هذا، وخففوا في الأخذ منها، ومن أطرافها، وقد جاء هذا عن بعض السلف رحمهم الله، فلا ينكر على من أخذ شيئا منها، لكن الأتقى أن يترك الإنسان ذلك كله، وأن يبقيه على الأصل، وهو إن شاء الله أولى بالصواب، وإنما ذكرنا هذا حتى لا ينكر على من خالف. أما ما ورد عن ابن عمر فقد ورد بأصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر، وهي السلسلة الذهبية، وهو أصح ما ورد عن ابن عمر، فليس هناك رواية وردت عن ابن عمر أصح من هذه الرواية، وهي أنه كان إذا حج قبض على لحيته، وأخذ ما زاد، وهذا الفعل للعلماء فيه وجهان: فبعض العلماء يقول: ابن عمر هو الذي روى حديث اللحية، وقد كان من ألزم الصحابة للسنة فلا يعدل عنها، ولا يحيد عنها، فكيف وهو في النسك؟! والرواية عنه واردة أنه كان إذا حج واعتمر قبض على لحيته، وأخذ ما زاد عن القبضة، وما تطاير من العارضين، ولم يستمسك إلا بما هو من أصل اللحية، فقالوا: إن ابن عمر كان حريصا على السنة، حريصا على اتباعها، فلن يفعل شيئا إلا وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وبناء على هذا القول يرى أصحابه أنه في حكم المرفوع، حتى إن بعض العلماء في تكبيرات صلاة الجنازة يرفع اليدين، ويقول: إنه لا يعقل عن ابن عمر أنه يرفع يده في الصلاة إلا وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، قال: فإذا كان هذا في الصلاة فكيف في الأمور التي هي دون الصلاة! ولا شك أن ابن عمر كان يسمى: الأثري، من كثرة لزومه للسنة، فقد كان يخرج من المدينة إلى مكة ولا ينزل إلا في المكان الذي نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومراده بذلك تحري السنة، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم متابعة تامة كاملة، فقالوا: لا يعقل من مثل هذا أن يفعل هذا الفعل في النسك من نفسه، خاصة أن الحلق والتقصير من النسك، فقالوا: إن الأشبه فيه أنه مرفوع هذا هو الوجه الأول. الوجه الثاني: بناء على هذا الوجه تكون السنة في اللحية إرخاؤها، فما زاد عن القبضة فمحل الرخصة، إن شاء تركه، وإن شاء أخذ منه، فإن أخذ منه فبناء على القول بأن فعل ابن عمر يكون فعلا من النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان؛ لأن الثابت عنه أنه كان إذا رجل لحيته ملأت صدره، وكان كث اللحية عليه الصلاة والسلام، فعلى هذا يكون هذا الفعل في بعض الأحوال إذا كانت مرفوعة، أما إذا كان هذا الفعل من ابن عمر اجتهادا، كما يقول بعض العلماء أنه كان يتأول قوله تعالى: (محلقين رءوسكم ومقصرين) [الفتح:27] ، فيحلق رأسه ويخفف من لحيته فيما زاد عن القبضة بالتفصيل الذي مضى؛ فيراه اجتهادا. وهذا القول في الحقيقة يسوغ فيه اجتهاد، فقوله عليه السلام: (أعفوا اللحى) أقل ما يصدق عليه اللحية يكون ما فعله ابن عمر، فيكون تفسيرا، بحيث نقول: إن ما دون القبضة لا يؤخذ به؛ لأن ابن عمر رضي الله عنه فسر اللحية بالقبضة فما فوق، فما دونها لا يجوز أخذه، والبعض يأخذ القبضة بأصبعه الإبهام والتي تليها، وهذه ليست بقبضة؛ بل هذا حلق؛ لأنه لا يبقى منها شيء، فلا ينبغي الاحتيال. وبعضهم يقول: المراد قبضة مطلقة، بحيث لو قبضت ابنته الصغيرة أو ابنه الصغير فهي قبضة، وهذا التلاعب لا ينبغي؛ بل يبقى كل على قبضته، فيقبض ويأخذ ما زاد عن قبضته، فإن أراد أن يأخذ بهذا القول فلا ينكر عليه، وإن أراد الأفضل والأكمل وهو أن يترك لحيته، فهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
__________________
|
#473
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب اللقيط) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (389) صـــــ(1) إلى صــ(25) شرح زاد المستقنع - باب اللقيط هذه الشريعة السمحة جاءت بالرحمة والإحسان، تدعو الخلق إلى رحمة بعضهم بعضا، والإحسان إلى بعضهم بعضا، ومن ذلك ترغيبها في حفظ اللقيط والقيام بشئونه وما يحتاج إليه، وفي ذلك أحكام كثيرة، ومسائل متنوعة؛ بينها أهل العلم رحمهم الله. تعريف اللقيط لغة وما يتعلق به من أحكام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب اللقيط] : اللقيط هو: الشخص الذي يلتقطه الإنسان ولا يعرف والداه، مأخوذ من الالتقاط، وأصل الالتقاط: رفع الشيء من الأرض، والمراد باللقيط: الطفل الذي لم يعرف أبواه، إما أن يكون منبوذا بمعنى: أن والده أو والدته وضعاه تخلصا من تبعته، كما يقع -والعياذ بالله! - من المرأة في حال زناها، أو يكون من الوالد والوالدة بتواطؤ منهما، كما يقع من بعض ضعاف النفوس في حال الفقر؛ أنهم ربما تخلوا عن أولادهم. واللقيط له أحكام، تكلم العلماء رحمهم الله عليها، ووردت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جملة من القضايا في حكم التقاط اللقيط، وما يترتب على ذلك الالتقاط. ومناسبة ذكر اللقيط بعد باب اللقطة: أنه نوع خاص مما يلتقط، ويرفع ويؤخذ، فاللقطة تقدم معنا أنها في الأموال، وأما اللقيط، فإنه في الإنسان خاصة، وسيأتي إن شاء الله تعريف اللقيط اصطلاحا كما سيذكره المصنف رحمه الله، ونبين حقيقته، فهو نوع خاص من الالتقاط، وتكون المناسبة بين باب اللقيط وباب اللقطة: أنه شروع في الخاص بعد العام؛ لأن الكل متعلق بالضائع والمفقود والموجود للغير. وهذا الباب يبين العلماء رحمهم الله فيه أمورا: الأمر الأول: حقيقة الملتقط، وهو الشخص الذي يلتقط. الأمر الثاني: حقيقة الشخص الذي يحق له الالتقاط. الأمر الثالث: صفة الالتقاط. فيبينون الأحكام والمسائل المتعلقة بوجوب النفقة عليه، وهل تكون من الملتقط أو من بيت مال المسلمين، والآثار المترتبة على هذا الالتقاط من حيث ولائه وميراثه وتبنيه، وغير ذلك من المسائل والأحكام التي تترتب على أخذ اللقيط. ولا يزال هذا الأمر موجودا في كل عصر، وفي كل زمان ومكان، ولا يختص وجود اللقيط بحال الخوف من الزنا أو الفقر، وإنما يقع في بعض الأحيان بسبب الضياع، كأن تفقد الأم صغيرها، أو يكون الولد مع والده، ثم يضيع عنه ويتيه، فكل هذا من أسباب وجود اللقيط. وقوله: (باب اللقيط) . أي: في هذا الموضع سنذكر جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بأحكام التقاط الأطفال. تعريف اللقيط اصطلاحا وأسباب وجوده قال المصنف رحمه الله: [وهو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه، نبذ أو ضل] . قوله: (وهو طفل) خرج البالغ، فالبالغ لا يوصف بكونه لقيطا، فمن بلغ لا نحكم بكونه لقيطا. ولكن لو أن بالغا وجده إنسان في مكان فيه أناس يخشى عليه منهم، وهو يستطيع حمايته ونصره وحفظه حتى يخرج من هذا البلاء، فإنه يجب عليه أن يحفظه، وأن يأخذه ويصونه وينصره؛ لأن من ولاية المسلم لأخيه المسلم أن ينصره ويحفظه وينصح له، وقد نص العلماء رحمهم الله: أنه لو جاء رجل غريب إلى موضع، وخشيت عليه أن يتعرض للضرر، أو غلب على ظنك أنه لو ترك وحده أوذي في ماله أو عرضه أو نفسه، فحينئذ وجب عليك نصرته؛ لأنه مسلم، والمسلم أخو المسلم لا يسلمه للضرر، ولا يخذله إذا استنصر به، وقد قال تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} [الأنفال:72] ، فالله سبحانه وتعالى أمر بنصرة المسلم، وقال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما، أو مظلوما) ، فلا يجوز التخلي عن حفظ المسلم ورعايته، متى احتاج إلى حفظك بعد الله سبحانه وتعالى، وأمكنك أن تقوم بهذا الحفظ، ولم يوجد غيرك؛ وجب عليك ذلك، أما لو وجد غيرك وقام بهذا، فإنه فرض كفاية، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين! والأطفال ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: من كان دون سن التمييز. القسم الثاني: من كان مميزا. من كان دون التمييز، فهذا بالإجماع لقيط، فإذا قلنا: التمييز من سبع سنوات، ووجدنا طفلا عمره سنة أو سنتين أو ثلاثا أو أربعا أو خمسا أو ستا، فهو دون التمييز، وبالإجماع أنه يكون لقيطا. لكن إذا بلغ سن التمييز، ففيه قولان للعلماء: من أهل العلم من يقول: اللقيط من كان دون التمييز من الأطفال، أما من ميز وبلغ السابعة، أو العاشرة على قول، فليس لقيطا، وبعضهم يقول: يربط التمييز بالصفة، فالصبي المميز هو: الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب، فمن كان كذلك فلا يعتبر لقيطا، ويتركه وشأنه إذا كان قد استقل بنفسه؛ لأنه في السابعة يستطيع أن يصرف نفسه، والصحيح أنه من كان دون البلوغ سواء كان مميزا أو دون التمييز، فإنه لقيط اعتبارا للغالب، وهو أن الشخص لا يكون خارجا عن هذا الوصف إذا وجد، إلا إذا كان بالغا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: الصبي حتى يحتلم) ، فهو لا عقل عنده، ولا حلم عنده ولا يؤمن أن يدخل الضرر على نفسه، ولذلك احتاج إلى رعاية، وقد قرر العلماء: أن قوام الالتقاط وأساس الالتقاط وموجب الالتقاط إنما هو خوف الضرر؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يرعى نفسه في مثل هذه السن؛ وذلك لفقد العقل والإدراك وحسن التصرف في الأمور، فمن كان دون البلوغ فإنه ينطبق عليه ذلك. وقد يحسن تصرف بعض المميزين في بعض الأحوال وهذا نادر، والنادر لا حكم له. إذا: اللقيط هو: من كان دون البلوغ على أصح أقوال العلماء رحمهم الله، سواء كان مميزا أو كان دون التمييز. وقوله: (طفل) عام يشمل الذكر ويشمل الأنثى، وهذا الطفل له صفات ذكرها بقوله: (لا يعرف نسبه) فخرج الذي يعرف نسبه، فلو جاء جار لجاره، أو ابن عم لقريبه، وقال له: إن أولادي كثر، وهذا ابني فلان، أريد أن أدفعه إليك، تحفظه وترعاه وتقوم عليه، فليس هذا لقيطا، وقد كان هذا من عادات الناس حتى في الجاهلية، فكان الأخ ربما يعين أخاه في رعاية أولاده، وهذا المنبغي على المسلم أنه إذا أحس أن أخاه بحاجة إلى إعانة؛ وذلك لكثرة ولده، وأحس أن هناك مشقة على أخيه وأهله؛ سعى في رعاية ولده مع ولده، وضم أولاده أو بعض أولاده إليه، تخفيفا عن أخيه، وهذا من أفضل البر، ومن أعظمه ثوابا، وأحسنه عاقبة، وبالأخص إذا كان القريب يتيما، كأن يموت أبوه، فيقول للأم: ضمي أولاد أخي إلي، أو اتركي أولاد أخي يأتون إلي، يطعمون من طعامي، أو يتولاهم بالرعاية والإحسان، فهذا لا يسمى: لقيطا، فلا يأخذ حكم اللقيط من كان والده معروفا ووالدته معروفة، أو والداه معروفين. فاللقيط هو مجهول الوالدين، فيوجد مثلا في مضيعة، كقافلة نزلت في مكان ونسيت هذا الولد، أو يوجد في برية، كأن يوجد في البساتين، أو يوجد في مجامع الناس، أو في الحدائق ونحوها، أو يكون ضائعا، كأن يوجد في الأسواق، أو في الأماكن التجارية التي ينتابها الناس، وهو يبكي لا يعرف والديه، أو يكون ممن لا يحسن الكلام, أو يكون طفلا في مهده يصيح ولا يعرف له والد، فهذا كله يأخذ حكم اللقيط، ويوصف بكونه لقيطا، لعموم قوله: (وهو طفل لا يعرف نسبه) ، والنسب في اللغة الإضافة، يقال: نسب الشيء إلى الشيء، إذا أضافه إليه، والنسب في اصطلاح العلماء هو: القرابة، ووصف القريب بكونه نسيبا؛ لأنه يضاف إلى قريبه، فيقال: محمد بن عبد الله، فهذه الإضافة نسبه، وكذلك يقال: ابن عم فلان، والنسب سمي: نسبا؛ لوجود الإضافة فيه. قوله: (ولا رقه) ، يعني: لا يعرف هل هو حر أو رقيق، فوجود الجهالة فيه مشترط للحكم بكونه لقيطا. قوله: (نبذ) ، أصل النبذ الطرح، وقد يطلق المنبوذ بمعنى المتروك من الناس، أي: الذي قد جفاه الناس وتركوه، فيطلق النبذ بمعنى: الجفاء كما قال تعالى: {فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا} [آل عمران:187] ، أي: جفوا كتب الله عز وجل وشرع الله سبحانه وتعالى، وكأنهم ألقوها وراء ظهورهم -نسأل الله السلامة والعافية- إعراضا عنها، وتركا للعمل بها. ويطلق النبذ بمعنى: الطرح، ومنه سمي النبيذ: نبيذا؛ لأنه ينبذ في الماء التمر أو نحوه، ثم يترك أياما حتى يوصف بكونه نبيذا، فالنبذ أصله الطرح، لكن هل اللقيط يكون منبوذا؟ اللقيط يترك في الحقيقة، وليس معناه أن أمه لا تريده، وليس معناه أن أباه لا يريده، ولكن المراد أن أمه أو أباه تجليا عنه لوجود ضرر كما في حالة -والعياذ بالله- زنا المرأة، فقد تزني المرأة بالغصب والقهر، وتستتر في حملها، وتختفي ولا تعلم أحدا بذلك، فإذا وضعت، أرادت أن تتخلص من تبعة هذا الضرر الذي دخل عليها، فتأخذ الولد إلى مكان وتتركه منبوذا، أي: متروكا. وقد يشق على والديه تبعة النفقة عليه، فيحمله والده أو تحمله والدته إلى مكان فيه أقوام أغنياء، فهي تحس أن الولد لو بقي عندها يتضرر، ولا تستطيع أن تأتيهم وتقول لهم: ربوا هذا الولد، فتتركه منبوذا حتى يشفقوا عليه , وتعطف قلوبهم عليه، فيحملوه، وقد تفعل ذلك لأسباب أخرى، وهذا حال النبذ، أما حال الترك والنسيان كما لو جاءت أمه إلى موضع ثم نسيته فيه. قوله: (أو ضل) كالطفل الذي يمشي ومعه والدته، ثم فجأة يتيه في زحام الناس، ولا يعرف أين ذهب، ويعجزها أن تجده، ففي هذه الحالة يكون ضائعا، وفي الحالة الأولى تكون هناك أسباب ودوافع للضياع من المرأة، أو من والد الطفل أو منهما معا، وفي الحالة الثانية: يكون ضياعه بسبب من الطفل نفسه لا من والديه. حفظ اللقيط فرض كفاية على المسلمين قال المصنف رحمه الله: [وأخذه فرض كفاية] . أي: وأخذ اللقيط فرض كفاية، والأصل في الالتقاط عمومات الشريعة وأصولها التي تدل على: أن المسلم مطالب برعاية أخيه المسلم ودفع الضرر عنه، وتحصيل الخير له ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فهذه نسمة بريئة، كما لو وضعت قصدا والذنب ذنب غيرها، كأن تكون بنت زنا والعياذ بالله! فلا تحمل إثم غيرها، ولا خطيئة غيرها. ففي هذه الحالة فإن الشريعة أوجبت على المسلم أن يرعى أخاه المسلم، وأن يسعى في حفظ النفس المحرمة، ولذلك قال تعالى: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} [المائدة:32] ، فالطفل الضائع لو لم يلتقطه أحد ربما أكله السبع، وربما داسته سيارة، أو نحو ذلك إذا كان في مكان خطر، فهو آيل إلى الهلاك إذا لم يلتقط، والله أمرنا بحفظ الأنفس المحرمة، وبين أن من أحياها وسعى في إحيائها -بتعاطي الأسباب- فكأنما أحيا الناس جميعا، قال بعض المفسرين: أي: في الأجر والثواب، فقوله: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) أي: أنه لو رحم هذه النفس، فإنه سيرحم كل الناس؛ لأن المعنى الموجود في هذه النفس موجود في غيرها. فلذلك أصول الشريعة العامة تدل على أن النفس المحرمة ينبغي السعي في استبقائها، ومن هنا قال العلماء: لو رأيت مسلما يغرق، وغلب على ظنك أنه يمكنك إنقاذه بسباحة أو رمي وسيلة تكون سببا في إنقاذه؛ فحينئذ يتعين عليك إنقاذه، ووجب عليك إنقاذه إذا لم يوجد غيرك يقوم بهذا. ومن هنا قالوا: التقاط اللقيط فرض؛ لأن حفظ الأنفس المحرمة والسعي في استبقائها واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذه نفس محرمة ضائعة، إذا لم نسع في نجاتها فإنها هالكة، وقد قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2] ، فمن أبر البر أن يحفظ المسلم ولد غيره، فهذا من بره لأخيه المسلم، وقد جاء عن: عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما حكما بالتقاطه، فجاء عن سنين أبي جميلة أنه وجد لقيطا، وقيل: إن أهله وجدوا لقيطا، فذهب به إلى عمر فلم يجده، ثم جاءه في اليوم الثاني، فلما قدم على عمر، غضب عمر رضي الله عنه، وقال كلمة ثقيلة في حق الرجل، وكان من عادة عمر أنه يجعل على كل قبيلة وجماعة عريفا، فقال العريف -واسمه سنان: يا أمير المؤمنين! إن الرجل معروف بالخير -يقصد أبو جميلة سنين - فقال عمر: أو ذاك؟ قال: نعم، قال: إذا كان كذلك، فهو حر -يعني اللقيط- ولك ولاؤه، وعلينا نفقته، وفي رواية: وعلينا رضاعه. فهذا يدل على مشروعية الالتقاط وضم اللقيط إلى ملتقطه، لقضاء عمر بذلك، ولا شك أن التقاط اللقيط من الأعمال الصالحة، والإجماع بين أهل العلم رحمهم الله منعقد على مشروعية الالتقاط في الجملة، وأنه يشرع على المسلم أن يلتقط اللقيط إذا وجده في ديار المسلمين. الحكم بحرية اللقيط على الأصل قال المؤلف رحمه الله: [وهو حر] . أي: أن اللقيط محكوم بحريته، قال العلماء: لأن الله جعل آدم وذريته من حيث الأصل أحرارا، والرق طارئ وعارض، فيصطحب الأصل بحريته، ولا نحكم بكونه رقيقا حتى يدل الدليل على كونه رقيقا، فيتبع من هو رقيق له، أما إذا لم يقم الدليل على ذلك بقينا على الأصل، فهو حر محكوم بحريته. والحر ضد الرقيق، والأصل في ذلك ما ذكرناه، وهو أن الأصل الحرية حتى يدل الدليل على الرق، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه -في قضائه في القصة التي سبق الإشارة إليها- أنه قال: وهو حر، ولك ولاؤه، فأثبت له الحرية، ويترتب على هذا الحكم مسائل، منها: مسألة جنايته على غيره، ومسألة جناية غيره عليه، وهل يملك أو لا يملك، فكل هذه مسائل تتفرع على الحكم بحريته، فلو أن هذا اللقيط اعتدى عليه أحد بعد سنة أو سنتين، كأن داسه بسيارته فمات، أو قتله بجناية خطأ، فإنه يلزمه دية، وتكون هذه الدية لبيت مال المسلمين، ولو فرضنا أنه جاء رجل وأقام شاهدين على أنه ولده، فحينئذ يحكم بكونه وارثا له، ويأخذ الدية ويستحقها. ولكن إذا حكم برقه فحينئذ يكون الأمر مختلفا، فدية الحر غير دية الرقيق، فيختلف الحكم من حيث الدية، وما يتبع الدية من مسائل الأحكام، وكذلك لو أنه جنى على شيء فكسره، وأتلفه، فالحكم يختلف إذا حكمنا بحريته وتتفرع مسائل: منها: أن يكون ولاؤه لبيت مال المسلمين، بمعنى: أن بيت مال المسلمين يحمل عنه العاقلة في جنايته، كما أن بيت مال المسلمين يستحق الدية إذا اعتدي عليه. حكم ما وجد مع اللقيط من المال الظاهر والمدفون والمتصل والقريب قال المصنف رحمه الله: [وما وجد معه أو تحته ظاهرا أو مدفونا طريا، أو متصلا به كحيوان وغيره أو قريبا منه؛ فله] قوله: (وما وجد معه) ، أي: إذا كان هذا اللقيط معه مال، حكمنا بملكيته للمال، وهذا ينبني على أن الصبي يملك، وقد اختلف الفقهاء: هل الصبي يملك أو لا يملك؟ إذا قلت: إن الصبي يملك، ففي هذه الحالة له يد على جميع ما معه من النقود، أو من اللباس، أو من الأشياء التي يجلس عليها، كالفراش ونحوه، وقد يكون فراشا ثمينا، أو يكون على دابة غالية الثمن، فجميع ما يتصل به من المال، يحكم بكونه مالكا له؛ لأنك إذا قلت: إنه لا يملك، فهذا المال يضم إلى بيت مال المسلمين؛ لأن صاحبه غير معروف، لكن لو قلت: إنه يملكه اللقيط، فهذا المال ينفق عليه. فهناك فرق بين قولنا: إنه يملك، أو لا يملك، والحكم عند العلماء أنه يملك، وجرت العادة خاصة إذا كان اللقيط من الزنا نسأل الله العافية! وكانت أمه ثرية غنية، أنها تشفق عليه، وتضع مالا كثيرا معه؛ لأنها تعلم أنه سينفق عليه سنوات، ومدة طويلة، فتضع المال بجانب الثوب الذي عليه، أو بين الثوب وبين صدره محمولا معه، أو في محفظة مربوطة به، أو ملتصقة بثيابه، أو تضع النقود تحت الولد بينه وبين فراشه، بحيث لو جاء أحد يحمله رأى النقود، فجميع هذه الأشياء يحكم بكون اللقيط مالكا لها، وإذا حكمت بكونه مالكا لها، جاز الصرف منها مباشرة، وهل يفتقر إلى حكم القاضي أو لا يفتقر؟ إذا قلنا بالقول الأول: إنه يملك، فإنه يصح بيعها مباشرة إذا كانت أعيانا، ولم تكن نقودا، ثم ينفق عليه منها، وإن قلنا: إنه لا يملك يرجع إلى القاضي، وينتظر حتى يحكم القاضي له، ويأذن له بالولاية عليه، ثم يأذن له بالتصرف فيما فيه مصلحته. وقوله: (أو تحته) ، أي: تحت الصدر مثلا أو بينه وبين فراشه، فهذه الأموال التي وجدت معه أو تحته، أو في جيبه، أو متصلة به؛ نحكم بكونها له، بدليل الظاهر، ونحن ذكرنا أن الدليل يكون أصلا، ويكون ظاهرا، فهذه من أدلة الظاهر، فإذا وجدنا لقيطا ووجدنا تحته نقودا، أو وجدنا في جيبه نقودا، فالظاهر من الحال أن وليه قد وضع هذه النقود لمصلحة هذا الصبي، وللقيام على شئونه، فنعمل بهذا الظاهر. وأما المال المستتر الخفي: مثل النقود المدفونة تحته، فهذه فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، هل يحكم بكونها من ماله أو لا يحكم بكونها من ماله؟! وسيأتي بيان الحكم في هذه المسألة. وقوله: (ظاهرا) بحيث يوجد دليل على الظاهر، والشريعة تحكم بالظاهر، ولذلك لو أن اثنين اختصما في بعير، أحدهما يركب في المقدمة، والثاني يركب في المؤخرة، فنحكم بكونه للذي في المقدمة؛ لأن ظاهر الحال أنه هو القائد، والقائد هو الذي يملك الدابة، ويتصرف فيها، وهكذا في زماننا لو اختصم اثنان في سيارة، أحدهما في مقعد السائق، والثاني في المقعد الخلفي، فإننا نحكم بالذي يقود؛ لأن الظاهر أنه مالك لهذا الشيء، وهكذا لو اختصما في شيء محمول، أحدهما يحمله، والثاني لا يحمله، فالظاهر يدل على أنه ملك للذي يحمله، فالظاهر تحكم به الشريعة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: كما في الحديث الصحيح: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) ، وهذا يدل على أن الظاهر يحتكم إليه، فنحن إذا ظهر لنا أن مع الصبي نقودا معلقة به، أو موضوعة في جيبه، أو موضوعة بجواره ملتصقة به، فإن هذا الظاهر يدلنا على أن هذه الأموال للذي وضعه، وقصد منها أن تكون لمصلحة اللقيط، فإذا قلت: إنها للقيط، فإنه يحكم بها له لما تقدم، أما لو لم تأخذ بهذا الظاهر، فإنه يصبح حكمه حكم اللقطة، فيصبح اللقيط له حكم، والمال الموجود معه له حكم آخر، والأول يعامل معاملة أحكام اللقيط والآدمي، والثاني -وهو المال الذي معه- يعامل معاملة اللقطة، والصحيح أنه ليس بلقطة، وإنما يؤخذ مع اللقيط ويكون ملكا له. وقوله: (أو مدفونا طريا) وذلك كما لو حمل اللقيط، ثم نبش الأرض تحته فوجد مالا، فهل نحكم بأن هذا المال المستتر الباطن حكمه حكم الظاهر؟!! من أهل العلم من قال: لا يحكم إلا بما مع اللقيط أو ملتصق به، كأن يكون بجواره، أو قريبا منه، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن الإنسان إذا جلس وضع رحله بجواره، ووضع متاعه بجواره، فما وجد بجوار اللقيط أعطيناه حكمه، والقاعدة تقول: ما قارب الشيء أخذ حكمه، فنحن نحكم للقيط بما قاربه؛ لأنه في حكم ماله وتابع له، لكن إذا كان مدفونا تحته فليس بملك له، ونعتبره لقطة، ويأخذ حكم اللقطة، سواء كان الحفر طريا، أو كان غير طري. ومن أهل العلم من فصل، وهو اختيار طائفة من العلماء، وممن اختاره القاضي ابن عقيل وغيره من فقهاء الحنابلة، فقالوا: إذا كانت الأرض التي تحت اللقيط هشة طرية، حديثة العهد بالنبش، وفيها مال؛ فإننا نعلم من دلالة الظاهر أنها موضوعة من أجل اللقيط، ويغلب الظن أنها للقيط، وحينئذ ينفق عليه منها، ويكون مالا له، وأما إذا كانت يابسة غير طرية، فنبشت ووجد مال، فنحكم بكونه لقطة، وتأخذ حكم اللقطة. وقوله: (أو متصلا به) أي: كحيوان متصل به، كأن يكون مربوطا بجواره، أو وجد متاع بجواره، كحقيبة فيها مال أو فيها ثياب له، ونحو ذلك. وقوله: (أو قريبا منه) أي: أن القريب منه يأخذ حكم المتصل به كالسجاد التي يجلس عليها، والفراش التي ينام عليها والحافظة التي يوضع فيها، فكل هذا يكون متصلا به. وقوله: (فله) ، أي: للصغير، فاللام للتمليك، والضمير عائد لهذا الطفل اللقيط، ويحكم بكونه مالكا له. الإنفاق على اللقيط من بيت مال المسلمين إذا لم يكن معه مال قال المصنف رحمه الله: [وينفق عليه منه وإلا فمن بيت مال المسلمين] قوله: (وينفق عليه منه) أي: ينفق ملتقطه من ذلك المال عليه؛ لأن المال ماله، فينفق عليه من ذلك المال. واللقيط إذا التقطه الإنسان فإنه لا يخلو من حالين: الحالة الأولى: أن يتبرع ملتقطه بالنفقة عليه، فإذا تبرع ملتقطه بالنفقة عليه، حفظ المال الذي معه، وإذا بلغ قال له: هذا مالك. الحالة الثانية: ألا يتبرع، فيقول: ما عندي مال، وأريد أن أنفق عليه، فحينئذ يبيع الأشياء التي معه إذا كانت لها قيمة، ولم يكن هناك نقد وسيولة، ويصرف عليه منها، فإذا صرف عليه ولم تكف المصاريف؛ رجع إلى بيت مال المسلمين، وهذا لمن يريد النفقة ويطالب بها، أما إذا تبرع من عنده فلا إشكال، وأما إذا لم يتبرع وأراد أن ينفق عليه من ماله، سواء كان غنيا أو فقيرا فإنه من حقه، فمن حق الملتقط أن يقول: لا أريد أن أنفق عليه؛ لأن الله لم يوجب علي نفقته، إلا في حالة ما إذا لو لم أنفق عليه لهلك، وكان في موضع لا يستطيع أن يأخذ له من بيت مال المسلمين، فينفق ويحتسب، وبعد أن يرجع له أن يطالب بيت المال، ويصرف عليه منه، على خلاف عند العلماء. كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وشريح وغيرهما من أئمة السلف يقضون بأنه إذا أنفق عليه ناويا الرجوع فلابد أن يقيمه الحاكم، وبعضهم يقول: يحلفه بالله أنه أنفق عليه وفي نيته أن يرجع، وقد تقدمت معنا مسألة من قام بمعروف لأحد دون أن يكون بينهما تعاقد، فإنه لا يستحق أجره، فمن غسل سيارتك دون أن تأذن له بغسلها، أو أصلح دارك دون أن تأذن له بإصلاحه، فإنه لا يستحق الأجرة، والإنفاق على اللقيط مثل هذا، فحينئذ لو أنفق على اللقيط بدون أن يكون هناك عقد، فالأصل يقتضي أنه ما يعطى، لكن مسألة اللقيط خارجة عن الأصل؛ لأنه يتعذر أن يخاطب القاضي، أما لو أمكنه أن يثبت فلا إشكال، لكن قد يكون في موضع لا يتيسر له الإشهاد، أما لو تيسر له أن يشهد الشهود، ويقول: أنا سأنفق عليه وأرجع بنفقته على بيت المال، فإذا أتى بالشهود وشهدوا بذلك استحق نفقته بعد بلوغه، أو إذا رجع إلى القاضي وطالب بالنفقة. وقوله: (وإلا) استثناء أن يكون له مال غير كاف، أو لم يجد معه مالا، فمن بيت المال. أقوال العلماء في الحكم بإسلام اللقيط قال المصنف رحمه الله: [وهو مسلم] . أي: اللقيط محكوم بإسلامه. واللقيط إذا وجد له حالتان: الحالة الأولى: أن يوجد في بلاد المسلمين. الحالة الثانية: أن يوجد في غير بلاد المسلمين. ففي الحالة الأولى: إن وجدناه في بلاد هي من حيث الأصل بلاد إسلامية كالجزيرة مثلا، فهذا لا إشكال أن الولد محكوم بإسلامه، وسنذكر الدليل على ذلك. الحالة الثانية: أن تكون بلادا إسلامية مفتوحة، والحكم فيها للمسلمين على الغالب، وإذا كان الحكم على الغالب فلا يخلو من صورتين: الأولى: أن يكون من في هذه الأرض -المحكوم بكونها تابعة لبلاد المسلمين- مسلمون، فلا إشكال، مثل البلدان التي فتحت وأسلم أهلها، فحكمها إلى حكم النوع الأول، محكوم بإسلامها، ومحكوم بإسلام أطفالها إذا وجدوا، ويعاملون معاملة أطفال المسلمين. الصورة الثانية من الحالة الثانية: أن تكون بلاد المسلمين بالغلبة وبينهم كفار، كما لو كانوا أهل ذمة، فتحت بلادهم وأصبحت بلادا للمسلمين، لكن فيها أهل كتاب عوملوا معاملة أهل الذمة. ففي هذه الحالة إذا وجد بين المسلمين كفار من أهل الكتاب، فإذا وجد لقيط هل نقول: إنه للمسلمين أو نقول: إنه لأهل الذمة؟ الأمر محتمل، لكن قالوا: يأخذ حكم المسلمين، ونقول: إنه مسلم؛ لأن الغالب وجود المسلمين والشعار للمسلمين، فإن كان أغلبهم من الكفار، والمسلمون فيهم قلة، فمذهب الجمهور أنه يحكم بإسلامه، حتى قال بعض العلماء: لو كان في هذا البلد الذي فتحه المسلمون وبقي فيه الكفار على دينهم وكفرهم، ووجد بينهم مسلم واحد، ويمكن أن ينجب وأن يكون اللقيط له؛ فإننا نحكم بأن هذا الولد مسلم، لاحتمال أن يكون الولد لهذا المسلم. وبناء على ذلك، يصبح كون الدار دار إسلام أمرا مهما في الحكم، سواء كانت دار إسلام أصلية أو كانت دار إسلام مفتوحة، وصار لها حكم غلبة المسلمين عليها، فإن كانت مفتوحة والغالب فيها مسلمون فلا إشكال، وإن كانت مفتوحة والغالب فيها الكفار فلا إشكال أيضا؛ لأننا نغلب حكم الإسلام، والشبهة قائمة لاحتمال أن يكون هذا الولد من المسلمين، وما دام هناك احتمال للمسلم على هذا الوجه، ووجود الغلبة للمسلم، فإننا نحكم بكونه مسلما، لكن الإشكال إذا كانت بلاد كفر، فإن كانت بلاد كفر، وليس بينهم مسلم، فالولد كافر، ومحكوم بكفره، وسنذكر الدليل، وإن كانت بلاد كفر، وفيهم مسلمون، مثلما كان في القديم وإلى الآن تجار يسافرون إلى بلاد الكفر، أو طلاب يدرسون في بلاد الكفر دراسات دنيوية، فما دام أن بينهم مسلما، فيرد السؤال هل نحكم على ظاهر الدار ونقول: الولد كافر؛ لأن احتمال وجود المسلم فيه ضعيف أم نقول: الولد مسلم؛ لأن بينهم مسلما؟ فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله. فإن حكمنا بكون الولد مسلما، سواء في دار المسلمين المحضة، أو في دار المسلمين التي غالبها مسلمون، أو في دار فيها أهل ذمة وبينهم رجل مسلم، أو دار الكفار الذين بينهم مسلمون، ففي هذه الأحوال كلها نحكم لهذا الولد بالإسلام؛ لأن السنة دلت على أن الأصل في الإنسان الفطرة كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، فحكم عليه الصلاة والسلام بأن المولود مولد على الفطرة، والفطرة هي التوحيد والإخلاص، كما قال طائفة من شراح الحديث رحمة الله عليهم، فيصبح الأصل كونه مسلما، ومن هنا قال بعض العلماء: لو ماتت النصرانية وفي بطنها جنين يقبل الجنين إلى القبلة، فيكون ظهرها إلى جهة القبلة ووجهها إلى غير القبلة؛ لأن الجنين الذي في بطنها إذا وجدت منه حركه ثم مات، يحكم بكونه في حكم المسلمين، وهذا مبني على أن الأصل في الإنسان أنه على الفطرة، وأن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. فإذا كان في بلاد المسلمين فالعمل على ظاهر الدار، وظاهر الدار يحتكم إليه، فإذا جئت في بلد إسلامية ومررت على شخص لا تدري أهو مسلم أو لا؟ فهل تسلم عليه أو لا؟ تسلم؛ لأن الدار دار إسلام، ولو وجدت ذبيحة فيها، وما تدري هل هي مذكاة شرعية أو لا؟ فتقول: الظاهر أنها من مسلم، وهذه المسألة يسمونها: العمل بحكم الظاهر، ويتفرع عليها ما لا يقل عن ثمانين مسألةمن المسائل الشرعية، فمسألة العمل على ظاهر الدار مسألة مشهورة عند العلماء رحمهم الله، فإذا كان البلد بلدا مسلما حكمنا بالأصل. يرد سؤال عندما قال: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، كيف حكمنا أن أولاد النصارى في حكم النصارى، وأولاد المشركين في حكم المشركين، وأولاد المسلمين في حكم المسلمين؟ الولد من حيث الأصل ليس بمسلم ولا بكافر، وهذا من حيث تصرفاته وإقراراته واعتقاداته؛ لأنه ما عنده عقل، ولا عنده إدراك حتى نقول: إنه مسلم أو كافر، وهذه المسألة مفرعة على قاعدة تكلم عليها الإمام العز بن عبد السلام كلاما نفيسا في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، وهذه القاعدة تقول: (التقدير: تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وتنزيل الموجود منزلة المعدوم) ، وهذه تتفرع عليها مسائل كثيرة جدا في العبادات والمعاملات، وقولهم: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود) يدخل فيها مسألة الطفل، فالطفل في المهد، لا ينطق بالشهادتين؛ لأنه في سن لا يتكلم فيه، حتى ولو كان في سن يتكلم فيه، فإنه لا يعقل ما يقول، فحينئذ نزلنا المعدوم وهو الإسلام منزلة الموجود، وهذا من جهة التقدير والحكم، ولهذا أصل، فإن الإجماع منعقد على سريان هذا الحكم بتنزيل المعدوم منزلة الموجود، مثال ذلك: لو قتل شخص وهو نائم، كأن داسته سيارة وهو نائم فمات، فهل نقول: قتل مسلما أو كافرا، أو نقول: لا مسلما ولا كافرا؟ الإيمان حال النوم غير موجود، لكنه لما كان قبل نومه مؤمنا مسلما، بقي على هذا الأصل، فنزل المعدوم حال النوم منزلة الموجود؛ لأن النوم من الموت كما قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر:42] ، فالشاهد أنه نوع من الموت، ولذلك لا يكلف صاحبه فيه، فنزل الإسلام المفقود منزلة الموجود، وحكمنا بكون المقتول مسلما؛ لأنه قبل نومه كان مسلما، فيبقى على هذا الأصل، وينزل المعدوم حال نومه منزلة الموجود ونقول: بكونه مسلما، أما لو داس كافرا وهو نائم، فإننا نقول: داس كافرا؛ لأنه قبل نومه كان كافرا. وهذه القاعدة فيها مسائل كثيرة، ومنها مسألة أغرب من هذه، فقد ذكر الإمام العز بن عبد السلام في هذه القاعدة مسألة لو أطلق رمى على فريسة فقال: باسم الله، وقبل أن يصل السهم إلى الفريسة مات هذا الرامي، وبعده ماتت الفريسة، فهل نحكم بكونها مذكاة ذكاة شرعية أو لا؟ وهل تؤكل أو لا تؤكل؟ إذا قلت: إنه ينزل المعدوم منزلة الموجود، فهو لما أطلق السهم وهو ذاكر لله، وتوافرت شروط الذكاة الأصلية وحصل الإزهاق، فينزل المعدوم منزلة الموجود، ولها نظائر كثيرة منها: لو طرأ شيء يمنع الميراث كالقتل، وفيها مسائل كثيرة في العبادات والمعاملات، فينزل فيها المعدوم منزلة الموجود، ومنها مسألة: اللقيط، فينزل الإسلام المعدوم منزلة الموجود، ويحكم بكونه مسلما، ويعامل معاملة المسلمين إذا حكمنا بكونه مسلما، فيترتب على ذلك مسائل في الجنايات وغيرها من الأحكام التي يفرق فيها بين الكافر وبين المسلم. ومما يتفرع على حكمنا بإسلامه: أن هذا اللقيط لو كان في بلد فيه يهود أو نصارى، فلما بلغ اختار اليهودية أو النصرانية، إن قلنا: إنه أثناء صباه محكوم بكونه مسلما، فلما بلغ كفر فتهود أو تنصر، وصار مرتدا، فحينئذ يستتاب فإن تاب وإلا قتل، أما إذا لم نحكم بكونه مسلما وتهود أو تنصر بعد البلوغ؛ والدار فيها قوم من أهل الذمة فإنه يلحق بهم ونأخذ منه الجزية، ولا يكون حكمه حكم المرتد ولا يقتل، فهناك فرق بين حكمنا بإسلامه وعدم حكمنا بإسلامه. وهناك مسائل كثيرة في الاستحقاقات، منها: إذا حكمنا بكونه مسلما، ثم تبين أن له أختا ادعت أنه أخوها، وبينه وبينها صلة ميراث، ثم ماتت وهي يهودية أو نصرانية، فما الحكم؟ كل هذا يتفرع على مسألة الحكم بكونه مسلما أو كافرا، إذا قلت: نحكم بكفره، ففي هذه الحالة لا يعطى من أموال بيت المسلمين، ولا يتحمل بيت مال المسلمين نفقته، وتلحق به أحكام الكفار، وإن حكمنا بكونه مسلما فلا إشكال على ما ذكرناه من الحقوق، فيصرف عليه من بيت مال المسلمين، ويكون ولاؤه للمسلمين غنما وغرما.
__________________
|
#474
|
||||
|
||||
![]() حكم حضانة اللقيط وشرط الحاضن قال المصنف رحمه الله: [وحضانته لواجده الأمين] أي: أن حضانة اللقيط لواجده الأمين، وهذا شبه إجماع بين السلف رحمهم الله، فحضانته والقيام على أمره، وتعهد مصاريفه وتكاليفه والأمور المترتبة عليه يتولاها من وجده؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قضى بذلك، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم، وهي سنة راشدة؛ ولأن واجده سبق غيره، ومن سبق إلى ما لم يسبق به فهو أحق، فالحضانة تكون لواجده. وشرط أن يكون الملتقط أمينا، وبناء على ذلك لو التقط اللقيط شخص معروف بالخيانة والعياذ بالله! أو ليست فيه أمانة، فقال بعض العلماء: ينزع منه اللقيط، ولا يبقى معه؛ لأنه ربما أخذه وباعه، وادعى أنه من مواليه، لذلك لا يؤمن عليه إذا كان فاسقا أو معروفا بالخيانة، ولأنه لو أعطي المال للنفقة عليه، ربما تركه وضيعه وأخذ المال وأكله، فلذلك لا تترك يده عليه، وقال بعض العلماء: الحضانة والكفالة تكون للواجد ولو كان خائنا، لكن يضم ولي الأمر عليه شخصا ثانيا أمينا، فيكون معه يراقبه، وكل هذا إثبات ليد الوجدان، فما دام أنه وجده فإنه أحق به من غيره، فإن كانت فيه صفة الخيانة قالوا: يمكن أن تجبر هذه الصفة بوجود شخص آخر معه، يراقبه، ويحفظ حقوق اللقيط. جواز الإنفاق على اللقيط بغير إذن الحاكم أو القاضي قال المصنف رحمه الله: [وينفق عليه بغير إذن حاكم] . قوله: (وينفق عليه بغير إذن حاكم) اختلف الفقهاء لو وجد إنسان لقيطا ووجد معه نقودا، هل يفتقر الحكم بالتصرف في هذه النقود بالنفقة على اللقيط إلى إذن وحكم القاضي أم أنه ينفق عليه مباشرة؟ الصحيح أنه لا يفتقر إلى قضاء القاضي، وإنما يقوم عليه من وجده ويتعاهده بالمعروف، ويتحمل المسئولية، ولا يحتاج إلى قضاء القاضي. حكم ميراث اللقيط وديته قال المصنف رحمه الله: [وميراثه وديته لبيت المال] . قوله: (وميراثه) أي: ميراث اللقيط. قوله: (وديته لبيت المال) أي: لو أن هذا اللقيط قتله شخص خطأ، فوجبت الدية، فإنها تصرف إلى بيت المال؛ وكذلك ميراثه إذا عرف والده، وليس له إلا والد، وثبت بشهادة الشهود أن هذا اللقيط ولد فلان، فورث من أبيه مثلا مائة ألف، ثم توفي قبل أن يبلغ ويتزوج ويكون له ذرية، فحينئذ ماله يذهب إلى بيت المال. وهكذا لو وجد شخص لقيطا، ووجد معه عشرة آلاف ريال، ثم بعد يوم أو يومين توفي هذا اللقيط، فماذا يصنع بالعشرة آلاف؟ تضم إلى بيت المال، ويرثه بيت المال، وهذا عين العدل؛ لأن بيت المال يتحمل خسارته، فله غنمه، وعليه غرمه، فبيت مال المسلمين هو الذي يقوم بالنفقة على اللقيط، والقيام بكل ما يحتاج إليه في نفقته، فإذا كان للقيط ميراث وتوفي فحينئذ استحقه بيت المال، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عائشة عند أبي داود، وهذا الحديث مجمع على العمل به-: (الخراج بالضمان) ومثله القاعدة المعروفة (الغنم بالغرم) ، فلما غرم بيت مال المسلمين عليه، غنم ميراثه، وبعض العلماء يقولون: يؤخذ هذا الإرث، ويصرف على اللقطة، ويكون إرث اللقيط للقيط آخر بالمجانسة، يعني: يكون في بيت مال المسلمين ونصرفه للقيط ومن في حكمه. حكم الولاية على اللقيط قال المصنف رحمه الله: [ووليه في العمد الإمام، يتخير بين القصاص والدية] . إذا عرفنا أن بيت المال يتحمل نفقته وخسارته، ويتولى ماله الموروث، يبقى السؤال في استحقاقات أخرى، فلو أن هذا اللقيط جنى عليه شخص وقتله عمدا، فما الحكم؟ هو لا يعرف له قريب فمن الذي يتولى أمره؟ فهل أمره إلى عموم المسلمين أم إلى ولاة المسلمين؟ إذا لم يكن له ولي يرث حق القود والقصاص، فإن ولي أمر المسلمين هو وليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فالسلطان ولي من لا ولي له) ، فحينئذ ولي الأمر هو الذي ينظر ويخير. وبعض العلماء يقول: ليس من حقه أن يطلب القصاص، ويسقط القصاص في هذه الحالة؛ لوجود الشبهة؛ لأن القصاص يكون للشخص الذي يملك، فلو أن أحدا قطع يدا لإنسان، فهذا الإنسان المجني عليه له أن يعفو أو يطلب القصاص، لكن إذا قتل ما نستطيع أن ننزل غيره منزلته؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ونشك هل السلطان وليه من كل وجه أو من بعض الوجوه؟ فحينئذ لا نستطيع أن نستبيح دم القاتل بإذن السلطان من هذا الباب. والصحيح أن السلطان وليه، وأن من حق السلطان -إذا رأى المصلحة- أن يأمر بقتل قاتله، وإن رأى المصلحة أن يأخذ الدية أخذها منه، فينظر للأصلح فيقضي به ويحكم به. بيان مسألة ادعاء اللقيط قال المصنف رحمه الله: [وإن أقر رجل أو امرأة ذات زوج مسلم أو كافر أنه ولده؛ لحق به ولو بعد موت اللقيط] هذه مسألة ادعاء اللقيط، إذا ادعى اللقيط شخص، وقال: هذا ولدي، فإن كان مسلما، فإننا نحكم بإقراره، ويضم هذا الولد إليه ويحكم به ما دام أنه ليس له منازع، لكن بشرط أن يكون هذا الشخص يتأتى من مثله أن يولد له هذا اللقيط، وإذا كان لا يتأتى من مثله أن يولد له، فقد قام الحس على تكذيب دعواه، والدعوى إذا كذبها الحس الصادق، فإننا نحكم بسقوطها، فلو أن رجلا في الثلاثين من عمره ادعى أنه والد اللقيط الذي لا يعرف والده، وقد بلغ اللقيط خمسا وعشرين سنة، فهذا دعاء كاذب؛ لأنه لا يمكن للشخص أن يولد له وعمره خمس سنوات، فالحس يكذب هذه الدعوى فتسقط. إذا: يشترط إذا كان مسلما أن يتأتى من مثله أن يولد له هذا اللقيط، فإذا لم يتأت من مثله أن يولد له، فحينئذ لا يحكم بكونه ولدا له. وقوله: (أو امرأة ذات زوج مسلم) أي: فيصبح في هذه الحالة أبواه مسلمين، فلو ادعت وقالت: هذا الولد ولده، فإننا نصدق المرأة؛ لأنه ربما هي التي فرطت في الولد، أو ضاع منها الولد، ونصدق الرجل؛ لأنه إذا أقر على نفسه، فمعناه: أنه سيقر على نفسه بهذا الولد، ويتحمل تبعة نسبته إليه، وفي الأصل أننا نصدق إقراره حتى يدل الدليل على كذبه في الإقرار، فما عندنا دليل على كذب الرجل ولا كذب المرأة، فنحكم بكونه ولدا لهذا الرجل وولدا لهذه المرأة. وقوله: (أو كافر أنه ولده) ، أي: تقول المرأة: هذا ولدي من فلان النصراني حينما كنت على النصرانية، فهي كانت ذات زوج كافر، ثم أسلمت وادعت هذا اللقيط، فحينئذ يضم اللقيط إليها. وقوله: (لحق به) كما ذكرنا. وقوله: (ولو بعد موت اللقيط) ، فيه خلاف، فبعض العلماء يرى: أن الدعوى تصح ما دام حيا، لكن بعد موته لا يحكم بهذه الدعوى، وأشار المصنف رحمه الله إلى ذلك بقوله: (ولو بعد موته) ، والصحيح أنه يقبل إقرار كل منهما، في حال حياة اللقيط، وبعد موته، لكن إذا ادعى بعد الموت أنه ولده، فهناك تهمة هي أنه سيأخذ الميراث، وخاصة إذا كان له ابن، فحينئذ يكون الإقرار فيه شبهة جر المنفعة، والإقرار إذا دخلته التهمة يكون ضعيفا؛ لأن التهمة تسقط الشهادة وتسقط الإقرار، فالإقرار بليغ وحجة لكن وجود التهمة فيه توجب ضعف العمل به، وبعض العلماء طعن في الإقرار بعد الموت؛ لأن كونه يسكت في حياته كلها، ثم بعد موته عندما أصبح لا عبء فيه ولا كلفة ولا عناء فيه، بل سيرثه، يأتي يدعي أنهولده، فيصبح هذا الأمر موجبا للتهمة في صدقه. حكم ادعاء الكافر للقيط قال المصنف رحمه الله: [ولا يتبع الكافر في دينه، إلا ببينة تشهد أنه ولد على فراشه] المراد بهذا هو الاحتياط لحق اللقيط، لا نقول بكونه كافرا ويأخذ حكم أولاد الكفار إلا إذا قامت البينة، بينما إذا أقر الرجل أو أقرت المرأة نقبل ذلك، ولكن نرفع عنه حكم الإسلام، بل يحكم بكونه مسلما، فالإقرار من الكافر محدود ولا يتعدى للقيط، فنقبل الإقرار على نفسه، ونضمه إليه، ونحكم بكونه ولده، ولكن لا نحكم بكونه منتقلا عن الإسلام إلا ببينة تشهد أنه ولد على فراشه، فأولاد الكفار من حيث الأصل يتبعون آباءهم وأمهاتهم، فيحكم بكفرهم من حيث الأصل العام، وبذلك يعاملون في الظاهر، كما أن أولاد المسلمين يعاملون في الظاهر بحكم المسلمين، فهذا من حيث التبعية، فهناك حكم من حيث الأصل، وهناك حكم من حيث التبعية. قد يسأل سائل ويقول: قد يتعارض هذا مع حديث: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، لكن لا يوجد إشكال ففي الغالب أنه سيتبع والديه، وهذا من جهة التبعية، والحكم بالكفر يكون بالتبعية، كما أن أبوي المسلم سيبقيانه على الفطرة. وقوله: (ببينة) ، تقدم معنا: أن البينة مأخوذة من البيان، وهي ما يظهر الحق ويكشف وجه الصواب، فالبينة سميت بذلك؛ لأنها تكشف الحق، وتظهر وجه الصواب، فلا يلتبس الأمر بها، وجعل الله عز وجل البينة شهادة الشاهدين، إلا ما اشترط أكثر من شاهدين كشهادة الزنا، فهذه البينة إذا ثبتت حكم بها، وهي الشاهدان العدلان. وقوله: (أنه ولد على فراشه) . أي: أنه ولد على فراش الكافر لقوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) ، فراش الكافر زوجته، فيقال: ولد اللقيط على فراشه، فحينئذ نلحقه بهذا الكافر؛ لأن الولد للفراش، والفراش هي المرأة، فإن كان زوجها مسلما فمسلم، وإن كان كافرا فكافر. حكم اعتراف اللقيط بالرق أو الكفر قال المصنف رحمه الله: [وإن اعترف بالرق مع سبق مناف، أو قال: إنه كافر لم يقبل منه] . تقدمت معنا هذه المسألة في الوديعة، وذكرنا: أن الاعتراف بالشيء مع السبق المنافي يوجب التهمة في الاعتراف، والصفة في ذلك أنه يكذب نفسه، وما نلمس العذر على وجود الاختلاف في الحالين، فإذا وجد العذر قبل منه، وقد فصلنا هذه المسألة في الوديعة. وقوله: (أو قال: إنه كافر لم يقبل منه) ؛ لأنه خلاف الأصل. بيان مسألة ادعاء جماعة للقيط، وحجية القيافة قال المصنف رحمه الله: [وإن ادعاه جماعة قدم ذو البينة، وإلا فمن ألحقته القافة به] أي: إن ادعى اللقيط جماعة أكثر من واحد، ففي هذه المسألة تفصيل: أن يدعيه اثنان، ويتنازل أحدهما للآخر، أو تدعيه جماعة، ويتنازل بعضهم لبعض، فيرجع بعضهم عن دعواه، فحينئذ لا إشكال، فالولد للمدعي الذي رجع غيره عن معارضته. أما أن يدعيه اثنان وكل منهما يصر على قوله بأن هذا الولد ولده، فهل نحكم بقول هذا أو بقول هذا؟ نحن ذكرنا: أنه إذا أقر شخص أنه ولده حكم له، فلو أن اثنين كل واحد منهما يقول: هذا ولدي، ففي هذه الحالة إما أن يقيما بينة، أو يقيم أحدهما بينة ويعجز الثاني، فإذا أقام أحدهما بينة وعجز الثاني حكمنا للذي أقام البينة، أما لو أقام كل منهما بينة، فالعلماء مختلفون في هذه المسألة، قيل: تسقط البينتان ثم نرجع إلى المرجح وهو القائف، والقائف هو: الذي يعرف الولد عن طريق الأثر، فينظر إلى الصبي، وينظر إلى الرجلين، ويلحقه بأقواهما شبها، فنرجع إلى القائف لترجيح أحد القولين. والقيافة دل الدليل على العمل بها، وأنها حجة مقبولة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بها، وبنى عليها أمورا، ففي الحديث الصحيح: (أنه دخل على عائشة رضي الله عنها، تبرق أسارير وجهه من السرور والفرح، وقال لها: ألم تري إلى مجزز المدلجي نظر آنفا إلى أسامة وزيد، وقد التحفا وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) ، وقد كان لون أسامة ووالده زيد مختلفين، وهو حب الرسول صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكان يطعن فيهما أناس من أهل الجاهلية، ويقولون: كيف أن هذا ولد هذا؟! فمر هذا المدلجي، وكان بنو مدلج معروفين بالقيافة، ومعرفة الأثر، فلما نظر إليهما وهما ملتحفان، وأقدامهما بادية ظاهرة، وكانا مستترين، ولم ينظر إلى وجهيهما ولا يعرفهما، فلما نظر إلى الأقدام قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فكذب من يطعن في نسبيهما، والقيافة تعرف بالقدم، وتعرف بالساق، وتعرف بالوجه، وتعرف باليد، وتعرف بغير ذلك مثل المشي، فلو مشى الولد ممكن أن يشابه والده أو عمه أو قريبه. فالقيافة تقوم على هذه الصفات، ففيها دلائل ترجح إحدى البينتين، إما أن ترجح قول هذا أو قول هذا. ومما يدل على حجية القيافة أيضا: أنه لما لاعن عويمر العجلاني رضي الله عنه امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلف الأيمان، وحلفت الأيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب) ، يعني: إما أنها كاذبة أو هو كاذب، فلا يمكن أن يكونا صادقين، هذا يقول: إنها زنت، وهي تقول: إنها لم تزن، وحلف كل منهما الأيمان، فقال: حسابكما على الله، يعني: لما تعارضت الأدلة انتقلت المسألة من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة؛ لأنه لا يوجد دليل نستطيع أن نحكم به، فارتفعت هذه المسألة عن قضاء الدنيا، ولذلك قال لها: (عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة) وذكرها بالله عز وجل لما أرادت أن تحلف يمينها الأخيرة، فلما حلفت وأصبح الأمر متعارضا قال عليه الصلاة والسلام: (انظروا إليه، فإن جاءت به على صفة كذا وكذا، فقد صدق وهي كاذبة، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا، فقد كذب وهي صادقة والولد ولده) ، فجاءت به يشبه من اتهمت بالزنا به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لولا الأيمان، لكان لي معها شأن) ، فهذا يدل على أنها كانت كاذبة، وهو قال: (انظروا فإن جاءت به، خدلج الساقين، محمرا محدودبا) ، وذكر صفات في الخلقة، وهذا يدل على أن القيافة لها حجية، وخالف في هذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله، والجمهور على أنه يحتكم إليها من حيث الجملة، وأنها ترجح الأدلة من حيث الجملة. فلو أن اثنين ادعيا الولد، فنأتي بقائف، وهذا القائف ينبغي أن تتوافر فيه شروط من أهمها: العلم بالقيافة، ونعرف أنه قائف بالسماع، وهذا يسمى: شهادة السماع، يعني: أن نسمع الناس يقولون: إن فلانا يجيد علم القيافة، أو خبير بالقيافة، وأنه من أهل القيافة، فإذا سمعنا هذا واستفاض بين الناس، فشهادة السماع والاستفاضة محكوم بها ومعمول بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل شهادة الناس حجة، فقال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (سل جيرانك، فإن قالوا: أحسنت فقد أحسنت، وإن قالوا: أسأت فقد أسأت) ، فهذا في أمر الشرع وهو أعظم، فالناس يحتكم إليهم وإلى شهاداتهم، وبناء على هذا إذا اشتهر بينهم أنه قائف حكمنا بذلك، ويمكن أن نختبره بأن نأتي بولد لرجل معروف، وندخل هذا الرجل بين أربعة أو خمسة رجال، ونقول: انظر هذا الولد أخرج والده من بين هؤلاء الرجال، فإن استطاع أن يخرجه، وعرفنا منه الدقة والإصابة مرتين وثلاثا، فحينئذ نعرف أنه من أهل القيافة، ونحكم بقوله، فيجمع هؤلاء الذين ادعوا الولد ويؤتى بالولد، ويقال للقائف: ألحقه بأقواهما شبها، أو ألحقه بأبيه، فإذا نظر وحدد أحدهم، فحينئذ لا إشكال، فنحكم بكونه ولدا للذي حدد، لكن لو أن القائف قال: فيه شبه من الكل، وهذا قد يقع بعض الأحيان، فيقول القائف: إنه يشبه الكل، كما يقع بين أولاد العم أو بين أخوين يتنازعان ولدا لقيطا، فهذا يقول: هذا ولدي، ويقول الآخر: بل هو ولدي، وهذا يمكن أن يقع؛ كأن يسافر ولدان في سفرة واحدة، وأحدهما مات، والثاني فقد، فقال أحد الأبوين: ولدي الذي فقد، أصبحا يتنازعان، والشبه في الإخوة وأولاد العمومة أقوى من أي إنسان آخر، فحينئذ يكون الأمر أشد، وتكون المهمة على القائف أشد، وقد يقول القائف: الشبه فيهما، يعني: ما أستطيع أن أرجح هل هو لهذا أو هو لهذا؟! فإذا تحير القائف أو قال: الشبه فيهما، فذهب طائفة من العلماء إلى أنه يخير الولد بينهما، وجاء عن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أنه ادعى والدان الولد اللقيط، فقال له: عمر اختر أيهما شئت، وفي رواية: والي من شئت منهما، يعني: الذي تختاره منهما هو والدك، والنفس تحن، ففي بعض الأحيان تجد الإنسان يحن إلى شخص أكثر من الآخر، ويقع هذا بين الأبناء، فهذا يعقوب عليه السلام يقول كما حكى عنه عز وجل: {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} [يوسف:94] ، وكان منه على بعد مئات (الكيلومترات) ، فيقولون: يقع هذا في بعض الأحيان، وذكروا عن هلال بن أمية: أنه لما خرج ابنه أمية بن هلال إلى الجهاد، وكان من أبر الناس وأرضاهم لوالده، حتى ضرب به المثل في البر، فلما خرج إلى الجهاد، تعب أبوه وذهب بصره، واشتد عليه الأمر، حتى قال فيه الأشعار، فبلغ عمر أمره، فكتب إلى أبي عبيدة: إذا جاءك كتابي هذا، فلا تلبث حتى تبعث إلي بـ أمية بن هلال، وكان الأمر سرا، وقال: لا تخبر أحدا، فجاء أمية ولم يشعر عمر إلا وأمية على رأسه، وقال: أنا أمية بن هلال، فقال: اجلس، ما بلغ بك من برك بأبيك؟ فذكر أمورا من البر حتى بكى عمر رضي الله عنه، فقال له: احلب الناقة، ثم أمر بـ هلال فأتي به، فلما جاء هلال، قال: ما بلغ من بر ولدك بك؟ قال: كان يفعل وكان يفعل، فأجهش عمر بالبكاء مما ذكر من إحسان ولده له، وقال: يا هلال! أمل خيرا، ثم أعطاه اللبن، فلما شرب، قال: والله! يا أمير المؤمنين! إني لأجد ريح أمية في اللبن! فهذا حنان الوالدين، ونزعة الولد لوالديه، والوالدين للولد واضحة، وفي قصة سليمان مع المرأتين حين قال: ائتوني بسكين أذبحه بينهما، فقالت إحداهما: لا تفعل -يا نبي الله- هو ولدها، فالأم الحنون تنازلت عنه حتى لا يقتل. فهناك أمارات واضحة تدل على صدق المدعي، فـ عمر رضي الله عنه عمل بهذا، وقال للقيط: والي من شئت منهما. وأثر عن علي رضي الله عنه: أنه رد الأمر إلى الصبي، وقال له: والي من شئت منهما، يعني: إن شئت أن توالي هذا الأب أو هذا الأب، فكل منهما له دليله الذي يدل على أنك ولده، فيخيره بين الوالدين. وهذه المسألة واقعة في اللقيط وواقعة في مسألة الوطء بشبهة، فقد توطأ المرأة في طهر من رجلين شبهة، وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في مسألة وطء المرأة من رجلين في طهر واحد، وحصل الاختلاف في الولد، ونزع الولد للاثنين؛ لأنه فيه شبه من هذا، وفيه شبه من هذا، فقال: والي من شئت، وعن علي أنه قضى بهذا أيضا. وبعض العلماء في مثل هذه المسائل يقول: إذا وجد الدليل من الطرفين فحينئذ تجرى القرعة، ومن خرجت له القرعة حكم له بالولد، ومن أهل العلم من لا يجري القرعة في هذا، والإمام ابن قدامة رحمه الله ذكر في المغني وفي العمدة مسائل الحكومة بالقرعة، وذكر أن القرعة تفصل في حال ادعاء المرأتين للولد، وفي حال ادعاء الرجلين للولد. وبناء على هذا الأصل: لو تعارض القائف مع قائف آخر، وصعب الترجيح، فإنه يحكم بالقرعة، ويرجح بين هذه الأقوال بها. ومن أهل العلم، من قال: اختلاف الثلاثة فأكثر في الولد اللقيط حكمه حكم الاثنين، وجعلوا قضاء علي وعمر رضي الله عنهما أصلا يقاس غيره عليه، ويرون أنه في هذه الحالة يمكن أن يترك الولد لخياره، ويختار من شاء من هؤلاء الذين ادعوه ولدا لهم. والخلاصة: أن الذي عنده بينة يحكم له ببينته، منفردا كان أو مجتمعا مع غيره، سواء كانوا اثنين أو أكثر، فالذي عنده بينة لا منازع له في بينته فاللقيط له؛ لأن المدعي مطالب بالبينة، فإذا أثبت البينة التي تدل على صدق قوله ودعواه حكمنا له بها، وأما إذا تعارض مع غيره، فكان عند غيره بينة، وتعارضت البينا
__________________
|
#475
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة هل المجنون البالغ يكون لقيطا؟ السؤال قول المصنف: (طفل) ، هل يدخل المجنون البالغ في ذلك؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آلة وصحبه ومن والاه. البالغ بالإجماع لا يعد لقيطا، وإذا جن اللقيط بعد بلوغه فإنه يستصحب حكم الأصل، وهذا مثلما ذكرنا من المسائل المفرعة على الحكم بإسلامه، أنه إذا جن استصحبنا حكم الأصل، أما لو وجد مجنونا، فإننا في هذه الحالة نحث من وجده أن يقوم على رعايته إذا أمكنه ذلك، وإلا رفعه إلى السلطان أو الوالي ليتولى أمره، والله أعلم. حكم إلحاق اللقيط بنسب الملتقط ومحرمية أهل الملتقط السؤال ما حكم اللقيط من حيث نسبه، ومن حيث محرميته في أقارب الملتقط؟ الجواب أما من حيث النسب، فلا يجوز أن ينسب اللقيط إليه؛ لأنه ليس بوالده، وقد لعن الله عز وجل من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه، وهذا أمره عظيم، فإذا كان ملتقطا له فإنه ينبغي عليه أن يحتاط، وألا ينسب اللقيط إليه؛ لأنه إذا نسبه إليه فقد ادعاه، والله يقول: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} [الأحزاب:5] ، فلا يجوز أن يدعي نسبة الولد إليه وهو ليس بولده، ثم يدخله على أهله وبناته، فينظر إلى عورات لا يحل له النظر إليها، ويصافحهن ويرث، وتقع المحاذير الشرعية، ويترتب على هذا مسائل شرعية صعبة، لكن الحل في مثل هذا إذا خشي من الفتنة أن يجعل اللقيط يرتضع من زوجته، حتى يصير بمثابة الابن في مسائل المحرمية، والتكشف ونحوها، ويحتاط إذا خشي أن ينسب اللقيط إليه، وذلك بأن يشهد شهودا على أن هذا لقيط وليس بولده، حتى يحفظ حقوق أولاده ولا يضيعها، والله تعالى أعلم. حكم زواج اللقيط وموضع زواجه السؤال إذا كبر هذا اللقيط فخطب، فمن يكون وليه في هذه الحالة؟ الجواب إذا كان رجلا، فإنه يخطب لنفسه، ويتزوج من يريد، ولا يشترط الولي للزوج؛ لأن الرجل يجوز له أن يزوج نفسه، لكن هذه المسألة عند بعض العلماء من المشتبهات، وتدخل في مسألة التورع؛ لأنه يخشى أن يخطب أخته، أو يخطب بنت أخته، أو يخطب قريبته، فمسألة النكاح فيها إشكال كبير من جهة إذا غلب على ظنه وجود والديه في بلده، أو تكون هناك شبهة بالزنا -والعياذ بالله! - أو يكون من غير زنا، فيخشى أن يتزوج قريبته. وبالنسبة لشبهة كونه ابن زنا يعرف ذلك بالأحوال والدلائل، فإذا وجد في مكان التقاطه نقود على صفة تبين تخلي والديه عنه، فالشبهة قائمة على أنه ابن زنا والعياذ بالله! وفي حالة ما إذا كان ابن زنا، فتفصل المسألة على خلاف العلماء، هل الزنا يؤثر في المحرمية أو لا يؤثر؟ فذهبت طائفة من العلماء إلى أن الزنا لا يؤثر كالشافعية ومن وافقهم، وذهبت طائفة أخرى من العلماء إلى أن الزنا يؤثر، فتحرم الأخت من الزنا، والعمة من الزنا، ويثبت الزنا المحرمية، كما تثبت في النسب، والقول بأن الزنا لا يؤثر ورد عن بعض الصحابة، مثل: عبد الله بن مسعود حيث قال: إن الحرام لا يحرم الحلال، فعلى هذا يمكن له أن يتزوج من الموضع؛ لأن الزنا لا يؤثر، ومذهب الجمهور إنه يؤثر؛ لأن العبرة بالمعاني لا بالأسماء، وقد ذكرنا هذا في مسألة المحارم، وهي: هل البنت من الزنا محرم؟ وهل الأخت من الزنا محرم؟ وهل يجوز نكاحها؟ وقلنا: إن هذا من المشتبه الذي لا يفتى بحله ولا بحرمته، فيكون القول الذي اخترناه، قريب من مذهب الجمهور، ففي هذه الحالة إذا كان اللقيط في موضع على صفة يغلب على الظن أن فيه شبهة الزنا، فإنه يبتعد عن البلد الذي وجد فيه، ويتعاطى أسبابا تبعده، حتى قال بعضهم: أحب أن يتزوج من موضع غير الموضع الذي وجد فيه، يعني: يتزوج من مكان آخر، حتى يبتعد عن الشبهة في هذا، وهذا مذهب بعض العلماء. إذا: لا بد أن تعرف أولا: هل هذا اللقيط من جنس الزنا أو من غيره؟! مثال من كان من جنس غير الزنا: الطفل الذي يكون ضائعا في مجامع الناس، فالغالب ألا يكون هذا ابن زنا؛ لأنه لا يصل بالأم أن تتهرب من الولد وعمره أربع سنوات أو خمس سنوات أو ست سنوات، وهذا لا يخفى، ولا يمكن أن تتهرب دون أن تضع في جيبه ما يقوم به، فالزنا له دلائل، وهناك دلائل تغلب على الظن وجود تهمة الزنا، وهناك دلائل تغلب على الظن أنه ليس بابن زنا، فإذا وجدت الدلائل التي يحكم بكونه ليس ابن زنا، فالأمر أشد وأعظم؛ لأنه في هذه الحالة يحتمل أن كل واحدة في هذه القرية، أو في هذه المدينة بينه وبينها صلة توجب المحرمية، فالأمر صعب جدا، ولذلك يكون الأمر فيه أشد مما لو كان من الزنا، فالمسألة ليست سهلة، فإن وقعت يفتى فيها، فالإنسان يتورع من مثل هذه المسائل، لكونها تحتاج إلى نظر، وقد تكلم العلماء رحمهم الله عن هذه المسألة في باب النكاح، وأشار إليها الإمام النووي رحمه الله، والإمام الماوردي، في الحاوي، والإمام ابن قدامة، وأشار إلى جملة من مسائلها المتفرقة في النكاح، فهي مسألة مشهورة عند العلماء، وفيها إشكال، إلا أنه إذا تعاطى الأسباب، وعمل على غالب الظن بالسلامة، فإن شاء الله لا بأس في نكاحه وزواجه، والله تعالى أعلم. عدم جواز الخروج من المسجد بعد الأذان للمؤذنين وغيرهم السؤال مؤذن يؤذن ثم يذهب إلى بيته، ويؤدي راتبة الظهر القبلية فيه، ثم يأتي ويقيم الصلاة، ويقول: إن الصلاة الراتبة في المنزل أفضل، فهل هذا العمل صحيح؟ الجواب حتى المؤذنين صاروا مجتهدين! يا إخوان! الاجتهاد في الأدلة والمسائل والأحكام ليس لكل أحد، كان العلماء رحمة الله عليهم الواحد منهم يجثو على ركبتيه، ولا يريد أن يفتي في المسألة، ولا يريد أن يجتهد، والأدلة أمامه، خوفا من الله سبحانه وتعالى وتورعا. ثم نقول: هذا اجتهاد خاطئ وفعل خاطئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخروج من المسجد بعد الأذان، فلا يجوز الخروج بعد الأذان من المسجد إلا من عذر، وفعل الفضائل ليست بعذر، ولا يجوز طلب السنة بارتكاب النهي، وأداؤه السنة الراتبة في المسجد أفضل من أدائها في البيت، يقول أبو هريرة رضي الله عنه -لما رأى رجلا خرج من المسجد بعد الأذان-: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) ، ومن عصى الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، فما يمكن أن نقول: اطلب سنة بمعصية الله، ولو أن رجلا يريد أن يقبل الحجر، وعلى الحجر الطيب، وقد نهي عن الطبيب للمحرم، فعليه أن يترك سنة التقبيل؛ لأنه إذا تعارض المسنون مع النهي وجب تقديم النهي، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عنه فانتهوا) ، فجعل مسألة النهي أعظم وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} [النور:63] ، فلذلك ينبغي على هذا المؤذن أن يتقي الله، وأن يبقى في المسجد، ولا يجوز له الخروج. وننبه أن الأئمة والمؤذنين وطلاب العلم والخطباء هم قدوة للناس، فلا ينبغي للمؤذن أن يؤذن ويخرج من المسجد، أو يخرج ويجلس خارج المسجد، أو في غرفته التي بالمسجد ثم يأتي عند الإقامة، ولماذا نتعالى على الناس؟ ولماذا نتميز على الناس؟ ولذلك ينبغي ترك الأماكن الخاصة التي لا يدخل منها إلا الخاصة، ولا يخرج الإنسان من المسجد بعد الأذان إلا من عذر، ويكون هناك نوع من التحفظ والصيانة، وإذا كلف الإنسان ولاية من الولايات الشرعية، كالأذان والإمامة والفتيا والتعليم والتدريس، فينبغي أن ينتبه لمسألة القدوة، ويجب عليه أن يحفظ حق إمامته وأذانه، فهذا الذي يخرج من المسجد، هل نعلم أنه سيصلي السنة الراتبة في البيت؟! وهل كل الناس سيحسن به الظن؟! والناس إذا رأوا بأم أعينهم أن المؤذن دخل المسجد عند الإقامة، فمعنى ذلك أن يتأخذوا ولا يدخلوا إلا عند الإقامة؛ لأن المؤذن لم يدخل إلا عند الإقامة، فلذلك ينبغي أن نكون بعيدي النظر، وأن ننتبه لهذا، والواجب على المؤذنين أن يتحفظوا ما أمكن. وانظر إلى مسجد فيه مؤذن يؤذن، ثم يبقى فيه يقرأ كتاب الله عز وجل، أو يصلي، فوالله! إنه يعظم في عينك، ووالله! إن من الناس من يجل المؤذن أكثر مما يجل الإمام، مما يرى من حرص المؤذن على السنة، وحرصه على الخير، ولما فيه من بشائر الخير التي تدل على أنه أهل للأذان، فعلينا أن نشكر نعمة الله سبحانه تعالى، فإذا جعلت إماما، أو جعلت مؤذنا، فلتعلم أنك ما جعلت بحولك ولا بقوتك، وإنما بتفضيل الله لك، وتفضيل الله لك نابع من هذا الشرع والدين، فاحرص على أن تحبب الناس في هذا الدين، واحرص على أن ينظر الناس لهذا الدين نظرة الهيبة لا نظرة الاستخفاف، فإذا خرج المؤذن من المسجد بعد أذانه استخف الناس بالجلوس في المسجد، ولربما يطرأ أمر في المسجد يحتاج إليه، وربما يطرأ أمر مكروه لا قدر الله، فوجود المؤذن أمر مهم جدا، ولا ينبغي في الحقيقة الخروج، بل ولا ينبغي التميز نهائيا؛ لأن الدخول عند الإقامة من هدي الأئمة، ولذلك لا ينبغي أن يشابههم غيرهم من الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عند إقامة الصلاة، وكان بلال -كما في الصحيح- إذا سمع الخشخشة من وراء الستر أقام الصلاة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوموا حتى تروني) ، فهذه الأمور يتميز بها الأئمة ولا يشاركهم فيها غيرهم، ولا ينبغي أن نتفضل على الناس ونتقدم على الناس إلا بتقديم الشرع، وكان المشايخ رحمة الله عليهم يشددون في هذا، حتى والله! إنهم كانوا إذا جلسوا في مجالس مميزة، وأراد من هو قريب منهم من طلاب العلم أن يجلس بجوارهم، فإنهم ينهرونه، وإذا جلس طالب العلم في مجلسهم قبل مجيئهم، شدوا عليه وأغلظوا عليه، فلا ينبغي الدخول من الأماكن الخاصة، أو التنفل في موضع الإمام، فهذا يترك للإمام، ونحن عندما نتقدم على الناس، ونتصدر على الناس، فهناك شيء من الآداب علينا أن نتحلى بها، فلا بد لطالب العلم والمؤذن ومن ينتسب للشرع أن يكون متحليا بالأكمل، وأن يكون عنده تحفظ، ويعلم ما الذي يترتب على فعله هذا، فكل شيء فيه تميز على الناس، وتصدر على الناس، سواء في الخروج أو الدخول، أو صفة الخروج أو صفة الدخول؛ فلا ينبغي أن تكون إلا لمن خص بهذا الحق، فالناس لهم حق، ولا يجوز أن يعلو عليهم أحد إلا بحق، فلو كان هناك مدخل خاص بالإمام، فلا يجوز أن يدخل كل أحد منه، فالإمام له فضل على جميع من في المسجد، فإذا جاء أي واحد ودخل مع الشيخ من مدخله مثلا، أو مع الإمام من مدخله؛ كان هذا نوعا من التميز، ولربما قد يقصد به التزكية لنفسه بأنه مع الشيخ، وتكون فتنة للتابع وفتنة للمتبوع، فطالب العلم التابع لمشايخه ينبغي عليه أن يحفظ حقوق الناس، ولا يتعالى على أحد من الناس، ولا يتميز في صفة ولا سمت إلا إذا فضله الله عز وجل بذلك. ولذلك كان بعض العلماء يكره إذا انتهت الصلاة أن يتقدم الشخص على الصف، إذا كان في الصف الأول، إلا إذا كان من ضرورة كمرض أو نحوه، وكانوا يستحبون أن يتأخر عن الصف؛ لأنه لما يتقدم على الصف فهذا تميز، وكذلك أداء السنة في مكان الإمام فيه تميز، ومن هنا نص بعض العلماء على أنه إذا صلى الإمام وانتهى من الأذكار، فإنه لا يبقى في مصلاه؛ لأنه جاز له التقدم لضرورة وحاجة وهي الإمامة، فإذا انتهى منها فلينتقل إلى مكان آخر. وكنا نرى بعض المشايخ الكبار، كان لهم موضع يجلسون فيه للفتوى، وما يجلس أحدهم في نفس المصلى، وكانوا يتكئون على سارية، أو مكان مخصوص يجلسون فيه بعد الجمعة أو بعد الصلاة، فينتقل الشيخ إلى هذا المكان ويجلس فيه، فالسائل يأتيه فيه، ولا يتميز على الناس، وهذا من التورع، والناس لهم حقوق ولا ينبغي التعالي عليهم، إلا باستحقاق شرعي. فالواجب على المؤذن: ألا يجتهد في فهم النصوص بغير علم، ومن قال في الدين برأيه فقد أخطأ ولو أصاب، وفي ذلك حديث، والحديث تكلم في سنده، لكن العمل عليه عند أهل العلم، ومعنى ذلك: أنه أخطأ بالجرأة على الاجتهاد، وهو ليس من أهل الاجتهاد، ولو أصاب الحق، فهذه الإصابة شيء آخر، ولكننا نتكلم عن كونه اجتهد وهو ليس بأهل للاجتهاد، كمن يتعاطى أسباب الضرر، وهو يعلم أنه لا يتحفظ منها. فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل، فلا يجتهد من عنده، حتى لا يكون ضالا في نفسه، وقد يجعله الله مضلا لغيره والعياذ بالله! إذا لم يتحفظ. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يقينا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الفرق بين اللقيط واليتيم وحكم كل منهما السؤال هل يأخذ اللقيط حكم اليتيم من كل وجه؟ الجواب اللقيط ليس بيتيم، ولا يجوز أن نحكم بأنه يتيم، أو يأخذ حكم اليتيم؛ لأن اليتيم هو من فقد أباه وهو دون البلوغ فهذا من جهة الآدمي، وأما من جهة الحيوان، فقالوا: اليتيم من فقد أمه. فليس هناك دليل على أن اللقيط يتيم، أو أن والده موجود أو غير موجود، فلذلك لا يأخذ اللقيط حكم اليتيم، لكن الشفقة عليه والإحسان إليه والبر به، وتفقده ونحو ذلك، لا شك أنه من أجل الأعمال وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) ، وهذا بسبب الرحمة، فإن كافل اليتيم إنما نزل هذه المنزلة وتبوأ هذه الدرجة العظيمة بسبب الإحسان إليه، وجعل الله لمن كفله هذا الثواب العظيم، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (خير البيوت بيت فيه يتيم يحسن إليه) ، فإذا دخل البيت كان بركة على أهله، وخيرا على أهله، وكان العلماء يستحبون أن يضم الإنسان إليه يتيما إذا أمكنه ذلك، كأن يذهب إلى دور الأيتام ويأخذ يتيما فيضمه إليه؛ حتى يضع الله الخير والبركة في بيته، فتبوأ كافل اليتيم لهذا كله من جهة الرحمة، وقد يكون اللقيط أشد من اليتيم؛ لأن اليتيم عرف أبويه، وعرف نسبه، ولكن اللقيط لم يعرف، واليتيم يتعذب دون البلوغ، فإذا بلغ واستوى على أشده كافح وانتفى عنه الضرر الذي كان موجودا عليه في حال يتمه، ولكن اللقيط لا يزال في حيرة من أمره، وعناء في نفسه، وانكسار في قلبه، حتى يواريه الثرى، فلا ينفك عنه هذا البلاء، كلما نظر إلى رجل ظنه أبا له، وكلما نظر إلى أم ظنها أما له، وتارة تنتزع الخواطر وإحسان الظن بوالديه إلى أنهما كانا فقيرين أو ضعيفين، وتارة تنتزعه الخواطر إلى إساءة الظن بأمه وأنها كانت زانية، فهو في شيء من العناء لا يخطر على بال، ولذلك فالتقاط اللقيط ليس كاليتيم؛ لأن اللقيط يؤذى ويضر، والناس تسأله: من أنت؟ ومن أمك؟ ومن أبوك؟ ومن أين جئت؟ فالأمر في حقه أشد وأعظم من جهة المشاعر، والرحمة في حقه قد تفوق اليتيم، إلا أن اليتيم إن تعلق بوالده كانت الرحمة به في بعض الأحيان أشد؛ لأنه قد يفقد والده بعد أن يكون مميزا، كأن يكون مثلا ابن سبع سنين، وأدرك والده يحمله ويأخذه ويذهب به ويجيء، وإذا به بعد فقد والده لا يحمل ولا يذهب به، وكلما رأى صبيا مع والده تقطع قلبه، وكلما رأى صبيا يكرم من والديه أصابته الحسرة، فالمشاعر الموجودة في اليتيم قد تفوقها مشاعر اللقيط، والله عز وجل يرحم الرحماء، فإن وقعت الرحمة إلى محتاج إليها، كان ثوابها من الله أعظم، وجزاؤها من الله أكبر، ويتولى أرحم الراحمين الرحمة بأضعاف ما رحم به المخلوق، ولذلك قال الله تعالى: (تجاوزوا عن عبدي فنحن أحق بالتجاوز منه) فصفح عن عبده في عرصات يوم القيامة؛ لأنه كان يرحم الناس، ويتجاوز عن المديونين، فكيف إذا رحم الضعيف الذي لا حول له ولا قوة؟ والرحمة كلما عظمت من المخلوق للمخلوق، ووقعت في موقعها، عظمت رحمة الله به، ولذلك قل أن تجد إنسانا معروفا بالرحمة وتسوء خاتمته، بل غالبا أن الذي يرحم الناس ويحسن إليهم يتولاه الله عز وجل بإحسانه وبره، وما ينتظره في الآخرة أعظم وأجل من ذلك، وما سكنت الرحمة في قلب إنسان إلا كان من السعداء، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما مر عليه الأقرع بن حابس وهو يقبل ولده، فقال: (إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم، قال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك) ، فالرحمة لا تدخل إلا في قلب سعيد، وما قام هذا الدين إلا على الرحمة، قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107] ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إمام الرحماء وإمام الكرماء عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام رحيما بالناس، فالذي يرحم اللقيط ويحسن إليه ويتفقد مشاعره أجره عظيم. ولذلك قال بعض أهل العلم ممن أدركناه من مشايخنا: إن أمر اللقيط صعب؛ لأنك تحتاج أول شيء أن تقوم بحقوقه، وتتحفظ من أذيته، ويكون له داخل البيت وضع خاص؛ خاصة إذا لقط وهو صغير لم يميز الأمور، ولما يميز قد يبدأ يسأل: من أبوه؟ من أمه؟ ويكون الأمر في حقه صعبا ومحرجا، ولذلك أمر اللقيط فيه ثواب عظيم، وقد يفوق الإحسان إلى اليتيم، إذا اتقى لاقطه الله عز وجل، وبالغ في إكرامه والإحسان إليه، وقد قال تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف:30] . حكم إعطاء اليتيم من الزكاة للإنفاق عليه السؤال ما حكم إعطاء اليتيم من الزكاة للإنفاق عليه؟ الجواب اليتيم -من حيث الأصل- مرده إلى بيت مال المسلمين، ولذلك يصرف عليه من بيت مال المسلمين، وأما الزكاة فلا يعطى منها -من حيث الأصل- إذا كان ولي الأمر يتولى أمره، والأيتام الآن وجدت لهم دور أيتام، تقوم عليهم، ويصرف عليهم من بيت مال المسلمين، فحينئذ لا يستحقون من الزكاة؛ لأنه أسند أمرهم ولي الأمر إلى من يتفقدهم، فإن وجدت حاجة وعوز فحينئذ يمكن أن يصرف لهم من الزكاة، لكن هذا عند الضرورة، أما إذا صرف عليهم من بيت مال المسلمين، فإنهم يستكفون به، والله تعالى أعلم. حكم إعطاء اللقيط من الزكاة للإنفاق عليه السؤال هل يعطى اللقيط من الزكاة للإنفاق عليه؟ الجواب اللقيط إذا كان له مصرف من بيت مال المسلمين، فإنه لا يعتبر محتاجا، ما دام أن بيت مال المسلمين يتكفل به، ففي هذه الحالة ما يعطى من الزكاة، والزكاة إنما تعطى للفقير والمسكين، ومن سمى الله عز وجل من أهلها، والله تعالى أعلم. حكم التعريف باللقيط عند وجدانه السؤال هل يجب التعريف باللقيط عند وجدانه والبحث عن والداه؟ الجواب نعم، في حالة وجدانه يعرف به إذا غلب على الظن الضياع، وتوضيح ذلك أنه إذا وجد صبيا أو صبية، وغلب على الظن أنه مفقود من والديه، فعليه أن يعلم أن هناك ضررا مترتبا على عدم رده لوالديه؛ لأن الأم تتضرر بفقدان ابنها أو بنتها، وتصيبها الوساوس، وربما فقدت عقلها، فهذا نبي الله يعقوب عليه السلام فقد بصره، وهو من أهل الصبر، وهو يعلم أن ولده سيعود إليه، فما ظنك بمن فقد ولده بدون عودة؟! ومن هنا لم يحل للمسلم أن يخرج إلى الجهاد حتى يستأذن والديه؛ لأنها مسألة فقد، فيعمل الوسيلة التي يكون بها رجوع الولد إلى والده، كأن تكون هذه الوسيلة عن طريق الإعلام، أو عن طريق نشر صورته، وغيرها من الوسائل التي يمكن أن يستدل بها عليه، فعلى لاقطه أن يستخدمها حتى يصل الولد إلى والديه، حتى وإن اضطر إلى تصويره، فإنه يفعل ذلك؛ لأن في ذلك رحمة بأمه وبأبيه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أراد أن يبين للصحابة عظيم رحمة الله بخلقه، فإنه بين لهم عظيم ذلك حينما ضرب لهم المثل، ولله المثل الأتم الأكمل، وذلك أن امرأة جاءت تسعى سعيا حثيثا حين رأت ولدها، فأخذته فضمته إلى صدرها، فقال صلى الله عليه وسلم (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا، يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده! لله أرحم بعباده من هذه بولدها) ، فالشاهد من هذا: أنه لما أراد أن يضرب المثل بعظيم رحمة الله اختار رحمة الأم بالولد، وجعل ذلك عند الفقد، فرجوع الابن لأمه والبنت لأمها له شأن عظيم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، فالأمر عظيم، وما دام أنه يمكن الاتصال به، ويمكن السؤال والتحري والتعريف؛ فإنه يجب علينا أن نتعاطى ذلك؛ لأن السكوت عن ذلك فيه ضرر، وضياع لحقوق الولد، وإدخال للضرر على الولد مستقبلا، وإدخال الضرر على والديه، ولا يجوز إدخال الضرر على المسلم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (لا ضرر ولا ضرار) ، والله تعالى أعلم.
__________________
|
#476
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوقف) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (390) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [1] مما ينفع الإنسان عند ربه في الدنيا بل والآخرة بعد موته أن يوقف وقفا لله تعالى، يدر عليه الحسنات كما لو كان حيا يعملها، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على مشروعيته وفضله والحث عليه. الأدلة على مشروعية الوقف من الكتاب والسنة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الوقف] هذا الكتاب يعتبر من أهم الكتب التي بحثها الفقهاء رحمهم الله، وبينوا مسائلها، وما اشتمل عليه هذا الكتاب من أحكام، ونظرا لعظم أمره، وعموم البلوى به في كل زمان ومكان، ناسب أن يذكره المصنف رحمه الله في هذا الموضع. وعبر بالكتاب، لكي يفصله عن الأبواب السابقة، فالأبواب السابقة متعلقة بالمعاملات المالية، والوقف يجمع بين المعاملة المالية من وجه، وبين العبادة من وجه آخر، وهو من حيث الأصل تسبيل لله عز وجل، ولذلك يخرج عن معنى المعاوضة من هذا الوجه، وعبر بالكتاب حتى لا يظن أنه تابع للمعاوضات المالية. وإلا فالأصل أن العلماء رحمهم الله يخصون الكتاب بالأبواب الكثيرة، مثل أن يقال: كتاب المناسك ويقال: كتاب الصلاة؛ لأن أبوابه كثيرة، والوقف ليست له أبواب كثيرة؛ ولكنه منقطع عما قبله، فلو قال المصنف: باب الوقف؛ لظن ظان أنه تابع للمعاملات المالية التي تقدمت معنا في الدروس الماضية. وقوله رحمه الله: (كتاب الوقف) أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالوقف. وهو: حبس أو تحبيس العين، وتسبيل المنفعة والثمرة، والمراد بالعين: العين الموقوفة، سواء كانت من العقارات، أو كانت من المنقولات، وسيأتي إن شاء الله بيان هذا التعريف وحقيقته، حينما ذكره المصنف رحمه الله في صدر الكتاب. مشروعية الوقف من الكتاب والوقف يعتبر مشروعا بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة من العلماء رحمهم الله، فأما دليل الكتاب فإن الوقف داخل تحت عموم الآيات التي دلت على الطاعات والخير، والندب إلى البر، ولذلك يعتبره العلماء رحمهم الله من التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله عز وجل به في كتابه بقوله سبحانه: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2] . وإن المسلم إذا أوقف بيته أو سبل مزرعته، خاصة إذا جعلها للضعفاء والفقراء والمساكين، أو أوقف مسجدا للصلاة فيه، وانتفع الناس بعبادة ربهم وذكرهم لله عز وجل في هذا الموضع الموقوف، وكذلك بحلق الذكر في تلك المساجد الموقوفة، أو جعل صدقة كتسبيل المياه من حفر الآبار، وسقي العطشى، سواء كانت داخل المدن، أو كانت خارج المدن، خاصة إذا كانت في السبل والمفازات التي تكون الحاجة فيها ماسة إلى وجود الماء، وهكذا إذا برده أو وضع البرادات للماء، أو الأسباب التي تعين على تهيئته للعطشى والمحتاجين، ونحو ذلك من أفعال البر؛ فلا يشك أحد أنه من التعاون على البر والتقوى، وأنه من طاعة الله عز وجل، فهو داخل في عموم الصدقات والإحسان إلى المسلمين. الوقف عند الصحابة رضي الله عنهم وقد وقع الوقف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجاء كذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه أوقف بئر رومة، فلما فعل ذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم، بل ندب إلى ذلك، وقال: من يشتريها وله الجنة، فاشتراها عثمان رضي الله عنه وأرضاه وجعلها صدقة على المسلمين. وكذلك أيضا أوقف الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه على ذريته، وكانت له أموال كثيرة، فأوقف جملة من أمواله حتى جاء في بعض الآثار أنه أوقفها على بناته، وخص الإناث دون الذكور، وهو وجه لبعض أهل العلم رحمهم الله، ووجهه أن الرجل ربما يخشى على بناته من بعده الطلاق والضيعة، والرجل يستطيع أن يأوي إلى أي مكان، ولكن البنت لا تستطيع، فلذلك أجاز بعض العلماء -كما سيأتينا في مسائل الوقف- أن يخص بعض ذريته كالإناث، فيقول مثلا: بيتي للمطلقة أو الأرملة من بناتي، وقد أثر ذلك عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، وهو قول اختاره طائفة من أهل العلم رحمهم الله، فهذا صحابي جليل قد أوقف، حتى قال جابر رضي الله عنه وأرضاه كما في الرواية عنه: (ما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا أوقف في سبيل الخير) . وهذا يدل على فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبهم للخير وحرصهم على الآخرة، ولذلك آثروا الآخرة على الدنيا، وهذا هو شأن الحكيم العاقل الموفق، فإن الله عز وجل إذا وهب العبد النعمة، وأراد أن يتمم له بركتها وخيرها وجه صرفه إياها إلى ما ينفعه في الآخرة، وسلطه على إهلاك ذلك المال في الحق وسبل الخير كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر) وذكر منهم: من أعطاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق. يعني: سلطه على إهلاك المال في طاعة الله عز وجل ومرضاته. مشروعية الوقف من السنة وأما دليل السنة فإنه صريح في الدلالة على مشروعية الوقف، فالفرق بين دليل القرآن والسنة على مشروعية الوقف أن دليل القرآن عام، وأما دليل السنة فإنه ورد في الوقف بخصوصه، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: (أصاب عمر رضي الله عنه أرضا بخيبر، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت حبست أصلها وسبلت -وفي رواية تصدقت- على أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث) . هذا الحديث فيه فوائد عظيمة أولها قول عبد الله بن عمر: (أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضا بخيبر) جاء في الرواية الأخرى أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أصبت أرضا بخيبر هي أعز ما أصبت من مال، فما تأمرني فيها) ؟ فانظر إلى فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على الرجوع إلى العلماء، والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما هو الخير والأحظ للإنسان في دينه ودنياه وآخرته. فلا يزال العبد موفقا مسددا ملهما للصواب ما رجع إلى أهل العلم، وأحبهم، واستشارهم، فإن الله يضع له البركة في ذلك؛ لأن الدافع في الرجوع إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، مرضاة الله سبحانه وتعالى، وإجلال شعائر الدين، ولذلك يوفق من يرجع إليهم، ويسدد ويلهم الخير. فهذا الصحابي الجليل عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، أصاب هذا المال الذي هو أعز ما يملك، فلم يتصرف فيه بمحض رأيه واجتهاده، مع أن التصرف مباح له شرعا، فلو أنه باعها أو تصدق بها أو فعل بها ما شاء، فإن ذلك له، وهذا بتمليك الله عز وجل له ما دام أنه تصرف بما أحل الله وشرع؛ ولكن كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يقدمون ولا يؤخرون إلا بالرجوع إلى الوحي والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك عظمت منزلتهم، وارتفعت درجتهم، وأثنى الله عليهم من فوق سبع سماوات في كتابه، حتى بقي الثناء عليهم إلى يوم الدين يتلى في كتابه. كل هذا بمحبة الوحي والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنزال المسائل به، حتى يصيب الإنسان الأقوم، والأسلم، والأرشد له في دينه ودنياه وآخرته، ولا شك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أصاب بمشورة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دينه ودنياه وآخرته. وانظر إلى الأسلوب حين يرجع الإنسان إلى من هو أعلم وأفضل: (فما تأمرني) ، ولم يقل: فماذا تشير علي؟ ولكن (فما تأمرني؟) وكأن الأمر أمره عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن شئت حبست أصلها) ، فالوقف: هو التحبيس، فإذا أوقف الإنسان فقد حبس العين الموقوفة، فقوله: (حبست) يعني أوقفت؛ لأن الشيء المحبوس موقوف عن الحركة وممنوع منها، فأصل الوقف الامتناع عن السير والحركة، يقال: وقفت الدابة؛ إذا أمسكت عن السير والحركة، ويقال: وقف الظل؛ إذا كانت الشمس في منتصف السماء وأمسكت عن الحركة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها) وهذا بالنسبة للأرض، وقد كانت خيبر أرض زرع، وكانت من أفاضل أراضي الجزيرة من حيث الزراعة ووجود النخل فيها، وكانت عامرة بذلك، ولا تزال إلى اليوم فيها بقية باقية من ذلك العمران، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها) يعني حبست أصل الأرض، والمراد بذلك الأرض التي هي العين الموقوفة، وما عليها من الزروع والنخيل. قال عليه الصلاة والسلام: (وتصدقت بها -وفي رواية: وسبلت- وجعلت ثمرتها في ذوي القربى) فقوله: (وتصدقت بها) : يعني بنتاج الأرض، وهذا يقع في وقف المزارع، حيث توقف المزرعة فيشمل ذلك الأرض التي هي العقار المحبوس، وكذلك ما عليها من النخيل والزروع، (وحبست ثمرتها) : ثمرة النخيل كالتمر والرطب والبلح، وكذلك إذا كان فيها العنب أو غير ذلك من المزروعات، وتصدقت بثمرتها. فدل على أن العين تحبس، وأنه إذا أوقف مزرعة وسبلها؛ فإن ثمرتها تكون محبوسة، وذلك بصرفها في الوجه الذي خص الوقف به. وقوله عليه الصلاة والسلام: (على أنها) يعني الأرض: (لا تباع ولا توهب ولا تورث) إذا: معنى ذلك أن ملكية الواقف لها قد زالت، ومن هنا استدل طائفة من العلماء رحمهم الله على أن من أوقف شيئا فقد زال ملكه عنه. وبناء عليه يتفرع أن الشخص ربما أوقف مسجدا، وجعل يتصرف فيه دون أن يشترط نظارة المسجد له، ولربما ضمه إلى جهة مختصة بالمسجد؛ لكنه يتصرف فيه، ويأمر وينهى وكأنه يملكه، ولربما منع أو أخرج الناس من المسجد، فهذا مخالف للأصل؛ لأنه بإيقافه للمسجد خرج المسجد عن ملكيته، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن الوقف يخرجه الإنسان من نفسه صدقة لله عز وجل. ولذلك يعتبر من المعاملة بين المخلوق والخالق، والله عز وجل يملك المخلوق وما ملك، ولكنه سبحانه وتعالى جعل ابن آدم مستخلفا في المال لكي يبتلي المحسن في إحسانه والمسيء في إساءته. وقوله عليه الصلاة والسلام: (على أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث) البيع أصل في المعاوضات، أي: لا يجوز لك أن تعاوض عليها، ولذلك أجمع العلماء من حيث الأصل على أن الوقف لا يباع إلا في مسألة، وهي أن تتعطل مصالح الوقف، كرجل أوقف مزرعة ثم إن هذه المزرعة نضب ماؤها وتعذر سقيها، واحتيج إلى الانتقال إلى مكان آخر، فحينئذ يرفع إلى القاضي، فيحكم القاضي بجواز بيعها، فتباع ثم يشترى بدلا منها ما يقوم مقامها. أما من حيث الأصل فلا يجوز بيع الوقف، فلو أوقف عمارة -مثلا- صدقة على المساكين، أو صدقة على طلاب العلم، أو رباطا لهم، ثم أراد أن يبيعها ويشتري غيرها؛ فنقول: لا يجوز بيع الوقف، والأصل أنه محبس، وممنوع صاحبه من التصرف فيه، إلا في حدود ما اشترط من نظارته لمصلحة الوقف. فلو أنه أوقف أرضا ثم وهبها لزيد أو وهبها لعمرو فإن الهبة لا تصح؛ لأن الهبة تفتقر إلى ملك، ومن هنا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الملك زال ولا تصح الهبة. وتتفرع المسألة المشهورة من هبة أعضاء الآدمي، فإن الآدمي ليس بمالك لنفسه حتى تصح هبته، فلما كان الوقف قد زالت ملكيته عن الإنسان بالوقفية، لم تصح هبته للغير، فكذلك كل شيء لا يملكه الإنسان لا يملك الهبة فيه. ولما قال صلى الله عليه وسلم: (لا توهب ولا تورث) جمع عليه الصلاة والسلام بهذا الثلاثة الأصول: الانتقال بعوض، كما في البيع وجعل البيع أصلا له، والانتقال بدون عوض كما في الهبة، وهذا انتقال اختياري، والانتقال الجبري كما في الإرث، وانظر إلى بديع هذه السنة ودقتها، وهذا يدل على صحة القياس؛ لأن الشريعة جاءت بأصل لكل باب على حدة، حتى تنبه على غيره. فإذا تقرر هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث مشروعية الوقف، وبين جملة من الأحكام والمسائل التي تترتب على الوقف. فهذا الحديث يعتبر عند العلماء أصلا في مشروعية إيقاف المزارع والأرضين والعقارات، وتسبيل ثمرتها، وكذلك يعتبر أصلا يقاس عليه غيره، فيقال: يجوز أن يوقف الإنسان كل عين في حكم المزرعة من جهة بقائها ودوامها، كما سيأتي إن شاء الله في شروط صحة العين الموقوفة. أما الدليل الثاني: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أن سعدا رضي الله عنه جاءه وقال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها) يعني ماتت فجأة، وكان سعد رضي الله عنه من أبر الناس بأمه (إن أمي افتلتت نفسها، وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟) وكانت قد توفيت وهو خارج المدينة في غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفجع بها رضي الله عنه، وكان يحبها حبا شديدا، فلما أتى وأخبر بخبرها قال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم) . وفي رواية في صحيح البخاري: (فجعل لها حائط الخراف) وحائط الخراف: بستان من بساتين المدينة، وقد كانت العرب تسمي البساتين بأسماء، أي: تصدق به عنها برا منه رضي الله عنه بأمه، فدل على مشروعية الصدقة عن الميت، ولو كانت بالوقف، فصح الوقف عن الحي، والوقف عن الميت. ومن أوقف على والديه جعل الله له الأجر من وجهين: أجر بر والديه، وأجر الصدقة، فهو مثاب من الوجهين كالصدقة على ذي القرابة، فإن الله يجعلها صدقة وبرا وصلة. فالشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر وقفية المزرعة وأجازها، وقد فعل ذلك رضي الله عنه استئذانا من النبي صلى الله عليه وسلم. أما الدليل الثالث من السنة: فما ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية) . فقوله: (صدقة جارية) يدل على مشروعية الوقف؛ لأن الصدقات الجارية هي الصدقات المحبوسة الموقوفة، بحيث تبقى بعد موت صاحبها، كمن حفر بئرا أو أجرى نهرا أو قنطرة لسقي المزارع، وسقي الدواب، وسقي الناس، وكذلك الصدقة الجارية كمن بنى بيتا وجعله للضعفاء والفقراء والأيتام والمحتاجين، أو جعله لقرابته، صلة رحم لهم، أو جعله لطلاب العلم رباطا يستعينون به بعد الله عز وجل فيأوي إليه ضعيفهم. وكذلك لو أوقف كتبا، فإنها صدقة جارية؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (صدقة جارية) ، فلما أقر عليه الصلاة والسلام الوقف على هذا الوجه، أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيته. فضل الوقف لوجه الله فهذا هو شأن الموفق السعيد، فالوقف لا يشك أنه مشروع، وأنه من خصال البر والطاعة، ولكن بشروط لا بد من توفرها، وهناك أسس لا يكون الوقف خيرا للعبد في دينه ودنياه وآخرته إلا إذا حققها، أولها وأساسها أن يوقف لوجه الله وابتغاء مرضاته لا رياء ولا سمعة، لا يطلب من الناس مدحا ولا ثناء، وإنما يوقف أمواله لوجه الله عز وجل يحتسب ثوابها عند الله سبحانه وتعالى. وكأنه تأمل ونظر وتفكر فوجد أن هذا المال لو بقي عنده انتفع به في الدنيا، فارتاحت نفسه، وارتاح أهله وولده، ووجد لذة هذا المال، سواء كان مزرعة أو عمارة أو أرضا، ولكن إذا تصدق به فإن الله يتقبل الصدقة من عبده الصالح بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها له، فلا يزال تكثر صدقته، ويعظم أجره حتى يلقى الله سبحانه وتعالى فيجد صدقته أضاعفا كثيرة، لا يعلم قدرها إلا الله سبحانه وتعالى. ويتفاوت الناس في مضاعفة الله لهم في الصدقات على حسب نيتهم وعظم بلائهم في هذه الصدقة، فإذا نظر بين الأمرين وبين الخيارين، اختار ما عند الله على الدنيا، ومما ذكروا عن بعض الصالحين في زمان قريب أنه بنى بيتا أنفق عليه أكثر أمواله، وكان من أفضل البيوت وأحسنها بالمدينة، واستغرق بناؤه سنوات، فلما كمل بناؤه وأحسنه وأتمه وأدخل فيه أزواجه وذريته، فلما استقروا فيه من أول النهار جمعهم في الظهيرة وقال: يا أبنائي! كيف وجدتم البيت؟ قالوا: وجدناه من أحسن ما يكون. فكل يثني على صفة موجودة في البيت. فلما انتهوا وفرغوا من ثنائهم، قال: إني فكرت ونظرت ووجدت أن هذا البيت هو أعز ما أملكه في الدنيا، وأن أفضل ما يكون مني أن أقدمه صدقة لآخرتي، يقول لي الوالد رحمة الله عليه -نقل الثقة-: ما رد عليه أحد من أولاده أو زوجه؛ لأن العبد الصالح إذا حسنت نيته، ونشأ تنشئة صالحة، وجد ثمار هذا الصلاح حينما يأمر بطاعة الله أو يلتمس مرضاة الله، والعكس بالعكس، فمن يقصر في تربية ذريته وأهله وزوجه، ولا يكون قائما على البيت كما ينبغي أن يكون، يخذله الله في مثل هذه المواقف كما خذل دين الله. فالشاهد أنه ما رد عليه أحد، بل وافقوه كلهم، فيقسم هذا الرجل الثقة للوالد يقول: والله لقد خرجوا في عز الظهيرة في الشمس، في الصيف من بيتهم إلى بيتهم القديم، وما غابت الشمس إلى وهو مليء بالأيتام والأرامل وضعفة المسلمين. فالعبد الصالح إذا عظمت الآخرة في عينه، وأراد ما عند الله سبحانه وتعالى، هانت عليه الدنيا، وإذا أحس أنه يعامل الله سبحانه وتعالى فإنه يقدم على الوقف بكل شجاعة ورضا، ويبذل وقفه ويحس أنه الرابح والغانم، وأنه لا يخسر في المعاملة مع الله عز وجل شيئا. فأجمع العلماء رحمهم الله على أن الوقف من أعظم الطاعات وأجلها، ثم يختلف الوقف بحسب اختلاف أحواله، فالوقف الذي تكون الجهة المستحقة فيه جهة عامة ومصلحة عامة من مصالح الدين، فإن الأجر فيه أعظم، كبناء المساجد والمدارس، فإن المساجد نفعها وخيرها عام، خاصة إذا كانت من مساجد الجمعة، فإن الأجر فيها لا يقتصر على الجماعات وإنما يشمل الجمعة والجماعات. كذلك أيضا المساجد تتفاوت، فالمساجد إذا كانت في أمكنة عرف أهلها بالمحافظة والحرص على الصلوات، وربما لم يكن هناك مسجد غير هذا المسجد الذي بني، فلا شك أن الأجر فيها أعظم، والوقف في هذا المكان أفضل من الوقف في غيره. كذلك أيضا من المصالح العامة، وهي من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى حفر الآبار، فإن الماء يحتاج إليه خاصة في الصيف، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله غفر الذنوب بسقي الماء. فالبغي من بغايا بني إسرائيل مرت على كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش فرحمته فاستقت له من البئر، فغفر الله لها ذنوبها. فإذا كان هذا في كلب وبهيمة، فكيف إذا كان إحسانا بضعفة المسلمين في القرى والهجر البعيدة التي يحتاج أهلها إلى الماء، أو يطلبون الماء من أماكن بعيدة، أو يشتري الإنسان لهم سيارة لنقل الماء، فهذه الصدقة لا شك أن نفعها أعظم، وخيرها أعظم وبرها أكثر، فيكون الوقف على هذا الوجه أفضل من الوقف على غيره. كذلك الوقف على ذي القربى والإحسان إليهم أعظم أجرا، كما ثبت في حديث زينب -امرأة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنها أنها لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة على أقرباء زوجها، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها صدقة وصلة. أي أن الله يأجرها على أنها تصدقت ويأجرها على أنها صلة رحم. كذلك يفضل الوقف بحسب الغايات الموجودة فيه، ولذلك قرر الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس (قواعد الأحكام) في مسألة الفضائل أن الأعمال تتفاضل بحسب المقاصد والوسائل. فإذا نظرت إلى الوقف على طلبة العلم، من بناء البيوت لهم، أو إعانتهم على الكتب، كإيقاف المكتبات للقراءة والمراجعة والمذاكرة، وكذلك شراء الكتب وتحبيسها عليهم، ونحو ذلك من الأمور التي تعين طالب العلم على طلب العلم، فإن الوقف عليها أفضل؛ لأنه ليس هناك أحب إلى الله عز وجل من ذكره سبحانه وتعالى، وليس هناك أفضل من طلب العلم، والعلم أفضل من العبادة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) . فدل على أن الوقف على العلم أفضل من الوقف على غيره، ويقاس على ذلك بناء المساجد لتعليم أبناء المسلمين، وخاصة إذا وجدت الحاجة الماسة للمحافظة على عقيدتهم؛ كأن يكونوا في بلد يحتاج إلى بناء مدرسة ويخشى عليهم أن يضلوا عن سبيل الله، أو يصرفوا عن الإسلام بتهويدهم أو صرفهم بالنصرانية أو نحو ذلك. فإن بناء المساجد في مثل هذه المواضع أجره عظيم، وثوابه كبير، فالوقف في هذه الحالة يكون أفضل من هذا الوجه، فإذا عظم بلاء الوقف وعظم نفعه، وكان نفعه عاما، فالفضل فيه أعظم، والأجر فيه أكبر، ومما ذكره العلماء بناء البيوت في الطرقات نزلا للمسافرين كما كان في القديم، حيث كانوا يبنون على طرقات السابلة بنيانا يجعلونه سبيلا ووقفا على من نزل فيه من المسلمين. كل هذه الأعمال فضلت من جهة كونها عامة، والمصلحة فيها لا تختص بشخص، ولا بطائفة، ولا بجنس ولا بأفراد دون أفراد، وإنما نفعها عام، ففضلت من هذا الوجه. وأما بالنسبة للوقف الخاص، فالوقف الخاص لا بأس به، وهو مشروع، وسيأتي إن شاء الله بيان بعض المسائل المتعلقة به، ومن أمثلتها أن يوقف على ذريته، فإذا أوقف على ذريته أو قرابته، كأن يقول: صدقة على آل فلان، ويخص آل فلان، من قرابته، وقد يخصص القرابة فيجعلها في العصبة، وقد يعمم القرابة، ففي هذه الحالة ينفذ الوقف، ويتقيد بما قيده الواقف، كما سيأتي إن شاء الله في شرط الواقف. لكن يختلف من جهة الفضل، ومن جهة عظم الأجر وحسن البلاء، وأيا ما كان، فإن الواجب على من أراد أن يوقف، أن يتحرى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أراد وقفا خاصا -أن يوقف على بعض ولده- أن يتحرى العدل، وقد ذكرنا قضية الزبير رضي الله عنه وأرضاه، وهي محل خلاف بين أهل العلم رحمهم الله. ولذلك يقولون: قد يوقف الإنسان فيظلم بعض الورثة، ولا يسلم الإنسان غالبا من هذا الظلم إلا إذا رجع لأهل العلم وسألهم، فالواجب على من أراد أن يوقف أن يستشير العلماء، وأن يسألهم الرأي السديد في الوقف، وأن يتحرى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله. تعريف الوقف في الشرع قال رحمه الله تعالى: [وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة] (وهو) أي الوقف (تحبيس) يقال: حبس الشيء إذا منعه، ومنه الحبس؛ لأنه منع من الخروج، وقوله رحمه الله: (تحبيس الأصل) أي: سواء كان من العقارات كما ذكرنا في المزارع والدور، أو من المنقولات كالدواب والحيوانات ونحوها، وفي أزمنتنا السيارات فيمكن تسبيلها، مثل شراء السيارات لنقل طلبة العلم ولنقل الماء، وهذا من أعظم ما يكون فيه الأجر خاصة في هذا الزمان، فربما كان الناس يبعدون عشرات الكيلو مترات عن الآبار وتحصل المشقة لهم في سقي دوابهم، وسقي أهليهم وذويهم، فشراء مثل هذه السيارات يعتبر تحبيسا للأصل. (وتسبيل المنفعة): وقد ذكرنا أن هناك العين وهناك المنفعة، فالعين هي الرقبة ذاتها كالبيت والمزرعة، وأما المنفعة فهي المصلحة الناشئة من العين، مثلا: السيارة منفعتها الركوب، ومنفعتها الحمل عليها، فإذا أوقف مثلا سيارة نقل الماء فإنه يحبس العين وهي السيارة، لا تباع ولا توهب ولا تورث، والمنفعة وهي نقل الماء مسبلة على الجهة عممها أو خصصها، فهذا تحبيس للعين وتسبيل للمنفعة. كذلك أيضا لو أوقف بيتا أو عمارة وقال: هذه العمارة للمطلقات الفقيرات، أو الأرامل، أو للضعفة والفقراء ونحو ذلك، فإن الرقبة أو العين وهي البيت لا تباع ولا توهب ولا تورث، فحبست؛ لكن منفعة السكنى فيها والجلوس فيها لمن سمى عمم أو خصص، كذلك المسجد، فالعقار (الأرض) والبناء الذي عليه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن منفعة الجلوس فيه، والصلاة فيه، وذكر الله عز وجل فيه، من تلاوة القرآن، وطلب العلم، فإنه يعتبر منفعة مسبلة للمسلمين. إذا تحبيس العين وتسبيل الثمرة مستقى من قوله عليه الصلاة والسلام: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بثمرتها) ومن هنا نعلم أن العلماء رحمهم الله يحتاطون في التعريفات الشرعية حيث إنهم يأخذونها غالبا من السنة، ومن الأدلة التي دلت على حقيقة الشيء. فلما بين النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث حقيقة الوقف، وقال: (إن شئت حبست أصلها وسبلت وتصدقت بثمرها) دل على أن حقيقة الوقف تحبيس العين وتسبيل المنفعة. بم يصح الوقف قال رحمه الله: [ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه كمن جعل أرضه مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه، أو مقبرة وأذن في الدفن فيها] قوله: (ويصح بالقول) : أي ويصح الوقف شرعا بالقول الدال عليه، وسيأتي أن القول ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون صريحا كقوله: أوقفت وحبست وسبلت، أو يكون كناية كقوله: حرمت أبدت تصدقت، فهذا كله من ألفاظ الوقف، ويختلف اللفظ الصريح عن الكناية من جهة أنه لا يحتاج إلى نية، وسيأتي إن شاء الله الكلام على أحكام اللفظ. فبين رحمه الله الركن الأول المتعلق بالوقف وهو الصيغة، فالوقف له صيغة، والصيغة تنقسم إلى قول وفعل، بعض العلماء يقول: الوقف لا يكون إلا بالقول فقط، ولا يقع الوقف بالفعل ولو دل عليه، فيرون أن الوقف لابد فيه من اللفظ، وأنه إذا لم يتلفظ لا يقع الوقف، كما يختاره أئمة الشافعية رحمهم الله، وهذا تقدم معنا في مسألة بيع المعاطاة، هل تشترط الصيغة أم أن الفعل ينزل منزلة القول، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله برحمته الواسعة كلام نفيس في كتابه النفيس: القواعد النورانية، بين فيه إجماع السلف الصالح، وذكر فيه نصوص الكتاب والسنة، وهدي السلف الصالح على أنهم كانوا ينزلون الأفعال منزلة الأقوال في الدلالة، فلا يشك المسلم بأن الشخص إذا بنى بناء على شكل المسجد، ثم فتح أبوابه وأذن للناس في الصلاة فيه دون أن يتكلم؛ أن هذا الفعل كما لو قال لهم: أوقفت. كذلك أيضا، لو أنه جاء إلى خزان ماء، فأخرج منه صنبور الماء ووضع كيزان الماء على الطرق العامة أو السابلة، أو أجرى قنطرة من الماء كما في القديم، انصبت في مكان عال لسقي الدواب أو سقي الناس، فلا يشك أحد أنه يقصد من هذا الفعل سقي المسلمين، ولا يحتاج أن يقول: وقفت أو أوقفت هذا، أو سبلت هذا أو حبست هذا، وإنما ننزل فعله منزلة قوله، ويكون الوقف ثابتا بالفعل كما هو ثابت بالقول. ولا شك أن هذا المذهب الذي يقول: إن الأفعال تنزل منزلة الأقوال هو المذهب الصواب إن شاء الله، خاصة وأن نصوص الكتاب والسنة تتضمنه، وكذلك إجماع السلف الصالح رحمهم الله يدل على أنهم كانوا ينزلون الأفعال منزلة الأقوال. إذا ثبت هذا فمعناه أن الصيغة التي هي ركن من أركان الوقف تكون بالقول وتكون بالفعل، فبين رحمه الله الصيغة بقوله: (ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه) . وقوله: (وبالفعل الدال عليه) : يشترط في الفعل أن تكون له دلالة، فإذا: ليس كل فعل نقبله ونلزم الناس بأنها أوقفت وحبست وسبلت، بل لابد وأن يتضمن ذلك الفعل دلالة كما ذكرنا، مثلا: البناء الذي يكون على شكل المسجد، وتجد فيه هذه القبة التي توضع على المساجد، وهي ليس من باب العبادة، إنما نشأت في أواخر عصور بني العباس، وكانت طريقة هندسية يراد منها إيصال الصوت. ولذلك المساجد التي تجد فيها هذه الفراغ يسري فيها الصوت أكثر من المساجد المصمتة التي تكون مثل الغرف، وهذا مجرب، ووجدنا هذا في بعض الأحيان، فكنا إذا انقطعت الكهرباء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الإمام في المحراب ونسمع صوته من آخر المسجد الأحمر. وهذا شيء ليس له علاقة بمسألة عبادة، إنما أن تحصر القباب في بنائها على الأولياء والقبور والمشاهد، فهذه من المنكرات والبدع التي ينبغي إزالتها وعدم جواز بقائها، لكني أتكلم أن القبة مما اصطلح الناس على وضعها في المساجد خاصة، لتأثيرها في نقل الصوت بداخل المسجد بشكل أوضح لا أنها أمر تعبدي. فإذا بنى إنسان بناء على شكل المسجد ووضع مثلا هذه القبة عليه، وأشرع المنارة، فهذا الفعل منه دال على أنه يريد أن يجعله مسجدا، وقد ثبت عن بلال رضي الله عنه في رواية حسنها بعض العلماء وبعضهم يقول: إنها ترتقي إلى درجة الصحيح لغيره، أن بلالا كان يؤذن أذانه الأول للفجر على سطح بيت الأنصارية بجوار المسجد، والرواية فيه مشهورة، وهي التي جاء فيها أنه كان يؤذن ثم يلعن المشركين، حتى إذا قارب الفجر للانبزاغ نزل رضي الله عنه فصعد ابن أم مكتوم وأذن. فالشاهد أنه كان يؤذن على مكان عال بقصد بلوغ الصوت لأنه كان يحتاج إلى ذلك. ثانيا: من فوائدها أنها تدل على المساجد، فأنت إذا جئت إلى بلد، وتريد أن تصلي وأنت لا تعرف البلد، ولا تعرف مساجده، لا تستطيع أن تستهدي للمسجد إلا بهذا البناء وهذه الأمارة. فالبناء على هيئة وشكل المسجد دال على إرادة وقفه مسجدا لله عز وجل. فإن فتح بابه، وأشرعه للناس جاز للغير أن يدخل فيه وأن يصلي فيه، ويعتبره وقفا، ويكون فعله منزلا منزلة قوله: أوقفت هذا المسجد لله عز وجل. ولما قال المؤلف: (يصح بالقول وبالفعل الدال عليه) لم يجعل الفعل موجبا للوقفية دون أن تكون فيه دلالة، والدلالة تنقسم إلى قسمين: الدلالة الخفية، والدلالة الظاهرة. والمعتبر عند العلماء رحمهم الله -الذين يقولون بأن الأفعال تنزل منزلة الأقوال- الدلالة الظاهرة لا الدلالة الخفية، فإن الوقف يوجب خروج المال عن ملكية صاحبه، ويوجب زوال يده عنه، والأصل أنه مالك، والأصل أنه متصرف فيه، فحينئذ لا نحكم بكونه وقفا إلا إذا كان قاصدا له ودالا عليه. بناء على ذلك لو أننا وجدنا شخصا أراد أن يقيم مسجدا في موضع، أو كان في الموضع مسجد، وهدم هذا المسجد من أجل البناء، فجاء وقال للناس: صلوا في الحوش عندي مثلا، صلوا في البيت نفهم أن قوله: صلوا في البيت ليس المراد به وقفية البيت للمسجد، وإنما مراده: ما دمتم محتاجين إلى مكان تصلون فيه، فإني قد وهبتكم بيتي ووهبتكم حوشي أو مكاني هذا من أجل الصلاة فيه حتى يتيسر بناء المسجد. فهذا الفعل غير دال على الوقف رغم دلالته في الظاهر، لكن بساط المجلس والحال الذي وقع فيه العرض من الشخص ليس دالا على الوقفية، فلا نعتبره موجبا للحكم بكون ذلك الموضع قد زالت ملكية صاحبه عنه أو صار وقفا أو مسجدا. يتبع
__________________
|
#477
|
||||
|
||||
![]() إذا يشترط أن يكون الفعل دالا، وقلنا: العبرة بالدلالة الظاهرة لا بالدلالة الخفية. قال رحمه الله: [كمن جعل أرضه مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه] (كمن) الكاف للتشبيه، أي: كشخص جعل أرضه مسجدا، وأذن للناس بالصلاة فيه، وجعلها مسجدا، معناه: أن هيئة الأرض، وبناءه لها، وعمارته لها كانت على شكل المسجد، فحينئذ نعتبره وقفا، فمن فعل هذا الفعل نعتبره قد أوقف الأرض، فلو توفي وجاء ورثته، وقالوا: الأرض أرض مورثنا، ونريد أن نبيعها، نقول إنه لما بناه على هيئة المسجد وأشرعه للناس، وأذن للناس بالصلاة فيه، فإنها دلالة ظاهرة تنزل منزلة قوله: أوقفت هذه الأرض مسجدا. قوله: (وأذن للناس في الصلاة فيه) لابد من وجود الإذن، والإذن أصله الإباحة، يقال: أذنت له بالدخول: أي أبحت له الدخول، فالأصل أن الأرض لها حرمة، كبيوت الناس ومساكنهم، فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلا بإذن، فإذا بناه على هيئة المسجد وأذن للناس بالصلاة فيه؛ فإننا نعتبره فعلا دالا على الوقفية. لكنه قد يبنيه على هيئة وشكل المسجد، ولا يأذن لأحد بالصلاة فيه، يقول: أريد أن أبيعه بحيث من يشتريه يجعله مسجدا، وهذا سائغ ويجوز، كما لو اشترى سيارة مثلا لنقل طلاب العلم أو نحوها، وقصد من ذلك أن يبيعها على من يوقفها، فقال: أريد أن أبتاعها من أجل أن يشتريها من يريد إيقافها، فالمقصود أن يأذن بالصلاة فيه، فيوجب الفعل الدال على أنه قصد الوقفية وتسبيلها لله عز وجل. وإذا أذن وخرج منه القول واللفظ الدال على الوقفية، فإن العلماء رحمهم الله يقولون: تنتقل الملكية عنه، وهذا على أصح قولي العلماء أن من أوقف وقفا عاما أو خاصا على جهة معينة، أو على أفراد، فإنه صدقة عليهم، مثل المسجد مثلا، تزول ملكيته عن ذلك الشيء، وإذا زالت ملكيته وامتنع بيعه، فلو أن هذا المسجد تهدم وأصبحت أرضه مثلا خالية، أو احتيج حاجة ماسة مثلا إلى هدمه وتعويضه بمسجد آخر، يرد الإشكال، فكيف نبيع هذا المسجد ولا مالك له؟ وبناء عليه قال العلماء: لابد من الرجوع إلى القاضي؛ لأن القاضي ولي من لا ولي له، وهو من الأحباس المسبلة لوجه الله عز وجل، ومنه يقولون: ينتقل لله عز وجل، والقاضي والسلطان والإمام يتولى النظر في مثل هذه الأمور، فيكون منزلا منزلة من يملكه حتى يصح البيع ويكون بيعا شرعيا؛ لأن البيع لا بد فيه من وجود بائع ومشتر، والبائع لابد أن يكون مالكا، أو له ولاية. فالقاضي إذا تولى المسجد وباعه، فإنه يكون من باب الولاية لا من باب الملك، وهذه الولاية سببها أن الملك قد زال عن الأرض بإيقافها، سواء كانت مسجدا، أو كانت مقبرة أو غير ذلك مما سبل في وجوه الخير. قال: [أو مقبرة وأذن في الدفن فيها] المقبرة: واحدة المقابر، والأصل في هذه التسمية قوله تعالى: {ثم أماته فأقبره} [عبس:21] ، وجعل الله عز وجل من رحمته لبني آدم، وإكرامه لهم سبحانه أن الميت منهم لا يترك على وجه الأرض؛ لأنه إذا ترك على وجه الأرض أكلته السباع، وانتهشته الجوارح، وأنتن وآذى الناس وأضر. فمن حكمته سبحانه وتعالى أن علم وألهم بني آدم أن يقبر بعضهم بعضا، فالمقبرة يحتاج إليها لدفن الموتى، فإذا كان الإنسان يملك أرضا وأراد أن يجعلها لآخرته، وأن يكسب البر والثواب بإيقافها فأوقفها مقبرة، فإنه بفعله لتسويرها، وفتح بابها، وإذنه للناس إذنا ضمنيا أو إذنا صريحا أن يدخلوا موتاهم، وأن يقبروهم في ذلك الموضع؛ فإنه يكون هذا الفعل منه دالا على الوقفية، فتكون الأرض وقفا، إن كانت عامة فعامة، وإن كانت خاصة فخاصة، كأن تكون مقابر مخصوصة لآل بيت، كقرابته، فيقول: هذا الحوش أريده مقابر لي ولآل بيتي أو قرابتي، فيكون قد أوقفه على نفسه، وعلى أهل بيته. فكل من كان تنطبق عليه هذه الصفة، يجوز أن يقبر ويدفن فيها، لكنها تكون صدقة، ويكون وقفا، ويكون فعله دالا على الوقفية كقوله. الأسئلة حكم الجهر بالقراءة في الصلاة السؤال هل الجهر بالقراءة في الصلاة ركن من أركانها أم من المسنونات؟ سؤال: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، منهم من يوجب، ومنهم من لم يوجب ذلك، وهم كلهم متفقون على أنه ليس بركن، ولكنه يكون إما واجبا أو سنة، فمن أهل العلم من قال: إنه واجب، ومنهم من قال: إنه سنة، فالذين قالوا بوجوبه قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم جهر فيما جهر فيه، وأسر فيما أسر، وقد أعلمنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه: (فما جهر فيه جهرنا، وما أسر فيه أسررنا) فوجب التقيد بما ورد من سنته وهديه عليه الصلاة والسلام وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . ومن أهل العلم من قال: الجهر سنة، وهذا هو الصحيح؛ أن الجهر سنة والإسرار سنة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في السرية، ولو كان الإسرار في السرية لازما، والجهر في الجهرية لازما لما جهر في السرية صلوات الله وسلامه عليه، كما في الحديث الصحيح في صلاة الظهر أنه كان يسمع الصحابة الآية والآيتين؛ لأنه لو كان الإسرار لازما، والجهر لازما، لا يغير ولا يبدل؛ لما خالف الصفة، فلما رفع صوته عليه الصلاة والسلام وجهر في السرية؛ نبه بالمثل على مثله وبالنظير على نظيره، فدل على أن الإسرار ليس بواجب، ولو كان واجبا لما خالفه. وفائدة الخلاف أنك لو نسيت في صلاة الصبح فصليت ركعتين ولم تجهر فيهما، فإذا قلنا: إن الجهر واجب لزمك سجود السهو القبلي، وإذا قلنا: إن الجهر سنة لا يلزم سجود السهو القبلي إلا على مذهب من يرى سجود السهو في المسنونات؛ لأن السهو عندهم من جهة دخول السهو بغض النظر عن كونه في واجب أو غير واجب، كما يختاره بعض المالكية وأهل الظاهر رحمة الله على الجميع. وأيا ما كان فلا ينبغي للمسلم أن يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا خير في مخالفة هديه عليه الصلاة والسلام وسنته، فالعلماء مع أنهم اختلفوا في الجهر والإسرار، لكن الأولى ألا تخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان من جهر تجهر وما كان من إسرار تسر. ولذلك يشرع إذا صلى الإنسان الفجر، حتى ولو لم يدرك مع الإمام إلا لتشهد فله أن يجهر بالقراءة، لا كما نجده من كثير من الناس إذا لم يدرك إلا التشهد الأخير فلا تسمع له صوتا، ولا تسمعه ينبس بكلمة، ولذلك ينبغي تنبيه هؤلاء على السنة، فيقال لهم: هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم. ومن علامات القبول وأماراته أن الإنسان يوفق لاتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في العبادة، بالتزام السنة والحرص عليها وتطبيقها كما وردت، مما يجعله الله عز وجل سببا لقبول عبادة الإنسان، وعظم أجره فيها، والله تعالى أعلم. حكم إمضاء الوقف المضر بالورثة السؤال إذا أضر الوقف بالورثة، كمن أوقف داره الوحيدة واحتاجها أولاده للسكنى، فهل يمضي الوقف أم يرد؟ الجواب هذا فيه حديث متكلم في سنده، أما إذا أوقف فإن وقفه ينفذ، ويخرج عن ملكيته، وليس للورثة سلطان على ما أوقفه مورثهم خارجا عنهم؛ لأنه زالت ملكيته عنه في حياته، كما لو باع ووهب في حياته، وبناء على ذلك لا سلطان للورثة على ما أوقفه مورثهم إلا في الحدود الشرعية. مثلا: إذا رأى الورثة أن بستان مورثهم الذي تصدق به على الفقراء قد ضيعه ناظر الوقف، وكان ناظر الوقف أجنبيا عنهم، فمن حقهم أن يشتكوه؛ لأن هذا من بر والدهم وقريبهم أن يبقى الوقف على أحسن الأحوال، فإذا وجدوا الناظر قد أخل به فهم أحق من يشتكيه، وأحق من يحرص على حصول الأجر لمورثهم. فمن البر الحرص على إبقاء أوقاف الموتى، فمن بر الوالدين، ومن بر الجد، ومن بر قرابة الوالدين من الموتى الحرص على بقاء أوقافهم التي ينتفعون بها بعد موتهم لحصول الأجر والثواب لهم، والله تعالى أعلم. حكم صرف الوقف غير المحدد على الأصناف الثمانية من أهل الصدقات السؤال إذا أوصى الواقف أن يتصدق بمزرعته ولم يذكر أي جهة، فهل تصرف للأصناف الثمانية من أهل الصدقات؟ الجواب بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: اختار طائفة من العلماء أنه إذا قال: تصدقت بهذه الأرض أو سبلت هذه الأرض فقال: هذه صدقة، فإنها تكون عامة. إذا قال للفقراء اختصت بالفقراء من بين الأصناف الثمانية، لكن إذا قال: صدقة، فمذهب طائفة من العلماء كما اختاره الإمام النووي والإمام ابن قدامة وغيرهم رحمة الله عليهم أنها تصرف في الأصناف الثمانية؛ لأنه مصطلح شرعي يكون مستحقا لجهته. ومن أهل العلم من قال: تصرف وتكون في عموم وجوه الخير والبر، وفائدة الخلاف أنه إذا كان منها سيولة أو نقد، فإذا قلنا: إنها خاصة بالأصناف الثمانية؛ صرفت لأهل الزكاة، وإذا قلنا: إنها لا تختص بالأصناف الثمانية جاز أن يؤخذ من سيولتها لطبع الكتب، ونشر العلم، وبناء المساجد، وحفر الآبار، وإصلاح الطرقات وغير ذلك من وجوه الخير العامة؛ لأنه لم يخصص، وهذه كلها صدقات، فتكون صدقات عامة لعموم المسلمين، وتكون صدقات خاصة، وأيا ما كان فكلا القولين له وجه، لكن القول بأنها تكون لأهل الزكاة فيه احتياط، إلا أنه من جهة اللفظ والدلالة إذا قال: صدقة، أن هذا عام لا يختص بصنف، أو يشمل الأصناف الثمانية وغيرهم، ويكون في أوجه البر العامة؛ لأنه يشملها قوله: صدقة. فمثلا: لو قال: أريد أن أحبس هذه العمارة على أن تقسم غلتها أثلاثا: ثلث منها لإصلاح العمارة إذا تعطل شيء من منافعها، وثلث منها لورثتي، وثلث صدقة، إذا قال: الثلث صدقة، وجئنا وأخذنا هذا الثلث، وبنينا به مسجدا، فإن المسجد يوصف بكونه صدقة وطاعة؛ لأن الصدقة سميت صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها، فكل ما كان من أعمال الخير والبر دالا على صدق إيمان صاحبه بالله عز وجل، وتصديقه بموعود الله عز وجل؛ فإنه يدخل في هذا المعنى العام. إذ لو كان مراده أهل الزكاة لقال: صدقة على أهل الزكاة، ولما قال: صدقة؛ فإن هذا اللفظ عام، لكن لو أنها اختصت بالضعفاء والفقراء الذين هم من أهل الزكاة واحتيط فيها فهذا أفضل، لأنه يخرج من الخلاف، ويوجب أكثر الأجر؛ لأنهم أحوج من يكون إلى هذه الصدقة والبر. حكم الأخذ من ماء المسجد السؤال إذا احتجت إلى الماء، فهل لي أن آخذ من ماء المسجد؟ الجواب إذا كان الماء مخصوصا بالمسجد فلا يجوز إخراجه عن المسجد، مثلا: الماء الذي في دورات المياه، فإنه لا يشك أحد أن صاحب المسجد قصد منه الوضوء، وقصد منه الطهارة، وقصد منه الإعانة على الصلاة، فكل ما كان داخلا في هذا الشيء الذي يدل عليه الحال، فإنه يجوز للإنسان أن يرتفق به. أما لو أخرجه عن هذا الحد كأن يملأ الماء ويذهب به إلى بيته من أجل الشرب أو غير ذلك، فإن هذا يضر بمصلحة المصلين، ويضر بمصلحة من في المسجد، والأشد من ذلك والأدهى أخذ المياه من دورات المياه لغسل السيارات، أو نحو ذلك من المصالح الخاصة، فهذا الأمر فيه أشد؛ لأن الماء موقوف، ودلالة الحال تدل على أنه مخصوص بهذا الموضع. فالماء الموجود في المسجد مخصوص بالمسجد؛ لأنه لو يريده خارج المسجد لأخرجه عن المسجد، ولذلك ينبغي أن يقيد به، ومن هنا قال أهل العلم: إذا وضع القرآن أو المصحف في المسجد لم يجز إخراجه، وإذا وضعت كتب العلم في مكتبة وخصت بها لم يجز إخراجها إلا إذا كانت -مثلا- المدرسة نفسها تابعة للمكتبة أو نحو ذلك مما هو في حكم التبعية لهذا الموضع الذي خصت به. فلا بد من التقيد في الأوقاف بأحوالها وصفاتها، ونحن قلنا: إن دلالة الأفعال كدلالة الأقوال، فصاحب المسجد إذا وضع خزانا على دورات المياه فلا يشك أحد أنه وضعه من أجل دورة المياه، فإذا أخرج للناس ماء من أجل أن يشربوا فهذا للسابل والطريق، لكن إذا أدخله إلى المسجد فما الذي دعاه أن يتكلف مئونة وعبء إدخاله إلى المسجد، إلا قصد أن يكون صدقة على من في المسجد. ويتفرع على هذا أنه لو وضع ثلاجة ماء من أجل أن يشرب منها الناس، فلا يجوز لأحد أن يتوضأ أو يغتسل منها؛ لأن هذا الماء مجعول من أجل الشرب، وليس بمجعول من أجل الوضوء أو الغسل، ولذلك إذا اغتسل أو توضأ منها الناس أضروا بمصلحة المبرد للماء -الثلاجة- ولربما تضررت، وإذا وضعت من أجل السقي جاءها المحتاج للسقي، لكن يجدها فارغة؛ كلما بردت فرغت من أجل الوضوء أو الاغتسال، أو قد يقل تبريدها وتقل مصلحتها، ويقل أجرها في نفع من يحتاج إلى الشرب الذي أوقفت عليه. فلابد من العناية بهذا، فما جعل وقفا على جهة أو على وجه فإنه يتقيد به، وهذا إن شاء الله سنبينه أكثر عند بياننا لشرط الواقف ولزوم التقيد به. حكم الجمع بين صلاتين متما للأولى وقاصرا للثانية السؤال هل يجوز أن يجمع بين صلاتين متما للأولى قاصرا الأخرى، وذلك أن الأولى دخل وقتها، وهو مقيم ثم سافر؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: قد سبق وأن ذكرنا مسألة الأصل وما يستثنى من الأصل، والجمع مستثنى من الأصل، والأصل أن تصلي كل صلاة في وقتها؛ لأن الله تعالى يقول: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء:103] ، فلما ألزمنا الله عز وجل بكل صلاة في وقتها، وحدد للصلوات الإتمام والكمال في الرباعية، التزم العلماء هذا الأصل، وما ورد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم استثناء خصوه بالوارد، وهذا هو الفقه، أي: أن تعرف الأصل فتستمسك به، وما وردت السنة به استثناء تقصر فيه على صفة السنة. من هنا شدد جمهور العلماء في مسألة الجمع وجعلوا له شروطا وضوابط؛ لأنه مخالف للأصل، ومرادنا بمخالف للأصل ليس المراد به مخالفة السنة، بل المخالف للأصل عندهم أن الأصل في الصلوات أنها مؤقتة، وهذا الأصل يدل عليه أكثر من دليل في الكتاب والسنة، والإجماع منعقد عليه. فخالف الأصل بمعنى أنه استثني من الأصل وجاء على خلافه، هذا معنى مخالفة الأصل، وخالف الأصل لأنك تجعل الأولى في وقت الثانية في جمع التأخير، كما في الظهر إذا صليتها مع العصر، والمغرب إذا صليتها مع العشاء، وتجعل الثانية في وقت الأولى كما في جمع التقديم؛ لأن الأصل أن تجعل الثانية المؤخرة في وقتها والأولى في وقتها، فإذا لا يشك أنها مخالفة لصورة الأصل الوارد، وهذه المخالفة مخالفة شرعية، وليس المراد به المخالفة المنكرة. فإذا قلت: إنه مخالفة للأصل، قال بعض العلماء: لا يقع جمع إلا إذا كان بين صلاتين مقصورتين إلا ما استثناه الشرع من صلاة المغرب مع العشاء، قالوا: الأصل أن الصلاة تقصر، فلما كان المغرب من جنس ما لا يقصر فإنه لا يقع الجمع في صلاة تقصر إذا كانت تامة؛ كأن يسافر في أول وقت الظهر ويجمعها إلى صلاة العصر، فحينئذ قالوا: إنه يصلي الظهر في وقتها، ويصلي العصر في وقتها، ولا يترخص بالجمع، بناء على هذا المذهب؛ لأن الأولى لم تقع مقصورة، والجمع الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قصر، فلم يجمع بين صلاتين إحداهما تامة والأخرى مقصورة. قال بعض العلماء: إنه يمكن أن يجمع بين صلاة الظهر وصلاة العصر بناء على أن العبرة عندهم بآخر الوقت، فيجوز له أن يقدم العصر ويصليها مع الظهر، ولكن هذا الذي قال بالجواز يشترط أن يكون جمعك بعد خروجك، لا أن تجمع قبل الخروج؛ لأنك قبل الخروج مقيم، فإذا أردت أن تجمع والأولى تامة لا بد أن يقع خروجك للسفر قبل خروج وقت الأولى. مثال ذلك لو أذن الظهر وأنت بمكة لا تستطيع أن تجمع بين الظهر والعصر وأنت على نية السفر إلا إذا خرجت من حدود مكة قبل خروج وقت الظهر، فإذا خرجت قبل خروج وقت الظهر فالعلماء الذين يجيزون يقولون: يصلي الظهر أربعا ثم يضيف لها العصر، فصلى الظهر أربعا؛ لأنه خوطب بها أربعا بدخول الوقت، فلا يصح له أن يقصر، وجاز له أن يجمع العصر إليها؛ لأن موجب الرخصة بالجمع هو السفر، وهو مسافر، فقد جمع وحالته حالة سفر، هذا وجه من يجيز ويرخص، وله وجهه. ويقوي هذا بأن المغرب تضاف إلى العشاء والمغرب لا قصر لها؛ لكن ينقض هذا القياس؛ لأن المغرب ليست من جنس ما يقصر حتى يصح القياس، ومن هنا لو احتاط الإنسان فهذا أفضل وأكمل، ولكن لو وقع منه هذا الجمع ففيه وجه على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم. حكم تكرار قراءة الفاتحة في الركعة الواحدة لمن ابتلي بالوسوسة السؤال الفاتحة ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها، فمن كان يقرأها ثم تأتيه الظنون والوساوس بأنه لم يقرأها فأعادها أكثر من مرة في الركعة الواحدة، فما الحكم في ذلك، وما توجيهكم فضيلة الشيخ في هذا الأمر؟ الجواب من ابتلي بالوسوسة فليشتك إلى الله عز وجل، وليكثر من سؤال الله سبحانه وتعالى أن يعافيه أو يربط على قلبه في هذا البلاء حتى يسلم من شره، ولا يكون للشيطان عليه سبيل. إذا ابتلي الإنسان ببلية يسأل الله رفع هذا البلاء، وإلا إذا لم يرفعه سبحانه وكتب أنه سيبقى مع هذا البلاء يسأله أن يفرغ عليه من اليقين والصبر والإحسان -مرتبة الإحسان التي هي صدق اللجوء إليه سبحانه- ما يخفف به عنه هذا البلاء ويجعله خيرا له في دينه ودنياه وآخرته. فالوسوسة أمرها عظيم، قد جعل الله عز وجل آياته حجابا وحرزا وحفظا لعباده من الوسوسة، وأمرهم أن يستعينوا به سبحانه وهو رب الجنة والناس، {من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس} [الناس:4 - 6] . فأمر نبيه وصفوة خلقه صلى الله عليه وسلم، والأمر لأمته من بعده، أن يستعيذوا به من الوسوسة، وهذا يدل على عظيم خطرها وبلائها، والوسوسة قد تنزل على الإنسان بلاء من الله لكي يرفع درجته ويعظم أجره، وهذا في حال؛ كأن يبتلى بالوسوسة مثلا في طهارته فيسبغ ولا يغلو، فإذا توضأ مرتين، وتبين له أنه أخطأ في وسوسته كتب له أجر الوضوء مرتين، ولو صلى مرتين، وسوس في الأولى ثم صلى ثم تبين له بعد الانتهاء من الثانية أنه صلى مرتين أو ثلاثا كتب الله له أجر الفريضة ثلاثا. لو فعلها غيره كان مبتدعا، فهو الوحيد الذي ينال أجر الفضيلة مرتين؛ لأنه ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، فهو مثاب فعلى ما ظنه واعتقده، وأمر بالبناء على غالب ظنه، فإذا وسوس وغلب على ظنه أنه لم يفعل ثم فعل كتب الله له الأجر مرتين. لكن لو فعلها وهو عاقل عالم وكرر مرتين؛ فإنه في المرة الثانية مبتدع، ولا أجر له ولا ثواب، ففي الحديث الصحيح (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلى الصلاة مرتين) أي يعتقد كلا منهما فريضة، هذا من البدعة والحدث، لأن الله أوجب عليه صلاة واحدة وهو يصلي صلاتين والله يقول: {لا تغلوا في دينكم} [النساء:171] فقد غلا في دنيه، وزاد ما لم يأمره الله عز وجل بزيادته. المقصود أن الوسوسة تكون ابتلاء لرفع الدرجة للعبد من هذا الوجه، وتكون أيضا بسبب ذنب وخطيئة سلط الله عز وجل بها الشيطان على الإنسان، ومن أعظم ما يسلط به: عقوق الوالدين وقطيعة الرحم وأذية الصالحين والعلماء وغيبتهم وسبهم وشتمهم والاستهزاء بهم. وهذا سبب فتنة فاعل ذلك في دينه؛ لأن هذا الأمر -أذية المسلمين، وأذية القرابة كعقوق الوالدين وقطيعة الرحم- مظنة الحرمان من الخير {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} [محمد:22 - 23] . فيصاب الإنسان بالبلاء بسبب الذنوب، ولذلك أخبر سبحانه وتعالى أن من يعش عن ذكره يقيض له شيطانا فهو له قرين، فالوسوسة من الشيطان، وقد يكون سببها الغفلة عن ذكر الله عز وجل، كأن يكون حافظا للقرآن فيترك مراجعة القرآن، ويترك مذاكرته، ويعرض عن القرآن حتى يهجره -نسأل الله السلامة والعافية- فيسلط الله عليه الوسوسة في وضوئه أو طهارته واستنجائه. أو يكون بسبب ذنب كالسخرية ممن ابتلي بذلك، كأن يأتي موسوس فيهزأ به أو يستخف به فيعافيه الله ويبتليه، أو يهزأ من شخص ذو عاهة، فيبتليه الله بعاهة وفتنة في دينه كالوسوسة، ومنها الوسوسة في الناس، والوسوسة في عقائدهم، والوسوسة في أفكارهم، والوسوسة في مناهجهم، والوسوسة في صلاحهم، وفي تقواهم، فيبتلى بالوسوسة؛ فيأتي إلى عبد صالح فيتشكك فيه ويدخل في قلبه شيئا من ذلك فيتسلط الشيطان عليه، لأن كل شيء فيه أذية للمسلمين دخل بدون حق إلى قلب المؤمن؛ فمعناه أن الشيطان قد تمكن من شعبة من شعب القلب؛ فإن كان الذي قد وسوس فيه الإنسان عبدا صالحا تقيا يحبه الله؛ فإن الله يجعل بلاء من يشك في أمثال هؤلاء أعظم، وبلاء من يؤذيهم أجل، كالوالدين مثلا فإن حقهم عظيم، فإذا أساء الإنسان الظن بهم ربما ابتلاه الله بالوسوسة في أهله وولده كما عق والديه، وهكذا بالنسبة للمظان الأخر، والذي يريد العافية من الوساوس والخطرات وتسلط الشيطان، فليستعصم بعصمة الله بالبعد عن الذنوب وكثرة الاستغفار. ولذلك كان بعض العلماء يوصي من ابتلي بالوسوسة يقول له: أكثر من استغفار الله، وقل: اللهم إني أستغفرك من ذنب سلط علي هذا البلاء، فإن الله يقول: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء:79] ، وأي بلاء يبتلى به الإنسان، سواء كان في الشهوات أو الشبهات أو الشكوك، يسأل الله أن يغفر له ذنبا سلط عليه هذا البلاء. ولذلك أثر عن محمد بن سيرين أنه ابتلاه الله بالدين في آخر عمره، حتى أنه سجن فيه رحمه الله برحمته الواسعة، ولما توفي أنس رضي الله عنه كان قد أوصى أن محمدا يغسله، فما استطاعوا أن يغسلوه حتى أخرجوه رحمه الله برحمته الواسعة. ولما كان يوما من الأيام مع أصحابه قال: أعرف الذنب الذي من أجله ابتليت بالدين، قلت لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس. فابتلاه الله عز وجل بالدين في آخر عمره، فلا يهزأ الإنسان من الناس، وإذا رأى موسوسا في وضوئه فلا يضحك منه ولا يستخف به، وإذا رأى ذا عاهة فليحمد الله سبحانه وتعالى. الله سبحانه وتعالى يقول: {ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} [إبراهيم:24 - 25] ، الكلمة الطيبة إن رأيت مبتلى، فتقول له: اصبر واحتسب، فتصبح كلمة طيبة تؤتي أكلها كل حين؛ فكلما جاءه البلاء تذكر تصويرك له، وكلمتك له، ولربما بقيت معه إلى عمره، كلما تذكرها صبت في ميزان حسناتك حسنات وأجور ترفع بها درجات. فالإنسان يحرص دائما على البعد عن المظالم وأذية الناس، فلن يوفق إنسان في دينه إلا إذا استعصم بعصمة الله عز وجل، وابتعد عن الذنوب. والحل في هذا أن الفاتحة إذا قرأها الإنسان وشك هل قرأها أم لم يقرأها؛ فإن كان الشك بعد مضي وقت يغلب على الظن أنه قرأ فيه فحينئذ لا يلتفت إلى الوسوسة، بل يستصحب ويقوي نفسه بالدلائل، وقالوا: إنه إذا حصلت الوسوسة في الوضوء أو حصلت في القراءة، أن الأفضل والأكمل أن يكون معه إنسان، كالمرأة في بيتها تكون معها بنتها أو ابنها فتقرأ، حتى رخص بعض العلماء في مسألة الجهرية والسرية في الموسوسة أنها تقرأ وتنبس حتى تسمع نفسها وتستعين بالغير لإثبات ذلك قطعا للوسوسة عنها. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم العفو والعافية، ودوام العافية والمعافاة التامة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
#478
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوقف) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (391) صـــــ(1) إلى صــ(12) شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [2] من الأهمية بمكان أن يدرك المسلم ما يلحقه من العمل بعد موته، والوقف هو مما يلحق ثوابه العبد بعد موته، وللوقف أركان لابد من الإحاطة بها، وكل ركن من هذه الأركان له شروط يجب تحققها حتى تتوفر الصفة الشرعية للوقف. صيغ الوقف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن للوقف أركانا لابد من وجودها حتى يتحقق الوقف، ومن هذه الأركان: الصيغة. والوقف يستلزم وجود الواقف، وهو الشخص المالك للشيء الموقوف، وهو الذي يصدر منه الوقف، وسيأتي إن شاء الله بيان هذا الركن. فالركن الأول: الواقف، والركن الثاني: الشيء الموقوف، والمراد بالشيء الموقوف: المحل الذي يراد وقفه، سواء كان من المساجد أو غيرها، وسيذكر المصنف رحمه الله ما يتعلق بهذا الركن من أحكام. الركن الثالث: الصيغة، وهي التي تشتمل على العبارة الموجبة للحكم بالوقف، وفي حكمها الأفعال، وقد تقدم أنها تنزل منزلة الأقوال في الدلالة على الوقف. الركن الرابع: الموقوف عليه، كأن يوقف على أشخاص معينين؛ كأولاده وذريته، أو يوقف على شخص معين، كصديق له، أو على جهة معينة، كقوله للفقراء، أو لطلاب العلم، أو نحو ذلك ممن سيأتي إن شاء الله بيانه عند الحديث عن جهة الوقف العامة والخاصة. إذا: لابد من وجود الواقف -الشخص الذي يملك الوقف- وصيغة تدل على الوقفية، ومحل يراد ويقصد وقفه، وموقوف عليه يكون له منفعة ذلك الوقف. تعتبر صيغ الوقف غير الصريحة بأمور قال رحمه الله: [وتشترط النية مع الكناية] الكناية لا يحكم بالوقف بها إلا بأحد ثلاثة أمور: الأول: أن ينوي في قرارة قلبه، ونحن لا نستطيع أن نكشف عما في ضمائر الناس، ولا نستطيع أن نطلع على ما في قلوبهم، فذلك أمره إلى الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، ولذلك قال تعالى: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور} [العاديات:9 - 10] ، وقال: {إنه عليم بذات الصدور} [الأنفال:43] ، فهو وحده سبحانه الذي يعلم ما في قرارة النفوس، وما انطوت عليه القلوب، لكن لنا حكم الظاهر، فإذا تلفظ بهذا اللفظ المحتمل، فإننا نتوقف؛ لأن اللفظ المتردد يوجب التوقف، فكل ما تردد بين شيئين لم يجز لك أن تصرفه إلى شيء دون آخر يحتمله إلا بدليل. ولذلك يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات:6] ، فلما كان خبر الفاسق مترددا بين كونه صدقا وبين كونه كذبا أوجب التوقف، فكل شيء متردد يوجب التوقف ما لم يقم الدليل على رجحان ظن من الظنون على بقيتها. فإذا كانت ألفاظ الكناية محتملة فإنا نتوقف ونقول: هذا لفظ لا يدل على الوقفية صراحة. اختصم إليك ورثة، وقال أحدهم: سمعت أبي يقول: سبلت مزرعتي، فقال بعضهم: هذا وقف، وقال بعضهم: قصد التسبيل في ذلك العام، نقول: إنه ليس من ألفاظ الوقف الصريحة ما لم يكن الميت قد صرح لهذا الذي يزعم الوقفية أنه قصد الوقفية؛ لأنه أمر متعلق بالنية، فإذا لم يصرح له فإنا نسأل: هل هناك لفظ آخر غير قوله: سبلت بمزرعتي؟ قال: ما قال إلا تصدقت بمزرعتي. فنقول: هي صدقة في ذلك العام قطعا من حيث الأصل؛ لكن لا يحكم بوقفيتها على الدوام ما لم يصرح بنيته أو يوجد دليل آخر من اقتران لفظ، أو وجود حكم من أحكام الوقف الخاصة به، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإن خلا لفظ الكناية عن هذه الثلاث فلا نحكم بالوقفية بمجرده؛ لأنه ليس بصريح. قال رحمه الله: [أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة] (أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة) هذا الأمر الثاني، وهو أن يقترن بقوله: (داري صدقة موقوفة) ، فإنه لما قال (داري صدقة) لم يدل على الوقفية صراحة؛ إنما يدل دلالة محتملة، فلما قال (موقوفة) دل هذا على أنها وقف، وأن لفظ (صدقة) لما وصف بكونه وقفا أوجب الحكم بالوقفية. وكذلك إذا قال: (داري صدقة مسبلة) ، (داري صدقة محبوسة) ، (داري صدقة مؤبدة) ، (صدقة محرمة) ، فهذه هي بقية الألفاظ الخمسة، وحينئذ فإننا نحكم بالوقفية. فهذا هو الأمر الثاني، فإما أن توجد النية، وهذا يفتقر إلى أن يخبرك الشخص المتلفظ، أو يخبر العدلين حتى يحكم بذلك إذا لم يكن موجودا كالميت ونحوه. أو يقترن بهذا اللفظ الذي هو من ألفاظ الكناية الثلاثة (تصدقت حرمت وأبدت) لفظ من ألفاظ الأوقاف سواء كان لفظا صريحا أو لفظ كناية؛ لأن الكناية مع الكناية عززت من المقصود وارتقت من الاحتمال إلى كونها أشبه بالصريح، فغلبت الظن بأنه قصد الوقفية، وحينئذ يحكم بكونه وقفا إذا اقترن بأحد الألفاظ الخمسة. والمراد بذلك أنك إذا اخترت لفظا من ألفاظ الكناية بقيت خمسة ألفاظ، ثلاثة صريحة، واثنان منها كناية، فإذا قال: تصدقت، أو قال: حرمت، أو قال: أبدت؛ فإنه لابد أن يضيف إليها لفظا من هذه الألفاظ الخمسة الباقية. قال رحمه الله: [أو حكم الوقف] هذا هو الأمر الثالث الذي نحكم بسببه بالوقفية إذا اقترن بالكناية، كأن يقول: (داري صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث) ، فالذي لا يباع ولا يوهب ولا يورث إنما هو الوقف، فإذا صرح بذلك فقد دل على أنه قصد بها صدقة الأوقاف، وأنه أراد تحبيسها وإيقافها، فيحكم بوقفها. فلا يحكم بالوقف بلفظ الكناية إلا مع أحد ثلاثة أمور: أولها: النية، وهذا يفتقر إلى كلام الشخص نفسه، وإخباره أنه قصد الوقفية. والأمر الثاني: اقتران لفظ من الألفاظ الخمسة الباقية. والأمر الثالث: أن يقرن بلفظ الكناية حكما من أحكام الوقف، فيقول: (مزرعتي صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث) ؛ فإن هذا من اختصاص الوقف، ومن أحكام الوقف، فيكون ذكر هذا الحكم دالا على إرادته للوقفية فيحكم بكون الوقف ظاهرا، وحينئذ يكون لفظ الكناية بمثابة الصريح الموجب للوقفية. صيغ الوقف غير الصريحة ثم قال رحمه الله: [وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدت] ابتدأ بالصريح لأنه أقوى وهذا من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى. وقوله: (وكنايته) : من كن الشيء إذا استتر، ومنه الكن، وهو الشيء الذي يتقى به المطر، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما استسقى ونزل الغيث وفر الناس إلى الكن ضحك عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه وقال: أشهد أني رسول الله) ، صلوات الله وسلامه عليه. فالكن أصله الاستتار، والكنايات ألفاظ تحتمل معنيين فأكثر، فإذا تلفظ بهذه الألفاظ احتمل أن يكون قصده الوقفية، واحتمل أن يكون قصده شيئا آخر مما يحتمله اللفظ. وبناء على ذلك لا نحكم بالوقفية بمجرد تلفظه بهذه الألفاظ المحتملة؛ لأن الله جعل لكل شيء حقه وقدره، فما كان صريحا نعامله معاملة الصريح، وما كان محتملا سألناه عن نيته، أو يذكر لفظا أو حكما يوجب الدلالة على الوقفية. قوله رحمه الله: (وكنايته) يعني: كناية الوقف. وقوله: (تصدقت) : إذا قال: تصدقت بمزرعتي، فيحتمل أمرين، يحتمل أنه تصدق بثمرة هذه السنة للفقراء، ولا يقصد الصدقة الأبدية؛ لأن الوقف صدقته أبدية، ويحتمل أن يكون مراده الوقفية، فقوله: تصدقت بمزرعتي، يحتمل أنه يقصد الوقفية إلى الأبد. فاللفظ محتمل ومتردد بين هذين المعنيين، فيسأل عن نيته، هل نويت حينما قلت: تصدقت بمزرعتي؛ الوقفية؟ إن قال: نعم. حكمنا بالوقفية، وإذا قال: لم أنو الوقفية، لم نحكم بها، هذا بالنسبة لما بينه وبين الله عز وجل من نيته، لكن لو قال: تصدقت بمزرعتي وقفا لله عز وجل فحينئذ لا إشكال؛ لأنه إذا قرن بها واحدا من الألفاظ الخمسة فقد أكد إرادته للوقفية كما سيأتي. وقوله: (وحرمت) التحريم يحتمل منع الإنسان نفسه من ذلك الشيء، كأن يقول: حرام علي أن آكل من مالي، حرام علي أن آكل من بستاني، حرام علي أن آكل طعامي، فهذا منهي عنه شرعا، لا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله له، ويجعله حراما؛ لأن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله. وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها) . ولذلك قال تعالى لنبيه: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم:1] ، وهذا كله يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله له؛ لكنه لو تلفظ بهذا اللفظ فقال: حرمت بستاني، احتمل أنه محرم لبستانه على نفسه، واحتمل أنه محرم لبستانه على أهله وولده وذريته وقرابته، واحتمل أن يكون محرما بستانه أن يباع، أو نحو ذلك من الاحتمالات. واحتمل أن يكون مقصوده الوقفية، فيقول حرمت بمعنى أنه جعله محرما عليه كأنه خرج عن ملكيته؛ لأن الشيء إذا خرج من ملكيتك صار ممنوعا عليك، لا تستطيع أن تتصرف فيه كمال الأجنبي، فمن أوقف أرضا، أو أوقف عقارا أو منقولا، فقد أخرجه عن ملكيته فصار بالوقفية كالمحرم عليه. فهو لفظ محتمل ويعتبر من ألفاظ الكناية، ولذلك لا يحكم بالوقفية بمجرد صدوره من المكلف. قوله: (وأبدت) الأبد: مدى الدهر، ولا يتقيد بزمان، والوقف مبني على التأبيد، ومن شرطه التأبيد، فلا يصح أن يكون مؤقتا، وليس لأحد أن يقول: أوقفت داري شهرا، ولا يصح أن يقول: أوقفت مزرعتي سنة، فإذا كان الوقف من صفاته التأبيد، وقال: أبدت مزرعتي، احتمل أن يقصد الوقفية، واحتمل أن يقصد غير الوقفية من الأمور التي يحتملها هذا اللفظ، وقد تكون هناك احتمالات عرفية، وقد تكون هناك احتمالات لفظية. فإذا قال: أبدت، فإنه لفظ متردد، ولا يدل على الوقفية صراحة، ومن هنا اعتبره العلماء من ألفاظ الكنايات، فلا نحكم بكونه وقفا حتى يضيف لفظا آخر مؤكدا لوقفيته، أو تكون هناك نية دالة على الوقفية، أو يقرن به حكما من أحكام الوقف فينصرف اللفظ إلى الوقفية. صيغ الوقف الصريحة شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الصيغة. والصيغة القولية تنقسم إلى قسمين: فمن وقف وكان وقفه باللفظ فلا يخلو من أن يكون لفظه صريحا: وذلك يكون بعبارة لا تحتمل إلا معنى الوقف، أو كناية: أي بعبارة محتملة للوقف وغيره، فللصريح حكم، وللكناية حكم. فقال رحمه الله: [وصريحه] الضمير عائد إلى الوقف والصريح هو الذي لا يحتمل معنى غير الوقف. قوله: [وقفت] والأصل في الوقفية هذا اللفظ، يقول: وقفت بيتي، وقفت عمارتي، وقفت مزرعتي، فهذا صريح في الوقفية. اللفظ الثاني [حبست] يقول: حبست مزرعتي صدقة للمساكين، حبست مزرعتي على ذريتي. اللفظ الثالث: [سبلت] ، كقوله: سبلت كتبي لطلبة العلم، فقوله: وقفت أو حبست أو سبلت، هذه ثلاثة ألفاظ أجمع العلماء رحمهم الله على أنها صريحة في الوقفية. ودليل كون هذه الألفاظ صريحة في الوقف السنة والإجماع، أما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر بن الخطاب: (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمر) ، فاستخدم التحبيس وعبارة التسبيل، وبذلك نجد العلماء يطلقون على الأوقاف: الحبس، فيقال: ولا يجوز هذا إلا في الأحباس، أي الأوقاف. فالتحبيس والتسبيل وردت بهما السنة، والوقف هو الأصل، ولذلك يدل على الوقفية لغة وعرفا، فإذا قال شخص: وقفت منزلي، وقفت داري؛ فإنه إذا ثبت بشاهدة العدلين عند القاضي أنه قال هذه الكلمة حكم بالوقفية، فلو قال: قصدت غير الوقفية لم يقبل قوله؛ لأنها صريحة في الدلالة على الوقفية، ففائدة اعتباره صريحا أنك تحكم بالوقفية دون أن تتوقف على لفظ آخر، أو على نية، أو على شيء يقرن به ذلك اللفظ حتى يحكم بالوقفية. إذا صريح الوقف هذه الثلاثة الألفاظ، فمن قال: وقفت أو حبست أو سبلت، حكمنا بالوقفية، حتى قال بعض العلماء: إنها لا تفتقر إلى لفظ آخر حتى نحكم له بالوقفية، فصريح الوقف كصريح الطلاق، فإذا قال: طلقت زوجتي؛ حكمنا بالطلاق ولو قصد شيئا آخر، ما لم تقم بينة أو تقم قرينة دالة على أنه لا يريد الطلاق كما تقدم معنا في كتاب النكاح. إذا هذه ثلاثة ألفاظ، دل على كونها صريحة دليل السنة والإجماع، وفائدة اعتبارها صريحة: أننا نحكم بالوقفية بمجرد صدورها عن المكلف دون افتقار إلى لفظ أو إلى حكم أو إلى نية. وبعض العلماء يقول: إنه لو قال: وقفت، ولم يقصد الوقفية، ولم ينو الوقفية، وإنما قصد معنى آخر فإنه في الظاهر يحكم بالوقفية، لكن في الباطن لا تثبت الوقفية، كما لو قال: طلقت زوجتي، فإنها تطلق قضاء ولا تطلق ديانة كما تقدم معنا في كتاب النكاح. فقال رحمه الله: [وصريحه: وقفت وحبست وسبلت] . ما يشترط في الوقف قال رحمه الله: [ويشترط فيه المنفعة دائما] شرع رحمه الله ببيان الشروط المتعلقة بالأوقاف، وشروط الأوقاف تنقسم إلى أقسام على حسب الأركان، فهناك شروط تتعلق بالشخص الواقف، وهناك شروط تتعلق بالشيء الذي يراد وقفه، وهناك شروط تتعلق بالجهة، أو بمن يوقف عليه. أن يكون الوقف على جهة قربة قال رحمه الله: [وأن يكون على بر، كالمساجد والقناطر والمساكين، والأقارب من مسلم وذمي، غير حربي وكنيسة ونسخ التوراة والإنجيل وكتب زندقة] في المثالين السابقين (كعقار وحيوان) العقار لا يزال إلى زماننا موجودا، والحيوان لا يزال إلى زماننا موجودا؛ ويدخل في حكم الحيوانات السيارات في زماننا، فلو أن شخصا أراد الخير، وأراد مرضاة الله عز وجل، فعلم أن هناك طلاب علم يفتقرون إلى وسيلة تنقلهم إلى مدارسهم، فأوقف سيارة لنقل طلاب العلم، أو طلبة التحفيظ، من أجل أن يحفظوا كتاب الله عز وجل في مسجد بعيد، فأوقف هذه السيارة من أجل نقلهم، أو أوقف سيارة لنقل المصابين والمرضى، كما في سيارات الإسعافات ونحوها، إن احتسب الأجر عند الله في مكان يفتقر إلى وجودها، فاشترى سيارة وقال هذه السيارة وقف لنقل المصاب والمريض، أو كانت في الجهاد في سبيل الله عز وجل لنقل المصابين، فهذه في حكم وقف الحيوان، يحبس الأصل التي هي رقبة السيارة، وتسبل منفعتها من الركوب عليها. وقد يكون للواقف احتياط في بقاء العين كما سيأتي إن شاء الله، فالسيارة قد تحتاج إلى مئونة كالدابة فتسري عليها أحكام الدواب، فالدواب كانت تحتاج إلى علف وتحتاج إلى رعاية من بيطرة ونحوها إذا مرضت أو أصابها شيء، فبعضهم يحتاط فيجعل الرقبة متصدقا بها، ويجعل جزءا من منافعها يستغل بحيث يكون ما يستغل موجبا لدفع التكاليف التي يحتاج إليها، ويمكن أن يوقف أكثر من سيارة، فيجعل بعضها للاستغلال من أجل أن تبقى الرقاب، وبقية السيارات التي يقصد بها الرفق، سواء كانت في إسعاف المرضى والمصابين، أو كانت لنقل طلاب العلم، أو غير ذلك مما يقصد به وجه الله والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى. هكذا لو كان له قرابة، ويحتاجون إلى سيارة يتنقلون بها، فقال لهم: هذه السيارة أوقفتها عليكم، فأوقفها على قرابته من أجل أن يرتفقوا ويقضوا عليها مصالحهم، فهذا يمكن أن يكون من وقف الخير والبر، ويثاب الإنسان عليه، ويكون صدقة وصلة رحم. ونحو ذلك مما هو موجود في زماننا كالآلات، فالآلات مثلا يمكن أن توقف، كما في القديم كانت الآلات التي يجاهد بها من أسلحة القتال والجهاد في سبيل الله منها ما هو موقوف، وذكر العلماء في ذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم للصدقة كما في الصحيحين فقال: منع خالد والعباس وابن جميل فقال صلى الله عليه وسلم: (وما تنقمون من خالد فإنه احتبس أدرعه ومتاعه في سبيل الله) ، فجعل الآلات الدروع التي يجاهد بها محبوسة، فدل هذا على جواز ومشروعية احتباس الآلات. وفي زماننا لو حبس أي آلات ينتفع بها في مصالح المسلمين عامة كحفر القبور، وآلات يشق بها الطرقات كما هو موجود الآن عندنا في بعض الوسائل التي يستعان بها لتكسير الصخور، ولحفر الآبار، ولشق الطرقات، فهذا كله مما يمكن إيقافه، فيحبس الأصل وتسبل ثمرته ومنفعته، ويكون وقفا على من سماه الواقف. قوله رحمه الله: [وأن يكون على بر] أي: ويشترط في صحة الوقف أن يكون على بر، والبر كلمة جامعة لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، وأكثر ما يكون البر في الأفعال، ولذلك عممه الله سبحانه وتعالى، فجعل من البر ما يكون من الاعتقادات والأعمال الظاهرة، ومنه الإيمان بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وجعل من البر إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وجعل من البر الوفاء بالعهد، وجعل من البر الصدقة على المساكين وذوي القربى والمحتاجين. فهذا معنى البر العام، ولذلك قرن الله سبحانه وتعالى البر بالتقوى، فجعل البر تقواه سبحانه وتعالى إشارة إلى عمومه وشموله لأصول الإسلام ومحاسنه، كما قال سبحانه وتعالى: {ولكن البر من اتقى} [البقرة:189] ، فجعل البار الكامل في بره من اتقى الله سبحانه وتعالى. يتبع
__________________
|
#479
|
||||
|
||||
![]() فدل على أن البر من الألفاظ العامة الشاملة لما يحبه الله ويرضاه من الطاعات والقربات، سواء كانت من الأمور المتعلقة بالاعتقاد، وهي أفضل البر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى، كالإيمان به سبحانه وتوحيده، وحسن الظن به جل جلاله، ومحبته، وخشيته، والاستعانة به، والتوكل عليه ونحو ذلك من أعمال القلوب، أو كانت من الأعمال الظاهرة من شعائر الإسلام العظيمة كإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. فلو أوقف شيئا، وقصد به البر صح وقفه، وبعض العلماء يقول: على بر ومعروف، والمعروف أكثر ما يكون في الأقوال، ولذلك يقال: أمر بالمعروف، ويجعل بعض العلماء بين البر والمعروف عموما وخصوصا، وإذا أوقف على بر يشمل فإنه وقف المساجد من أجل الصلاة فيها، وإقامة حلق الذكر والمحاضرات والدروس، هذا كله من البر الذي يحبه الله ويرضاه. كذلك أيضا لو أوقف كتبا يتعلم منها، ويستفاد منها، فهذه صدقة جارية تكون وقفا؛ لأنها على بر وعلى طاعة، كمن أوقف مصاحف يقرأ فيها الناس، ويتعلم أو يحفظ منها طلاب العلم، فإن أوقفها على مدرسة فغالبا ما تكون للحفظ، أو أوقفها على مسجد، فغالبا ما تكون للقراءة، وهذا كله من البر. كذلك يوقف بقصد الصلة للرحم، كأن يوقف على قرابته، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. فقوله رحمه الله: (أن يكون على بر) يعني يكون الوقف على بر، مفهوم ذلك أن الوقف لا يكون على معصية، فإذا أوقف على معصية الله عز وجل، فإنه وقف ممنوع، وليس بوقف مشروع. ومن هنا مثل العلماء رحمهم الله بوقفية آلات اللهو والمعازف، وكذلك الوقف على المعاصي، مثل قطع الطريق وإخافة الآمن، ونحو ذلك مما فيه ضرر على المسلمين عامهم أو خاصهم، فلا يجوز مثل هذا، وليس من الوقف الشرعي، بل هو وقف محرم ولا يعتد به. قوله رحمه الله: [كالمساجد] فإن المساجد تعتبر من أبر البر، وأعظم ما يكون من طاعة الله عز وجل بعد توحيده أن يقيم المسلم صلاته، والمساجد محل لإقامة الصلاة وذكر الله عز وجل، فالوقف عليها فيه أجر عظيم وثواب كبير، ثم يختلف البر في المساجد، فالبر في المساجد التي تقام فيها الجمعة أعظم من البر في المساجد التي تكون فيها الجماعات، مساجد الجمعة والجماعات أفضل من مساجد الجماعة فقط؛ لكن بعض العلماء يقول: مساجد الجماعة قد تكون أفضل من مساجد الجمعة من وجه، وهذا في أحوال خاصة؛ كأن يبني مسجدا في حي مكتظ بالناس يصلون فيه، ويمتلئ المسجد في الصلوات الخمس. فإذا حسبت ما يكون طيلة الأسبوع من الفروض الخمس مقرونا بمسجد تقام فيه الجمعة والجماعة، ولكن العدد قليل فقد يفوقه في الأجر من هذا الوجه، لكن هذا فيه نظر كما قال بعض مشايخنا رحمة الله عليه، وذلك أن الجمعة من حيث الأصل لها فضيلة، وصلاة الجمعة مفضلة بتفضيل الله عز وجل ليومها ولهذه الشعيرة، فوجود الفضل الخاص لها يعطي مزية في الوقف على مسجد مشتمل على المعنى العام، وهي في الصلوات الخمس دون هذه المزية الخاصة. فلا نستطيع أن ننزل الصلوات الخمس منزلة الجمعة من هذا الوجه، حتى إن بعض العلماء كان يرى أنها الصلاة الوسطى كما ذكرنا في الخلاف في تعيين الصلاة الوسطى، وإن كان الصحيح أنها صلاة العصر؛ لكن الشاهد أن الله سبحانه وتعالى فضل الجمعة وخصها بخصائص، فإذا أوقف على مسجد فيه جمعة وجماعات، فذلك أفضل من الإيقاف على مسجد فيه جماعة فقط. ثم ينبغي على من يوقف على المسجد أن يراعي أمورا تزيد في الخير والبر؛ فمثلا: إذا كان في موضع لا يدري هل يبقى أهله على الإسلام أو لا، أو أهله مقصرون في الصلاة، فليس مثل أن يكون بمثل موضع عرف أهله بالمحافظة على الصلوات ويغلب على الظن بقاء المسجد دهرا طويلا. فوقفية المساجد في الأماكن التي يستقر فيها الإسلام، ويكون الناس حريصين فيها على الصلوات أفضل، وكذلك في الأماكن النائية حيث الحاجة شديدة، كالبوادي ونحوها، حيث يكون الخير فيهم أكثر، والأجر فيهم أعظم مما لو أوقف في مكان لا يضمن أن أهله ينتكسون عن الإسلام أو يتحولوا عن الموضع الذي هم فيه، فتتفاضل المساجد بحسب ما يكون فيها من الخير والبر. ثم أيضا إذا أوقف على المسجد، وكان أهله حريصين على ذكر الله وإقامة المحاضرات ومجالس الذكر، والجلوس في المسجد أكثر من غيرهم، فالوقف على أمثال هؤلاء أفضل من الوقف على غيرهم. وقال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: إن الوقفية في الأماكن المفضلة أفضل من الوقفية في الأماكن المفضولة، فالمسجد في مكة والمدينة أفضل من غيرهما، فإن وقفية المسجد في الحرمين ليس كوقفية المسجد في غيرهما، وهذا راجع إلى التفضيل بالمكان؛ لأنه مزية فضل، ويقولون: إن هذا أعظم في أجره وأفضل مما لو صرفه في غيره. وقوله: (والقناطر) أي: بناء القناطر، وكانوا في القديم يحتاجون، القناطر تكون لمجرى الماء، كانوا يبنون القناطر للمياه يستقي منها الناس، ويسقون منها مزارعهم، ويسقون منها دوابهم، فهذه القناطر تكون مسبلة على عموم المسلمين، غالبا ما تكون الوقفية فيها على عموم المسلمين، فالأجر فيها أعظم، كالمساجد تكون على عموم المسلمين، ولا تختص بطائفة ولا بجنس، وغالبا ما تكون على عموم المسلمين مثلما كان في بعض المدن الإسلامية تجري الأنهار في داخلها، فوجود القناطر تحفظ المياه وتصونها، وجري الماء في القنطرة يسهل وصوله إلى الناس. وربما احتاجت القنطرة إلى بناء فبناها وأوقفها، فهذا لا شك أنه أفضل وأعظم أجرا، وتتفاضل القناطر أيضا بحسب ما يكون منها من النفع، فالقناطر التي ينتفع بها العامة، ويستقي منها الناس، وتسقى منها المزارع والدواب، ليست كالقناطر الخاصة التي تكون منحصرة، فالقناطر متفاوتة في الفضل بحسب ما يكون منها من الخير والبر. قوله: (والمساكين) : لأن المساكين يكون البر من جهة الرفق بهم؛ لأن الإحسان إلى المساكين والإنفاق عليهم من البر، فهذا تعبير بالشخص الذي يعطى، أو بالمحل الذي يوقف عليه، وقد تكون (المساكن) ؛ أي: (كالمساجد والقناطر والمساكن) ؛ لأن المساكن يؤوى إليها، فمثل بالمساجد التي فيها منافع دي وجود المنفعة مع بقاء العين الموقوفة فقال رحمه الله: [ويشترط فيه المنفعة دائما] (ويشترط فيه) يعني: في محل الوقف، فلا يقع الوقف على شيء إلا إذا استوفى شروطا، ولا نحكم بوقفية كل شيء، وبعبارة أخرى أن الوقف يختص بأشياء دون أشياء. وبناء على ذلك يرد السؤال ما هي الأشياء التي يمكن وقفها؟ الجواب كل عين فيها منفعة قابلة للانتقال بالتمليك، ودائمة لا تفوت العين بها. فلما قلنا: كل عين، خرجت المنافع؛ لأن الأشياء أعيان ومنافع، فالعين هي الرقبة مثل الدار والمزرعة، فكل عين لها منفعة يمكن أن يتعلق الوقف بالعين، ويمكن أن يتعلق بالمنفعة، فإذا تعلق بالعين تبعت المنفعة العين، وأما إذا تعلق بالمنفعة فإن هذا لا يستلزم وقفية العين. وبناء على ذلك فالوقف لا يصح إلا إذا كان بالعين، فلا يتعلق الوقف بالمنافع، ومن أمثلة المنافع السكنى، فلو أن شخصا ملك منفعة دار شهرا، كأن يستأجر عمارة لمدة شهر، أو يستأجر عمارة سنة، أو يستأجرها عشر سنوات، ثم قال: أوقفت هذه المنفعة عشر سنوات على طلاب العلم؛ فإنه لا يصح؛ لأن الوقف لا يتعلق بالمنافع. ولذلك يشترط في محل الوقف أن يكون من الأعيان لا من المنافع، وهكذا لو قال: أوقفت الركوب على الدابة، فلا يصح، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى هذا الشرط: (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمر) ، فجعل المنفعة تابعة للعين وجعل الوقفية متعلقة بالعين. ثانيا: أن تكون هذه العين مشتملة على منفعة لا تفوت بفواتها لو تعلقت الوقفية بها، فإذا أوقف عينا ولها منفعة وكانت المنفعة لا تتحقق إلا بذهاب العين لم تصح الوقفية، ومن أمثلة ذلك أن يوقف طعاما على فقير فإن انتفاع الفقير بالطعام لا يمكن أن يكون إلا بالأكل، وحينئذ تكون منفعة الموقوف مفضية إلى ذهاب عين الموقوف. ولا يصح الوقف على هذا الوجه، فلا يصح وقف الطعام على هذا الوجه؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بذهاب عينه، والنبي صلى الله عليه وسلم عبر في الوقف بعبارتين (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمر) ، فلو قلنا بصحة وقفية الطعام ووقفية الأعيان التي تذهب بالانتفاع بها، فإن هذا يناقض الوقف؛ لأن الوقف حبس الشيء: (إن شئت حبست الأصل) ، وهو إذا قال أوقفت هذا الطعام صدقة على المسكين؛ فإن انتفاع المسكين مفتقر إلى فوات الطعام، والوقف حقيقته أن يبقى الأصل محبوسا، فلا تتحقق الوقفية، ولا يمكن أن يكون الطعام باقيا؛ لأنه يستنفد ويستهلك بالأكل. ومن هنا تخرجت أيضا مسألة وقفية الدراهم والدنانير، كأن يقول: هذه مائة ألف وقف على الفقراء والمساكين، فهذا لا يصح؛ لأن الذهب والفضة لا يصح وقفها في قول عامة أهل العلم كما حكاه الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره، فذكر أن وقف الأثمان لا يصح، لأنه لا يمكن أن ينتفع بالذهب والفضة إلا بالشراء وبذلها، فإذا منفعتها موجبة لذهاب عينها، والوقف يستلزم بقاء العين. فصار هناك تناقض بين حقيقة الوقف ووجود الثمرة والمقصود من التحبيس والوقفية، ومن هنا لا بد وأن تكون العين باقية، وألا يكون الانتفاع بهذه العين موجبا لفوات العين، إلا أن بعض العلماء استثنى من الذهب والفضة أن يكون من الحلي كالأسورة والقلائد ونحوها، فقال: يصح وقفية الحلي يعار للضعفاء والفقراء يتجملون به ويلبسونه، فهذا يخفف فيه بعض العلماء فيقول ستبقى القلادة، فحقيقة الوقفية منضبطة؛ لأن القلادة ستبقى، والمنفعة بالتزين ممكنة، وهذه مسألة لها أصل تقدم في مسألة إجارة الحلي، وأيا ما كان من حيث الأصل لا تصح وقفية الدراهم والدنانير، فلو قال: هذه مائة ألف وقف لم تصح وقفيتها. وهنا مسألة انتشرت في بعض البلدان الإسلامية، ويوجد من يفتي بها وهي مسألة عجيبة، يقولون: يمكن للغني بدل أن يعطي الفقراء والضعفاء أموال الزكاة، قال بعض المتأخرين والباحثين بأنه يجوز أن تؤخذ هذه الزكاة وتبنى بها عمائر، أو تبنى بها محلات تجارية قبل إعطائها للفقراء ثم يؤخذ ريع هذه العمائر ويتصدق به على الفقراء. يقول: هذا أفضل من أن نعطيهم النقود لأنهم يضيعونها أو يتلفونها، ثم إن هذا استثمار يدر عليهم أرباحا أكثر وأفضل مما لو أخذوا هذا المال، وهذه فتوى باطلة، لا تستند لاجتهاد صحيح؛ لأن الزكاة حق في المال للفقراء ومن سمى الله من أهل الزكاة كما قال تعالى: {وفي أموالهم حق معلوم} [المعارج:24] ، فهذا يدل على أن الزكاة حق للمسكين، وإذا كانت حقا للمسكين؛ فإن بناء العمارة بها، أو شراء الأرض من أجل بناء العمائر عليها، أو ما يستغل أو يستثمر يفتقر إلى وجود الإذن من المالك، والفقير ما فوض الغني بأن يبني له، ولم يفوضه أن يقوم بهذا الاستثمار، فحينئذ يبنيها الغني على ملكه، ويصبح فعله هذا معطلا للزكاة، ولا يترتب عليه ملكية المساكين وأهل الزكاة لهذا المال. ثم إذا قلنا: إنها حق لمن سمى الله عز وجل من أهل الزكاة فمن الذي يستحق هذه العمائر من الأصناف الثمانية، ومن الذي تكون له هذه الاستثمارات؟ فمثل هذه الاجتهادات التي لا تستند إلى أصول صحيحة، ولا تتفرع على أصول علمية ذكرها العلماء والأئمة؛ فإنه لا يعول عليها، ولا يلتفت إليها وهي باطلة. فالشاهد من هذا أنه لا تصح وقفية الدراهم والدنانير؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها إلا بذهاب عينها؛ فإذا لا يمكن أن تبقى وقفا، وإذا انتفع بها تعطلت الوقفية، وإذا بقيت وحبست امتنعت عن المنفعة، فأصبح الأمر متناقضا، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: لا تصح وقفية الأثمان ولا المطعومات ولا الرياحين، ومثلوا بالرياحين؛ لأنها تشم وتعصر فإذا شمت تلفت وفسدت وذهب ما فيها من النكهة والرائحة، وإذا عصرت أيضا فسدت، فالمنفعة فيها موقوفة على إتلاف عينها، فلا تصح وقفيتها من هذا الوجه. قال رحمه الله: [ويشترط فيه المنفعة دائما من عين ينتفع به مع بقاء عينه] (دائما) لأن الوقف على التأبيد، وذلك كما أشرنا إلى أن الوقفية لا تصح مؤقتة، فلو قال: أوقفت داري شهرا، أو أوقفت مزرعتي سنة، فإن هذا لا يصح؛ لأن الوقف المؤقت باطل، فلابد وأن يكون الوقف على التأبيد، ولذلك يذكر العلماء من شروط صحة الوقف أن يكون على التأبيد. فإذا كان الوقف على التأبيد فهو أن تبقى العين غالبا، وأن يكون تحبيسها وإيقافها إلى الأبد. قال رحمه الله: [كعقار وحيوان] (كعقار) أي كما لو أوقف عقارا، كأن يوقف عمارة، أو يوقف بيتا، ويجعله مسكنا للأيتام والأرامل والمحتاجين، أو يوقف عمارة على طلاب العلم، أو على أهل العلم يأخذون ثمرتها وغلتها، فإذا أوقفها على طلاب العلم من أجل أن يسكنوا فيها كما في الأربطة فلا إشكال، ويكون استحقاقه من جهة السكن، وإذا أوقفها على أهل العلم على أنها تستغل ويكون لأهل العلم أخذ غلتها، فهذا شيء آخر، فيقسم نتاج الأجرة كما هو معلوم. [كعقار وحيوان] وقوله: (كعقار وحيوان) مثل رحمه الله بالعقار والمنقول، والحيوان مثل الإبل والبقر والغنم، بأن يوقف الدابة ويوقف منافعها، يحبس الأصل ويسبل الثمرة، وإذا سبل الثمرة في البهيمة، فإما أن يسبل ركوبها مثل البعير يجعله للركوب في سبيل الله عز وجل، سواء للجهاد في سبيل الله، كأن يقاتل عليه ويجاهد في سبيل الله عز وجل، وكذلك الفرس لو أوقفها في سبيل الله عز وجل، وتكون البهيمة محبسة الأصل مسبلة الثمرة أيضا بأن يتصدق بحليبها، فيجعل حليبها كما في البقرة أو في الشاة، يحبس أصلها ويجعل حليبها صدقة للضعفاء والفقراء. الأسئلة مسح البول دون غسله السؤال إذا أصاب البدن بول ثم مسح بالمنديل ونسي الغسل ولم يذكر إلا بعد الصلاة فما الحكم؟ الجواب الطهارة بالماء في غير القبل والدبر لازمة، ولا تحل الطهارة بالتراب أو الحجر ونحوه من الطاهرات محل الماء في تطهير البدن أو الثوب أو المكان إذا أصابته النجاسة، إلا في مسألة واحدة ذكرها بعض العلماء وهي أن يصيب الثوب نجاسة وليس عنده ماء فقالوا: يشرع أن يتيمم لهذه النجاسة التي عليه. هذا قول بعض العلماء، ويجعل الطهارة الترابية بدلا عن طهارة الماء، أما من حيث الأصل فالذي دل عليه الأصل أن الطهارة من النجاسة لا تكون إلا بالماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (اغسلي عنك الدم وصلي) ، فقال: (اغسلي) ، وجعل تطهير النجس بالغسل، فهذا هو الأصل أنه يجب الغسل. والماء أصل لحديث أنس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن بول الأعرابي: (أريقوا عليه سجلا من ماء) ، ولم يجعل نشاف البول، ولا تبخره بالشمس موجبا للحكم بطهارة الموضع، خلافا للحنفية الذين يقولون إنه يمكن إذا ظهرت عليه الشمس فتبخرت النجاسة أن يحكم بطهارة المكان. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أنه لابد من الغسل، وإذا ثبت هذا فالمنديل لا يعتبر مطهرا إلا في القبل والدبر إذا خرجت منهما نجاسة، فيعتبر في حكم الاستجمار؛ لأن الاستجمار يجوز بكل طاهر ما عدا العظم والروث، ونحوه من المحترمات، وكذلك ما لا ينقي. فإذا أنقى بالمنديل في القبل والدبر حكمنا بالجواز، بشرط أن لا يتجاوز الخارج الموضع والصفحتين فإذا تجاوز وجب الغسل، هذا من حيث الأصل. أما بالنسبة للمسألة المذكورة أنه أصابته النجاسة فمسحها بالمنديل ثم نسي غسلها ثم صلى، فأصح أقوال العلماء في هذه المسألة أن صلاته صحيحه إذا لم يتذكر إلا بعد السلام والفراغ من الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه وكانت فيهما نجاسة، فأتاه جبريل فأخبره أنهما ليستا بطاهرتين، فخلعهما عليه الصلاة والسلام ولم يعد الصلاة من أولها، فبنى على ما مضى، فدل على أن الكل إذا تم دون علمه أنه معذور وصلاته صحيحة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نتاج الدابة هل يعتبر تابعا للأصل السؤال من أوقف دابة فهل نتاجها وما في بطنها يعتبر وقفا، وهل يعتبر النتاج من الأصل أم من المنفعة؟ أثابكم الله. الجواب هذا يرجع فيه إلى شرط الواقف، وسيأتي التفصيل فيه، فإذا أوقف دابة قد يسبل ركوبها، ولا يسبل حليبها، وقد يسبل الدابة بحليبها وثمرتها؛ لكن الأصل أن الثمرة تتبع العين، وإذا سبلها على أن تكون منافعها كلها تابعة لها فلا إشكال، وتكون على المصرف الذي حدده. فلو قال مثلا: أوقفت هذه الدابة على أن حليبها يباع، وينفق عليها من حليبها، فحينئذ تكون الوقفية مختصة بالركوب ولا تشمل الشراب، وقد يقول: أوقفت هذه الدابة يشرب من حليبها، ولكن يستغل ظهرها من أجل أن ينفق عليها بقدر الحاجة أو النفقة عليها. فالمقصود أن هذا يختلف باختلاف شرط الواقف، ويتقيد في حكمه بشرط الواقف، والله تعالى أعلم. تجزؤ الوقف السؤال إذا كانت لدي دار فهل يجوز أن أسكن في دور وأوقف باقي الأدوار؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، فأجاز بعض العلماء أن يوقف من الدار علويها، وأن يبقي أسفلها على الأصل، وممن اختار هذا القول الإمام النووي رحمه الله كما نص عليه في الروضة، وأشار إلى أنه وجه عند الشافعية رحمهم الله. فبناء على ذلك يرتفق بالأسفل منها ويوقف أعلاها، وقال بعض العلماء: إن أسفل الدار حكمه حكم أعلاه وأعلى الدار حكمه حكم الأسفل، ولا يمكن أن نحكم بالوقفية باختصاص الأعلى دون الأسفل ولا العكس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) ، فجعل أسفل الشيء تابعا لأعلاه؛ ولأن الإجماع منعقد على أن من اعتكف في مسجد فصعد إلى سطوحه أنه لم يخرج عن المسجد؛ فدل على أنها سارية إلى الأعلى كما أنها ثابتة في الأسفل، ولذلك صح الطواف بالدور الثاني من بناء البيت، وصح الطواف على سطح المسجد الحرام؛ لأن أسفل الشيء وأعلاه في حكم واحد من هذا الوجه، إذا ثبت هذا فلا يصح أن تقول إن الأعلى موقوف دون الأسفل، أو الأسفل دون الأعلى. ومن هنا تتخرج مسألة ما إذا بنى مسجدا، وجعل تحته أماكن للاستغلال، أو جعل فوقه سكنا يستغل، فإذا قيل إن أسفل المسجد وأعلاه حكمه واحد، وهو الصحيح والأقوى من حيث الأصول؛ فإن هذا يمنع، ولا يمكن أن تكون أسافل المساجد لا حرمة لها كأعلاها، ولا أن يكون أعلاها خاليا من الحرمة كأسفلها. ولذلك فالأشبه بمثل هذا أن الحكم للأعلى والأسفل، ومن هنا نبهنا على مسألة شراء الشقق، فإن الشقة إذا اشتريت، وهي في الدور الثاني فإن هذا يوجب السؤال إذا كان الأصل أن فضاء الشيء تابع لأسفله فحينئذ تصبح الشقة تابعة للأسفل. فلو قلنا: إنه بنى دارا من شقتين في كل دور شقة؛ فلن يتحقق تقسيم الأرض بينهما؛ لأن الذين يبيعون الشقق يبنون فوق هذه الشقة أدوارا أخرى، ويبيعون الشقق، والمالك الحقيقي يقول: بعتك الشقة فقط أنا ما بعتك سطح الشقة، فهو مالك لسطحها، فإذا بنى عليها سيبيع ذاك الذي بناها، ثم يبني عليها آخر ويبيع الذي عليه. لكن لو أنه اشترى الشقة على أنه مشتر لنصف البيت، وأن هذا البيت بينهما فإنه يصح، ولا ينصب البيع على الشقة؛ ولكن يقول: أشتري منك هذه العمارة نصفها بمليون على أننا نقسم قسمة مهايا، يسمونها قسمة المهايا كما يقع بين الوارثين ونحوهم، تكون الشقة العليا لك والسفلى لي أو العكس؛ فحينئذ لا يكون الملكية لعين الشقة، وإنما تكون قسمة مهايا. فالمقصود أن مسألة العلوي تابع للسفلي مسألة مهمة جدا، لا يمكن أن نفرق فيها في الأحكام، فتارة نقول المعتكف لا يبطل اعتكافه إذا صعد إلى سطح المسجد؛ لأن أعلى المسجد من المسجد، ثم نقول يصح أن يوقف أعلى المسجد دون أسفله، فهذا تناقض، فإما أن يقال بأن الفضاء تابع للأسفل عموما، والأسفل يتبع علويه كما في البدروم أو نحوه، وإما أن يقال بالتفصيل، أما من تناقض في مسائل العبادات نعطيه حكما، وفي مسائل المعاملات نعطيه حكما فهذا ليس من الفقه. إنما الفقه أن يبنى على أصل واحد، وانتزعنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) ، فقه هذا الحديث، جعل العلماء أسفل الأرض كأعلاها لأنه جعل العقوبة عليه مضاعفة بما يساوي الأرض كلها قال: (من سبع أراضين) ، فمع أنه اغتصب في الأرض العلوية، لكنه عذب بما سفل؛ لأنه من ملك الأعلى ملك الأسفل. ولأن الإجماع منعقد على أنك إذا ملكت أرضا فمن حقك أن تحفر فيها، حتى لو استطعت أن تصل إلى الأرض السابعة؛ لأن هذا ملك لك، فإذا لا نستطيع أن نقول: إنه يملك أعلى الأرض وأسفلها، ثم نقول بجواز وقفية أعلاها دون أسفلها أو العكس، فهذا تناقض. ولذلك فالأشبه أنه لا يكون المسجد إلا موقوفا كله أسفله وأعلاه، وتكون الحرمة لأعلاه كأسفله، ولا يجوز -بناء على هذا- أن تكون دورات المياه أسفل منه؛ لأنه في هذه الحالة كالمصلي فوق الحمام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الحمام، وإذا كان علوي الشيء كسفليه فحينئذ لا يتأتى. فتقاس على هذه المسائل كلها ويقرر الأصل على هذا الوجه الذي يفهم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأقوى والأولى، والله تعالى أعلم.
__________________
|
#480
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوقف) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (392) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [3] ليس كل شيء يجوز الوقف عليه، بل إن هناك أشياء يحرم الوقف عليها، منها: بناء الكنائس والوقف للكافر الحربي، ونسخ التوراة والإنجيل، وكتب أهل البدع والزندقة، وإذا أوقف على ذلك فإنه يصار إلى أقرب شيء موافق وشبيه للموقوف عليه في الشرع، والأصل أن العبد إذا أوقف وقفه بشروط غير ممنوعة شرعا، فإنه ينبغي العمل والتقيد بشروط الواقف وعدم العدول عنها. ما لا يجوز الوقف عليه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فهناك وجوه لا يجوز الوقف عليها، وهي الوجوه التي حرمها الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى نهى عباده المؤمنين عن جملة من الأمور، فلا يجوز لهم أن يستحلوها كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها) . فالوقف على هذه الأشياء يعين على معصية الله عز وجل، ويعزز ويقوي هذا الأمر المحرم، ولذلك حظر الله عز وجل على عباده أن يكونوا سببا في المعونة على الإثم والعدوان، كما قال سبحانه وتعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2] . وأعظم الإثم أن يعين على ما يؤثر في العقيدة والتوحيد، فإن إفساد إيمان الناس بالله، والتحريض على ما يصرفهم عن توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة؛ هو أعظم المنكر الذي حرمه الله عز وجل، فأنزل من أجل تحريمه كتبه، وأرسل رسله سبحانه وتعالى. عدم صحة الوقف على نفسه قال رحمه الله: [والوقف على نفسه] أي: لا يصح أن يوقف على نفسه؛ لأن الوقف إخراج للمال المملوك عن ملكيته لله سبحانه وتعالى، خاصة إذا كان على وجوه البر كما تقدم، فإذا أوقف على نفسه فإنه في هذه الحالة لم يصنع شيئا وليست هذه هي حقيقة الوقف. ومن هنا قال بعض العلماء: لا يصح وقف الإنسان على نفسه بغير خلاف، يعني لا خلاف بين أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة، لكن لو أنه جعل لنفسه حظا في حال حياته من الوقف فإنه يصح، كأن يجعل له نصيبا من هذا الوقف مدة حياته. وهكذا لو اشترط النظارة فقال: هذا البيت يكون وقفا علي وعلى ذريتي من بعدي، ولكن لي حق النظارة في حال حياتي، ولو أوقف بيته على الفقراء والمساكين واشترط النظارة عليه؛ صح، فإذا اشترط النظارة لنفسه أو نصيبا من الوقف لنفسه، فإنه لا بأس بذلك. وقال بعض العلماء: إن الإمام أحمد رحمه الله قد نص على أنه إذا اشترط لنفسه جزءا أو شيئا مخصوصا مدة حياته أنه لا بأس بذلك ولا حرج عليه. عدم جواز الوصية على محرم قال رحمه الله: [وكذا الوصية] أي: ولا تجوز الوصية على الكنائس، ولا الوصية لنسخ كتب الأديان السماوية الأخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عمر رضي الله عنه يقرأ في صحف أهل الكتاب غضب عليه الصلاة والسلام فقال كما في الصحيح: (والذي نفسي بيده لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي) . وهذا عمر رضي الله عنه الذي تؤمن عليه الفتنة، ومع ذلك صرفه عن شغل وقته، وإضاعة وقته في قراءتها (والذي نفسي بيده لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي) ، فإذا كانت الوصية لهذه الأمور المحرمة فإنها تكون باطلة، لكن هل تبطل من أصلها أو تصرف إلى ما هو أقرب من وجوه الخير؟ على التفصيل المتقدم. الوقف على الحربي يقول المصنف رحمه الله: [غير حربي] أي: لأن الحربي المحارب لله ورسوله، محارب للمسلمين مباح الدم. مثلا: إذا وقعت حرب بين المسلمين والكفار؛ فإن هؤلاء من أهل الحرب ليس لهم حق على المسلمين، لمحاربتهم للمسلمين، ولذلك تستباح دماؤهم، وتباح أعراضهم، فتسبى ذراريهم ونساؤهم، وكذلك لا يجوز ولا يشرع أن يعاملوا معاملة الحسنى؛ لأنهم حاربوا الإسلام ومنعوا نشره، ففي هذه الحالة لا يجوز أن يوقف عليهم؛ لأنه ليس ببر، بل يعينهم على المسلمين، فلا يشرع الوقف عليهم. الوقف على الكنائس ونحوها يقول رحمه الله: [وكنيسة] وكذلك الوقف على كنيسة لا يصح ولا يجوز؛ لأن الكنائس جاز استبقاؤها للضرورة، ولذلك فإذا هدمت لم تبن، وقد تقدم معنا أحكام الكنائس في أحكام أهل الذمة، وبينا الشروط العمرية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتلقي الأمة لها بالقبول. فلا يجوز الوقف على بناء الكنائس، سواء كانت في ديار المسلمين، أو كانت خارج ديار المسلمين، ولا يجوز المعونة على بنائها، ولا ما يقوي من نشاطها، فكل ذلك محظور؛ لأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فلما كان دين أهل الكتاب دينا منسوخا، فلا يجوز المعونة عليه. الوقف على نسخ التوراة والإنجيل يقول رحمه الله: [ونسخ التوراة والإنجيل] كما أن الوقف يكون على المحسوسات من بناء الكنائس محظورا كذلك يكون على المعنويات، وهي الأمور الفكرية التي تؤثر في عقائد الناس، من نسخ التوراة المنحرفة والإنجيل المحرف، وقد نسخ الله عز وجل العمل بالكتابين بكتابه سبحانه وتعالى الذي أنزله مهيمنا وناسخا للشرائع. فنسخ التوراة والإنجيل، لا يجوز الوقف عليه، وكانوا في القديم يحتاجون إلى نسخ الكتب، سواء كانت من الكتب المنزلة، أو كانت كتب علم، فبقاء الدين موقوف على نسخ هذه الكتب، فنسخ التوراة والإنجيل مثال ضربه المصنف رحمه الله لكي يلحق به غيره. ومما يدخل في هذا كتب البدع؛ فإن الكتب التي تشتمل على البدع المنكرة من الأذكار والصلوات والأوراد التي لا أصل لها في الشرع، لا يجوز نسخها ولا المعونة عليها، ولا بثها بين الناس؛ لأن هذا يفسد عليهم دينهم وإخلاصهم لله عز وجل، ويجعلهم يعتقدون ما لم يأذن الله عز وجل باعتقاده، ويعتقدون نسبتها إلى الشرع، والشرع لم يأذن بهذه الأشياء ولم يأمر الله عز وجل بها. فلا يجوز الوقف على طبع كتب أهل البدع، سواء كانت في الأذكار أو كانت تحمل أفكارا تصرف الناس عن السنة، ومذهب أهل السنة، أو تشكك في عقائد الناس، أو توهن إيمان الإنسان بالله عز وجل، ككتب الزندقة والإلحاد والفلسفة التي تجعل الباطل حقا، وتجعل الحق باطلا، وهكذا مثل بعض العلماء بكتب السحر -أعاذنا الله وإياكم منه ومن أهله- وغير ذلك من الكتب التي تشتمل على أضرار دينية. وهكذا لو كانت الكتب تشتمل على أمور إباحية تفسد أخلاق الناس، أو تثير الغرائز، ونحو ذلك من الأمور المحرمة لا يجوز الوقف عليها؛ لأن ذلك كله يدخل في المعونة على الإثم والعدوان، والله حرم التعاون على الإثم والعدوان. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الوقف على مثل هذا، ويبقى السؤال إذا أوقف على كتب محرمة أو على كتب بدع وضلالة أو نحو ذلك، فهل يبطل الوقف من أصله، أو ينظر إلى قريبه وشبهه؟ هذه المسألة من أمثلتها أن يوقف مثلا على طبع كتب محرمة، ككتب البدع ونحو ذلك، ثم يعرض الأمر على القاضي بعد أن انتهى من وقفيته وأتمها، فهل نقول: الوقف صحيح، والجهة التي يصرف لها باطلة، فيصرف إلى أقرب شيء منها، أو نقول: الوقف باطل من أصله، ويرجع المال إلى صاحبه. قال بعض العلماء: إذا أوقف على أمر محرم، سواء كان بناء ما يحرم بناؤه، أو نسخ ما يحرم نسخه، فإن الوقف باطل من أصله، وبناء على ذلك يرجع المال إلى صاحبه. وعلى هذا القول لو أن ميتا أوقف داره على طريقة من طرق المبتدعة، أو على طبع كتب من الكتب المحرمة، من كتب البدع؛ فإن الورثة يستحقون هذا الذي أوقفه ويرجع ميراثا شرعيا؛ لأن الوقف باطل من أصله، هذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله. وبعض العلماء يرى أنه لما تلفظ بالوقف أخرج المال عن ملكيته، وحظر عليه الصرف في الممنوع، فوجب البذل للمشروع، فلو قال: أوقفت هذه الدار -مثلا- على الطريقة الفلانية، أو على البدعة الفلانية ولا يراها بدعة، أو على الشيء الفلاني وهو بدعة. فيقولون: نرى أنه قد أوقف، والأصل الإعمال، ولذلك نعمل وقفيته، ثم لما قال: على الطريقة الفلانية أو الأمر المبتدع الفلاني؛ فإنه يمنع صرف هذا الوقف إليه، ويصرف إلى ما أذن الله به، ثم يصرف بالأشبه والأقرب مما أوقف عليه. فإن كان أوقف على نسخ التوراة والإنجيل صرف إلى نسخ وطبع القرآن، وإذا كان طبع القرآن متيسرا؛ فإنه يصرف إلى طبع كتب العلم أو كتب التفاسير أو كتب الحديث؛ لأنها أشبه بالذي أوقف عليه، فلما أوقف على الممنوع نفذ وقفه من جهة الإخراج -أنه أخرجه عن ملكه- فنعمل هذا ونبقيه على ما هو عليه، ثم نمنع من صرف المال أو صرف الغلة إذا كان للوقف غلة إلى ذلك الممنوع، ونصرفها إلى أشبه شيء من المشروع. كذلك لو أوقف على أصحاب طريقة وقال: داري هذه أوقفتها من أجل الأذكار والصلوات والخلوات وهي أمور غير مشروعة، فنقول: تصرف لطلاب العلم. فالمقصود أنه إذا اعتقد أن هذا من المشروع؛ فإنه يلغى هذا الأمر المحرم، وننظر إلى ما هو أشبه، وهو الذي يذكر الله عز وجل، فوجدنا طالب العلم ذاكرا لله، وهو أشبه بوقفيته، ويقاس على هذا بقية المسائل. هذا القول الثاني اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه وطائفة من المحققين، أن من أوقف على الممنوع ينفذ وقفه في الأصل؛ ولكن يصرف من الممنوع إلى المشروع، وهذا مبني على أنه قد أخرج من ذمته المال فنبقي إخراجه على ما هو عليه، ثم يصرف إلى الجهة التي أذن الله بها. قال رحمه الله: [وكتب زندقة] وهكذا كتب الزندقة، ومن أعظم ما يكون جرأة على الله سبحانه وتعالى الجرأة على إفساد عقائد الناس، وأعظم منكر على وجه الأرض أن يصرف الناس من التوحيد والفطرة والإخلاص لله عز وجل، إلى عبادة غير الله وتعظيم غير الله، وتنصب هذه الكتب أو هذه الأوقاف على إفساد عقائد الناس بتعظيم غير الله، فيصرف ما لله لغير الله سبحانه وتعالى، وهو أعظم الظلم {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان:13] . (إن) التي تفيد التوكيد {الشرك لظلم} [لقمان:13] ، وصفه بالظلم، وجاء نكرة {لظلم عظيم} [لقمان:13] ثم يقول الله: (عظيم) ، وليس بعد عظيم الله عظيم، فمثل هذه التصرفات، مثل كتب الزندقة وكتب الإلحاد التي تدس فيها السموم لصرف الناس من التوحيد الخالص، ومن الفطرة السوية إلى غير ذلك مما فيه المحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومما يدخل في ذلك كتب الاستهزاء بالدين، أو التشكيك في الدين، أو التشكيك في الحقائق والثوابت الدينية، وكتب الاتجاهات الفكرية في كل زمان ومكان، حتى في الزمان المعاصر حيث تصرف من تعظيم الدين وحب الدين والتعلق بالدين، إلى الاستهزاء والسخرية به، ونحو ذلك من الأمور المنكرة. كل ذلك لا يجوز الوقف عليه، ومن فعل ذلك فقد أعان على أعظم الإثم واعتدى حدود الله عز وجل، ومن اعتدى حدود الله فقد حارب الله سبحانه وتعالى، ومن ذا الذي يقوى على محاربة الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى له سنن لا تختلف، وله آيات بينات أنزلها سبحانه وتعالى بمن كفر بدينه وغير شرعه؛ فإنه لا يفلت من عقوبة الله العاجلة والآجلة. فلا يجوز طبع مثل هذه الكتب، ولا توزيعها، ولا نشرها، ولا الإشادة بها، بل ينبغي الحذر كل الحذر من ذلك الأمر، والعلماء نصوا على أنه لا تجوز الوقفية عليها، فينبغي أن يفهم طالب العلم أن المسألة ليست مسألة وقفية فحسب، لكن المسألة أن هذه وسيلة إلى أمر محرم، فيجمع جميع الأسباب، والوسائل، والأمور التي تعين على هذا المنكر العظيم، سواء كانت بالأقوال أو كانت بالأفعال، أو بالمادة أو بالمحسوسات أو بالمعنويات، أو بأي سبيل وبأي طريق كان هذا الإفساد، فإنه محاربة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتغيير لدين الله عز وجل. وكل من طبع هذه الكتب، أو أعان على نشرها وتوزيعها، فمن ضل وأضل بها غيره فعليه إثمه وإثم من يضل إلى يوم القيامة والعياذ بالله {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} [العنكبوت:13] ، فمثل هذه الأمور ينبغي الحذر منها، وعدم التساهل فيها، فكتب الزندقة حذر منها العلماء رحمهم الله في القديم، ولا زال أئمة الإسلام في كل عصر ومصر يحذرون من هذا، وينبغي قفل جميع الأسباب التي تعين على نشر الزندقة. الزندقة ما دخلت على المسلمين إلا في عصور ترجمة المنطق، ولما أدخلها المأمون على المسلمين حصلت المفاسد العظيمة، والشرور الكبيرة، فصار الباطل حقا، والحق باطلا، ولبس على الناس دينهم، فدخلت الأمة في النقاشات، وفي الاتجاهات الفكرية حتى أصبحت السنة كالبدعة في أنظار هؤلاء الذين زاغوا وأزاغوا. فمثل هذا المنكر العظيم لا يجوز المعونة عليه بطبع كتبه أو نشرها، حتى الإشادة بها، بل ينبغي للمسلم دائما أن يعلم أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، وهذا ما قرره العلماء رحمهم الله، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله كلام نفيس في كتابه: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، بين أن الوسائل إلى المنكرات تختلف آثامها على حسب عظم المنكر، فالوسيلة إلى الشرك أعظم من الوسيلة إلى الزنا، والوسيلة إلى القتل أعظم من الوسيلة إلى السرقة، فأعظم وسيلة ما كان وسيلة إلى الشرك؛ لأنه ليس بعد الشرك ذنب وإثم يعصى به الله سبحانه وتعالى. فإذا كان الفعل أو القول أو أي شيء يقدم عليه الإنسان وسيلة إلى هذا المنكر العظيم؛ فإنه في أسوء منازل الوسائل المحرمة. يذكر بعض العلماء رحمهم الله أن الزندقة لا تختص بالزندقة المباشرة، فقد تكون زندقة ضمنية مثل من يجرؤ على تفسير القرآن وتفسير السنة بالهوى والرأي، أو لي النصوص الواردة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقتها، وعن تفسير السلف الصالح رحمهم الله لها، إلى تفسيرات توقع الناس في البلبلة، وتوقع الناس في ريب من هذا الكتاب الذي أنزله الله عز وجل هدى ونورا للعباد، كل هذه الأمور من المحرمات العظيمة. والوسائل التي هي في أعظم درجات الإثم أعظم إثما، وأعظم جرأة على الله عز وجل، ولكن ينبغي أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى متكفل بدينه، وأن الله سبحانه وتعالى غالب على أمره، فوالله لو اجتمع أهل الأرض، جنهم وإنسهم، كبيرهم وصغيرهم، على أن يغيروا كلمة الله عز وجل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وليختلفن الليل والنهار ولا يمكن أن تتبدل كلمة الله سبحانه وتعالى، مهما رأيت من كتب الزندقة والهوى والجرأة على تغيير الحق والاستهزاء بالحق وأهل الحق، فاعلم أن لله سطوات، وأن الباطل مهما كان حاله، ومهما كان شأنه؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقذف بالحق عليه فيدمغه. ولكن لهذا الحق رجال يسخرهم الله عز وجل لهذه الأمة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، هم الذين يذبون عن الشريعة، وتغار قلوبهم وألسنتهم على الحق، فيصدعون بالحق، لا يبالون ب شروط الموقوف عليه قال رحمه الله: [ويشترط في غير المسجد ونحوه أن يكون على معين يملك، لا ملك وحيوان وقبر وحمل لا قبوله ولا إخراجه عن يده] أي: ويشترط في الوقف إذا كان على غير مسجد ونحوه أن يكون على معين. والمعين: ضد المبهم والمجهول سواء حدد الجنس أو لم يحدده، فلو قال مثلا: داري هذه وقف على أحد هذين الرجلين لم يصح؛ لأننا لا ندري أيهما، ولم يحدد أي الرجلين، فلو جئنا نصرف لأحدهما احتمل أن يكون الآخر، فلا بد من التعيين. فلا يصح أن يقول مثلا: أوقفت داري هذه على رجل من المسلمين، أو على واحد منكم، دون أن يعين، ففي هذه الحالة لا يصح الوقف؛ لأنه وقف على مبهم، وقد نص الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله والإمام النووي أن من شرط صحة الوقف أن يكون على معين، وأن يكون هذا المعين يملك، فلا يصح أن يوقف على من لا يملك كما سيذكره المصنف رحمه الله. قوله (في غير مسجد) : المسجد إذا أوقفه الإنسان فهو ليس على معين؛ لأنه لعموم المسلمين، فإذا أوقف المسجد أو أوقف سبيلا للشرب، أو نحو ذلك، فهذا على غير معين، والوقف في هذه الحالة صحيح مع أنه لم يحدده بشخص معين أو جهة معينة. قوله: (أن يكون على معين) ، في بعض الأحيان يجعل التعيين بالشخص فيقول: داري هذه وقف على فلان وذريته من بعده، ويسميه، فحينئذ عين، وذريته من بعده مستحقين لهذا الوقف. وفي بعض الأحيان يعين بذكر صفة من الصفات كقوله: داري هذه وقف على الفقراء، داري هذه وقف على المساكين، داري هذه وقف على طلبة العلم، ونحو ذلك، فهذا ينظر فيه، فيكون كل من اتصف بهذه الصفة من الفقر والمسكنة وطلب العلم؛ مستحقا لهذا الوقف. قوله: (يملك) أي: يشترط أن يكون الوقف على معين، وأن يكون هذا المعين يملك، فخرج الحمل، لأنه لا يملك، وهكذا الملك، فلو قال: داري هذه وقف على ملك من الملائكة أو على الملائكة فهذا ليس بصحيح، ولا يصح الوقف على هذا الوجه، ولذلك قال: (لا ملك) ، وكل هذا تطبيق للشرط، أي لا يصح الوقف على ملك. وقال: (وحيوان) لأن الحيوان لا يملك، فلو قال -مثلا-: أوقفت مزرعتي هذه على أن يصرف ثلث منها طعمة للدواب، فهذا من الصدقات، أو قال -مثلا-: أوقفت هذا المال سقيا للدواب على الطريق، مثلما يقع في بعض الآبار تكون وقفا وسبيلا يستقى منها للدواب، فإذا أوقف على هذا الوجه فليس مراده أن يملك الحيوان، وإنما مراده الرفق بالحيوان بشربه وانتفاعه، فالوقف صحيح على هذا الوجه. وقال: (وقبر) ، أي: وهكذا لو أوقف على قبر، لأن الإنسان لا يملك بعد موته ملكا مستأنفا. وقال: [وحمل] ، أي: إذا سمى أثناء الوقف أو رتب، فإذا قال مثلا: داري هذه وقف على أولادي، وعنده جنين في بطن أمه لم يستحق شيئا في تلك السنة، ولو كانت المرأة حاملا به أثناء تلفظه بالوقف، فإذا خرج حيا فحينئذ يملك. ولذلك فمن حكم الله عز وجل وفي شرعه أن الجنين لا يرث إلا إذا استهل صارخا، أي: إذا خرج من بطن أمه حيا، ولو للحظة واحدة، وصرخ ثم مات فإنه يستحق الإرث، أما إذا نزل ميتا فإنه لا يستحق، لأن الجنين لا يملك. لا يشترط القبول من الموقوف عليه قال: [لا قبوله] أي: ولا يشترط قبول الموقوف عليه، وهذا مما يختص به الوقف كالوصية، على تفصيل عند العلماء رحمهم الله في الوصية وسيأتي إن شاء الله تعالى، فلو قال: أوقفت داري هذه على محمد وأولاده من بعده، فالوقف على الرجل وذريته من بعده، فلو جئنا نشترط القبول، فالقبول متيسر من محمد إذ كان حيا، لكن ذريته لا يمكن أن يتأتى منهم قبول، فالقبول ليس بشرط في صحة الوقف، فإذا أوقف الواقف نفذ وقفه ولو لم يقبل الموقوف عليه. لا يشترط مع الصيغة في الوقف أن يخرجه الواقف عن يده قال: [ولا إخراجه عن يده] (ولا إخراجه عن يده) : هذه المسألة سبقت الإشارة إليها، فمن أهل العلم من قال: إن مجرد صدور صيغة الوقف يعتبر ملزما للوقفية موجبا لثبوتها، فلو قال: داري هذه وقف، أو هذا المسجد وقف، أو هذا السبيل وقف على المسلمين؛ فإنه يحكم بالوقفية مباشرة، ولا يشترط أن يتصرف تصرفا يدل على خروجه عن ملكيته. فإذا تلفظ وحصلت الصيغة؛ فإن ذلك وحده كاف في الحكم بالوقفية، وقد بينا أن هذا هو أرجح قولي العلماء رحمهم الله في هذه المسألة. فإذا مجرد الصيغة وحصول التلفظ بالوقف كاف للحكم بثبوته والعمل به، ولا يشترط إخراجه كما يقول بعض أصحاب الشافعي رحمهم الله. يتبع
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |