|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة حكم نسيان النذر السؤال امرأة نذرت ونسيت نوع النذر الذي نذرته، ما هو السبيل لإبراء الذمة من هذا النذر؟ الجواب هذا النذر إذا كانت لا تعرف منه شيئا، ولا تتذكر منه شيئا، فالحكم أنها ليست بمكلفة، وليس هناك نذر أصلا حتى تعلمه وتعرفه ثم تلزم به، فلا إلزام بالمجهول، أما إذا كانت تعرف أصل النذر، وتقول: أنا نذرت نذر صدقة نذرت نذر صيام نذرت نذر صلاة، فإذا كانت تعرف أصل النذر، فتطالب بأقل ما يصدق عليه ذلك الأصل. فإذا قالت: أنا نذرت نذر صدقة، لكني لا أعلم بكم أتصدق، نقول لها: تصدقي بأقل ما يسمى صدقة، إذا قالت: نذرت أن أذبح ولا أتذكر هل نذرت أن أذبح شاة، أو بقرة، أو ناقة، نقول: تذبحين أقل ما يقوم به الذبح، وهو الشاة، فتأخذ بالأقل إذا كانت عرفت نوع النذر، ولم تستطع أن تحدد قدره، والله تعالى أعلم. حكم ترك الصلاة من الكبير العاجز السؤال امرأة كبيرة في السن ومريضة، ولا تستطيع أن تقوم عن السرير، ولا تتذكر أذكار الصلاة، وإذا علمت تنسى، فما الحكم فيما لو تركت الصلاة؟ الجواب إذا غيبت بالكلية، وأصبحت لا تعي؛ فإنها غير مكلفة، إنما تكون المرأة ويكون الرجل مكلفا إذا كان يعقل، أما إذا نسي، وأصبح عنده فقدان للذاكرة، أو أصبح مضيعا لا يستطيع أن يتذكر شيئا، وإذا صلى لا يعرف كيف يصلي، أو يصلي بعض الصلاة، ويتلاعب ويضيع بعضها، ونحو ذلك مما يدل على أنه لم يعد مدركا؛ فإنه لا تكليف عليه، والله تعالى أعلم. حكم الصلاة بدون وضوء نسيانا السؤال صليت الفجر بدون وضوء، ولم أتذكر إلا بعد صلاة العصر، فما هو الواجب علي؟ الجواب أما صلاة الفجر فإنها لا تصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ، فيلزمك أن تعيد صلاة الفجر، وأما صلاة الظهر والعصر فلا تصح واحدة منهما إلا بعد أن تبرئ ذمتك من الفجر، لأن الترتيب مشترط؛ لأن الله تعالى يقول: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء:103] . فلا تصح الظهر وصلاة الفجر باطلة، بل عليك أن تصلي الظهر بعد الفجر، فيلزمك قضاء الفجر، ويلزمك قضاء الظهر والعصر مرتبة على الصفة الشرعية، وأنت مأجور على كل حال، والله تعالى أعلم. حكم الإفطار بدون عذر في صيام النافلة السؤال ما حكم من أفطر عمدا في صيام النافلة؟ الجواب إذا أفطر متعمدا في صيام النافلة فلا شيء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتطوع أمير نفسه) ، ولكن لا ينبغي للإنسان أن يزهد في الخير، بل عليه أن يكون حريصا على الطاعة والبر، وليعلم أنه إذا أفطر باختياره في النافلة فإنه قد حرم خيرا كثيرا؛ فإن هذا اليوم لا شك أنه لو وفق لصيامه كان أعظم لأجره وأرضى لربه سبحانه وتعالى. فمع كونه أميرا لنفسه، فالأفضل والأكمل أن لا يبطل عمله؛ لأن الله تعالى يقول: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] ، فالأفضل والأكمل أن يتم الطاعة، وأن يمضي فيها ما لم يجد طاعة أفضل منها، أو يجد خيرا أرضى لله عز وجل منه، قال صلى الله عليه وسلم: (إني والله لا أحلف على يمين فأجد غيرها خيرا منها، إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) ، فإذا كان هذا في اليمين، فكيف في الأمور التي هي دون ذلك، وليست بملزمة كإلزام اليمين، والله تعالى أعلم. العلة في جرد عروض التجارة وخرص النخل عند إخراج الزكاة السؤال النخل يقدر بالخرص، وعروض التجارة لا بد لها من جرد، وذلك في إخراج الزكاة، فهل هناك علة، أم أن الأمر تعبدي؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهناك فرق كبير بين النخل وبين عروض التجارة، فثمر النخل لا تستطيع أن تعرف قدره إلا إذا أخرجته من العرق، وإذا أخرجته من العرق فقد تريده تمرا، والوقت الذي يراد تقدير الزكاة فيه هو عند بدو الصلاح، وعند بدو الصلاح لا يمكن قطفه. فإذا متعذر أن تعرف الحقيقة لذلك الشيء الذي تريد زكاته، فلما تعذر أن تعرف قدر كيله انتقل إلى الخرص والتقدير، وهذا السنة به ثابتة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى نخل خيبر قبل وفاته؛ لأنه جعل خيبر بينه وبين اليهود نصفين، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها. فكان يخرصها حتى يعرف ما الذي لهم، وما الذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فاعتبر التقدير، والقاعدة أنه لا يصار إلى التخمين والتقدير عند القدرة على اليقين، فإذن القدرة على اليقين متعذرة فينتقل إلى غالب الظن، والشريعة تتعبد المكلفين بغالب الظن، فغلبة الظن في البصير الحاذق الخارص الذي له خبرة ومعرفة أنه يصيب. وهذا شيء رأيناه بأعيينا، والله إن الرجل كان يأتي إلى مزرعة الوالد رحمه الله، ويقول: هذه النخلة خرصها كذا، فما تزيد ولا تنقص بقدرة الله عز وجل، وتأتي بالرجلين لهما خبرة في خرص النخل أحدهما من جهة، والثاني من جهة، ويقفان تحت النخلة، ويقول الأول: هذه بين كذا وكذا، ويأتي الثاني لا يعلم ما الذي قاله الأول فيقدر قريبا مما قاله الأول، ويأتي الثالث ويقدر قريبا مما قدر الثاني، وهذا كله احتياطا من الوالد رحمه الله من أجل أن يعرف القدر ويحتاط بالأكثر، لكن الشاهد أنك تجد الثلاثة كلهم يتفقون، ولم يعلم أحد منهم بما قاله الآخر. هذه قدرة من الله سبحانه وتعالى جعلها في الإنسان، قد تجد الشخص منذ نعومة أظفاره وهو تحت الشجر، يعرف الثمر، ويعرف خرصه، ويعرف تقديره، فمن حيث الأصل فالخرص حجة ومعمول به، وقد أجازته الشريعة في الزكوات، وأجازته في تقدير الحقوق، وفي المساقاة، وفي المزابنة حينما أجاز بيع التمر على رءوس النخل يؤخذ بخرصه تمرا، كل هذا لأن الغالب فيه الصواب. أما بالنسبة لعروض التجارة فهي موجودة بين يديك، يمكن أن تقدرها، ويمكن أن تجري فيها الصاع، وتعرف قدرها كيلا، وتعرف قدرها وزنا. فالقدرة على اليقين تمنع من الشك، فلا يمكننا أن نصير إلى الحدس والتخمين في عروض التجارة مع إمكان الجرد، ولذلك من الخطأ ما يفعله بعض التجار أنه يستثقل جرد المحل بأكمله، ووالله لو أنه أراد شيئا من مصالح تجارته لجرده قطعة قطعة، ولم يتعذر عليه ذلك، بل تجده يعرف القليل والكثير ويحسب ذلك حسابا دقيقا. ولكن إذا كان للطاعة وللبر وللخير فهذا شيء آخر، ولذلك لا ينبغي التساهل مع الناس في هذا، ولا ينبغي التلاعب بالفتوى، يجب على التاجر أن يجرد بضاعته. وهناك أمور نفسية نريد زرعها في التجار، التاجر إذا احتاج إلى يوم أو يومين أو ثلاثة أيام لجرد محله فلا يضره أن يغلق محله الثلاثة الأيام، ويشعر أنه في عبادة. وكما أنه يريد تجارة الدنيا فهناك تجارة للآخرة، فتصبح النفوس ليست معلقة طيلة أيام العام بالدنيا وأمور التجارة، يحس عنده العامل، ويحس عنده التجار، ويحس كل موظف عنده في هذه التجارة أن للشرع سلطانا على أموال الناس، وعندها يشعر الإنسان بتقوى الله عز وجل. وهذه أمور مهمة جدا، فليست القضية قضية زكاة وقدرها، فهذه وإن كانت مهمة، ولكن هناك قضية أهم وهي تقوى الله عز وجل {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج:37] ، فإذا شعر الناس أنهم يعاملون الله سبحانه وتعالى، وأنهم مع الله عز وجل، وأن التاجر يحاسب على الصغيرة والكبيرة لمعرفة حق الله الذي وجب عليه، فعندها تكون تقوى الله عز وجل. أما إذا أصبح يخمن، ويتلاعب بحق الله عز وجل، فهذا أمر لا شك أنه مخالف لشرع الله الذي أوجب عليه أن يعطي المسكين ومن سمى من أهل الزكاة، حقوقهم من ماله الذي استخلفه الله فيه، والله تعالى أعلم. مدى تعارض الصيام مع طلب العلم السؤال طالب علم عندما يصوم صيام نافلة فإنه يتعطل عن أمور منها طلب العلم، فهل يترك الصيام لكي يقوى على الطلب وقراءة القرآن، وما توجيهكم فضيلة الشيخ في هذا الأمر؟ الجواب في الحقيقة بالنسبة للصيام، صيام النافلة نوعان: الصيام المقيد، كصوم الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر والأيام البيض على القول بأنهما نوعان من الصوم، هذه لا ترهق طالب العلم إرهاقا يشغله عن طلب العلم. فلا ينبغي للإنسان أن يبالغ في وصف هذه الأمور أنها تعيق عن طلب العلم، بل إنها تعين على طلب العلم، وليعلم طالب العلم أن سرور الدنيا وبهجتها، وأن أنسه كله في طلب العلم مقرون بالعبادة، وإذا أردت أن ترى طالب العلم في أكمل صوره وأجمل أحواله فانظر إليه في العلم والعمل. الصيام عمل بالعلم، وقيام الليل عمل بالعلم، وكثرة تلاوة القرآن عمل بالعلم، فينبغي على طالب العلم دائما أن لا يفرق بين علمه وعمله، فهما مقترنان، لكن إذا جاءت أحوال خاصة وأمور خاصة، فلا بأس بالنظر في الأولى منهما، وهذه المسائل أصبحت كثيرا ما تطرح، ويقعد فيها ويفصل، وهي مسائل واضحة لا تحتاج إلى إشكال. الصحابة رضوان الله عليهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأخذون من سنته وهديه وسمته ودله -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- وهم في أعلى الدرجات في طلب العلم، وفي أعلى درجات التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كانوا في صيام وقيام وجهاد في سبيل الله، لا في صيام وقيام فقط، بل وجهاد في سبيل الله في ساعة عسرة، ولذلك زكاهم الله عز وجل -لتلك الأمور- من فوق سبع سماوات، وأثنى عليهم، ورضي عنهم وأرضاهم سبحانه وتعالى. هذا كله ما ضرهم، بل جعلهم في أحسن الأحوال وأتمها وأكملها، ولن يسعنا إلا ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنفوس إذا جعلت بينها وبين العبادة والطاعة عوائق فإن الله سبحانه وتعالى يبتليها دائما، وخذها قاعدة، إذا نويت قيام الليل بعد سهر معقول في طلب العلم، ونمت على تلك النية وهيأت نفسك، فعند ذلك تأتيك المعونة من الله سبحانه وتعالى، ويأتيك التوفيق والسداد، وترشد وتصيب الخير من أمورك على أتم الوجوه وأكملها. والعكس بالعكس، فإذا تخاذل طالب العلم وقال: أنا إذا صمت لا أستطيع أن أحفظ، وأنا إذا قمت لا أستطيع أن أقوم، فإنه يختلق لنفسه أمورا قد يكون في عافية منها. فأحسن الظن بالله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند الإمام أحمد يقول: (يقول الله تعالى: أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيرا كان له) . والله إن أسعد أيام العمر في طلب العلم كانت الأيام التي يكون فيها الإنسان على أتم الوجوه وأكملها في قيام الليل وصيام النهار، ولن تجد والله في الصيام إعاقة، بل الصيام يعين على كل خير وبر، فلذلك قال عبد الله بن مسعود: (من سعادة العبد كثرة الصلاة، وكثرة الصيام، وصحبة العلماء) . فلا بد من اقتران العبادة بالعلم؛ فاجتهد رحمك الله في أن تصيب الخير على أتم الوجوه وأكملها مستعينا بالله، واثقا محسنا الظن بالله عز وجل. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهيئ لنا من أمورنا رشدا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. تفسير قوله تعالى: (رب إني نذرت ... ) السؤال ما معنى قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران: {رب إني نذرت لك ما في بطني محررا} [آل عمران:35] ، هل هو من قبيل حبس الذرية على الطاعة والعبادة؟ الجواب ليس هو النذر على حقيقته المعروفة بحبس الذرية من كل وجه، إنما المراد بذلك الاصطفاء للطاعة والخير والبر، كما ذكره بعض أئمة التفسير رحمهم الله، والأصل أن الإنسان إذا رزق الذرية أن يجتهد في إصلاحها وإقامتها على طاعة الله عز وجل. فهي تعبر بما يكون من أمرها؛ أن هذه الذرية ستكون لله سبحانه وتعالى، ومن لازم ذلك العناية بتنشئتها على الخير، ومحبة الله ومرضاته، فكأنها التزمت بأنها تقوم بحق الله عز وجل في ولدها وذريتها، والله تعالى أعلم. حكم دخول الواقف ضمن من أوقف عليهم السؤال من أوقف وقفا للفقراء والمساكين، ثم أصبح الواقف فقيرا بعد سنوات، فهل يجوز له الارتفاق بهذا الوقف لدخوله ضمن هذا الوصف؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن أوقف على غيره فإنه لا يدخل في ذلك الغير ولو تحققت فيه صفته، وقال بعض العلماء: إنه يمكن أن يدخل أحد من ذريته لكن هو لا يدخل، ومن حيث الأصل، الأورع أنه لا يدخل هو ولا ذريته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني) . ووجه هذا الحكم أنه حينما قال: أوقفت هذه الدار على الفقراء، ولم يجعل له نصيبا ولا لذريته؛ فهم من ذلك أنه لا حظ له مطلقا سواء تحقق فيه هذا الوصف أو لم يتحقق. وبناء على ذلك فإن الأشبه والأولى أنه لا استحقاق له فيه، والله تعالى أعلم. حكم اقتطاع جزء من أرض موقوفة لمسجد لبناء سكن للإمام السؤال إذا أوقف شخص أرضا محددة لتكون مسجدا، فهل يجوز بناء مسكن للإمام والمؤذن داخل هذه الأرض أم أن جميع مساحتها تكون مسجدا؟ الجواب من حيث الأصل أن من أوقف الأرض كاملة للمسجد فإنها تبقى وقفا على المسجد؛ لأنه قصد أن تكون محلا للصلاة والعبادة، وإذا أراد أن يبني للإمام أو للمؤذن موضعا فلا بأس بذلك، فيخص قطعة من المسجد قبل أن يوقف كل المسجد، أو يقول في هذا المسجد: إن ثلثي أرضه مسجد، والثلث الثالث يكون نزلا للإمام، أو يكون مرافق تابعة للمسجد. فهذا من حق الواقف، أما من حيث الأصل فإنه إذا أوقف الكل فالكل وقف، ويبقى وقفا تاما شاملا لجميع الأرض، إلا أن بعض مشايخنا في الأزمنة المتأخرة -في حالة وجود الحاجة إلى قرب الإمام من المسجد-، يفتي أو يخفف في انتزاع قطعة من المسجد سكنا للإمام؛ لأن هذا يحقق المقصود من جماعة المسجد، وحصل نقاش في هذه المسألة بين بعض المشايخ المتأخرين رحمهم الله، وكان البعض يستمسك بالأصل وهو أن الأرض كلها وقف، ولا ينبغي صرف شيء منها إلى غير ذلك. وهذا لا شك أنه من حيث الأصل أقوى دليلا وألزم، والذين يفتون بجواز أن يقتطع منها جزء لإمام المسجد ونحو ذلك، فهذا مبني على شيء قرره بعض العلماء رحمهم الله، وهو أنه يجوز التعرض لبعض الوقف لاستصلاح كل الوقف. وهذه المسألة هي المسألة المشهورة: يجوز إتلاف بعض الوقف لاستبقاء باقيه، واستدلوا بقصة موسى عليه السلام مع الخضر، فإنه كسر لوح السفينة حتى تنجو السفينة كاملة، فقالوا: إذا تعطلت مصالح الوقف وأصبح لا سبيل إلا أن يؤخذ شيء من الوقف فلا بأس بذلك. وألحق بهذه المسألة مسألة الإمام، قالوا: لأن الإمام إذا لم يكن قريبا من المسجد ستتعطل مصالح الإمامة، وهذا ليس على كل حال، أما في بعض الأحيان فنعم، وفي بعض الأحيان لا؛ لأن الفرض في الإمام أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يكون إماما إلا وهو يستشعر أنه محافظ على صلواته محافظ على حدوده. ولذلك إذا ارتبط الشخص بمهمة أو عمل تجده يحضر لها من مئات الكيلومترات؛ لأنه يشعر بالمسئولية ويشعر بالأمانة، فلا شك من حيث الأصل أن القول الأول أشبه وأقوى وأورع، وأنه إذا أوقفت كاملة فليس من حق أحد أن ينتزع منها شيئا إلا لما خصصت له، والأولى شراء قطعة أرض يبنى عليها منزل للإمام بجانب الأرض الموقوفة. ثم كان بعض مشايخنا الذين يمنعون من قطع جزء من الأرض ما دام أنها موقوفة كلها يقول: إنه لو قلنا بفتوى من يجيز إتلاف البعض لاستبقاء الكل فليست منطبقة على هذا من كل وجه؛ لأنه لا يكون ذلك إلا إذا كان المسجد في موضع لا يتأتى فيه سكن للإمام بجواره، وهذا ليس على كل حال. فإذا تحتاج المسألة إلى تحرير، أما كقاعدة وكأصل، فالأصل يقتضي أنه إذا أوقفت الأرض كاملة على مسجد أو مدرسة أو أي سبيل من سبل البر؛ فإن جميع الأرض مستحقة لهذا السبيل ولا يجوز صرفها عنه إلا في الأحوال المستثناة التي سيأتي إن شاء الله بيانها، والله تعالى أعلم. حكم التصرف في بعض الوقف لمصلحة الوقف السؤال رجل لديه إبل، وأوقف لبنها على الفقراء والمساكين، وعجزت ذريته من بعده عن نفقة هذه الإبل وإطعامها، فهل يبيعون شيئا من لبنها لشراء علفها وما فيه إصلاح لشأنها؟ الجواب في الحقيقة مسائل الوقف ينبغي أن يعلم أنها ألصق بالقضاء منها بالفتوى، لا بد من الرجوع إلى القاضي في مسائل الوقف؛ لأن الوقف أمره أضيق من غيره، والسبب في هذا ملكية الوقف، فالواقف نفسه لا يملك وقفه؛ لأنه بمجرد ما أوقف خرجت عن ملكيته، فيحتاج الأمر إلى حكم القاضي، فالقاضي له ولاية شرعية؛ فإذا نظر ووجد المصلحة في بيع شيء من الأوقاف فإنه يباع أو يصرف؛ فهذا أمر مرده إلى القضاء. أما من حيث الفتوى فهذا إذا لم يوجد القضاء، إذا أوقف غلتها أو ركوبها وظهرها، فالأصل أن يبقى الوقف على ما هو عليه، وعلى الوارث أن يبر مورثه وأن يحتسب الأجر ما أمكنه، إلا إذا وصل الأمر إلى شيء فوق طاقته، فيرفع الأمر إلى القاضي، والقاضي يحكم بما يراه.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (397) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4] من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم. وجوب العمل بشروط الواقف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمع وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصف وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك] قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه الموقف. فالواقف إذا اشترط شروطا، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطا في صرف الوقف وعمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها. ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يوقف الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يصرف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة. ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يعمم وإما أن يخصص، وإما أن يطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا: على أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذريته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقا. وقد يجعل شرطا من جهة الصرف، فيخصه ببعض الذرية دون بعض، فيخصه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته. فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمول به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلال بهذه الشروط أو تغيير لها؛ فإن القاضي يلزمه شرعا بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة. ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميما وتخصيصا، وتقييدا وإطلاقا، وترتيبا على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يتقيد به وأن لا يغير ولا يبدل. قوله: [في جمع وتقديم] الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلا لو كان له ابنان زيد وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني. لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذ ينبغي أن يركز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحدا من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها. وهكذا لو جمع وقال: على أولادي. فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] ، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذ فرق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرق. قوله: (وتقديم) : أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيد بهذا الترتيب، فلا يعطى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة. قوله: [وضد ذلك] أي: ضد الجمع التفريق. قوله: [واعتبار وصف] أي: لو قال مثلا: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء على المساكين على طلبة العلم على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف. قوله: [وعدمه] أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى. قوله: [وترتيب] أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عدم أولاده. فإذا نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضا بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله. فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته. قوله: [ونظر] أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته. فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواء كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلا أجنبيا فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف. قوله: [وغير ذلك] أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة رضي الله عنها: (أهلي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت) . وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعيا فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطا في الوقف فإنه ينبغي التقيد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثا، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاما، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف. الوقف المطلق من أوقف لا يخلو إما أن يشترط، وإما أن يترك الشرط، فإذا اشترط في وقفه شروطا، وكانت هذه الشروط شرعية؛ وجب العمل بها والتقيد بما فيها، وقد بينا وجه ذلك وأنه يلزم ناظر الوقف بتنفيذ هذه الشروط، وصرف مستحقات الوقف على ضوء ما اشترطه الواقف. وإذا حصل الإخلال بما تقدم من التقييد؛ فإن الناظر يتحمل المسئولية، ويكون حينئذ ضامنا لكل ما يترتب على هذا الإخلال والصرف الذي لم يقع على الوجه المعتبر. بقي السؤال عن الحالة الثانية: وهي أن يصدر الوقف خاليا من الشروط، وهذه الحالة تعتبر حالة إطلاق، بمعنى أن ينص على الوقف دون أن يقيد، ودون أن يشترط؛ فالحكم حينئذ أنه يبقى المطلق على إطلاقه، ولا يمكننا أن نضيف قيودا، ولا أن نضيق واسعا، فإذا أطلق صاحب الوقف عملنا بإطلاقه؛ لكن هذا الإطلاق في بعض الأحيان تترتب عليه بعض المسائل. ومن هنا بين المصنف رحمه الله أنه إذا حصل الإطلاق عمل به، فلو قال: وقفت هذه المزرعة على أولادي. استوى في ذلك الغني والفقير، فنعطي أولاده، سواء كانوا من الأغنياء أم كانوا من الفقراء، كذلك يستوي ذكرهم وأنثاهم، فنعطي الذكر ونعطي الأنثى؛ لأنه سوى بينهم وشرك فقال: أولادي، فيستوي الذكور والإناث والخناثى فكلهم يدخلون في هذا، ويصرف لهم من مستحق الوقف. وهكذا إذا قال: وقفت هذه المزرعة وثمرتها تصرف على المساكين، فإننا نصرفها على كل من يصدق عليه أنه مسكين، سواء كان في غاية الصلاح كالصالحين، أو كان في المستوى العام لعموم المسلمين، بخلاف الحالات الأول فإنه إذا قال: وقفت داري على أولادي الذكور؛ تقيد الوقف بهم، ولو قال: وقفت داري على المطلقات من بناتي، فحينئذ يختص بالمطلقات، أو قال: أوقفت داري على أولادي الأفقه منهم، يقدم الأصلح أو يقدم الأرشد وهكذا. كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد إذا أطلق وقال: داري وقف على أولادي، فإنا نسوي بين الأولاد جميعا، حتى إن الولد الذي يكون من الصغار ولم يبلغ يدخل في هذا، بل بمجرد أن يولد يثبت استحقاقه في الوقف، ويكون له نصيبه، ويقسم الوقف بينهم بالسوية. فمثلا لو أن مزرعة أوقفها على أولاده، وفيها مثلا مائة صاع، وله من الولد خمسة، فإننا نقسم المائة صاع بين الخمسة بالسوية، لا نفضل الذكر على الأنثى، ولا نعطي الكبير دون الصغير، ولا نخص الصالح دون غيره، بل يستوي الجميع في هذا الاستحقاق؛ لأنه أطلق وقال: على أولادي. ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لو قال: وقفت داري على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي إلى أن ينقطع أو على عقبي حتى ينقطع، فقد سوى بين الطبقات، فالبطن الثاني يدخل مع البطن الأول لأنه لم يرتب، فلو قال: أوقفت داري هذه على أولادي. فإنه لو كان له ولدان: محمد وعلي، وخلف محمد ثلاثة؛ فإن الثلاثة يقاسمون أباهم وعمهم؛ لأنه قال: أوقفت على أولادي؛ لكن في الحالات الأول التي سبقت الإشارة إليها يقول: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا يشارك البطن الثاني البطن الأول، وتختص القسمة بالبطن الأول دون الثاني؛ لكن إذا قال: أوقفت داري، أو مزرعتي على أولادي فإن انقطع نسلي أو انتهى عقبي فللمساكين، فحينئذ يستوي جميع أولاده كما سيأتي إن شاء الله في مسألة الولد وشموله للبطون، وسيذكرها المصنف رحمه الله. بين المصنف في هذه العبارة أن الإطلاق يخالف التقييد، وهذا كله عمل بما كان من الواقف، ويؤكد ما تقدم أننا ملزمون بما فعله الواقف، إن قيد أو اشترط وجب علينا الوقوف عند قيده وشرطه، وإن أطلق ولم يقيد فإننا نبقى على هذا الإطلاق، ويرد السؤال في مسألة من هذه المسائل، وهو: إذا أطلق وصعب علينا أن نشمل الجميع، فهل نخص البعض دون البعض؟ هذا سيأتي الكلام عليه، لكن القاعدة العامة أننا في التقييد نتقيد بما قيد، وفي الإطلاق نعمل بالمطلق على إطلاقه. قوله: [وضدهما] . استوى الغني والذكر مع ضدهما، يعني ضد الغني وهو الفقير، وضد الذكر وهو الأنثى، فالإناث من الولد ضد الذكور، فنسوي بينهم، ولا نفضل الذكور على الإناث. وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله؛ أن من قال وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نقسم غلة المزرعة بين أولاده بالسوية، ولا نفضل الذكر على الأنثى، لكن استحب طائفة من السلف رحمهم الله، ونص عليه غير واحد من الأئمة وهو الحق إن شاء الله، أن يقسم بين أولاده بقسمة الله تبارك وتعالى، فيجعل حظ الذكر ضعف حظ الأنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القسمة من فوق سبع سماوات، وهي قسمة العدل الحكيم الخبير اللطيف الذي هو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، ولا أعدل من الله. وهذا لحكمة بالغة، فإن الله حمل الرجال المسئولية عن النساء، فالأصل في المرأة أن ترعى بيتها، وأن تقوم على ولدها، وأن تقر في قرارها، والعمل مخالف للأصل؛ لأن الله نص في كتابه فقال: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف:189] . فالأصل في الخلقة والشرعة أن التعب للرجال، ولذلك قال: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} [طه:117] ، ولم يقل: (فتشقيا) ؛ لأن الرجل هو المسئول، وهو المتحمل لتبعة النفقة والقيام على المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحق في النفقة على الرجال، ولم يجعله على النساء. فتبين أن التبعات والأمور التي يتحملها الرجال أكثر من الأمور التي تتحملها النساء، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالله عز وجل جعل نصيب الرجل ضعف نصيب الأنثى، فإذا أراد أن يعطي ولده فإنه يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقول مثلا: وقفت مزرعتي هذه على أولادي وللذكر مثل حظ الأنثيين، فيفضل بينهم بتفضيل الله عز وجل، والله سبحانه فضل جنس الرجال على جنس الإناث، ولذلك خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك خلق منه حواء، فجعل الرجل هو الأصل، وكل مؤمن مطالب بالتسليم، وينبغي أن يرضى بهذا الحكم وأن يذعن له، وأن يسلم بهذه القضية التي ليست مثار جدل أو نقاش. لأن هذا التفضيل حكم من الله، ولا يستطيع أحد أن يقول: لماذا خلقني الله قصيرا وخلق غيري طويلا؟ لماذا خلقني فقيرا وخلق غيري غنيا؟ فالله يفضل وله الحكمة التامة البالغة، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ففضل هذا الجنس على هذا الجنس. فنحن نفضل بتفضيل الله عز وجل، ولا يغض هذا ولا ينقص مكانة المؤمنة أبدا، بل عليها أن تسلم، فإذا أراد الوالد أن يوقف على هذا الوجه فإنه يعدل بين أولاده، ويجعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) . ومن هنا كان مذهب طائفة من العلماء أن عطية الولد ضعف عطية الأنثى، وهذا لا شك أنه معتبر من حيث الأصول الشرعية. والمصنف رحمه الله يقول: إنه يستوي الذكر والغني وضدهما، يعني ضد الذكر وضد الغني، فيستوي غنيهم وفقيرهم، فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، وكان له ولدان أحدهما غني والثاني فقير، فإننا نعطي الغني مثلما نعطي الفقير، ونعطي الفقير مثلما نعطي الغني، ولا نفضل أحدهما على الآخر. من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق قال رحمه الله: [والنظر للموقوف عليه] من أوقف شيئا إما أن يجعل لنظارته شروطا يحددها ويبينها، فيقول: والنظارة لهذا الوقف للأرشد فالأرشد من أولادي، ففي هذه الحالة يستحق النظارة من توفر فيه شرط الرشد فيقدم الأرشد. لكن إذا أطلق وقال: هذه المزرعة وقف على أولاده وسكت، ولم يذكر لمن تكون النظارة، ولم يحدد من هو الناظر ولم يضع شروطا ولا صفات ولا أمارات معينة لمن نجعله ناظرا على وقفه، فإنه في هذه الحالة تكون النظارة للموقوف عليه. بمعنى أن الأشخاص الذين أوقف عليهم هذه المزرعة هم الذين لهم حق النظر؛ لأنهم هم القائمون على الوقف، وهم المالكون لثمرته، وهم الذين سيمحضون هذا الوقف النصيحة، فهم أولى وأحق بالنظر في مصالحه، وليس هناك أصلح من نظر الإنسان بنفسه فيما هو له؛ لأنه لا يغش نفسه غالبا؛ ولأنه سيحرص على ما فيه مصلحة نفسه، ومصلحة من معه. فلو أوقف الوالد على ولدين فالنظر لهما، لا يستبد أحدهما دون الآخر، ولا يتصرف أحدهما في الوقف دون إذن الآخر، فهما شركاء في هذا الاستحقاق؛ لكن لو أنهم اتفقوا على أن يفوضوا شخصا منهم، فقالوا نحن خمسة، وهذا الوقف يحتاج إلى شخص واحد متفرغ؛ فنحن وكلنا وفوضنا فلانا، فحينئذ يكون من فوضوه متصرفا أصالة عن نفسه، ووكالة عن غيره، فهو في هذه الحالة الذي له حق النظارة برضا الجميع واختيارهم. فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معينين فلا إشكال في ذلك، إذا كانوا معينين كقوله مثلا: أوقفت داري هذه على أولادي، وأولاده عشرة، تفاهموا فيما بينهم وجعلوا ناظرا، أو كان العشرة كلهم يديرون هذا الوقف ومصالح الوقف لا إشكال. لكن المشكلة إذا كان الموقوف علمه جهة من الجهات، كأن يقول: وقفت مزرعتي هذه على المساكين، فلا يمكن أن يكون كل المساكين نظراء على هذا الوقف، وذلك من الصعوبة بمكان، وقد يتعذر هذا، ففي هذه الحالة يختار القاضي بعضهم للقيام على مصلحة الوقف على التفصيل الذي ذكرناه. مسائل الوقف على الأولاد قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته؛ كما لو قال: على ولد ولده وذريته لصلبه] فقوله رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية) فيه مسائل: المسألة الأولى: إذا قال على ولدي. المسألة الثانية: إذا قال: على ولد فلان. المسألة الثالثة: إذا قال: على ولدي ثم على المساكين. دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم قال رحمه الله: [والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه] أي: فإن قال: وقف على أقربائي وأهل بيتي، أو أهلي، أو وقف على المسكين من أهلي، أو على المحتاج من أهلي، فإنه يشمل الذكور والإناث. يقال إن أهل أصلها: آل، وهذا قول سيبويه من أئمة اللغة، وأبدلت الهمزة هاء. وأهل الإنسان، وآل الإنسان، وقرابة الإنسان تشمل فروعه من الأصول. وقومه كذلك، إن قال: للضعفاء، للفقراء، لطلبة العلم من قومي، فإنه يستوي فيه الذكور والإناث، إلا أن يخص، ولذلك قال: [يشمل الذكر والأنثى من أولاده] أي: لأن الآل لا تختص بالذكور دون الإناث، قال صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) ، والإجماع قائم على أن قوله: (آل محمد) ، شاملة للذكور والإناث، وأهل مثل آل، فلو قال: على أهل بيتي؛ فإنها تشمل الإناث، وفي حديث الكساء أنه عليه الصلاة والسلام جلل فاطمة رضي الله عنها وجعلها من أهل البيت، وهي من أهل بيته بالإجماع. فأهل بيت الإنسان وآله وقرابته يستوي فيهم الذكور والإناث، قال تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود:73] ، فالخطاب متوجه لزوجة إبراهيم عليها السلام لما عجبت من أمر الله عز وجل فقيل لها: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} [هود:73] . فأهل الإنسان تطلق على الزوجة {فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا} [طه:10] ، تطلق الأهل بمعنى البيت خاصة، سواء كان للزوجة وأولادها ومن هو قريب من ذلك كالخدم والحشم، وتطلق بمعنى العموم، ويقال: أهل الإنسان ومرادهم كل من يمت إليه بالقرابة والصلة. وقوله: (وأولاد أبيه) : وهم من يجتمعون معه في الأصول، فيشمل ذلك أعمامه وعماته الأشقاء، وهم الذين شاركوا أباه في أصليه، والعمة لأب، والعمة لأم من حيث الأصل، لكن بالنسبة لمن فوقهم يختص بالأصول وهو جد أبيه ومن علا. قال: [وجد أبيه] أي: جد أبيه، وجد جده، ونحو ذلك؛ لأنها كلها أصول وتدخل في آله وقرابته. قال رحمه الله: [وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عمل بها] يريد إناثه؛ كان يقول: بيتي وقف على المطلقة من بناتي، أو على المطلقة من ذريتي، أو على المطلقة من نسلي، أو وقف على المحتاجة من قرابتي، هذا يخص الإناث دون الذكور، فالذكر لا يستحق في هذه الحالة، ولا يدخل. وأثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه أوقف على الإناث من ذريته، وهذا قول لبعض العلماء، فيرى أنه يجوز تخصيص بعض الولد عند الموجب، وفي النفس منه شيء، لكن عمل به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويؤثر عن الزبير وابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع أنه خشي على بناته فجعله للمطلقة والأرملة؛ لأن الذكر يستطيع أن يكافح، ولكن الأنثى إذا طلقت أو مات عنها زوجها خشي عليها. فيوقف على المحتاجة من ذريته إذا طلقت أو أصبحت أرملة خوفا عليها من العار، وهذا يجوزه بعض العلماء؛ لأنهم يقولون: يجوز أن يخص الوالد بعض ولده للعوز والحاجة، مثل أن يكون ابنه -لا قدر الله- مشلولا، فيجوز أن يعطيه ما لا يعطي الصحيح، ولو كان ابنه طالب علم يحتاج إلى نفقة خاصة أعطاه نفقة طالب علم، فهذا التفضيل للسبب، فيرى أنه إذا فضل بعض ولده بالوقف عليهم لسبب، أو مثلا جعل للذكور حظا، وجعل للإناث حظا، فأوقف على الذكور دارا، وأوقف على الإناث مزرعة وعدل بينهم، فهذا له وجهه. الشاهد أنه إذا قيد بالأنثى؛ فإنه يعمل بتقييده، سواء كان ذلك بأمارة، أو كان صريحا، فقال: للمطلقة أو للأرملة إذا رملت، فإن قال: للمطلقة فإنه يكون مقيدا بالمطلقة ولا يشمل الكل، وإذا قال: للأرملة، أو قال: التي لا زوج لها، إذا قال: التي لا زوج لها فهذا أعم، لأنه يشمل الصغيرة التي لم تتزوج بعد، فمن حقها أن تسكن، ومن حقها أن تأكل من هذا الوقف، لكن إذا قال: للمطلقة؛ فلا بد أن تكون زوجت ثم بعد ذلك طلقت، ويراعى في هذا وجود الحاجة إلى الستر. دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن] . وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطردا في جميع البطون. اشتراك الذكر والأنثى فالعلماء كلهم متفقون على أن من قال: على ولدي أنه يشمل الذكور والإناث؛ لأن العرب عندما تطلق هذا اللفظ تريد به الإناث مع الذكور {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] . فشرك سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى تحت مسمى الولد، فدل على أن الولد يشمل الذكور والإناث معا، وهكذا الخناثى فإن الخنثى المشكل يدخل في الولد. فإذا المسألة الأولى أنه إذا قال: على ولدي، فجميع أولاده وجميع نسله من الذكور والإناث داخلون في هذا، هذا كله في البطن الأول. والولد إما أن يكون من البطن الأول، وإما أن يكون من غيره، والبطن الأول هو الولد المباشر الذي هو ولدك مباشرة ذكرا كان أو أنثى، فالبطن الأول هو أول ما أنجب الإنسان، ويليه بعد ذلك البطن الثاني، وهو ابن الابن، وبنت البنت، وبنت الابن، وابن البنت، هذا البطن الثاني الذي بينك وبينه واسطة. وهذه الواسطة هي فرع من البطن الأول، إما ذكر وإما أنثى، يتمحض ذكورا أو يتمحض إناثا، أو يجمع بينهما، يتمحض ذكورا كابن ابنك، ويتمحض إناثا مثل بنت بنتك، ويجمع بينهما ابن البنت وبنت الابن، والبطن الثاني فيه التفصيل، فالبطن الأول لا إشكال أنه إذا قال: وقفت داري على ولدي أن الذكور والإناث داخلون، وأنهم مستوون في الاستحقاق كما قدمنا. دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق لكن البطن الثاني فيه تفصيل وفيه مسائل: المسألة الأول: هل إذا قال: وقفت على ولدي. يدخل البطن الثاني ومن بعده أو يختص بالبطن الأول؟ فمثلا: لو أن رجلا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي ثم على المساكين، فأولاده الذين هم من صلبه مباشرة لا إشكال أنهم مستحقون؛ لكن الإشكال: متى ننتقل للمساكين؟ هل قوله: (أولادي) يشمل جميع نسله حتى ينقطع، أو يختص بالبطن الأول ثم نحكم بانتقال الوقف وصيرورته إلى المساكين؟ لهذه المسألة وجهان عند العلماء، فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن هذه المسألة فنص على أن ولد الولد يدخل في حكم الولد، وأن من قال: على أولادي. فإننا نلحق أولاد البطن الثاني بأولاد البطن الأول، ولا ينتقل للمساكين إلا إذا انقطع نسله أو انتهى عقبه. وهناك وجه ثان وقول ثان لبعض العلماء، يقول: إذا قال: وقفت على أولادي أو على ولدي ثم على المساكين؛ فإنه حينئذ ينتقل الوقف إلى المساكين بعد موت البطن الأول. وعلى هذا القول يكون قوله: (أولادي) خاص بالبطن الأول فقط، فلا نلحق أولاد الأولاد مكان الأولاد ولا ينزلون منزلتهم. والصحيح الأول، وهو أنه إذا قال: وقفت على ولدي فإنه يلتحق ولد الولد حتى ينقطع نسله وعقبه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المساكين كما سبق، لكن كل هذا الخلاف محله ألا يأتي بقيد أو بعبارة تدل على أنه يريد ولد الولد، فإذا قال مثلا: على أولادي إلى أن ينقطع نسلي ثم على المساكين، أو يقول: على أولادي والمساكين من بعدهم إذا لم يوجدوا، أو على أولادي فإن انقطع عقبهم فللمساكين؛ فحينئذ لا إشكال، والإجماع منعقد على أننا ننزل الطبقة الثانية بعد الطبقة الأولى، وهكذا بالنسبة للطبقات. هذه المسألة الأولى، نخرج منها بخلاصة وهي أن من قال: وقفت على أولادي ثم على المساكين، أن الانتقال إلى المساكين لا يكون إلا بعد انتهاء الولد، بحيث ينقطع نسله وعقبه. وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، فإن وجدت قرينة فقول واحد أنه لا ينتقل إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل كقوله: على أولادي فإذا انقطع نسلهم فعلى المساكين. اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على أولادي، وقلنا: إن البطن الثاني يستحق، يرد السؤال متى نحكم بدخول البطن الثاني مع البطن الأول؟ فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي ثم على المساكين؛ وقلنا إن البطن الثاني يستحق كما يستحق البطن الأول؛ لكن هل هو على الترتيب أو على التشريك؟ و الجواب أنه على التشريك وأنه إذا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نلحق البطن الثاني بالأول، والبطن الثالث أيضا بهم، فجميعهم ولد له، فبمجرد ما يولد من البطن الثاني أو الثالث يستحق، وكل من يولد من هذه البطون مشترك في الاستحقاق؛ لأنه قال: (على أولادي) وقد سبق أن قلنا: فإن أطلق استوى الذكر والغني وضده، أي: يستوي الجميع في الاستحقاق. فائدة المسألة: لو كان له محمد وعبد الله -من البطن الأول- ثم زيد وعمرو من البطن الثاني -أولاد عبد الله- في هذه الحالة تقسم الثمرة بين الأربعة، وندخل البطن الثاني مع البطن الأول ولو ولد الساعة؛ لأنه شرك بين أولاده ولم يرتب، وأطلق في هذا التشريك، فنقول: البطن الثاني مشترك مع البطن الأول. فلو أن زيد بن عبد الله الذي هو البطن الثاني تزوج وخلف أحمد، فإن أحمد يشارك أعمامه، ويشارك عم أبيه وجده في القسمة. إذا: لا ننتظر للبطن الثاني في استحقاقه موت البطن الأول، ولا ننتظر للبطن الثالث في استحقاقه موت البطن الثاني؛ لأنه شرك وأطلق، فهؤلاء كلهم ينزلون منزلة واحدة. إذا لو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فإننا نحكم بأن أولاده يستحقون: الذكر والأنثى، البطن الأول والبطن الثاني والثالث، فلا يختص ببطن دون آخر ما لم يقل: الأقرب فالأقرب، أو: البطن الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه. فإذا قال بالترتيب، كأن يقول: وقفت على أولادي من البطن الأول، فإن مات منهم أحد نزل ولده منزلته، فحينئذ يكون أيضا دخول للبطن الثاني مع البطن الأول لكن بالترتيب، وبالشرط أنه ينزل منزلة والده، وحينئذ نقسم على القسمة الأصلية، فإذا كان له ثلاثة أولاد نقسمه على ثلاثة، وتصبح خطوط الإرث على الثلاثة هذه، وكل ورثة من بطن ينزلون منزلة أصلهم. وعلى هذا فلو قال لنا: وقفت على أولادي ثم المساكين، أو على ولدي فلان، مثلا شخص يكون عنده ذرية، ويريد أن يتصدق بالثلث على قريب، لما فيه من صلة الرحم، ولأن الصدقة عليه أعظم ثوابا، فقال: وقفت مزرعتي هذه -وهي تساوي الثلث- على ولد عمي صالح، فكل ذرية عمه صالح يدخلون في هذا الوقف، يستوي ذكورهم وإناثهم، هذا بالنسبة للبطن الأول، وبالنسبة للبطن الثاني فإنه يشارك البطن الأول، وكذلك البطن الثالث مثلما تقدم. اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث يبقى السؤال في مسألة تشريك البطن ذكورا وإناثا، ففي البطن الأول يشرك بين الذكر والأنثى، وفي البطن الثاني يخص الاستحقاق بأولاد الذكور دون أولاد الإناث، مثلا: إذا كان له محمد، وعبد الله، وصالح، وفاطمة، فكلهم يشتركون ويقسم الاستحقاق على أربعة يستوي فيه الذكور والإناث. فإذا أنجبت فاطمة فإن أولادها لا يستحقون؛ لأن أولادها أولاد لغيره وليسوا ولدا له. بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ولذلك ينسب للرجل ولا ينسب للمرأة كما هو معلوم، فحينئذ يشرك بين الذكر والأنثى في الطبقة الأولى، ثم ينظر في الطبقة الثانية التي هي البطن الثاني إلى ذرية الذكور دون ذرية الإناث، ثم هذا البطن الثاني وهم أولاد محمد وعبد الله وصالح يستوي ذكورهم وإناثهم، لكن الأنثى منهم لو أنجبت بطنا ثالثا لا يكون له استحقاق في الوقف لأنه ليس من ولد الميت، إنما يختص ولده بالذكر والأنثى، وولد الذكر المحض. كما أنه في الميراث لا يرث ابن البنت إلا من جهة ذوي الأرحام، وهذه مسألة سيأتي تفصيلها إن شاء الله في كتاب الفرائض، فما جعل الله عز وجل لهم استحقاقا وإرثا، لا فرضا ولا تعصيبا من حيث الأصل، فابن البنت ابن لوالده الذي هو غريب عن الواقف، ولا يعتبر آخذا حكم ابن الابن. إذا المسألة الثانية أننا نجعل أولاده مستوين ذكورا وإناثا بالنسبة للبطن الأول، وفي البطن الثاني نعطي الوقف لذرية الذكور من البطن الأول، دون ذرية الإناث سواء كانوا ذكورا أو إناثا، فلو أن البنت أنجبت ابنا أو أنجبت بنتا فالحكم واحد؛ لأن ابن البنت ابنا للغير، ولو أنه ينسب إليه تجوزا أو مسامحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد) ، فهذا من باب المسامحة. وقال عليه الصلاة والسلام في النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (ابن بنت القوم منهم) . فهذا كله مسامحة، لكن في حكم الله عز وجل في الاستحقاقات {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] . ولذلك تجد نسبة هذا الولد من البنت إلى أصل ثان وهو أصل أبيه، ولا ينسب إلى والد أمه الذي هو الجد، فالذكور لهم حكم والإناث لهن حكم، وسلسلة النسبة والإضافة متعلقة في حكم الدنيا بالآباء دون الأمهات. يتبع
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوقف) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (393) صـــــ(1) إلى صــ(11) شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4] من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم. شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [5] الوقف عقد من العقود اللازمة التي لا يجوز فسخها بأي حال من الأحوال لانتفاء الملكية عن الموقف، ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه وبحكم من القاضي، ولا يصرف ثمنه إلا فيما يشابه الموقوف ويماثله. أنواع العقود بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن من أهم الأحكام التي تتعلق بالوقف بيان لزومه، وأن من صدر منه الوقف على وجه صحيح معتبر شرعا فإنه ملزم بهذا الوقف، ولا يجوز له الرجوع عن هذا الوقف، ومن هنا شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان حكم عقد الوقف، وقد تقدم أن العلماء رحمهم الله يبحثون في العقود مسألة نوعية العقد، فهناك عقود إذا صدرت من المكلف فإنه يلزم بها شرعا، وليس له الخيار في الرجوع إلا إذا رضي الطرف الثاني. من أمثلة ذلك: البيع والإجارة، فإذا باع شيئا وتم البيع على الوجه المعتبر، فليس من حق البائع أن يرجع، ولا من حق المشتري أن يرجع إلا إذا تراضى الطرفان، واتفقا على الرجوع برضا منهما. هذا النوع يوصف باللزوم، فحقيقة العقد اللازم عند العلماء: هو العقد الذي لا يملك فيه أحد الطرفين الرجوع عنه إلا برضا الطرف الثاني، وهناك نوع من العقود جائز، ويمكن لكل واحد من الطرفين أن يرجع ولو لم يرض الطرف الآخر، فلو نظرنا إلى بعض العقود التي سامحت فيها الشريعة كالهبة والعطية؛ فإنها ليست بلازمة ما لم تقبض، فلو قال له: وهبتك سيارتي، فقال: قبلت، فهذا يسمى عند العلماء عقد هبة، لكن إذا لم يعطه السيارة ولم يستلمها فله الحق في الرجوع، وسنبين هذه المسألة إن شاء الله. وفي الصدقة إذا قال: تصدقت عليك بمائة دينار، أو مائة ريال، أو بألف، وقال الآخر: قبلت. فهذا عقد صدقة، ولكن لو لم يعطه الصدقة، ولم يقبضها؛ فله الحق أن يرجع، وللطرف الثاني -المسكين، أو الموهوب له- الحق أن يقول: قبلت، ثم يقول: لا أريد، فليس بملزم بقبولها، ولا بقبول العطية. وهذا النوع يسمى: العقد الجائز، وجوازه للطرفين. وهناك عقود وسط بين هذين النوعين، تلزم أحد الطرفين ولا تلزم الطرف الآخر، كالجعل، وتقدم معنا أن رجلا لو قال: من وجد سيارتي الضائعة أعطيته ألف ريال، فإنه من حقه أن يرجع عن هذا الكلام الذي قاله، فلو قال شخص: قبلت فسأبحث لك عنها، فإن وجدتها فلي ألف ريال. فاتفق الطرفان ثم رجع الرجل الأول، أو رجع الرجل الثاني، كل منهما له حق الرجوع، ما لم يجد السيارة فيكون الطرف الجاعل ملزما بدفع الجعل، فتلزم الجعالة الجاعل دون المجعول له، فلو قال شخص هذه المقالة: من وجد سيارتي، أو إذا عالجت لي هذا الممسوس، وقرأت عليه ورقيته أعطيك ألفا؛ فإن من حقه أن يرجع عن هذا الجعل إذا اتفقا. لكن لو شرع الراقي وأمضى وقتا أو جهدا كما تقدم معنا؛ فإنه لا يملك الجاعل الرجوع إلا برضا الثاني ما لم يعطه حقه واستحقاقه في تعبه في الوقت الذي فات عليه ما بين العقد وما بين الفسخ. إذا هناك عقود تلزم الطرفين، وعقود تلزم أحد الطرفين دون الآخر، وعقود لا تلزم الطرفين ألبتة. هذا من حيث أنواع العقود. الوقف عقد لازم لا يجوز فسخه الوقف من العقود التي تلزم الواقف ولا يملك الرجوع عنه، فلو قال: أوقفت داري هذه على المساكين، فإنه إذا صدر الوقف على الوجه المعتبر لم يملك الواقف الرجوع عن وقفه، وليس من حقه أن يبطل هذا الوقف إذا تم صحيحا معتبرا شرعا. ولذلك قال المصنف: [والوقف عقد لازم] الوقف عقد، وقد تقدم أن العقد ربط أجزاء التصرف. وربط أجزاء التصرف يكون بالإيجاب والقبول، مثل: أوقفت داري عليك، فقال: قبلت، فهذا عقد وقف، فإذا تم عقد الوقف على الوجه المعتبر شرعا فإنه لازم، وقد أجمع العلماء من حيث الجملة على أن الوقف عقد لازم، والدليل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه - عمر بن الخطاب رضي الله عنه- في قصته حينما أوقف بستانه بخيبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن شئت حبست الأصل، وتصدقت بالثمرة، غير أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث) . فإذا تأملت قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث) ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه بالصدقة التي خرجت منه، ونقل ملكيتها عنه، بدليل أنه لم يصحح بيعها بعد ذلك، ولا هبتها ولا أي تصرف فيها، فقال: (غير أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث) . فقوله: (لا يباع ولا يوهب) ، وهذا تصرف في الحياة، (ولا يورث) لما يكون بعد الموت، وبناء على ذلك فإنه ألزمه بما يصدر منه من الوقفية، فدل على أن عقد الوقف لازم. فالعلماء مجمعون على هذا، لكن هناك خلاف عند بعض أهل العلم رحمهم الله حيث قال: يجوز للواقف أن يرجع عن وقفه بشرطين: الشرط الأول: ألا يقضي قاض بهذا الوقف. والشرط الثاني: ألا يكون وصية بعد الموت. فإذا أوقف دارا أو مزرعة ولم يجعلها كوصية، وقبل أن ترفع إلى القاضي فيحكم بالوقفية، فإن من حقه أن يرجع، وهذا القول هو قول الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ويحكيه العلماء -ولا أعرف له سندا صحيحا- عن علي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، لكن المشهور أن الذي خالف في هذه المسألة هو الإمام أبي حنيفة رحمه الله، أما جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله فإن الوقف عندهم لازم مطلقا، لا يملك الواقف الرجوع عنه. والذين قالوا: إنه من حقك أن ترجع عن الوقف ما لم يقض به القضاء، أو يكن وصية، استدلوا بحديث عبد الله بن زيد الأنصاري صاحب الأذان رضي الله عنه وأرضاه أنه تصدق ببستان، ثم جعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: جعل النظر فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء أبواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالا: يا رسول الله إنه لا مال لنا، أو لا طعمة لنا إلا من هذا البستان، وقد تصدق به، فرد عليه الصلاة والسلام صدقته وجعلها لوالديه. وهذا الحديث رواه المحاملي وغيره، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل وقفية عبد الله بن زيد رضي الله عنه لمزرعته، فدل على أن الوقف ليس بلازم، وأن من حقك أن ترجع عن الوقف، ورد الجمهور بأن هذا الحديث على فرض صحته فيه إشكالان، الإشكال الأول أنه قال: تصدق، والرواية (جعله صدقة) ، والصدقة غير الوقف؛ لأن الصدقة قد تكون من الإنسان تبرعا لا يقصد به الوقفية بل يقصد فيه مطلق الهبة. والإشكال الثاني وهو الأقوى في الجواب أن الحديث نفسه فيه: (وجعل الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم) فمعناه أنه جعل إمضاء هذه الصدقة على هذا الوقف مشروطا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبته صدقة، ولم يبته وقفا؛ لأنه معلق على رضاه، وحينما اشتكى له والداه صرفه عليه الصلاة والسلام إلى والديه، ولذلك ورث البستان من بعد ذلك كما جاء في الرواية. هناك أجوبة أخرى لكن في الحقيقة لا يقوى هذا الحديث على معارضة الحديث الذي معنا. فإن قال قائل: إننا قدمنا أن لفظ (تصدقت) يعتبر من ألفاظ الوقف، فالجواب عنه: أن اللفظ جاء في الحديث وصفا ولم يأت وقفية، ولذلك قال: (جعلها صدقة) ، وفرق بين أن يكون من كلام عبد الله بن زيد (جعلتها صدقة) وبين أن يحكى أنه تصدق بها، فهناك فرق بين اللفظين، ومن هنا يقوى مذهب جماهير السلف والخلف أن الوقف لا يملك صاحبه الرجوع عنه، وأنه إذا صدر على الوجه المعتبر شرعا فإن العقد به لازم. قال رحمه الله: [والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه] فقوله رحمه الله: (لا يجوز فسخه) الفسخ: الإزالة، وقد تقدم معنا أن فسخ العقود إبطال لها، وأننا إذا حكمنا بفسخ البيع فقد أبطلناه، وإذا أبطلناه أوجب هذا الحكم أن نرد الثمن للمشتري، والمثمن للبائع، هذا بيناه فيما تقدم معنا في البيع. ولذلك قال رحمه الله: (والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه) : أي لا يجوز للقاضي أن يفسخ وقفا إذا ثبت على الوجه المعتبر، ولا يجوز للشخص نفسه أن يحكم بأن وقفه باطل، وأنه لا يعتد به، ما دام أن الوقف صحيح، ولا يجوز له أن يستحل من هذا الوقف ما لا يستحل من الأوقاف باسم أنه مفسوخ أو أنه باطل، كأن يقول: هذا الوقف أبطلته أو فسخته، أو مزرعتي التي أوقفتها رجعت عن وقفيتها أو أبطلت وقفيتها أو فسخت وقفيتها. وكل هذا شرطه أن يكون الوقف قد استجمع الصفات المعتبرة شرعا للحكم بصحته ولزومه واعتباره شرعا، كل هذا إذا ثبت في الوقف فلا يجوز فسخه، وإذا قيل: لا يجوز فسخه فمعناه أنه لو قضى قاض بأن هذا الوقف فاسد وفسخه، دون أن يكون عنده مبرر شرعي للفسخ؛ فإن قضاءه لاغ، والحكم به باطل ويأثم شرعا. وكذلك الواقف لو قال: مزرعتي التي أوقفتها أبطلت وقفيتها، فيا أبنائي خذوها أو اقسموها ميراثا، فإنه قد انتهك حدود الله، واستحل ما حرم الله عز وجل عليه، فقوله: (لا يجوز فسخه) ، أي لا يجوز الفسخ لا من الواقف، ولا من أي شخص. لكن هناك استثناءات في مسألة المناقلة في الوقف، وهذه مسألة مستثناة فنبين أن لها ضوابط، وأنها جائزة عند الضرورة والحاجة. حكم بيع الأوقاف قال المصنف رحمه الله: [ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه] قوله رحمه الله: (ولا يباع) أي: لا يجوز بيع الوقف، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر رضي الله عنه: (غير أنه لا يباع) ، وهذا الحديث نص صريح في تحريم بيع الوقف، وأن الوقف مؤبد لا يجوز لأحد أن يبيعه بعد صدور الوقفية، لكن إذا وجدت الحاجة والضرورة فهذه مسألة مستثناه، ولا تعارض هذا الأصل. ولذلك كالميتة فإنها محرمة، لكن إذا وجدت الضرورة حلت، وإباحتها وحلها عند الضرورة لا يقتضي أنها مباحة في الأصل. فقوله: (لا يباع) أي: لا يجوز بيعه، فلا يجوز بيع الأوقاف بإجماع العلماء رحمهم الله كما جاء في الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غير أنه لا يباع) ، وفي رواية: (ولا يبتاع) ، أي لا تبيعه ولا تشتريه، إلا إذا قضى القاضي بجواز بيعه. وما دمنا أننا قد عرفنا أن الأثر قد دل على أن الوقف لا يباع، فما هو الدليل من جهة النظر ومن جهة الأصول؟ والجواب أن الوقف إذا حكمنا بصحته، فإنه تخلو يد الواقف عنه، أي: تزول ملكية الواقف له، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غير أنه لا يباع ولا ويوهب ولا يورث) ، فجعل تصرفات المالك لاغية، فمعناه أنه لا يملك الوقف، وهذا مجمع عليه. فإذا اثبت أن ملكية الواقف قد زالت عن الوقف؛ فالبيع يشترط فيه الملكية، ولا يمكن أن يبيع شيئا لا يملكه، وأنت قد استدللت بالسنة على أن الواقف قد خلت يده من الملكية وعريت، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنه لا يصح أن يبيع الوقف، لكن يبيعه القاضي، وهذا الذي جعل العلماء دائما يقولون: إن الأوقاف لا يصح بيعها إلا بقضاء القاضي؛ لأنها ليست مملكة لشخص بعينه بحيث يكون هو الذي يملك، فالواقف قد أخرجها عن ملكيته. ولذلك يقولون: تخرج الملكية مؤبدا، أي: تخرج خروجا مؤبدا، فلا يملك أن ترجع إليه بعد فترة، ولذلك ذكرنا أن من قال: أوقفت داري هذه سنة، أنه لا يصح؛ لأنه سيعيد ملكيتها إليه، والوقف يخلي اليد عن الملكية ويعريها، فالسنة قاضية بهذا، فإذا أثبت أن السنة أخلت يد الواقف عن ملكية الوقف، فإنه لا يصح أن يبيعه؛ لأن شرط صحة البيع أن يملك البائع التصرف في البيع بملك أو ولاية. والسنة دلت على أن الواقف لا يملك، فصار بيع الوقف من الواقف دون وجه شرعي بيعا باطلا؛ لأنه بيع لما لا يملكه، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام في السنن: (لا تبع ما ليس عندك) . وعلى هذا قالوا: لا بد من أن يقضي القاضي؛ لأن القاضي جعل في الشرع للنظر في الحقوق والأموال التي لا يعرف مالكها، فهو يتصرف بولاية عامة؛ لأن ولي الأمر فوض له النظر في مثل ذلك، فإذا كان وقفا لا مالك له، فإنه حينئذ يقضي بجواز بيعه بعد أن تتوفر الأسباب الداعية للحكم ببيعه. وقد قال المصنف رحمه الله: [ولا يجوز بيعه إلا أن تتعطل منافعه] (إلا) استثناء، والاستثناء: إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فإذا كان الوقف لا يجوز بيعه؛ فهناك أحوال مستثناة يجوز فيها بيع الوقف، فقال رحمه الله: (إلا أن تتعطل منافعه) أي: يجوز بيع الوقف بشرط أن تتعطل المنافع، والمنافع: جمع منفعة، ومنافع الوقف مثل: السكنى فيه، ومثل: الثمرة من البستان. فتتعطل منفعة السكنى بأن تتهدم العمارة، وتتهدم الغرف الموقوفة للسكن بحيث تصبح غير صالحة للسكن ولا يمكن سكناها، أو تتعطل منافعها بأن يغرق المكان، ولا يمكن لأحد أن يسكن فيه، فحينئذ تعطلت المنافع، ولا يمكن أن ينتفع الموقوف عليه بهذا الوقف. وتتعطل منافع المزرعة بأن ينضب الماء، أي: يكون فيها ماء ثم تجف عيونها أو آبارها، أو تنقطع الموارد التي تغذيها بالماء، فيموت النخل، فحينئذ تعطلت منفعة البستان. فإذا تعطلت منافع الوقف دون أن يكون هناك تقصير أو تفريط من قبل الناظر، فالناظر للوقف مسئول أمام الله عز وجل عن رعاية مصالح الوقف والنظر فيه، وكل هذا أمانة في عنقه يحاسب عنها بين يدي الله عز وجل. فالواجب عليه أن يبذل كل الأسباب لبقاء الوقف، وأن ينصح للوقف، وتكون نصيحته للواقف، خاصة إذا سبله على وجوه الخير، وكان ميتا ينتظر الأجر والثواب، وينصح للموقوف عليهم كالفقراء والضعفاء والأيتام والأرامل والمحتاجين، وبالأخص إذا كانوا قرابة فإنهم أحوج إلى حصول هذه المنافع من الوقف. فإذا تعطلت المنافع دون تفريط منه؛ اشتكى إلى القاضي، ورفع الأمر إليه أن هذا الوقف قد تعطلت منافعه، ويخرج القاضي أناسا من أهل الخبرة، وذوي النظر للتأكد من صحة دعوى الناظر. فإذا ثبت أن الوقف قد تعطلت منافعه، فينظر: هل بالإمكان أن يتنازل عن جزء من هذا الوقف في مكان، بحيث يبيع قطعة منه ويبقي الباقي وقفا ويصلح به الباقي؛ فحينئذ يفعل، لأن بيع الجزء مقدم على بيع الكل، وبيع الأقل مقدم على بيع الأكثر. فالأصل عدم جواز بيع الوقف، فإذا أمكن أن يبقي الوقف في مكان، كأن تجف عيون البستان، ولكن يقول أهل الخبرة: إن هذه الجهة غزيرة بالمياه، وهي غير الجهة التي كانت فيها آبار الوقف الأولى، وتحتاج إلى حفر آبار، والوقف معطلة منافعه، فيحتاج أن يبيع قطعة من الوقف من أجل أن يحفر بثمنها آبارا، ويغذي بها ما بقي من البستان، فيفعل ذلك، ولا يجوز أن يحكم مباشرة بالبيع؛ لأن ما جاز للضرورة والحاجة يقدر بقدرها. فإذا أردنا أن نبيع الوقف ننظر: هل المصالح التي نريد تحقيقها وعود الوقف ذا منفعة تتحقق ببيع الكل أو ببيع الجزء، فإن كان ببيع الجزء وجب على القاضي أن يحكم ببيع الجزء الذي تتحقق به المصلحة، وتندرئ به المفسدة، ولا يقضي القاضي ولا يفتي المفتي بجواز بيع الكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن بيعه فقال: (لا يباع) ، فإذا لا نبيع إلا إذا وجدت الحاجة، فلما كانت الحاجة يمكن تحقيقها ببيع الجزء لم نستبح بيع باقيه؛ لأنه باق على الأصل الموجب للتحريم. وهذا أمر في الحقيقة مهم جدا، ولا يتساهل في كل دعوى من الناظر أنه يباع الوقف. المسألة الثانية: إذا ادعى الناظر أنه يريد بيع الوقف؛ لأن المنفعة قليلة في هذا المكان، كثيرة في مكان آخر، فإذا كانت دعواه على هذا الوجه فإنه لا تلبى حاجته، ولا يجاب إلى طلبه ما دام الوقف له منفعة، ولو كانت المنفعة قليلة في زمان، فقد يأتي زمان تستعيد فيه هذه الأرض الموقوفة قيمتها ومنفعتها، فلا يجوز أن تباع؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتلاعب الناس في الأوقاف في كل زمان. من أمثلة ذلك: لو قلنا إن قلة المنفعة مثلا كانت عمائر تؤجر بمليون فأصبحت تؤجر بمائة ألف، لكن المائة ألف يمكن تحقيق الصدقات بها، وتطبيق الأمور التي اشترطها الواقف وذكرها، فنزلت المصلحة إلى العشر، وما دام الوقف باقيا، ونزل إلى العشر فإنا نبقيه على حاله، ولا نفتي بجواز بيعه، ولا يقضي القاضي بجواز بيعه لغيره؛ لأنه لو فتح هذا الباب؛ فيمكن أن يأتي شخص ويقول: إني ناظر على وقف فلان، أو مزرعة فلان، والتمر لا يأكله الناس اليوم، فأريد -مثلا- أن أغير هذا الوقف بوقف آخر لأن المنفعة أكثر؛ فليس للناظر أن يتدخل في مثل هذه المسائل، وليس لأحد أن يغير الوقف. فإنه قد تكون المزرعة في زمان ليست فيها تلك المنفعة العظيمة، ولكنها في أغلب الأزمنة ذات منفعة، فلا يجوز العبث في الأوقاف ببيعها إلا عند الضرورة الحقيقية، ولا يجارى فيها بأهواء الناس، ولا بدعواهم، بل الواجب أن يقتصر في هذه المسألة على الضرورة وعلى الحاجة، وأن يتحقق القاضي أن مصالح الوقف قد تعطلت، وأن هذا التعطل لا دخل للناظر فيه. فإن كان له دخل بأن تلاعب في الوقف فعطل منافعه، أو فعل أشياء أو أضر بأشياء من أجل أن يدعي أن الوقف قد تعطلت منافعه؛ فإنه يغرم ويلزمه ضمانها، ويعاد الوقف إلى حالته التي كان عليها، لأن يده على هذه الحال يد جناية. فالمقصود أنه لا يحكم ولا يفتى ولا يقضى بجواز بيع الأوقاف إلا عند الضرورة والحاجة على التفصيل الذي ذكرناه. قال المصنف رحمه الله: [ويصرف ثمنه في مثله] أي: إذا حكم بجواز بيعه، وقد عرفنا أنه لا يجوز بيع الوقف إلا عند الضرورة والحاجة، والضرورة والحاجة تكون عند أن تتعطل منافعه، فإن تعطلت منافعه، وحكم القاضي ببيعه وبيع؛ فإنه يصرف إلى مثله، فإن كانت مزرعة وجب على القاضي أن يشتري بثمنها مزرعة مثلها، وإذا كانت عمارة أوقفت رباطا للسكن ونحو ذلك، فإنه حينئذ يحكم القاضي بالانتقال إلى سكن يماثل السكن الذي يتحقق به شرط الواقف، مثل الوقف الأول الذي حكم بجواز بيعه. أحكام متعلقة بنقل أوقاف المسجد قال المصنف رحمه الله: [ولو أنه مسجد وآلته وما فضل عن حالته، جاز صرفه إلى مسجد آخر والصدقة به على فقراء المسلمين] قوله رحمه الله: [ولو أنه مسجد] أي: ولو كان الوقف مسجدا. والمساجد أمرها عظيم، بل كل الأوقاف، بل ينبغي للمسلم وطالب العلم والعالم والمفتي والقاضي والناس جميعا أن يتصوروا أن الواقف لم يوقف ولم يتخل عن ماله غالبا إلا وهو يرجو الثواب من الله سبحانه وتعالى، وكثيرا ما تكون الأوقاف من أموات هم أحوج ما يكونون إلى الحسنة وإلى الثواب. وكان بعض العلماء حينما يذكر العقوق بعد الموت، يقول: من العقوق بعد الموت تعطيل أوقاف الوالدين والتلاعب أو التقصير أو الإهمال فيها، والناظر قد يكون رجلا صالحا، ولكنه مهمل، يهمل النظر في وقف والده الذي أوقفه على الضعفاء أو الفقراء، فالمسلم إذا تصدق بماله وقفا؛ فالغالب أنه يرجو الثواب، وأنه يريد الأجر عند الله سبحانه وتعالى. فالمساجد الحرص على الأجر فيها أكبر، ومن هنا لا يجوز أن يضيق على الواقف في استحقاقه لهذا الأجر وطلبه له، ويتمثل ذلك في أمور: أولها أنه إذا بنى مسجدا ينبغي المحافظة على هذا المسجد وبقائه على حاله، خاصة إذا أمكن أن يصلي فيه المصلي وأن تتحقق المصلحة المطلوبة من بنائه. والمسجد إن كان قويا متماسكا فلا يجوز لأحد أن يهدمه، ولا أن يفتي بتغييره حتى ولو وجد متبرع، إذا وجد المتبرع يصرف إلى مسجد آخر أحوج، وإلى مسجد لم يبن، كان العلماء رحمهم الله تحدث بينهم خلافات ونزاع، بل أعرف رسائل ألفت واطلعت على بعضها تتكلم عن سقف مسجد هل يبدل أو لا يبدل، لوجود مضرة معينة في السقف فهل هذه المضرة ترخص تغيير السقف أو لا ترخص؟ حتى إن الذي أفتى بجواز كشف هذا السقف يقيد أنه لا يجوز أن يباع شيء من هذا الخشب، ولا أن يتصرف فيه بالمناقلة إلا عند الضرورة والحاجة خوفا من الله سبحانه وتعالى ومراقبة لله عز وجل. فتجد المسجد مبنيا ولكن يقولون: مسجد قديم، وقد يكون مبنيا بناء مسلحا لكن يريدون أن يكون مبنيا بشكل فخم، وأن يكون مفروشا بالفراش الوثير، وأن يكون وأن يكون، فيهجم على حسنة الميت، وعلى حقه، ويهدم هذا المسجد ويبنى غيره. فالمساجد أمرها عظيم، ولا يمكن لأحد أن يفتي بهدم مسجد، ولا يمكن لأحد أن يستحل هدم المسجد إلا بفتوى وقضاء شرعي، ولا يملك كل أحد أن يهدم، لأنها أوقفت وسبلت، وخاصة إذا كان الذي أوقفها وبناها ميتا. ومن هنا حرم الشرع بناء مسجد جوار مسجد، وهو مسجد الضرار، وأفتى بعض العلماء أن الصلاة لا تصح في المسجد الثاني الذي يضيق به على المسجد الأول، وإذا أردنا أن نبني مسجدا كبيرا للجمعة وتضرر الناس يوم الجمعة فإن أمكن توسيع هذا المسجد بهدم جداره الأخير والزيادة فيه من آخره فلا بأس، ويمنع هدمه كله وبناؤه من جديد. كل هذا تعظيما لحدود الله ومحارمه، ولذلك وصف الله عز وجل تهديم المساجد بأنه من أعظم ما يكون انتهاكا لحرمته، فلا يجوز لأحد أن يقدم على تغيير مسجد أو هدمه أو التصرف فيه إلا بنظر شرعي صحيح من فتوى أو قضاء، ولا يجوز للمفتي ولا للقاضي أن يفتي أو يقضي إلا إذا وجدت الأسباب والضوابط الشرعية المعتبرة للحكم بمثل هذا. فإذا: المسجد لا يهدم ولا يتصرف في شيء من أوقافه إلا في حدود الضرورة والحاجة بحكم القاضي أو من له الأمر والنظر في هذا المسجد. وإذا كان المسجد ضيقا يوسع، ثم إذا وسع فلا يهدم أولا ثم يوسع، بل من الممكن أن يوسع بإضافة بناء لاحق له، فالمساجد ليست محلا للمفاخرة والمباهاة، بحيث لا بد أن تكون على الصورة الفلانية، أو الشكل الفلاني، بل إذا أوقفت فيجب أن تبقى على بنائها القديم حسنة للميت، وثوابا للميت؛ لأنه حتى الرمل الذي وضعه، والمال الذي أنفقه على هذا الشيء الذي شيده يثاب عليه مدة بقائه. وهذا أجر عظيم لا يرضى أن يضيع عليه هذا الأجر، فلو كان ميتا فإنه لا يرضى أن يأتي من يهدم مسجده، والحسنة جارية عليه من هذا المسجد. فإذا لا يهدم، وإذا احتيج إلى توسعته يفتى بقدر الضرورة والحاجة، مع الخوف من الله ومراقبة الله سبحانه وتعالى، والنظر الصحيح الذي ينبني على المصلحة. ثم إذا احتيج إلى هدمه بالكلية فهذه مسألة، وإذا احتيج إلى بيعه مسألة أخرى، فإذا تعطل المسجد بأن تهدم ولم يمكن تجديد سقفه، فإن تهدم سقفه وجدرانه مشيدة؛ فلا يجوز هدم جدرانه، وإن تهدم سقفه وأعمدته قائمة؛ لا يجوز هدم عموده؛ لأن هذا كله من الإفساد {والله لا يحب المفسدين} [المائدة:64] ، وهذا من الإسراف، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة المباهاة بالمساجد، فتجد أهل الحي يرغبون أن يجدد المسجد، وكأنهم ينافسون، وهذا حدث بسبب التساهل في الفتوى في هدم المسجد. فلا يجوز التلاعب بحقوق الناس في أوقافهم، وبالأخص في المساجد، بل ينبغي أن يقيد ذلك كما ذكرنا بالضرورة، فإن كان الضرر من سقفه، يغير السقف، إن كان تغيير السقف مع بقاء الأعمدة القديمة، فإنها تبقى وتجدد ولا يناقل بها، ولا يعوض عنها؛ لأنها موقوفة مسبلة على هذا المسجد، ليس ثم وجه صحيح يجيز بيعها. فإذا لا يهدم سقفه ولا يهدم شيء منه فضلا عن هدمه كله، إلا عند الضرورة والحاجة، فإن انهدم كله وتعطلت منفعة الصلاة فيه بالكلية واحتيج إلى بنائه؛ فإنه يبنى على أرضه كاملة، ولا يجوز أن ينتقص من هذه الأرض شيء لأنها موقوفة كلها مسجدا للصلاة فيه، فلا يجوز أن يغير فيه، ولا أن يبدل فيه؛ لأن الوقف للمسجد تام على الأرض كاملة، فينبغي أن تبقى وقفا كاملة دون أن يؤخذ منها أي شيء. أما الإضافة إليها فهذا شيء آخر، أما أن يؤخذ منها فلا؛ لأن الميت حينما أوقف أوقف كامل هذه القطعة، وليس هناك قضاء شرعي، ولا نظر شرعي يسوغ لأحد أن ينتقص من هذه القطعة شيئا. وهذه أمانة ومسئولية، والناظر إذا هدم المسجد فالواجب عليه أن يستكمل جميع قطعة المسجد وقفا مسبلا كما شاء واختار صاحب المسجد، ثم إذا بنيت وأعيدت فلا إشكال؛ لأن الأرض الموقوفة باقية كما هي، ولو أراد الزيادة فلا بأس، لكن لو كان المسجد في مكان واحتيج إلى بيع، ف السؤال هل تحدث حاجة لبيع المسجد؟ الجواب نعم، يمكن أن يقع هذا كما ذكره بعض من أهل العلم رحمة الله عليهم، ومن أمثلته أن يكون المسجد في مكان، ويكون في هذا المكان أناس يرتحلون عنه، وهذا موجود حتى في زماننا، تكون هناك شركات تعمل في مكان، ثم فجأة تتغير أحوالها، وتصبح هذه الأمكنة مهجورة، وليس فيها من أحد، ولا يأتيها أحد، وفيها أرض موقوفة، فيرفع الناظر إلى القاضي، فيفتي القاضي ببيع هذه الأرض التي للمسجد، فتباع، وإذا بيعت يبحث عن مسجد يماثل هذا المسجد ويبنى، وتكون الأرض وقفا لهذا المسجد. وبعض العلماء يفصل، ويقول: حتى عند بيع الأرض، ينبغي أن تكون القيمة بكاملها للمسجد، فإذا بيعت الأرض الموقوفة مثلا بخمسمائة ألف فيجب أن يبني مسجد بخمسمائة ألف. وبعض العلماء يقول: إذا بيع المسجد المعطل نظر: فإن كانت القيمة للبناء والأرض فتقسم للأرض الجديدة ما بين الأرض والبناء، لأن الوقفية موزعة عليهما، وإن كان المسجد قد تهدم فالوقفية للأرض، فيجوز أن نأخذ من الغير تبرعا للبناء، فلا بأس بالمزاحمة. فائدة الخلاف: لو كان لقريب لي مسجد، ورفع إلى القاضي بأن هذا المسجد تهدم، فحكم القاضي بجواز بيع أرضه، فالذي بيع هو الأرض فقط، بيعت بنصف مليون مثلا، فأردت أن أبني المسجد، فجاء شخص وقال: بدل أن تشتري أرضا بمائتين وخمسين، وتبني بالمائتين وخمسين، اشتر أرضا بالخمسمائة، وأنا أبني هذه الأرض مسجدا، قالوا: يجوز لأن الأصل هو الأرض، وسعة الأرض أعظم ثوابا للميت، وأعظم مصلحة ونصيحة له، ففي هذه الحالة تشترى الأرض، ويفضل أن يوجد من يبنيها، ويكون الأجر للاثنين، لصاحب الأرض، ولصاحب البناء. ثم إذا نظرنا إلى وقفية المسجد، فالمال الذي يؤخذ من الأرض المباعة لا إشكال أنه يشترى به ويبنى، لكن هنا مسألة وهي التي أشار إليها المصنف في مسألة أجزاء المسجد، حينما تباع أرض الوقف فلا تباع عند انهدام المسجد بيعا مجردا عن الأرض إذا وجدت أنقاض موقوفة على المسجد يمكن بيعها واستغلالها. فمثلا: لو كان المسجد قد تهدم، ولكن هناك أعمدة وهناك مواد خام موجودة في الهدم يمكن استخراجها وبيعها، فتباع الأرض على حدة، وتباع هذه المواد على حدة، ولا يباع هكذا؛ لأن هذا يضيع حقوق الوقف، فإذا أفتي بجواز بيع الوقف لتعطل مصالحه؛ فينبغي أن ينظر في جميع المال الموقوف، الأرض وما عليها، ولو كان البناء مهدما ما دام أن هناك شيئا يمكن بيعه واستغلال ثمنه في المسجد الجديد، أو البناء المعوض عن الوقف الأصلي. بقي السؤال في مسألة التبرع لبناء المسجد: فالمال الذي يدفع لبناء المسجد، إذا تبرع شخص فقال: هذا نصف مليون لبناء هذا المسجد، فبني المسجد بأربعمائة ألف، أو بني المسجد وأنفق عليه وكمل تجهيزه بنصف المبلغ، فما حكم النصف الباقي؟ الحكم عند طائفة من العلماء رحمهم الله أنه يصرف إلى مثله، السؤال: كلمة (إلى مثله) . إذا كان المال مدفوعا للبناء؛ يبحث عن بناء مسجد، وإذا كان المال الزائد للتجهيز يصرف في تجهيز المسجد بأن ينظر مسجد آخر محتاج إلى تجهيز، مثلا: لو قال: هذا مليون لبناء مسجد، الخمسمائة ألف لبنائه وتشييده، والخمسمائة الباقية يصرف نصفها مثلا لفراشه وإنارته وإضاءته إلخ، والنصف مثلا للمكيفات، فالذي زاد كائن من النصف الذي يتعلق بالثلاجات والمكيفات التي وضعت لمصلحة الرفق بالمصلين، وما دام أن المتصدق جزأ نفقته على مثل هذا الوجه، فيؤخذ هذا القدر الزائد، ويصرف في مثله في مسجد آخر، فلا يصرف في مسجد آخر في بنائه؛ لأن مصلحة هذا المال الموقوف محبوسة وموقوفة على شيء معين فيصرف إلى مثله من جنس المساجد. وبناء على ذلك، المناقلة يشترط فيها المثلية، سواء كانت مناقلة تامة كالانتقال من مسجد إلى مسجد، أو مناقلة غير تامة، وهي التي تكون في بعض أجزاء المسجد، فيتصرف ا يتبع
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة الصفات الواجب توفرها في ناظر الوقف السؤال ما هي صفات الناظر التي ينبغي أن يتصف بها؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: صفات الناظر تنقسم إلى قسمين، القسم الأول: أن يحدد الواقف صفات معينة، فيجب التقيد بها على شرط الواقف، قال مثلا: وأشترط أن يكون الناظر من ذريتي، وأن يكون أرشد الذرية، أو يكون أفقههم، أو يكون أحفظهم لكتاب الله، أو أعلمهم بالسنة، فإذا اشترط فيه شروطا، فنتقيد بهذه الشروط، ويلزم من يلي هذا الوقف -القاضي وغيره- أن يبحث عمن تتوفر فيه هذه الصفات، فهي صفات مقيدة من الواقف نفسه. فإذا: هذه الصفات يزاد فيها وينقص منها على حسب اشتراط الواقف، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أوقف جعل النظارة لبنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها من بعده، فولي نظارة وقفه -بستانه بخيبر- في حياته، ثم صرف الوقفية من بعده إلى بنته، فهذا الصرف لم يشترط فيه ذكورة لأنها أنثى، وقيدها من بعده -لما صرف النظار من بعده إلى بنته- بشخص معين، فيجب التقيد، وهذا عمل من أعمال السلف، وسنة راشدة من فعل عمر رضي الله عنه، وأخذ العلماء منها دليلا على أن الواقف إذا اشترط شروطا في الناظر يجب العمل بها، ولا تسلم النظارة إلا لمن توفرت فيه هذه الشروط. أما إذا أطلق وقال: أوقفت هذه الدار للمساكين والفقراء، ولم يتكلم عن الناظر بأنه من ذريته أو من غيره، فحينئذ فالأصل حينئذ أن تكون النظارة للموقوف عليهم، وقد بينا أن نظارة الأوقاف للأشخاص الموقوف عليهم ما لم يكونوا جهات لا يمكن حصرها بحيث يتولون النظارة على الوقف. ففي هذه الحالة إذا اشتجروا ونظر القاضي أن يكون الوقف عند بعضهم دون البعض، فيمكن أن يقيدها القاضي ببعضهم دون بعض، وتعتبر مسائل تعيين الناظر في الأوقاف من مهمة القاضي، ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله في كتاب أدب القضاء أن القاضي إذا عين في مكان فأول ما يبحث في الأوقاف، وينظر في النظار الذين عينوا ومن الذي يستحق أن يبقى في نظارته؟ لأنه ربما كان مستحقا في أيام القاضي الأول، لكنه لا يستحق في أيام القاضي الثاني، فتجد مثلا في كتاب أدب القاضي للإمام الماوردي، وكذلك أدب القاضي للصدر الشهيد الخصاف مع شرحه، أدب القاضي للسمناني، ونحوها من كتب القضاء كتبصرة الحكام لـ ابن فرحون ذكروا أن مسألة نظار الأوقاف راجعة إلى القاضي، والقاضي ينظر إلى الأصلح فالأصلح. ولا شك أنه لا بد أن يكون عدلا مأمونا في دينه بحيث لا يكون معروفا بالخيانة، ولا يكون معروفا بالكذب، يكون ممن عرف بأمانته وديانته بعيدا عن الشدة في الوقف؛ لأن البعض يكون شديدا معروفا بالبخل، فهذا البخل يضر الضعفاء، ويضر الفقراء، ولربما إذا جاء يصرف أموال الوقف أجحف بهم، ولا يكون عنيفا يسب الناس ويشتمهم، فإذا كان الوقف على أيتام وأرامل وضعفة ربما نفرهم من الوقف، ونفرهم من الوصول إلى حقوقهم. ولا يكون معروفا بالمماطلة والتسويف؛ لأن هذا يؤخر عن أهل الحقوق حقوقهم، ولا يكون ضعيفا بحيث إذا جاءت مصالح الوقف لا يستطيع أن يدافع عن الوقف، ولا أن ينتزع حقوق الوقف فيما إذا اعتدي على الوقف. ولذلك كان عمر رضي الله عنه يشتكي إلى الله ويقول: اللهم إني أشتكي إليك ضعف الأمين وقوة الخائن. يعني إذا وليت إنسانا أمينا يكون ضعيفا ومتساهلا مع الناس، فكان يبعثهم من أجل جبي الزكاة، فالأمين المحافظ إذا ذهب وجاء أحد يشتكي له أخر وسوف، فتعطلت مصالح بيت المال، لكن إذا عين الشديد الذي ينتزع الأمور، ويحافظ على أخذها كاملة قد يكون خائنا. فقال: أشكو إلى الله ضعف الأمين وقوة الخائن. ما يكون قوي إلا عنده نوع من التلاعب، وهذه من حكم الله سبحانه وتعالى، فلا كمال إلا له سبحانه وتعالى. فالشاهد من هذا أن تعيين النظار مما يوكل أمره إلى القاضي، فهو الذي ينظر إلى صلاحه في دينه، وصلاحه في أمانته، ولا يقف الأمر على قضية العدالة والأمانة؛ لأن الوقف قد يحتاج إلى قوة الشخصية، قد تجد شخصا قويا، والوقف في أوضاع يفتقر فيها إلى مثل هذا الشخص، أو قد تجد شخصا عمليا والوقف متهدم يحتاج إلى من يبنيه ويشيده. هذه الأمور كلها ترجع إلى دقة نظر القاضي وحكمته، وبعد نظره وحسن تصرفه، ولا شك أن القاضي الناصح لا يزال له معه من الله معين وظهير يسدده بإذن الله، ويوفقه، ويعينه على حسن الاختيار في مثل هذا، والله تعالى أعلم. حكم قراءة المسبوق في الركعة الأخيرة للتشهد الأخير مع الدعاء السؤال في الركعة الأخيرة وقبيل السلام هل يقرأ المسبوق التشهد الأخير ويدعو؟ الجواب في هذه المسألة وجهان مشهوران عند العلماء رحمهم الله: بعض العلماء يقول: إذا صلى المسبوق وراء الإمام اعتد بنفسه لا بالإمام؛ لأنه صلاته مع الإمام هي الأولى، وفي مثل هذه الحالة لا يتابعه في الباطن دون الظاهر، كالتشهد الكامل في الركعة الأخيرة لا يتابعه فيه كاملا؛ لأنه مخالفة في الأركان والواجبات وهو لم يجب عليه التشهد الأخير لأنه ليس في التشهد الأخير الذي هو ركن، والله أوجب عليه التشهد ركنا واحدا في الصلاة، ولم يوجب عليه أكثر من تشهد؛ لأنك لو قلت إنه يلزمه لصار عنده ركنان من التشهد الأخير، وهذا لا يقول به أحد من حيث الأصل؛ لأن الله فرض عليه ركنا واحدا من التشهد الأخير ولم يجعله عليه مكررا. فيتابع الإمام في الصورة، فإذا انتهى من التشهد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا عبده ورسوله، سكت وانتظر سلام الإمام واغتفر ما بينهما، كما لو طول الإمام في الثالثة والرابعة من الرباعية في غير الظهر التي ورد فيها النص بقراءة سورة الإخلاص فإنه يقتصر على السكوت؛ لأنه ليس ثم ذكر شرعي له في هذا الموضع. ومن أمثلتها أيضا: لو أنه صلى الجنازة، فصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وطول الإمام في الصلاة فإنه يبقى ساكتا، فالسكوت أولى من الزيادة؛ لأنه إذا سكت عند التشهد التزم الأصل؛ لأنه تشهد قبل التشهد الذي فيه السلام، وكل تشهد قبل التشهد الذي فيه السلام لا دعاء فيه. هذا أصل شرعي أن التشهد الذي يسبق تشهد السلام لا دعاء فيه، فيبقى على هذا الأصل الشرعي، ويبقى ساكتا متابعة للإمام فلا يحكي التشهد كاملا، هذا وجه لبعض العلماء للأدلة التي ذكرنا وهو أقوى الوجهين. هناك وجه ثان يقول: يتابع الإمام في حال المتابعة ظاهرا وباطنا ويخالفه عند المفارقة. بناء على هذا القول يقول التشهد كاملا ويدعو وكأنه يريد أن يسلم، فإذا سلم الإمام توجه عليه الخطاب حينئذ بالانفصال، فصارت صلاته منفصلة حينئذ، لا قبل ذلك، فيلزمونه بالمتابعة في هذا. وهذا فيه إشكال؛ لأن الإلزام بالمتابعة بينه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا) ، فذكر الأركان والواجبات، ولم يذكر ما زاد عن الركن والواجب من السنن ونحوها، فحينئذ لا يتابع فيه. ولا بأس بسكوته، ولذلك لو قال: ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وقال الدعاء المأثور وطول الإمام فإنه يبقى ساكتا، هذا كله سكوت لعذر، ولا يؤثر فيه شيء، ولذلك إذا سكت لم يضر؛ لأنه ليس بملزم بذكر، وإذا تكلم فإنه يحتمل أن يكون زائدا على الأصل، واتقاء الزيادة أولى من الوقوع فيها إذا شك في شرعيتها؛ لأن الاحتياط بها أولى، والله تعالى أعلم. حكم من توضأ ثم رأى نجاسة تحت أظفاره السؤال من توضأ ورأى تحت أظفاره نجاسات فهل يعيد الوضوء؟ الجواب بالنسبة للذي تحت الأظفار فيه تفصيل، إذا كان الموضع موضعا مما يغسل كما لو كان الجرم كبيرا وأخذ جزءا من الإصبع المأمور بغسله، فهذا لم يصح وضوءه؛ لأنه مطالب بإزالة ذلك مثلما يقع في العوازل، من يأخذ العوازل وأظافره طويلة، فإن العوازل يبقى لها قدر تحت الأظفار يغطي جزءا من رأس الإصبع المأمور بغسله كاملا هذا يؤثر في الوضوء كله، فيجب إزالة العازل والإعادة من الموضع الذي فيه العازل بشرط تحقق الموالاة. أما إذا كان الظفر وما تحته من نجاسة لا يمنع محلا للفرض فإن الوضوء صحيح؛ لأنه قد غسل ومسح ما أمر الله بغسله ومسحه، فحينئذ يزيل النجاسة ويغسل موضعها؛ لأنها ليست مؤثرة في وضوئه، والله تعالى أعلم. مسافر نوى العشاء قصرا ودخل مع جماعة يصلون المغرب في الركعة الثانية السؤال مسافر أراد أن يصلي العشاء قصرا، فدخل مع أناس يصلون المغرب وكانوا في الركعة الثانية، فصلى معهم هاتين الركعتين الأخيرتين بنية العشاء، فهل هذا الفعل صحيح؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فجمهور العلماء رحمهم الله -إلا وجها شاذا ضعيفا عند بعض أصحاب الشافعي - أنه لا تصح المغرب وراء العشاء، ولا العشاء وراء المغرب؛ لأن صورة الصلاتين مختلفة فلو كانت المغرب وراء العشاء فسيتعطل عن متابعة الإمام في الركعة الرابعة. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، وقال: (فلا تختلفوا عليه) ، وقد خالف الإمام وخالف النص وعارضه من هذا الوجه. أما لو كان مصليا للعشاء وراء المغرب فسيستحل الجلوس بعد الركعة الثالثة للتشهد الأخير للإمام، وهو يقصد صلاة رباعية، فإما أن يجلس فحينئذ يضيف جلوسا كاملا في موضع لم يأذن له الشرع أن يجلس فيه؛ لأن الثالثة والرابعة من العشاء لا جلوس بينهما، وإما أن يفارق الإمام فيحدث ما ذكرناه من أنه مفارق. ولذلك جمهور العلماء من السلف والخلف على عدم صحة اقتداء المغرب بالعشاء والعشاء بالمغرب، وعلى هذا فالصلاة باطلة والاقتداء غير صحيح ويلزم بإعادة الصلاة، والله تعالى أعلم. كيفية الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي ... ) وأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر السؤال في قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) ، هل هذا قبل أن يخبر الله تعالى نبيه بالمغفرة لما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهل يفهم من الحديث أن الذنوب هي التي تذهب الخشوع؟ الجواب هذا الحديث يرويه أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وأبو هريرة أسلم في أواخر السنة السادسة عند فتح خيبر وقصة إسلامه مشهورة، و {إنا فتحنا لك فتحا} [الفتح:1] ، كانت بعد ذلك بزمان، فمن حيث الآية والحديث لا إشكال فيهما؛ لأنه حتى ولو فرض أن الحديث بعد إخباره، فالعلماء ذكروا أن الأحاديث التي ورد فيها سؤال المغفرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد منها تعليم الأمة، وبعضهم يقول: تكون درجة زائدة له، لأنه إذا استغفر المستغفر ربه وقد غفر الله له وليست عنده ذنوب بدل بالاستغفار درجات. فالاستغفار على كل حال مثاب عليه، فليس في هذا إشكال أبدا، سواء كان قبل المغفرة أو بعد المغفرة، فهذا ليس بمؤثر لأن قصد التعليم موجود، وزيادة الدرجة موجود، وأيا ما كان فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل الخلق خوفا من الله والتجاء إلى الله واعتصاما بالله سبحانه وتعالى. ولو وقع مثل ذلك بعد مغفرة الله له فإنه تعليم لكل عبد صالح أن لا يغتر بصلاحه، وأن يكون واثقا بالله سبحانه وتعالى كثير الذلة لله جل جلاله. فإذا كان أكرم الخلق على الله عز وجل يسأل المغفرة، ويختار لصديق الأمة لما سأله دعاء يدعو به في صلاته دعاء المغفرة فكيف بنا؟ وذلك لأنه إذا غفر الله للعبد ذنبه كفاه شر الدنيا والآخرة، كل البلاء من الذنب {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء:79] ، فالشرور كلها من الذنوب، ولذلك لما وقف عليه الصلاة والسلام في الصلاة في هذا الحديث قال: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) ؛ لأنه يستقبل أعظم المواقف، وأجلها، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وهو موقف الصلاة. فعلم الأمة أن تدعو بهذا الدعاء؛ لأنه ربما وقف العبد في صلاته فحال بينه وبين الخشوع ذنب من الذنوب، وربما حال بينه وبين قبول صلاته ذنب من الذنوب، وربما حال بينه وبين ساعة الإجابة وساعة القبول للصلاة ذنب من الذنوب، فيسأل الله أن يباعد بينه وبين أسباب الخذلان، ويسأل الله أن يباعد بينه وبين أسباب الحرمان، ويسأل الله أن يباعد بينه وبين سبب الذلة والقلة والفاقة ودمار الدين والدنيا والآخرة وكل ذلك من الذنوب. فالذنب شره عظيم، وبلاؤه عظيم، ولما سأل صديق الأمة النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته قال: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا) فإذا كان صديق الأمة يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا) فما بالنا ونحن أرباب الخطايا والذنوب، اللهم ارحمنا برحمتك. والإنسان إذا نظر إلى مثل هذه الأحاديث وجدها تحتاج إلى تأمل ووقفات، ودعاء الاستفتاح دعاء عظيم، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه، حتى في خطبة الحاجة كان يقول: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) ، فاستعاذ بالله من سبب الحرمان والخيبة والبلاء وهو الذنب. ونعوذ بالله: أي نلتجئ ونعتصم بالله عز وجل الذي لا عصمة ولا التجاء إلا إليه سبحانه وتعالى. من شرور أنفسنا: فالذنب كله شر وبلاء، فدعاؤه عليه الصلاة والسلام بمغفرة الذنب وسؤاله لله عز وجل تعليم للأمة، وكأنه ينبه على خطر الذنب وأنه ينبغي للأمة دائما أن تكون في استغفار، ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل بلاء عافية. وقل أن تجد إنسانا يكثر من الاستغفار إلا وجدته في رحمة، وإن كمل استغفاره كملت رحمة ربه له، فالمستغفر بلسانه ليس كالمستغفر بلسانه وقلبه، والمستغفر بلسانه وقلبه مستشعرا لعظمة ربه ليس كالذي يستشعر عظمة الله مع استشعاره لعظيم التفريط في جنب الله عز وجل، فيستغفر وهو يحس أنه مذنب، ويحس أنه ما كان له أن يعصي ربه، وأنه ينبغي أن ينيب إلى الله عز وجل من الذنوب والعصيان، ويسأل الله عز وجل العفو والمغفرة. فهذه كلها حالات من وفق لصلاح دينه ودنياه وآخرته، فهذا الدعاء دعاء عظيم (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) ، والمشرق والمغرب لن يجتمعا، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بهما المثل. فهذا الحديث كما ذكرنا إما أن يكون تعليما للأمة، أو يكون استغفارا حقيقيا، أو يجمع بين الأمرين: بين كونه عليه الصلاة والسلام تكون له بذلك درجة الاستغفار، ويكون تعليما لأمته صلوات الله وسلامه عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (394) صـــــ(1) إلى صــ(19) شرح زاد المستقنع - باب الهبة والعطية [1] باب الهبة والعطية باب من أبواب الفقه الإسلامي، وحري بالعبد المسلم أن يلم بأهم ما فيه من أحكام، وفي هذا الدرس بيان مشروعية الهبة من الكتاب والسنة، والمقاصد الشرعية من الهبة، وأركان الهبة، وأقسامها وشروطها وما تنعقد به الهبة. مشروعية الهبة والعطية من الكتاب والسنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف -رحمه الله-: [باب الهبة والعطية] هذا الباب قصد المصنف -رحمه الله- أن يبين فيه المسائل والأحكام التي تتعلق بالتبرعات، ولما كان الوقف نوعا من أنواع التبرع ناسب أن يذكر أحكام الهبة والعطية بعده، فمناسبة باب الهدية والعطية لباب الوقف من هذا الوجه ظاهرة. وقد دلت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على مشروعية الهبة والعطية، فالآيات التي وردت في استحباب الإحسان وبذله إلى الناس، والآيات التي دلت على الترغيب في المعروف، وإسداء الخير إلى الناس من حيث الأصل، تعتبر دالة على مشروعية الهبة والعطية، خاصة وأن الهبات والعطايا قد يراد بها وجه الله عز وجل حينما يهب المسلم لأخيه المسلم شيئا مما يملكه حتى تزداد المحبة بينهما، وتقوى أواصر الأخوة ووشائج الإسلام التي تربط بين المسلم وإخوانه، فتكون الهبة والعطية عبادة من هذا الوجه. وأما بالنسبة للسنة فقد دلت أحاديث كثيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم على مشروعية الهبة، بل رغب عليه الصلاة والسلام فيها كما في حديث السنن عن أبي هريرة وعائشة وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تهادوا تحابوا) . فقد رغب النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث في الهدية وإعطاء المسلم لأخيه المسلم على سبيل المحبة، وبين حسن العاقبة في ذلك، وأنها تزيد من المحبة والألفة، وهذا مقصود شرعا، فكل ما يدعو إلى قوة المحبة بين المسلمين مندوب إليه وتحصيله مرغوب فيه. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال: (لو أهدي إلي كراعا لقبلت) ، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام حيث بين أنه لو كانت الهدية له عليه الصلاة والسلام كراعا لقبلها عليه الصلاة والسلام ولم يردها، وهذا يشير إلى أن الهدايا تختلف باختلاف الناس، فلا تحتقر الهدية، خاصة إذا جاءتك من الضعيف الفقير والذي ليس عنده طول ولا عنده مال، فتعلم أن المقصود هو التودد إليك والمحبة، فلا تكسر له خاطرا، بل تجبر بخاطره، وتقبل هديته، ولو كانت شيئا يسيرا، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) ، وهذا يدل على فضل العطية والإحسان خاصة من الجار لجاره. حتى كان بعض العلماء رحمهم الله يقول: يا ليت كل مسلم كلما مرت فترة أو مر زمان يسأل نفسه: هل قدم لجاره شيئا؟! كذلك أيضا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبل الهدية حتى من الكافر، كما في قصة المقوقس. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح أنه أهدى إلى النجاشي رحمه الله، وتوفي النجاشي قبل أن تبلغه هدية النبي صلى الله عليه وسلم. لأجل هذا أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الهدية والعطية؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه دالة على مشروعيتها، بل قد جاء في صفته عليه الصلاة والسلام في الكتب السماوية أنه يقبل الهدية ويرد الصدقة. وقال العلماء رحمهم الله: إن الهدية مشروعة لما فيها من جلب المصالح ودرء المفاسد. أما المصالح التي تحققها الهدية فمن أعظمها أنها تزيد المحبة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تهادوا تحابوا) . وأما درء المفاسد فإنها تقطع سوء الظنون، وتزيل من النفوس الإحن والشحناء، وكذلك ربما أزالت الحسد وأطفأت ناره من القلب؛ لأن الإنسان إذا رأى أخاه في نعمة وحسده عليها، إذا بالمحسود يقدم هدية وعطية ويشارك ذلك الحاسد فيعطيه شيئا، فإن هذا يكسر قلبه، ويطفئ نار الحسد التي في نفسه، نسأل الله السلامة والعافية. إضافة إلى أن الهدية إذا كانت إلى المحتاج والمسكين تكون قربة لله عز وجل وطاعة لله سبحانه وتعالى. الفرق بين الهبة والهدية والعطية يقول المصنف رحمه الله: [باب الهبة والعطية] هناك فرق بين الهبة والعطية، يقال: وهب الشيء يهبه هبة إذا منحه للغير. والعطية في معنى الهبة؛ لكن العلماء رحمهم الله يفرقون بين الهبة والعطية، فهناك هبة وهناك هدية وهناك عطية، وهناك صدقة. فأما بالنسبة للهدية فهي الشيء الذي يحمله الإنسان للغير إكراما له وإجلالا، فإذا أعطى إنسان إنسانا شيئا وحمل الشيء إليه، فإن هذا هدية. لكن الهبة لا تحمل، يقول له: خذ هذا الشيء، أي: وهبته لك. فإذا: الهدية فيها معنى زائد عن الهبة، فالهبة من حيث الأصل تمليك، ويقصد بها تمليك الغير المال الذي يملكه الواهب على سبيل المعروف والإحسان، لا معاوضة فيه، فإذا وهبت الشيء وحملته للموهوب فهذا هو معنى الهدية، وأما إذا قلت له: خذ هذا الشيء، وارفع هذا الشيء، وهذا الشيء لك، فقد وهبته. وأما بالنسبة للعطية: فالعطية تكون لما بعد الموت، يهبه ويعطيه الشيء لما بعد موته، مسندا لما بعد موته. وأما بالنسبة للصدقة: فالهبة والهدية إذا أعطاها الإنسان غالبا ما تكون لحظوظ الدنيا، وقد يكون فيها معنى العبادة كما ذكرنا؛ لكن الصدقة تعطى وتبذل ويراد بها وجه الله سبحانه وتعالى، ويطلب المتصدق والمعطي ما عند الله عز وجل، بخلاف الهبة والهدية فإن الهدية قد يعطيها من باب كسب القلب، وهذا أمر قد يكون دنيويا، خاصة إذا كان يخشى شر الإنسان فأعطاه الهدية ونحو ذلك، فهذه كلها مقاصد دنيوية، لكن الصدقة تكون العطية فيها مرادا بها وجه الله سبحانه وتعالى، ويقصد منها التقرب إليه جل وعلا. أركان الهبة أما بالنسبة للأركان التي تقوم عليها الهبة، فإنها تقوم على أربعة أركان: الواهب، والموهوب له، والشيء الموهوب، والصيغة، هذه الأربعة أشياء إذا وجدت، وجدت الهبة. أما الواهب: فهو الشخص الذي يملك الشيء الموهوب، ويقوم ببذله وإعطائه للغير. ويشترط فيه: أن يكون جائز التصرف، وذلك يتحقق بملكيته للشيء الذي يريد هبته، ويأذن له الشرع بالبذل والهبة. وبناء على ذلك يكون: مالكا، حرا، رشيدا، بالغا، عاقلا. فإذا: لا بد من توفر هذه الشروط، فلا تصح الهبة من مجنون أو من صبي، أو من السفيه والمحجور عليه سواء كان لفلس أو غيره، ولا يصح أن يهب شيئا هو ملك لغيره، أو يهب شيئا ليس بملك له أصلا، أو لا تدخله الملكية، فإذا فعل ذلك فإنها لا تكون هبة، ولا تسري عليها أحكام الهبة. وأما بالنسبة للحرية فإن المملوك تقدم معنا أنه هو وما ملك ملك لسيده، إلا أن يأذن له السيد بالتصرف فهذا مستثنى. أما بالنسبة للشيء الموهوب: فيشترط فيه أن يكون مالا قابلا للتمليك. فقوله: (أن يكون مالا) يخرج ما ليس بمال ولا في حكم الأموال، ومن هنا لا تصح هبة أعضاء الآدمي، وهي مفرعة على هذا الأصل؛ لأن أعضاء الآدمي ليست فيها ملكية، إذ من شرط صحة الهبة والعطية أن يكون الواهب مالكا للشيء الذي يهبه. فلو قال قائل: إن الله عز وجل مكن الإنسان أن يستفيد من كليته أو يده أو رجله ونحو ذلك. نقول: إن هذا التمليك على سبيل الإذن والإباحة، والتمليك معنى زائد على الإذن والإباحة، وهناك فرق بين أن يؤذن للشخص بأن ينتفع بالشيء ويرتفق به، وبين أن يملك هذا الشيء بحيث يصح أن يبذله للغير. مثلا: المصالح العامة، كالمواقف ونحوها، هذه مأذون لك أن تنتفع بها شأنك شأن سائر الناس؛ لكن لا يصح أن تبيعها لغيرك؛ لأن الإذن بانتفاعك بها لا يستلزم ملكيتك لها، والله عز وجل أذن للمخلوق أن ينتفع بجسده وهو ليس بمالك له، ومما يدل على ذلك أنه لا يجوز له أن يبيع نفسه، فلو كان مالكا لنفسه لصح أن يبيع نفسه؛ وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن كل ما جاز بيعه جاز هبته. وبناء على ذلك: فالأعضاء ليست محلا للملكية، وإنما هي من خلق الله عز وجل الذي أذن للإنسان أن ينتفع بها. هذا مذهب من يقول بعدم صحة التبرع بالأعضاء، ويقيم هذا على هذا الأساس الذي دلت عليه الأصول الشرعية. ومما يقوي هذا: أن من يقول بالهبة وجواز هبة الأعضاء يقول: لا يجوز بيعها، وهذا تناقض؛ لأنه إذا أذن بالهبة فمعناه أن الهبة فرع على الملكية، ومن ملك شيئا جاز له أن يبيعه. وهناك مسألة مهمة وهي أنه حتى ولو قيل: إن الإنسان يملك أعضاءه فإن هناك فرقا بين الملكية والتمليك، فقد يكون الشيء ملكا للإنسان ولا يصح أن يملكه للغير، ومن أمثلة ذلك: أم الولد، فإن الجارية إذا ملكها الإنسان بتمليك الله عز وجل له، واشتراها وأصبحت ملكا شرعيا له، ووطئها وتسراها، فحملت وأنجبت وأصبحت أم ولد، فعلى القول بعدم صحة بيعها كما ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها حينئذ ملك للإنسان لا يصح أن يملكها للغير، ولذلك قال: {أو ما ملكت أيمانكم} [النساء:3] ، وبالإجماع أنها ملك له، ولذلك تعتق عليه بعد موته. ومن هنا مذهب من قال بعدم صحة هبة الأعضاء يفرعها على الأصول المقررة في الشريعة: أنه لا تصح الهبة إلا لشيء يملكه الإنسان، فالواهب يشترط فيه أن يكون مالكا للشيء الذي يهبه، فلا يصح أن يهب مال غيره. أما الركن الثاني وهو الشيء الموهوب، فتشترط فيه شروط: أن يكون مالا كما ذكرنا، وأن يكون مملوكا للواهب أو مأذونا له بالتصرف فيه. وإذا قلنا: أن يكون مالا، خرج ما لا قيمة له في الشرع، كالميتة والخمر والخنزير والأصنام، فهذه الأشياء لا تصح هبتها، ولذلك لو أنه أخذ حيوانا محنطا غير مذكى فإنه نجس وميتة، فلو وهبه، فإن هذا ليس بمحل للهبة وليست بهبة شرعية. وأما الموهوب له فهو الطرف الثالث الذي تصرف الهبة إليه، وهذا الطرف يشمل الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والأمر في الموهوب له أوسع من الواهب. وأما بالنسبة للصيغة فهي: الإيجاب والقبول. الإيجاب قوله: وهبتك سيارتي أو داري أو أرضي. وأما القبول: أن يقول: قبلت الهبة، وسيأتي -إن شاء الله- بيانهما. ويحل محل الإيجاب والقبول ما دل عليهما، فإذا جرى العرف بالدلالة على الهبة مثل ما يجري مثلا في الزواج؛ يأتي الشخص بهدية ويحملها إلى صاحب الزواج أو الزوج ويعطيه هذه الهدية دون أن يتكلم، ويقبض الآخر هدية أخيه دون أن يقول الواهب: وهبتك، ويرد الموهوب له بقوله: قبلت هديتك، لكن جرى العرف أن هذا الفعل من المعاطاة دال على الهبة والهدية. ولا شك أنه ينبغي أن يراعى في الشيء الموهوب والهدية أن يكون معلوما، ولا تصح هبة الأشياء المجهولة، وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه الشروط وبيانها. يقول المصنف رحمه الله: [باب الهبة والعطية] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالهبات والعطايا. تعريف الهبة والعطية قال -رحمه الله تعالى: [وهي التبرع بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره] أي: الهبة والعطية. قوله: [التبرع] وهو بذل الشيء للغير، والتبرع لا يكون إلا في الشيء الذي لا مقابل له، فخرج بهذا القيد البيع؛ لأن البيع ليس بتبرع، وإنما معاوضة، فيعطيه داره لقاء مائة ألف، أو يعطيه سيارته بعشرة آلاف، فهو لم يتبرع له، ولم يعطها على سبيل الإحسان، وإنما أعطاه إياها على سبيل المعاوضة، وهذا النوع من العقود لا يدخل في الهبات والعطايا. قوله: [بتمليك ماله المعلوم] هذا محل التبرع، تبرع بماله المعلوم على سبيل التمليك، فخرج ما إذا تبرع بمنفعته على سبيل العارية والقرض. فالشخص -مثلا- إذا أعطى مائة ألف ريال لرجل دينا، فإنه تبرع له وتنازل له بإعطاء المبلغ مدة معلومة، فهو لم يتنازل له بالإعطاء على سبيل التمليك، وإنما أعطاه ذلك على أساس أن يرد عوضا عنه. والعارية: لو أنه أعطاه ماله -كسيارة- وقال له: خذ هذه السيارة شهرا، أو إني مسافر وهذه سيارتي تبقى عندك أسبوعا وأذنت لك أن تتصرف فيها أو تذهب بها. فلا يدخل هذا في باب الهدايا والعطايا. قوله: [الموجود] فخرج ما ليس بموجود، كأن يهبه ثمرة بستانه للسنة القادمة، أو يهبه ثمرة البستان سنين، أو يهبه ما تحمله هذه الدابة وليس فيها حمل، فهذه هبة لشيء غير موجود، فيشترط في صحة الهبة أن تكون في شيء موجود، والشيء الغير موجود لا تصح هبته. قوله: [في حياته] خرج بما بعد الموت -كما ذكرنا- العطايا والوصايا. قوله: [غيره] وهو الموهوب له: والغير هنا نكرة، يعني: يشمل كل ما عدا الإنسان الواهب، حتى ولو من ولده، فلو وهب بنته أو ابنه، فإنه داخل في الغير، ويشمل الصغير والكبير. فالهبة تصح في هذا كله، والغير يعتبر طرفا ثانيا عن الشخص نفسه. أقسام الهبة قوله: [فإن شرط فيها عوضا معلوما فبيع] الهبة تنقسم إلى قسمين: - إما أن يهب الإنسان الشيء ولا يريد عوضا عليه. - وإما أن يهب الشيء ويريد عليه العوض. فالنوع الأول: هو مطلق الهبة، يقال: هذه هبة، والنوع الثاني: يقال له: هبة الثواب. تقيد؛ لأنها مقصودة، ويراد منها أن يرد الموهوب له هذه الهبة. أما بالنسبة للنوع الأول فغالبا ما يكون من الكبير للصغير، كالأغنياء إذا وهبوا الفقراء، فإنها تكون هبة، والأمر فيها واضح، أن الغني إذا أعطى الفقير غالبا لا يريد شيئا منه في مقابل هذه الهبة، وهبة الوالد لولده ونحو ذلك، هذه كلها هبات مطلقة. لكن هبة الثواب أن يعطي الهدية يريد أحسن منها أو مثلها، وهذا النوع من الهبات حرمه الله عز وجل على نبيه، وذلك في قوله سبحانه: {ولا تمنن تستكثر} [المدثر:6] أي: لا تهب الهبة تريد ما هو أكثر منها؛ لأن هذا هو شأن الضعفاء. وهذا النوع وهو هبة الثواب جائز، وشبه الإجماع منعقد عليه؛ لكنه محرم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الأشياء التي اختص النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمها، وغيره من سائر الأمة لا يدخل في هذا، وحرمه الله عز وجل على نبيه؛ لأنه فيها منقصة. وتعرف هبة الثواب: إما بالشرط، وإما بالعرف. بالشرط: يشترط عليه أن يرد عليه هديته، فيقول له: هذه السيارة هدية، فإن جاءتك سيارة من نوع كذا وكذا فهبها لي، هذه لها أحكام خاصة. العرف: يدل على هبة الثواب، ومن أمثلته: ما يجري في الزواج، وهذا موجود من القديم أن الشخص يأتي في زواج قريبه ويعطيه هدية بهذه المناسبة، وجرى العرف أنه إن تزوج الواهب فإن الموهوب له يرد له هديته. في هذه الحالة عموما، هبة الثواب: إما أن يعطيه مثلما أعطى، أو يعطيه أفضل مما أعطى، لكن لا يعطي الأقل. ومما يدل على هبة الثواب بالعرف: الهبة للعظماء والكبراء، إذا كانت من الضعفاء. فمثلا: إذا كان الإنسان غنيا ثريا وجاءه فقير وأعطاه هدية، فإنه واضح أنه يريد منه مكافأة، ويريد منه ردا لهذا الجميل والمعروف، فيكون حكمه حكم هبة الثواب. والسبب في التفريق: أن هبة الثواب فيها حقوق، وجرى العرف بأن فيها حقا للشخص الذي يهب، فلو امتنع الموهوب له وقال: لا. ما أرد، فإنه حينئذ يلزم، لأن لها حكما خاصا بخلاف الهبة العامة، فإذا كانت الهبة جرى العرف أنها ترد، تردها وتكافئ من وهبك وأعطاك؛ سواء كان ذلك للمناسبات مثل الزواجات ومثل المولود إذا ولد، يعطى والده. وفي الحقيقة: هي عادة طيبة ومحمودة؛ لأن الإنسان في زواجه قد لا ترضى نفسه أن يأخذ من الناس شيئا على سبيل الصدقة، ولا ترضى نفسه أن يطلب ويسأل الناس، فمثل هذه الهبات والهدايا تعينه وتساعده على الزواج وإعفاف نفسه، إضافة إلى أنها تزيد من المحبة بين الناس حتى ولو وقع من بعضهم تفريط فإنه تحت وجود وطأة هذه الأعراف يحس أنه مضطر إلى أن يحضر هذا الزواج والنكاح، وفي هذا أيضا تحقيق لمقصود الشرع من إجابة الوليمة والدعوة. فهبة الثواب لها حكم خاص، وسواء وقعت بالشرط أو بالعرف فإنها تكون في حكم البيع، وتكون هبة معاوضة، تتفرع عليها مسائل، سيأتي بيانها -إن شاء الله- عند تقرير المصنف -رحمه الله- أنها في حكم البيع. على كل حال الهبة تنقسم إلى هذين القسمين: الهبة المحضة، والهبة بقصد الثواب. وتعرف الهبة بقصد الثواب: إما بالشرط، وإما بالعرف. فإذا وقعت بالشرط فلا إشكال، يهبه ويشترط عليه الرد، وأما إذا كانت الهبة للثواب بالعرف فإنها تأخذ أيضا حكم البيع، أما إذا كانت هبة مطلقة فلا إشكال فيها. قوله: (فإن شرط فيها عوضا معلوما فبيع) العوض هو: المقابل، عاوض الشيء بالشيء إذا جعله مقابلا له. قال: وهبتك هذا العسل على أن تعطيني -مثلا- كتابك الفلاني أو على أن تعطيني كذا وكذا. وسمى شيئا معلوما، فحكمها حكم البيع. فائدة: كوننا نحكم أنها كالبيع: أنه لو وهبه سيارة واشترط عوضا لها شيئا آخر، فأعطاه ذلك الشيء ثم تبين أن السيارة الأولى معيبة، فهل يستحق الرد؟ هذه المسألة قال بعض العلماء: يستحقه. وهو الصحيح، أنها إن جرت مشارطة أو أخذت حكم البيع وظهر العيب، قال له: وهبتك ساعتي على أن تهبني ساعتك. فقال: خذ ساعتي. فصارت ساعة بساعة، ثم تبين أن إحدى الساعتين فيها عيب. فيستحق الرد. فإذا: إذا أخذت حكم البيع جرى عليها ما يجري على البيع من أحكام، ويكون فيها الخيار على القول واللزوم. فبيانه -رحمه الله- أن المشارطة فيها: للعوض المعلوم، ولذلك يشترط أن يكون العوض معلوما؛ لأن البيع لا يصح بالمجهول، كما تقدم. هبة المجهول قوله: [ولا يصح مجهولا إلا ما تعذر علمه] أي: ولا تصح هبة المجهول إلا ما تعذر علمه. فلو قال له: وهبتك شيئا، فإنها لا تصح، ولا تنعقد الهبة؛ لأننا لا ندري ما هو هذا الشيء، فلا بد أن تكون الهبة بالشيء المعلوم. إذا قال: وهبتك سيارتي هذه، فحينئذ يكون وهبه معينا، أو يهبه شيئا يصفه وصفا يخرجه عن الجهالة، ومن أمثلة ذلك: كانوا في القديم -مثلا- يقول أحدهم: وهبتك ما تنجبه جاريتي، فإن الذي تحمله الجارية وتضعه لا يدرى أذكر هو أو أنثى، أحي أو ميت، هذا مجهول. وكذلك لو قال له: وهبتك ما في بطن هذه الناقة، فإنه مجهول الوجود ومجهول السلامة ومجهول الصفات، فاجتمعت فيه الجهالة من كل هذه الأوجه. مجهول الوجود: لأنه قد تكون الناقة منتفخة البطن ليس فيها حمل، فيكون مرضا، وليس بحمل حقيقي. حتى لو تأكدنا أنه جنين، فإننا لا ندري أحي هو أو ميت. كذلك لا ندري هل يبقى حيا إلى الولادة. ثم إذا خرج حيا بعد أن تلد الناقة، فإننا لا ندري أكامل الصفات يخرج أو ناقصها. وبناء على ذلك: لا تصح الهبة على هذا الوجه. الأسئلة نصيحة للزوجة التي تتضجر من زوجها لطلبه العلم السؤال ما نصيحتكم للزوجة الملتزمة التي تتضجر من زوجها أثناء طلبه للعلم، وتتمنى لو لم تتزوج طالب علم وتقف أمامه عائقا في طلبه؟ الجواب لا -والله- ليست بملتزمة! فالملتزم بشرع الله هو المحب لله والمحب لطاعة الله والمحب لكل شيء يحبب في طاعة الله عز وجل، فلا توصف هذه بأنها ملتزمة صادقة في التزامها! وهل هناك أفضل وأكرم وأحب إلى الله بعد الأنبياء من العلماء العاملين؟! وهل هناك سبيل للعلم إلا بطلب العلم؟! فتضجرها من العلم وكراهتها له وقولها بلسانها أنها تتمنى أنها لم تتزوج طالب علم -نسأل الله السلامة والعافية ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان- ينافي التزامها. والمحروم من حرم الثواب: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل ما يلقي لها بالا) . ما هو العلم؟! العلم: قال الله، قال رسوله عليه الصلاة والسلام. فإذا كانت قالت: يا ليتني لم أتزوج بعالم أو طالب علم، فإن هذا من أعظم العقوق من الزوجة لزوجها؛ لأن هذه الكلمة تخرج من المرأة ولا تدري ما الذي يترتب عليها، من تحقير ما أمر الله بتوقيره، وإذلال ما أمر الله بإعزازه، وتحطيم لنفسية طالب العلم؛ لأنها تدمره من خلال هذه الكراهية، ومن خلال هذه الكلمات القاسية التي ربما فتنته في دينه. فلا شك أنها كلمة عظيمة، وهذا الشأن في كل شيء فيه طاعة الله عز وجل ومرضاته. لا يجوز لأحد أن يقول مثل هذه الكلمات. فمثلا: لو كان عنده عامل يعمل ومحافظ على الصلوات، يقول: يا ليتني لم آت بك، كما يقول بعض من بلغنا عنهم من أصحاب المؤسسات الذين لهم مصالح دنيوية، إذا تخلف عمالهم في صلاة الجمعة أو الجماعة، وهو تخلف يسير ليس فيه تلاعب، أما التخلف الذي فيه تلاعب فينبغي أن نعلم أنه ليس من الصلاة، إنما هو من نفس العامل الذي ليست عنده أمانة يحفظ بها الوقت، ويأخذ الضرورة بقدر حاجتها وبقدر وقتها، فيقول: يا ليتني لم آت بهؤلاء العمال المسلمين. حتى يتمنى أن يكون جاء بعمال كافرين. اللهم إنا نعوذ بك من عمى البصيرة، فمن زاغ أزاغ الله قلبه والعياذ بالله، وهذا من الزيغ؛ أن يتهكم الإنسان من طلاب العلم من أولياء الله عز وجل، خاصة إذا عرفوا بالتمسك بالدين وبطاعة الله عز وجل أو نفع الله بهم الأمة وصلحت أحوالهم بالعلم، فهؤلاء ينبغي أن يكرموا وأن يجلوا وأن يعانوا على طلبهم للعلم، وأن تبذل كل الأسباب التي تثبت أقدامهم على هذا الطلب؛ لأن الله تعالى أمر نبيه فقال له: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الأنعام:52] ، ومن فوق سبع سماوات يعاتب نبيه عليه الصلاة والسلام في طالب علم: {عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى} [عبس:1 - 3] ما جاء للدنيا إنما جاء لطلب العلم، فعاتب الله نبيه عليه الصلاة والسلام من فوق سبع سماوات في طالب علم، وعاتبه في مجلس واحد، فكيف بامرأة كلما دخل عليها زوجها تذمرت وإذا حضر مجالس العلم تسخطت وضاقت?! إن لذة الدنيا عاجلة فانية، ولو مكث الزوج عند قدمها، وأعطاها حقها وحقوقها واستمتعت به ما شاءت، فإنه لا خير في تلك الشهوة إذا لم يباركها الله عز وجل، ولا بركة في زواج ولا في شهوة ولا في لذة ما لم تكن بطاعة الله عز وجل، وكم من طالب علم يحبس عن أهله ويحبس عن ولده ويحبس عن حقوق أهله، ولكن الله يضع البركة له في عمره وفي وقته بما لم يخطر له على بال. فالله تولى هؤلاء، خاصة طلاب العلم الذين عرفوا بالصلاح والخير ومحبة العلم محبة صادقة؛ فلا يجوز لأحد أن يخذلهم، حتى في المجلس، بأن تأتي تجلس فتزاحمه أو تؤذيه، فربما يكون حجرة عثرة؛ لأنه بدل أن يأتي المجلس منشرح الصدر ينقبض من تصرفاتك، حتى ولو كان بأي شيء، ولو أن تزعجه في المجلس بأصوات (الجوال) ، أنا لا أبالغ، أقول هذا حقيقة، فأي إنسان كدر على طالب العلم، فسيسأله الله يوم القيامة عن ذلك؛ لأنه في روضة من رياض الجنة، والملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم، ووجبت محبة الله لطلاب العلم الذين جلسوا له سبحانه وتعالى ومن أجله ومن أجل طاعته سبحانه وتعالى. فأمثال هؤلاء يكرمون ولا يهانون، ويعزون ولا يذلون، ويرفعون ولا يوضعون. فلا يجوز للمرأة أن تقول هذا الكلام، وعليها أن تتوب إلى الله، وأن تستغفر الله عز وجل. وأوصي زوجا تجرؤ امرأته على التهكم بالعلم واحتقاره وأذية العلماء أن يوصيها أن تلتزم بالأدب وإلا طلقها وأبدله الله خيرا منها، فإن الله تعالى أنزل من فوق سبع سماوات آيات معلومة في المنافقين الذين استهزءوا بالقراء. فينبغي للإنسان أن يتقي أمثال هؤلاء. وطالب العلم الذي يجلس مع امرأة بهذا الشكل وهو يعظها ويذكرها بالله عز وجل ولم تتعظ بل زاد تمردها، وأصبح ديدنا لها، فإنه لن يستطيع أن يبقى على طلب العلم، ومسئوليات العلم بعد العلم أعظم من مسئولياته وهو طالب علم. فغدا ستخذله عن الدعوة إلى الله وعن الخطب والمحاضرات وعن التضحية للناس، وحينئذ تمحق بركة علمه إن أطاعها. فنسأل الله العظيم أن يهدينا إلى سواء السبيل. ثم هنا وصية أخيرة أختم بها: أنه لا يعني هذا أن نغفل جانب حقوق النساء، فعلى طالب العلم أن يكون دينا تقيا يؤدي حقوق أهله، فمع طلبه للعلم يوفر لها حاجتها ولا يحوجها لأحد حتى تكره طلبة العلم، وعليه أن يرتب وقته وينظمه. ففي بعض الأحيان يغفل الرجل عن امرأته إلى درجة أن تخشى على نفسها الحرام والفتنة، فحينئذ هو الذي يأثم، وعليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يحفظ للمرأة حقوقها، وأن يجمع بين طلبه للعلم وقيامه بحقوق أهله وولده. انظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثاني رجل في الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه كان يتخلف عن نصف العلم؛ لأنه كان يشهد يوما، ويذهب إلى أهله وعمله في اليوم الثاني، وهذا لا يضر الإنسان شيئا؛ لأن هناك حقوقا لو ضيعها الإنسان فربما وقع في الفتنة، وضاع عليه علمه وعمله. نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل. وصلى الله وسلم على نبيه محمد.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() حكم مخالعة الرجل لزوجته إذا لم يشترط عوضا السؤال إذا طلبت المرأة من زوجها الخلع، فطلقها زوجها بغير شرط، فهل المهر للرجل أو للمرأة؟ الجواب الخلع له أحكام خاصة، إذا كانت المرأة التزمت بحل عصمة الزوجية عن طريق الخلع، يجب عليها رد المهر كاملا. وأما إذا طلقها الزوج بدون عوض وبدون خلع فلا يجب عليها أن تدفع شيئا. مثال الصورة الأولى: تقول له: لا أريدك، فيقول لها: خالعيني، فتقول: أدفع لك مهرك، فيطلقها عند القاضي. فهذه المسألة مسألة خلع، ترد له المهر كاملا. والطلاق في حال عدم المخالعة أن تقول له: طلقني. فيقول: لا أطلقك، فتقول: طلقني، فيطلقها، فلا يستحق شيئا؛ لأنه لم يقع بينهما ارتباط ومعاقدة على الخلع. وبناء على ذلك: فالزوج إذا طلق بمحض اختياره، أو تضرر من الزوجة فإنه لا مهر له. ولا يجوز للمرأة أن تسأل طلاقها من زوجها -نسأل الله السلامة والعافية- بدون عذر؛ لأن في هذا وعيدا شديدا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الجنة عليها حرام، نسأل الله السلامة والعافية. فالمرأة تتقي الله عز وجل في ذلك وتبتعد عن هذه الأمور، وتطلب الخلع بالمعروف على الوجه الذي بينه الله عز وجل وبينته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم. حكم دخول تكاليف الزواج ضمن المهر عند المخالعة السؤال هل تدخل تكاليف الزواج في المهر إذا خالعت المرأة؟ الجواب هذا ليس بصحيح، تكاليف الزواج لا تدخل في المهر، وهذا من أقبح ما يكون، أنهم في هذه العصور المتأخرة، يقولون: تكاليف الزواج، لأننا لم نعرف في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في قضاء الصحابة ولا في كتب أهل العلم من نص على أن تكاليف الزواج تدفع. تكاليف الزواج -وهذا معروف- تصل في بعض الأحيان إلى مائة ألف، وقد أخذ عوضها من الناس الذين دعاهم إلى الزواج عن طريق الهبات والهدايا، فكيف يأخذ تكاليف الزواج؟! والحق الشرعي الذي أثبته الله عز وجل في كتابه، وأثبته النبي صلى الله عليه وسلم في سنته أن المرأة لا تدفع له إلا مهرها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ، هذا حكم الله عز وجل، ولا جناح عليهما فيما افتدت به من زوجها. أما تكاليف الزواج فهذا مما لا أعرف له أصلا، لا في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وكل من نظر في الإجحاف الواقع على النساء بمطالبتهن بتكاليف الزواج لا يشك أن هذا تعطيل لشرع الله، فإن المرأة تتزوج في زماننا بما لا يقل عن مائة ألف في بعض الأحيان بسبب العزائم والولائم للنساء وللرجال، وقصور الأفراح وغير ذلك من الأمور الباهظة في الثمن التي تصل إلى مئات الألوف، وإذا قيل لها: ادفعي هذا المال، فإنها لن تستطيع أن تدفع ذلك. وبناء على ذلك: عطل شرع الله بخلاصها من زوجها، والشرع جعل لها الخلاص. وينبغي علينا أن نتأمل ونكون بعيدي النظر، فإن الزوج قد استمتع بها وأصابها واستحل فرجها، ولكن الله تكرما منه وتفضلا أعطاه المهر، ومع ذلك يطلب ما هو زائد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فلها المهر بما استحل من فرجها) ، فجعل المهر لقاء الاستمتاع، ولذلك كان السلف والعلماء يحددون للزوج أن يترك شيئا من المهر ولو كان من باب الكرم والفضل، حتى إن العلماء الذين أجازوا أخذ الزائد عن المهر -وأنا لا أرى جوازه- قالوا: هذا من صنيع اللئام، أما الكريم فلا يفعل هذا، ولا يقبل أن يأخذ فوق مهره ألبتة. لكن -مع هذا- ندعو أولياء النساء إذا كان الرجل تزوج امرأة ودفع لها مهرا، وعنده ضيق في المال، والمرأة لا تريده، ودخل عليها وتكلف بعض الأشياء، فالله عز وجل يقول: {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة:237] ، فولي المرأة إذا نظر إلى أن بنته أو أخته تسببت في الضرر عليه فلا بأس أن يساعده بالمعروف ويقف معه، فهذا من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فيقول له: يا أخي! هذا مهرك، وهذه عشرة آلاف مني أو عشرة آلاف منا أو نحو ذلك تقديرا لظروف الزوج، فهذا شيء آخر من باب الفضل والإحسان لا من باب الفرض والإلزام. والله تعالى أعلم. حكم جريان الربا في هبة الثواب السؤال هل يجري الربا في هبة الثواب حيث إنها مبادلة مال بمال؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن حيث الأصل إذا وقعت على صورة الصرف يجري فيها، وهكذا إذا كانت مبادلة بالمكيل والموزون، على الأصل الذي قررناه في باب الربا والصرف، فتجيء من هذا الوجه أخذا لأحكام البيع. فإذا حصل فيها ما يدل على الربا أخذت حكمه، وهذه ليست بعقود بيع؛ لكنها تئول إلى حكم البيع، ويجري فيها حكم الربا والبيع من الوجوه كلها على الأصل. ومن أمثلة ذلك: لو صالحه بعوض عن مال أقر به، وكان مما يدخله الصرف، وجب أن يكون يدا بيد، وأن يكون القبض في مجلس الصلح، ولا يكون هناك تأخير أو نسأ. والله تعالى أعلم. حكم صدقة الزوجة من مال زوجها السؤال الزوجة إذا أعطاها زوجها مالا للبيت والأبناء، فهل لها أن تتصدق من هذا المال أو تهديه دون إذن الزوج؟ الجواب المرأة الرشيدة إذا أعطاها زوجها المال عليها أن تتقي الله في نفسها وفي بيتها، فتبدأ أول ما تبدأ بمن تعول، ولا يجوز لها أن تخاطر بأولادها وببيت زوجها من حيث الأصل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (ابدأ بنفسك وبمن تعول) فإذا كانت النفقة على حدود الحاجة ولا يمكن التصدق معها، فلا يجوز للمرأة أن تتصدق، لما في ذلك من إضاعة الحق الواجب، وحينئذ يمنع ويحظر عليها البذل والمعروف. أما إذا كان المال في سعة وزيادة وفائض ويمكن أن تتصدق منه ولا يستضر الأولاد بذلك، فإنها تؤجر على ذلك إذا كان بالمعروف، وبشيء مقبول، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن الخادم الأمين والرجل المؤتمن إذا تصدق بالمعروف أجر كأجر صاحب المال. فالمرأة الصالحة إذا أنفقت من مال زوجها تحتسب النفقة عند الله عز وجل لا رياء ولا سمعة ودون إضرار بحقوق البيت، فإنها مأجورة كزوجها. والله تعالى أعلم. وضع اليد على الوجه عند الأذان السؤال هل من السنة وضع اليد على الوجه عند الأذان؟ أثابكم الله. الجواب ليس هناك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على سنية وضع اليدين على الوجه أو إحدى اليدين على الوجه أثناء الأذان. والذي استحبه العلماء عملا بما في حديث السنن: أن يضع إصبعيه في أذنيه؛ لأنه أبلغ في قوة الصوت وبلوغه، وأكثر عونا له على ذلك. والله تعالى أعلم. حكم القصر والجمع في المطار الذي في داخل المدينة السؤال لو كان المطار في داخل المدينة، فهل يجوز للمسافر أن يقصر ويجمع؟ الجواب رخص السفر لا تستباح إلا بعد الخروج من آخر عمران المدينة، فإن كان الإنسان على سفر، ونوى السفر ولم يخرج من المدينة فليس بمسافر؛ لأن الضرب في الأرض الذي نص الله عز وجل عليه -وهو الأصل في السفر- يقتضي الظهور والخروج، فلا يوصف الإنسان بكونه ضاربا في الأرض، ولا بكونه مسافرا إلا إذا أسفر، والعرب تقول: أسفر إذا ظهر، ومنه قولهم: أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته وأظهرته، وأسفر الصبح إذا بان ضوءه، كما قال تعالى: {والصبح إذا أسفر} [المدثر:34] . فإذا ثبت هذا فإنه لا يحكم بجواز الرخص المتعلقة بالسفر إلا بعد الخروج من آخر عمران المدينة، فلا يجوز أن يجمع ولا أن يقصر الصلاة إلا إذا تحقق هذا الشرط، فلو أذن المؤذن قبل أن يخرج من آخر عمران المدينة لزمته الصلاة أربع ركعات، ولزمته صلاة الظهر في وقتها، فلا يصح أن يؤخرها إلى وقت العصر جمعا؛ لأن رخصة الجمع لا يستبيحها المقيم في هذه المسألة؛ لأنه في حكم المقيم، وعلى هذا فلا بد أن يخرج من آخر العمران. وما ورد عن بعض السلف في مسألة الصيام أنهم كانوا يفطرون وهم في داخل المدينة، أجاب عنه الإمام ابن قدامة وغيره بأن هذا اختيار منهم واجتهاد؛ لكن جماهير السلف -رحمهم الله- من الصحابة والتابعين والأئمة على أن رخص السفر لا تستباح إلا بعد الظهور والبروز. والله تعالى أعلم. حكم استعمال الزيت لتنعيم وتطويل الشعر السؤال ما حكم استعمال زيت فيه دواء لتنعيم الشعر للمرأة أو تطويله؟ الجواب لا بأس للمرأة أن تستعمل الدهون الطاهرة والمباحة لتسريح شعرها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرجل شعره، وكما في حديث النسائي، قال عليه الصلاة والسلام: (اكتحلوا ... ) وهو حديث ضعيف؛ لكن هناك حديث أقوى منه في تسريح الشعر:: (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم) أي عليه ألا يدهن كل يوم، ولا يسرح شعره كل يوم لما فيه من المبالغة في الترف. وإذا ثبت هذا، فمن حيث الأصل يجوز، والتي تحظر هي الدهون النجسة، المشتقة من الميتات، أو التي تكون من المخدرات كالحشيش، فإن زيوت الحشيش تؤثر في الشعر، تجعله ناعما، وهي محرمة، ونحوها من الزيوت المحظورة، لأنها مواد نجسة أو مخدرة، وكلها لا يجوز استعماله. إضافة إلى أن الأطباء ذكروا أن تسريح الشعر؛ لأن الجلد يمتص هذه الأشياء، ولذلك -والعياذ بالله- قد يسبب الإدمان في بعض الأحيان، كما ذكر لي بعض الأطباء أن زيت الحشيش ينفذ إلى الجسم، حتى إن بعض من يستعمله ويداوم لو تركه يوما من الأيام يصيبه الصداع، وتحدث له أعراض قريبة من أعراض الإدمان. فتتقى مثل هذه الأنواع من الزيوت والمستحضرات التي لا يجوز استعمالها ولا استخدامها. والله تعالى أعلم. حكم من دخل المسجد قبل أذان الفجر ولم يوتر ولا يتسع الوقت إلا لركعة واحدة السؤال إذا دخلت المسجد قبل صلاة الفجر ولم أوتر، فهل أصلي تحية المسجد أو الوتر، علما أن الوقت لا يتسع إلا لركعة واحدة؟ الجواب في هذه الحالة تصلي الوتر ركعة واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة) ، فأمر من خشي الفجر أن يوتر، وبناء على ذلك: توتر. هنا سؤال: هل يكون الوتر مسقطا لركعتي التحية على القول بالتداخل؛ لأن بعض العلماء يرى أن مقصود الشرع ألا تجلس حتى تصلي، ولما كان أقل ما يصليه المكلف ركعتين من حيث الأصل العام استثنيت هذه الحالة؛ لأنه أمر بالوتر في هذه الحالة فيصلي، فيكون في هذه الحالة مخرجا على هذا الوجه. وكان بعض مشايخنا يقول: يصلي الوتر ثم إذا انتهى من وتره قام، وتكون جلسته الخفيفة من أجل السلام كجلسة الخطيب يوم الجمعة إذا جلس عند أذان المؤذن، لورود الإذن الشرعي به. بعض العلماء يقول في خطبة الجمعة: كل خطبة عن ركعة، فإذا خطب الخطبة الأولى وجلس صار كمن أدى ركعة وجلس طبعا. والإشكال في هذا أنه جلس قبل الخطبة؛ لكن بالنسبة للجلسة الثانية بعض العلماء يرى أن الخطبتين قائمتان مقام الركعتين، ولذلك لا يتكلم فيهما وأمر بالإنصات، وترتبت عليها أحكام أشد من غيرها من الخطب الأخر، كخطبة العيد التي خفف فيها النبي صلى الله عليه وسلم ووسع فيها على الناس، لمن شاء أن ينصرف ولمن شاء أن يجلس. حكم من ترك الصلاة لمرض ثم مات السؤال والدي -رحمه الله- قبل أن يتوفى ترك صلاة عشرة فروض لمرضه، فقد نصح من قبل الأطباء بعدم الحركة، فما الحكم، مع العلم أنه كان محافظا على الصلاة ولا يتركها؟ أثابكم الله. الجواب الله المستعان! لا يجوز للمسلم أن يترك الصلاة، ولا يجوز له أن يخرجها عن وقتها إلا إذا أذن له شرعا بذلك، كما في حالة الجمع إذا كان ممن يرخص له أن يجمع بين الصلاتين وأخر الأولى إلى وقت الثانية، أما غير هؤلاء فلا يجوز لهم أن يؤخروا الصلاة عن وقتها، كما قال تعالى: {فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون:4 - 5] ، توعدهم الله بـ (ويل) ، حتى قال بعض أئمة السلف: إنه واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره، فما أضعف الإنسان أن يطيق عذاب الله عز وجل! فأمر الصلاة عظيم! لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، فضلا عن تركها بالكلية. أما بالنسبة للمريض: فإن أمكنه أن يصلي على حالته يصلي، في القيام والركوع والسجود، ويفعل أركان الصلاة، وأما إذا لم يمكنه فإنه يؤدي الصلاة على قدر طاقته، حتى ولو بالإيماء برأسه، {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] ، فقد قال صلى الله عليه وسلم لـ عمران بن حصين -رضي الله عنه- لما ابتلي بالبواسير: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب، {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] ) . فعلى المرضى وعلى قرابة المرضى أن ينبهوهم أنهم إذا عجزوا عن أفعال الصلاة أنهم يصلون ولو بالإيماء، ولا يكلفهم الله عز وجل إلا ما في وسعهم. وأما بالنسبة للوالد فلا تملك إلا أن تدعو الله له؛ خاصة أنك لم تتبين هل صلى فعلا أو لا؛ لأن حكمك عليه بعدم الصلاة يحتاج أن يخبرك أنه لم يصل، فلربما كان المريض لا يتحرك ولا يتكلم، ولكنه يصلي في قرارة نفسه، ويعلم هذا الحكم، خاصة وأنه كان محافظا على الصلاة، ونسأل الله العظيم أن يجعل الأمر كذلك، أنه صلى ولم تستطع أن تحكم عليه بعدم الصلاة؛ لأنه كان ممنوعا من الحركة. أما إذا كان أخبرك بأمره، وكان يظن أن الصلاة ساقطة عنه لمكان المرض، فهذا جهل، ويجعل بعض العلماء مثل هذه المسألة من المسائل التي يستثنى ويعذر فيها للجهل، وحينئذ يكون الحكم فيه أن أمره إلى الله تعالى، ولا يلزم الورثة في هذا الأمر شيء؛ لأن الصلاة لا تدخلها النيابة، ولا يمكن أن تقضى عن الأموات. والله تعالى أعلم. كيفية الجمع بين قاعدة: (قضايا الأعيان لا تصلح دليلا للعموم) وقاعدة: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) السؤال كيف نجمع بين هاتين القاعدتين: (قضايا الأعيان لا تصلح دليلا للعموم) و (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) ؟ الجواب اختصارا: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) أي: إذا نزلت آية في كتاب الله، أو حكم عليه الصلاة والسلام بحكم وكان في حادثة معينة، وجاء لفظ الآية ولفظ حكمه عليه الصلاة والسلام عاما فإن العبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه، الذي من أجله جاءت هذه الحادثة. فمثلا: قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196] ، هذه الآية الكريمة -كما في الصحيحين- نزلت في كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه حيث قال: (حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كنت أرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى. ثم قال له عليه الصلاة والسلام: أطعم فرقا بين ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة) أي: اذبح ذبيحة. هذا اللفظ الذي جاء في الآية الكريمة عام، {فمن كان منكم مريضا} [البقرة:196] ؛ ولكن السبب خاص؛ لأن كعب بن عجرة رضي الله عنه فرد من أفراد الأمة والحكم نزل له خاصا وبسببه. فنقول: العبرة بعموم اللفظ، أي: لفظ الآية، لا بخصوص سبببها. وهكذا قضية المرأة لما جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها رضي الله عنها وأرضاها، واشتكت إلى الله، فنزلت آية الظهار، فآيات الظهار وكفارة الظهار نزلت بسبب خاص وهي قضية ثعلبة رضي الله عنه لما ظاهر من امرأته؛ لكن لفظها عام، {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} [المجادلة:2] . فهذا عام ويأخذ حكم العموم، فـ (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) . الخلاصة: هذه القاعدة الأولى تدل على أنه ينبغي علينا في التشريع أن نجعل الألفاظ العامة عامة للأمة، وتشمل جميع الأمة، إلا ما خصة الشرع وأخرجه من هذا العموم. {يا أيها الناس} [البقرة:21] ، {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة:104] هذا كله من ألفاظ العموم، {من كان منكم} [البقرة:232] ، {وعلى الذين} [البقرة:184] هذه كلها عامة. وإذا نظرنا إلى هذه القاعدة، فإنه يشترط فيها طبعا أن يكون هناك لفظ عام، فإذا جاء اللفظ خاصا ومخاطبا به المكلف بنفسه فهذا شيء آخر. أما القاعدة الثانية: (قضايا الأعيان لا تصلح دليلا للعموم) فهذا النوع -في الحقيقة- فعلا يشكل. (قضايا الأعيان): القضية التي وقعت لصحابي بعينه، أو صحابية بعينها، لا تصلح دليلا للعموم. لما وقعت قضية اليهودي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد خزيمة بن ثابت رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته له بالدرع بشهادة رجلين، وحكم بها، مع أن الله تعالى فرض علينا في الحقوق المالية وما في حكمها شهادة الرجلين من الرجال أو عن كل رجل امرأتان. فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة رجل واحد؛ لكنها في قضية معينة، وهي قضية خزيمة بن ثابت وقال له: (ما الذي حملك على ذلك؟ قال: أصدقك في وحي السماء ولا أصدقك في درع!) أي: إذا كنت في وحي السماء أصدقك أفلا أصدقك في درع؟! فشهد له بذلك، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. لكن هل كل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم نجعل شهادته بشهادة رجلين؟ نقول: لا. (قضايا الأعيان لا تصلح دليلا للعموم). هنا يتنازع العلماء ويختلفون: هل هذا الحديث نجعله قضية عين أو نجعله عاما؟ ومن أمثلتها: مسألة رضاع الكبير. سالم مولى أبي حذيفة صحابي تربى عند أبي حذيفة وزوجته، ونشأ منذ الصغر عندهما، ولما كبر أصبح أجنبيا، وهو مولى من موالي أبي حذيفة رضي الله عنه وأرضاه، فلما أخذت أبا حذيفة الحمية، جاءت زوجته تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (ما كنا نعد سالما إلا كواحد منا -يعني: كأولادنا- وإنه حدث ما ترى -أي: أنه أصبح أجنبيا- فقال صلى الله عليه وسلم: أرضعيه خمسا تحرمي عليه) . هذا الحديث من العلماء من يقول فيه: قضية عين لا تصلح دليلا للعموم، فليس غير سالم مشاركا لـ سالم في هذا الحكم، فلا يصح للكبير أن يرتضع من امرأة. ومنهم من قال: لا. بل الحديث أصل في أن رضاع الكبير يؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرضعيه خمسا تحرمي عليه) ، فجعل المحرمية مركبة على الرضاع، والرضاع أثبت الشرع به المحرمية، فإذا ثبتت للصغير ثبتت للكبير؛ لأن النص اعتبرها للكبير. فعندي أصل أن الرضاع يوجب التحريم، كأنه يقول: جعلته محرما لك بالرضاع، وهذا يدل على أن العبرة بوصول اللبن، يستوي فيه الكبير والصغير؛ لأنه كما أثر في الصغير سيؤثر في غيره. فكل من ارتضع من امرأة أو شرب لبن امرأة خمسا حرمت عليه. هذا رأي من يقول: إنها ليست بقضية عين؛ لأنه يرى أن العلة صالحة للتعميم. والذين توسطوا قالوا: قضية سالم فيها حرج ومشقة، وهناك أصل عام: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233] ، قد جعل أمد الرضاعة في الحولين، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الرضاعة من المجاعة) أي: أن الرضاعة في الصغر، وقال: (ما أنشز العظم وأنبت اللحم) ، وهذه كلها أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بينت أن الرضاعة تنشز العظم وتنبت اللحم، وهذا يكون في الصغر لا في الكبر. إذا: كيف يجعلونها قضية عين؟ من فوائد المشايخ رحمة الله عليهم أنهم ضبطوا قضية العين أن يكون هناك أصل يعارضها، فالأصل عندنا أن الرضاعة للصغير، فلما جاءت الرضاعة للكبير على خلاف الأصل استثنيت وصارت قضية عين وما في حكمه، بحيث تقول: من كان مثل سالم فله أن يفعل مثل فعل سالم. وهذا -والله- تطمئن إليه النفس؛ لأن الكبير كابن الخال أو العم إذا نشأ في بيت خاله أو عمه، ويرى أن زوجة خاله أو عمه كأمه، ينشأ عنده شعور أنه ينظر لها بهذا المعنى، كأنها أمه وكأنه والده، فتبعد الفتنة. لكن لا يؤتى بشاب ويرتضع من شابة فإنه لا يؤمن أن يقعا في الحرام، ولذلك ينظر إلى مقتضى الشرع؛ أن المرأة تحرجت من كون هذا كواحد من أولادها، وأنه كان بينهم من الود والتواصل والإحسان لهذا الولد ووجود الحرج للزوج، فجاء حكم الله عز وجل رحمة وتيسيرا، فنقول: كل من نشأ في بيت وتربى فيه وهو ينظر إلى هذه المرأة كأم، وينظر إلى هذا الرجل كأب، كما يحدث في الأيتام وأبناء الجيران وأبناء العمومة والخئولة ونحوهم، فإنه يمكن أن يرتضع من هذه المرأة أو من بنت المرأة حتى يصير محرما لهذه المرأة؛ لأنه ينزلها منزلة الأم، فيتحاشى بناتها؛ لأنهن كأخوات له، والشعور والمعنى موجدان فيه. إذا نقول: هذه قضية عين. فانظر كيف يحدث الخلاف بين العلماء في قضية سالم لأنه قال: (أرضعيه خمسا تحرمي عليه) . لكن كيف تطبق قاعدة (العبرة بعموم اللفظ ... ) ممن يقول بذلك في هذا الحديث؟ يقولون: لأن العلة دلت على التعميم، العلة هي وجود الرضاعة، كأنه يقول: المحرمية مرتبة على علة وهي الرضاع، وقد قال: (أرضعيه خمسا تحرمي عليه) ، فصارت جملة (تحرمي عليه) ، التي هي جملة حكمية، حكمت بالمحرمية لأنك أرضعتيه خمسا، وهذا كما ذكرنا يستوي فيه الصغير والكبير. كذلك أيضا الاشتراط في الحج والعمرة. ضباعة رضي الله عنها أرادت أن تحج وهي مريضة، والأصل يقتضي أن المريض لا يحل من إحرامه من حيث الأصل؛ لأنه تعالى قال: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية} [البقرة:196] ، فأوجب الله على المريض الفدية، فكيف يكون المرض عذرا في الفسخ، والأصل يقتضي إتمام الحج والعمرة؛ لأن الله يقول: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196] ؟ فلما جاءت هذه المرأة وقالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية) ذكرت في سؤالها أمرا لا يمكن اسقاطه، وهو قولها: (شاكية) معناه: أن عندها حالا يصعب معه الحج، ومع ذلك تجشمت الحج مع وجود هذا العذر، بخلاف الذي طرأ عليه المرض بعد الدخول في الإحرام وإلزام نفسه. فطائفة من العلماء توسطوا في هذا وقالوا: هذه قضية عين لا تصلح دليلا على العموم، كل امرأة جاءت تحج تقول: حبسني حابس. فإذا جاء عذرها ولت وتركت إحرامها لو كان هذا سائغا. وقضية ضباعة وقعت قبل الإحرام في ذي الحليفة؛ لأنها وقعت بالمدينة -وهذا بالإجماع- قبل خروجه عليه الصلاة والسلام إلى ذي الحليفة؛ لأنه قال: (أهلي واشترطي) ، وقد خاطبته في المدينة تسأله: هل تحج أو لا تحج؟ ووقع هذا في حجة الوداع، فإذا كان قبل الحج قال لها: (أهلي واشترطي إن حبسك حابس) ولما جاء عليه الصلاة والسلام إلى الميقات - كما في الصحيح من حديث عائشة - قال: (أيها الناس! من أراد منك أن يهل بحج فليهل، ومن أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليهل) وما قال: فليشترط، مع أن الناس يحتاجون للشرط؛ لاحتمال أن يحدث طارئ، والمرأة قد يصيها العذر وقد يطرأ عليها شيء؛ ولكنه لم يذكر الشرط، فهمنا من هذا أن هناك معنى في كون المكلف يحرم بالحج أو بالعمرة مع أنه مريض ولا يتحمل صعوبة النص الذي يلزم بإتمام الحج أو العمرة على ما هو عليه. ونقول: الأصل في كل مسلم أن يتم حجه وعمرته لقوله تعالى:
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (395) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - باب الهبة والعطية [2] من أحكام الهبة التي يجدر الإحاطة بها: معرفة ما تنعقد به، وما تصير به لازمة، وهل الإبراء من الدين يدخل في باب الهبة، وما هي الأشياء التي تجوز فيها الهبة، وغير ذلك من الأحكام، وكل ذلك موضح في هذا الدرس. ما تنعقد به الهبة والعطية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يتم بها عقد الهبة. فالهبة تارة تنعقد بالقول وتارة تنعقد بالفعل، وإذا وهب الإنسان شيئا وقبله أخوه المسلم؛ فقد تم عقد الهبة. فقال رحمه الله: [وتنعقد بالإيجاب والمعاطاة] الإيجاب هو قول الواهب: وهبتك سيارتي أو دابتي أو بيتي. والقبول قول الموهوب له: قبلت، رضيت، ونحو ذلك من الألفاظ. فإذا قال الواهب: وهبتك، وقلت أنت: قبلت، فقد تمت الهبة وتم عقدها. وحينئذ صرح المصنف -رحمه الله- بأن هذه الصيغة القولية تقتضي ثبوت عقد الهبة. وكما تنعقد الهبة بالأقوال تنعقد بالأفعال، فإذا جرى العرف بأن فعلا معينا يدل على الهبة؛ فإنه يحكم بثبوتها بذلك الفعل. ومن أمثلة ذلك: ما يقع في الهدايا والهبات في المناسبات، فقد جرى العرف أنه لو صارت للإنسان مناسبة من زواج أو غيره فجاء شخص بهدية وحملها معه ليلة زواجه ودفعها للشخص الذي له المناسبة دون أن يتكلم وأخذها الموهوب له دون أن يتكلم أيضا، فإن هذا الفعل تنعقد به الهبة، ويحصل القبض على الصفة التي سنذكرها -إن شاء الله- وتكون الهبة والهدية ملكا للموهوب والمعطى. إذا: عندنا قول، وعندنا فعل. قوله رحمه الله: (والمعاطاة) أي: تنعقد بالمعاطاة؛ وهذه هي الصيغة الفعلية، وقد بينا أن شيخ الإسلام -رحمه الله قرر في أكثر من موضع في مجموع الفتاوى وفي كتابه النفيس القواعد النورانية: أن الشريعة لا تلزمنا بألفاظ مخصوصة إلا فيما دل الشرع على التقيد فيه باللفظ المخصوص، ولا تلزمنا بصيغة القول إلا إذا دل الشرع على التقيد بالصيغة القولية، وأن الأصل أنه إذا جرى العرف بين المسلمين أن فعلا ما يدل على شيء من العقود فإنه يحكم بذلك الفعل. فإذا: مراده رحمه الله أننا لا نتقيد بالقول، فلو أن شخصا جاء وأعطى ساعة لأخيه المسلم في مناسبة، فقبضها الموهوب له دون أن يتكلم، ثم قال: أنا لم أقصد الهبة أو العطية، نقول: الدلائل والقرائن كلها دالة على الهبة والهدية، فتلزم بها؛ لأنها قد قبضت، وننزل الأفعال منزلة الأقوال، ولا نقيد الحكم بالقول؛ لأن العرف في الإسلام محتكم إليه، وقد ذكرنا غير مرة أن من قواعد الشريعة التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وأجمع العلماء على العمل بها قولهم: (العادة محكمة) . فإذا: إذا جرى العرف بأن فعلا ما يدل على الهبة أو الهدية، وأن فيه ما يدل على القبول والرضا، فإنه يحكم بذلك ويعتد به. ما تصير به الهبة لازمة قال المصنف رحمه الله: [وتلزم بالقبض بإذن واهب إلا ما كان في يد متهب] . قوله: [وتلزم بالقبض] عندنا عقد الهبة والهدية والعطية، وعندنا اللزوم. الهبة والهدية من حيث الأصل تبرع وإحسان، والإنسان إذا أعطى هدية لأخيه المسلم أو وهبه شيئا فإنه في حكم المحسن، والله تعالى يقول: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91] ؛ لكن هذا الإحسان نلزمه به، وتصبح العين الموهوبة ملكا للموهوب له بوصف شرعي أو بشرط أجمع العلماء رحمهم الله على اعتباره والعمل به، وأنه يصير الهبة والهدية ملزمة. هذا الشرط هو القبض، فإذا خاطب إنسان غيره وقال: وهبتك سيارتي أو هذه الساعة أو هذا القلم، فقال الآخر: قبلت أو رضيت، فقد تم عقد الهبة والهدية. فلو أنه رجع عن هبته وقال: رجعت، أو طرأ عليه ظرف، فامتنع من إنفاذه، فإنه لا يلزم به؛ لأن الشرط المعتبر للإلزام حصول القبض، فإذا قبض الشيء الموهوب لزم، والأصل في ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما حضرته الوفاة قال لابنته عائشة رضي الله عنها: (يا بنية! إني كنت قد وهبتك عشرين وسقا جادا من أرضي بالغابة -وهي شمالي المدينة، وكان له فيها مزارع- فلو أنك قبضتها لكانت ملكا لك اليوم، أما وإنك لم تقبضيها فأنت اليوم وإخوتك فيها سواء) . هذا الخليفة الراشد سنته محتج بها، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على العمل بما دل عليه هذا الأثر، من حيث أن القبض يصير الهبة لازمة، فهو قد وهبها وأعطاها عشرين وسقا من التمر من مزرعته، ولكنها تأخرت في قبض هذه الهبة والعطية، فعندما حضرت أبا بكر الوفاة رجع عن هبته وأعطيته، فإذا حضرت الوفاة للشخص الواهب، ولم يتم قبض الهدية والهبة، فحينئذ يكون حكمها حكم التصرف بالتبرعات في مرض الموت، حكمها -كما سيأتينا ونبهنا غير مرة- أنها لا تصح إلا في حدود الثلث، فما زاد عن الثلث، فهذا يرجع فيه إلى الورثة، إن أجازوه وأمضوه فلا إشكال، وإلا فلا. إذا: أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لم يحكم بلزوم هبته وعطيته لأم المؤمنين رضي الله عنها إلا بالقبض، ولذلك قال لها: (لو أنك قبضتيه -وفي رواية: حزتيه - لكان ملكا لك اليوم، أما وإنك لم تفعلي ذلك، فأنت وإخوتك فيه اليوم سواء) . فدل هذا على أن القبض معمول به، وقد حكى الإمام ابن قدامة وابن أبي هبيرة في الإفصاح وغيرهم من الأئمة والفقهاء الإجماع على أن الهبة تلزم بالقبض. وبين المصنف رحمه الله أن هناك مرحلتين: المرحلة الأولى: مرحلة الصيغة والعقد، والمرحلة الثانية: مرحلة القبض. فكل هبة صدرت من إنسان اشتملت على عقد وقبض حكمنا بلزومها. أما ما قبل ذلك فلا نحكم بلزومها، أي: إذا وقع العقد ولم يحصل القبض كأن يقول شخص لآخر: وهبتك كذا، فيرد عليه: رضيت، ولم يقبضها، فإنه لا يلزم الواهب بالهبة التي وعد بها أو تلفظ بها، ولو كانت حاضرة. فطالما لم تمتد يد الموهوب له، لقبضه بإذن الواهب فإنه لا يحكم بلزوم الهبة والهدية والعطية إلا بعد تحقق هذا الشرط. إذا: هناك عقد، وهناك قبض، وقد يجتمع الاثنان مع بعضهما، مثلما ذكرنا، كأن تأتي في مناسبة -زواج أو غيره- إلى أخيك ومعك الهدية أو الشيء الذي تريد أن تهبه، ولا تتكلم، فتعطيه إياها، فيجتمع الفعل في الدلالة على الصيغة، ويكون قبضه لذلك الشيء الموهوب ملزم للواهب لهبته. قبض الهبة صوره وأحكامه وقوله: [وتلزم بالقبض بإذن واهب] القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء، والأصل عند العلماء رحمهم الله -وهي قاعدة نبهنا عليها في المعاملات- أن كل شيء اشترطه الشرع ولم يضع له قيودا معينة وأطلقه؛ فإنه يرجع فيه إلى عرف الناس. فالقبض ليس في الكتاب والسنة تحديد لضوابطه وما يحكم به، ولذلك يقول العلماء: يرجع في القبض إلى العرف. فكل ما سماه العرف قبضا حكمنا بكونه قبضا. فمثلا: في البيوت والعمائر والمساكن والعقارات، يتمثل القبض في إعطاء المفتاح، ويخلي بينه وبين العمارة أن يفتحها، فحينئذ لو لم يمكنه أن يقبض العمارة فهل يستطيع أن يقبضها بيده؟ لا يمكن، هذا مستحيل. فنقول: القبض في البيوت والدور والمساكن والمزارع بالتخلية، وهذا نص عليه العلماء. فإذا مكنه من مفاتيح المزرعة والدار والعقار، وقال له: وهبتك مزرعتي، وأعطاه المفاتيح وخلى بينه وبينها، فقد تم القبض. والقبض -مثلا- في السيارة في أعرافنا اليوم: أن يعطيه مفاتيحها ويخلي بينه وبين ركوبها، فإن ركبها وأدار محركها، فلا إشكال في أنه قد قبض. والقبض في الطعام يكون قبضا حقيقيا، فلو أنه وهبه صاعا فليأخذ الصاع وليقبضه، إذ لا بد فيه من الحيازة، فإذا حازه حكمنا بثبوت القبض. ويستوي في ذلك أن يقبض الموهوب بنفسه أو يقبضه وكيله نيابة عنه، فيقول: يا محمد! اقبض عني السيارة، أو خذ السيارة من فلان، أو خذ هديتي التي أعطانيها فلان، فإذا قبض وكيله نزل منزلة الأصيل؛ لأن القاعدة: أن الوكيل منزل منزلة الأصيل. يكون القبض في الأشياء العادية بإمساكها، فالقلم يأخذه ويمسكه ويضعه في جيبه أو حقيبته. ففي هذه الأحوال كلها يختلف القبض بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة، وما جرى العرف باعتباره قبضا. ومن هنا نص العلماء -رحمهم الله- على أن القبض في المبيعات يختلف بحسب اختلافها، ويحتكم إلى العرف في تحديد ضابط القبض، حتى يحكم القاضي والمفتي بثبوت الهبة والهدية إذا تحقق وجوده. لكن الشرط في القبض أن يكون بإذن الواهب. فالقبض له صورتان: - الصورة الأولى: أن يأذن الواهب للموهوب له بالقبض، فيقول له: وهبتك سيارتي، خذ هذه المفاتيح. ويرمي مفاتيحها إليه. - أو: خذ قلمي هذا، أو وهبتك قلمي، أو كتابي، ويعطيه إياه. فإذا كان القبض بإذن من الواهب فالإجماع منعقد على أنه قبض معتبر. لكن لو أن القبض بدون إذن الواهب، كرجل وهب سيارة، فقام الموهوب له وأخذ مفتاح السيارة بدون علم الواهب، وركبها وقادها، ثم رجع الواهب عن هبته، فإننا نقول: الهبة غير لازمة؛ لأنه لم يقع القبض المعتبر بإذن الواهب. إذا: يشترط في لزوم الهبة: القبض، وهذا القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة. ويشترط أيضا أن يكون بإذن الواهب، فلو قبض الموهوب له بدون إذن الواهب لم يكن قبضه مؤثرا. قوله: [إلا ما كان في يد متهب] في الحقيقة هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله؛ فبعض العلماء يقول: يشترط القبض بإذن الواهب ولو كان الشيء في يد المتهب. مثال ذلك: جاءه وقال: أريد السيارة أذهب بها إلى مكان. فقال له: خذها. فذهب بالسيارة وقضى بها حاجته، فلما جاء يردها قال: وهبتكها، وهي في يده، فهل يستدام حكم القبض ويكون كأنه قبض مستأنف، فتكون السيارة له من كونه يقول له: خذها، وهبتكها. أو جاء بالقلم يكتب به، ثم جاء ليرده فقال له: وهبتكه. فأخذ القلم ووضعه، ولم يرده إلى صاحبه. أو جاء وقال له: يا فلان! إني استعرت منك الكتاب وأريده مدة أطول، فقال: هو هبة لك، فقال: قبلت؟ فهل يشترط أن يرده ويقبضه مرة أخرى حتى يفرق بين اليدين: اليد الأولى واليد الثانية؛ لأن اليد الأولى: يد عارية، واليد الثانية: يد تمليك. فالأولى: تكون له يد على سبيل التمليك للمنفعة، وأما الثانية: فتمليك للعين والمنافع. فبعض العلماء يقول: إنه يشترط أن يقع القبض حتى ولو كان في الشيء الذي تستدام فيه اليد، كما لو أعطاه دارا يسكنها شهرا، ثم في نهاية الشهر قال: وهبتها لك، أو أعطاه سيارة ليحمل عليها متاعه، ثم قال: وهبتها لك. فإنه يحكم بثبوت اليد الأولى، ويكون في حكم من أقبض وأنشأ القبض. وبعض العلماء يقول: لا بد أن يردها، ثم بعد ذلك يعطيه إياها حتى يتحقق القبض المشترط. ولا شك أن إحداث القبض ورد العين ثم حصول القبض على الصفة المعتبرة أسلم وأفضل وأبرأ خروجا من الخلاف. فائدة الخلاف: لو أن رجلا مكن شخصا من عمارة ليسكنها شهرا ثم وهبه له، ثم توفي الواهب. فإذا قلنا: يشترط أن تسترد ويقبض الواهب عمارته ثم يقبض الموهوب له بعد ذلك بإقباض جديد، فإن لم يحصل هذا الأمر واعترض الورثة فإن الهبة تلغى، وتكون في حدود الثلث، حكمها حكم الوصية إن كانت في مرض الموت ونحوه. أما إذا لم نشترط ذلك الشرط، فإنه يملكها الموهوب له، ولا يؤثر طريان الموت بعد ذلك. قوله: [ووارث الواهب يقوم مقامه] أي: يقوم مقام الواهب في التمكين وحكم الهبة؛ لأن الورثة يأخذون حكم مورثهم، ولذلك جعل الله الاستحقاقات للوارث مكان مورثه. الإبراء من الدين قوله: [ومن أبرأ غريمه من دينه] من أحب الطاعات إلى الله سبحانه وتعالى إدخال السرور على المسلم بتنفيس كربته وتفريج همه وغمه وقضاء دينه. والدين -كما لا يخفى- من أعظم البلايا وأشد الرزايا؛ لأن الإنسان يتحمل تبعة عظيمة من حقوق الناس، فهو ذل النهار وهم الليل، ومن تحمل حقوق الناس تنغصت حياته، وتنكد عيشه، ولربما شوش عليه ذلك حتى في صلاته وعبادته، حتى كان بعض العلماء يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) ، يقول: الحديث عام، فقد تجد الرجل صالحا دينا خيرا؛ ولكنه يعاق عن كثير من الطاعات بتعلق نفسه بحقوق الناس، التي هي في رقبته، ومسئول عنها. فلا شك أن الإنسان يصيبه الهم والغم من تبعة الدين، فإذا أبرأه صاحب الدين؛ فإن ذلك من أعظم الإحسان وأفضله وأجزله ثوابا عند الله سبحانه وتعالى حتى ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان في من كان قبلكم رجل يدين الناس، وكان يقول لغلمانه ووكلائه: إذا وجدتم معسرا فتجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنا. قال: فلقي الله، فقال الله تعالى: يا ملائكتي! نحن أحق بالعفو من عبدي، تجاوزوا عنه) ، وهذا يدل على فضل التجاوز على المعسر، وخاصة إذا وجد الإنسان الصدق في هذا المعسر، وأنه أخذ المال لأنه احتاجه، مثل: أن يسكن هو وأهله، فاستدان من أجل أجرة السكن، أو من أجل طعامه وطعام أولاده. فالتخفيف عن أمثال هؤلاء والتوسعة عليهم وتفريج الكربة وإزالة الهم والغم عنهم بمسامحتهم وإبرائهم، من أحب الأعمال إلى الله تعالى، وأعظمها أجرا وثوابا عند الله سبحانه وتعالى، ومما يبارك الله به وبسببه في مال العبد، وهذا هو المال الصالح عند الرجل الصالح، الذي يتزكى ويرجو زكاة نفسه وماله بالتوسعة على إخوانه المسلمين. صيغ الإبراء من الدين ولا عبرة باللفظ بل يرجع إلى العرف؛ لأن الأعراف تختلف، وبعض الكلمات يستحي الواحد من ذكرها، فتكون صريحة عند العلماء؛ لكنها في العرف صعبة، فيختار لفظا مناسبا بالعرف، فكل ما دل على الإبراء وجرى العرف به؛ فإنه يحكم به ويعتد، كما سبق بيانه في الصيغة الفعلية. قوله: [برئت ذمته] أي: ذمة المديون. قوله: [ولو لم يقبل] هناك خلاف عند العلماء -رحمهم الله- في شخص لك عليه دين وقلت له: سامحتك وأبرأتك. فقال: لا. سأرد الدين. ثم توفي هذا الشخص. فإن قلنا: إن القبول شرط؛ فإنه حينئذ يخصم من تركته على قدر الدين، ويجب الوفاء؛ لأن ذمته مشغولة بهذا الدين. وإن قلنا: إن قبول المديون ليس شرطا، فحينئذ لزمه الإبراء، وقد سقط الدين، ولا يؤخذ من تركته بقدر دينه. فهذه فائدة الخلاف. فأشار رحمه الله بقوله: [ولو لم يقبل] إلى خلاف في المذهب، فبعض العلماء يقول: يشترط القبول؛ لأن من حقي ألا أقبل هذا الإبراء؛ لأنه ربما يكون غضاضة على الإنسان ومنقصة له، ولذلك يقولون: لا يمكن أن نلزمه بهذه الهبة؛ لأنه قد يحصل له غضاضة، فمن حقه أن يمتنع وأن يرد الحق إلى صاحبه، ولا شك أنه إذا كان هناك مثل هذه المعاني يخشى من الإنسان الذي وهب أن يكون له غرض سيئ، أو يكون ممن يمن على الإنسان أو يشهر به فيقول: أعطيت فلانا، وفعلت مع فلان، وفلان استدان مني فسامحته، وفلان كان لي عليه دين ففعلت معه كذا، فمن حقك أن تدفع هذه الغضاضة. فالحقيقة: القول باشتراط القبول من القوة بمكان. وبعض العلماء يقول: لا يشترط القبول، وهو اختيار المصنف، لكن -في الحقيقة- قبول الإبراء إذا نظر إلى وجود الضرر فيه في بعض الأحوال فلا شك أن الأصل يقتضيه؛ لأن من الحق أني أخذت المال ملتزما برده، والعقد بيني وبينه على أن أرده، وهذا أكمل لكرامة الإنسان، وأصون لماء وجهه. فإذا مكن من هذا فلا شك أنه أحظ له. أما أن يقال: أنه لا يشترط، ويلزم بذلك، ثم يصبح الرجل يمتن عليه أو يؤذيه بذلك أو يستغله في أمور لا تحمد، فإن هذا يؤدي إلى المفاسد، والشريعة جاءت لدرء المفاسد، فاعتبار الأصل من هذا الوجه أقوى. صور الإبراء والإحلال من الدين قوله: [ومن أبرأ غريمه] يكون الإبراء على صورتين: الصورة الأولى: أن تجود نفسك بدون أن يطلب منك أخوك المسلم، فهذا أفضل وأكمل وأعظم ثوابا وأجرا؛ وذلك لأنه إذا سألك فقد أحوج نفسه، وأصابه ذل السؤال؛ لكن كونك أنت الذي تتفضل وتقول: يا فلان! لا أريد من هذا الدين شيئا؛ فإن هذا أعظم ثوابا. وكان بعض العلماء رحمهم الله إذا جاءه أحد إخوانه يسأله الدين نوى من أول إعطائه المجاوزة، أنه لا يريد هذا الدين، ويوصي ورثته ويكتب: أن ديني عند فلان قد أسقطته وأبرأته، وهو في حل منه، ولو جاء يرده فلا تأخذوه منه، ويقول: ما أعطيتك هذا المال وأنا أرجوه يوما من الأيام. وهذا من أفضل ما يكون من الإبراء؛ لأنك إذا أبرأت الغريم، وقد جاءك معسرا أو محتاجا، وأعطيته دينا في أول محرم إلى آخر السنة، إن سامحته من أول أخذه؛ كتب الله لك ثواب الأجر تاما كاملا من أول لحظة من الدين؛ لكن لو انتظرت حتى يأتي وقت السداد، كان أجر المال قرضا في الفترة التي يستغرقها مستقرضا، ثم يكون بعد ذلك فضل الإنسان بالمسامحة، وهذا أقل ثوابا، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إن الله يتلقى الصدقة من عبده بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها له ويربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى يجدها يوم القيامة أوفر ما تكون) . فهذا يدل على فضل الإبراء عند أول الدين، ولا شك أن هذا -كما قلنا- أفضل وأعظم ثوابا وأجرا. أما الصورة الثانية من الإبراء فهي: الإبراء الذي يكون بعد الطلب أو السؤال أو اطلاع الإنسان على حالة المحتاج، فهذا أقل ثوابا وأقل فضيلة من الأول. وهناك ما يسمى بالإبراء المعلق، والإبراء المعلق يدخل في الصورة الأولى، مثاله: أن يعطيه الدين ويقول: إن وجدت سدادا فرده، وإذا لم تجد سدادا فإني مسامحك وأنت في حل. هذا يكون فيه معلقا بين الأمرين؛ لكن الأول أفضل وأكمل. حتى كان بعض المحسنين والصالحين ممن أدركناهم يخبر عن والده الذي كان من أكثر أهل المدينة فضلا وإحسانا على الناس، فيقول: لما حضرته الوفاة -وكان عنده سجلان في تجارته- قال لولده: ناشدتك الله أو أسألك بالله، هذا السجل الأول لا تفتحه، ولا تسأل أحدا ما في هذا السجل، وأما السجل الثاني فهذا فيه الغرماء القادرون على السداد والعطاء، فأما الأول فوالله ما وضعت فيه إلا أيتاما وأرامل ومحتاجين، فإياك أن تفتحه، واستسمح إخوانك من حقوقهم فيه، وأحرقه مباشرة. قال: فبمجرد ما توفي نفذنا وصيته، فأحرقنا السجل، ولا نعلم من هي الأسر الموجودة فيه. وهذا من أكمل ما يكون من التوفيق. لكن إذا كان أبرأه إبراء بالطلب وقال له: يا فلان! إني عاجز عن السداد، فقال: أنت في حل، أو قال: إني عاجز عن رد المبلغ فقال: أبرأتك، فحينئذ إذا أبرأه ملك ماله، وحكم ببراءة ذمة المديون، ولا يلزم أن يرد المال ثم يبرئه. وهذه المسألة مثل الهبة لكنها اختلفت في وجود الدين السابق، ثم بعد أخذه للدين سامحه صاحب الدين وأبرأه، فهل يشترط أن يرد له ثم يعطيه؟ و الجواب أنه إذا أبرأه فقد برئ، وإذا جعله في حل؛ فقد أصبح حلالا من تبعة ذلك المال أو الدين. ما تجوز فيه الهبة فمثلا: يجوز أن يهب العقارات، كالأرضين والدور والمساكن والمزارع والمنقولات المباحة، مثل السيارات في زماننا والدواب والأطعمة والأكسية والأغذية، هذه كلها أعيان تباع وتجوز هبتها. مفهوم ذلك: أن ما لا يجوز بيعه لا تجوز هبته. ومن أمثلة ذلك: الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقد صح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سمع النبي صلى الله عليه وسلم غداة فتح مكة يقول: (إن الله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) ، فهذه منصوص على تحريم بيعها، فلا تصح هبتها. فلو وهبه خمرا أو ميتة مثل الحيوانات المحنطة غير المذكاة ذكاة شرعية مما تشترط لها الذكاة، أو وهبه خنزيرا أو ما هو مصنع من الخنزير ومن شحومه، أو وهبه أصناما أو صورا مجسمة، فإنها لا تصح هبتها؛ لأن الشريعة نصت على أن هذه الأمور لا يجوز بيعها، وجمهرة العلماء نصوا على أن كل ما جاز بيعه جازت هبته. وبناء على ذلك: يشترط أن يكون مالكا لهذا الشيء الذي يهبه، وأن يكون الشرع قد أذن بالمناقلة فيه والملكية. ومن هنا يظهر الخطأ في قول من قال: يجوز التبرع بالأعضاء؛ ويحرم بيعها. فالأصل أنه كل ما جاز بيعه جازت هبته. فإذا قالوا: بأنه لا يجوز بيع الأعضاء؛ دل هذا على أنه لا يملكها، وإذا كان لا يملكها فإن أصل الهبة قائمة على الملكية. ومن هنا ضعف قول من يقول بجواز التبرع، من هذا الوجه؛ لأنه يرى أن الملكية ليست بثابتة، بدليل أنهم يقرون بعدم جواز بيعها، وإذا ثبت أن الملكية ليست بثابتة، فإنه لا يصح أن يهب الإنسان شيئا لا يملكه. ثم لو سلم فرضا أنها مملوكة للإنسان فهذا التمليك قاصر، ولذلك لا يجوز للإنسان أن يبيع نفسه، فقد تملك الشيء ولا يجوز أن تعطيه للغير، كما في أم الولد، فإن المرأة ملك لسيدها ويطؤها وهي ملك يمينه، ولا يجوز له بيعها، فقد جاء في الحديث: (أنه لا يجوز بيع أمهات الأولاد) . ولذلك نص العلماء كالإمام النووي وغيره أن الشيء قد يكون ملكا غير قابل للتمليك وغير قابل للبذل بأن يملكه للغير. فالشاهد أن مسألة الهبة يشترط فيها أن تكون مما أذن الشرع وسلط المكلف على التصرف فيه بالبذل للغير، خاصة وأنه بذل بدون عوض. فيجوز هبة العقارات والمنقولات والمبيعات المباحة، ولا بأس بذلك. قوله: [وكلب يقتنى] أي: يجوز هبة الكلب الذي يقتنى مثل كلب الصيد والماشية والزرع، فهذه الأنواع الثلاثة من الكلاب -أكرمكم الله- أذن الشرع فيها بهذه المنافع، فإذا وهبها من أجل هذه المنافع صحت هبته، كما اختاره المصنف -رحمه الله- ونص عليه.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة وقت الدعاء المستجاب للصائم السؤال للصائم دعوة مستجابة عند فطره، فمتى تكون هذه؟ هل قبل الفطر أو بعده؟ وجزاكم الله خيرا. الجواب عند الشيء قربه، ولو كان مراد الشرع ما بعد وجود الفطر، لقال: بعد أن يفطر؛ ولكنه خص ذلك بما قبل الفطر بالوقت اليسير، وهذا له نظائر في الشريعة، ولذلك تجد في الصلاة أن الدعاء قبل السلام مظنة الإجابة فيعطى العبد مسألته، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر وأدبار الصلوات المكتوبات) ، أدبار: ودبر الشيء منه. وكذلك الزكاة، فإنه إذا جاء ليزكي ويعطي الزكاة يستغفر له الإمام ويدعو، {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم} [التوبة:103] وهذا عند قبضها. ومعلوم أن القبض يسبق إنفاق الزكوات وصرفها للمستحقين، فلذلك تكون قبل تمام العبادة، كأنه وفى لله والله يوفي له، فإذا وفى لله وقام بحق الله على أتم الوجوه؛ رزق هذه الدعوة الصالحة. فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه عند فطره، يعني: عند مقاربة الفطر، فينادي الله -عز وجل- ويدعوه، وقد ضمرت أحشاؤه وخوت أمعاؤه، يسأل ربه سبحانه بتلك الكلمات الطيبات المباركات، فيلهج بهن بخلوف أطيب عند الله من ريح المسك. فيسأل ربه قبل الإفطار مباشرة، فهذا من أفضل ما يكون، وهو الذي يدل عليه ظاهر الحديث، وتدل عليه النظائر. والله تعالى أعلم. دعوة المظلوم السؤال دعوة المظلوم مستجابة، فهل هذا إذا كانت على من ظلمه، أم أنها مستجابة حتى لو دعا لنفسه في وقت كونه مظلوما؟ الجواب دعوة المظلوم مستجابة، النص فيها صحيح صريح. ولذلك روى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله يقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) ، فدعوة المظلوم مستجابة إذا كانت على من ظلمه. وينبغي أن يكون دعاؤه في حدود مظلمته. ويشمل دعاء المظلوم على عدة أوجه: الوجه الأول: أن يسأل الله عز وجل أن يكفيه شر الظالم وأذيته، وهذه دعوة السلامة. فيقول: اللهم إني أدرأ بك في نحر فلان، وأعوذ بك من شره، أو يقول: اللهم اكفني شر فلان بما شئت، اللهم إن عبدك فلان قد ظلمني وأساء إلي أو انتهك عرضي أو أخذ مالي، اللهم اكفني ظلمه بما شئت، اللهم اقطع عني أذيته، واكفني شر بليته، ونحو ذلك من دعاء السلامة. فهذا الدعاء إذا دعاه الإنسان لا يذهب أجره، وليس فيه اعتداء على الظالم، وليس فيه نقصان لأجره؛ لأنه يكتب له أجر الأذية التي حصلت فيما مضى؛ لأنه لم يدع على من ظلمه، وإنما سأل الله أن ينجيه من هذا البلاء. أما النوع الثاني من دعاء المظلوم: فهو دعاء السلامة مع الدعاء على الظالم في نفسه أو ماله أو ولده أو غير ذلك، فإذا دعا على الظالم فأيضا يفصل فيه: فتارة يدعو على الظالم دعوة يسأل ربه فيها ألا يسلطه على غيره، فيقول: اللهم إن عبدك قد ظلمني، أسألك اللهم أن تحول بينه وبين عبادك المسلمين فلا يظلمهم، أو أسألك اللهم أن تقطع دابر أذيته عن المسلمين، أو نحو ذلك من الدعاء الذي يقصد به كف شر الظالم عنه وعن المسلمين. فهذا عند بعض العلماء لاحق بالأول، ويقرنون حكمه بدعاء السلامة من هذا الوجه. لكن إذا دعا على الظالم في نفسه أو ماله أو ولده فلا يخلو من حالتين: فيقول مثلا: اللهم إن فلانا ظلمني فافعل به كذا وكذا، أو خذ منه كذا وكذا، أو أنزل به كذا وكذا، ففيه تفصيل: إما أن يدعو في حدود مظلمته، فهذا قد أخذ حقه بسؤال ربه على قدر مظلمته. وإما أن يدعو أكثر من حقه، فمثلا: لو جاء إنسان وظلمه وأخذ منه القلم، فقال: اللهم إني أسألك أن تعمي بصره، فأخذ البصر ليس كأخذ القلم، فليست هناك موافقة. وأما حينما يدعو عليه أو على ولده أو أهله، فهذا النوع من الدعاء يعتبره العلماء اعتداء. قالوا: وفي حكم هذا الدعاء على ولاة الأمر والعلماء؛ لأن الضرر إذا نزل بهم يتعدى إلى المسلمين، ويكون ضررهم عاما، فلو دعا على عالم، فإنه ربما ضر بإخوانه المسلمين وانقطع نفعه عن المسلمين، فهذا من الاعتداء. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (يأتي في آخر الزمان أقوام يعتدون في الدعاء وفي الطهور) . فدل هذا على أنه ممنوع منه، حتى قال بعض العلماء: إن هذا يؤمن عليه من القصاص، وأخذ حقه منه. وفي حكم هذا: أن يدعو على ولده، ويقول: اللهم نكد عليه عيشه في أهله وولده وكذا وكذا، فهذا يرونه من الاعتداء. لكن بعض العلماء يقول: من حقه أن يدعو دعوة قاصمة لظهر الظالم إذا كانت هناك مظلمة يتعدى ضررها من الشخص بالتشهير به أو انتهاك عرضه. ومن أمثلة ذلك: فعل السلف الصالح رحمهم الله، فإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كذب عليه أهل الكوفة وآذوه، وهذه هي سنة الله في الأخيار والصالحين، أنهم يتهمون ويقذفون وينتقصون حتى يبرئهم الله -جل جلاله- من فوق سبع سماوات. فـ سعد رضي الله عنه صحابي جليل كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدته ورخائه، وكان سدس الإسلام يوم أسلم رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم، فداك أبي وأمي) من عظيم ما كان من شأنه في الإسلام، فهو أول من رمى في سبيل الله، وأول من جمع له النبي صلى الله عليه وسلم بين والديه. هذا الصحابي الجليل كذبوا عليه، حتى جاءوا إلى عمر وقالوا له: (إنه لا يحسن كيف يصلي) . انظروا -يا إخوان- وفي هذا العبرة لكل داعية وصالح وتقي! أنه إذا جاء الكلام فيه من ورائه فإنه يطعن في كل شيء، حتى في دينه في عقيدته، في منهجه، في فكره؛ لأن هناك أناس ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالناس، كما قال تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} [الفرقان:20] ! رجل من أهل الكوفة يأتي إلى عمر ويقول له: هذا الرجل الذي وضعته لنا لا يعرف كيف يصلي. فقام عمر رضي الله عنه وأمر باستدعاء سعد إليه، وقطع هذه المسافة الشاسعة من الكوفة إلى المدينة من أجل ذلك، تصوروا كيف يطوي تلك المسافات الشاسعات وتمضي عليه ساعات الليل والنهار وهو في هم الظلم، حتى جاء إلى المدينة. فقام وفد الكوفة الظالم الجائر فقال قائلهم: (أما وقد سألتنا عن سعد، فإنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في الرعية، ولا يحسن كيف يصلي بنا) . الله أكبر! هذا الصحابي الجليل يصل إلى هذا القدر! فقال سعد رضي الله عنه: (والله ما كنت آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أطول في الأوليين، وأخفف في الأخريين، اللهم إن كنت تعلم أن عبدك هذا قد كذب وفجر فيما قال، اللهم أطل عمره، وخذ بصره، وعرضه للفتن) ، ثلاث دعوات. فاستجيبت دعوته رضي الله عنه. فعمر الرجل فوق مائة سنة، وكف بصره والعياذ بالله، وأصبح يتغزل النساء في آخر عمره والعياذ بالله، فتقول له المرأة: (اتق الله وأنت كبير سن) . فيقول: (أصابتني دعوة الرجل الصالح) . واشتكت امرأة إلى عمر وتكذب على سعيد بن زيد رضي الله عنه حيث ادعت أنه ظلمها في بئرها. فقال سعيد: (اللهم إن كنت تعلم أنها كاذبة اللهم اجعل قبرها في بئرها) . فعمي بصرها -والعياذ بالله- فسقطت يوما من الأيام في البئر فماتت، فكان البئر قبرا لها. فهذه كلها نقم من الله سبحانه وتعالى. وفي بعض الأحيان يسلط على من يؤذي عباد الله سبحانه وتعالى من حيث لا يحتسب، خاصة إذا لم يدع المظلوم، فإنه إذا لم يدع تولى الله سبحانه وتعالى أمره. حتى ذكروا عن بني إسرائيل من قصصهم المعتبرة: أن رجلا ظلم امرأة، فابتلي -نسأل الله السلامة والعافية- ببلية لم يدر لها علاج. فاشتكوا إلى حبر من أحبار اليهود، فقال لهم: ما شأنه؟ قالوا: ظلم فلانة. قال: اذهبوا إلى فلانة، واسألوها أن تسامحه. فامتنعت أن تسامحه. وكان قد ظلمها مظلمة عظيمة. فقال لهم: اذهبوا إليها، وأكثروا من ذكر سيئاته التي كان يفعلها بها حتى يثور غضبها وتتكلم. فصاروا يذكرون أذيته لها حتى دعت عليه، فذهبت البلية التي كانت على الرجل ونزلت به الدعوة التي دعت عليه بها، فخف البلاء أكثر من الأول. فقالوا له: كيف علمت ذلك؟ قال: لأنها سكتت، فتولى الله جل جلاله نصرتها، فلما أصابها الغيظ وانتصرت لنفسها، زال البلاء، وأصبحت مستشفية لغيظها. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يتوب علينا ويتجاوز، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبيه محمد. المفاضلة بني اتباع الجنازة وبين الجلوس في المسجد حتى طلوع الشمس السؤال أيهما أفضل بعد صلاة الفجر: أن أنتظر حتى طلوع الشمس كما جاء في الحديث، أم المشي في الجنازة إذا وافقت جنازة في صلاة الفجر؟ الجواب الجنازة تنقسم إلى قسمين: إذا كانت جنازة من يعظم حقه ويلزم بره كالوالدين ونحوهما، فلا إشكال؛ لأنها لازمة، ولا يفضل بين اللازم الواجب وبين المستحب المرغب. أما إذا كانت جنازة من عامة الناس، فحينئذ يكون السؤال مبنيا على التفضيل بين الحج والعمرة التامة التامة بالجلوس بعد صلاة الفجر إلى الإشراق وصلاة الركعتين، وبين تشييع الجنازة، فإذا نظر إلى التشييع ونظر إلى الحج والعمرة وجد أن فضل الحج والعمرة أعظم من التشييع؛ لأن الحج والعمرة من جنس الأركان، وفضيلة الحج والعمرة لا يشك أنها من أعظم الفضائل وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله قال: (إيمان بالله، ثم حج مبرور) فذكر الحج المبرور بعد الإيمان بالله -عز وجل-. هذا الوجه، دائما إذا تعارضت عندك الفضائل في الطاعات ردها إلى الأصول، فالطاعة التي هي من جنس الأركان ليست كالطاعة التي هي من جنس المستحبات، والطاعة التي من جنس الواجبات ليست كالطاعة التي من جنس السنن والرغائب، وهكذا. هذه أصول عند العلماء تعرف عند ازدحام الفضائل، فجنس الحج والعمرة مقدم على جنس التشييع؛ لكن عند العلماء أصل آخر وهو أن الفضائل المتعدية ليست كالفضائل القاصرة، فتشييع الجنازة فيه فضيلة متعدية، وذلك من حصول الانتفاع للإنسان في نفسه والاتعاظ والاعتبار، وتعزيته للمصابين بمواساته لهم، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر إذا رأى بدعة ونهى وزجر عنها، فإن هذه الفضائل متعدية وأجورها عظيمة، قد تقتضي تفضيل الشهود على الحج والعمرة. لكن يشكل على هذا أن التفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل من كل وجه، فإن هذا الذي ذكر إنما يقع في بعض الجنائز دون بعضها، فليس في كل جنازة منكر، ثم إن المنكرات تختلف درجاتها، ثم ليس هناك في كل جنازة يتمكن الإنسان من بعض الفضائل المتعدية بحيث يمكن أن يحكم بها، فقد تكون الجنازة ليس لها أقرباء، ويكون كغريب توفي وليس له أقرباء يعزون، ونحو ذلك. فهذا تفضيل نسبي، والتفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل من كل وجه. بناء على ذلك، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن بقاءه إلى طلوع الشمس أعظم في أجره -إن شاء الله تعالى- من حيث الأصول. لكن لا يمنع إذا وجدت جنائز فرادى فيها نسب تقتضي التفضيل من بعض الوجوه فإن هذا يقتضي تخصيص الحكم بها، وليس بعام من كل وجه. ولذلك -وهذه الفائدة مهمة جدا- في بعض الفتاوى تجد المفتي يفضل شيئا على شيء بالتفضيل النسبي؛ لأنه يشكل عليه، فيرى ويقول: ربما لو أنك شهدت الجنازة لفعلت وفعلت، فيحكم بالتفضيل، وهذا ينبغي التنبه له؛ لأن التفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل المطلق. ومن هنا أبو بكر رضي الله عنه فضل على جميع الصحابة، مع أن بعض الصحابة خصوا ببعض المناقب والمزايا؛ لكن التفضيل النسبي لم يقتض تفضيلا مطلقا على أبي بكر رضي الله عنه، فقد قال لـ سعد: (ارم، فداك أبي وأمي) ، وخص حذيفة بن اليمان بأسرار المنافقين، حتى إن عمر احتاج أن يسأله، ويقول له: (أناشدك الله! أكنت فيمن سمى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ قال: لا. ولا أزكي بعدك أحدا) ، فهل هذا يعني أن حذيفة أفضل من عمر؟! نقول: هذا التفضيل نسبي. فالتفضيل النسبي وورود الشرع بفضيلة خاصة من وجه خاص لا يقتضي الحكم بالعموم. وهكذا في الفضائل هنا، فإنه إذا نظر إلى وجود بعض الفضائل في بعض الجنائز لا يقتضي تفضيل شهود الجنائز على فضيلة الحج والعمرة من كل وجه. والله تعالى أعلم. حكم منع الرجل زوجته من قضاء الصيام مخافة على جنينها السؤال امرأة حامل تريد قضاء ما فاتها من رمضان الماضي، وزوجها يمنعها خشية على جنينها، فهل له أن يمنعها أم لا؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا كانت المرأة حاملا، وغلب على ظنها أنها تضع حملها، وتطهر من نفاسها قبل دخول رمضان الثاني، فيجب عليها طاعة زوجها؛ لأن قضاء رمضان موسع وليس بمضيق، والدليل على ذلك حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الصحيح: (إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان) ، فدل هذا على أن المرأة يجوز لها أن تؤخر القضاء إلى شعبان. وعلى هذا فلو غلب على ظنها أنها تضع الولد في رجب كأقصى مدة للحمل، وتطهر في شعبان -مثلا- في منتصفه، ويبقى منتصفه الآخر، فحينئذ تؤخر الصوم، ومن حق الزوج أن يمنعها، أما لو كانت في بداية حملها وغلب على ظنها أنه لا يمكنها أن تحصل شعبان للقضاء، فحينئذ فيه تفصيل: إن قال الأطباء: إن صومها يؤثر على الجنين، كان الحق مع زوجها. وإن قالوا: لا يؤثر الصوم على الجنين وجب عليها أن تقضي. وهذه من الصور التي ينتقل فيها رمضان من القضاء الموسع إلى القضاء المضيق، ويلزمها أن تعجل؛ لأنه غلب على ظنها أنها لا تتمكن من قضائه قبل رمضان الثاني إلا على هذا الوجه، و (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ، فيفصل في هذه المسألة على هذا الوجه. والله تعالى أعلم. فضائل الذكر السؤال نرجو منكم بيان الفضائل المترتبة على الذكر، وما أثر ذلك على طالب العلم؟ الجواب ذكر الله سبحانه من أحب الطاعات، وأشرف القربات الموجبة لرفعة الدرجات، وغفران الذنوب والسيئات، وانشراح صدور المؤمنين والمؤمنات. ولو لم يكن في ذكر الله عز وجل إلا أن الله عظمه وأكبره من فوق سبع سماوات، فقال سبحانه وتعالى: {ولذكر الله أكبر} [العنكبوت:45] . قال بعض العلماء: إنه أكبر من كل شيء؛ لأن توحيد الله سبحانه وتعالى قائم على ذكر الله، فهو مشتمل على أحب الأشياء وأعظمها زلفى عند الله سبحانه وتعالى وهو توحيد الله سبحانه، فالذاكر لله موحد لله عز وجل. وللذكر فضائل عظيمة: - منها: ما بين الإنسان ونفسه في أمور دينه. - ومنها: ما يرجع إلى أمور الدنيا. - ومنها: ما يرجع إلى أمور الآخرة. وقد تكلم العلماء رحمهم الله على كثير من الفضائل المترتبة على الذكر، وبينوها وهي مأخوذة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن لا يستطيع الإنسان أن يستوعب ذلك كله خاصة لضيق الوقت. فمن أعظم وأفضل ما يكون في الذكر: أن الله تعالى أخبر أنه يذكر من ذكره، قال تعالى: {فاذكروني أذكركم} [البقرة:152] ، فمن كان في بلاء وذكر الله -جل جلاله- وأثنى على الله بما هو أهله؛ جعل الله له من بلائه فرجا ومخرجا، ومن كان في ضيق وذكر الله جل جلاله مخلصا من قلبه وتوجه إلى الله بصدق وإخلاص؛ جعل الله ضيقه سعة عاجلا أو آجلا، فالله تعالى جعل مزية الذكر في ذكره لعبده، فقال: {فاذكروني أذكركم} [البقرة:152] سواء كان الإنسان في شدة أو رخاء، فإن كان في رخاء بارك الله رخاءه، فأصبحت نعمته واسعة عليه مباركا له فيها، سواء كانت نعمة مال أو ولد أو صحة أو علم أو غير ذلك من نعم الله جل جلاله. ومن أعظم فضائل الذكر المتعلقة بالدين: أنه الله جعله حرزا حصينا من الشيطان الرجيم، من الوساوس والخطرات المهلكات المرديات، فإذا تسلط الشيطان على الإنسان أهلكه، فإن آدم عليه السلام وسوس له الشيطان أن يأكل من الشجرة فحصل ما حصل له من البلاء، وهو في المرتبة الكريمة والمنزلة الشريفة العظيمة، فانظر -رحمك الله- إلى هلاك الإنسان إذا لم يتداركه الله برحمته. فالإنسان إذا لم يتداركه الله برحمته سيهلكه الشيطان، وهذا كله بقدرة الله جل جلاله، فيحتاج إلى أن يستعصم بالله سبحانه وتعالى، ولذلك ترى الصالحين إذا أدمنوا ذكر الله، فأكثروا من تلاوة القرآن ومن التسبيح والتحميد والتكبير وذكر الله جل جلاله، وجدتهم في ثبات على الطاعة وقوة على الخير، وتجد النفس نشيطة على الإحسان والبر، راضية مرضيا عنها. لكن ما أن يغفل ولو كان من أصلح عباد الله إلا تسلط الشيطان عليه، فلربما هدم الشيطان بوساوسه ما سبق له من البنيان، ولربما استزله إلى شهوة أو شبهة، فأردته -والعياذ بالله- فختم له بخاتمة السوء، نسأل الله السلامة والعافية. فما أحوج الإنسان إلى الذكر حتى يستعصم بالله عز وجل من الشيطان. كذلك من فوائد الذكر: أن الإنسان ضعيف، ومن ضعفه أنه إذا توالت عليه هموم الدنيا وتكالبت عليه غمومها، فإن ذلك قد يفت من عزيمته ويكسر من قوة شوكته، فيحتاج إلى شيء يطمئن به قلبه، ولن يكون ذلك إلا بذكر الله سبحانه وتعالى، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد:28] . يكون الإنسان في ضيق من أشد ما يكون الضيق وتجده من أضعف خلق الله؛ فقيرا وحيدا، وتجده في حالة قد يغلب على ظنك أنه لن ينجو؛ ولكن يستعصم بربه فيلهج لسانه بذكر الله ويلتجئ إلى الله ويحتمي بالله سبحانه وتعالى فيأتيه الفرج من حيث لا يحتسب. ذو النون -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وحيد فريد وهو في الظلمات، ومع ذلك أخرجه الله عز وجل بفضله ومنته من تلك الظلمة بالتوحيد والذكر. فالذكر طمأنينة للقلب، والإنسان إذا نزلت عليه كروب الدنيا وتشتت ذهنه وتفرقت نفسه هلك. وقد كان السلف يستدلون على النصر والتأييد بالثبات عند حصول الفواجع والقوارع، فإذا وجدت العبد إذا نزلت به المصائب والشدائد ثابت القلب قوي الجنان ذاكرا للرحمن مستعصما بالديان، فاعلم أنه منصور بإذن الله عز وجل؛ لأن السكينة تتنزل على قلبه، يثبت الله بها جنانه، ويسدد بها لسانه وبيانه، حتى ينجو من هلكته، ويعصمه ربه بعصمته. كذلك من فؤائد الذكر: أن الله سبحانه وتعالى يرفع به درجة العبد، وأحوج ما يكون الإنسان احتياجه إلى رفعة الدرجة! فالإنسان لو أنه بلغ الجنة وهو في درجاتها التي ليست بالعلى، أصابه الغم وخسر هذه الدنيا، إذ لم يصل إلى الدرجة العالية الكاملة، وهذا الخسران النفسي، وليس الخسران بالمعنى الأعم المطلق، إنما المراد به أنه يحس أنه مغبون، ولذلك سمى الله يوم القيامة بيوم التغابن؛ لأنه ولو كان صالحا أصابه الغم، أنه لم يستكثر من الخير والبر؛ ولكن بذكر الله يدرك من فاته، ويسبق من بعده، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (سبق المفردون. قالوا: يا رسول الله! وما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات) . المفردون: التالون لكتاب الله آناء الليل وآناء النهار. المفردون: المسبحون الحامدون المستغفرون المثنون على الله عز وجل بما هو أهله. كذلك أيضا: قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط) . قالوا: إن انتظار الصلاة بعد الصلاة لا يكون إلا للذاكرين؛ لأن القلب معلق بذكر الله؛ والصلاة من أعظم الذكر. فإذا كان انتظارها وشغف القلب بها موجبا لرفع الدرجة، فكيف بمن كان دأبه على عمارة وقته وساعات ليله ونهاره بذكر الله عز وجل؟! وأيا ما كان فلا يزال ذاكر الله سبحانه وتعالى في عصمة من الله في أمور دينه ودنياه وآخرته، حتى يأتيه الموت وهو على طاعة من الطاعات، فيختم له بخاتمة السعداء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا (لا إله إلا الله) دخل الجنة). ولذلك يقول بعض العلماء: إن الإنسان إذا أكثر من تلاوة القرآن آناء الليل والنهار، فالغالب أن يختم له على كتاب الله. وهذا مجرب، فكثيرا ما تجد حفاظ القرآن الذين يتلون كتاب الله آناء الليل وآناء النهار ما يختم لهم إلا بأحسن الخواتم، فإما أن تجده مصليا فيختم له وهو راكع أو يموت وهو ساجد، ووالله رأينا بأعيننا من خواتم السعداء من أمثال هؤلاء الذين يكثرون من ذكر الله عز وجل، والله عز وجل يعصمهم بعصمته ويحسن لهم الخاتمة بفضله ومنه. نسأل الله تعالى أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر الحظ والنصيب. ومن أفضل الذكر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى: - ذكر العلم بحفظ القرآن، ومدارسته ومذاكرته، والجلوس في مجالسه، والحث عليه دون سآمة أو ملل، وتقدير أهله من الأحياء والأموات، والترحم على الأموات، وذكرهم بالجميل، والدعاء لهم، والاستغفار لهم، كل هذا من ذكر الله عز وجل. ومن ترحم على علماء المسلمين وذكرهم بالخير، وسأل ربه أن يغفر لهم ذنوبهم وأن يرفع لهم درجاتهم؛ قيض الله له بعد موته من يفعل به كفعله أو أفضل من فعله. فيحرص الإنسان على هذا الخصلة العظيمة، خاصة طلاب العلم، فأحق من يكون من الذاكرين هم طلاب العلم، فإذا انتهى من مجالس الذكر قام يتلو القرآن، وإذا جلس بين الناس جلس مستغفرا مسبحا حامدا مهللا مكبرا لله سبحانه وتعالى، وبذلك يكون أمة وقدوة للناس. وجماع الخير كله أن يحرص الإنسان على ذكر الله عز وجل بالوارد الذي دلت عليه نصوص الكتاب ونصوص السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يدع ما سوى ذلك، فإذا ذكر الله بالوارد عظم أجره وثقل ميزانه. والله تعالى أعلم. الوقت المفضل لأذكار المساء السؤال ما هو الوقت المفضل لأذكار المساء؟ أيكون بعد صلاة العصر أم بعد المغرب؟ الجواب هذا فيه تفصيل، ما ورد مقيدا من الأذكار يقيد، منه ما يكون بعد أذان المغرب بدخول الليل، كقوله عليه الصلاة والسلام: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) ، فقوله: (في ليلة) لا يتحقق قبل أذان المغرب، وإنما يتحقق بعد أذان المغرب مباشرة؛ لأن الليل يدخل بعد الأذان. فهذا من أذكار المساء المقيدة بالغروب. وهكذا ما ورد من الأحاديث الأخر التي تكون بعد غروب الشمس، كقوله: (اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك، أسألك أن تغفر لي) ، فهذا مقيد. وما كان مقيدا بصلاة المغرب لا يصح قبل صلاة المغرب، ولا يصح قبل غروب الشمس، مثل: التهليل عشر مرات قبل أن يثني رجله وقبل أن يكلم غيره، وقول: (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) سبع مرات، قبل أن يثني رجله وقبل أن يكلم غيره. فهذا مقيد. أما بعد صلاة العصر، فالتهليل عشر مرات عقب الصلاة مباشرة؛ لثبوت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فيهلل عشر مرات، مثل ما ذكرنا في صفة المغرب. ويبقى هذا الوقت ما بين العصر وما بين غروب الشمس وقتا لأذكار المساء: (اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا) ، وكذلك التسبيح وقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) مائة مرة، ناويا بها المساء؛ لأن المساء يكون بعد صلاة العصر، وهكذا (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ، وغيرها من الأذكار المطلقة في المساء تكون بعد صلاة العصر، ويمكن أن تكون قبل غروب الشمس. وأما ما ورد من تلاوة المعوذتين و (قل هو الله أحد) فإنه يكون بعد دخول المغرب في اختيار بعض العلماء رحمهم الله كما في حديث عبد الله بن عبيد رضي الله عنه وأرضاه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (قل. قلت: ما أقول؟ قال: (( قل هو الله أحد )) والمعوذتين إذا أمسيت وأصبحت، تكفيك من كل شر). فهذا فضل عظيم؛ ولكن بعض أهل العلم استحبوا أن يكون بعد غروب الشمس وقبل الصلاة. والله تعالى أعلم.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (396) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - باب الهبة والعطية [3] مما يعزز ترابط الحياة الأسرية عدل الآباء والأمهات بين أولادهما في كلا الجانبين المادي والمعنوي، وقد دلت نصوص الشريعة على وجوب العدل والتسوية بين الأولاد في العطايا ونحوها. وهناك أحكام خاصة بهذه المسألة، منها: كيفية العدل بين الذكور والإناث، وحكم رجوع الوالد عن هبته لابنه، وغيرها من المسائل المذكورة هنا. الأحكام المتعلقة بعطية الأولاد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يجب التعديل في عطية أولاده على قدر إرثهم] . شرع المصنف رحمه الله في بيان الأحكام المتعلقة بعطية الأولاد، وقد وردت نصوص الشريعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام عطية الأولاد، وهذه المسألة تعتبر من أهم المسائل نظرا لعموم البلوى بها، وكثرة حاجة الناس إلى معرفة أحكامها، وقد جرت عادة العلماء والأئمة والفقهاء أن يذكروا أحكام هذه المسألة في كتب الحديث والفقه؛ ففي كتب الحديث تذكر في باب الهبة، ويعتني العلماء رحمهم الله ببيان مسائلها في أحاديث الهبات، كما هو صنيع أئمة الحديث وأصحاب السنن رحمهم الله، وأما الفقهاء فإنهم يذكرون أحكامها ومسائلها في باب العطية والهبة. حكم رجوع الواهب عن هبته قال رحمه الله: (ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة) . يحرم على من وهب غيره أن يرجع في تلك الهبة، أما الدليل على التحريم فما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يأكل قيئه) ، وعند علماء الأصول رحمهم الله قواعد أو أسباب يستدل بها على التحريم، قالوا: ومما يدل على تحريم الشيء وصفه بأشنع الصفات التي لا تجيزها الشريعة ولا ترضى بها، فضرب المثل بالكلب -والعياذ بالله- من أسوأ ما يكون، وإذا كان ليس لنا مثل السوء فمعناه: أن من فعل هذا الفعل فليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وليس على شريعته، وليس على سنته صلوات الله وسلامه عليه، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن أكثر من خرج عن هديه وسنته بهذا الأسلوب، فهو بدل أن يقول: يحرم الرجوع في العطية، جاء بهذه الكلمات: (ليس لنا مثل السوء) . وهذا -كما يسميه العلماء- من الأساليب المؤثرة، وينبغي للداعية والواعظ والمعلم والموجه والمربي أن يختار بعض الكلمات المؤثرة، شريطة ألا تشتمل على الغرور، وألا تشتمل على الخروج عن السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما كان يقول: أيها الناس! لا يجوز الرجوع في الهبة، أو يحرم الرجوع في الهبة، لكنه جاء بهذا الأسلوب النبوي الكريم: (ليس لنا مثل السوء) ، فاقشعرت الأبدان ووجلت القلوب ما هو مثل السوء الذي سيذكر؟ وما هو الفعل الذي استوجب أن يوصف بهذه الصفة المذمومة الممقوتة التي تنفر منها النفوس، ولا ترضاها الطباع السليمة؟ قال: (العائد في هبته كالكلب) ، فشبهه بالكلب، ثم قال: (يقيء ثم يأكل قيئه) ، فوصفه بهذه الصفة، يقول بعض العلماء: نستدل بصدر هذا الحديث على تحريم الرجوع، ونستدل بالتمثيل بقوله: (كالكلب يقيء ثم يأكل قيئه) وأكل الإنسان لقيئه فضلا عن الكلب محرم عليه؛ لأن القيء نجس، فإذا كان نجسا فمعناه: أن الرجوع اشتمل على محرم، وعلى هذا قالوا: لا يجوز للمسلم أن يرجع في هبته. ويرد السؤال ما هي الحكم التي يمكن أن تستفاد من هذا التحريم؟ يقال: إن هناك حكما عظيمة؛ لأن الشريعة شرعت الهبة كسبا لمودة القلوب، وإذا أعطى الهبة والعطية والهدية ورجع فيها؛ كان هذا من أبلغ ما يكون جرحا للنفوس وإيلاما لها، فإن الإنسان إذا فرح بالعطية ثم يفاجئ بصاحبها يقول: أعطني ما وهبتك؛ فقد أذله وأهانه، وربما أشعره أن قلبه قد تغير عليه بهذا، وأن منزلته قد سقطت، وأن هناك أمرا ما قد بلغه عنه استوجب تغيير الإحسان إلى الإساءة بأخذ هذه الهبة والعطية التي أعطاه إياها. ثم إن هذه الصفة ليست من صفات الكرام؛ بل هي من صفات اللئام، فإن اللئيم -والعياذ بالله- هو الذي يرجع في هبته؛ لأن الكريم لا يرجع في هبته أبدا، ويختار أن يموت ولا أن يقول لرجل: أعطني ما وهبتك، فالكريم لا يرضى بهذا؛ لأن النفوس الطيبة والمعادن الكريمة الأصيلة مجبولة على الرحمة، وإذا نظر إلى أن أخذ هذه الهبة سيجرح أخاه ويؤلمه؛ اختار أن يجرح بما ينزل عليه من المصائب والمتاعب، ولا أن يمس مشاعر أخيه، فيوصف بكونه راجعا في هبته وعطيته. وللسلف الصالح رحمهم الله قصص عجيبة في هذا، وللفضلاء والأخيار على مر العصور والدهور مواقف كريمة في هذا، فلا يرجع الكريم في عطيته، ولا يرجع في هبته، والمسلم الصالح إذا حدثته نفسه بالرجوع وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم منعه من ذلك وبين له أنه لا يجوز؛ فإنه لن يرجع مهما كلفه ذلك الأمر، ثم يرضى بالله عز وجل عوضا عن كل فائت. فمن استغنى بالله عز وجل ورضي بحكم الله واطمأن أن الله سيخلف عليه؛ فإن الله سيعود عليه بكل خير، وقد حدث بعض العلماء رحمهم الله فقال: ما وجدت أعجب من موقف أحسن فيه بصدقة أو هبة أو هدية، فيحدث عندي الظرف القاهر المؤلم، يقول: حتى لولدي، مع أنه يحل للوالد أن يرجع في هبته لولده، ولكنه يقول: مع ذلك كان من أعظم وأصعب المواقف علي، فأمتنع من الرجوع إلا وجدت خلف الله علي بأحسن الخلف، مما يعوضه علي في ديني أو دنياي أو أهلي أو مالي أو ولدي. فلذلك ينبغي على المسلم دائما أن يسمو بنفسه إلى الكمالات، وأن يربأ بنفسه عن هذه الأمور التي نفر منها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها، وبين أنها ليست على سنته وهديه. وقد بين المصنف رحمه الله أنه لا يجوز الرجوع في الهبة ما لم يقبض الموهوب له الهبة، وقد بينا هذا بحيث لو قلت لشخص: سأعطيك عشرة أو مائة، وطرأت عندك ظروف جعلتك لا تستطيع أن تعطيه، وقد تقول له: إن شاء الله في السنة القادمة إذا أتيت إلي سأحل لك هذا الموضوع، وأنت تظن أن الأمور والأحوال طيبة، وقدر الله عز وجل أن تغيرت الظروف، فتشرح له ظروفك، والله عز وجل يقول: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91] ، فإذا طرأت عليك الظروف القاهرة التي لا تستطيع أن تمضي هبتك وهديتك، فما دام أنه لم يقبض؛ فمن حقك أن ترجع، ولا يملك هو الهبة إلا بقبضها، أما وقد قبض الهبة وأخذها؛ فإنه يحرم عليك الرجوع؛ لأنه يملكها بالقبض، كما قدمنا وبينا. حكم رجوع الأب عن هبته لولده قال رحمه الله: (إلا الأب) أي: إلا الأب فإن له الرجوع في عطيته لولده من ابن أو بنت، فلو أعطى الوالد ابنه سيارة ثم رجع عنها، أو أعطاه -مثلا- أرضا ثم رجع عنها؛ كان من حقه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث السنن: (لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها، إلا الوالد مع ولده) ، وفي رواية (إلا الأب مع ولده) ، وهذا الحديث حسنه غير واحد من العلماء، وهو حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على أن من حق الوالد أن يرجع في عطيته مع أولاده. لكن ينبغي التنبيه على مسألة وهي: أن الوالد يجوز له الرجوع في عطيته لولده لعدة أمور: أولا: أن الولد مع الوالد كالشيء الواحد، وقد بين هذا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين لما بلغه أن عليا يريد أن يتزوج ابنة أبي جهل، وفهم عليه الصلاة والسلام أن هذا الأمر فيه نوع من الإغاضة والأذية لبنته وله عليه الصلاة والسلام، فرقى المنبر وقال: (والله لا آذن، والله لا آذن، والله لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله) . فالشاهد في قوله: (إنما فاطمة بضعة مني) ، والبضعة من الشيء القطعة منه، فإذا كان يريد أن يرجع فكأنه يرجع في ماله هو، ولذلك فلا يجوز للوالد أن يعطي زكاته لولده، ولا يجوز للولد أن يعطي زكاته لوالده؛ لأن الوالد والولد كالشيء الواحد، وإذا ثبت هذا فالأب دلت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه مستثنى، فمن حق الوالد أن يرجع. ثانيا: أن المحبة التي يكنها الابن لأبيه والبنت لأبيها لا يمكن أن تغيرها مثل هذه الأمور الدنيوية، خاصة مع عظيم الإحسان والفضل في سالف الزمن من الوالدين على الولد من النعمة العظيمة والمنة الجليلة الكريمة، التي لا يمكن أن يدخل معها الشك وسوء الظن، فانظر إلى حكمة الشريعة حينما تحرم الشيء لأسباب، فإذا زالت الأسباب؛ حكمت بحله. ولذلك قال العلماء رحمهم الله: يجوز للأب أن يرجع في عطيته لابنه وبنته، ويكاد يكون الإجماع بين العلماء على ذلك. وهناك قول ضعيف وشاذ -خاصة أنه يخالف السنة، والحديث واضح في هذا- يقول: ليس من حق الوالد أن يرجع في عطيته لولده، ويفصل في المنع، لكن الصحيح ما ذكرناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الرجوع، لكن السؤال هل الجد والأم ينزلان منزلة الأب؟ من حيث الأم فوجهان: الوجه الأول: بعض العلماء يقول: إن الأم تنزل منزلة الأب؛ لأن المعاني الموجودة في الأب موجودة في الأم، والمفاسد التي تخشى من الرجوع مدفوعة في الأم أكثر منها في الأب؛ لأن إحسان الأم أعظم من إحسان الأب، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها الأحق بحسن الصحبة، وحقها آكد وأوجب. الوجه الثاني: قال بعض العلماء: الأم ليست كالأب، كما هو رواية عن الإمام أحمد، ولذلك لما سئل عن هذه المسألة فرق بين الأب والأم، وبين أن للأب ولاية على ولده، والأم ليست لها ولاية على الولد، والفرق بين الوالد والوالدة في بعض الأمور التي نص الشرع على التفريق فيها بين الأب والأم يؤكد على أنه يملك الأب الرجوع دون الأم. ولكن من جهة النظر والمعنى يقوى قول من قال: إن الأم تنزل منزلة الأب. أما الجد فقد سماه الله أبا فقال: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج:78] ، وقال: {واتبعت ملة آبائي} [يوسف:38] ، فسمى الجد أبا، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحسن: (إن ابني هذا سيد) ، وهو ابن بنته، وهو عليه الصلاة والسلام جد له، فالجد ينزل منزلة الأب في كثير من أحكام الشريعة. وبناء على ذلك قال طائفة من العلماء رحمهم الله: الجد له الرجوع كما للأب أن يرجع. حكم أخذ الوالد من مال ولده قال رحمه الله: [وله أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه] قوله: (وله) أي: للأب. وقوله: (أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه) ، أما من حيث الحكم بجواز الأخذ من أموال الأولاد فالسنة ثابتة في هذا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه من حديث عائشة في السنن أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، وفي حديث جابر -وقد اختلف في سنده وحسنه بعض العلماء- في قصة الولد مع والده في قضاء الدين قال: (أنت ومالك لأبيك) ، ونظرا لورود السنة بهذا؛ قالوا: للوالد أن يأخذ ويتملك من مال ولده، لكن بشرط ألا يكون هذا الأخذ فيه ضرر على الولد، وألا يكون الولد محتاجا لهذا المال المأخوذ. فالزائد عن حاجة الولد لا بأس للوالد بأخذه، فلو كان الولد عنده خمسون ريالا هي مصاريفه لطعامه وولده، وجاء الوالد يريد أن يأخذها، والولد محتاج إليها، فلا يقال: إن من حق الوالد أن يأخذها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وبمن تعول) ، وقد جعل إعالته لنفسه في هذا مقدمة على إعالة الغير. فإذا ثبت هذا فلا يأخذ ما يضره ويحتاج إليه، ويكون أخذ الوالد بالمعروف، فإذا قلنا: إنه يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده، فيأخذ بالمعروف، وهذا أصل في الشريعة أنها إذا أجازت أخذ الحق، فأخذه يكون بالمعروف، ولذلك هند رضي الله عنها لما اشتكت زوجها أنه قصر في نفقتها كما في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فللوالد أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره وما لا يحتاج إليه. ومن الأسباب التي يضع الله بها البركة في مال الإنسان، وليس هناك سبب بعد طاعة الله عز وجل وأداء حق المال من الزكوات والصدقات، ليس هناك أعظم من بر الوالدين، فالله يضع به البركة في المال، ويجعله سببا في حسن عاقبة الإنسان في ماله، ولا يأخذ الوالد من مال ولده إلا تأذن الله لذلك الولد بالخير والحسنى في ماله، مع ما ينتظره عند الله من عظيم الأجر. والقصص في هذا كثيرة، وقد ذكر عن بعض من نعرف من المتأخرين أنه كان من أغنى الناس، وكان إذا اشترى أرضا أو دارا أو شيئا وأعجب والده، جاء والده وقال: يا بني! اكتب هذا باسمي، فلا يمكن أن يراجعه بكلمة، بل يكتبه مباشرة باسمه، حتى وضع الله له البركة والخير، فأقر الله عينه في المال والولد، فما من شيء يبارك الله فيه مثل بر الوالدين. والأحوال في الإحسان للوالدين مختلفة، فالذي يعطي والديه قبل أن يسألاه، والذي يعطي الوالدين في أحلك وأشد الظروف، والذي يراقب الوالدين بحيث لا يجعلهما في حاجة إلى أحد بعد الله سبحانه وتعالى غيره، ويبادلهما بالعطية قبل أن يسألاه، فهذا من خير المنازل عند الله عز وجل، ولا يوفق لذلك إلا الموفق، حتى إن الإنسان يصل رحمه فينسأ له في أثره، ويزاد له في عمره، وهذا في الرحم، فما بالك ببر الوالدين! وقد ذكروا عن بعضهم أنه عمر فوق المائة والثلاثين سنة، حتى سقط حاجباه وهو متماسك ويمشي بقوته، لكنه لا يصبح حتى يذهب إلى آخر خيمة من قرابته ورحمه، وقبل أن يفطر الناس يسقيهم اللبن، فكان يقول: ما زالت الصدقة تبارك لنا في أعمارنا حتى مللنا العيش. فكيف ببر الوالدين! خاصة في حاجتهم إلى الطعام أو الكساء أو الدابة والسيارة والركوب، أو الخدمة أو العلاج والدواء، أو الحاجة إلى السفر لمصلحة ولقضاء حاجة، فلا يستوجب الإنسان الرحمة والخير من الله سبحانه وتعالى بشيء بعد توحيده مثل بر الوالدين. فإذا ثبت هذا فعلى الإنسان دائما أن يحرص على الكمالات، وأن يعلم أنه لا خير في هذا المال ما لم يتق الله عز وجل فيه، ومهما أعطي من الأموال فإن المال لا قيمة له إلا أن يكون في طاعة الله عز وجل، فيكون سببا في سعادة العبد، ومن ظن أن المال المحض سبب في سعادته حتى يمنع والده منه، ويصبح المال أعز عليه من والده؛ فهذا من شر المنازل عند الله، ولو كان المال سببا في السعادة لكان أسعد الناس قارون، الذي أوتي الكنوز التي كانت تنوء العصبة أولو القوة بحمل مفاتيح الخزائن التي كان فيها هذا المال والخير، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. فالمال لا يأتي بالسعادة إلا إذا ابتغي به وجه الله، فيأتي بسعادة الدين والدنيا والآخرة، فيتأذن الله سبحانه وتعالى لصاحبه برضاه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصدقة والإحسان بالمال يحجب العبد عن سيئته المتقدمة والمتأخرة، ففي الصحيحين أنه قام عليه الصلاة والسلام في غزوة العسرة، فسأل الناس أن ينفقوا في سبيل الله، فجاء عثمان رضي الله عنه وصب الذهب، ثم قام عليه الصلاة والسلام مرة ثانية، فذهب عثمان مرة ثانية وصب الفضة في حجره، فأخذ عليه الصلاة والسلام يقلب الذهب والفضة ويقول: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) لا ما تقدم ولا ما تأخر. فانظر كيف وهب الله لـ عثمان المال فكان سببا في سعادته في الإنفاق في الجهاد، والجهاد بعد بر الوالدين، فإذا كان عثمان قد أنفق هذا المال في الجهاد وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل البر مقدما على الجهاد، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) . فإذا أنفق ماله في بر والديه فأجره أعظم، ولا شك أن الوالد إذا نظرت ولمست منه الحاجة إلى المال والمساعدة والمعونة، فلا تقف مكتوف اليد، ومن أسوأ ما يكون أن الوالد يحتاج ويقف في مواقف عصيبة، فيأتي لولده ويذل نفسه لولده ويقول: يا بني! أنا محتاج إلى مال، أحتاج إلى كذا وكذا، فيقول: والله ما عندي يا أبت، والله يشهد من فوق سبع سموات أن عنده المال، وأن المال زائد عن حاجته. فهذا والله إذا أردت أن ترى محروما؛ فانظر إلى هذا المحروم من بر والديه، وهذا من العقوق إنسان قادر على أن يفرج كربة والده -بعد الله سبحانه وتعالى- أو والدته ويقف مكتوف اليد تحت إغراء نفس أمارة بالسوء، وشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء والمنكر، وزوجة تثبطه عن بر الوالدين وتخذله، وولد مجبنة مبخلة، يؤثر بذلك كله على الإحسان الوالدين وإسداء المعروف إليها، مع أن لهم على الإنسان دينا ما وفاه، وجميلا ما كافأه، فلا شك أن هذا من أعظم الحرمان. فالإنسان يحرص إذا كان يريد مراتب الكمالات أن يجعل لوالديه حظا من راتبه، ويجعل لوالديه حظا من الخير الذي يأتيه إذا جاءه، وقد كان البعض إذا جاءته أي هدية أول من يأخذ وأول من يقسم له وأول من يستمتع بهذه الهدية والداه، وهذا لا شك أنه من أعظم التوفيق من الله سبحانه وتعالى للعبد، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل. حكم مساواة الذكر والأنثى في العطية قوله: (يجب التعديل) هذا الوجوب يشمل الوالدين الأب والأم. وقوله: (في عطية أولاده) الأولاد هنا يشمل الذكر والأنثى، فيسوي بين الذكر والأنثى، فكما أعطى الذكر يعطي الأنثى، لكن هناك فرق بين التسوية في مطلق العطية وبين التسوية في قدر العطية، فكما أعطى الذكر يعطي الأنثى، لكن القدر الذي أعطاه للذكر يكون مثل حظ الأنثيين؛ لأنها قسمة الله من فوق سبع سموات. ولذلك قال رحمه الله: (على قدر إرثهم) ، فجعل للذكر ضعف ما للأنثى، وهذا استحبه جماهير العلماء رحمهم الله والأئمة والسلف، ومنهم من قال: إنه هو الأصل؛ لأن العدل الذي قامت عليه السموات والأرض قسمة الله التي تولاها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبهديه، وهو هنا تفضيل الذكر على الأنثى، ونصوص الكتاب والسنة كلها دالة على هذا. ولا يستطيع أحد أن يرد شيئا حكم الله به من فوق سبع سموات، فقد خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم خلق حواء من بعد ذلك من آدم، وفرق بين تكريم آدم بالنفخ بالروح وسجود الملائكة له وتشريفه وتكريمه بهذا الفضل العظيم، ثم جعل خلق الأنثى تبعا للذكر بقوله سبحانه: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف:189] ، فهي تبع للرجل، وهي نصوص لا يمكن للإنسان أن يرد فيها حكم الله أو أمر الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات، فلا يستطيع الفقير أن يقول: لم جعلني ربي فقيرا؟ ولا يستطيع الغني أن يقول: لم جعلني ربي أتعذب بغناي؟ فإن هذا حكم الله {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص:68] . فلذلك وجد التفضيل من حيث الخلق والقدرة وصفة الخلق، وكذلك من حيث التكاليف الشرعية، حتى جعل النبوة في الرجال ولم يجعلها في النساء، فالتفضيل من حيث الحقوق والواجبات والتكاليف لا يمكن لأحد أن يكابر فيها، والنصوص الشرعية واضحة فيه. وإذا ثبت هذا فالعدل أن يجعل ما للذكر ضعف ما للأنثى، هذا هو حكم الله سبحانه وتعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] ، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الأنثى تستحق أكثر مما أعطاها الله سبحانه وتعالى؛ فهذه قسمة الله من فوق سبع سموات، وهذا حكمه، وهذا شرعه {والله يحكم لا معقب لحكمه} [الرعد:41] و {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء:23] سبحانه وتعالى علوا عظيما. فقوله رحمه الله: (على قدر إرثهم) إشارة إلى ما ذكرناه من أنه يجعل للذكر ضعف ما للأنثى. الواجب على من فضل بعض أولاده على بعض في العطية قال رحمه الله: [فإن فضل سوى برجوع أو زيادة] . الفاء للتفريع، فإذا علمت أنه يجب على الوالد أن يسوي بين أولاده في عطيتهم، فيعطي للذكر ضعف ما يعطيه للأنثى، فإنه إذا اختل ذلك فإنه يجب عليه أن يرجع إلى الأصل، فلو أعطى بعضهم ولم يعط البعض الآخر، قلنا له: يجب عليك أن تعطي من حرمت؛ لأن الله عز وجل أوجب عليك العدل، فإما أن تعطي المحروم أو ترجع عن عطيتك لذلك الولد. مثال ذلك: رجل له ثلاثة من الأولاد، فأعطى أحدهم ولم يعط الآخرين، ولم تكن العطية لسبب خاص كما سيأتي، فأعطى أحدهم سيارة وهناك أخوان لم يعطهما شيئا، فنقول له: إما أن تعطي الأخوين سيارة مثل هذه السيارة في قيمتها وقدرها وصفاتها وفضلها، وإما أن تسحب السيارة التي أعطيتها لهذا المفضل، فإما أن تعطيهم جميعا أو تحرمهم جميعا. هذا هو ما نص عليه رحمه الله تحقيقا للأصل الذي أمر الله عز وجل به من العدل؛ لأن العدل لا يتحقق إلا بهذا، إما أن يعطيهم جميعا فيعدل ويسوي، أو يحرمهم جميعا فيعدل ويسوي. حكم إنفاذ عطية من لم يعدل إذا مات قال رحمه الله: [فإن مات قبله ثبتت] أي: فإن مات قبل أن يرجع، مثال ذلك: لو أن رجلا أعطى أحد أبنائه الذكور أرضا، ثم توفي قبل أن يعطي أخويه الباقيين مثلما أعطى أخاهم، فتوفي قبل أن يرجع وقبل أن يسوي ويعطي الآخرين مثله، فالسؤال حينئذ: إذا كان الذي أعطيت له الأرض قبضها وحازها وتمت الهبة؛ فحينئذ تثبت هذه الهبة، ويلقى هذا الوالد ربه بمظلمة الأخوين، فيلقى الله سبحانه وتعالى بهذا، فإن سامحه ولداه فهما مجزيان خيرا، والله يخلفهما خيرا، وإن أرادا حقهما؛ فإنه مسئول عن هذا الحق، إما أن يعطيهم جميعا أو يحرمهم جميعا. فإذا أدركته ساعته وقبضت روحه -نسأل الله السلامة والعافية- قبل العدل وقبل الرجوع، فإنه حينئذ تثبت العطية، ويملك هذا الولد ما أعطاه والده، والأفضل برا لوالده وإدراكا لحق أخويه أن يستسمح أخويه أو يرضيهما حتى لا تكون على والده تبعة ومسئولية مما فعل. أدلة وجوب التسوية في العطية بين الأولاد قال المصنف رحمه الله: (يجب التعديل في عطية أولاده) بين رحمه الله في هذه الجملة أنه يجب على الوالد أن يسوي ويعدل في عطيته لأولاده. قوله: (ويجب) الواجب: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه. وبناء على هذه العبارة فإنه يلزم الوالد إذا أعطى أحد أولاده أن يعطي البقية، والدليل على ذلك عدة نصوص وردت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبسبب هذه النصوص ذهب طائفة من العلماء كما هو مذهب الإمام أحمد في رواية عنه، وكذلك داود الظاهري وإسحاق بن راهويه وطاوس بن كيسان وغيرهم من أئمة السلف رحمهم الله برحمته الواسعة إلى أنه على الوالد والوالدة أن يعدلوا بين أولادهم، ولا يفضلوا بعض الأولاد على بعض، إلا في أحوال مستثناة ومسائل معينة سنذكرها إن شاء الله تعالى. والجمهور يقولون: لا يجب، إنما يستحب، والأفضل والأكمل إذا كان لك أولاد أن تسوي بينهم في العطية، لكنه ليس بلازم عليك. واستدل من قال بالوجوب بدليل الكتاب والسنة: أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل:90] ، والعدل يكون في رعية الإنسان، والأبناء والبنات رعية كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فيجب على الوالد أن يعدل بينهم؛ لأن الله أمر بهذا العدل، فلو فضل الوالد أحد أولاده على غيره من إخوانه وأخواته، فإن هذا ليس بالعدل. والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير قال: (إني لا أشهد على جور) ، فجعل تفضيل بعض الولد على بعض من الجور، والله يقول: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل:90] ، فإذا كان العدل واجبا مأمورا به فضده الجور والظلم، وهو منهي عنه شرعا، فإذا دلت السنة على أن تفضيل بعض الولد على بعض ليس من العدل؛ كان ذلك دليلا على أنه تجب المساواة في العطية بين الأولاد، كما هو مذهب من ذكرنا من العلماء رحمهم الله. أما الدليل الثاني: فحديث النعمان بن بشير رضي الله عنها، وله قصة ثابتة في الصحيحين؛ (أن أمه عمرة بنت رواحة رضي الله عنها سألت أباه أن يعطيه عطية، فأعطاه عطية، وقالت له: أشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق والده بشير رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله أن يشهد على عطيته لولده، فقال صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا. قال: اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم) ، وفي رواية: (أشهد على هذا غيري) ، وفي رواية: (سووا بين أولادكم) ، وفي رواية: (إني لا أشهد على جور) ، فهذا كله يدل دلالة واضحة على أنه يجب على الوالد أن يسوي في عطيته وهبته بين أولاده، وألا يفضل أحدا منهم على الآخرين. ومن خلال هذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال هؤلاء الأئمة: يجب على الوالد أن يعدل، فهو واجب وفرض عليه، ثم إن العقل يدل على ما دل عليه النقل، فإن الشريعة قامت على جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد شرعت العطية زيادة في المحبة وطلبا للقربة والمودة، فإذا كانت العطية لبعض الولد دون بعض توجب الشحناء والبغضاء وإغارة صدور بعضهم على بعض، كان هذا من أعظم المفاسد والشرور؛ لأن من أعظم ما يكون من الشر قطيعة الرحم، وهي بذلك تقطع أواصر المحبة بين أولى الناس بالمحبة، فغن أولى الناس بالمحبة والألفة هم الإخوة والأخوات. وتشهد بهذا أيضا أصول الشريعة، كما في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته الأسباط {قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين} [يوسف:8] ، ولذلك قال الله تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى} [يوسف:111] ، فالله عز وجل جعلها عبرة لكل والد مع ولده؛ نبهه بها على مشاعر أولاده، ونبهه على ما يكون في نفس ولده من الألم والشجى والحزن إذا فضل أخاه عليه، أو فضل أخته عليه. ومن هنا نقول: إن النقل والعقل دالان على وجوب التعديل وعدم جواز التفضيل، إلا إذا وجد المبرر الشرعي لذلك التفضيل. وذهب الجمهور إلى أنه ليس بواجب، فهم يقولون: نحن نسلم بهذا الحديث، ونسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا) ، وهذا أمر، والأمر للوجوب، لكن لما جاءت زيادة في الرواية وهي ثابتة وصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ناقش بشيرا فقال له: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟) أي: هل يسرك أن يكونوا بارين لك برا واحدا، فلا يمتنع بعضهم عن البر؟ قالوا: فالسؤال بمثابة التنبيه على العلة والتي من أجلها أمر بالمساواة، فالعلة هي كما أنه يحب أن يكونوا له في البر سواء، فينبغي أن تكون عطيته لهم سواء، وألا يفضل بعضهم على بعض، قالوا: فنصرف النص من ظاهره الموجب للوجوب إلى الندب والاستحباب. والقول بالوجوب -كما اختاره المصنف رحمه الله- هو أولى القولين بالصواب إن شاء الله تعالى، فيجب على الوالد والوالدة أن يسووا بين أولادهم في العطية، وألا يفضلوا أحدا على أحد، حتى كان السلف الصالح رحمهم الله من أشد الناس في هذا، فقد كانوا يسوون بين الأولاد حتى في القبلة، فلو قبل ولدا بجوار أخيه قبل أخاه معه، ولا يفضل ولدا على ولد، خشية أن يقع بينهم ما يكون موجبا لدخول الشيطان على القلوب فيفسدها ويقطع أواصر المحبة بين الأقارب.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة حكم الرجوع في الشيء لاختلاف كونه دينا أو هبة السؤال رجل وهب والده مبلغا من المال، والآن يطالبه عند القضاء بإرجاع ماله، فلو أقر الوالد بأنه أخذ من ولده مالا، وحصل الخلاف في كونه هبة أو دينا فما الحكم؟ الجواب المخرج هو الصدق، قال أحدهم: يا بني! اصدق حيث تظن أن الصدق يضرك؛ فإنه لا يضرك بل ينفعك، ولا تكذب حيث تظن أن الكذب ينفعك؛ فإنه لا ينفعك بل يضرك. لكن لو رفع إلى القضاء وأقر أنه أخذ هذه الهبة وقبضها، فالقاضي يقضي بثبوت الهبة، وإذا ثبتت الهبة فلا يملك الرجوع فيها، على تفصيل عند العلماء، وهذا يختلف بحسب اختلاف ما يرجحه القاضي. وبعض العلماء يرى أن الهبة والهدية إذا أعطيت لزمت ولا يملك أحد الرجوع فيها؛ لأن النص فيها واضح، وبين فيها النبي صلى الله عليه وسلم حرمة هذا الفعل، وبناء على ذلك قالوا: لا يملك أن يرجع، وقال بعض العلماء: له الحق أن يرجع ويأثم بالرجوع، لكن من حقه أن يأخذ المال، وهذا يختلف بحسب اختلاف ما يرجحه القاضي في هذه المسألة. والله تعالى أعلم. الفرق بين الإتمام والقضاء للمسبوق في الصلاة السؤال إذا أدركت الركعة الثالثة والرابعة مع الإمام، فهل تكون في حكم وهيئة الأولى والثانية بالنسبة لي من حيث قراءة الفاتحة وسورة؟ الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يقول: ما أدركت مع الإمام فاعتبره أول صلاتك، فإذا أدركت الركعتين الأخيرتين فتقرأ بعد الفاتحة سورة، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ فيهما بعد الفاتحة سورة الإخلاص، وبعض العلماء يقول: بل صلاتك مع الإمام هي الأخيرة؛ لأنك ستقضي ما فاتك، والصحيح أنه إذا سلم الإمام فيتم ولا يقضي، وبناء على ذلك تكون صلاته مع الإمام هي الأولى. وعلى هذا فإن الأولى والأقوى أنه يعتبرها أول صلاته، فيقرأ الفاتحة ويقرأ بعدها سورة. والله تعالى أعلم. وجوب شكر الله تعالى على نعمه السؤال إذا كانت النعم تتوالى على العبد ولا يحدث لها شكرا، فهل هذا استدراج من الله؟ الجواب إن شكر الله سبحانه وتعالى على نعمه من أعظم الأسباب التي توجب محبة الله للعبد، ولذلك أثنى الله من فوق سبع سماوات على عبده نوح، فقال: {إنه كان عبدا شكورا} [الإسراء:3] ، وأخبر سبحانه وتعالى عن عظيم فضل الشكر، وأنه من ذكره سبحانه وتعالى، ومن عبادته وطاعته وتوحيده، بل وأحب الله الشكر وأحب الشاكرين، وتأذن بالمزيد لأهله {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7] ، وتأذن بوضع البركة لعبده، فما من عبد يشكر الله في نعمة إلا بارك الله له فيها. وأحب الله الشكر؛ لأنه إقرار واعتراف بفضله سبحانه، ومدح وثناء وتمجيد لله عز وجل، والله يحب المدح ويحب أن يثنى عليه سبحانه بالذي هو أهله، وهذا من حقوقه سبحانه على عباده، أنه يشكر سبحانه على ما أسدى وأولى، فالذي يشكر الله وحده يوقن ويؤمن بأن هذه النعمة والفضل كله لله سبحانه وتعالى، ومن أعظم مقامات العبودية أن يستشعر العبد نعمة الله جل جلاله عليه. ولذلك لما رأى سليمان عليه السلام عرش بلقيس ما قال: انظروا كيف أصبحنا! انظروا كيف أصبحت المسافات البعيدة قريبة إلينا! أو تقدمنا أو تطورنا، أو كذا إنما رجف قلبه لله سبحانه وتعالى، وكان أول ما نطق به {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} [النمل:40] ، أي: ليس بحولي ولا بقوتي، ولكن بفضل الله وحده لا شريك له. فهنيئا ثم هنيئا لكل عبد شاكر، إذا دخل إلى بيته فرأى الأمن والأمان في أهله وولده قال: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} [النمل:40] اللهم لك الحمد، اللهم لك الشكر هنيئا لعبد إذا أنعم الله عليه بالعافية فنظر إلى مريض أو سقيم قال في قرارة قلبه وبلسانه مناجيا ربه: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} [النمل:40] ، هنيئا لعبد شاكر لن تمضي عليه طرفة عين إلا وهو متفكر متدبر في نعم الله وآلاء الله التي تترى عليه صباح مساء، فإن هذه المنن والنعم والخير هي رزق من الله وحده لا شريك له. والشكر طريق الخير والبركة للعبد في الدنيا والآخرة، وأسعد الناس في هذه الدنيا هو من شكر الله؛ لأن الله لا يعطي الشكر إلا لأصلح عباده، ولا تجد عبدا شكورا إلا وجدته صالحا؛ لأن الإنسان لا يعطى نعمة الله سبحانه وتعالى إلا بفضل من الله سبحانه وتعالى، والله أعلم حيث يضع فضله {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [المائدة:54] . ومن الشكر أن يشكر العبد ربه على أعظم النعم وأجلها وهي نعمة الإسلام، فنحمد لله الذي لم يجعل سجودنا لحجر ولا لشجر ولا لبقر ولا قبر، ولم يجعلنا نعتقد فيما سواه سبحانه، بل جعل قلوبنا له وحده لا شريك له، فهذه أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عبده، وأعظم منة يمتن بها سبحانه علينا {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} [الحجرات:17] ، ولا نعمة فوق هذه النعمة، فمن أعظم الشكر أن تستشعر هذه النعمة العظيمة، وتقول: اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام. وقف عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه على الصفا فقال: اللهم إنك قلت في كتابك: {ادعوني أستجب لكم} [غافر:60] اللهم كما وهبتني نعمة الإسلام؛ فلا تسلبها مني حتى تتوفاني عليها وأنت عني راض. فانظر إلى هذا الصحابي الجليل لما أعظم نعمة الله عليه بالإسلام؛ شكر الله عليها، وانظروا إلى عباد القبور والأشجار والأحجار والأبقار {يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد * يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير} [الحج:12 - 13] . وتصور لو أن الإنسان -والعياذ بالله- في بيئة تعكف على هذه الأصنام والأوثان، كيف سيكون حاله؟! فاللهم لك الحمد على نعمة الإسلام، وقد فضل الله هذه النعمة وزادها أن جعلك في خير الأديان وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، فجعلك من أتباع خير رسله وأفضل رسله، صلوات الله وسلامه عليه. ومما زادني شرفا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي في ندائك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فلم يعطك نعمة التوحيد فقط، بل وجعل شريعتك أفضل الشرائع التي تتبعها وتسير على نهجها وتهتدي بهدي نبيها صلوات الله وسلامه عليه، فمن الشكر أن تستمسك بالسنة، وأن تستمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تمتثل لهذا الهدي، وأن تحب كل شيء يدعوك إليه، من العلماء العاملين والمتمسكين بالسنة من السلف الصالح لهذه الأمة والتابعين لهم بإحسان، فتحبهم وتشهد مجالسهم، وتدعو لهم بخير، شكرا لله على نعمه. ومن أعظم النعم التي أنعم الله عز وجل عليك بها: نعمة وجود الرغبة في العلم وطلب العلم وتيسير ذلك، فكم من مريض على الفراش أو على الأسرة يتمنى أن يجلس في مجالس العلم، وكم من جاهل في بادية أو جبل أو نجد أو وهد يتمنى أنه جالس بين يدي العالم، فقل: الحمد لله على فضله ومنه وكرمه أن يتصل سندك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق عالم أخذ العلم عن أهله، فإن هذه نعمة وفضل من الله سبحانه وتعالى. وكذلك أيضا من أعظم النعم التي تستوجب الشكر: نعمة الوالدين، والله يقول: {أن اشكر لي ولوالديك} [لقمان:14] ، فجعل الله شكر الوالدين مقرونا بشكره سبحانه وتعالى، فكلما دخلت على والدك أو والدتك شكرت نعمتهما بعد نعمة الله عز وجل. ولذلك كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته، رحمك الله كما ربيتيني صغيرا، فتقول له: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، رحمك الله كما بررتني كبيرا. فهكذا يكون الإنسان شاكرا لنعمة الله عز وجل عليه. ولذلك أثنى الله على خليله وحبه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، فقال سبحانه: {شاكرا لأنعمه} [النحل:121] ، فجعله أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين، لما أثنى عليه بثناء التوحيد، مع أنه إذا كان حنيفا ولم يكن من المشركين فالحنيفية قائمة على الشكر، ومع ذلك خص الله الشكر بقوله: {شاكرا لأنعمه} [النحل:121] . فالله سبحانه وتعالى جعل الخير كله في الشكر، فيشكر الإنسان ربه، ويعترف أن هذه النعمة من الله وحده لا شريك له، ويعتقد الفضل لأهل الفضل؛ كوالديه، ومن علمه، ومن أسدى إليه معروفا، كما إذا تولى رعايته وهو صغير، كأن ينشأ يتيما، وله أخ قام عليه أو قريب، فمثل هذه الأمور من نعم الدين والدنيا ينبغي شكرها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله) أي: لم يشكر الله شكرا كاملا من لم يشكر الناس، فمن شكر الله أن يشكر الناس؛ لأن الله جعل الناس سببا من أسباب رحمته بعبده، فالله لا يحب نكران الجميل، وكفر النعمة، وجحد الفضل يجلس الإنسان مع والديه ثم يكفر نعمة الوالدين، أو يجلس مع قريبه الذي رباه وقام عليه أو أخوه الأكبر الذي أحسن إليه حتى إذا شب وكبر كأن لم يكن هناك إحسان أو فضل، نسأل الله السلامة والعافية. فمن أسوأ ما يكون من العبد كفره للنعمة ونكرانه للجميل، فلا يجوز للمسلم أن يكون بهذه المنزلة الممقوتة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان) . وكذلك مع العلماء والأئمة والسلف الصالح نقرأ كتبهم ونتعلم وننال فضلهم، ثم بعد ذلك نجلس نسلب هؤلاء العلماء أو نتتبع سقطاتهم وأخطاءهم على سبيل التشنيع بهم، فهذا من كفران النعم، بل نقول: رحمهم الله برحمته الواسعة، وأجزل لهم المثوبة، ونذكرهم بالجميل، ونتحدث بفضلهم ونشيد بمآثرهم، اعترافا بفضلهم وطلبا لرحمة الله سبحانه وتعالى لهم. قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان) ، وقد كان رسول الأمة صلى الله عليه وسلم مع علو منزلته ودرجته يذكر فضل خديجة بعد موتها، ومن أعظم الشكر أن تذكر فضل الإنسان بعد موته وذهابه، فذكر فضل خديجة رضي الله عنها يوما (فقالت عائشة رضي الله عنها: ألم يبدلك الله خيرا منها، ألم تكن عجوزا أبدلك الله خيرا منها، فغضب عليه الصلاة والسلام فقال: لا والله) قسما أقسم به صلوات الله وسلامه عليه، وفاء وبرا وصدقا (لا والله، ما أبدلني الله خيرا منها) ، وقد كان بعض العلماء يستدل به على أن خديجة أفضل من عائشة رضي الله عنها (لا والله، ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كذبني الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني بنفسها ومالها، ما أبدلني الله خيرا منها) . كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه له زوجة قامت على حاله وشأنه، فلما كبر وكبرت؛ جاءه أحد المشايخ من زملائه وقال له: يا شيخ! هلا تزوجت الثانية، فقال: أما أنا فقد أصبحت من الحطمة، ولكن أين الوفاء؟ وحتى لو كانت لي قوة فأين الوفاء؟ وكيف أكسر خاطر زوجتي في آخر حياتي؟ وهذا لا يعني أن نترك التعدد، بل المراد حفظ العهد، فإنه رأى أن زوجته قد ينكسر قلبها وخاطرها بهذا، وقد رزقه الله الولد والذرية. فالشاهد: أن الإنسان يحفظ عهد الزوجة، ويحفظ عهد الأخ والأخت والابن، وكل من أسدى له معروفا يشكر معروفه بعد شكر فضل الله عز وجل عليه بالإحسان وذكر الجميل، وألا يكفر هذه النعمة، فيستبدلها بالإساءة ونحو ذلك، فهذا كله مما لا يحبه الله ويرضاه. ولذلك كان نبي الأمة صلى الله عليه وسلم إمام وقدوة الشاكرين، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقام حتى تفطرت قدماه، فقالت له أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها: (لم تصنع هذا وقد غفر الله لك ما حكم التداوي بما حرم الله عز وجل السؤال ما حكم التداوي بما حرم الله تعالى إذا استعمل كل طريقة للعلاج ولم تنفع، مثل التداوي بشحم الخنزير؟ الجواب اختصارا: لا يجوز التداوي بما حرم الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله لم يجعل شفاء أمتي بما حرم عليها) ، ولذلك فلا يحوز التداوي بشحم الخنزير، ولا يجوز التداوي بأي شيء من الخنزير، وقال بعض العلماء: إنه يجوز التداوي به؛ لقوله سبحانه: {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119] ، لكن هذا محل نظر؛ لأن الحقيقة التي ينبغي أن يتنبه لها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله جعل لكل داء دواء إلا الموت والهرم) ، فلم يجعل لهما دواء كما صح عنه عليه الصلاة والسلام. فإذا ثبت أن لكل داء دواء، فليعلم من يبحث عن الدواء أنه إذا لم يجد دواء فليس العيب في عدم وجدانه، إنما العيب أنه لم يجد طبيبا يعرف الدواء والداء، ولذلك فلا يرخص، وقد يستعجل بعض العلماء ويفتي بأنه مضطر، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ما أنزل من داء إلا وله دواء، عرفه من عرفه وجهله من جهله، فأصبح الخطأ والتقصير في البحث ممن هو حاذق في علاج هذه الأمور. وكثير من الأمور كنا نمنع الناس منها، وهي محرمة، وإذا بنا نتفاجأ بعد مدة برجل يأتي ويقول: الحمد لله اتقيت الله فجعل الله لي فرجا ومخرجا، فإذا بي أجد علاجا في كذا، أو أجد دواء في كذا، فما اتقى الله عبد إلا جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل داء دواء، فالإنسان يحتسب، ويحرص على سؤال أهل الخبرة والعلماء بالطب الحاذقين به، فإن الله سبحانه وتعالى سيلهمه ما هو أنجع وأنفع لدائه وبلائه. والله تعالى أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه. حكم هدية الطالب لمعلمه أو الموظف لمديره السؤال أشكلت علي مسألة: ما حكم قبول الهدية من الطالب لمعلمه أو من الموظف لمديره؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن كان في عمل أو وظيفة، وقام بهذا العمل والوظيفة، فلا يجوز له أن يقبل من الناس شيئا، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام (أنه أرسل رجلا على الصدقات، فجاء فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا لكم وهذا لي -أي: هذه الصدقات وهذه هدايا خاصة بي- فقام عليه الصلاة والسلام خطيبا وقال: ما بالي أستعمل الرجل على مال الله عز وجل، ثم يأتي ويقول: هذا لكم وهذا لي، هلا قعد في بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا!) . فدل على أن هذه الهدية جاءت بسبب العمل، وجاءت بسبب المصلحة المتعلقة بجماعة المسلمين، ومن هنا عتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وبين عليه الصلاة والسلام عدم استحقاقه؛ لأنها جاءت تابعة للعمل، وقد نص جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله على أنه لا يجوز للإنسان أن يقبل الهدية على عمله. وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: (كانت الهدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، أما اليوم فإنها رشوة) ، يعني أنه كانت النفوس أولا طيبة وتعطي لله وفي الله، ولكن لما دخلت الدواخل وكثرت المصالح، وأصبح الإنسان يفعل الفعل وهو يجعل الدنيا أكبر همه -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يجعل الآخرة أكبر همه -إلا من رحم الله- خاف العبد الصالح وتورع من هذا. فالمعلم والموظف ومن في حكمهما لا يجوز لهم أن يأخذوا الهدية، إلا من شخص كان يهدي إليه قبل العمل والوظيفة، فإذا كان الشخص يهاديك من قبل فلا بأس بقبول هديته؛ لأنه لا يختلف الحال؛ لأن هذه الهدية لا شبهة فيها. وأيضا: لا يجوز لك أن تقبل دعوته الخاصة، بحكم أنه ليس الأمر موقوفا على الهدايا؛ بل قد يدعوك إلى وليمة خاصة، فإذا بالموظفين ومن تحته يصنعون الولائم ويتملقونه، وفي الحديث: (من أكل طعام قوم ذل لهم) ، فلو كان أضعف موظف عند الإنسان ودعاه إلى طعامه كسر عينه، ولم يستطع أن يقف في وجه يوما من الأيام؛ لأن النفوس مجبولة على الحياء ممن أحسن إليها، والورع والذي يخاف الله ويتقيه يبتعد عن هذه الأمور كلها. وللسلف الصالح رحمهم الله في ذلك أروع المواقف، حتى ذكروا عن هارون الرشيد رحمه الله برحمته الواسعة أنه دخل عليه قاض من قضاة السلف رحمهم الله فقال: أنا بالله ثم بأمير المؤمنين أناشدك الله أن تقبل كتابي. فقد كان قاضيا وإذا قبل الخليفة الكتاب فمعناه أنه قد أقاله من القضاء. فقال له هارون: لا أقبل حتى تقص لي السبب الذي من أجله امتنعت من القضاء. فقال: يا أمير المؤمنين! إني عرضت علي قضية من القضايا، فجاءني رجل عظيم غني ثري ومعه خصمه، قال: فنظرت في القضية فإذا بها تحتاج إلى تأمل ونظر، فلم أبت فيها، ووعدت الخصمين أن يعودا إلي بعد أيام، قال: فسمع الغني أني أحب التمر، فذهب واشترى وجمع تمرا من أنفس وأجود أنواع التمر، ثم فوجئت بكاتبي قد دخل علي بذلك التمر، فقلت له: ويحك ما هذا؟! قال: هذا من فلان بن فلان. فأمرت بجلد الكاتب وطردته، ورددت العطية إلى صاحبها، ووبخته وعزرته. قال: ثم لما حضر عندي الخصمان بعد هذا الفعل، قال: والله يا أمير المؤمنين ما أن جلسا بين يدي -مع هذا الاحتياط- ما استويا في عيني. قال بعض العلماء: كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: يحتمل أن معنى قوله: (ما استويا في عيني) أنه وجد أن هذا الغني لما تكلف المال واشترى ثم رده عليه أنه انكسر، فجاءه شيء من الرحمة، أو أنه ما زال حانقا غضبان على هذا الذي رشاه، وتوقع أنه يفعل مع غيره كفعله، ونظر إلى جرأته مع أنه عزره، لكن لا زال قلبه يحدثه أنه يستحق أكثر من ذلك، فلما جلسا في القضية لم يستطع أن يراهما بمنزلة واحدة، فسأله أن يعفيه من القضاء. هذه هي منزلة الورع، فقد كان السلف رحمهم الله يخافون خوفا شديدا من الهبات والهدايا والعطايا، والإنسان إذا أراد النجاة فيحرص كل الحرص على الأمانة، وإذا جاء إلى وظيفة أو عمل أو تدريس فلا يسأل الأجر إلا من الله سبحانه وتعالى. والله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى جزاءه، وهو الذي يتولى مكافأته {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} [النحل:96] ، وأنعم بالجزاء إذا كان من الله سبحانه وتعالى، وأنعم بالعطية إذا كانت من الله، وانظر إلى حالك حينما يأتيك مخلوق ضعيف يقدم لك عرضا من الدنيا، فتنظر إلى ما عند الله وما عند المخلوق، فتؤثر ما عند الله على ما عند المخلوق. وقد تكون في أمس الحاجة إلى هذا الشيء الذي يعرض عليك فترده، فيعوضك الله سبحانه وتعالى من حسن الخلف ما لم يخطر لك على بال، فليس هناك أعظم من مكافأة الله لعبده، وهذا شيء نقوله بألسنتنا، لكن يعرف لذة ذلك وطعمه وقدره من عرفه، فالمعاملة مع الله رابحة، ولا يظن الإنسان أنه إذا أصبح عفيفا في عمله أو وظيفته أو تدريسه فإنه سيخسر؛ فإن المعاملة مع الله عز وجل ليست فيها خسارة أبدا، فهم يرجون تجارة لن تبور، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله. قال بعض العلماء: إن الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر أن الحسنة بعشرة أمثالها في أكثر من آية، وذكر أنها كمثل حبة من سنبل أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، قال: {والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة:261] ، قالوا: يضاعف بالتوحيد والإخلاص؛ لأن الشخص الذي تعرض عليه هدية غالية الثمن وهو فقير محتاج، ليس كالشخص الذي تعرض عليه هدية وهو غني غير محتاج، ولأن الشخص الذي تعرض عليه الهدية والرشوة من قوي قادر، ليس كالشخص الذي تعرض عليه وهو قوي قادر من ضعيف، فتحصل المضاعفة والفضل من الله سبحانه وتعالى على قدر البلاء. فإذا جاءك الطالب يريد أن يعطيك الهدية فلا يجوز لك أخذها، ولا يجوز للمدرس أن يقبل من طلابه عطية ولا هبة ولا هدية، وهذا -كما ذكرناه- نص عليه العلماء رحمهم الله لورود السنة به؛ لأنك تؤدي عملا واجبا عليك؛ ولأن فتح هذا الباب يفتح على الناس كثيرا من البلاء، فيحابي صاحب الهدية ويجامل، ولذلك يجب على الإنسان أن يبتعد عن هذه الأمور نصيحة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام ولعامة المسلمين، فيما هو مربوط به من المصالح العامة للمسلمين. والله تعالى أعلم. كيفية العدل بين الزوجات مع الاختلاف في عدد الأولاد السؤال من كان له بيتان وأعطى كل بيت مصارفه التي يحتاجها، فهل هذا عدل أم أن العدل أن يساوي في العطية، كأن يخصص مبلغا متساويا بين البيتين، ولو لم يكن في البيتين نفس العدد من الأبناء؟ الجواب العدل بين الزوجات واجب شرعا، وأجمع العلماء رحمهم الله على وجوب العدل بين الزوجات، أما طريقة العدل فعندنا أصول، وعندنا فروع، فالزوجات أصول، والأولاد فروع، فالزوجة التي لا ولد لها لها حكم يخالف حكم الزوجة التي لها ولد، فإذا جاء يعطي فيقدر المبلغ للرأس الذي هو الأصل ويقدر مبلغا للأولاد، فإذا كان يعطي الزوجة مائتين على الرأس، والولد يقدر نفقته في كل شهر مثلا مائة إذا كان عنده مصاريف للدراسة، وإذا لم يكن عنده مصاريف قدرها بخمسين. فحينئذ الزوجة التي لا ولد لها يعطيها مائتين، والزوجة التي لها ولد يعطيها مائتين لها هي، ثم أولادها يفضل بينهم بحسب النفقات، فالولد الذي تصرف عليه أمه في ملبسه ومطعمه ودراسته ليس كالولد الذي يصرف عليه في مطعمه وملبسه فقط. هذا من حيث الأصل، فالأولاد يقدر نفقتهم في الطعام والشراب، ويعطي أمهم ذلك، فإذا كان يعطي الولد خمسين ريالا، وعندها ولدان، فيعطيها مائة ريال، فتصبح مائتين لها ومائة لأولادها، إذا هذه المرأة لها ثلاثمائة، والمرأة الثانية ليس لها ولد فيعطيها مائتين فقط، فيكون قد عدل بين الزوجات. فإن ولدت الثانية؛ فحينئذ ينظر إلى ولد هذه وإلى ولد هذه وما يحتاجه من النفقة، فإذا كان كل واحدة عند ولادتها يحتاج ولدها إلى ملبس أو علاج أو أي شيء، كان العدل بالعطية من جهة الأسباب والضرورة، فالتي عندها ولد ينفق عليه في ملبسه أو حضانته أو نحو ذلك، وإذا ولدت الثانية عاملها مثلما يعامل ولد الأولى، وهذا العدل لا نقول له من البداية يعطي هذه مثلما يعطي تلك؛ لأن هذه لها سبب خاص، فيعدل بين الزوجتين في حال الولادة، ويعطي هذه مثلما يعطي هذه. فحينئذ يكون قد عدل بينهن، وليس المراد أنه مثلا لو ولدت خديجة، وعائشة لم تلد، فأعطى خديجة خمسين، فنقول له: أعط عائشة خمسين، فهذا خطأ، ويخطئ فيه بعض طلاب العلم، فالأسباب الخاصة العدل فيها إذا طرأ مثلها عند الأخرى، فيكون عادلا بين زوجاته وأولاده في في الأصل وفيما يطرأ على الأصل، في الأصل من حيث النفقة كالطعام والشراب فيعطيهم مثل بعضهم ويسوي بينهم. لكن عند بعض العلماء خلاف في مسألة اختلاف الأماكن، فقد تكون امرأة في منطقة العيشة فيها رخيصة، وامرأة في منطقة العيشة فيها غالية، فيقولون: يجب عليه أن يعدل بإسكانهما معا في المكان الذي فيه عيشة رخيصة أو عيشة غالية، فإذا لم يتيسر له ذلك عامل في النفقة بحسب الحال، فيعطي لهذه التي في العيشة الغالية بما يتناسب مع حالها غنى وفقرا، على الأصل المقرر في النفقات، ويعطى تلك في العيشة الرخيصة بما يتناسب مع حالها، فمثلا: متوسط الحال في العيشة الغالية تكون نفقة الولد مائتين، والأعلى ثلاثمائة، والأدنى مائة، فأعطاها مائتين، وفي العيشة الدنيا يكون الأعلى مائة والأوسط خمسين والأدنى مثلا عشرين، فيعطيها خمسين، فيكون قد سوى في العطية بحسب البيئة وبحسب المكانة. وعلى هذا فإذا عدل واتقى الله سبحانه وتعالى فأعطى الزوجات وسوى بينهن في القدر والعطية، وأعطى عند الأسباب والموجبات؛ فإنه حينئذ يكون قد برئت ذمته وسلم إن شاء الله من التبعة. والله تعالى أعلم.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 10 ( الأعضاء 0 والزوار 10) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |