صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد - الصفحة 5 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4868 - عددالزوار : 1848108 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4435 - عددالزوار : 1188712 )           »          الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          النقد العلمي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          لماذا يشعر بعض المسلمين أحيانا بثقل بعض الأحكام الشرعية وعدم صلاحيتها؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          وحدة الأمة الإسلامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          التراجم: نماذج من المستشرقين المنصِّرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 8523 )           »          أبرز المعالم التاريخية الأثرية والدينية في قطاع غزة كتاب الكتروني رائع (اخر مشاركة : Adel Mohamed - عددالردود : 0 - عددالزوار : 54 )           »          شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 581 - عددالزوار : 305080 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #41  
قديم 07-10-2024, 11:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (41)
وفاة يزيد بن معاوية وخلافة معاوية بن يزيد، وبيعة ابن الزبير -رضي الله عنهما-


كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا نلقي الضوء على أحداث الفتن السياسية في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد انتهينا سابقًا مِن ذكر تفاصيل الأحداث التي وقعتْ بعد موت معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وما كان مِن أمر الحسين -رضي الله عنه-، ونستكمل في هذا المقال تفاصيل الأحداث.

وفاة يزيد بن معاوية وخلافة معاوية بن يزيد:

في عام 64 هـ - 683م توفي يزيد بن معاوية، وكانت وفاته بقرية مِن قرى حمص يُقال لها حوّارين مِن أرض الشام، لأربع عشرة ليلة خلت مِن ربيع الأول سنة 64هـ، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة أو وهو ابن تسع وثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر أو ثمانية أشهر (تاريخ للطبري)، فتولى الخلافة بعده معاوية بن يزيد وهو ثالث الخلفاء الأمويين، ولد سنة 44هـ، ونشأ في بيت الخلافة، بويع له بالخلافة بعد موت أبيه، في رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين هجرية.

ويختلف المؤرخون كثيرًا في المدة التي حكمها معاوية بن يزيد، ويتراوح الخلاف بيْن عشرين يومًا إلى ثلاثة أشهر (تاريخ الطبري)، وكان مريضًا مدة ولايته، ولهذا لم يؤثر له عمل ما مدة خلافته، حتى الصلاة، فإن الضحاك بن قيس هو الذي كان يصلي بالناس، ويسيّر الأمور، وظل الضحاك يصلي بالناس حتى بعد وفاة معاوية، حتى استقر الأمر لمروان بالشام.

ولما أحس معاوية بن يزيد بالموت نادي في الناس الصلاة جامعة، وخطب فيهم، وكان مما قال: "أيها الناس، إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي، كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم مَن هو صالح لذلك وقد تركت أمركم، فولوا عليكم مَن يصلح لكم، ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج حتى مات -رحمه الله تعالى-" (البداية والنهاية لابن كثير).

فقد أراد معاوية بن يزيد أن يقول لهم: إنه لم يجد مثل عمر، ولا مثل أهل الشورى، فترك لهم أمرهم يولون مَن يشاءون، وقد جاء ذلك صريحًا في رواية أخرى للخطبة عند ابن الأثير، قال فيها: "أما بعد، فإني ضعفت عن أمركم فابتغيت مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له مَن أحببتم، ثم دخل منزله وتغيب حتى مات" (الكامل في التاريخ لابن الأثير).

واعتبر هذا الموقف منه دليلًا على عدم رضاه عن تحويل الخلافة مِن الشورى إلى الوراثة (العالم الإسلامي في العصر الأموي، عبد الشافي محمد عبد اللطيف، ص137)، فقد رفض أن يعهد لأحدٍ مِن أهل بيته حينما قالوا له: "اعهد إلى أحدٍ مِن أهل بيتك"، فقال: "والله ما ذقتُ حلاوة خلافتكم؛ فكيف أتقلد وزرها، وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها؟! اللهم إني بريء منها، مُتخلِّ عنها".

وجاء في رواية: "قيل له ألا توصي؟"، فقال: "لا أتزوّد مرارتها، واترك حلاوتها لبني أمية" (البداية والنهاية لابن كثير)، وتعتبر حادثة تنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة حادثة نادرة في التاريخ الإنساني، وإذا كان معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أول الخلفاء الأمويين قد حول الخلافة مِن الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية الثاني، ثالث خلفاء الأمويين أيضًا، قد أعاد الخلافة مِن الملك العضوض إلى الشورى الكاملة، وإنه لمما يستوجب الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً مِن التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط (الدولة الأموية المفترى عليها، د.حمدي شاهين، ص293).

لقد مات معاوية بن يزيد عن إحدى وعشرين سنة. وقيل: ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يومًا. وقيل: تسع عشرة سنة. وقيل عشرين سنة. وقيل ثلاث وعشرين سنة. وقيل غير ذلك.

بيعة عبد الله بن الزبير:

بعد موت يزيد بن معاوية لم يكن هناك مِن خليفة، وإذا كان يزيد قد أوصى لابنه معاوية، فإن هذا لا يكفي للبيعة، إضافة إلى أن الذين قد بايعوا معاوية بن يزيد لا يزيدون على دمشق وما حولها، ثم إن معاوية بن يزيد لم يعش طويلاً، وترك الأمر شورى، ولم يستخلف أحدًا، ولم يوصِ إلى أحدٍ، وكان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، قد بويع له في الحجاز بعد موت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وكذا في العراق وما يتبعه إلى أقصى مشارق ديار الإسلام، وفي مصر وما يتبعها إلى أقصى بلاد المغرب، وبايعت الشام أيضًا إلا بعض جهات منها ولم يكن رافضًا بيعة ابن الزبير في الشام إلا منطقة البلقاء(الأردن) وفيها حسان بن مالك بن بحدل الكلبي (سير أعلام النبلاء)، وهكذا تّمت البيعة لعبد الله بن الزبير في ديار الإسلام، وأصبح الخليفة الشرعي، وعين نواّبه على الأقاليم، وتكاد تجمع المصادر على أن جميع الأمصار قد أطبقت على بيعة ابن الزبير خليفة للمسلمين.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "ثم هو -أي ابن الزبير- الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة، وهو أرشد مِن مروان بن الحكم، حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه، وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الأمر" (البداية والنهاية لابن كثير)، ويؤكد كلٌّ مِن ابن حزم (المحلى)، والسيوطي (تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص212) شرعية ابن الزبير، ويعتبران مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغيين عليه، خارجين على خلافته، كما يؤكِّد الذهبي شرعية ابن الزبير ويعتبره أمير المؤمنين (سير أعلام النبلاء للذهبي 3/ 363)، وهذا الذي عليه المؤرخون والعلماء.


ونستكمل في المقال القادم -بإذن الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #42  
قديم 25-10-2024, 10:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (42)

موقف أهل الشام مِن بيعة ابن الزبير









كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنستعرض في هذا المقال موقف أهل الشام مِن بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، وكيف تمت بيعة مروان بن الحكم في بلاد الشام.

موقف أهل الشام مِن بيعة ابن الزبير:

إن تنازل معاوية بن يزيد قد أحدث أزمة في الشام، فقد كان أخوه خالد بن يزيد صبيًّا صغيرًا، وكان أمر ابن الزبير قد استفحل وبايع له الناس مِن أنحاء الدولة، فرأى فريقٌ مِن جند الشام على رأسهم الضحاك بن قيس أمير دمشق أن يبايعوا لابن الزبير، وحتى مروان بن الحكم(1) كبير بني أمية فكَّر في الذهاب إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ منه الأمان، ولكن سائر الجند والقادة بزعامة حسان بن مالك زعيم القبائل اليمنية الذين كانوا أقوى المؤيدين لبني أمية وهم أخوال يزيد رفضوا أن يخرج الأمر عن بني أمية وأن يبايعوا لابن الزبير، وهناك روايات تذكر أن مروان بن الحكم كان قد عزم على مبايعة ابن الزبير؛ لولا أن تدخل عبيد الله بن زياد وغيره في آخر لحظة وأثنوه عن عزمه، وأقنعوه أن يدعو لنفسه ولبث الشام ستة أشهر بدون إمام؛ نظرًا للاختلاف الشديد الذي وقع بيْن القبائل.

وأخيرًا: اتفق القوم على أن يعقدوا مؤتمرًا للشورى؛ ليبحثوا فيه مَن يصلح للخلافة، وحتى يصلوا في ذلك إلى قرارٍ، وانعقد المؤتمر في الجابية، وكانت أهم قرارات مؤتمر الجابية -بلدة مِن أعمال دمشق مِن ناحية الجولان قرب مرج الصفّر في شمالي حوران-، عدم مبايعة ابن الزبير, واستبعاد خالد بن يزيد بن معاوية مِن الخلافة؛ لأن البعض كان ينادي ببيعته، فتم استبعاده؛ لأنه صغير السن, ومبايعة مروان بن الحكم وهو الشيخ المحنك, ونجح مروان في لم الشمل بالشام بعد معركة مرج راهط(3)، وقد نجح كذلك في إعادة مصر إلى الحكم الأموي(2).

ثم دعا مروان بن الحكم بعد ذلك إلى أن يعهد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز وذلك سنة 65هـ، ولم تدم مدة حكمه طويلًا، فقد توفي مروان بن الحكم بدمشق لثلاث خلون مِن شهر رمضان سنة 65هـ وهو ابن ثلاث وستين سنة, وصلى عليه ابنه عبد الملك, وكانت مدة حكمه تسعة أشهر وثمانية عشر يومًا (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ

(1) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، أبو عبد الملك، ويقال: أبو الحكم، ويقال: أبو القاسم، وهو صحابي عند طائفة كثيرة؛ لأنه وُلِدَ في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أما ابن سعد فقد عَدَّه في الطبقة الأولى مِن التابعين.

روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثًا في صلح الحديبية، والحديث في صحيح البخاري عن مروان والمسور بن مخرمة، كما روى مروان عن عمر وعثمان، وكان كاتبَه -أي كان كاتب عثمان-، وروى عن علي وزيد بن ثابت، وروى عنه ابنه عبد الملك وسهل بن سعد، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلي بن الحسين (زين العابدين) ومجاهد وغيرهم.

كان مروان بن الحكم مِن سادات قريش وفضلائها، وقد قاتل مروان يوم الدار قتالاً شديدًا، وقَتَلَ بعض الخارجين على عثمان، وكان على الميسرة يوم الجمل، وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يكثر السؤال عن مروان حين انهزم الناس يوم الجمل، يخشى عليه مِن القتل، فلما سُئِلَ عن ذلك قال: إنه يعطفني عليه رحم ماسة، وهو سيد مِن شباب قريش.

كان مروان قارئًا لكتاب الله، فقيهًا في دين الله، شديدًا في حدود الله، ومِن أجل ذلك: ولاه معاوية -رضي الله عنه- المدينة غير مرة، وأقام للناس الحج في سنين متعددة، كما كان مروان قضاءً يتتبع قضايا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وكان جوادًا كريمًا فقد روى المدائني عن إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد أن مروان أسلف علي بن الحسين -رضي الله عنهما- حين رجع إلى المدينة بعد مقتل الحسين -رضي الله عنه- ستة آلاف دينار، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه عبد الملك أن لا يسترجع مِن علي بن الحسين شيئًا، فبعث إليه عبد الملك بذلك فامتنع مِن قبولها، فألح عليه فقبلها، وقال: الشافعي: إن الحسن والحسين كان يصليان خلف مروان ولا يعيدانها، ويعتدان بها. وكان مروان حكيمًا ذا عقلٍ وكياسةٍ، ومما يدل على حكمته وعقله أنه كان أثناء ولايته على المدينة إذا وقعت مشكلة شديدة جمع مَنْ عنده مِن الصحابة فاستشارهم فيها، وهو الذي جمع الصيعان فأخذ بأعدلها فنسب إليه الصاع، فقيل: صاع مروان (انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 476)، والبداية والنهاية لابن كثير (8/ 260).

وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: "مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عم عثمان بن عفان، يقال له رؤية، فإن ثبتت فلا يعرج على مَن تكلم فيه، وقال عروة بن الزبير: كان مروان لا يٌتهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتمادًا على صدقه وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم فقتله ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى، فأما قتل طلحة فكان متأولًا فيه كما قرره الاسماعيلي وغيره، وأما ما بعد ذلك فإنما حمل عنه سهل بن سعد وعروة وعلي بن الحسين وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميرًا عندهم بالمدينة قبْل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزبير ما بدا، والله أعلم. وقد اعتمد حتى مالك على حديثه ورأيه والباقون سوى مسلم" (انتهى).

هذا وقدِ اختَلف العلماءُ في صِحَّة نِسبة رمْي مرْوان لطلحةَ يوم الجمل إلى فريقين: الفريق الأول: مَن ذهَب إلى أنَّ مَرْوان بنَ الحكَم ليس بقاتلِ طلحة بن عُبَيد الله، منهم: أبو بكر بن العربي وابن كثير، وظاهِر كلامِ ابنِ حزْم. واستدلوا: بأنَّه لم يصحَّ أثَر في قِصة رمْي مروان لطلحة. قال أبو بكر بن العربي: وقدْ رُوي أنَّ مروان لما وقعَتْ عينه في الاصطفافِ على طلحة، قال: لا أطلُب أثرًا بعد عَين، ورَماه بسهمٍ فقتَله، ومَن يعلم هذا إلاَّ علاَّمُ الغيوب؟! ولم ينقُلْه ثبْتٌ، وقد رُوي أنَّه أصابه سهمٌ بأمر مرْوان، لا أنَّه رماه، وقد خرَج كعبُ بن سور بمصحفٍ منشور بيدِه يُناشد الناسَ ألاَّ يريقوا دِماءَهم، فأصابه سهمٌ غرب فقتَلَه، ولعلَّ طلحةَ مِثله، ومعلومٌ أنَّه عند الفِتنة وفي ملحمة القتال، يتمكَّن أولو الإحَنِ والحقود، مِن حَلِّ العُرَى ونقض العهود، وكانت آجالاً حضرت، ومواعد انتجزَت.

وقال ابنُ كثير: يُقال: إنَّ الذي رماه بهذا السهم مَرْوان بن الحَكم، وقال لأبان بن عثمان: قدْ كفيتُك رجالاً مِن قتَلَةِ عثمان، وقد قيل: إنَّ الذي رماه غيرُه، وهذا عندي أقربُ، وإنْ كان الأوَّل مشهورًا، والله أعلم. الفريق الثاني: مَن ذهَب إلى أنَّ مرْوان بن الحَكم هو قاتلُ طلحة بن عُبيد الله، منهم: ابن قتيبة، والبلاذري وأحمد بن إسحاقَ اليعقوبي، وابن حِبَّان، والإسماعيلي والمطهِّر بن طاهِر، وابن عبد البر، والذَّهبي، والصَّفدي، وابن حجر العَسقلاني، والعيني، وابن تَغرِي بَرْدي، والسخاوي، وغيرهم، واستدلوا بوفرةِ وشُهرة الأدلَّة التي تناقلها المؤرِّخون.


(2) بعد السيطرة على الشام، خرج مروان بجيشه إلى مصر التي كانت قد بايعت عبد الله بن الزبير، فدخلها في غُرَّة جمادى الأولى سنة 65هـ، فأخذها من نائبها الذي كان لعبد الله بن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدم، وولى ابنه عبد العزيز بن مروان عليها. وأقام مروان بن الحكم في مصر نحو شهرين ثم غادرها في أول رجب سنة 65هـ بعد أن وطَّد أمورها وأعادها ثانية للحكم الأموي (الكامل في التاريخ لابن الأثير (4/169)، والبداية والنهاية لابن كثير (11/ 679).

(3) انقسمت الشام معقل نفوذ الأمويين بيْن مبايعين لمروان بن الحكم ومبايعين لعبد الله بن الزبير، وعلى رأسهم: الضحاك بن قيس الذي سيطر على دمشق، وكان يَدعو لبيعة ابن الزبير، فهاجم مروان جيش الضحاك فواقعه بمرج راهط وهزمه، وقد استغرقت المعركة 20 يومًا، وانتهت بنصر مروان بن الحكم، ومقتل الضحاك، وكان ذلك في أواخر عام 64هـ (الكامل في التاريخ لابن الأثير (4/165)، والبداية والنهاية لابن كثير (11/ 669).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #43  
قديم 13-11-2024, 03:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (43)

عبد الملك بن مروان وصراعه مع أهل العراق




كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا في المقال السابق كيف تمت البيعة لمروان في بلاد الشام، وكان ذلك في وجود الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-، ونستعرض في هذا المقال الأحداث بيْن عبد الملك بن مروان وأهل العراق.
عبد الملك بن مروان(1) وصراعه مع أهل العراق:
تولى عبد الملك بن مروان بعد وفاة أبيه، فبعث عبد الملك إلى عبيد الله بن زياد يقرُّه على ما ولاّه عليه أبوه مروان في العراق، وتقدم ابن زياد نحو العراق وهدفه إجلاء ولاة ابن الزبير، ولكنه اضطر إلى أن يغير خطته، فقد ظهر في الميدان أعداء جدد لم يكونوا في حسبان ابن زياد، وهم "التوابون"(2).
عَلِمَ التوّابون بقدوم ابن زياد إلى العراق، فرأوا الخروج لقتاله وقتل ابن زياد أخذًا بثأر الحسين، وكان عددهم في بادئ الأمر ستة عشر ألفًا، فلما جاء وقت العمل الجاد نكصوا وتقاعسوا حتى وصل عددهم إلى أربعة آلاف، وحتى الآلاف الأربعة الذين تجمعوا حول زعيم التوابين سليمان بن صرد تخلَّى عنه منهم ألف، وبقي معه ثلاثة آلاف فقط، أما جيش الشام فكان عدده ستين ألفًا، عليهم عبيد الله بن زياد ليعيد العراق إلى سلطان الأمويين بعد أن بسط حكمهم على الشام، فالتقى بالتوابين في عين الوردة مِن أرض الجزيرة، ودارت معركة غير متكافئة قُتِلَ فيها معظم التوابين وزعيمهم سليمان بن صرد، وكان عمر سليمان بن صرد -رضي الله عنه- يوم قٌتل ثلاثًا وتسعين سنة (البداية والنهاية 11/ 697)، وكان ذلك في ربيع الآخر سنة 65هـ -684م.
وفَرَّ الباقون عائدين إلى الكوفة لينضموا إلى المختار الثقفي(3) الذي انفرد بزعامة الشيعة؛ فقويت حركته وكثُر أتباعه، ثم ازداد مركزه قوة بانضمام إبراهيم بن الأشتر النخعي إليه -وهو مِن زعماء الكوفة-، فثار على عبد الله بن مطيع العدوي أمير الكوفة من قِبَلِ عبد الله بن الزبير فأخرجه منها، وأحكم سيطرته عليها، ولكي يثبت صحة دعواه في المطالبة بدم الحسين تتبع قتلته، فقتل معظمهم في الكوفة، ثم أعد جيشًا جعل على قيادته إبراهيم بن الأشتر، وأرسله إلى قتال عبيد الله بن زياد، فالتقى به عند نهر الخازر بالقرب مِن الموصل، وحلَّت الهزيمة بجيش ابن زياد الذي خَرَّ صريعًا في ميدان المعركة سنة 67هـ -686م (الكامل في التاريخ 2/ 7)، وكان مقتل عبيد الله بن زياد في يوم عاشوراء سنة سبع وستين, ثم بعث إبراهيم بن الأشتر برأس ابن زياد إلى المختار (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
وتعاظم نفوذ المختار بعد انتصاره على ابن زياد، وسيطر على شمال العراق والجزيرة، وأخذ يولي العمال مِن قِبَله على الولايات ويجبي الخراج، وانضمَّ إليه عددٌ كبيرٌ مِن الموالي لبغضهم لبني أمية مِن ناحية؛ ولأنه أغدق عليهم الأموال مِن ناحية ثانية، وبدا كما لو أنه أقام دولة خاصة به في العراق بيْن دولتي: ابن الزبير في الحجاز، وعبد الملك بن مروان في الشام، ولكنه لم ينعم طويلًا بهذه الدولة.
كان المتوقع أن تكون نهاية المختار على يد عبد الملك بن مروان الذي وتره بقتل ابن زياد أبرز أعوانه، ولكن عبد الملك كان سياسيًّا حكيمًا، وقائدًا محنكًا، فقد ترك لابن الزبير مهمة القضاء على المختار؛ لأن عبد الملك كان يعلم أن ابن الزبير لا بد أن يتحرك للقضاء عليه (العالم الإسلامي في العصر الأموي ص 484)، فهو لا يسمح لنفوذ المختار أن يتسع ويهدد دولته؛ علمًا أن عبد الله بن الزبير هو الخليفة الشرعي ومِن حقه أن يقاتل مَن خرج عليه؛ فلذلك آثر عبد الملك بن مروان الانتظار؛ لأن نتيجة المواجهة ستكون حتمًا في صالحه، فسوف يقضي أحدهما على صاحبه، ومَن يبقى تكون قوته قد ضعفت فيسهل القضاء عليه.
وبالفعل حدث ما كان توقعه عبد الملك بن مروان، فالمختار لم يكتفِ بانتصاره على جيش عبد الملك وبَسْطِ نفوذه على شمال العراق والجزيرة، بل أخذ يُعِدُّ نفسه للسير إلى البصرة لانتزاعها مِن مصعب بن الزبير الذي أصبح واليًا عليها مِن قِبَل أخيه عبد الله بن الزبير، فسار مصعب بنفسه إلى المختار قبْل أن يُعاجِله في البصرة، والتقى به عند حروراء فدارت الدائرة على المختار فأسرع بالفرار إلى الكوفة، وتحصن بقصر الإمارة، إلا أن مصعبًا حاصره في القصر حتى قُتِلَ سنة 67هـ - 686م، وهكذا انتهت حركة هذا الكذاب الضال الذي كان همه الوصول إلى الحكم بأية وسيلة، ولم تنفعه ادعاءاته بحب آل البيت والطلب بثأرهم! فقد انكشفت حيله، وتخلى عنه أهل العراق وأسلموه إلى مصيره المحتوم.
وبعد أن استعاد ابن الزبير سيطرته على العراق كان مِن الطبيعي أن يحدث الصدام بينه وبيْن عبد الملك بن مروان، فعزم عبد الملك على السير إلى العراق وانتزاعها مِن ابن الزبير، وكان ذلك سنة 71هـ - 690م، وكان ذلك بعد أربع سنين مِن القضاء على المختار (الكامل في التاريخ 3/ 51)، ولعل عبد الملك بن مروان أخَّر هذا الصدام بينه وبيْن ابن الزبير إلى هذا الوقت؛ لكي يوطد دعائم حكمه في بلاد الشام، فقضى هذه السنين في حل بعض مشاكله، وبعد أن اطمأن عبد الملك إلى استقرار حكمه ببلاد الشام توجَّه لقتال مصعب بن الزبير، فنزل عبد الملك "مسكن" -بالفتح ثم السكون، وكسر الكاف، موضع قريب مِن أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق- وزحف مصعب نحو باجميرا، وعلى مقدمة جيشه إبراهيم بن الأشتر، ثم أخذ عبد الملك يكاتب زعماء أهل العراق مِن جيش مصعب يعدهم ويمنيهم، بل إن عبد الملك بن مروان صرَّح أن كتب أهل العراق أتته يدعونه إليهم قبْل أن يكاتبهم هو -وهذا ليس غريبًا عن أهل العراق- وفي الوقت الذي كان عبد الملك يكاتب فيه زعماء أهل العراق مِن قواد مصعب والذين قبلوا التخلي عنه والانضمام إلى عبد الملك، كان حريصًا على ألا يقاتل مصعبًا للمودة والصداقة القديمة التي كانت بينهما؛ فأرسل إليه رجلًا مِن كلب وقال له: "أقرئ ابن أختك السلام -وكانت أم مصعب كلبية- وقل له: يَدَع دعاءه إلى أخيه، وأدَعُ دعائي إلى نفسي، ويُجْعَل الأمرُ شورى. فقال له مصعب: قل له: السيف بيننا" (الكامل في التاريخ 3/ 52، البداية والنهاية 8 /316).
ثم حاول عبد الملك محاولة أخرى: فأرسل إليه أخاه محمدًا ليقول له: "إن ابن عمك يعطيك الأمان"، فقال مصعب: "إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبًا أو مغلوبًا" (تاريخ الرسل والملوك 7/ 45)، ثم دارت المعركة، وقُتل إبراهيم بن الأشتر وقٌتل معه جماعة مِن الأمراء، وجعل مصعب ينادي في أتباعه بأن يتقدموا إلى الأمام فلا يتحرك أحد، فجعل يقول: "يا إبراهيم، ولا إبراهيم لي اليوم!"، وبدأت خيانات أهل العراق تظهر، وتخلى أهل العراق عن مصعب وخذلوه حتى لم يبقَ معه سوى سبعة رجال! (الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/ 53-54)، ولكنه ظل يقاتل في شجاعة وبسالة حتى أثخنته الجراح، وأخيرًا قتله عبيد الله بن زياد بن ظبيان، وكان مقتله في المكان الذي دارت فيه المعركة على قصر دجيل عند دير الجاثليق في جمُادَى الآخرة سنة 72هـ - 691م.
فلما بلغ عبد الملك مقتله سجد شكرًا لله، وقال: "واروه، فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة"، وقد كان عبد الملك يحب مصعبًا حبًّا شديدًا، وكان خليلًا له قبْل الخلافة، ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك, بكى وقال: "متى تلد النساء مثل مصعب، ما كنتُ أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة مِن حبي له, حتى دخل السيف بيننا، ولكن هذا المُلْك عقيم" (تاريخ الرسل والملوك للطبري 7/ 44)، والبداية والنهاية 8/ 321)، وكان ابن ظبيان فاتكًا رديئًا، وكان يقول: "ليتني قتلت عبد الملك حين سجد يومئذٍ؛ فأكون قد قتلت ملكي العرب!".
وبمقتل مصعب عادت العراق إلى حظيرة الدولة الأموية، وعيَّن عبد الملك أخاه بشرًا واليًا عليها، وقبْل أن يغادرها أَعَدَّ جيشًا للقضاء على عبد الله بن الزبير في مكة.
هذا ونشير إلى أن مِن أهم أسباب هزيمة مصعب بن الزبير: خيانة أهل العراق لاسيما بعض قادة الجيش، ومَن تبعهم، ثم إنهاك الجيش في معارك كثيرة طاحنة وشديدة، وربما كذلك عدم مد الخليفة عبد الله بن الزبير أخاه بالقوات قدر المستطاع؛ لا سيما مع كثرة العدد والعدة في جيش عبد الملك، ثم إقباله على القتال بعد انسحاب معظم الجيش، فكان لابد مِن نظرةٍ واقعيةٍ للواقع، وإعمال فقه الموازنات.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1) هو عبد الملك بن الحكم بن أبي العاص بن أمية, أبو الوليد الأموي, وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، ولد سنة 26هـ في خلافة عثمان، شهد يوم الدار وعمره عشر سنوات، وكان أميرًا على أهل المدينة وله ست عشرة سنة، ولاه إياها معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وكان يجالس الفقهاء والعلماء والعباد والصلحاء.
روى عبد الملك بن مروان الحديث عن أبيه، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وابن عمر، ومعاوية، ويزيد بن معاوية، وأم سلمة، وبريرة مولاة عائشة -رضي الله عنهم أجمعين-. وروى عنه جماعة، منهم: خالد بن معدان، وعروة بن الزبير، والزهري، وعمرو بن الحارث، ورجاء بن حيوة، وجرير بن عثمان وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وربيعة بن يزيد، ويونس بن ميسرة، وابنه محمد بن عبد الملك -رحمهم الله تعالى-، روى ابن سعد بسنده أَنَّ معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يوم ومعه عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، فمر بهما عبد الملك بن مروان فقال معاوية: ما آدَبَ هذا الفتى وأحسن مُرُوَّتَهُ؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين إن هذا الفتى أخذ بخصال أربع، وترك خصالًا ثلاث: "أَخَذَ بِحُسْنِ الْحَدِيثِ إِذَا حَدَّثَ، وَحُسْنِ الِاسْتِمَاعِ إِذَا حُدِّثَ، وَحُسْنِ الْبِشْرِ إِذَا لَقِيَ، وَخِفَّةِ الْمُئُونَةِ إِذَا خُولِفَ. وَتَرَكَ مِنَ الْقَوْلِ مَا يَعْتَذِرُ مِنْه، وَتَرَكَ مُخَالَطَةَ اللِّئَامِ مِنَ النَّاسِ، وَتَرَكَ مُمَازَحَةَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِعَقْلِهِ وَلَا مُرُوَّتِه" (الطبقات الكبرى 5/ 224). وعن الشعبي، قال: "ما جالستُ أحدًا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عَبد المَلِك بن مروان فإني ما ذاكرته حديثًا إلا زادني فيه، ولا شعرًا إلا زادني فيه". وقال الأصمعي: "قيل لعبد الملك: عجل بك الشيب. قال: وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة" (تهذيب الكمال في أسماء الرجال).
اشتهر عبد الملك بن مروان بالعلم والفقه والعبادة، فقد كان أحد فقهاء المدينة الأربعة، قال الأعمش عن أبي الزناد: "كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان". حتى قال نافع مولى عبد الله بن عمر: " أدركت المدينة وما بها شاب أنسك، ولا أشد تشميرًا، ولا أكثر صلاة، ولا أطلب للعلم، ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله مِن عبد الملك بن مروان".
وعن ابن عمر أنه قال: "ولد الناس أبناء، وولد مروان أبًا يعني عبد الملك!"، ورآه يومًا وقد ذكر اختلاف الناس، فقال: "لو كان هذا الغلام اجتمع الناس عليه". وقال رجاء بن أَبي سلمة، عن عبادة بن نسي: "قيل لابن عمر: إنكم معشر أشياخ قريش يوشك أن ينقرضوا، فمن نسأل بعدكم. فقال: إن لمروان ابنًا فقيهًا فسلوه" (تاريخ بغداد 10/ 388).
وقد عُرف عن عبد الملك بن مروان فقهه وتقواه وملازمته لكتاب الله، فكان يسمى حمامة المسجد؛ لحرصه على المكث فيه، ومداومته قراءة القرآن، وقد استشهد الإمام مالك في الموطأ بفقهه وأحكامه وقضاياه، قال أبو بكر بن العربي: "فهذا مالك -رضي الله عنه- قد احتج بقضاء عبد الملك بن مروان في موطئه وأبرزه في جملة قواعد الشريعة... وأخرج البخاري عن عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان كتب: "إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت، وإن بني قد أقروا بمثل ذلك" (العواصم مِن القواصم).
وكان عبد الملك بن مروان يحض الناس في خلافته على طلب العلم، فيقول: "إن العلم سيقبض قبضًا سريعًا، فمَن كان عنده علم فليظهره غير غال فيه ولا جاف عنه"، وكان يجد في الأذكار الصالحة، ويوصي بذلك أصحابه، فقد روي ابن أبي الدنيا أن عبد الملك كان يقول لمَن يسايره في سفره إذا رفعت له شجرة: سبحوا بنا حتى تأتي تلك الشجرة، كبروا بنا حتى تأتي تلك الشجرة، ونحو ذلك (البداية والنهاية 9/ 64)، وكان في حياته الخاصة قد ترك سبل اللهو مِن الشراب والخمر والموسيقى والغناء، وقال الأصمعي عن أبيه عن جده: "وخطب عبد الملك يومًا خطبة بليغة، ثم قطعها وبكى بكاءً شديدًا، ثم قال: يا رب إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي، فبلغ ذلك القول زاهد العراق الحسن البصري فبكى، وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام" (البداية والنهاية 9/ 67)، وقال الشعبي: خطب عبد الملك، فقال: "اللهمّ إن ذنوبي عظام، وهي صغار في جنب عفوك، فأغفرها لي يا كريم" (تاريخ الإسلام للذهبي 6/146).
(2) التوابون مجموعة مِن الشيعة، كان كثير منهم ممَن كتبوا إلى الحسين بن علي وهو في مكة بعد موت معاوية ليسير إليهم في الكوفة؛ فلما سار إليهم خذلوه وتخلوا عن نصرته، وأسلموه إلى المصير المؤلم الذي آل إليه، ولكن بعد استشهاده هزتهم الفاجعة، وعضهم الندم على تقصيرهم نحوه، فلم يجدوا طريقة يكفِّرون بها عن هذا التقصير الكبير، ويتوبون إلى الله بها مِن هذا الذنب العظيم سوى الثأر للحسين بقتل قتلته، فسُمُّوا بذلك: التوابين، وتزعمهم سليمان بن صرد الخزاعي، وسموه: أمير التوابين، وعلَّق ابن كثير على جيش التوابين بقوله: "لو كان هذا العزم والاجتماع قبْل وصول الحسين إلى تلك المنزلة لكان أنفع له وأنصر مِن اجتماعهم لنصرته بعد أربع سنين!" (البداية والنهاية 11/ 697).
(3) هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذَّاب, كان والده الأمير أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة الثقفي, أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-, ولم تعلم له صحبة, استعمله عمر بن الخطاب على جيشٍ, فغزا العراق, وإليه تنسب وقعة جسر أبي عبيد, ونشأ المختار فكان مِن كبراء ثقيف, وذوي الرأي والفصاحة والشجاعة والدهاء، لكن قد تغيرت أحواله فيما بعد، وكان يزعم أن الوحي ينزل عليه على يد جبريل يأتي إليه، ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي على مسرح الأحداث بعد موت يزيد بن معاوية سنة 64هـ, وهو مِن الشخصيات التي حفل بها العصر الأموي, والتي كانت تسعى لها عن دور, وتسعى إلى السلطان بأي ثمن، فتقلب مِن العداء الشديد لآل البيت على ادعاء حبهم والمطالبة بثأر الحسين (البداية والنهاية 11/ 66).








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #44  
قديم 28-11-2024, 07:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (44)

عبد الملك بن مروان وصراعه مع عبد الله بن الزبير










كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق أحداث الصراع بيْن عبد الملك وأهل العراق، والتي انتهت بمقتل مصعب -رحمه الله-، ولما بلغ عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- قتل أخيه مصعب، قام فخطب في الناس، فقال: "الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك مَن يشاء، وينزع الملك ممَن يشاء، ويعز مَن يشاء، ويذل مَن يشاء؛ ألا إنه لن يذل الله مَن كان الحق معه، وإن كان فردًا، ولن يعز مَن كان وليه الشيطان وحزبه وإن كان معه الأنام طُرًّا -أي جميعًا-، ألا وإنه قد أتانا مِن العراق خبر أحزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب -رحمه الله- فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة، وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر، وكريم العزاء، ولئن أصبت بمصعبٍ، لقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا مِن عثمان بخلو مصيبة، وما مصعب إلا عبد مِن عبيد الله، وعون مِن أعواني، إلا أن أهل العراق -أهل الغدر والنفاق- أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا -والله- ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا الإسلام، وما نموت إلا قعصًا -القعص: الموت السريع- بالرماح، وموتًا تحت ظلال السيوف؛ ألا إنما الدنيا عارية مِن الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ الأشِر البطر، وإن تدبر لا أبكي عليها بكاء الحَرِق المهين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم" (تاريخ الرسل والملوك).

وبعد مقتل مصعب انحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز، ولم يكن في استطاعته الصمود لافتقاره إلى المال والرجال، كما أن مقتل أخيه مصعب قد فَتَّ في عَضُدِه، ولكنه لم يُلْقِ الراية، وظل يقاوم حتى النهاية، وقد واجَه ابن الزبير عدة حملات عسكرية مِن الشام كحملة ابن دلجة القيني التي أتت في أواخر عهد مروان مِن الشام لقتال ابن الزبير، واستطاع ابن الزبير أن يتغلب على هذا الجيش (أنساب الأشراف للبلاذري)، ثم جاءت حملة عروة بن أنيف في ستة آلاف إلى المدينة، وأمرهم عبد الملك ألا ينزلوا على أحدٍ، ولا يدخلوا المدينة إلا لحاجة ضرورية وأن يعسكروا "بالعَرْصة" -البقعة الواسعة بيْن الدور لا بناء فيها، وهما عرصتان بنواحي المدينة بالعقيقوسار عروة بن أنيف وعسكر بالعرصة، ومكث عروة على هذا الوضع شهرًا، ولم يبعث إليه ابن الزبير أحدًا، ولم تحدث أي مواجهة بين جيشي عروة وابن الزبير، عندها أمر عبد الملك هذا الجيش بالعودة إلى الشام فرجع، ثم كانت حملة عبد الملك بن الحارث بن الحكم، وكان قوامها أربعة آلاف، وكانت مهمتها الحفاظ على المنطقة ما بيْن الشام والمدينة، ثم كانت حملة طارق بن عمرو، وكانت هذه الحملة هي آخر حملة وجهها عبد الملك بن مروان تجاه الحجاز (الدولَة الأمويَّة عَواملُ الازدهارِ وَتَداعيات الانهيار)، ثم لم يضع عبد الملك بن مروان وقتًا بعد انتصاره على مصعب، وقرر أن يقضي نهائيًّا على دولة ابن الزبير (العالم الإسلامي في العصر الأموي، عبد الشافي محمد عبد اللطيف).

ووقع الخيار لقيادة الجيش للقضاء على ابن الزبير على الحجاج بن يوسف، وتوجَّه بجيشه إلى الحجاز واستقر بالطائف، وبدأ يرسل بعض الفرق العسكرية إلى مكة، وكان ابن الزبير يرسل إليه بمثلها فيقتتلون وتعود كل فرقة إلى معسكرها، وفي محاولة لإنهاك ابن الزبير قام الحجاج بفرض حصار اقتصادي على مكة، وقد أثر هذا الحصار على ابن الزبير، وأصابت الناس مجاعة شديدة حتى إن ابن الزبير اضطر إلى ذبح فرسه ليطعم أصحابه (أنساب الأشراف للبلاذري)، وفي الوقت نفسه كانت العير تحمل إلى أهل الشام مِن عند عبد الملك، السويق، والكعك والدقيق، وقد ترتب على تردي الأحوال داخل مكة، أن بدأ التخاذل يدب بيْن أنصار ابن الزبير، وبدأوا ينسحبون واحدًا تلو الآخر.

ومما شجَّع على تخاذل هؤلاء: إعطاء الحَجّاج الأمان لكل مَن كف عن القتال، وانسحب مِن جيش ابن الزبير (أنساب الأشراف للبلاذري)، وأراد الحجاج بن يوسف الثقفي أن ينهي أمر ابن الزبير فكتب إلى عبد الملك بن مروان يطلب منه الإذن بقتاله ومناجزته، فأجابه عبد الملك بقوله: افعل ما ترى (أنساب الأشراف للبلاذري)، فتوجه الحجاج ابن يوسف بجميع جيشه إلى مكة ونصب المنجنيق على جبالها (تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف لابن الضياء)، وبدأ يضرب ابن الزبير داخل الحرم ضربًا متواصلاً (أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه للفاكهي)، وفي الوقت نفسه كانت بقية جيشه يقاتلون البقية الباقية مع ابن الزبير.

وتوسط بعض أعيان مكة "وعلى رأسهم ابن عمر" لدى الحجاج طالبين إليه أن يكف عن استعمال المنجنيق، فأجابهم: "والله إني لكاره لما ترون، ولكن ماذا أصنع وقد لجأ هذا إلى البيت؟ وكانت وفود الحج قد جاءت إلى مكة مِن كافة الأقطار الإسلامية، وقد منعهم مِن الطواف حول البيت ما يتعرض له الطائفون مِن خطر المنجنيق، ولما كان في ذلك تعطيل لركنٍ مِن أركان الحج، فقد تدخل في الأمر ابن عمر فكتب إلى الحجاج يقول له: اتقِ الله، فإنك في شهر حرام، وبلد حرام، وقد قدمت وفود الله مِن أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله، ويزدادوا خيرًا" (أنساب الأشراف للبلاذري)، فأرسل الحجاج إلى طارق بن عمرو بأن يكف عن استعماله حتى ينتهي الناس مِن الحج، وقال لهم: والله إني لكاره لما ترون، ولكن ابن الزبير لجأ إلى البيت، وبعد ما انتهى موسم الحج، نادى الحجاج في الناس بالانصراف إلى البلاد، وأن القتال سيستأنف ضد ابن الزبير" (أنساب الأشراف للبلاذري).

وذكر غير واحد أنهم لما رموا بالمنجنيق جاءت الصواعق والبروق والرعود حتى جعلت تعلو أصواتها على صوت المنجنيق، ونزلت صاعقة فأصابت مِن الشاميين اثني عشر رجلًا؛ فضعفت عند ذلك قلوبهم عن المحاصرة، فلم يزل الحجاج يشجعهم ويقول: "إني خبير بهذه البلاد، هذه بروق تهامة ورعودها وصواعقها، وإن القوم يصيبهم مثل الذي يصيبكم، وجاءت صاعقة مِن الغد فقتلت مِن أصحاب ابن الزبير جماعة كثيرة أيضًا، فجعل الحجاج يقول: ألم أقل لكم: إنهم يصابون مثلكم، وأنتم على الطاعة وهم على المخالفة" (البداية والنهاية لابن كثير).

ويروي البلاذري: أن العديد ممَن كانوا مع ابن الزبير حاولوا إقناعه بقبول أمان الحجاج بن يوسف، فلم يستجب ابن الزبير لمحاولاتهم، وأصر على القتال، وقد سطرت الروايات مواقف بطولية رائعة لابن الزبير -رضي الله عنه- في مواجهة كتائب الحجاج، وبالفعل بدأ الحجاج يضرب بعد انصراف الناس، وشدد على ابن الزبير، وتحرج موقفه وانفض عنه معظم أصحابه، وما زال أهل مكة يخرجون إلى الحجاج بالأمان ويتركون ابن الزبير حتى خرج إليه قريب مِن عشرة آلاف، فأمنهم وقل أصحاب ابن الزبير جدًّا، حتى خرج ابناه حمزة وخبيب، اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لأنفسهما! (الكامل في التاريخ لابن الأثير).

فلما رأى ابن الزبير ذلك دخل على أمه فقال لها: "يا أمه، خذلني الناس حتى ولديّ وأهلي، فلم يبقَ معي إلا اليسير ممَن ليس عنده مِن الدفع أكثر مِن صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردتُ مِن الدنيا، فما رأيك؟! فقالت: أنتَ -والله- يا بني أعلم بنفسك، إن كنتَ تعلم أنك على الحق وإليه تدعو فامضِ له، فقد قٌتل عليه أصحابك، ولا تمكِّن مِن رقبتك يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنتَ إنما أردتَ الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت مَن قٌتل معك، وإن قلتَ: كنتُ على حقٍّ فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس مِن فعل الأحرار، ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا، القتل أحسن، والله لضربة بالسيف في عزٍّ، أحب إلي مِن ضربة بسوط في ذلٍّ، قال: إني أخاف إن قتلوني أن يمثِّلوا بي، قالت: يا بني إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها" (جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت).

فدنا منها وقبَّل رأسها، وقال: "هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا، ما ركنتُ إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أماه فإني مقتول مِن يومي هذا، فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد منكرًا، ولا عمل بفاحشة قط، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به، بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي مِن رضا ربي، اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني، فقالت أمه: إني لأرجو مِن الله أن يكون عزائي فيك حسنًا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك.

قال: جزاك الله يا أمه خيرًا، فلا تدعي الدعاء لي قبْل وبعد.

فقالت: لا أدعه أبدًا، لمَن قُتل على باطلٍ فقد قٌتلت على حق، ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين" (تاريخ الرسل والملوك).

فتناول يديها ليقبلها فقالت: "هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئتُ مودعًا؛ لأني أرى هذا آخر أيامي مِن الدنيا، قالت: امضِ على بصيرتك وادن مني حتى أودّعك. فدنا منها فعانقها وقبلها، ثم أخذته إليها فاحتضنته لتودعه، واعتنقها ليودعها، وكانت قد أضرت في آخر عمرها، فوجدته لابسًا درعًا مِن حديد، فقالت: يا بني، ما هذا لباس مَن يريد ما تريد مِن الشهادة. فقال: يا أماه، إنما لبسته لأطيب خاطرك، وأسكن قلبك به. فقالت: لا يا بني، ولكن انزعه. فنزعه، وجعل يلبس بقية ثيابه ويتشدد، وهي تقول: شمر ثيابك. وجعل يتحفظ مِن أسفل ثيابه؛ لئلا تبدو عورته إذا قتل، وجعلت تذكره بأبيه الزبير، وجده أبي بكر الصديق، وجدته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وترجيه القدوم عليهم إذا هو قُتل شهيدًا، ثم خرج مِن عندها، فكان ذلك آخر عهده بها -رضي الله عنهما- وعن أبيه وأبيها، ثم قالت: امضِ على بصيرة فودعها وخرج" (البداية والنهاية لابن كثير)، قال مصعب بن ثابت: "فما مكثتْ بعده إلا عشرًا"، ويقال: خمسة أيام (تاريخ الرسل والملوك للطبري).


ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #45  
قديم 01-01-2025, 10:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (45)

استشهاد ابن الزبير -رضي الله عنهما









كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق ما كان مِن أمر عبد الله بن الزبير -رضى الله عنهما- وحديثه مع أمه أسماء -رضي الله عنها-، وقد قرر ابن الزبير أن يستمر في المواجهة ولو أدى ذلك إلى مقتله.

كان ابن الزبير -رضي الله عنهما- يخرج مِن باب المسجد الحرام، وهناك خمسمائة فارس وراجل، فيحمل عليهم فيتفرقون عنه يمينًا وشمالًا، ولا يثبت له أحد، وكانت أبواب الحرم قد قل مَن يحرسها مِن أصحاب ابن الزبير، وكان لأهل حمص حصار الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وعلى كل باب قائد، ومعه أهل تلك البلاد، وكان الحجاج وطارق بن عمرو في ناحية الأبطح -المكان المتَّسعُ يَمُرّ به السيل، فيترك فيه الرملَ والحصى الصغار ومنه أَبطح مكَّة، هو مسيل واسع يقع بيْن مكة ومنى-، وكان ابن الزبير لا يخرج على أهل باب إلا فرقهم وبدد شملهم (البداية والنهاية لابن كثير).

وفي آخر يوم مِن حياته صلى ركعتي الفجر ثم تقدم وأقام المؤذن فصلى بأصحابه فقرأ: (ن وَالْقَلَمِ) (القلم:1)، حرفًا حرفًا، ثم سلم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم خطب خطبة بليغة، ثم قال: "احملوا على بركة الله". ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون -جبل بأعلى مكة- فرُمي بحجر، فأصاب جبهته، فسقط، ودمي وجهه (الأخبار الطوال للدينوري، ص 315)، وقاتلهم قتالًا شديدًا، فتعاونوا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء مِن جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، وتولى قتله رجل مِن قبيلة مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج، فخر ساجدًا -قبحه الله-، وسار الحجاج وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه، فقال طارق: "ما ولدت النساء أذكر مِن هذا!". فقال الحجاج: "أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم، هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذر، إنا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا منعة فينتصف منا، بل يفضل علينا، فبلغ كلامهما عبد الملك فصوب طارقًا" (الكامل في التاريخ 3/ 73).

وقد ذٌكر أن ابن الزبير في يوم استشهاده قال: "ما أُراني اليوم إلا مقتولاً، لقد رأيتُ في ليلتي كأن السماء فرجت لي فدخلتها، فقد -والله- مللت الحياة وما فيها" (سير أعلام النبلاء، 3/ 378)، ولما قٌتل عبد الله خرجتْ إليه أمه حتى وقفت عليه، وهي على دابة، فأقبل الحجاج في أصحابه فسأل عنها فأخبر بها، فأقبل حتى وقف عليها فقال: "كيف رأيت نصر الله الحق وأظهره؟ قالت: ربما أُديل الباطل على الحق، فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله -تعالى-: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج:25)، وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم! قالت: كذبت، كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسُرّ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحنكه بيده وكبر المسلمون يومئذٍ حتى ارتجت المدينة فرحًا به، وقد فرِحتَ أنت وأصحابك بمقتله، فمَن كان فرح يومئذ خير منك ومِن أصحابك، وكان مع ذلك برًّا بالوالدين، صوامًا قوامًا بكتاب الله، معظمًا لحُرم الله، يُبْغِض أن يُعصى الله -عز وجل-" (البداية والنهاية لابن كثير).

وقد دافعت عن ابنها دفاعًا مجيدًا؛ فانكسر الحجاج وانصرف، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إليه يلومه في مخاطبته أسماء -رضي الله عنها-، وقال: "مالك ولابنة الرجل الصالح" (البداية والنهاية لابن كثير).

وقيل: إن الحجاج دخل عليها بعد أن قتل ابنها فقال: "يا أماه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لكِ مِن حاجة؟ فقالت: لستُ لك بأم، إنما أنا أم المصلوب على الثنية، وما لي من حاجة، ولكن أحدثك إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا) فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ -الذي يسفك الدماء، ويعتدي على الناس، ويظلمهم- فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ. (رواه مسلم).

ولما قتل ابن الزبير ارتجت مكة بكاءً على عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، فخطب الحجاج الناس، فقال: "أيها الناس، إن عبد الله بن الزبير كان مِن خيار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة، ونازعها أهلها، وألحد في الحرم، فأذاقه الله مِن عذاب أليم، وإن آدم كان أكرم على الله مِن ابن الزبير، وكان في الجنة، وهي أشرف مِن مكة، فلما خالف أمر الله وأكل مِن الشجرة التي نهي عنها؛ أخرجه الله مِن الجنة، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله". وقيل: "إنه قال: يا أهل مكة، بلغني إكباركم واستعظامكم قتل ابن الزبير، فإن ابن الزبير كان مِن خيار هذه الأمة، حتى رغب في الدنيا، ونازع الخلافة أهلها، فخلع طاعة الله، وألحد في حرم الله، ولو كانت مكة شيئًا يمنع القضاء لمنعت آدم حرمة الجنة، وقد خلقه الله بيده، ونفخ فيه مِن روحه، وأسجد له ملائكته، وعلَّمه أسماء كل شيء، فلما عصاه أخرجه مِن الجنة، وأهبطه إلى الأرض، وآدم أكرم على الله مِن ابن الزبير، وإن ابن الزبير غيَّر كتاب الله"، فقال له عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "لو شئتُ أن أقول لك: كذبت لقلتُ، والله إن ابن الزبير لم يغيِّر كتاب الله، بل كان قوامًا به، صوامًا، عاملًا بالحق" (تاريخ دمشق لابن عساكر).

ثم أمر الحجاج بجثة ابن الزبير فصلبت على ثنية كداء عند الحجون، فما زالت مصلوبة حتى مرَّ به عبد الله بن عمر فقال: "رحمة الله عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد كنتَ صوامًا قوامًا وصولًا للرحم، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، والله لأمة أنت شرها لأمة خير"، ثم قال: "أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟"، فبعث الحجاج، فأنزل عن الجذع. (البداية والنهاية لابن كثير)، ودفن هناك. ولما صلب ابن الزبير ظهرت منه رائحة المسك (الكامل في التاريخ لابن الأثير، 3/ 74).

ودخل الحجاج إلى مكة، فأخذ البيعة مِن أهلها لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، ولم يزل الحجاج مقيمًا بمكة حتى أقام للناس الحج عامه هذا أيضًا، وهو على مكة واليمامة واليمن، وقد كتب عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف ألا يخالف عبد الله بن عمر في الحج لما يعرفه مِن فضله وفقهه.

ولما أجمع الناس على البيعة لعبد الملك بن مروان كتب إليه ابن عمر: "أما بعد، فإني قد بايعت لعبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت، وإن بنيّ قد أقروا بذلك، وقد بلغني أن المسلمين اجتمعوا على البيعة لك، وقد دخلت فيما دخل فيه المسلمون، والسلام" (الطبقات لابن سعد، 4/ 152).

ولا شك أن مذهب أهل الحق أن ابن الزبير كان مظلومًا، وأن الحجاج ورفقته خارجون عليه، وقد ذكرنا سابقًا آراء العلماء في ذلك، وأن مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغين على ابن الزبير خارجين على خلافته؛ فهو أمير المؤمنين، وقد انعقدت له البيعة، وكانت مدة خلافته تسع سنين، وتوفي وله اثنان وسبعون سنة، وبهذا انتهت التوترات السياسية، واستقر الأمر لعبد الملك وسيطر على الدولة في كافة أنحائها، واستمرت الدولة الأموية دون خلافاتٍ مع أهل الحجاز، لكن الخلافات لم تنتهِ في أرض العراق.

فإن قال قائل: لماذا لم يستسلم ابن الزبير -رضي الله عنهما- بعد مقتل أخيه مصعب، وسيطرة عبد الملك بن مروان على بلاد الشام والعراق ومصر والحجاز، ويكون تنازله دفعًا للمفسدة الكبرى، وهي سفك الدماء، واستحلال الحرم، ولقد فعل ذلك الحسن -رضي الله عنه- عندما تنازل لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، وقد نال الحسن على فعله هذا الثناء مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!


فالجواب: نعم، كان هذا بإمكانه -رضي الله عنه-، وقد كان كثير مِن أصحابه يرون ذلك، ويتضح ذلك ويظهر في قول ابن عمر: "لقد كنت أنهاك عن هذا"، ولكن ابن الزبير اجتهد فأخطأ، ولعله أراد أن يتأسى في ذلك بأمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- الذي رفض التنازل عن الخلافة، ولكن عثمان -رضي الله عنه- كان يملك النص الصريح في عدم تنازله؛ فلقد قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عُثْمَانُ إِنَّهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، ولعله أيضًا غلب على ظنه أنه مقتول في جميع الأحوال حتى لو استسلم للحجاج.

وفي النهاية نقول: أن الترجيح بيْن المصالح والمفاسد يختلف مِن شخصٍ لآخر، ومِن زمنٍ إلى زمنٍ، ومِن مكانٍ إلى مكانٍ، ولكل واقع معطياته، والواقع يفرض نفسه أحيانًا.

والله المستعان.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #46  
قديم 17-04-2025, 03:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (46)

ثورة عبد الرحمن بن الأشعث عام 81هـ



كتبه/ زين العابدين كامل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه فتنة سياسية جديدة تقع في أرض العراق في عصر الدولة الأموية، وهي إحدى الثورات القوية التي قام بها أهل العراق، وقد قام أهل العراق بهذه الثورة على واليهم الحجاج بن يوسف، والتفوا جميعًا حول عبد الرحمن بن الأشعث الذي تولى قيادة هذه الثورة.
بداية الأحداث:
كان الحجاج قد أرسل جيشًا قويًّا بلغ عدده أربعين ألف مقاتل مِن أهل البصرة والكوفة، بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث لقتال "رتبيل" ملك سجستان الذي امتنع عن دفع الجزية، وبالفعل تحرك الجيش بقيادة ابن الأشعث لتأديب رتبيل وكان ذلك عام 80 هـ، وقد استطاع الجيش أن يحقق نصرًا عظيمًا في بلاد الترك، وتمكن مِن السيطرة على بعض البلاد، وكان ابن الأشعث كلما فتح بلدًا عيَّن عليها نائبًا، وأوغل جدًّا في بلاد رتبيل وغنم كثيرًا مِن الأموال والبقر والغنم (البداية والنهاية 9/ 35).
ثم رأى ابن الأشعث أن يتوقف عن التوغل في تلك البلاد حتى يصلحوا ما بأيديهم مِن البلاد المفتوحة، وأن يقيموا في هذه البلاد حتى يتقووا إلى العام المقبل، فكتب إلى الحجاج بذلك، فكتب إليه الحجاج يستهجن رأيه في ذلك ويستضعف عقله ويصفه بالجبن والنكول عن الحرب، ويأمره حتمًا بدخول بلاد رتبيل، ثم أردف ذلك بكتاب ثانٍ ثم ثالث مع البريد، وكتب في جملة ذلك: "يا ابن الحائك الغادر المرتد، امضِ إلى ما أمرتك به مِن الإيغال في أرض العدو وإلا حل بك ما لا يطاق"، وهدده بالعزل أيضًا، وكان الحجاج يبغض ابن الأشعث ويقول: "هو أهوج أحمق حسود، وأبوه الذي سلب أمير المؤمنين عثمان ثيابه وقاتله، ودل عبيد الله بن زياد على مسلم بن عقيل حتى قتله"، وكان عبد الرحمن يشعر بأن الحجاج يبغضه، وكان يضمر للحجاج السوء ويتمنى زوال الملك عنه.
وهنا غضب ابن الأشعث مِن كتاب الحجاج وقال: "يكتب إليَّ بمثل هذا وهو لا يصلح أن يكون مِن بعض جندي، ولا مِن بعض خدمي لخوره وضعف قوته!"، ثم إن ابن الأشعث جمع رءوس أهل العراق وقال لهم: "إن الحجاج قد ألح عليكم في الإيغال في بلاد العدو، وهي البلاد التي قد هلك فيها إخوانكم بالأمس، وقد أقبل عليكم فصل الشتاء والبرد، فانظروا في أمركم؛ أما أنا فلستُ مطيعه، ولا أنقض رأيًا رأيته بالأمس"، ثم قام فيهم خطيبًا فأعلمهم بما كان رأى مِن الرأي له ولهم، وهو إصلاح البلاد التي فتحوها، وأن يقيموا بها حتى يتقووا بغلاتها وأموالها ويخرج عنهم فصل البرد ثم يسيرون في بلاد العدو فيفتحونها بلدًا بلدًا إلى أن يحصروا رتبيل ملك الترك في مدينة العظماء، ثم طلب منهم الرأي، فثار إليه الناس فقالوا: "بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع" (البداية والنهاية، 9/37).
ثم قاموا إلى عبد الرحمن بن الأشعث فبايعوه بدلًا مِن الحجاج، ولم يذكروا خلع عبد الملك بن مروان، ثم سار ابن الأشعث بالجنود الذين معه مقبلًا مِن سجستان إلى الحجاج ليقاتله ويأخذ منه العراق، فلما توسطوا الطريق قالوا: "إن خَلْعنا للحجاج خلع لابن مروان" فخلعوهما وجددوا البيعة لابن الأشعث، فبايعهم على كتاب الله وسنة رسوله، وخلع أئمة الضلالة وجهاد الملحدين.
ومِن هنا بدأت ثورة ابن الأشعث، وتُعد هذه الثورة هي أخطر الثورات التي قامتْ على الدولة الأٌموية، ثم سار الجيش في طريقه إلى العراق قاصدًا الحجّاج، فلما جاء الخبر الحجّاج كتب إلى عبد الملك يخبره بالأمر ويطلب منه المدد ويستعجله في بعثه الجنود إليه، وجاء الحجاج حتى نزل البصرة.
وكتب المهلب بن أبي صفرة إلى ابن الأشعث يقول له: "إنك يا ابن الأشعث قد وضعت رجلك في ركاب طويل، أبقِ على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، انظر إلى نفسك فلا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلتَ أخاف الناس على نفسي، فالله أحق أن تخافه مِن الناس، فلا تعرضها لله في سفك الدماء، أو استحلال محرم والسلام عليك"، ولكن لم يعر ابن الأشعث نصح المهلب أدنى اهتمام.
وكتب المهلب إلى الحجاج: "أما بعد، فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك مثل السيل المنحدر مِن علوٍّ ليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شدة في أول مخرجهم، وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يصلوا إلى أهليهم وينبسطوا إلى نسائهم ويشموا أولادهم ثم واقعهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم -إن شاء الله-" (تاريخ الرسل والملوك 6/ 339).
معركة الزاوية:
ثم أخذ عبد الملك في تجهيز الجنود مِن الشام إلى العراق في نصرة الحجاج وتجهيزه في الخروج إلى ابن الأشعث، وعصى رأي المهلب فيما أشار به عليه، وكان في مشورته النصح والصدق، وجعلت كتب الحجاج لا تنقطع عن عبد الملك بخبر ابن الأشعث صباحًا ومساءً، أين نزل؟ ومِن أين ارتحل؟ وأي الناس إليه أسرع؟ وجعل الناس يلتفون على ابن الأشعث مِن كل جانب، حتى قيل: إنه سار معه ثلاثة وثلاثون ألف فارس، ومائة وعشرون ألف راجل، وخرج الحجاج في جنود الشام مِن البصرة نحو ابن الأشعث، وقد قرر الحجاج مواجهة ابن الأشعث ومَن معه قبْل دخولهم العراق، فأرسل الكتائب تلو الكتائب، ولكن لم تستطع إيقاف زحف ابن الأشعث فهزمها، وتقدم حتى دخل البصرة بعد أن خرج منها الحجّاج فارًّا بنفسه ومَن معه مِن أهل الشام، ونزل بالزاوية -لفظ يطلق على عدة أماكن، والمراد به هنا موضع قرب البصرة-؛ عند ذلك أيقن الحجّاج بصدق المهلب في نصحه له، فقال: "لله أبوه، أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي فلم نقبل" (تاريخ الرسل والملوك، 6/346).
وفي شهر المحرم عام 82هـ كانت وقعة الزاوية بيْن ابن الأشعث والحجاج، وكان أول يوم لأهل العراق على أهل الشام، ثم توافقوا يومًا آخر، فحمل سفيان بن الأبرد أحد أمراء أهل الشام على ميمنة ابن الأشعث فهزمها وقَتل خلقا كثيرًا مِن القراء مِن أصحاب ابن الأشعث في هذا اليوم، وخرَّ الحجاج لله ساجدًا بعد ما كان جثى على ركبتيه وسل شيئًا مِن سيفه وجعل يترحم على مصعب بن الزبير، ويقول: "ما كان أكرمه حتى صبر نفسه للقتل" (البداية والنهاية 9/ 40).
قال الواقدي: "ولما التقى جيش الحجاج وجيش ابن الأشعث بالزاوية جعل جيش الحجاج يحمل عليهم مرة بعد مرة، فقال القراء: أيها الناس ليس الفرار مِن أحد بأقبح منكم، فقاتلوا عن دينكم ودنياكم". وقال سعيد بن جبير نحو ذلك.
وقال الشعبي: "قاتلوهم على جورهم واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة".
ثم قاتلوا فانهزموا، ولم يقاتلوا كثيرًا علمًا بأن هناك طائفة كبيرة مِن أهل العلم والصلاح قد اشتركوا في ثورة ابن الأشعث؛ بسبب ظلم الحجاج وانتهاكه للحرمات، وهذا ما سنوضحه في الصفحات التالية بعد معركة دير الجماجم، وكان ابن الأشعث يحرِّض الناس على القتال، فلما رأى ما الناس فيه أخذ مَن اتبعه وانسحب.
ثم رجع ابن الأشعث بمَن بقي معه ومَن تبعه مِن أهل البصرة؛ فسار حتى دخل الكوفة فبايعه أهل الكوفة ولحق به كثيرٌ مِن أهل البصرة، وانضم إليه أهل المسالِح -جمع مَسلَحة والمَسْلَحُ: القومُ المسلَّحون في ثغرٍ أَو مخفرٍ- والثغور" (تاريخ الإسلام للذهبي، 6/5).
وقد قيل: "إن الحجاج قتل يوم الزاوية أحد عشر ألفًا" (تاريخ الرسل والملوك للطبري 6/ 380)، ثم كانت وقعة دير الجماجم في شعبان مِن نفس السَّنة.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #47  
قديم 17-04-2025, 03:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (47)

ثورة عبد الرحمن بن الأشعث عام 81هـ



كتبه/ زين العابدين كامل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا في المقال السابق سبب ثورة عبد الرحمن بن الأشعث وأهل العراق، وما حدث في معركة الزاوية، ونستعرض في هذا المقال أحداث معركة دير الجماجم -تقع دير الجماجم على سبعة فراسخ مِن الكوفة مِن طريق البصرة-.
معركة دير الجماجم:
لما رأى أهل الشام وبنو أمية قوة ابن الأشعث أشاروا على عبد الملك بعزل الحجّاج وقالوا: "إن كان إنما يرضي أهل العراق أن تنزع عنهم الحجّاج فانزعه عنهم، تخلص لك طاعتهم"، فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان بالجيش إلى العراق وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجّاج عنهم، وأن يجري عليهم العطاء، وأن ينزل ابن الأشعث أي بلدٍ شاء مِن العراق ويكون واليًا، فإن قبلوا ذلك نزعنا عنهم الحجّاج ويكون محمد بن مروان مكانه على العراق، وإن أبوا فالحجّاج أمير الجميع وولي القتال (تاريخ الرسل والملوك 7/ 245).
ولم يكن أمر أشق على الحجّاج ولا أغيظ له، ولا أوجع لقلبه مِن هذا الأمر، فلقد أحزنه وعزّ عليه أن يضحي به عبد الملك بن مروان بعد كل ما قدَّمه له مِن خدماتٍ (العالم الإسلامي في العصر الأموي، لعبد الشافي محمد عبد اللطيف)، وكتب إليه يذكره بما حدث مِن أهل العراق مع عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، قال له: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلًا حتى يخالفونك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، وأخذ يعدد له بعض مواقف أهل العراق.
ومما قاله له: "إن الحديد بالحديد يفلح، كان الله لك فيما ارتأيت والسلام عليك"، فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق كما أمر، وبالفعل عرض عبد الله بن عبد الملك ومحمد بن مروان الأمر على أهل العراق، فقالوا: ننظر في أمرنا غدًا، ونرد عليكم الخبر عشية ثم انصرفوا، فاجتمع جميع الأمراء إلى ابن الأشعث فقام فيهم خطيبًا وندبهم إلى قبول ما عُرض عليهم مِن عزل الحجاج عنهم، وبيعة عبد الملك وإبقاء الأعطيات، وإمرة محمد بن مروان على العراق بدل الحجاج، ومما قاله لهم: "فقد أعطيتم أمرًا انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدًا حسرة"، فنفر الناس مِن كل جانب وقالوا: "لا والله لا نقبل ذلك، نحن أكثر عددًا، وهم في ضيقٍ مِن الحال وقد حكمنا عليهم وذلوا لنا، والله لا نجيب إلى ذلك أبدًا!"، ثم جددوا خلع عبد الملك.
وكان الأولى بابن الأشعث أن لا ينساق لما تطلبه الجماهير، فقد ضاعت فرصة كبيرة في التخلص مِن الحجّاج، وكان يمكنهم رفع سقف المطالب والضغط على عبد الملك حتى يستجيب لرفع المظالم، وإقامة العدل، والتقيد بالكتاب والسُّنة، ولكن يبدو أن بعض القواعد الشرعية كانت غائبة عن كثيرٍ منهم، فلم يفكروا في مآلات الأمور ولم يحسنوا الترجيح بيْن المصالح والمفاسد، لقد كان مِن الأولى أن يحافظ هؤلاء على وحدة الأمة، وعلى دماء المسلمين، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، إذن فلابد مِن مراعاة قاعدة: "تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما"، وقاعدة: "ارتكاب أخف المفسدتين لتفويت أشدهما"، وقاعدة: "اعتبار المآلات"، لكن مِن الواضح أن مبايعة أهل العراق لابن الأشعث جاءت في لحظاتٍ سيطرت فيها العاطفة الثورية ولم تكن نتيجة معرفة تامة بالواقع وموازين القوى الحقيقية.
وهنا يُلاحظ: أن الحماس الممزوج بالعاطفة لا يتلاءم مع منهجية التغيير الصحيحة، فلقد توحد هؤلاء وتجمعوا يرفعون بعض الشعارات الممزوجة بأحلام اليقظة، يدفعهم الحماس وتحركهم العاطفة، دون معرفة وبصيرة بحقائق الواقع ومآلات الأمور وعواقبها!
ولا شك أن حلم التغيير يراود كثيرًا مِن المخلصين العاملين لدين الله -عز وجل-، ويتمنى هؤلاء تغيير الواقع المملوء بالظلم وانتشار المنكرات، ويتمنون لو أنهم حكموا شرع الله -عز وجل- في كل شؤون الحياة، ولكن يتحتم على الجميع أن يكونوا على درايةٍ كافيةٍ بمنهج التغيير الصحيح الموافق للضوابط الشرعية والقواعد التي ذكرناها آنفًا، ثم يتحتم على الحركات الإصلاحية أن تقوم بدراسةٍ عميقةٍ للتاريخ الإسلامي وما حوته صفحات التاريخ مِن أحداثٍ وثوراتٍ نجح بعضها وفشل البعض الآخر؛ فلابد مِن تحليل الأحداث التاريخية ودراسة أسباب النجاح والفشل، فلقد كانت هذه الثورة في وقتٍ مِن الأوقات هي أقوى، بل وأنجح الثورات في التاريخ الأموي، وكان بإمكان أصحابها أن يقوموا بتغيير الواقع الذي يعيشونه إلى واقعٍ أفضلٍ بكثير، ولكن في لحظةٍ معينةٍ أخطأ الثوار وأخطأ أيضًا قائدهم، فكانت النتيجة أن سلم محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك قيادة الجيوش الأموية للحجّاج، وقالا: "شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فقد أمرنا أن نسمع لك ونطيع" (تاريخ الرسل والملوك 7/ 246).
وبدأ الفريقان يستعدان للقتال، واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء مِن أهل المصرين لقتال الحَجاج، وجاءت الحجاج أيضًا أمداده مِن قِبَل عبد الملك وخندق كل مِن الطائفتين على نفسه وحول جيشه خندقًا يمتنع به مِن الوصول إليهم، غير أن الناس كان يبرز بعضهم لبعض في كل يوم فيقتتلون قتالًا شديدًا في كل حين، واشتد القتال بيْن الفريقين واستمر القتال لعدة أشهر حتى حلت الهزيمة بابن الأشعث في الرابع مِن جمادى الآخرة سنة 83هـ (تاريخ الرسل والملوك 7/ 254).
ثم دارت معركة أخرى بعدها في مسكن في شعبان مِن نفس السنة، فهزم ابن الأشعث أيضًا، ثم ولى هاربًا إلى رتبيل في سجستان، ولكن الحجّاج هدد رتبيل إن لم يسلم إليه ابن الأشعث ليغزون بلاده بألف ألف مقاتل، فرضخ للتهديد وعزم على تسليمه إليه، فلما أحسَ ابن الأشعث بغدر رتبيل ألقى بنفسه مِن فوق القصر الذي كان فيه، فمات فأخذ رأسه وأرسلها إلى الحجّاج وكان ذلك سنة 85هـ. وقيل: إن رتبيل أرسله مقيدًا إلى الحجاج فلما قرب ابن الأشعث مِن العراق، ألقى نفسه مِن قصر خراب أنزلوه فوقه فهلك. وقيل: إنه أٌصيب بمرض السٌل حتى مات فأرسل رتبيل رأسه إلى الحجاج، وهكذا انتهت حياة ابن الأشعث الذي قاد أخطر ثورة ضد عبد الملك بن مروان، أريقت فيها دماء عشرات الألوف مِن المسلمين (سير أعلام النبلاء).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #48  
قديم 17-04-2025, 03:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (48)

أسباب مشاركة بعض العلماء وأهل الفضل في ثورة ابن الأشعث



كتبه/ زين العابدين كامل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلقد شارك عددٌ كبيرٌ مِن أهل الفضل في ثورة ابن الأشعث، منهم العلماء، ومنهم القٌراء، ومنهم العٌباد والزٌهاد المشهورين بكثرة التعبد، ومنهم مَن كان يحرِّض على الحجاج، ولكنه لم يخرج مع ابن الأشعث ولم يبايعه، ويذكر خليفة بن خياط، أن عددهم بلغ خمسمائة عالم، ولعل هذا العدد يشمل العلماء والقراء وأهل الصلاح (تاريخ خليفة بن خياط)، فقد ذكر الذهبي أن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، الصحابي الجليل، قد كان ممَن يؤلب على الحجّاج ويدعو إلى الانضمام إلى ابن الأشعث (سير أعلام النبلاء).
وذكر ابن كثير -رحمه الله-: أن الحجاج توهم أن أنس بن مالك -رضي الله عنه- كان له مداخلة في الأمر (البداية والنهاية)، ومِن الذين شاركوا أبو الشعثاء سليم بن أسود المحاربي -رحمه الله-، فقد شارك مع ابن الأشعث، وقيل: قتل يوم الزاوية، وعبد الرحمن بن أبي ليلى -رحمه الله-، كان مِن كبار المشاركين في تلك الحركة المحرضين على القتال فيها، وتوفي بوقعة الجماجم حيث اقتحم به فرسه الفرات فغرق -رحمه الله- (الطبقات لابن سعد)، وكذا الإمام الشعبي -رحمه الله- حيث قال: فلم أزل عنده -أي الحجّاج- بأحسن منزلة حتى كان شأن ابن الأشعث، فأتاني أهل الكوفة، فقالوا: "يا أبا عمرو، إنك زعيم القراء، فلم يزالوا حتى خرجت معهم" (سير أعلام النبلاء).
ومنهم: سعيد بن جبير، ممَن شارك مع ابن الأشعث، وكان يحضض على القتال، ونجا مِن القتل وتوارى عن الحجّاج مدة، ولكن تمكن منه عندما قبض عليه والي مكة وأرسله إليه فقتله الحجّاج سنة 94هـ(1)، وقد كان لمشاركة العلماء في هذه الحركة -بهذا الحجم- أثر كبير على الحركة، كما كان للعلماء المشاركين أثر كبير في ميدان القتال، فكانت لهم كتيبة خاصة بهم تسمَّى كتيبة القراء، وقد لقي الحجّاج وجيشه عنتًا ومشقة مِن كتيبة القراء.
هذا وقد انضم إلى ابن الأشعث طوائف كثيرة وفئات متنوعة، تحركها دوافع مختلفة، ولكن الدوافع التي حركت العلماء كانت دوافع شرعية بحسب ما وصل إليه اجتهادهم، وقد كان القاسم المشترك لكل هذه الدوافع شخصية الحجّاج، الظالمة الجائرة المتغطرسة، المتعطشة لسفك الدماء، ولذلك كان العلماء ينقمون على الحجّاج تعديه لأعظم الحدود في الإسلام وانتهاكه لحرماته، وتساهله في سفك الدماء، وكانوا ينقمون عليه سوء معاملته وظلمه للجميع بمَن فيهم العلماء (أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية، لعبد الله الخزعان).
ولقد وصل الحجاج في إسرافه في القتل إلى أنه كان يقتل بأدنى شبهة، فقد روى أبو داود بسندٍ صحيحٍ عن عاصم قال: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: "اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ لَيْسَ فِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ(2)، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لَيْسَ فِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ، لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتُ النَّاسَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَخَرَجُوا مِنْ بَابٍ آخَرَ لَحَلَّتْ لِي دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَاللَّهِ لَوْ أَخَذْتُ رَبِيعَةَ بِمُضَرَ لَكَانَ ذَلِكَ لِي مِنَ اللَّهِ حَلَالًا!".
وقال ابن كثير -رحمه الله- معلقًا على بعض تجاوزات الحجّاج -مما يبيِّن سبب استهانته بالقتل-: "فإن الحجّاج كان عثمانيًّا أمويًّا، يميل إليهم ميلًا عظيمًا، ويرى خلافهم كفرًا، ويستحل بذلك الدماء، ولا تأخذه في ذلك لومة لائم"(البداية والنهاية لابن كثير).
وقال في موضع آخر: "أعظم ما نقم عليه وصح مِن أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله -عز وجل-" (البداية والنهاية لابن كثير).
وقد أنكر العلماء على الحجّاج هذا الإسراف في القتل، فروي عن الإمام عبد الرحمن بن أبي نعم أنه قال للحجّاج: "لا تسرف في القتل إنه كان منصورًا". فقال الحجّاج: "والله لقد هممت أن أروي الأرض مِن دمك". فقال: إن مَن في بطنها أكثر ممَن في ظهرها" (حلية الأولياء).
وكان جواب سعيد بن جبير -رحمه الله- للحجّاج عندما سأله عن رأيه فيه فقال: "نعم ظهر منك جور في حد الله، وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله" (صفة الصفوة لابن الجوزي).
ومِن تجاوزات الحجّاج: تطاوله على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسوء تعامله مع العلماء؛ فلقد تجاوز في معاملته مع ابن عمر، وابن الزبير وأسماء بنت الصديق -رضي الله عنهم جميعًا-.
ومِن ذلك: تطاوله على عبد الله بن مسعود وهو متوفى -رضي الله عنه-، فعن الصلت بن دينار قال: سمعتُ الحجاج على منبر واسطٍ يقول: "عبد الله بن مسعود رأس المنافقين، لو أدركته لأسقيت الأرض مِن دمه!". قال: وسمعته على منبر واسط وتلا هذه الآية: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) (ص:35)، قال: "والله إن كان سليمان لحسودًا!"، وهذه جراءة عظيمة تفضي به إلى الكفر: قبحه الله وأخزاه، وأبعده وأقصاه"(3).
وقد رٌوي أن الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد -رضي الله عنه- يريد إذلاله فِي سنة أربع وسبعين، فقال: "ما منعك مِن نصر أمير المؤمنين عُثْمَان؟ قال: قد فعلت. قال: كذبت. ثم أمر به فخٌتم(4) فِي عنقه"، وخٌتم أيضًا فِي عنق أنس حتى ورد كتاب عَبد المَلِك فيه(5)، وخٌتم فِي يد جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-؛ لأنه لم يمد يده إليه في السلام، فكان يريد إذلالهم بذلك، وأن يجتنبهم الناس ولا يسمعوا منهم(6)؛ هذا فضلًا عن تأخيره للصلاة عن وقتها، ومع تأخيره الصلاة فهو لا يقبل تنبيه أحد مِن العلماء أو إبداء النصح له في ذلك، وهذا مأخذ آخر أخذه العلماء على الحجّاج وهو عدم قبوله لقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
وبهذا يتضح: لماذا شارك بعض العلماء والفقهاء والقراء في ثورة ابن الأشعث؟!
وإن كان بداية الفتنة سببها الخلاف الذي حدث بيْن الحجاج وابن الأشعث حول التوغل في بلاد الترك؛ إلا أن ظلم الحجاج وبغيه هو الأصل الذى تحركت الجماهير مِن أجله.
معارضة بعض العلماء لثورة ابن الأشعث:
هناك طائفة أخرى مِن العلماء عارضوا الثورة واعتزلوها، ولم يروا المشاركة فيها، ومِن أبرز هؤلاء: أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي، وأبو قلابة الجرمي، فلم يشارك، وكان يعتب على غيره ممَن شارك، ومنهم: إبراهيم النخعي، فلم يشارك وكان يعيب على سعيد بن جبير مشاركته فيها، وقد قيل له: أين كنت يوم الزاوية؟ قال: في بيتي. قالوا: فأين كنت يوم الجماجم؟ قال: في بيتي. قالوا: فإن علقمة شهد صفين مع علي، فقال: بخ بخ مَن لنا مثل علي بن أبي طالب ورجاله"، وممَن لم يشارك في حركة ابن الأشعث أيوب السختياني، ومنهم: طلق بن حبيب، فكان معتزلاً الفتنة وكان يقول: "اتقوها بالتقوى"، ومنهم: مطرف بن عبد الله الشخير فقد امتنع عن المشاركة في هذه الفتنة، وحين جاءه ناس يدعونه للمشاركة امتنع، فلما أكثروا عليه قال: "أرأيتم هذا الذي تدعوني إليه، هل يزيد على أن يكون جهادًا في سبيل الله؟ قالوا: لا. قال: فإني لا أخاطر بيْن هلكة أقع فيها وبيْن فضل أصيبه"، ومنهم مجاهد بن جبر -ويقال: ابن جبير-، فإنه لم يشارك، وحين دعي للمشاركة قال لمَن دعاه: "عٌده بابًا مِن أبواب الخير تخلفتُ عنه"، ومنهم: خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي ومحمد بن سيرين، ويٌعد الحسن البصري واحدًا مِن العلماء الثقات الذين عايشوا هذه الفتنة، لكنه كان يدعو إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف، وينهي عن الإثارة والفرقة، ويدعو إلى السمع والطاعة للولاة، وكان يرى وجوب الموازنة بيْن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووحدة الجماعة.
ولقد عاصر الحسن البصري معظم فترات الحكم الأموي، وتأثر بالواقع السياسي في هذه الفترة، فأصبح يمثِّل مدرسة سياسية في عصره؛ فهو يرى أن حكم بني أمية فيه ظلم وجور، ولكنهم في نفس الوقت يملكون القوة العسكرية، وموازين القوى في صالحهم، كما أن الفئة الراغبة في التغيير والشاكية من الظلم، ينقصها التنظيم والإعداد والقوة والصبر، ويرى أن الذين يحملون راية الخروج على حكم بني أمية إما مخلص لدينه، ولكنه لا يصلح للحكم ولا يقدر على إحداث التغيير، وإما رجال يستخدمون الدين والدعوة للتغيير لأغراضٍ دنيوية، منها حبهم للسلطة والحكم، فليسوا بأحسن حال مِن الأمويين، وكان إذا قيل له: "ألا تخرج فتغير؟! فكان يقول: إن الله إنما يغير بالتوبة، ولا يغير بالسيف".
ومِن أقواله: "يا أيها الناس إنه والله ما سلط الله عليكم الحجّاج إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم السكينة والتضرع"، وقدم عليه جماعة مِن العلماء يناقشونه في الخروج مع ابن الأشعث على الحجّاج، ويحاولون إقناعه بالخروج مع ابن الأشعث على الحجّاج، ولكنه رفض الخروج وقال: "أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة مِن الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم"، ولكنهم لم يسمعوا كلامه ولم يأخذوا برأيه فخرجوا مع ابن الأشعث، فقتلوا جميعًا (سير أعلام النبلاء).
وهكذا اجتهد العلماء في الخروج، فمنهم مَن أصاب، ومنهم مَن اخطأ، وقد ترتب على فشل ثورة ابن الأشعث ازدياد ظلم الحجاج وبطشه(7).
ومِن اللافت للنظر: أن العلماء الذين عاصروا هذه الفتنة وقد اختلفوا في حكم المشاركة فيها، لم يطعن بعضهم في بعضٍ أو يخوِّن بعضهم بعضًا؛ وذلك لأنهم رغم اختلافهم إلا انهم يعلمون أن مسألة المشاركة هذه، مِن مسائل الاجتهاد، فهي مسألة اجتهادية ليس فيها مخالفة للنصوص أو الإجماع أو القياس الجلي، فالعلماء لا تحرِّكهم العواطف، ولكن تحرِّكهم الضوابط الشرعية، فما أحوجنا أن نسير على درب السلف؛ لاسيما في أوقات الفتن.
والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
(1) لما انهزم أصحاب الأشعث هرب فلحق بمكة، فأخذه بعد مدة طويلة خالد بن عبد الله القسري، وكان والي الوليد بن عبد الملك على مكة، فبعث به إلى الحجاج، فعن عمر بن سعيد قال: "دعا سعيد بن جبير حين دعي ليقتل فجعل ابنه يبكي، فقال: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة". وعن الحسن قال: لما أتي الحجاج بسعيد بن جبير قال: "أنت الشقي ابن كسير؟ قال: بل أنا سعيد بن جبير. قال: بل أنت الشقي ابن كسير قال: كانت أمي أعرف باسمي منك. فقال له الحجاج: أما والله لأبدلنك من دنياك نارًا تلظى! قال سعيد: لو علمت أن ذلك إليك ما اتخذت إلهًا غيرك، قال: ما تقول في محمدٍ؟ قال: تعني النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم. قال: سيد ولد آدم، المصطفى، خير مَن بقي وخير مَن مضى. قال: فما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال: الصديق خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مضى حميدًا وعاش سعيدًا، ومضى على منهاج نبيه -صلى الله عليه وسلم- لم يغير ولم يبدل. قال: فما تقول في عمر؟ قال: عمر الفاروق خيرة الله وخيرة رسوله، مضى حميدًا على منهاج صاحبيه لم يغير ولم يبدل. قال: فما تقول في عثمان؟ قال: المقتول ظلمًا، المجهز جيش العسرة، الحافر بئر رومة، المشتري بيته في الجنة، صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابنتيه، زوَّجه النبي -صلى الله عليه وسلم- بوحيٍ مِن السماء. قال: فما تقول في علي؟ قال: ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأول مَن أسلم، وزوج فاطمة وأبو الحسن والحسين.
قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت أعلم بنفسك. قال: بث بعلمك. قال: إذاً نسوءك ولا نسرك. قال: بث بعلمك. قال أعفني. قال: لا عفا الله عني إن أعفيتك. قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله، ترى مِن نفسك أمورًا تريد بها الهيبة وهي التي تقحمك الهلاك، وسترد غدًا فتعلم. قال: أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحدًا قبلك ولا أقتلها أحدًا بعدك. قال: إذًا تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك. قال: يا غلام السيف والنطع. فلما ولى ضحك. قال: قد بلغني أنك تضحك. قال: قد كان ذلك. قال: فما أضحكك عند القتل؟ قال: مِن جرأتك على الله عز وجل ومن حلم الله عنك. قال: يا غلام اقتله. فاستقبل القبلة فقال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:79)، فصرف وجهه عن القبلة فقال: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة:115)، قال: اضرب به الأرض. قال: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه:55)، قال: اذبح عدو الله فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم، فذٌبح مِن قفاه. فبلغ ذلك الحسن بن أبي الحسن البصري فقال: "اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج"، فما بقي إلا ثلاثًا حتى وقع في جوفه الدود فمات.
وعن خلف بن خليفة عن أبيه، قال: "شهدتُ مقتل سعيد بن جبير، فلما بان رأسه قال: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم قالها الثالثة فلم يتمها"، وعاش بعده خمسة عشر يومًا. وفي رواية: ثلاثة أيام. وكان يقول: "ما لي ولسعيد بن جبير؟ كلما أردت النوم أخذ برجلي!"، وعن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو يحتاج إلى علمه. وفى رواية: "فكان الحجاج إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه، ويقول: يا عدو الله فيمَ قتلتني؟ فيقول الحجاج: ما لي ولسعيد بن جبير؟! ما لي ولسعيد بن جبير؟ وكان مقتل سعيد بن جبير عام 94هـ" (صفة الصفوة لابن الجوزي، والبداية والنهاية).
(2) يعني: اسمعوا وأطيعوا بدون استثناء، ومعلوم أن السمع والطاعة لولاة الأمور فيها استثناء، وليستْ على إطلاقها، بل ذلك في حدود طاعة الله ورسوله -عليه الصلاة والسلام-، فيسمع له ويطاع في حدود طاعة الله ورسوله، وليس على الإطلاق (انظر: شرح سنن أبى داود لعبد المحسن البدر).
(3) قال ابن كثير -رحمه الله-: "كان ناصبيًّا يبغض عليًّا وشيعته في هوى آل مروان بني أمية، وكان جبارًا عنيدًا، مقدامًا على سفك الدماء بأدنى شبهة .وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها، وإلا فهو باق في عهدتها، ولكن قد يخشى أنها رويت عنه بنوعٍ مِن زيادة عليه، فإن الشيعة كانوا يبغضونه جدًّا لوجوه، وربما حرَّفوا عليه بعض الكلم، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات، وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر، وكان يكثر تلاوة القرآن، ويتجنب المحارم، ولم يشتهر عنه شيء مِن التلطخ بالفروج، وإن كان متسرعًا في سفك الدماء، فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الأمور وساترها، وخفيات الصدور وضمائرها ."
وقال أيضًا: "وأعظم ما نُقم عليه وصح مِن أفعاله: سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله -عز وجل-، وقد كان حريصًا على الجهاد وفتح البلاد، وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن، فكان يعطي على القرآن كثيرًا، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا ثلاثمائة درهم، وكانت فيه شهامة عظيمة، وقد ذهب جماعة مِن الأئمة إلى كفره -وإن كان أكثر العلماء لم يروا كفره-، وكان بعض الصحابة: كأنس وابن عمر يصلون خلفه، ولو كانوا يرونه كافراً لم يصلوا خلفه، فعن قتادة قال: "قيل لسعيد بن جبير: خرجتَ على الحجاج؟ قال: إني والله ما خرجت عليه حتى كفر". وقال الأعمش: "اختلفوا في الحجاج فسألوا مجاهدًا، فقال: تسألون عن الشيخ الكافر". وقال الشعبي: "الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله العظيم". وقال القاسم بن مخيمرة: "كان الحجاج ينقض عرى الإسلام". وعن عاصم بن أبي النجود قال: "ما بقيتْ لله -تعالى- حرمة إلا وقد انتهكها الحجاج!" (البداية والنهاية). قلتُ: والذي يظهر مِن كلام ابن كثير -رحمه الله- أن مَن كفَّروا الحجاج، كفروه بسبب بعض أقواله الشنيعة التي يكفر قائلها، وليس بسبب سفكه للدماء، والله أعلم.
(4) وهذا الختم جاء في بعض الروايات أنه عبارة عن خيط فيه رصاص، انظر كتاب "المحن" لأبي العرب التميمي (ص 334)، ويحتمل أن يكون المراد به هو "الوسم"، والوسم في اللغة: هو الكي بحديدة تترك أثر علامة أو كتابة على مكان الكيّ.
(5) قال حنبل بن إسحاق: ثنا أبو عبد الله الرقاشي، ثنا جعفر بن سليمان، ثنا علي بن يزيد، قال: "كنتُ في القصر مع الحجاج وهو يعرض الناس ليالي ابن الأشعث، فجاء أنس بن مالك، فقال الحجاج: هي يا خبيث جوال في الفتن، مرة مع علي، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الأشعث، أما والذي نفس الحجاج بيده لأستأصلنك كما تستأصل الصمغة، ولأجردنك كما تجرد الضـب. قال: يقول أنس: إياي يعني الأمير؟ قال: إياك أعني، أصم الله سمعك"، قال: فاسترجع أنس، وشغل الحجاج، فخرج أنس فتبعناه إلى الرحبة، فقال: "لولا أني ذكرت ولدي -وفي رواية: لولا أني ذكرت أولادي الصغار- وخفته عليهم ما باليت أي قتل أقتل، ولكلمته بكلام في مقامي هذا لا يتسخفني بعده أبدًا".
وقد ذكر أبو بكر بن عياش: "أن أنسًا بعث إلى عبد الملك يشكو إليه الحجاج ويقول: والله لو أن اليهود والنصارى رأوا مَن خدم نبيهم لأكرموه، وأنا قد خدمت رسول الله عشر سنين". فكتب عبد الملك إلى الحجاج كتابًا فيه كلام جد، وفيه: "إذا جاءك كتابي هذا فقم إلى أبي حمزة فترضّاه، وقبِّل يده ورجله، وإلا حل بك مني ما تستحقه". فلما جاء كتاب عبد الملك إلى الحجاج بالغلظة والشدة، همَّ أن ينهض إليه فأشار عليه إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، الذي قدم بالكتاب أن لا يذهب إلى أنس، وأشار على أنس أن يبادر إلى الحجاج بالمصالحة (البداية والنهاية).
(6) انظر (تهذيب الكمال في أسماء الرجال)، لكن هذه الروايات لا يمكن الجزم بصحتها، فأكثر كتب التاريخ تنقلها عن الواقدي، والواقدي وإن كان يُستأنس به في الروايات التاريخية إلا أنه ليس بثقة؛ فروايته ليست بحجة.ٍ
قال الذهبي -رحمه الله-: "وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، ونورد آثاره مِن غير احتجاج، إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجةٍ، وأن حديثه في عداد الواهي، رحمه الله" (انتهى مِن سير أعلم النبلاء)، ولكن لا يٌستبعد حصولها؛ لأنها لا تتعارض مع ما اشتهر عن الحجاج مِن الجرأة على الدماء، وظلمه وبغيه، وعدم احترامه وتوقيره للعلماء.
(7) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السنة: "وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم، فهُزموا وهُزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا، والله -تعالى- لا يأمر بأمرٍ لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك مِن أولياء الله المتقين ومِن أهل الجنة، فليسوا أفضل مِن على وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يُحمد ما فعلوه مِن القتال، وهم أعظم قدْرًا عند الله وأحسن نية مِن غيرهم".
وعن أبي الحارث قَالَ: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِي أَمْرٍ كَانَ حَدَثَ بِبَغْدَادَ، وَهَمَّ قَوْمٌ بِالْخُرُوجِ، فَقُلْتُ: "يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي الْخُرُوجِ مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، الدِّمَاءَ، الدِّمَاءَ، لَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَا آمُرُ بِهِ، الصَّبْرُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الْفِتْنَةِ يُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَيُسْتَبَاحُ فِيهَا الْأَمْوَالُ، وَيُنْتَهَكُ فِيهَا الْمَحَارِمُ، أَمَا عَلِمْتَ مَا كَانَ النَّاسُ فِيهِ، يَعْنِي أَيَّامَ الْفِتْنَةِ، قُلْتُ: وَالنَّاسُ الْيَوْمَ، أَلَيْسَ هُمْ فِي فِتْنَةٍ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ، فَإِنَّمَا هِيَ فِتْنَةٌ خَاصَّةٌ، فَإِذَا وَقَعَ السَّيْفُ عَمَّتِ الْفِتْنَةُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، الصَّبْرَ عَلَى هَذَا، وَيَسْلَمُ لَكَ دِينُكَ خَيْرٌ لَكَ" (السنة الخلال).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: "فَالصَّبْرُ عَلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ الْجَائِرِ أَولَى مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي مُنَازَعَتِهِ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِ اسْتِبْدَالَ الْأَمْنِ بِالْخَوْفِ وَإِرَاقَةَ الدِّمَاءِ، وَانْطِلَاقَ أَيْدِي الدَّهْمَاءِ، وَتَبْيِيتَ الْغَارَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الجائر، وروى عبد الرحمن بن هدي عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قال: قال ابن عُمَرَ حِينَ بُويِعَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ: إِنْ كَانَ خَيْرٌ رَضِينَا، وَإِنْ كَانَ بَلَاءٌ صَبَرْنَا".
إذن، فإن مسألة خلع السلطان تدور حول اعتبار المصالح والمفاسد؛ فلابد مِن النظر في مثل هذه الأمور إلى عدة مسائل، منها: أمر المصلحة والمفسدة، ومنها: أمر القدرة والعجز، ومنها: اعتبار الضرر الخاص والضرر المتعدي، فلو وجد منكر فلا يجوز إزالته بمنكر أعظم؛ وذلك لأن المقصود إزالة منكرات الشرع كلها، والله -عز وجل- لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين، فإذا ترتب على إنكار منكر فساد أعظم كان ذلك مما لا يحبه الله -عز وجل-، والموازنة بيْن المصالح والمفاسد إنما تكون بميزان الشريعة، ولا شك أن سفك الدماء المعصومة مع بقاء المنكرات كما هي فيه عدم تقدير للمصالح والمفاسد، والقدرة والعجز.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ". ومعنى على إمام ذي سلطان: أي ذي منعة وشوكة وقوة، أما في حالات ضعف الإمام فربما يؤدي ذلك إلى حدوث التغيير كما قامت الدولة العباسية بعد وقوع الضعف الشديد الذى حلَّ بآخر خلفاء عصر بنى أمية، ولما حل الضعف كذلك بالدولة العباسية قامت الدويلات المستقلة في المشرق والمغرب في ظل وجود الخلافة العباسية، فلقد استطاع عبد الرحمن الداخل أن يعيد قيام الدولة الأموية في الأندلس، وقد قامت بعض الدول في بلاد المغرب: كالدولة الرستمية، ودولة الأدارسة، ودولة الأغالبة، وكذا قامت بعض الدول الأخرى في بلاد المشرق: كالدولة الطاهرية، والدولة الصفارية، والدولة السامانية، والدولة الغزنوية. وفي مصر والشام: قامت الدولة الطولونية، والدولة الإخشيدية، والدولة الحمدانية، والدولة الفاطمية، والدولة الأيوبية، والدولة المملوكية، وغير ذلك مِن الدول التي استقلت عن الدولة العباسية؛ كل ذلك في ظل وجود الخلافة العباسية، لكن كان الخليفة العباسي آنذاك عبارة عن صورةٍ شكليةٍ فقط، وليس له مِن الأمر مِن شيءٍ، فلا يستطيع أن يأمر أو وينهى أو أن يولي ويعزل مَن شاء!
لذا نقول: هناك مَن استطاع التغيير، فالأمر مرده إلى دراسة موازين القوى، والترجيح بيْن المصالح والمفاسد، وهذا الترجيح هو مِن مسائل الاجتهاد. والله أعلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #49  
قديم 18-05-2025, 11:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (49)

ثورة يزيد بن المهلب عام 102هـ



كتبه/ زين العابدين كامل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه فتنة سياسية جديدة وثورة مسلحة وقعتْ أيضًا في أرض العراق في عصر الدولة الأموية، تبدأ فيها الأحداث بسبب خلاف وقع بيْن المهلّب والحجّاج بن يوسف، فذهب يزيد إلى عبد الملك فأمنّه، ثم لما أفضت الخلافة إلى سليمان بن عبد الملك سنة 96هـ عيَّن يزيد بن المهلب(1) على خراسان، فافتتح جرجان وداغستان، ثم رجع إلى العراق، فبلغه وفاة سليمان بن عبد الملك، وخلافة عمر بن عبد العزيز، فعزله عمر -رحمه الله- وأمر بالقبض عليه، ولما مثل يزيد بن المهلب بيْن يدي عمر، سأله عمر عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك. ثم قال له: "ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتقِ الله وأدِّ ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها"، ثم أمر بحبسه في السجن.
فقد كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يتحسس أخبار ولاته ويراقبهم ويحاسبهم على تقصيرهم، ثم هرب يزيد مِن السجن في مرض عمر، وقد قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "اللهم إن كان يريد بهذه الأمّة شرّه، فاكفهم شّره، واردد كيده في نحره" (وفيات الأعيان لابن خلكان).
ولما تولى يزيد بن عبد الملك بن مروان الخلافة خرج يزيد بن المهلّب وخلع بيعته، واستولى على البصرة، فجهّز يزيد بن عبد الملك لقتاله جيشًا بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك، وانتهى إليه مسلمة بن عبد الملك في جنودٍ لا قِبَل ليزيد بها، فجمع يزيد بن المهلّب جموعًا كبيرة، والتقى الطرفان بالعقر مِن أرض بابل، ودارت بينهما معركة رهيبة دامت ثمانية أيّام، فهزم أهل البصرة أهل الشام، ثم اشتد أهل الشام فحملوا على أهل البصرة فهزموهم وقتلوا منهم جماعة، وكان مع يزيد نحو مِن مائة ألف وعشرين ألفًا، وقد بايعوه على السمع والطاعة، وعلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى أن لا يطأ الجنود بلادهم، وعلى أن لا تعاد عليهم سيرة الفاسق الحجاج، ومَن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومَن خالفنا قاتلناه.
وكان الحسن البصري -رحمه الله- في هذه الأيام يحرِّض الناس على الكف وترك الدخول في الفتنة، وينهاهم أشد النهى، وذلك لما وقع مِن القتال الطويل العريض في أيام ابن الأشعث، وجعل الحسن يخطب الناس ويعظهم في ذلك، ويأمرهم بالكف، فبلغ ذلك نائب البصرة عبد الملك بن المهلب، فقام في الناس خطيبًا فأمرهم بالجد والجهاد، والنفر إلى القتال، ثم قال: "ولقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي- ولم يسمه- يثبط الناس، أما والله ليكفن عن ذلك أو لأفعلن ولأفعلن"، وتوعد الحسن، فلما بلغ الحسن قوله قال: "أما والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه، فسلمه الله منه".
ولما اشتد القتال فرَّ أهل العراق سريعًا، وبلغهم أن الجسر الذي جاءوا عليه حٌرق فانهزموا، فقال يزيد بن المهلب: "ما بال الناس ولم يكن مِن الأمر ما يفر مِن مثله؟!"، فقيل له: "إنه بلغهم أن الجسر الذي جاءوا عليه قد حٌرق. فقال: قبحهم الله".
وفي النهاية: قٌتل يزيد بن المهلب وعّدد مِن إخوته، وخلق كبير مِن جيشه، وتفرق سائر جيشه وأهل بيته فلوحقوا وقتلوا بكّل مكان، وكان ذلك سنة 102هـ" (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، وجاءوا برأس يزيد إلى مسلمة بن عبد الملك، واستحوذ مسلمة على ما في معسكر يزيد بن المهلب، وأسر منهم نحوًا مِن ثلاثمائة، فبعث بهم إلى الكوفة، وبعث إلى أخيه فيهم، فجاء كتابه بقتلهم، ولما جاءت أخبار هزيمة ابن المهلب إلى ابنه معاوية وهو بواسط، عمد إلى نحو مِن ثلاثين أسيرًا في يده فقتلهم، منهم نائب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، عدي بن أرطاة -رحمه الله- وابنه، وجماعة مِن الأشراف (البداية والنهاية لابن كثير).
وقد أورد الذّهبي -رحمه الله- أن الحسن البصري -رحمه الله- قال في فتنة يزيد بن المهلب: "هذا عدو الله يزيد بن المهلب، كلما نعق بهم ناعق اتبّعوه". وفي رواية أخرى: "أنه دعا عليه بأن يصرعه الله، وذكر ما كان يفعل مِن انتهاك المحارم وقتل الأنفس، وأكل أموال الناس".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم، فهُزموا وهُزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا!" (منهاج السُّنة).
وهكذا في أوقات الفتن تطيش العقول، ويسهل سفك الدماء، وتكثر المفاسد، وتعطل الثغور، ولا يثبت إلا أهل العلم والفقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
(1) وُلد عام 53هـ في خلافة معاوية، ولي المشرق بعد أبيه، ثم ولي البصرة لسليمان بن عبد الملك، ثم عزله عمر بن عبد العزيز بعدي بن أرطاة، وطلبه عمر وسجنه، وكان الحجاج مزوجًا بأخته، وكان يدعو: "اللهم إن كان آل المهلب براء فلا تسلطني عليهم ونجهم"، وله أخبار في السخاء والشجاعة. قيل: هرب يزيد مِن الحبس فمرَّ بعُرَيْبٍ في البرية، فقال لغلامه: استسقنا منهم لبنًا فسقوه، فقال: أعطهم ألفًا! قال: إن هؤلاء لا يعرفونك، قال: لكني أعرف نفسي". قال شعبة بن الحجاج: "سمعتُ الحسن البصري يقول في فتنة يزيد بن المهلب: هذا عدو الله يزيد بن المهلب، كلما نعق بهم ناعق اتبعوه" (تاريخ دمشق لابن عساكر).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #50  
قديم 18-05-2025, 11:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,121
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (50)

ثورة زيد بن علي بن الحسين عام 122هـ



كتبه/ زين العابدين كامل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد استقرت الأوضاع السياسية في أرض الحجاز إلى حدٍّ بعيدٍ بعد مقتل أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- عام 73هـ - 693م، ومِن حينها استقر الأمر بعدها لعبد الملك بن مروان، وسيطر على أرض الحجاز دون أي توتراتٍ سياسيةٍ، وظل الأمر كذلك إلى أن ظهرت حركة معارضة جديدة يقودها زيد بن علي بن الحسين -رحمه الله-.
ولقد نشأ زيد -رحمه الله- بالمدينة، وكانت منارة العلم بما كان فيها مِن الصحابة والتابعين، فحفظ القرآن وتعلم العلوم الشرعية، وقد ساهمت أسباب عديدة في خروجه على هشام بن عبد الملك.
ومِن هذه الأسباب: تأثره بما حدث لأهل بيته مِن تقتيل وتشريد، وقتل جده الحسين بن علي -رضي الله عنه-، وتعرضه هو أيضا لبعض الإهانات مِن بعض ولاة هشام بن عبد الملك، بل ومِن هشام نفسه، وتغير حكم الشورى إلى حكم الملك العضوض مع مجيء الأمويين، ثم شعوره بالمظالم الواقعة على الناس، وللمنكرات التي انتشرتْ في زمانه، وقد حدثت عدة اتصالات بيْن أهل الكوفة وزيد بن علي عام 121هـ - 740م.
قدم زيد الكوفة وأقام بها مستخفيًا ينتقل في المنازل، وأقبلت الشيعة تختلف إليه تبايعه، فبايعه جماعة منهم وكانت بيعته: "إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وردّ المظالم، ونصْر أهل البيت، أتبايعون على ذلك؟ قالوا: نعم"، فبايعه خمسة عشر ألفًا. وقيل: أربعون ألفًا، فأمر أصحابه بالاستعداد، فأقبل مَن يريد أن يفي له ويخرج معه ويستعدّ ويتهيّأ، فشاع أمره في الناس (الكامل في التاريخ لابن الأثير).
وقد اعترض بعض الناس على خروج زيد، منهم: عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فقد كتب كتابًا إلى زيدٍ جاء فيه: "أما بعد، فَإِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ نَفْخُ الْعَلَانِيَةِ، خَوَرُ السَّرِيرَةِ، هَرَجٌ فِي الرَّخَاءِ، جَزَعٌ فِي اللِّقَاءِ، تَقَدَمُهُمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَلَا تُشَايِعُهُمْ قُلُوبُهُمْ، وَلَقَدْ تَوَاتَرَتْ إِلَيَّ كُتُبُهُمْ بِدَعْوَتِهِمْ، فَصَمَمْتُ عَنْ نِدَائِهِمْ، وَأَلْبَسْتُ قَلْبِي غِشَاءً عَنْ ذِكْرِهِمْ يَأْسًا مِنْهُمْ وَاطِّرَاحًا لَهُمْ، وَمَا لَهُمْ مَثَلٌ إِلَّا مَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "إِنْ أُهْمِلْتُمْ خُضْتُمْ، وَإِنْ حُورِبْتُمْ خِرْتُمْ، وَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ، وَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَى مَشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ!" (الكامل في التاريخ لابن الأثير).
وجاء داود بن علي ناصحًا لزيدٍ، قال: "يا بن عمّ، إن هؤلاء يغرّونك مِن نفسك، أليس قد خذلوا مَن كان أعز عليهم منك جّدك علي بن أبي طالب حتى قتل؟ والحسن مِن بعده بايعوه ثّم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه وجرحوه؟ أوَليس قد أخرجوا جّدك الحسين وحلفوا له وخذلوه وأسلموه ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه؟ فلا ترجع معهم".
وجاء كذلك سلمة بن كُهَيْل فذكر لزيدٍ قرابته مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحقّه فأحسن، ثم قال له: "ننشدك الله كم بايعك؟ قال: أربعون ألفًا. قال: فكم بايع جَدَّك؟ قال: ثمانون ألفًا. قال: فكم حصل معه؟ قال: ثلاثمائة. قال: نشدتك الله أنت خير أم جَدّك؟ قال: جدّي. قال: فهذا القرن خير أم ذلك القرن؟ قال: ذلك القرن. قال: أفتطمع أن يَفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجّدك؟ قال: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم" (الكامل في التاريخ لابن الأثير).
واستمر زيد في حشد الأنصار، وكانت الأجهزة الأمنية الأموية تتابع الأحداث ومجريات الأمور، وفي المقابل: اشترك عددٌ مِن أهل الفضل في ثورة زيد. وقيل: "إن أبا حنيفة -رحمه الله- كان يحرِّض على الخروج"، فعن عبد الله بن مالك بن سليمان، قال: "أرسل زيد إليه يدعوه إلى البيعة، فقال: لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه؛ لأنه إمام حق، ولكني أعينه بمالي فبعث إليه بعشرة آلاف درهم"، وقال للرسول: "أبسط عذري عنده". وفي رواية: "اعتذر إليه بمرض يعتريه"، ولا منع مِن الجمع، وسُئل عن خروجه فقال: "ضاهى خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر. فقيل له: لمَ تخلفت؟! قال: حبسني عنه ودائع الناس عرضتها على ابن أبي ليلى فلم يقبل، فخفت أن أموت مجهلًا"، وكان كلما ذكر خروجه بكى (الجواهر المضية في طبقات الحنفية).
وكذا منصور بن المعتمر، فقد ورد أنه كان يحرِّض على الخروج مع زيد، فعن عقبة بن إسحاق قال: "كان منصور بن المعتمر يأتي زبيد بن الحارث، فكان يذكر له أهل البيت ويعصر عينيه يريده على الخروج أيام زيد بن علي" (سير أعلام النبلاء).
الشيعة الروافض ينشقون عن زيدٍ ويغدرون به:
ولما أمر أصحابه بالاستعداد للخروج وأخذ مَن كان يريد الوفاء له بالبيعة يتجهزّ، وصل الأمر إلى والي العراق يوسف بن عمر، فاستنفر أجهزة الدولة للقضاء على زيدٍ، وعندما خرج زيد بن علي بن الحسين على هشام بن عبد الملك، فأظهر بعض مَن كان في جيشه مِن الشيعة الطعن على أبي بكر وعمر فمنعهم مِن ذلك، وأنكر عليهم فرفضوه، فسموا بالرافضة وسميت الطائفة الباقية معه بالزيدية.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "إن أول ما عُرف لفظ الرافضة في الإسلام عند خروج زيدٍ بن علي في أوائل المئة الثانية، فسئل عن أبي بكر وعمر فتولاهما فرفضه قوم فسموا رافضة.
ومِن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى: "رافضة"، و"زيدية"؛ فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فترحم عليهما رفضه قوم فقال لهم: "رفضتموني؟!"، فسموا رافضة لرفضهم إياه، وسمي مَن لم يرفضه مِن الشيعة زيديًّا؛ لانتسابهم له" (مجموع الفتاوى لابن تيمية).
هذه هي عقيدة زيد بن علي في الشيخين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-؛ لأنه لا يمكن أن يشذَّ عن المنهج الذي كان عليه والده زين العابدين علي بن الحسين، ومِن قبْله والده ثم جدّه علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- في حبهم الصادق لأبي بكر وعمر وعثمان والصحابة جميعًا.
مقتل زيد بن علي -رحمه الله-:
ثم إن زيدًا -رحمه الله- عزم على الخروج بمَن بقي معه مِن أصحابه، فواعدهم ليلة الأربعاء مِن مستهل صفر مِن هذه السَّنة، فبلغ ذلك يوسف بن عمر، فكتب إلى نائبه على الكوفة وهو الحكم بن الصلت يأمره بجمع الناس كلهم في المسجد الجامع، فجمع الناس لذلك في يوم الثلاثاء، قبْل خروج زيد بيوم، وخرج زيد ليلة الأربعاء في برد شديد، ورفع أصحابه النيران، وجعلوا ينادون: "يا منصور، يا منصور"، فلما طلع الفجر وقد اجتمع معه مائتان وثمانية عشر رجلًا، فجعل زيد يقول: "سبحان الله! أين الناس؟ فقيل: هم في المسجد محصورون". وكتب الحكم إلى يوسف يعلمه بخروج زيد بن علي، فبعث إليه سرية إلى الكوفة، وركبت الجيوش مع نائب الكوفة، وجاء يوسف بن عمر أيضًا في طائفةٍ كبيرةٍ مِن الناس، والتقى الطرفان وانتصر زيد في بداية الأمر، وكلما لقي طائفة هزمهم، وجعل أصحابه ينادون: "يا أهل الكوفة، اخرجوا إلى الدين والعز والدنيا، فإنكم لستم في دين ولا عز ولا دنيا"، ثم لما أمسوا انضم إليه جماعة مِن أهل الكوفة، وقد قٌتل بعض أصحابه في أول يوم، فلما كان اليوم الثاني اقتتل هو وطائفة مِن أهل الشام، فقتل منهم سبعين رجلًا، وانصرفوا عنه بشر حال، ثم عبأ يوسف بن عمر جيشه جدًّا، ثم أصبحوا فالتقوا مع زيد فكشفهم حتى أخرجهم إلى السبخة -موضع بالبصرة-، ثم شد عليهم حتى أخرجهم إلى بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجله، ثم اقتتلوا قتالًا شديدًا جدًّا، حتى كان جنح الليل رٌمي زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فوصل إلى دماغه، فرجع ورجع أصحابه، وأٌدخل زيد في دارٍ، وجيء بطبيبٍ فانتزع ذلك السهم مِن جبهته، فما عدا أن انتزعه حتى مات مِن ساعته -رحمه الله-. (البداية والنهاية لابن كثير)، فدفنوه في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب والحشيش؛ خوفًا مِن أن يمثِّل الوالي الأموي بجثته، ولكن تم الوصول إلى قبره فنبشوا قبره وصٌلب جثمانه، وأرسل يوسف برأسه إلى هشام (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، ولما وصل رأس زيد إلى هشامٍ استاء مِن قتله وكان لا يحب القتل (الدولة الأموية ليوسف العش).
وبعد مقتل زيد توجه ابنه يحيى إلى خراسان، فأقام بها مدة إلى حين وفاة هشام بن عبد الملك، وولاية الوليد بن يزيد فخرج، وسرعان ما قٌتل أيضًا، ويرى الذهبي أن يحيى قٌتل بخراسان في عهد هشام (سير أعلام النبلاء)، وقال الليث بن سعد: "قٌتل يحيى سنة 125هـ - 743م، وقد تأثر هشام لمقتل زيد ويحيى ودخله مِن مقتلهما أمر شديد حتى قال: "وددت لو كنتُ افتديتهما"، وهكذا انتهت ثورة زيد بن علي سريعًا كما بدأت سريعًا.
أثر مقتل زيد على الدولة الأموية:
كان لثورة زيد بن علي تأثير مهم في سير الأحداث التي وقعتْ في العصر الأموي، وتمخضت عنها نتائج بعيدة المدى، وكان فشلها بمثابة الدافع لحركاتٍ أخرى حذت حذوها، فقد هرب يحيى بن زيدٍ إلى خراسان، وأعلن الثورة على الأمويين هناك، ومع أن يحيى فشل في القضاء على الحكم الأموي كما فشل أبوه مِن قبْل إلا أن هاتين الثورتين مهدتا بصورةٍ غير مباشرة الطريق للقضاء على الدولة الأموية، واستغل العباسيون العطف الذي لقيه يحيى بن زيد في خراسان لكسب الأتباع والأنصار لهم، وحين قٌتل يحيى بن زيد ظل أهل خراسان يبكون بالليل والنهار (ثورة زيد بن علي لناجي حسن، والدولة الأموية للصلابي).
وبعد وفاة هشام بن عبد الملك عام 125هـ - 743م دبَّ الوهن والصراع داخل البيت الأموي نفسه، وكثر النزاع على العرش وولاية العهد، واتجهت الدولة نحو التصدع والانهيار، وبرز هذا التصدع منذ ولاية الوليد بن يزيد عام 125هـ، ثم يزيد بن الوليد بن عبد الملك عام 126هـ - 744م، ثم إبراهيم بن الوليد عام 126هـ - 744م، ثم مروان بن محمد عام 127هـ - 745م وعلى يديه سقطت الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية عام 132هـ - 750م، وذلك بعد أكثر مِن تسعين عامًا حفلت بالفتوحات والأحداث الجسام.
ولقد أدت تلك الثورات الكثيرة إلى تصدع البيت الأموي وسقوط الدولة الأموية، وبذلك غربت شمس الأمويين التي سطعتْ على بلاد المسلمين أكثر مِن تسعين عامًا، حفلت بالفتوحات والأمجاد، وبرزت فيها الثورات، وأصبحت أعمالهم تاريخًا يقرأ وصفحات تطوى، وذكريات تحكى، ودروس وعظات، فسبحان مَن بيده الملك يؤتيه مَن يشاء، وينزعه ممَن يشاء، وهو على كل شيء قدير.
وهكذا التاريخ يعلمنا: أن التغيير له أصول وضوابط، فلابد مِن دراسة الواقع دراسة متأنية، ودراسة موازين القوى، والقدرة والعجز، والترجيح بيْن المصالح والمفاسد، فاحذروا مِن التهور والتسرع، واعلموا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
ولا شك أن الغاية الكبرى مِن دراسة التاريخ هي العبرة والعظة، واستخلاص الدروس المستفادة، قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف:111)، وتاريخنا الإسلامي تاريخ مشرق في جملته، يمتلئ بالصفحات المشرقة رغم ما فيه مِن بعض الأحداث المؤلمة كبعض الأحداث التي وقعتْ في القرن الأول، فليس هناك أمة على وجه الأرض سار تاريخها على منوالٍ واحدٍ مِن الانتصارات والفتوحات والازدهار والحضارات المشرقة، فلكل أمة كبوة في فترةٍ مِن الزمن طالت أو قصرت.
إننا بحاجةٍ إلى إعادة صياغة التاريخ الإسلامي؛ لنبيِّن حسنات هذه الأمة ومظاهر حضارتها، ونعيد فتح صفحات أمجادها بعد أن قام البعض بتشويه تاريخ أمتنا؛ وذلك عن طريق دس الأكاذيب والضلالات والأخبار الموضوعة في بعض كتب التاريخ؛ مما أدى إلى تشويهه، فإن هذه الفترة التاريخية التي تناولتها في هذه السلسلة هي مِن أكثر الفترات التي تعرضت للتشويه وطمس الحقائق.
وإن الناظر والمتأمل في الأحداث بعين العدل والإنصاف يعلم علم اليقين أن مسألة الحٌكم مِن أشد الأمور تعقيدًا، وقد ظهر ذلك جليًّا في نهاية عصر أمير المؤمنين عثمان، وفي مدة خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-.
قال محب الدين الخطيب -رحمه الله-: "وقد يظن مَن لا نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون، وهذا خطأ، فللبيئة مِن التأثير في الحاكم وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة، وهذا مِن معاني قول الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).
ومما نتعلمه مِن هذه الأحداث التاريخية: أن الحماس وحده لا يكفي، وأن الإخلاص وحده لا يكفي أيضًا، بل لابد مِن مراعاة الواقع، والترجيح ما بيْن المصالح والمفاسد، وتقدير مواطن القوة والضعف، ولابد مِن مراعاة المصالح العليا للعباد والبلاد، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ثم إن الواجب علينا في الفتنة بيْن الصحابة هو الإمساك عما شجر بيْن الصحابة إلا فيما يليق بهم -رضي الله عنهم-؛ لما يسببه الخوض في ذلك مِن توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين، ويجب على كل مسلمٍ أن يحب الجميع ويرضى عنهم ويترحم عليهم، ويحفظ لهم فضائلهم، ويعترف لهم بسوابقهم، وينشر مناقبهم، وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهادٍ، والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ، غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده، وأن القاتل والمقتول مِن الصحابة في الجنة.
وقد سئل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- عن القتال الذي حدث بيْن الصحابة، فقال: "تلك دماء طهر الله يدي منها فلا أحب أن أخضب بها لساني".
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "واتفق أهل السُّنة على وجوب منع الطعن على أحدٍ مِن الصحابة؛ بسبب ما وقع لهم مِن ذلك، ولو عرف الحق منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهادٍ"(1).
وختامًا: فهذا ما يسره الله لي مِن جمع وترتيب في هذه المقالات الخمسين، وما كان مِن خطأ أو زللٍ فمني ومِن الشيطان، وما كان مِن توفيقٍ فمِن الله وحده؛ فهو محض فضل الله عليَّ، فله الحمد حتى يرضى، وله الحمد عند الرضا، وله الحمد بعد الرضا، وإذا كان شرف العلم في موضوعه وغايته ومسائله وبراهينه وشدة الحاجة إليه، فإن بلوغ هذا الشرف درب طويل، وأمانة ثقيلة؛ نجاح أدائها هو شرف الدنيا وعز الأخرة، وبهذه الثورة نكون قد انتهينا -بفضل الله تعالى- مِن عرض جميع أحداث الفتن السياسية منذ الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وحتى مقتل زيد بن علي -رحمه الله-.
والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
(1) قال ابن خلدون -رحمه الله-: "هذا هو الذي ينبغي أن تُحمل عليه أفعال السّلف مِن الصّحابة والتّابعين، فهم خيار الأمّة، وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمَن الذي يختصّ بالعدالة، والنّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (متفق عليه)، مرّتين أو ثلاثا، فجعل الخيرة وهي العدالة مختصّة بالقرن الأوّل والّذي يليه، فإيّاك أن تعوّد نفسك أو لسانك التّعرّض لأحدٍ منهم، ولا يشوّش قلبك بالرّيب في شيء ممّا وقع منهم، والتمس لهم مذاهب الحقّ وطرقه ما استطعت، فهم أولى النّاس بذلك، وما اختلفوا إلّا عن بيّنةٍ، وما قاتلوا أو قتلوا إلّا في سبيل جهاد أو إظهار حقّ، واعتقد مع ذلك أن اختلافهم رحمة لمَن بعدهم مِن الأمّة ليقتدي كلّ واحد بمَن يختاره منهم، ويجعله إمامه وهاديه ودليله، فافهم ذلك وتبيّن حكمة الله في خلقه وأكوانه، واعلم أنه على كلّ شيء قدير، وإليه الملجأ والمصير، والله تعالى أعلم" (انظر مقدمة ابن خلدون، ص 272).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 203.09 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 197.24 كيلو بايت... تم توفير 5.86 كيلو بايت...بمعدل (2.88%)]