شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 50 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 498 - عددالزوار : 301851 )           »          محمود شاكر (شيخ العربية) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          داود وسليمان عليهما السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 18 )           »          أحداث في غزوة خيبر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          شبهات حول موقف الأمويين من الإسلام والردود عليها (pdf) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          غزوة خيبر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          من أقدار الله في التاريخ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          دعوة الملوك إلى الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          موقف المسلم من الزلازل والكوارث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 609 )           »          إرهاقٌ بلا صوت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #491  
قديم اليوم, 12:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,307
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي





لا ينتقل الوقف على الولد إلى المساكين بموت البطن الأول
قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره، ثم على المساكين] .
بقي
السؤال لو قال: على ولدي ثم المساكين، أو على أولادي ثم المساكين، كلمة (ثم) تقتضي الترتيب، فنحن لا نحكم بانتقال الوقف من ولده إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل والذرية، فإذا انقطعت ذريته، أو انقطع عقبه فإننا نحكم بأن الوقف قد صار إلى المساكين، أو قال: إلى الفقراء، أو قال: إلى طلبة العلم، أو غير ذلك، أو مثلا لبني عمي، فهذا ينتقل على حسب ما اشترط صاحب الوقف.
إذا قال: على ولدي أو ولد فلان، فالمصنف رحمه الله أدخل مسألة ولد فلان، يعني أن الحكم لا يختص بولده هو، فلو قال: على ولد عمي صالح، فحينئذ ننظر إلى أولاد عمه صالح ونشرك بين البطن الأول والبطن الثاني، ونسوي بين الذكور والإناث في البطن الأول، ونلحق البطن الثاني بالبطن الأول إذا كان من ذرية الذكور دون الإناث على التفصيل الذي تقدم بيانه.
[ثم على المساكين فهو لولده الذكور والإناث بالسوية] أي: ما لم يفضل فلو قال: (للذكر مثل حظ الأنثيين) ، فقد فضل.
قال: [ثم ولد بنيه دون بناته] هذا البطن الثاني.
إذا لو قال: على ولده، وعنده محمد وعبد الله وصالح، لم ينجب من هؤلاء الثلاثة إلا محمد، فالذين أنجبهم محمد نسوي ذكورهم وإناثهم، لأنهم يدلون بذكر، لكن بالنسبة للأنثى من محمد فليس لذريتها ونفسها استحقاق في الوقف.
حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم
[كما لو قال على ولد ولده وذريته لصلبه] يريد المصنف أن يشير إلى المسألة الخلافية وهي: هل إذا قال على ولدي.
اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي.
لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول.
مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
نقول: نشرك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوسا ولا يأخذ شيئا في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحد من البطن الأول ذكرا كان أو أنثى قسم نصيبه على البقية.
ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم) ، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم.
فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملا، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نزل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول.
إذا: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم من بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا ينزل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول.
اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بني أو بني فلان)
قال رحمه الله: [ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم] فقوله رحمه الله: (ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم) بعد أن بين المصنف رحمه الله اللفظ الذي يقتضي العموم بقوله (أولادي) شرع فيما يقتضي التخصيص، فلو قال: على بني، أو أبنائي، أو على بناتي، فحينئذ يختص بالبنين إن نص عليهم، ويختص بالإناث إن سماهن.
إذا فالابن لا يشمل الذكر والأنثى، وإنما يختص بالذكور دون الإناث، وعلى هذا مذهب العلماء قاطبة رحمهم الله.
لكن لو قال: على بني فلان، أو على الفقراء من بني سلمة، أو من بني زياد، أو من بني عمرو، فلفظة (بني) هذه تطلق على القبيلة فيستوي ذكورها وإناثها؛ لأن العرف واللغة يقتضي ذلك، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرمي أنه جعل البنوة شاملة للذكور والإناث، تقول: هؤلاء من بني عبد الله.
قال صلى الله عليه وسلم: (الأنصار وجهينة ومزينة وغفار وأسلم وبنو عبد الله من غطفان) غطفان هي مطير الموجودة الآن، وبنو عبد الله فخذ منهم، وكانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أشبه بالقبيلة، قال: (وبنو عبد الله من غطفان موالي الله ورسوله) كما في الصحيح، فسماهم قال: (بنو عبد الله) وشرك، وهذا مقتض لتشريك الذكور والإناث؛ لأنهم أسلموا وكان لهم بلاء في الإسلام.
فالبنوة تطلق على القبيلة ويراد بها العموم والشمول، فتشمل الذكور والإناث، تقول: بنو فلان فتشمل ذكورهم وإناثهم، إن قال: بنو عمي، بني، بنو خالي، بنو أخوالي، هذا كله يختص بالذكور، لا يشمل الذكور والإناث معا، لكن إذا قال: بنو فلان وهي قبيلة فإننا نحكم بالتشريك بين الذكور والإناث؛ لأن هذا اللفظ وإن كان يختص بالذكور دون الإناث؛ لكنه يطلق ويتجوز فيه فيعم الذكر والأنثى.
الوقف على جماعة يمكن حصرهم
قال رحمه الله: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي] وذلك كما لو قال: على ولدي، وولده -مثلا- عشرون، أو يبلغون الأربعين أو الخمسين؛ فحينئذ نقسم على الأربعين والخمسين لأنه أمكن حصرهم، لكن إذا قال: وقفت داري هذه على طلبة العلم أو: وقفت ثمرة بستاني هذا صدقة على المساكين، أو على الفقراء، وكان بموضع فيه حاجة وفيه عوز، ولا يمكن حصر الفقراء فيه.
فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نعمم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثما شرعا، وظالما معتديا لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوي بين الجميع إذا سوى بينهم الواقف.
فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مملكا -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله.
لكن لو أن الجهة التي خصت بالوقف لا يمكن حصرها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جدا، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده.
فمثلا إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاما للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذ نقول: لما كان الغني غير محتاج، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قدم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثوابا وأعظم أجرا، فيعطون ويصرف لهم.
ولو كان المحتاجون أيضا لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاء من غيرهم، فنقدم هؤلاء الذين هم أعظم بلاء، مثلا طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع فيفضل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] أي: جاز أن يفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن.




الأسئلة




استخلاف المسبوق في الصلاة
السؤال إمام طرأ عليه عذر فقدم رجلا من خلفه وكان هذا المقدم مسبوقا بركعة، فكيف يصنع، خصوصا أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟
الجواب هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) .
أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقا؟ إذا فرضنا أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلم بهم.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثبتت الطائفة الأولى وتشهدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام.
هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذورا.
تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحدا من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به.
والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمام في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها.
وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذا: من حيث الأصل الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذورا لسهو، أو معذورا لنقص، ثبت متشهدا حتى يتم خامسته ثم تتابعه في التشهد.
يبقى السؤال: لماذا لا تتم وتسلم؟ لو أتممت وسلمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم.
ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع، إلا إحرام وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتما به.
فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
فهو مضطر إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلا لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته.
وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون.
وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث
السؤال أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث.
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية.
الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي.
ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال.
فلو أن رجلا حصل له موجب ورأى بناته يطلقن ويتعرضن للأذية والإضرار فأوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوى يحفظهن، ولم يترك لهن بيتا يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة.
وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وجد الموجب للتفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به.
ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا ينظر لها خارجا عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله.
فإذا نظر إلى أنها تحفظ من الضيعة إذا طلقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجابا من النار.
قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت.
البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثا شرعيا؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم.
إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه
السؤال ترك والد لأولاده بيتا، فاحتاج البيت إلى إصلاح، فهل تدفع الأنثى نصف ما يدفعه الذكر؟
الجواب لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفا وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفا وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفا، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفا إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف.
فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان) ، والله تعالى أعلم.




تعيين حصة لناظر الوقف
السؤال لو عين الواقف ناظرا لوقفه واتفق على عشر نتاجه من المزرعة، فهل هذا التصرف صحيح أم أنه مبني على الجهالة والغرر، إذ لا يعلم كم سيكون نتاج المزرعة؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثل ولا متمول، وقد تقدم معنا.
لكن إذا جعل للناظر نصيبا، أو قال الناظر: أريد نصيبا، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيبا، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عشر الوقف لمن ولي النظارة.
وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يشك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟ مثلا لو أجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تدر المليون، عشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلا عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلا، ويكون عشرها عشرة آلاف، فإذا لا يمكن أن يعلم قدر هذا العشر.
فبعض العلماء يجعله مخرجا على المساقاة ملحقا بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يصار إلى تحديد النسبة احتياجا، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم.
لكن لا يشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئا، ويأكل بالمعروف.
ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكرا، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) ، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يتابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطا في كثير من المسائل.
لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #492  
قديم اليوم, 12:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,307
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب الهبة والعطية)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (398)

صـــــ(1) إلى صــ(14)





شرح زاد المستقنع باب الهبة والعطية [4]
من المسائل المتعلقة بالهبة والعطية: تصرف الوالد فيما وهبه لولده، سواء كان بعد رجوعه عن الهبة أو قبله، وسواء كان التصرف ببيع أو عتق أو إبراء، فكل حالة لها حكمها الشرعي، ويلحق بهذه المسألة حكم تصرف الوالد في مال ولده، وحكم مطالبة الولد لوالده بدينه ونحوه وهذه المسائل كلها مفصلة في هذه المادة.
أنواع التصرفات المالية للوالد في مال ولده
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد تقدم معنا في المجلس الماضي بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق برجوع الوالد في هبته إذا وهب أحد أولاده، وبينا أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت بجواز رجوع الوالد في هبته، ومن أسباب هذا الرجوع، ومن الحكم التي يمكن أن تستفاد من هذا الرجوع: أن الأب يستدرك ظلمه لأولاده فيما لو أعطى بعضهم ومنع البعض، فأجازت الشريعة له الرجوع حتى يستدرك هذا، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما منع والد النعمان بن بشير - وهو بشير - رضي الله عنه وأرضاه عن تخصيص بعض ولده بالعطية.
ثم بعد ذلك بينا مسألة استحقاق الأب في مال ابنه، وبينا أن النبي صلى الله عليه وسلم صحت عنه السنة بمشروعية أخذ الوالد من مال ولده، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) .
وبينا أن في ذلك الخير الكثير للولد، وأن الله يضع البركة في مال الولد إذا أحسن إلى والده، فمكنه من ماله وأكل الوالد من ماله بالمعروف، فهذا من خير وأعظم ما يكون للولد برا لوالده.
فقد بينا أن من حق الوالد أن يأكل من مال ولده، لكن يرد
السؤال هل من حق الوالد أن يبيع أملاك ولده، وأن يتصرف فيها فيهبها للغير؟! أو إذا كان للولد دين على آخرين فأراد الوالد أن يسامحهم ويبرئهم من الديون نيابة عن ولده بدون إذن الولد هل له ذلك؟!
و الجواب إن كان هناك إذن ووكالة من الولد فلا إشكال، وقد تقدم أن الوكالة موجبة للإذن وصحة التصرف في حدود ما أذن به الموكل لوكيله؛ لكن الكلام أن يأتي الوالد إلى مال ولده ويتصرف فيه بالبيع، أو يشتري بمال ولده شيئا، أو يبرئ مديونا، ونحو ذلك من التصرفات المالية والتي تكون بعوض وبدون عوض.
فمن الممكن أن يتصرف الوالد في مال ولده بالعوض، كأن يبيع سيارة ولده بعشرة آلاف مثلا، فهذا تصرف بعقد فيه عوض، وقد يكون هذا أيضا في المنافع، ومن أمثلته: أن يكون للولد عمارة، فيقوم الوالد بتأجير عمارته، أو أن يكون له مزرعة فيؤجرها، فهل هذه التصرفات التي بعوض صحيحة أو غير صحيحة؟ النوع الثاني من التصرفات: تصرفات بدون عوض، مثل: الهبة، كأن رأى مالا لولده فأخذ منه وأعطاه لشخص آخر، وقال: هذا هبة أو هدية أو عطية.
أو كأن يأتي شخص إلى والد صاحب المال فيقول له: إن له علي عشرة آلاف، وأنا ضائق الحال وفي شدة وكربة، أو قال: لك نصفها، أو ربعها، أو ثلثها، فالتصرف بإسقاط الدين كله أو أغلبه أو أقله تصرف بدون عوض؛ لأن الوالد لم يقبض عوضا لقاء هذا الشيء الذي تبرع به.
وكما تكون التصرفات بدون عوض في الهبات تكون أيضا في العتق، وفي القديم كان يملك الرقيق، ويكون للولد أرقاء، فيقول الوالد لعبيد ولده: أنتم أحرار، أو يا فلان أعتقتك، أو أنت حر، ونحو ذلك.
فأصبحت هناك نوعان من التصرفات: تصرفات بعوض، وتصرفات بدون عوض، فإن تصرف الوالد في مال ولده بما ذكرنا فإنه لا يخرج من حالتين: إما أن يقر الولد والده على تصرفه ويجيزه ويمضيه فلا إشكال، فحينئذ يمضي والتصرف معتبر؛ لأنه أشبه بما تقدم معنا في مسألة تصرف الفضولي، وبينا أن تصرف الفضولي يعتبر من العقود الموقوفة، والعقد الموقوف ينقسم إلى أقسام من حيث الصحة وعدمها، ومن حيث النفاذ وعدمه، وهذا الثاني منه العقد الموقوف والعقد النافذ.
فالعقد الموقوف تبقيه حتى تسأل صاحب الحق: هل أنت راض بهذا التصرف أم لا؟ فإن أمضاه صح، وإلا فلا.
والإشكال: إذا اعترض الولد على تصرف والده، فقال: لم آذن لك ببيع العمارة، وهذه العمارة أريدها، أو قال: لم آذن لك أن تسامحه في الدين، وأنا محتاج لهذا الدين، أو أن هذا الرجل لا يستحق أن يسامح، أو نحو ذلك، فإذا امتنع الولد من إمضاء تصرفات الوالد؛ فهل تصرفات الوالد صحيحة أم غير صحيحة؟ هذا ما شرع المصنف رحمه الله ببيانه، فأصبحت الأفكار مرتبة كالآتي: أولا: تكلم عن الهبات، وبين أحكامها، ثم دخل في نوع خاص من الهبات وهو هبة الوالد لولده، وبين أحكامها من حيث الاعتبار، ومن حيث الصحة، ومن حيث الرجوع.
وبعد أن فرغ من هذا تكلم على مسألة جواز أخذ الوالد من مال ولده، وينبغي لطالب العلم أن يفرق بين مسألة جواز الأخذ من مال الولد، وبين التصرف في مال الولد.
فجواز الأخذ كأن يأتي ويجد -مثلا- عشرة آلاف فيأخذ منها ألفا، أو يقول: يا بني أعطني نصف راتبك، أو ربع راتبك أو ألفين من راتبك ونحو ذلك، أو كأن تكون للولد مزرعة فيأتي ويأخذ من رطبها وثمارها ونحو ذلك، أو يكون الأخذ في المنافع، مثل أن تكون هناك سيارة للولد، فيركبها الوالد لقضاء مصالحه أو نحو ذلك، فهذه كلها بينا أنها جائزة، لكن مسألة التصرفات المرتبطة بالعقود، وذلك بأن يتولى الوالد عن ولده عقودا، فيمضي عقودا عن الولد، سواء كانت عقود معاوضات مالية من البيع والشراء، أو كانت عقود إرفاقات كالقرض والهبة ونحو ذلك.
قال رحمه الله: [فإن تصرف في ماله] .
قوله: (فإن تصرف) أي: الوالد، (في ماله) أي: في مال الولد، والتصرف في مال الولد كما ذكرنا: إما بعوض وإما بغير عوض.
وقوله رحمه الله: (إن تصرف في ماله) أخرج غير الأموال، كأن يطلق زوجة الولد، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) ، وقد بينا أحكام تطليق الوالد عن ولده، وفصلنا بين الصغير وغير الصغير، والمميز والذي لا يميز، لكن الكلام هنا في الأموال فقط.
حكم تصرف الوالد فيما وهبه لولده
قال رحمه الله: [ولو فيما وهبه له] .
قوله: (ولو) هذه إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: ولو كان التصرف في مال كان الوالد قد وهبه لولده، مثال ذلك: قال: يا بني! هذه المزرعة وهبتها لك، وقد بينا أنه إذا قال: وهبتها؛ فلا تلزم الهبة إلا بالقبض، فإذا أخذ الولد هذه المزرعة وقبضها وتم القبض، وحكم بانتقال اليد فأصبحت المزرعة ملكا للولد، فحينئذ يرد
السؤال لو أن الوالد يوما من الأيام جاء وتصرف فيما وهبه لولده، فما الحكم؟
و الجواب أن الوالد إذا تصرف فيما وهبه لولده لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتصرف بعد الرجوع، فيقول: رجعت عن هبة بستاني، أو يفعل فعلا مع نيته أنه رجع، فقد بينا أنه يشرع للوالد أن يرجع في هبته، فإذا كان التصرف بعد الرجوع فلا إشكال في جواره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت للوالد الحق في الرجوع في هبته لولده.
لكن الإشكال إذا تصرف فيما وهبه له قبل الرجوع، فقال رحمه الله: (ولو فيما وهبه له) ، فهناك قول بجواز التصرف مطلقا في كل ما وهبه له، وكأن هذا التصرف يعتبر رجوعا في الهبة، وهذه هي الحالة الثانية.
وزيادة في الإيضاح عندنا صورتان: الصورة الأولى: أن يقول: هذه المزرعة هبة لك، فقال: قبلت، وقبض المزرعة، وحكمنا بلزوم الهبة، وكتب صكها باسم الولد، وفي يوم من الأيام قام الوالد فباع المزرعة التي وهبها.
فإن كان قد قال: رجعت عن هبتي، وبعد أن قال: رجعت عن هبتي باعها، أو قال: يا بني! هذه المزرعة التي وهبتها لك أنا راجع عن هبتي، أو قال: أيها الإخوان -وهناك عنده شهود- اشهدوا أني رجعت عن هبتي المزرعة لولدي، وقد بعتها لفلان، فإن وقع فلا إشكال أنه وقع التصرف بالبيع بعد الرجوع في الهبة، والبيع صحيح، وتصبح المزرعة راجعة للوالد وسقط حق الولد.
والدليل: أن السنة أثبتت أنه يحق للوالد أن يرجع عن هبته.
الصورة الثانية: أن يقول: بعت هذه المزرعة.
وكان قد وهبها لولده، ولم يثبت رجوعا لا بالقول ولا بالفعل المقترن بالنية، فحينئذ لا يصح هذا التصرف.
أو قال: أوقفتها، فهذا تصرف بغير عوض، ولا يصح، أو قال: بدل أن يأخذها ولدي فلان قد وهبتها لفلان، للولد الآخر، فلا يصح، ما دام أنه لم يثبت رجوعا قبل تصرفه في مال ولده الموهوب.
تصرف الوالد فيما وهبه لولده بيعا أو عتقا أو إبراء
قال رحمه الله: [ببيع أو عتق أو إبراء] .
قوله: (ببيع) قلنا: التصرفات إما أن تكون بعوض وإما أن تكون بدون عوض، والذي بدون عوض إما أن يكون بين المخلوق والمخلوق، وإما أن يكون بين المخلوق والخالق.
وقوله: (ببيع) هذا تصرف بعوض.
وقوله: (أو عتق) هذا بدون عوض فيما بين المخلوق والخالق؛ لأنه يعتق لوجه الله.
وقوله: (أو إبراء) تصرف بدون عوض فيما بين المخلوق والمخلوق، وانظر إلى دقة العلماء رحمهم الله، حينما قال المصنف: (ببيع) الفقيه يعرف أن المصنف لا يريد البيع وحده؛ بل يريد جميع عقود المعاوضات المالية التي تندرج تحت البيع، مثل: الإجارة، فلو سألك سائل وقال: والد وهب عمارة لولده، ثم لم يرجع عن هبته وأجرها قبل الرجوع، فما الحكم؟! فتقول: الإجارة باطلة، إلا إذا أجازها الولد، فهذا لا إشكال فيه، فهي باطلة إذا كان الولد امتنع منها.
أو قال: وهب سيارة لولده ثم أجر هذه السيارة، فهذا تصرف بعوض وهو الإجارة، فتقول: لا يصح، ما دام أنه لم يثبت رجوعه، وتدرج جميع عقود المعاوضات تحت هذه الصورة، حتى ولو شارك -جعلها شركة- أو ضارب بها فجعلها قراضا، فأعطاه مالا ثم بعد ذلك أمر الغير أن يضارب به، فجميع تصرفات المعاوضات المالية إذا تصرف الوالد فيما وهبه لولده قبل الرجوع باطلة.
وقوله: (أو عتق) كأن أعطاه عبيدا، ثم جاء وقال: هؤلاء العبيد أحرار لوجه الله، قبل أن يثبت رجوعا بالقول أو بالفعل المصحوب بالنية، فحينئذ نقول: هذا تصرف من الوالد فيما وهبه لولده، ولم يثبت رجوعه؛ فلا يصح هذا التصرف.
أو يكون الولد نفسه يملك عبيدا، فجاء الوالد وقال: أنتم أحرار لوجه الله، أو قال: يا فلان -وكان من عبيد ولده- أنت حر أعتقتك كفارة عن ظهار أو قتل، أو غير ذلك مما يوجب العتق، فهذا كله لا يصح.
وقوله: (أو إبراء) هذا فيما بين المخلوق والمخلوق، والإبراء: أن تبرئ المديون، والبراءة من الشيء توجب خلو التبعة والمسئولية عن الشخص من ذلك الشيء، فإذا قلت: أنا بريء من هذا الشيء، فحينئذ لست بمسئول عنه وليست عليك تبعة.
ويستخدم الإبراء في الحقوق، وذلك أن كل شخص ثبت لك عليه حق؛ فإن ذمته تبقى مرهونة مشغولة بهذا الحق حتى يؤديه، ولا يفك إلا بسداده أو تبرئة منك.
فالإبراء أن تقول: أسقطت حقي، سامحتك عن الدين، عفوت عنك، أبرأتك، أبرأت ذمتك من الدين، ونحو ذلك من الإبراءات.
فإذا أبرأ الوالد المديون لولده، فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن يكون الوالد قد أعطى مالا لولده فأقرضه الولد لشخص، مثلما يقع في بعض الأحيان بين الإخوة، كأن يعطي الوالد الأولاد جميعهم كل واحد عشرة آلاف ريال، فيستقرض زيد من محمد العشرة الآلاف التي له، فالعشرة آلاف في الأصل ملك للوالد وهبها لمحمد ولده، فلما استقرضها زيد من محمد أصبحت ذمة زيد مشغولة لأخيه محمد، فلو قال الوالد يوما من الأيام: يا زيد! دين محمد عليك أنت منه بريء، أو أبرأتك من هذا الدين، أو لا دين عليك، أو أسقطته، أو عفوت عنك، فهذا إبراء من الوالد في مال ولده الذي وهبه له ولم يثبت رجوعه عنه، فهذا الإبراء ساقط.
الصورة الثانية: أن تكون العشرة آلاف ملكا لمحمد في الأصل، من ماله ولم يعطها له والده، فقام محمد وأعطاها دينا لشخص، فجاء الوالد وأبرأ ذلك الشخص، فقد قلنا: ليس من حقه إلا إذا أجاز ذلك محمد، ولا يصح هذا التصرف بالإبراء.
والإبراءات لها باب واسع، حتى في مسألة القصاص، فلو جنى شخص على شخص فقطع يده، فقال المجني عليه: لا أريد القصاص لكن أريد نصف الدية؛ لأن اليد فيها نصف الدية، فجاء الوالد وقال: عفوت عنك هذا النصف، أو أسقطت عنك هذا النصف، أو عفوت عن دين ولدي، فلا يملك الوالد الإبراء، وليس من حقه أن يبرئ عن مال ولده.
قال بعض العلماء: حتى ولو كان صغيرا؛ لأن الوالد يلي مال ولده بالمعروف، وفي الإبراءات والعفو إضرار بمصلحة الولد، ولذلك قلنا: لا يصح الإبراء.
فلو عفا الوالد عن جان جنى على ولده فقطع يده، فقال الولد: أريد القصاص، أريد أن تقطع يده كما قطع يدي، أو تقطع أصبعه كما قطع أصبعي، أو تقطع رجله كما قطع رجلي، أو أي جناية يمكن فيها القصاص، فإذا ثبت حق الولد في هذه الجناية وجاء الوالد وقال: سامحت هذا الجاني، فليس ذلك من حقه؛ لأن الإبراء إنما يكون للولد وليس للوالد، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسائل في مسألة العفو عن الحقوق في الدماء والقصاص.
لكن إذا كان الوالد هو ولي الدم، فقيل له: هل تريد القصاص أو الدية؟ فقال: أريد الدية وعفا عن القصاص، فهذا يصح، وإن قال: لا أريد دية ولا قصاص قد عفوت لوجه الله فيصح؛ لأنه ولي الدم، أما إذا كان ولي الجناية وولي الحق في الجناية حيا عاقلا له حق التصرف؛ فحينئذ لا يملك الوالد أن يدخل عليه وأن يتصرف بإسقاط حقه في الجناية.
حكم أخذ الوالد ما وهبه لولده قبل الرجوع في هبته
قال رحمه الله: [أو أراد أخذه قبل رجوعه] .
أي: أراد أخذ المال الذي وهبه قبل أن يثبت رجوعه -كما قدمنا-، كأن يكون قد وهبه سيارة ثم قال: أريد السيارة التي أعطيتك إياها، وذلك قبل أن يثبت رجوعها بالقول أو بالفعل، فبعض العلماء يقول: إذا قال له: أعطني السيارة؛ صار هذا بمثابة الرجوع ويكفي، ولا يشترط أن يكون معه النية.
وقوله: [أو تملكه بقول أو نية] .
قلنا: الرجوع يثبت للواهب ملكية العين التي وهبها، فإذا قال: رجعت عن هبتي؛ رجعت الهبة ملكا له، أي: تثبت الملكية للواهب، وحينئذ إذا كان التصرف قبل ثبوت الملكية بالرجوع، لم يصح إلا أن يأذن الولد، وأما إذا ثبتت ملكيته أو ثبت رجوعه وتصرف بعد ذلك؛ صح البيع وثبت.
والعلماء يضعون هذه المسائل لأهميتها، ولوقوع الخصومات فيها، كرجل -مثلا- وهب ابنه مزرعة، ثم باع هذه المزرعة في غيبة ولده لشخص ما، ثم توفي الوالد وجاء الشخص الذي اشترى يطالب بهذه المزرعة، فحينئذ القاضي إذا ثبتت ملكية الولد للمزرعة وثبتت الهبة؛ لا بد أن يثبت رجوع الوالد عن هبته، ولا يصحح هذا البيع إلا بعد ثبوت الرجوع، فهذه كلها مسائل يحتاج إليها خاصة إذا وقعت هناك استحقاقات، وأكثر ما تقع إذا توفي الوالد أو جن -نسأل الله السلامة والعافية-.
وقوله رحمه الله: [وقبض معتبر] .
كما ذكرنا: أنه يشترط في صحة الهبة وجود القبض، والقبض قلنا: مما ترك الشرع ضابطه للعرف، والقبض يختلف باختلاف الشيء، واختلاف العرف، واختلاف الأزمنة والأمكنة، فكل ما عده الناس قبضا وحيازة حكم بكونه قبضا وحيازة، كما يقال في الحرز في السرقات -كما سيأتينا في كتاب الجنايات-: أن حرز كل مال على حسب العرف، وهذا مما يدرجه العلماء رحمهم الله تحت القاعدة المشهورة: العادة محكمة.
فقال المصنف: (قبض معتبر) ، وقد يكون هناك قبض غير معتبر، وهو الذي يكون بدون إذن الواهب، وقد بينا هذا، فالقبض المعتبر هو الذي أذن فيه الواهب، فإذا ثبتت الهبة وثبت القبض بإذن الواهب صحت وثبتت الهبة، وأصبح المال الموهوب ملكا للموهوب له.
أما لو كان قبضا غير معتبر، كأن قال له: يا بني! وهبتك مزرعتي، فقال: يا أبتي! أعطني إياها، أعطني مفاتيح المزرعة حتى أتصرف فيها، فقال: انتظر إلى نهاية الأسبوع، ثم قبل نهاية الأسبوع توفي الوالد، فلا تثبت الهبة؛ لأنه لم يحدث فيها قبضا معتبرا.
إذا: لابد أن يكون هناك قبض معتبر، كما جاء في الصحيح عن أبي بكر رضي الله عنه أنه لما حضرته الوفاة قال لابنته عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين: (أي بنية! إني كنت قد نحلتك عشرين وسقا جادا، فلو أنك احتزتيه -وفي رواية: جديتيه- لكان ملكا لك اليوم، أما وإنك لم تفعلي ذلك؛ فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء) .
فدل على اشتراط القبض، ومن هنا أجمع العلماء على أنه لا تثبت ملكية الهبة للموهوب له إلا بالقبض المعتبر.
وقوله: [لم يصح بل بعده] .
أي: لم يصح تصرف الوالد بما ذكر آنفا، لكن يصح إذا وقع بعد الرجوع حصول القبض المعتبر كما سيأتي.
فإذا كان قد باع السيارة بعد أن أثبت رجوعه عن هبته لولده؛ فإنه يصح بيعه، ولو باع العمارة التي وهبها لولده بعد أن أشهد أو أثبت رجوعه عن هبتها؛ فحينئذ يصح بيعه وتصح إجارته ويصح سائر تصرفه؛ لأن المال رجع لملكه.
حكم مطالبة الولد لوالده بدين أو نحوه
قال رحمه الله: [وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه] .
قوله: (وليس للولد) أي: ليس من حق الولد أن يطالب أباه بمال دينا كان أو غيره، إلا النفقة التي أوجبها الله عز وجل على الوالد لولده.
وقد بين المصنف رحمه الله في هذه العبارة أنه لا يجوز للولد أن يطالب والده بالحقوق المالية التي تجري بينه وبين والده، ومن أمثلة ذلك: القرض، فلو أنه اقترض الوالد من الولد مالا، ثم تأخر الوالد في السداد، فقام الولد بمطالبة والده، قال المصنف: ليس للولد أن يطالب، وإذا قلت: ليس له، فيتفرع على هذا أنه لا يجوز، ويحكم بإثم الولد إذا فعل ذلك؛ لأن الله يقول: {وبالوالدين إحسانا} [البقرة:83] أي: أحسنوا إلى الوالدين إحسانا، وهذا من أبلغ ما يكون وصية حينما جاء بالمصدر (إحسانا) ، وكأنه يحتم على الولد أن يكون مع والده على سبيل الإحسان لا على سبيل الإساءة.
ومن الإساءة أن يطالب والده بدين، ومن أعظم الإساءة أن يطالبه في القضاء أو يشتكيه أو يخاصمه، فهذا ليس من الإحسان في شيء، وليس من البر الذي أوصى الله به الأولين والآخرين، وحث عليه عباده أجمعين، حتى ولو كان الوالد من الكافرين، فقد أمر به وحتمه وقرنه بتوحيده سبحانه وتعالى تعظيما لشأن البر.
ويشمل هذا المطالبة الفردية فيزعج والده، يقول: أعطني ديني، يا أبتي تأخرت! يا أبتي أعطني مالي! يا أبتي كذا فليس من حقه، حتى ولو تلطف في المطالبة فلا يطالبه: (أنت ومالك لأبيك) كما جاء في حديث السنن.
وهذا كله مفرع على الأصل من أن الواجب على الولد أن يحسن إلى والده لا أن يسيء إليه.
وأيضا: هناك حقوق للوالد على ولده، وإحسان لا يستطيع الولد أن يجازيه ويكافئه، إلا أن يجد والده رقيقا فيشتريه ويعتقه، فيفك رقبته من الرق كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الإحسان الذي قام به الوالد على ولده منذ صغره، وهذا البذل الذي كان يبذله على ولده بدون حساب، لا يمكن أن يكافئه عليه، وليس من شرع الله عز وجل أن يقف يوما من الأيام يضيق على والده في حطام من الدنيا، فيقول له: أعطني الدين! يا أبتي تأخرت! يا أبتي سدد! يا أبتي أنا محتاج! فهذا كله -والعياذ بالله- من العقوق، ومما يوجب الله عز وجل بسببه محق البركة من المال، فإن هذا من كفران النعمة، والله تعالى قد أخبر في كتابه أنه يجازي كل كفور، فيسلبه بركة ماله، ولربما سلبه نعمة المال، فأصبح المال نقمة ووبالا عليه -نسأل الله السلامة والعافية-.
والخلاصة: أن المطالبة غير جائزة، فتثبت أولا: أنه لا يجوز أن يطالبه لا فرديا ولا أمام الناس، وأمام الناس أشد وأعظم.
ثانيا: تثبت أنه يأثم، فيحكم بإثمه إذا طالبه، وأن هذا من العقوق والأذية والإضرار.
ثالثا: لو تقدم إلى القضاء وطالب والده بالمال؛ فإن دعواه تسقط؛ لأن الدعوى من أصلها غير ثابتة وغير معتبرة شرعا، فليس فيها استحقاق؛ إذ ليس للولد حق على والده أن يطالبه بمثل هذا.
وقوله: (وليس للولد مطالبة أبيه) بعض العلماء يقول: ليس له مطالبة والديه، فيشمل الأب والأم، وحق الأم آكد، لكن بعض أهل العلم خص الأب لورود النص فيه؛ لأن الأب دائما يتكفل بالنفقات، ولا شك أن السنة بينت أن الأم لها حق أعظم من حق الوالد، قال كما جاء في الحديث: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) ، فجعل حق الوالد بعد ثلاثة حقوق للأم.
ولذلك قالوا: إنه لو توفي والداه وأراد أن يحج عنهما؛ بدأ بالأم قبل الأب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببرها، ولو تعارض حق الأم والأب؛ قدم حق الأم على حق الأب، وهذا لثبوت السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكد ذلك فقال: (أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) ، وهذا كله يدل على عظيم حقها، وعظيم ما لها من المعروف العظيم، فإذا أثبتت السنة للوالد شيئا وأمكن من حيث النظر في العلة إلحاق الأم؛ فإن الأم أولى به.
لكن بعض العلماء يقول: إن هذه المسألة فيها خصوصية، وقد سبق التنبيه على هذا، وهي رواية عن الإمام أحمد، أنه جعل الرجوع للأب دون الأم، وقد بينا أن الصحيح أن الأم تملك الرجوع كما يملكه الأب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل بقوله: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟) وهذه علة مشتركة بين الأم والأب.
وقد بينا وجه هذه المسألة، حتى إن الظاهرية مع أنهم يتمسكون بظاهر النص قالوا: الأب والأم في هذا سواء، ونص على ذلك الإمام ابن حزم رحمه الله في المحلى.
والشاهد من هذا: أن المصنف نص على الأب، والأم تلتحق به وتأخذ حكمه.
وقوله: (بدين ونحوه) .
كذلك الأم لا يجوز للولد أن يطالبها بدين نسأل الله السلامة والعافية، نعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم أن نقف هذا الموقف، أو يبتلينا وذريتنا بذلك، من يستطيع أن يقول لأمه ويطالبها بدين؟! قد يكون في بعض الأحيان لا يتحمل أن يرى أمه في ضائقة حتى يأتي ويجثو عند قدميها ويبذل ما يملك من ماله، كل هذا فداء لهذه الأم، فهو وماله فداء لهذه الأم الكريمة التي ربت وأحسنت، وقدمت الكثير الذي لا يمكن أن تجازى عليه إلا من الله سبحانه وتعالى، الذي يجزي الإحسان بأحسن منه.
نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجزي والدينا عنا أحسن ما جزى والدا عن ولده.
وقوله: (بدين ونحوه) ونحوه مثل: الأروش التي تكون في الجنايات وغيرها، والمصنف رحمه الله ذكر الدين على الأصل، ويتبع هذا كل ما فيه استحقاق، فلا يطالب فيه الولد والده.
فلو سكن الوالد في عمارة الولد؛ فلا يأتي ويقول له: ادفع أجرة هذا المسكن، أو ركب معه فيما يؤجره للناس فقال له: ادفع الأجرة مثلك مثل الناس، أو نحو ذلك، فلا يطالبه بدين ونحوه، أي: من الأشياء التي فيها استحقاقات.
حكم حبس الوالد لنفقة ولده الواجبة عليه
قال رحمه الله: [وحبسه عليها] .
أي: أن يطلب من القاضي أن يحبسه، وهذا كما قيل: إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا فما حيلة المضطر إلا ركوبها فإذا كان هناك أب ظالم مانع لنفقة ولده، وأصبح الولد يخشى على نفسه أن يقع في الحرام أو الآثام، فقال: يا أبتي -بالمعروف- أعطني حقي، فلم يمكنه من حقه، ثم قال له: يا أبتي! أعطني حقي، فسأله وحاول معه فلم يعطه حقه، فحينئذ له أن يشارعه إلى القضاء، وأن يطالب القاضي بحبسه حتى ينفق عليه بالمعروف.
ومن حق الزوجة أيضا أن تشارع زوجها وتطلب من القاضي حبسه حتى ينفق عليها، وهذا كله من الحقوق الواجبة، فإن الحقوق الواجبة من النفقات تحكم الشريعة فيها، وإذا حكم القاضي بأن النفقة وجبت لفلان على فلان، فالواجب على من وجبت عليه النفقة وهو قادر على بذلها أن يبذلها، فإذا امتنع وطلبه القاضي فقال له: ادفع، وقال: ما أنا بدافع فمن حق القاضي أن يسجنه حتى يدفع الحق الواجب عليه، ويبذل لأولاده حقوقهم ويعطيهم ما فرض الله عليه إعطاءهم.
فإذا طالب الولد القاضي بذلك كان من حقه؛ لأنه قد يصل إلى مقام الضرورة إذا لم يعط النفقة، وهكذا الزوجة من حقها أن تطالب ولو بسجن الزوج حتى يبرئ ذمته من الحق الواجب عليه.
وتشدد الشريعة في النفقات يدل على عظمة وكمال هذه الشريعة، فالمشاكل التي تعج بها المجتمعات من السرقات والاعتداء على أموال الناس، كثير منها يقع بسبب إضاعة الحقوق كما ذكرنا.
فإذا كان الذي يماطل منع ذا الحق حقه، فإن هذا قد يدفع الممنوع من حقه أن يلتمس وجوها محرمة، وسبلا مشبوهة، فيطلب الحرام، وقد يتعامل بالمعاملات المحرمة، فالشريعة تقفل هذه الأبواب، وقد تأتي إلى شخص يقع في حرام فتقول له: لم تفعل هذا؟! فيقول: أنا مضطر ليس عندي من حيلة، وقد تقع المرأة -والعياذ بالله- في الزنا، فيقال لها: لماذا؟ فتقول: لئلا يضيع أولادي.
ولذلك شدد الشرع في هذا، وزجر كل من يمتنع من النفقات حتى ولو بالحبس، حتى ولو كان والدا فيسجن بحق ولده، ولا شك أن هذا من أكمل ما يكون في زجر الناس وإيقاف كل إنسان عند حدوده، وإلزاما لما فرض الله عليه مما يعود بالخير على الأفراد والمجتمعات.
والوالد نفسه يأمن من الشر والبلاء من هذا، ولهذا فإن المجتمعات الغربية والمجتمعات الكافرة كثيرا ما يقع الاعتداء من الأولاد على الوالدين بسبب الظلم في الحقوق، سواء في حقوق النفقة وغيرها.
وإنما نبهنا على هذا الأمر لأنه قد يستغرب الإنسان كيف يحبس الولد والده بسبب النفقة؟! وينبغي لكل طالب علم بل للناس عامة أن يعلموا علم اليقين أن أي حكم في شرع الله عز وجل وفي الفقه الإسلامي مستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فيه قوة وفيه شدة، فلن تستطيع أن تدرك الحكم الموجودة فيه إلا إذا خالفت هذا الحكم ونظرت إلى الأسباب المترتبة على عكسه.
ولذلك قد تجد الابن يعق والده، ولربما يقتله -والعياذ بالله- بسبب الدينار والدرهم، وقد وقع في بعض المسلمين -نسأل الله العافية والسلامة- أن والدا كان ظالما بخيلا، فكان يهضم أولاده وزوجته، وقد فتح الله عليه من أموال الدنيا الشيء الكثير، فلما بلغ هذا البخيل الظالم لولده سكرات الموت، قام ولده وجثا على صدر أبيه، وانتزع دفتر الشيكات من صدره، فقال له: اذهب -نسأل الله السلامة والعافية- إلى كذا وكذا من غضب الله عز وجل، فلم يرحم والده في آخر عمره، ولم يرحم حالته تلك، وهي حالة تنكسر فيها القلوب القاسية وتلين فيها مما ترى، وليس شيء بعد الدين أعز من الوالدين، وبعدما أمر بتقديمه على الوالدين ليس هناك أحد أعز عليه من والديه.
وصدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- حينما قال: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم) ، فهلاك الناس بالدنيا والمال، ولذلك لا ينبغي التساهل في هذا، فالشريعة تحكم بما يزجر؛ لأنه ربما يأتيك شخص بشبهة ويقول: كيف تأمر الشريعة ببر الوالدين، وتجيز للولد أن يحبس والده في النفقة؟! فقل: نعم، هذا أمر له تبعات وله آثار وله تداعيات مترتبة عليه، والشريعة دائما تنظر إلى العواقب، ولذلك قال الله عز وجل: {أفلا يتدبرون القرآن} [النساء:82] ، ودبر الشيء: آخره، فإذا كنت تنظر إلى آخر الشيء فمعنى ذلك أنك قد أحطت بالشيء، وإذا بلغ النظر أنك استوعبت الشيء إلى أن وصلت إلى آخره فقد تم نظرك في هذا الشيء.
فكل حكم مستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها: (لقد أوتيت القرآن ومثله معه) تنظر إلى دبره وعواقبه وآثاره فيما لو عكس هذا الحكم من حيث السلب، وفيما لو حكمنا بهذا الحكم من جهة الإيجاب، فلا ترى حكما أتم من حكم الله عز وجل، ولا أحسن من الله حكما لقوم يوقنون، ولقوم يعقلون، ولقوم يفقهون، ولقوم يدركون، ففيه الخير وكل الخير، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا حسن التدبر في شرعه وحكمه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #493  
قديم اليوم, 01:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,307
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي




حكم مطالبة الولد والده بنفقته الواجبة عليه
قال رحمه الله: [إلا بنفقته الواجبة عليه] .
قوله: (إلا) : استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فأخرج من اللفظ الذي سبق حالة النفقة، فالنفقة من حق الولد أن يطالب والده بها، ومن حقه أن يطالب الوالد بذلك ولو بالقضاء؛ لأن هذا يضر بالولد كثيرا؛ فالله عز وجل أوجب على الوالد أن ينفق على ولده، وفرض عليه ذلك، وإذا كان ملزما بذلك؛ فلا يجوز له أن يضيع حق الله في ولده، قال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول) ، يقول بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: علوم الاجتماع كلها في قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول) ، فلا يمكن لمجتمع أن يسعد إلا بهذا الحديث.
فلو أن كل من يعول قليلا أو كثيرا يقوم بحقوق الإعالة كما ينبغي لما حدثت مشكلة؛ لأن المشاكل كلها تقع بسبب تضييع حق الإعالة، سواء كانت زوجة أو أولادا، وحتى إنه يضيع من يعول بالسهر، فيضيع الإنسان حق زوجته، فيضيع حق أولاده في مراجعتهم ومذاكرتهم ومتابعتهم في دروسهم، وفي أصحابهم وقرنائهم، وكل المشاكل إنما نشأت من عدم القيام بحق من استرعاك الله عليهم، وحينما يقوم كل راع بحق رعيته تحل كل المشاكل، فما أبلغ قوله عليه الصلاة والسلام! وما أحسنه وما أجمله وما أجله وأكمله! (كفى بالمرء إثما) بمجرد أن تسمع هذه الكلمة إذا بالنفوس تقشعر والقلوب ترجف ومن الذي يتحمل أن يلقى الله بالإثم والوزر سواء كان في الدين أم في الدنيا؟! والإثم لا يزال سببا في هلاك الإنسان ودماره، حتى لربما تسبب في سوء خاتمته -والعياذ بالله-، ولربما تسبب في أن يكون قبر الإنسان حفرة من حفر النار -والعياذ بالله-، ولربما تسبب في شقائه الأبدي بدخول نار جهنم خالدا مخلدا فيها بالإثم أو الشرك أو الكفر ونحو ذلك مما يوجب الخروج من الملة، فالإثم سبب كل بلاء وعناء، ولذلك قال تعالى: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء:79] .
هذا الإثم يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول) ، فالوالد جعل الله عليه حق النفقة لأولاده، وجعله قائما على بيته، يأمرهم بما أمر الله وينهاهم عما نهى الله عنه، فمن حقوقهم المادية: أن ينفق عليهم بالمعروف، فإذا امتنع الوالد مع القدرة على الإنفاق فحينئذ ظلم وجار، ومن حق الولد أن يقول له: يا أبتي! أعطني حق النفقة؛ لأن الولد لو لم يطالب والده بحقه لربما وقع في الحرام، ولربما تعرض للسرقة، ولربما تعرض للفواحش بسبب عدم وجود النفقة -عياذا بالله- والسنة دلت على هذا، ومن ذلك قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار، وفيهم الرجل الذي أراد الزنا بالمرأة فإنه لم يتمكن من الزنا إلا لما احتاجت إلى المال.
وهذه حكم نبهت عليها الشريعة، ونبهت عليها السنة الغراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين عليه الصلاة والسلام أن من أعظم الإثم إضاعة من يعول، فإذا ضيع الوالد ولده ولم ينفق عليه، كان من حق الولد أن يطالب والده بالنفقة.
وقوله: (إلا بنفقته الواجبة عليه) هناك نفقة واجبة ونفقة مستحبة، فإذا كان طعام الولد وشرابه وكسوته في حدود المائة، فلا مانع أن يزيد ويحسن إلى ولده، ومما يضع الله فيه البركة للإنسان، ويحسن به العاقبة في الأمور كلها دائما ألا يبقى على قدر الفرض الواجب الدائم؛ بل يسمو إلى الكمال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرءا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى) .
فإذا أراد أن ينفق على أولاده فالنفقة واجبة ومستحبة، والنفقة الواجبة التي يكون بها السداد ويحصل بها سد الحاجة والكفاية، والنفقة المستحبة إذا وسع الله عليك وسعت على ولدك.
ولا يجلس الإنسان يدقق في ولده ويحاسبه على الصغير والكبير، قد تكون المحاسبة في حدود معقولة، لكن إذا رأى أن الله بسط عليه وأحسن إليه، فكما أحسن الله إليك تحسن، ولذلك قيل لـ قارون: {وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} [القصص:77] .
فتحسن إلى ولدك، ومن المجرب المعروف ما ذكره العلماء بالتجربة: أنك لن تجد رجلا في بيته يعامل زوجته وأولاده بالسماحة واليسر، ولا يشعرهم بالتضييق والعناء، سمحا إذا أعطى، وسمحا إذا أخذ، وسمحا إذا أمر، وسمحا إذا نهى، وسمحا إذا جاد؛ إلا وجدت أموره ميسرة مكفيا من الله سبحانه وتعالى، فكما تدين تدان، ومثلما عاملت الناس يعاملك الله، فلا تجد منه سبحانه إلا الرفق والإحسان والحلم؛ بل أضعاف أضعاف ما ترجوه.
فالنفقة المستحبة: هي الفضل والزيادة على النفقة الواجبة.
فلو أن والدا أعطى ولده المائة، وهي سد الحاجة والكفاية، والولد يريد أن يدرس ويريد الزيادة فقال: أريد مائة وعشرين، أو أريد مائة وخمسين، فإنه يطالب فوق المائة بالعشرين والخمسين، وهي في قدر المستحب وليس في قدر الواجب، فهذا ليس من حقه أن يطالب به، لكن إذا أراد أن يتفاهم مع والده على أن والده يكرمه ويزيده؛ فهذه شئون بين الولد ووالده، فيلاطفه ليحاول أن يعطيه القدر الزائد، فمثلا: ولد أعطاه والده مائة وهو يريد مائة وعشرين، فتلطف مع والده حتى يعطيه العشرين، وبحث عن أمور مؤثرة والمفاتيح التي تفك قفل والده، فهذا ليس بالمحرم.
أما النفقة المستحبة فالأمر فيها واسع، فإن الإنسان إذا كان بينه وبين أحد ود ومحبة وأراد أن يوسع عليه، وكان بينهما من الأخوة، وبين الوالد وولده من الصفاء والنقاء ما يطلب فيه الولد الأكثر دون أن يعنت الوالد، فلا بأس بذلك.
قال رحمه الله: [فإن له مطالبته بها] .
أي: بالنفقة الواجبة.




الأسئلة




حكم استدانة الولد لتلبية متطلبات والده الضرورية
السؤال أحيانا يطلب مني الوالد أكثر مما أطيق، كأن يطلب زيادة على ما أعطيه، ولا أجد قدرة على ذلك، فهل أستدين وألبي رغبته؟
الجواب هذا الحقيقة فيه تفصيل، فمن حيث الأصل لست بملزم، لكن هناك ظروف تطرأ على الوالد، وهذه الظروف صعبة؛ كعلاج ضروري، وهذا العلاج بخمسمائة ريال، وحدود النفقة التي تعطيها أنت للوالد مثلا مائتا ريال، لكن العلاج هو محتاج إليه الآن، ولو أنك استدنت الخمسمائة وفرجت -بعد الله- كربة أبيك، ثم استعنت بعد ذلك على سدادها من راتبك دون أن تقع في حرج وضيق، فهذا من أفضل وأكمل ما يكون، وتحتسب ذلك عند الله.
فمن حيث الأفضل والأكمل أقول لك: لن تعدم من الله عز وجل الخير والبركة ما دمت بارا لوالدك، وأكمل ما يكون البر في الشدائد، أما من حيث الواجب فلا يجب عليك الشيء الزائد عن حاجتك، والزائد عن قدرتك، والذي لا تستطيع: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] .
لكن كن على علم ويقين أن الله لن يضيعك، وأن الله سيفتح لك من أبواب البركة والخير ما لم يخطر لك على بال، فما وجدنا البر سيئ العاقبة أبدا؛ بل إن البار في أحسن الأحوال وأكمل ما يكون عليه المآل في الدنيا والآخرة، ولذلك تجد البار ما يسلك طريقا إلا سهله الله له، ولن يقرع بابا إلا فتحه الله في وجهه ميسرة أموره.
وأنت إذا أخذت الأمر بالدقة وقلت: أنا لا أستطيع! أنا لا أريد! لا تحملني ما لا أطيق! وكفحته في وجهه، وأنت ترى ظرفا قاهرا وأمورا تحتاج منك أن تكون الابن الأكمل والأفضل، وأن تسمو بنفسك إلى معالي الأمور، وتحس عندها أن الله يسمعك، وأن الله يراك، وأن من أعظم ما يكون من الخير سرور تدخله على مسلم، فكيف بوالديك؟!! فإذا ألزمت نفسك الشدة وأنت متوكل على الله، مفوض أمرك إلى الله؛ فإن الله لن يخيبك، فسيفتح الله لك من اليسر والمعونة والتوفيق، ويربط على قلبك وييسر لك من أمرك ما لم يخطر لك على بال، والله حتى ولو أصبحت في ضيق لكن الله سيبارك لك في عيشك، وليقرن الله عينك عاجلا أو آجلا، وليجمعن الله لك بين حسن العاقبة من برك وحسن النظر في أهلك وولدك غدا، فمن بر والديه بره أبناؤه وبناته، وقر الله عينه بالبر حيا وميتا.
فلا يظن الإنسان أنه إذا وقف عند الحدود الواجبة أنه يعدل عند الله المعونة إذا خاطر بماله ووقته لا؛ بل إن الله يعينه ويوفقه.
وأيا ما كان فليس بفرض، ولكن الأفضل والأكمل أن تحتسب، ونسأل الله عز وجل أن يمدنا وإياكم بعونه وحوله، والله تعالى أعلم.
تفسير قاعدة (العادة محكمة)
السؤال نرجو منكم توضيح هذه القاعدة: العادة محكمة؟
الجواب العادة محكمة هي إحدى القواعد الخمس التي قام عليها الفقه الإسلامي، وهي: الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، واليقين لا يزال بالشك، والعادة محكمة.
والعادة مأخوذة من العود؛ لأن الإنسان إذا اعتاد شيئا رجع إليه مرة بعد مرة، ولذلك سمي العيد عيدا؛ لأنه يتكرر ويعود إليه الإنسان في كل عام مرتين.
والمراد بالعادة: ما اعتاده أهل العرف الإسلامي، وعند العلماء ضوابط، فليس كل عادة في بلد يحتكم إليها، وليس كل شيء يعتاده الناس يحتكم إليه ويعمل به، فالشريعة جاءت بأشياء حكم فيها بأحكام معينة، وحددت هذه الأحكام، وفصلت فيها، فمثلا: بينت مقادير الزكوات، وفرضت على الناس أداءها، فبينت زمانها والأصناف التي تجب فيها، ومن تدفع إليه الزكاة، والأوقات التي تجب إلى آخره.
لكن هناك أشياء أوجبتها وتركت تقديرها لأعراف المسلمين، وهناك أشياء دعت إليها واستحبتها وتركت تقديرها لأعراف المسلمين، والسبب في هذا: أن العقول جعلها الله نورا للناس، ولذلك جعل الله نور العقل ونور الوحي، فالشخص تكمل عليه نعمة الله إذا جمع بين نور الشرع ونور العقل الذي وهبه، كما قال تعالى: {نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء} [النور:35] .
فالذي عنده عقل سليم لا يفعل إلا الشيء السليم؛ لأن العقل يعقل ويمنع عما لا يحمد، فالمسلم من حيث الأصل أن الناس في الأعراف الإسلامية في الغالب يعتادون أجمل الأشياء وأكملها وأحسنها، فإذا جئنا -مثلا- إلى عرف بلد إسلامي فوجدناهم اعتادوا أمرا، وهذا الأمر نحتاجه لتقدير حكم أو ضبط شيء أمر الشرع بضبطه بعرف الناس؛ رجعنا إليه، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) وهذا يعتبر من خوارم المروءة، فإذا جئت تبحث ما هي المروءة تقول: المروءة أن يكون الإنسان في أكمل وأحسن الأحوال التي تليق به في خاصته، فالعالم له وضع، وطالب العلم له وضع، وعامة الناس لهم وضع.
فمثلا: الأكل في المطعم أمام الناس، أو مثلا: الأكل في الشارع، فقد يأتي شخص ويأخذ طعامه ويضعه في فمه أمام الناس، فهذا لا يمكن أن يقبل من عالم أن يأتي أمام الناس ويأكل إلا في أمور مستثناة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب القدح أمام الصحابة، وأكل أمام الصحابة للتعليم في السفر، فهذه أمور مستثناة، لكن في داخل المدينة وبإمكانه أن يأكل في بيته، فيخرج طعامه أمام الناس في السوق أو في المجامع ويجلس أمامهم، فهذا يسقط المروءة، ومع أنه مباح وجائز، لكن الناس إذا رأوا هذا الشيء استهجنوه، وليس له حكم في الشريعة، فإن الشريعة لم تحرم علينا أن نأكل، فالأكل جائز، لكن الأكل أمام الناس بهذا الشكل أصله مباح: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فنقول: هذا مردود، ولا نقبله منك أيها العالم، ولا نقبله منك يا طالب العلم؛ لأن عادة المسلمين وعرفهم لا يقبلون هذا.
ولو خرج إنسان بملابسه الداخلية، أو بملابس النوم، فهو أمر مباح، فإنه يجوز للشخص أن يخرج بالقميص، ولا بأس به، لكن في عرفنا وما اعتاده الناس أن هذا يزري بالإنسان، ولا شك أن هذا الشيء من خوارم المروءة.
قالوا: لأن الإنسان الذي لا يبالي بالناس ليس عنده عقل، فكونه يخرج أمام الناس لابسا هذا اللبس الذي لا يليق إلا أن يلبسه داخل البيت، يدل على نقصان عقله، فانخرمت مروءته، لكن هذا الحكم ما أخذناه من نص من الكتاب والسنة، لكن أخذناه من أعراف المسلمين الكاملة الفاضلة.
وإذا جاء شخص وجلس أمام الناس وهو -مثلا- من أعيان الناس وكبارهم، فيحتاج إلى أن يكون على وقار وعلى سمت وعلى جلالة قدر تليق به؛ كالعالم، وطالب العلم، فجلس يضحك ويفعل الأمور التي لا تليق به، ويتهكم ويستخف، أو يأتي بالنكت ويسخر من هذا ويضحك من هذا، ويمزح مع هذا، فماذا نعد هذا؟! تجد عامة الناس العاقل منهم ينظر إليه نظرة غريبة، مع أنه لم يفعل محرما، فاللهو مباح، والضحك مباح، لكن من مثله في هذا المكان بهذه الصفة لا يليق، فيعتبر خارما للمروءة، لكن لما حكمنا بكونه لا يليق ليس بنص من الكتاب ولا من السنة، ولكن من عرف المسلمين وعادتهم الكريمة التي جبلوا فيها على أحسن وأكمل وأفضل ما يكون عليه الناس، ولأن الله اختار لهم أفضل الأديان وأحسنها، فاختار لهم أحسن العادات.
ومن هنا تتخرج مسألة لبس المرأة للقصير أمام النساء، فالذي يحدث من بعض من يلبس على الناس دينهم ومن أنصاف المتعلمين يقول: عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل، وعورة الرجل ما بين السرة والركبة، إذا تكشف المرأة ساقيها، ولها الحق أن تكشف عن صدرها وتلبس الملابس العارية؛ لأنها مباحة، ولا يوجد دليل على التحريم.
فنقول: إن هذا الشيء من حيث الأصل العام أن عورة المرأة مع المرأة من جهة حد التحريم الأصلي، لكن لا يقتضي هذا الهجوم على عادات الناس ومكارم الأخلاق، وسل العادات الحميدة من النفوس الطيبة التي ألفت هذه العادات، وسن القدوة السيئة حتى يقتدى بها الغير والتي تفتح شرا على المجتمع، هذا هو الذي يعاتب عليه، وهذا الذي يمنع منه، فالمرأة التي تأتي كاشفة عن ساقيها ساقطة المروءة، سقطت عدالتها، وهذا ذكره العلماء، وبينوا أن الأمور المباحة إذا فعلت في العيان في الحفلات وفي مجامع الناس أوجبت سقوط المروءة، ودلت على نقصان عقل الإنسان، وقد تدل على نقصان دينه.
وعندما تجد الشخص يأتي ويقول لهم: هذا الفعل ليس فيه شيء، واتركوا بناتنا يفعلن هذا الشيء، واتركوا نساءنا يفعلن! هذا إنسان يريد أن يهدم المجتمع، ويريد أن يقوض العادات الكريمة المستقيمة.
والشاب الآن حينما يأتي وهو رجل فيأتي كاشفا عن فخذيه ويقول: هناك من العلماء من يقول: إن العورة هي السوءتان فقط، وأن الفخذ ليست بعورة، فيأتي أمام مجامع الناس لابسا هذا اللباس معتديا على حرمات المسلمين؛ لأن للمسلمين حرمة، فليس من حق أحد أن يكشف محاسنه فيفتن الغير بها؛ لأن هذا أمام الناس، ولو كان في بيته فهو حر في نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا كله: (الله أحق أن يستحيا منه) حتى مع كون الإنسان وحيدا، وفي الحديث قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! عورتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك، قالوا: يا رسول الله! أحدنا يكون خاليا، قال: الله أحق أن يستحيا منه) ، وقال في الحديث الصحيح: (إن معكم من لا يفارقونكم) ، وهم الملكان الكرام الكاتبون، الذين يعلمون ما تفعلون: (إن معكم من لا يفارقونكم فاستحيوهم وأكرموهم) .
ثم الشاب الذي يأتي فيكشف عن فخذه لا ينبغي أن يسكت عليه الغير، فحينما تراه تأتي وتنصحه بالتي هي أحسن.
وقد رأيت شابا ذات مرة بهذه الصفة فناديته وقلت: يا أخي! أولا: هذا الذي تفعله ليس من حقك شرعا، فليس من حقك شرعا أن تكشف شيئا مما يوجب الفتنة لغيرك.
ثانيا: أنا أريد أن أسألك سؤالا: لما رأيتني بالثوب ورأيتني بهذا اللباس ناشدتك الله هل ترى في ثوبي عيبا؟ قال: لا.
قلت: لبسك لهذا الشيء طعن في هذا الشيء، أنت في أمة كاملة وفي بلد قدوة للأمة كلها تنظر إليهم النظرة الفاضلة الكاملة، وتعتدي على مكارم العادات ومحاسن العادات! ومن ناحية شرعية: لا إشكال في كونه يقلد الغرب، وهذا سنأتي عليه، وقد بينته له بعد ذلك، وبينت له أن لبسك لهذا اللباس تبعا لغيرك يدل على انهزامك، وأنك تبع للغير، (من أحب قوما حشر معهم) وأنت خيرت بين لباسين: - لباس الكمال والفضيلة.
-
ولباس النقص والذي يقود إلى الرذيلة.

فهل هناك عاقل يرضى لنفسه أن يلبس هذا اللباس؟! إن هذا اعتداء على قيم الناس.
ثم الرجل الواحد والمرأة الواحدة التي تأتي في الحفلة وتلبس لباسا فيه نوع من الاشتهار، يدخل في لباس الشهرة، وقد جاء في الحديث: (ومن لبس لباس شهرة ألبسه الله ثوبا من نار) ، نسأل الله السلامة والعافية، ومن لبس لباس الشهرة شهر الله به في الدنيا والآخرة.
فالحذر! والله لا ترضى المسلمة أنها تربت في بيت ترى فيه أمها كاشفة عن فخذيها، والمرأة التي تكشف عن فخذيها أمام بناتها وأمام المجتمع تسأل نفسها: لو أنها استفاقت يوما من الأيام وقد رأت أمها كاشفة فخذها هل ترضى ذلك لأمها؟! فكيف ترضاه لبناتها؟! فنحن لا ننظر إلى القدوة، مع أن القدوة لها أثر.
إذا: (العادة محكمة) قاعدة صحيحة، ويرجع إليها في تقدير النفقات، فالنفقة الزوجية يرجع فيها إلى العادة، ونقول: إذا كنت غنيا تقدر بنفقة الغنى، وإذا كنت فقيرا تقدر بنفقة الفقر، وإذا كنت متوسطا بنفقة الوسط، والمهور يرجع فيها إلى مهر المثل، وهذا من الرجوع إلى القاعدة والاحتكام إلى العادة، وقس على ذلك.
لكن الذي ينبه عليه: أنه لا يحتكم إلى العادة الخاطئة، ولذلك قالوا: لو تعارف الناس على أمر محرم انتشر بين المسلمين فأصبح عادة لم يرتبط به حكم شرعي، حتى قالوا: لو اعتادوا -مثلا- على حلق اللحى وأصبح عادة فإن هذا لا يحتكم إليه؛ لأن شرط العادة: أولا: أن تكون في المشروع، لا في الممنوع.
ثانيا: أن تطرد اطرادا في أغلب الناس أو أكثر الناس، خاصة إذا شملت المجتمع كله، فهذا مما يحتكم إليه ويثبت العمل به.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
حكم تصرف الوالد في مال ابنه من الرضاعة
السؤال هل يحق للوالد التصرف في مال ابنه من الرضاعة؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالرضاعة لا توجب ما ذكرناه من الحكم، ولذلك فليس من حق الوالد أن يتصرف بمال ولده من الرضاعة، فإنه يختص الحكم فيما يكون من النسب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) ، فجعل الحكم بالمحرمية، فدل على أن بقية الأحكام لا تأخذ فيها الرضاعة حكم النسب، والله تعالى أعلم.
حكم أخذ الولد دينه لأبيه المتوفى من تركته
السؤال إذا مات الأب وللابن عنده دين فهل يسقط أم يطالب إخوته أم يأخذه من التركة؟
الجواب هذا على ما تقدم، من حيث الأصل: أن الوالد إذا أخذ الدين من ولده وهو يريد سداده، فالمنبغي على الورثة ما دام أن هذا هو الأصل وهو المستصحب أن يسددوا عن والدهم، خاصة وأنه يكون فيه نوع من التفضيل، ويتحمل فيه الولد الذي دين تبعة ذلك الدين أكثر من غيره، فحينئذ يسدد له الدين، وأما إذا كان الوالد قد امتنع عن السداد مع القدرة، وفهم منه عدم إرادته للسداد، فلا إشكال، وحكمه حكم ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.
متى تسقط نفقة الوالد على ولده
السؤال النفقة تجب من الوالد لولده، فمتى يزول هذا الوجوب، هل بمجرد بلوغ الابن؟
الجواب إذا بلغ الولد وكان قادرا على الكسب، قادرا على أن يعول نفسه، ويقوم بكفايتها؛ سقطت النفقة عن الوالد، وحينئذ فلا يلزم الوالد بالنفقة على ولده، مثال ذلك: إذا بلغ ووجد وظيفة أو وجد عملا؛ فحينئذ تسقط النفقة عن الوالد ويقوم الولد بإعالة نفسه.
أو كان الولد عنده قوة ويستطيع أن يعمل عملا أو يتكسب بالعمل المباح، فحينئذ يتكسب، وللوالد أن يقول له: اذهب وتكسب، فإذا قصر وامتنع من التكسب كان من حق الوالد أن يمتنع من النفقة عليه ما دام قادرا على الكسب، فالشريعة لا تدعو إلى البطالة، ولا تعين على البطالة.
ومن هنا ننبه على أن من أفضل ما يكون للإنسان أن يربي الوالد ولده دائما على الكسب باليد؛ لأنه خلق الأنبياء الذين اختار الله لهم الكسب الطيب، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أكلوا من كسب أيديهم، فداود كان في الحدادة يأكل من كسب يده، وكذلك يحيى وزكريا عليهم الصلاة والسلام، فهذا كله لا ينقص قدر الإنسان.
والشاب الذي تجده يكدح ويتعب من أول شبابه، ويستفتح حياته بأن يكون متوكلا على الله، آخذا بالسبب؛ فإن الله يبارك له في صحته، ويبارك له في وقته، ويبارك له في ماله وكسبه، لكن إذا نشأ عالة على والده، يحمل والده النفقة، ولو كان الوالد راضيا بذلك، فإن هذا لا تحمد عقباه، وليس بالأكمل والأفضل.
بل على الإنسان دائما أن يسعى في طلب المباح، وقد أخبرني الوالد رحمه الله: أن جدي كان يحفظهم القرآن من وقت الحر إلى طلوع الشمس، فكان يوقظهم من السحر، وكان رحمة الله عليه كثير التهجد والعبادة، حتى إن العمات الآن يقلن: لا يأتي قبل الفجر بساعة ونصف إلا وهن مستيقظات؛ لأنه عودهن من الصغر رحمة الله عليه.
فمما كان من سيرته: أنه كان إذا صلى الفجر يجلس مع أولاده إلى الإشراق، وإذا أشرقت الشمس أخذ الألواح التي يحفظون بها -كانوا يكتبون القرآن فيجمعون بين حفظه بالكتابة والرسم والتلقي والسماع-، فإذا طلعت الشمس سحب هذه الألواح منهم وأمرهم أن يذهبوا لكسب العيش، فيذهبون، ومن المعروف أنهم كانوا في بادية، فيذهبون ويطلبون القوت، ولم تكن هناك أعمال لهم، فالذي يذهب يحتطب، والذي يذهب ويقوم على رعي الغنم ومراعي الإبل، المهم ألا يبقى عاجزا، وألا يبقى عالة.
وقد كان عنده من الخدم ما يسد حاجته، لكن لابد أن يكدح كل شخص منهم ويلتمس رزقه، ولا يكون عالة على غيره، فهذا هو الأكمل والأفضل؛ أن يعود الوالد ولده، وإذا نشأ الشباب على هذا الشعور فإنهم سيجدون المال الطيب بالكسب المباح الذي ليس فيه شبهة ولا حرام، ويبارك الله لهم في أوقاتهم.
ولذلك تجد الشاب الذي يتعود على البطالة وعلى والديه لم يهنأ له العيش، حتى إنك تجد الواحد منهم تصب في حجره عشرات الألوف وهو من أنكد الناس -نسأل الله العافية والسلامة- ومن أبأسهم حالا، وتجده في أشد ما يكون من الضيق والعناء.
ولذلك ينبغي البعد عن هذه البطالة، وعلى الإنسان أن يبحث عن الكسب الطيب الذي يصون به نفسه وماء وجهه عن سؤال الناس أو الحاجة إلى الناس، قيل لـ إبراهيم بن أدهم -وهو من عباد الناس الصالحين وقد كان في البحر في سفينة، فأصابتهم الريح، فمالت السفينة وكادت أن تغرق، ثم نجاهم الله عز وجل، فقيل: (يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة وهذه الكربة؟ فقال رحمه الله: إنما الشدة الحاجة إلى الناس) .
فالذي لا يتعود على الكسب بيده، ولا يتعود على طلب رزقه، وسؤال الله المعونة، فإنه سيكون في أسوأ الأحوال، فليس هناك أشد من أن يقف الإنسان أمام الغير ليسأله حاجة من حوائج الدنيا، فنسأل الله العظيم ألا يجعل لنا ولكم إلى لئيم حاجة، والله تعالى أعلم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #494  
قديم اليوم, 03:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,307
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب الهبة والعطية)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (399)

صـــــ(1) إلى صــ(11)





شرح زاد المستقنع - باب تصرفات المريض من الهبة والعطية [1]
لقد حفظ الشرع حقوق الورثة عندما منع الموصي من الوصية بما زاد على الثلث، وكذلك حجر المريض مرضا مخوفا من إعطاء أو هبة ما زاد عن ثلث ماله، وأما من مرض مرضا غير مخوف فتصرفه يعتبر تصرفا لازما صحيحا، سواء مات في ذلك المرض أو لم يمت، والضابط في معرفة المرض المخوف من غيره هو سؤال أهل الخبرة والأطباء المسلمين أصحاب الثقة والأمانة.
حكم تصرف المريض فيما زاد على الثلث والحكمة من ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل في تصرفات المريض] .
كان الحديث فيما مضى عن أحكام الهبات والعطايا، وهو موصول بأحكام الأوقاف، وقد بينا الصلة بين البابين، وسبب ذكر العلماء رحمهم الله لباب العطية والهبة بعد باب الوقف.
أما بالنسبة لتصرفات المريض، فالمراد بالمريض هنا: المريض مرض الموت من حيث الأصل، لكن العلماء رحمهم الله يذكرون أحكام تصرفات المريض عموما في هذا الموضع، وقد يسأل سائل فيقول: ما هي المناسبة في كون المصنف يذكر هذا الفصل في هذا الباب المتعلق بالهبات والعطايا؟
و الجواب أن الهبة والعطية تبرع محض، يعطيه الإنسان لغيره، وهذا التبرع المحض بينا أنه مشروع وجائز، ولكن هناك نوع من الناس منعت الشريعة الإسلامية تصرفه وعطيته وهبته في حد معين، فأجازت له أن يعطي ولكن بحدود، وأباحت له أن يهب ولكن بقيود، وهذا النوع هو المريض مرض الموت، والسبب في هذا: أن المريض مرض الموت تنظر الشريعة الإسلامية إلى حاجة ورثته إلى المال، ولو فتح المجال للتبرعات والهبات والصدقات مطلقا للإنسان عند حضور الأجل، وتصدق الناس بأموالهم جميعها؛ لأضروا بمصالح الورثة؛ وذلك لأن الإنسان يخاف إذا نزل به الموت أو نزلت به أماراته، وخاصة إذا أخبر من الأطباء أو أهل الخبرة أن الغالب أنه لن يسلم، فإذا انقطع رجاؤه من الحياة أقدم على نفسه، فأصبح مقبلا على آخرته وبذل ماله كله وتصدق به، والشريعة في هذه الحالة لا تنظر إلى جانب دون اعتبار جوانب أخر، فكما أن الميت والإنسان له حق في ماله، لكن ما دام أن هناك ورثة يرثونه من بعده، وهؤلاء الورثة قد يكونون ممن هم أوثق بالإنسان كوالديه وأولاده وزوجته فربما تعرضوا للضياع من بعده، فمنعت الشريعة من التصرف من المريض مرض الموت فيما زاد عن الثلث بالهبة والعطية والوصية ونحو ذلك، صيانة لحق الورثة.
وقد يعترض معترض ويقول: المال مال الشخص سواء تصدق به أو وهبه أو أعطاه، فلماذا نمنعه؟ والجواب: أن الشخص إذا كان يرجو الله والدار الآخرة إذا تصرف بإعطائه للمال لم يخل من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون تصرفه بالصدقات والهبات، فصدقته على أقربائه أفضل، وعطيته لأولاده وذريته من بعده أفضل والله يأجرك على كل درهم بل على كل خردلة تركتها لورثتك من بعدك، والصدقة على القريب أعظم ثوابا وأجزل عطاء وأحسن مئابا عند الله من غير القريب، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم المؤمنين في الصحيح: أنه كان عندها جارية تملكها، فأعتقت الجارية لله، فدخل عليها عليه الصلاة والسلام، فقالت: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لو أنك أعطيتها لأخوالك لكان أعظم لأجرك عند الله) .
إذا: العطية للقريب أعظم من العطية لغير القريب.
أيضا: أن القريب له حق واجب على الإنسان كأولاده وذريته، فهؤلاء يتضررون ببذل المال لغيرهم، فكيف يحسن الإنسان لمن هو بعيد ويترك ويضيع من هو أقرب؟! ومن هنا لما سأل الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صدقته بماله، قال -بعد أن بين له حق نفسه-: (ثم أدناك أدناك) وقال: (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) ، فيدل هذا على أنه إذا كان الشخص في مرض الموت وأراد أن يتصدق بماله من أجل الإحسان إلى الناس، فإحسانه إلى الورثة أعظم، وهذا من حيث الاحتمال الأول، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى حينما دخل على سعد رضي الله عنه وأرضاه، وكان سعد مريضا وخشي على نفسه أنه يموت فقال: (يا رسول الله! إن عندي مالا ولا وارث لي كما علمت إلا ابنة أفتصدق بمالي كله؟ قال: لا.
قال: فبنصفه؟ قال: لا.
قال: فبثلثه؟ قال: الثلث والثلث كثير) فقال: ثم بين عليه الصلاة والسلام العلة والسبب في كونه يمنعه أن يتصدق بجميع المال: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) .
فقوله عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تذر) أي: تترك ورثتك وأولادك من بعدك أغنياء عندهم مال؛ يكون لك في ذلك أجر؛ لكونك سترت عورتهم، وسددت خلتهم وحاجتهم ولم يخرجوا إلى الناس، فذلك خير لك في دينك ودنياك وآخرتك؛ لأنه قال: (خير) وخير نكرة شملت جميع الخير، مع أنه قد قال: أفأتصدق؟ فـ سعد رضي الله عنه يريد الصدقة، ويريد أن يقدم شيئا لآخرته، فقال له: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) .
إذا: هذا من جهة إذا كان قصده من التصرف في مرض الموت الإحسان والصدقة، فقد بينا أن إحسانه إلى الأقرباء أعظم وأفضل ثوابا من الإحسان إلى الغرباء، ومن هنا قال العلماء: من أراد أن يوقف أو يتصدق فالمنبغي عليه أن ينظر أول ما ينظر إلى قرابته؛ لأن الإحسان إلى الأقرباء أعظم، والبر بهم والصلة لهم أجزل ثوابا عند الله عز وجل من غيرهم.
الحالة الثانية: أن يكون قصده غير حسن، كأن يرى أن هذا المال تعب فيه وشقي في جمعه، فلا يريد أن يبقى لورثته من بعده، فيريد أن يصرفه للغرباء حتى يحرمه الأقرباء، فهذا لا شك أنه عين الإساءة، ومثل هذا من حقك أن تحجر عليه وتمنعه؛ لأن الشريعة جاءت بالمصالح ولم تأت بالمفاسد، ولذلك عاملت بنقيض القصد؛ ولذلك من طلق زوجته من أجل أن يحرمها من الميراث في مرض الموت، ذهب بعض الصحابة إلى أنها تورث على رغم أنفه، وهذا كله من باب المعاملة بنقيض القصد؛ لأنه يريد غير شرع الله، ويريد تعطيل ما أعطى الله عز وجل ووهبه لعباده.
إذا: إما أن يكون قصد المريض حسنا، فالإحسان إلى القريب أولى، وإما أن يكون سيئا فمنعه من إساءته أولى وأحرى.
ومن هنا نجد -والعياذ بالله- في بلاد الكفر في الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر أن الرجل منهم يجلس سنوات آخر عمره لا يصله أحد من أقربائه -نسأل الله السلامة والعافية- فإذا كان عنده الأموال الكثيرة ربما أوصى بها إلى الحيوانات -أكرمكم الله- وهذا من الانهيار الخلقي والدمار الداخلي الذي يعيشه أعداء الله؛ لأن الله كتب أن أموالهم يعذبون بها في الدنيا، وعلينا ألا نعجب لما هم فيه من النعيم والأموال؛ لأن الله سيجعلها زهقا لأنفسهم حتى في آخر حياتهم؛ فتزهق أنفسهم ويعذبون بأموالهم، يعذب بها المورث ومن يرثه، فيحرم من الابن ومن الملايين التي توصى -والعياذ بالله- ولعل بعضكم سمع القصص التي لا خير في سماعها أصلا، لكنها عبرة خير وعبرة لمن يعتبر، فهم يريدون أن ينتقموا من الورثة.
إذا: هذا الاحتمال الثاني: أن يتصرف بماله عند مرض الموت بقصد حرمان الورثة وقطعهم من حقهم الذي أعطاهم الله من فوق سبع سماوات، فهذا تصرف إساءة، والشريعة جاءت بدرء المفاسد وجلب المصالح، وهذا بالنسبة للأصل العام.
فالشريعة تدخلت في تصرف المريض مرض الموت في أمور تتعلق بحقوق الغير، فلم تمنع مطلقا؛ ولم تجز مطلقا بل جاءت بالعدل والوسطية، فأجازت له أن يتصرف بالمال، ولكن دون أن يضر بورثته، ودون أن يضر بمن يعول من بعده.
قوله: (فصل في تصرفات المريض) في كتب الفقهاء رحمهم الله الباب ينقطع عما قبله، وقد يجتمع مع ما قبله في الأصل العام الذي هو الكتاب، فتقول مثلا: كتاب الصيام، باب ثبوت رمضان، ثم تقول: باب وجوب الصوم، باب السحور، باب الفطر، وكلها أجزاء وأبواب منفصلة، فالسحور غير الفطر؛ لكنه يندرج مع الفطر في أصل عام وهو الكتاب، لكن (الفصل) قسيم (الباب) ، ومعناه: أن مسائل الفصل أو قاعدة الفصل العامة مندرجة تحت الباب، ولما كانت عطية المريض داخلة تحت باب العطايا، قال المصنف رحمه الله: فصل في تصرفات المريض.
وقوله: (تصرفات) جمع تصرف، يقال: صرف الشيء: بذله للغير، ومنه المصارفة؛ لأن الإنسان يجعل الشيء مبذولا لقاء الشيء، والمراد بالتصرف: التصرف في الشريعة الإسلامية، ويكون بالعقود ويشمل ذلك البيع والإجارة والرهن والهبة والوقف والعتق، وغيرها من التصرفات الأخرى.
وقوله: (فصل في تصرفات المريض) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحقوق المريض مرض الموت المركبة والمترتبة على أمواله، فإذا باع ماله ما حكم بيعه؟ وإذا أجر ما حكم إجارته؟ وإذا وهب ما حكم هبته؟ وإذا وصى فما حكم وصيته؟ كل هذا سيبينه رحمه الله في هذا الموضع.
وقال: (تصرفات) بصيغة الجمع؛ لأنها أكثر من شيء، فهناك تصرف في المعاوضات، وهناك تصرف بالإرفاقات، والتصرف بالأنكحة والطلاق والخلع وغيرها من المسائل، لكن العلماء والفقهاء منهم من يستقل ومنهم من يستكثر، والمصنف رحمه الله جمع جملة لا بأس بها من المسائل والأحكام.
وقوله: (المريض) ، ضد الصحيح، والمريض: هو السقيم، والمراد بالمرض: خروج البدن عن حد الاعتدال، فبدن الإنسان فيه طبائع، فإذا اعتدلت هذه الطبائع اعتدلت صحة الإنسان، وذكروا منها السوداء والصفراء والبلغم، فهذه إذا اعتدلت واستوت في جسم الإنسان، فصحته سليمة، لكن إذا اختلت انتابته الأسقام والأمراض والعلل.
وسيذكر أحكام تصرفات المريض، سواء كان مرضا مخوفا، وهو المرض الذي يموت الإنسان منه غالبا، أو كان تصرفه في مرض غير مخوف، سواء مات في ذلك المرض أو لم يمت فيه.
وفي هذا الموضع من عادة العلماء رحمهم الله أن يبينوا أنواع الأمراض -عافنا الله وإياكم من الأمراض والأسقام ظاهرها وباطنها- وفي الحقيقة: لسنا بحاجة إلى أن نصف هذه الأمراض؛ لأن المرد في هذه المسائل إلى الأطباء وأهل الخبرة، والأزمنة تختلف، وبعض الأمراض لا نستطيع أن نقول: إنه المرض الفلاني؛ لأنه في القديم كانت له أسماء وفي الحديث له أسماء أخرى؛ ولذلك ننبه على أننا سنعطي بعض القواعد والضوابط التي من خلالها يعمل بما ذكره المصنف رحمه الله من أحكام؛ لكن المرد في هذا كله من حيث الأصل إلى الأطباء، فالأطباء هم الذين يقررون هل هذا المرض مرض مخوف أو مرض غير مخوف؟ فإذا قال الأط
حكم تصرف المريض مرضا غير مخوف
قال رحمه الله تعالى: [من مرضه غير مخوف كوجع ضرس وعين وصداع يسير فتصرفه لازم كالصحيح ولو مات منه] .
من حيث الأصل العام: المريض نمنعه من التصرف فيما زاد عن حدود الثلث، فلا يهب ما زاد عن الثلث، ولا يعتق -كما كان قديما- ما زاد عن الثلث، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه رد العتق في هذا) ، ولا يوقف في قول طائفة من العلماء بما زاد عن الثلث، ولو أوصى بوصية لوارث فقال: لفلان كذا وكذا، وهو وارث منه، فلا تصح هذه الوصية؛ لأنه لا وصية لوارث، ما لم يجزها الورثة، كما سيأتي -إن شاء الله- تفصيله في كتاب الوصايا.
والحجر عليه يكون في حدود الثلث، فلو كانت عنده ثلاثة ملايين فمن حقه أن يهب أو يتصدق بالمليون أو ما دونه، وأما ما زاد على ذلك فإنه من حيث الأصل العام محجور عليه، والمراد بالحجر: المنع من التصرف، فلا ينفذ التصرف إلا برضا الورثة، فإذا تصدق بمليونين ومجموع ما تركه ثلاثة ملايين، فنقول: تنفذ صدقته في المليون، ثم نجمع ورثته ونسأل هؤلاء الورثة: ما رأيكم في المليون الزائد على الثلث الذي هو الثلث الثاني، هل أنتم راضون بإنفاذه أو لستم براضين؟ فإن أمضوه مضى ونفذ، وهناك قولان للعلماء: هل نعتبر الثلث الثاني الزائد على الثلث مبنيا على عطية المريض فيمضي من وقت العطية، فيكون حكمه حكم وقف العطية أنه مملوك لصاحبه، على التفصيل الذي سيأتي في الوصايا، أم أنها عطية مبتدأة؟ فبعض العلماء يقول: إذا رضي الورثة بإعطاء المليون الزائد فإنه في هذه الحالة تكون عطية منهم لا من الميت.
إذا: المنع في حدود الثلث اعتبره العلماء نوعا من الحجر، ويختص بالثلث، فيخالف بقية أنواع الحجر الأخرى؛ لأن الحجر يشمل الثلث وغيره؛ كالحجر على المجنون أو الصبي أو المفلس، فهذا يكون حجرا تاما، لكن في المريض مرض الموت يكون حجرا في حدود الثلث، وأشار إلى ذلك بعض الفقهاء كالمالكية رحمهم الله فقالوا: الزوجة لا تجوز عطيتها ولا تنفذ فيما زاد عن الثلث كالمريض مرض الموت، والسبب في هذا: أن المرأة من حيث الأصل في الشريعة مخدرة محجبة بحجابها الذي جعله الله عز وجل طهرا لها، وصيانة لها، فلا تخالط الناس، ولا تبيع ولا تشتري، والغالب أنها تجهل هذه الأمور، فما كان هناك تبرج ولا خروج، تقول أم عطية: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور) فما كان النساء يعرفن الخروج والولوج، بل كانت المرأة أجهل ما تكون في مخالطة الناس ومعرفتهم، من كثرة الحفاظ والطهر الذي كانت فيه هذه الأمة، والعفة التي صان الله عز وجل بها نساء الأمة، ولا زال صائنا سبحانه وتعالى لنساء الأمة بالتمسك بهذه المبادئ الكريمة.
فالشاهد: أن المرأة كانت تجهل من خلال هذه الأمور، فبعض العلماء وهو قول شريح يرويه عن عمر بن الخطاب كما جاء في المصنف: (عهد إلي عمر ألا أجيز لامرأة عطيتها حتى تحول حولا أو تلد ولدا) ، يعني: بعد ما تحول الحول وتخالط الرجل وتعرف الأمور، فحينئذ تنفذ، لكن قبل ذلك كانوا يمنعونها؛ لأنها كانت تجهل هذه الأمور، فالمالكية يرون الحجر على المرأة في حدود الثلث، والصحيح هو مذهب الجمهور: أن المرأة ما دامت عاقلة رشيدة فإنها حرة في مالها، بشرط ألا تسرف ولا تبذخ، وأما القول الأول فهو قول مرجوح، وقد أشار إلى هذا القول المرجوح بعض العلماء بقوله: وزوجة في غير ثلث تعترض كذا مريض مات في ذاك المرض الشاهد في قوله: (كذا مريض مات في ذاك المرض) ، إذا: في المرض المخوف سيكون الحجر في حدود الثلث، فأولا: نمنعه نمنعه من التصرف فيما زاد عن الثلث.
وثانيا: نمنعه من التصرف بالهبة، أما لو باع واشترى وتعاطى بالمعاوضات فهذا شيء آخر من حيث الأصل، ولا اعتراض ما دام أنه عاقل رشيد يبيع ويشتري من حيث الأصل، لكن أن يصرف الهبات والعطايا وما يدخل الضرر على الورثة، فهذا فيه تفصيل سيذكره المصنف رحمه الله.
أمثلة للمرض غير المخوف
وقوله: (من مرضه غير مخوف كوجع ضرس) .
أي: أن يكون المرض من جنس الأمراض التي لا يخاف منها على الإنسان أن يموت بسببها، فوجع الضرس لا يؤدي إلى الموت غالبا.
وقوله: (وعين) .
إذا آلمته العين مثل: التهابات الأعين، فإنها لا تؤدي إلى الموت، لكن ثبت في بعض الأحيان أنه قد يكون المرض مستحكما في الجسم وله أعراض ودلائل في مواضع أخر، فقد يكون الألم في جهة ومع الإنسان مرض قاتل، فيظن أن هذا من المرض اليسير، وهذا هو السبب الذي جعلنا نقول: نرجع إلى الأطباء وأهل الخبرة، فهم الذين يقررون أن هذا المرض مخوف أم لا.
ووجع العين في الغالب أنه لا يؤدي إلى الموت.
وقوله: (وصداع يسير) .
أما الصداع المستحكم ففي بعض الأحيان -أعاذنا الله وإياكم- قد يكون دليلا على أمراض خبيثة، وقد يكون دليلا على أمراض أخرى تؤدي إلى الموت، وقد يكون دليلا على التسمم، وهذه أحوال مستثناة لا نريد أن ندخل في التفصيل؛ لأن الدخول في التفصيل يدخل الوسوسة على الناس، فبعض الأحيان إذا ذكرت بعض الأمور بعض الأعراض يصبح الشخص شاكا حتى في كل شيء، ولكن على الشخص أن يتوكل على الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل لطيف بعباده، لكن بالنسبة للأمراض وتحديدها فهو معروف عند الأطباء، فربما يكون المرض قاتلا وعلامته في مكان آخر، فقد يكون في الباطن ويأتيه صداع، لكن هذا كله يتوقف على قول الأطباء، وإلى الله المشتكى.
وعلى العموم: الإنسان طبيب نفسه، والعادة جرت: أن الصداع يأتي من أشياء تافهة، مثل ضرب الهواء، وقد يأتي بسبب الجوع، وقد يأتي بسبب الإرهاق والتعب، فالأمر يسير، فليس كل صداع يفضي إلى الموت، لكن أيا ما كان قال المصنف رحمه الله: (وصداع يسير) ؛ لأن الغالب أن الصداع اليسير لا يكون مهلكا، أما إذا كان قويا مستفحلا وعرف فيما بعد أنه مرض خبيث، أو أنه تسمم وأقعده حتى توفي، فحينئذ يكون في حكم المريض مرض الموت.
وتوضيح المسألة: لو أنه آلمه ضرسه، فتصدق بمائة ألف ريال في مشروع الخير، وشاء الله عز وجل بعد ساعتين أن توفي، والثابت أنه تصدق بالمائة الألف التي يملكها كلها ومعه وجع الضرس، فإن قلت: وجع الضرس مرض مخوف؛ فحينئذ لا ينفذ إلا في حدود ثلث المائة الألف، وأما الباقي فيوقف على إجازة الورثة.
أما إذا قلت: إن وجع الضرس ليس بمخوف، وهذا هو المعتبر والمعمول به؛ فحينئذ تنفذ المائة الألف ولا حق للورثة فيها، ويكون قد مات قضاء وقدرا، والمائة الألف جاءت هبة من رجل صحيح سليم العقل تصح عطيته ونفذت على وجه بر وخير، فحينئذ تمضي صدقته ولا يعترض عليها، وإن آلمته إحدى عينيه -مثلا- وتصدق بما ذكرناه، ثم توفي بعد هذا الألم، ولم يقل الأطباء: إن هذا الألم متصل بعارض آخر أو بمرض آخر، فحينئذ نقول: وجع العينين ليس بمرض مخوف، وعطيته عطية صحيح نافذة في جميع المادة.
وقوله: [فتصرفه لازم كالصحيح] .
بمعنى: لو باع سيارته ومعه هذا المرض غير المخوف، أو وهب أو أجر؛ فتصرفه لازم وصحيح معتبر، فإذا تم القبض للهبة تمت الهبة ولزمته، وحينئذ لا يملك الورثة أن يعترضوا على هذا التصرف بإبطاله، وقوله: (كالصحيح) ، أي: أن حكمه حكم الصحيح، فهذه الأمراض والآلام لا توجب هلاكا ولا توجب تلفا غالبا؛ فحينئذ يكون تصرفه في حال ما ذكر تصرفا صحيحا معتبرا شرعا؛ لأنه ليس هناك مانع من صحة العقد، والأصل هو اللزوم إذا وقع مستوفيا للشروط، وقد باع ووهب وأوقف ورهن وتصرف بتصرفات في حال اكتمال رشده، فنعمل عقده ولا نهمله ولا نبطله؛ لأنه لا موجب للإنكال والإبطال، والمرض ليس بمرض مؤثر، فلا يوجب بطلان هبته وتصرفاته.
حكم تصرف من مرض مرضا غير مخوف ومات منه
قال رحمه الله: [ولو مات منه] .

من أصابه المرض غير المخوف فله حالتان: الحالة الأولى: ألا يموت، بل يتصرف ثم تشفى عينه، أو يتصرف وبه صداع ثم يشفى من صداعه، فهذا بالإجماع لو أنه تصرف ورأسه يؤلمه بصداع يسير، أو تصرف ومعه ألم في عينيه، فوهب ماله كله، ثم بعد ذلك شفي، ثم رجع عليه مرض فمات، أو مات من ليلته بعد أن شفي واكتمل شفاؤه وعوفي، فإننا نقول: قد مات بسبب آخر، ومرضه الأول ليس بمخوف، وتصرفه صحيح كالصحيح، أي: أنه تصرف في حال السلامة، فيحكم بصحة تصرفه ونفوذه.
الحالة الثانية: أن يموت بعد المرض، كأن يأتيه الصداع أو وجع الضرس أو ألم العين ثم يموت، فإذا جاءه الصداع أو وجع الضرس أو ألم العينين ثم اتصل إلى أن مات بعده، فللعلماء وجهان: الأول: جمهور العلماء على أن تصرفه صحيح، وأن الموت ليس بهذا المرض؛ لأن هذا المرض طبيعة وعادة لا يموت منه الإنسان، والله قد جعل العادة آية ودليلا وحجة، فما نجد أن الصداع اليسير يفضي إلى الموت، ولا نجد أن ألم العين يفضي إلى الموت عادة، لذلك سقط اعتباره، فقال المصنف: (ولو مات) .
القول الثاني: يقول بعض العلماء: لو اتصل الموت بهذا المرض اليسير فإنه لا ينفذ تصرفه، والمصنف رحمه الله يريد أن يشير إلى القول الثاني، فالجمهور يقولون: من كان مرضه غير مخوف واتصل الموت بهذا المرض فمات بعده، فهبته صحيحة وتصرفه صحيح كالصحيح سواء بسواء.
وهناك خلاف عند بعض الحنابلة رحمهم الله يقولون: إذا مات بعد ألم العين والمرض غير مخوف، واتصل هذا المرض بالموت، فإننا نعتبره في حكم المرض المخوف، وهذا القول مرجوح، والصحيح: أنه لا يعتبر في حكم مرض المخوف؛ لأن الحكم للغالب، والقاعدة تقول: (النادر لا حكم له) ولأننا بحكم التجربة والعادة قد نجزم بأن هذا الموت جاءه قضاء وقدرا بسبب آخر، لا أن ألم العينين ونحوها كان سببا في وفاته وموته.
حكم تصرف المريض مرضا مخوفا
قال رحمه الله: [وإن كان مخوفا كبرسام، وذات الجنب، ووجع قلب، ودوام قيام، ورعاف، وأول فالج، وآخر سل، والحمى المطبقة، والربع، وما قال طبيبان مسلمان عدلان أنه مخوف، ومن وقع الطاعون ببلده، ومن أخذها الطلق، لا يلزم تبرعه لوارث بشيء ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها إن مات فيه، وإن عوفي فكصحيح] .
قوله: (وإن كان مخوفا كبرسام) .
هذه الأمراض القديمة كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم لا يحب أن يفصل في أماراتها؛ لأنه لا بد أن يقدر أن هناك ضعيف النفس، وهناك المرأة ضعيفة النفس ربما تخيلت كل شيء يأتي أنه هذا الشيء، ولذلك كان من الحكمة ترك هذه التفصيلات.
والبرسام نوع من الأمراض القاتلة -أعاذنا الله وإياكم- وهذا المرض موجود الآن، وله اسم خاص عند الأطباء، وهو يفضي إلى الهلاك غالبا، فإذا قال الأطباء: إن أمارات المرض الموجودة مع هذا المريض هي أمارات المرض الفلاني الذي هو البرسام -أعاذانا الله وإياكم- حكم العلماء رحمهم الله بكونه مرضا مخوفا؛ لأن هذا المرض الغالب أنه يفضي بصاحبه إلى الموت.
وقوله: (وذات الجنب) .
هو نوع من بعض الأمراض التي تفضي إلى الهلاك -نسأل الله السلامة- تلازم صاحبها والغالب أنها تفضي إلى هلاكه.
وقوله: (ووجع قلب) .
الآن يمكن أن نعتبر الإنسان عند القيام له بعمليات جراحية خطيرة أنه في حكم المريض مرض الموت، وبعض الأحيان تكون نجاته من هذه العمليات بنسب ضئيلة، وشفاؤه بعد العملية بنسب ضئيلة، والمهم: أنه يوجد عارض يؤثر في الجسد، والغالب أنه لا يسلم صاحبه، هذا هو الضابط، وأسماء الأمراض وتفصيلها هذا أمر يرجع إلى أهل الخبرة.
ومن الممكن أن طريق الأطباء والعلماء يحكمون إذا اختلف الورثة وقالوا: هذا مرض مخوف، فيطالبون بالتقارير التي تثبت أنه مصاب بهذا المرض، والأمر -والحمد لله- الآن متيسر، والمستشفيات موجودة، والتحاليل والأجهزة بعدد لا يخطر للناس على بال، فلو أن الناس تفكروا في عظيم نعمة الله عليهم مما تيسر من وسائل الطب التي تكشف الأمراض لحارت عقولهم، وهذا لا شك أنه يستوجب على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلهج بالثناء على الله بما هو أهله، فإن الناس وصلوا إلى شيء لم يكن للخيال أن يتصوره، فمن كان يتصور أن القلب يفتح ويشق ويستخرج ما فيه من الأمراض ويعاد، وتداوى علله وتشوهاته الخلقية، وتوضع له العروق التي وضعها الله سبحانه وتعالى في الساق، فتنقل هذه العروق وتوضع في قلب الإنسان إذا حصل عنده انسداد الشرايين من كان يتصور أن هذا يحدث؟! ولكن: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} [يس:83] ، وهذا يدل على عظمة الله جل جلاله، وعلى كرمه وحلمه ورحمته بهذا المخلوق وتكريمه لبني آدم، وهذه النعم من الله على العبد لا يشعر بها إلا القليل، وهذه النعم التي سخرها الله سبحانه وتعالى والمنن ما



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #495  
قديم اليوم, 03:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,307
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



جعلها الله سبحانه وتعالى إلا آية على توحيده وعظمته حتى يكون الإنسان شاكرا لأنعم ربه.
إذا: كثير من الأمراض ومنها الانسداد في الشرايين، الغالب أنه يهلك إذا لم يسعف ويفك هذا الانسداد، فإذا كان عنده انسداد في شريان القلب، فيعني أنه مهدد بين العشية والضحى أن يأتيه قدر الله، فمثل هذه الأمراض الخطرة في القلب والتي يقول الأطباء: إنها خطرة والغالب عدم السلامة منها؛ فإنه يحكم بكونها أمراضا مخوفة.
فليس كل مرض قلب أو ألمه يعد مرضا مخوفا؛ لأن شرب المشروبات الغازية -وهذا ثابت طبيا- يؤثر على القلب، ولربما تأتي بأعراض مثل أعراض الذبحة الصدرية أعاذنا الله وإياكم منها، وغالبا ليس هناك ذبحة صدريةولا أي شيء، إنما هي غازات تضغط على غشاء الإنسان فيظن أن قلبه فيه علة وما فيه علة، فمثل هذه الأمور لا بد فيها من الرجوع إلى الأطباء، ومن أهم ما كان يوصي به بعض الحكماء والعقلاء: أنه ليس هناك طبيب للإنسان مثل نفسه، فإذا وجدت أن نفسك تغيرت، فانظر فقد يكون طعامك قد تغير، فلو تغير طعامك تغيرت نفسيتك، ولو تغير جسدك تتغير طاقتك ويتغير وضعك، فالشاهد: أنه ليست كل أمارة أو علامة يحكم بكونها مرضا، ولا بد من الرجوع إلى الأطباء وأهل الخبرة في هذا.
وقوله: (ودوام قيام) .
هو استطلاق البطن أعاذنا الله وإياكم، فإذا استطلقت بطنه ولم تتماسك فإن الغالب في ذلك أنه يؤدي إلى الهلاك والموت إذا لم يتداركه الله برحمته، وقد تكون أمارة على مرض معد أو على مرض مهلك، فدوام استطلاق البطن يعتبر من الأمراض المخوفة.
وقوله: (ورعاف) .
أي: إذا نزح وكان رعافا شديدا؛ لأن هذا غالبا مرض مخوف؛ لأنه قد يكون الرعاف في بعض الأحيان بسبب الأمراض الدموية التي تكون في دم الإنسان، في صفائح الدم، وكذلك في حكم خروج الدم خروجه من داخل البدن، كالقرحة التي تكون في معدة الإنسان إذا انفجرت، أو استقاء الدم وكان في درجاته الأخيرة، فهذه غالبا مخوفة، لكن إذا كانت في بدايتها فيمكن أن يتدارك ولا يكون المرض مخوفا.
وقوله: (وأول فالج وآخر سل) .
كل هذه الأمراض مخوفة، والغالب أن الإنسان لا يسلم منها، حمانا الله وإياكم منها.
وقوله: (والحمى المطبقة) .
مثل: الملاريا، فالملاريا إذا استحكمت وتمكنت من إنسان فالغالب أنها تقتله، وإذا أطبقت على الإنسان وأصبح محموما وأثر عليه، فإنها غالبا ما تقتل الإنسان، إذا كانت مستحكمة ووصلت إلى درجاتها الخطيرة.
وقوله: (والربع) .
وهي الحمى التي تأتيه في اليوم الأول، ثم تمكث يومين ثم تأتي في اليوم الرابع.
وبعض العلماء رحمهم الله كان يقول: سمعت بعض المشايخ سأل بعض الأطباء فقال: هي علامة على بعض الأمراض الخطرة في البدن -يعني: أنها ليست بذاتها- والغالب أن مثل هذه الأمراض تستحكم في الإنسان حتى تقتله.
حكم التداوي عند طبيب كافر
وقوله: [وما قال طبيبان مسلمان عدلان] .
يشترط في الطبيبين أن يكونا من أهل الخبرة، فلا نسأل عن مرض في البطن طبيبين مختصين بالرأس، أو بأمراض الأنف والحنجرة، فيشترط فيهما الخبرة.
وفي القديم ما كان هناك تخصص إلا في بعض الجرائح والوصائف، فقد كان هناك بعض التخصصات الطبية التي أشار إليها الإمام ابن القيم رحمه الله في الطب النبوي، والجرائح: هي التي تطبب بالجراحة، والوصائف: هي التي تطبب بالوصف، وهذا كله تخصص، والآن كأنه خرج هذا عن مجال الطب، من حيث جعلت الصيدلة على حدة، وجعلت الكيمياء على حدة وجعلت مداواة الأبدان على حدة، فأي مرض نريد أن نحكم عليه فنرجع إلى أهل الاختصاص به، فإذا كان المرض مرض القلب -أعاذنا الله وإياكم- فنرجع إلى المتخصصين في القلب، فإذا شهد طبيبان عدلان مسلمان -كما ذكر المصنف- وحكما بكونه مخوفا، فقالا: هذا المرض الغالب أنه يموت منه، فحينئذ يكون مرضا مخوفا.
وقوله: (مسلمان) هنا مسألة: وهي الإسلام في الطبيب، فبعض العلماء رحمهم الله يقول: لا تقبل في الأحكام والمسائل شهادة الطبيب الكافر؛ لأنه غير مأمون، فربما كذب؛ لأن الكافر قد كذب على الله بالشرك، وادعى أن لله ولدا، وأن الله ثالث ثلاثة فمن باب أولى أن يكذب على المخلوق، وقد وصف الله عز وجل من كان على الكفر بأنه عدو مبين للمسلمين، فالعدو لا يصدق لعدوه.
ولكن هذا القول خالفه قول آخر وهو: أن الطبيب الكافر إذا عرفت منه الأمانة والانضباط وعدم الخيانة فإنه يؤمن بقوله، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العمل بقول الكافر، والاستعانة بالكافر إذا عرف أنه ناصح، ويدل على ذلك حديث عائشة في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر عبد الله بن أريقط -وهو رجل من بني الديل- هاديا خريتا) ، فـ عبد الله بن أريقط كان يعرف الطرقات، فكان دليلا أخذه النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة، فلاحظ أنه كان بالإمكان لهذا الكافر، أن يذهب بهم إلى طريق معطش ويهكلان، وبالإمكان أن يذهب بهما إلى طريق يكشف من قريش، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عرف فيه أمانة، وعرف أنه محل ثقة فوثق به، وهذا دليل على أن الكافر إذا عرف أنه ثقة فيعمل بقوله.
كما أن عندنا حديثا ما ذكره الأئمة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وممن فصل في هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله في أحكام الاستعانة بالكافر في أحكام أهل الذمة، وابن تيمية في الفتاوى المصرية، وكذلك جاء في مواضع في مجموع الفتاوى أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، والإمام ابن القيم أشار إلى هذا حينما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعين -بعد الله- بخزاعة على قريش، وكانت خزاعة على دين الشرك وعلى ملة الكفر، ولكنها كانت تحب النبي صلى الله عليه وسلم، وبينها وبين جد النبي صلى الله عليه وسلم قصي بعض الحلف: اللهم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا فكانت بين خزاعة وبين النبي صلى الله عليه وسلم مودة، وهذه المودة كانت عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم يستقلها، فكانت خزاعة لا ترى قريشا تدبر أمرا مكيدة للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أخبرته صلى الله عليه وسلم، فهذا استعاذة من كافر، لكن عرف من خزاعة النصح، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك أيضا مما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألتنا كان يأمر الصحابة أن يستطبوا الحارث بن كلدة، وكان كافرا، ومع ذلك كان يأمرهم بالتداوي عنده والعمل بما يقوله لهم، فهذا كله يدل على جواز الاستعانة بالطبيب الكافر والعمل بقوله.
لكن هناك من أئمة السلف وهو مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، فقد كان للإمام أحمد طبيب يهودي، وكان يعمل بمشورة هذا اليهودي ويستطبه، ولكن لا يقبل قوله في الصلاة والعبادات كالصوم، فلو قال له: لا تصم، فما يقبل قوله حتى يتأكد من طبيب مسلم، ولو قال له مثلا: لا تركع أو لا تسجد، فإنه لا يثق به في أمور الديانة.
ومن هنا فرق العلماء في قول الطبيب الكافر بين العبادة وأمور الديانة ومصلحة البدن، فيمكن أن تقبل لكن إذا قال لك: سجودك يؤثر على البصر، أو يؤثر على العملية في الظهر، فحينئذ عليه أن يستوثق بطبيب مسلم يمكن الرجوع إليه، لكن إذا عمت البلوى ولم يجد الإنسان إلا طبيبا كافرا فإنه يعمل بخيرهم، وهكذا بخير الكفار، فالكفار فيهم من هو خير من الآخر؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إن بالحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد) ، وكان ملك الحبشة على دين الكفر، فامتدحه بما فيه من خير؛ لأنه لا يظلم الناس؛ ومثل هذه الأشياء قد توجد في الأطباء الكفار، فمن عرف بالنصح عمل بقوله واستثبت.
أما لو فسد الزمان ولم يوجد طبيب عادل، فقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن فرحون في تبصرة الحكام، والإمام ابن القيم رحمهم الله وغيرهم من الأئمة: أنه إذا تعذر وجود العدل عمل بشهادة أمثل الفساق، فإذا لم يوجد وتعذر وجود الطبيب العدل، فانظر إلى أحسن الأطباء الموجودين في نظرك والذي يمكن أن تؤثر عليه وتناشده أن ينصح لك، فتعمل بقوله وتثق بخبره.
وجود الحاجة إلى الطبيب المسلم
قال رحمه الله: [وما قال طبيبان مسلمان عدلان] .
المسلمون بحاجة إلى الأطباء، وهذا يدل على أن تعلم الطب فيه خير كثير للإسلام والمسلمين؛ لأنه يحتاج إلى الطبيب المسلم، ومن هنا كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى.
لأن الشريعة منها ما يتعلق بالباطن كأمور الاعتقادات، ومنها ما يتعلق بالظاهر كالصلوات والأذكار، فهذه لمصلحة الدين، وأما مصلحة الدنيا فللبدن؛ لأن البدن فيه دين ودنيا، فبقيت مصلحة الدنيا فصار ثلثا من هذا الوجه، فقال: ضيعوا ثلث العلم.
وبعض العلماء يقولون: الطب نصف العلم؛ لأن العلم للدين والدنيا، فيرى أن الطب هو قوام الأجساد، ولا يمكن أن تقوم هذه الأرض ولا أن يسمح للعباد والبلاد إلا بصلاح أبدانهم، فأصبح نصف العلم من هذا الوجه، فهو -أي: علم الطب- علم عزيز وعلم شريف إذا حفظت فيه حدود الله عز وجل، وكان هدف الطبيب الإحسان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن الله تعالى غفر لامرأة بغي من بغايا بني إسرائيل ذنوبها حينما سقت كلبا يلهث الثرى) ، فما بالك بالمريض المسلم الذي يعجز عن صلاته وعن طاعته لربه، والذي لا يكون البلاء مختصا به بل يشمله ويشمل أهله، فكيف بتفريج كربته! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) ، ومن أراد أن ينظر إلى آثاره الحميدة فليتأمل حينما يكون الإنسان عاجزا عن شهود الجمعة والجماعات، وعن قراءة القرآن وذكر الله عز وجل، وحين يكون عاجزا عن مصالح دنياه، كيف إذا شوفي وعوفي بإذن الله ثم بفضل هذا الطبيب كم يكون لهذا الطبيب إذا حسنت نيته من الأجر والخير الكثير! فلا شك أنه من أفضل العلوم، فنحن بحاجة إلى الأطباء المسلمين الذين يسدون عجز الأمة في مثل هذا، فيرجع إلى قولهم، ويوثق بخبرهم وشهادتهم.
فقوله: (وما قال طبيبان مسلمان عدلان أنه مخوف) .
إذا قالا: إن هذا المرض مرض مخوف -كما ذكرنا- وشهدوا بأن هذا المرض مرض مخوف، لكن ينبغي أن ينبه إلى أن العمل بوجود الأمارات والعلامات الدالة على وجود المرض، فلا بد من وجود التحاليل والتقارير التي تثبت أنه مصاب بهذا المرض، فإذا ثبت ذلك حكم بكونه مريضا مرض الموت.
الأسئلة




حث طالب العلم على إعانة إخوانه في طلب العلم
السؤال بعد الانتهاء من درس العالم أحب أن أجالس طالب علم لتدارس المسائل، فهل إذا رفضت الإجابة عن بعض المسائل طلبا مني أن يجتهد الزميل ويبحث، وليس السبب شيئا يتعلق بشيء في الصدر، فهل فعلي صحيح؟
الجواب هذا حسن، وأحسن منه أن تعطيه، هذا حسن أنك تقصد أن تشخذ همته؛ لأن هذا يدعو إلى التعب والجد والتحصيل، لكن لو أنك أخبرته أثابك الله على إخباره وتعليمه، ووضع الله البركة في علمك بقدر ما نشرت، ومن يضمن لك أن تبقى؟ ومن يضمن لك أنه ينال هذه المسألة؟ فلربما افترقتم افتراقا لا تلتقيان بعده أبدا، وحيل بينه وبين بلوغ هذه الفائدة، فنزلت به هذه النازلة وهو أشد ما يكون حاجة إليها، فيسألك الله عن ذلك، فأنت تبذل ما عندك.
ومن أفضل ما وجدنا تضحية طالب العلم مع أخيه، فإن الشيطان يأتي بالدواخل حتى في الاختبارات، وبعضهم يقول: لا تعطه ملخصك، فهذا يعوده على الكسل والخمول لا، فقد تلي أمر أخيك المسلم فترفق به فيرفق الله بك، فإذا احتاج إليك في مسألة أو معضلة أو مشكلة أو نازلة، أو ملخص أو كتاب ورفقت به وأعطيته حاجته؛ فإن الله يرفق بك كما رفقت به: (وإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) ، وإني والله لأعرف من طلاب العلم من كان يكتب الملخصات حتى إنه في بعض الأحيان يصور لإخوانه ولا يأخذ على تصويرها شيئا، ويرجو بهذا أن ينال الأجر والثواب، وأن الله سيبارك له في علمه كما أسدى وأولى إلى إخوانه من الخير والمعروف، فلا يحرص طالب العلم على التضييق.
ولذلك ينبغي أن الإنسان يوسع على الناس، فلا يأخذهم بالشدة، ولا يضيق عليهم، فالأكمل والأفضل أن تحتسب الأجر والثواب عند الله فتعلم أخاك، ولا شك أن شحذ الهمة لطلب العلم له أساليب أخرى، فلا يشحذ همة الشيء مثل الإخلاص لله جل وعلا، فإذا أردت أن تكون همتك صادقة فتعود على الإخلاص، فلا تجلس معه في مجلس إلا وتذكره بالله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وتقول له: يا أخي! أوصيك ونفسي بتقوى الله عز وجل أن تنظر ماذا في قلبك وأن أنظر ما في قلبي ونحن في مجلس طلب العلم، وقد كان بعض السلف إذا قالوا لبعضهم: حدثنا، قال: حتى تأتي النية.
فيراقبون أنفسهم في الإخلاص، فإذا أردته يجد ويجتهد فادعه إلى الإخلاص، وكذلك عليك أن تدعو له بظاهر الغيب أن الله يفتح عليه، وأن يرزقه الجد والإخلاص والاجتهاد في طلب العلم، وإذا أردته أن يجد ويجتهد فاسأله سؤال المذاكر.
فهناك أساليب أخر، فلا تقتصر على أنك تبخل عليه وتمن عليه وتمنعه من التعليم والتوجيه، بل عليك أن تجد وتجتهد في ذلك لعل الله أن يبارك في علمك، وتأخذ بالأكمل والأفضل من الرفق بإخوانك، وهذه وصية في كل من ولاك الله أمره أن تكون على رفق به، فلا تأخذ بالشدة ولا تضيق عليه، ولو جاءك الشيطان يقول: هذا حزم.
فقد يكون الأفضل في بعض الأحيان الحزم ولكن في حدود ضيقة، أما الأفضل والأكمل دائما فهو أن يرفق الإنسان بإخوانه، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمور أمتي شيئا فرفق بهم فاللهم ارفق به) ، حتى في مسألة التكبير إذا جاء إلى التشهد الأول، وقد حصلت مذاكرة بين بعض مشايخنا رحمة الله عليهم في مسألة عندما يجلس الإمام في التشهد الأول ويقول: الله أكبر، فيشعر الناس أنها للجلوس، فكان بعض المشايخ رحمة الله عليهم يقول: عليه أن يقول: الله أكبر، تكبيرا واحدا لا مد فيه حتى يعودهم على حفظ الصلاة، فقال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: أولا: أنا لا أشك غالبا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتأثر تكبيره؛ لأنها طبيعة وسجية في الإنسان أنه يتأثر بحاله منتقلا.
ثانيا: أن هذا ليس أمرا متعلقا بالتعبد، وإنما هو رفق بالتذكير، فإذا قال: الله أكبر بالمد، رفق بالناس وذكرهم؛ لأن فيهم مشغول البال، والمهموم والمغموم والمكروب، فإذا كان الله عز وجل قد شرع سجود السهو لما ينتابهم في صلاتهم، فهذا أمر لا يستطيع الإنسان أن يخالف الفطرة والسليقة، فالرفق بالناس دائما هو حال الكمال وهو الأفضل والأكمل.
نسأل الله العظيم أن يرزقنا الرفق وأن يجعلنا من أهله، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
مسألة تفضيل صدقة الفقير على صدقة الغني
السؤال في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الصدقة: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر) ، هل فيه دليل على أن صدقة المعسر أو المسكين أفضل من صدقة الموسر أو الغني؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فالصدقة النسبية وصدقة الأحوال لا تقتضي التفضيل من كل وجه، وتوضيح ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخاف الفقر وتأمل الغنى) ، أي: في عز شبابك، تخاف الفقر كما يقال: يخاف المستقبل، وتأمل الغنى أي: أنه يرجو أمورا صالحة في مستقبله، فإذا جاء -مثلا- يجمع مالا لزواجه، فلو أراد أن يتصدق لجاءه الشيطان وقال له: كيف تتزوج إذا تصدقت؟ فهو حينئذ يأمل شيئا من وراء جمع المال، فإذا تصدق مع وجود هذه الرغبات وهذه الشهوات، وآثر ما عند الله سبحانه وتعالى عظم أجره.
أما إذا كان في آخر عمره، فهذه أشياء نسبية، فما فضل كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من حال العبد ألبتة بين ما يكون من وزر السيئة وأجر الحسنة على أحوال العمر مفرقا على أحوال الأشخاص غنى وفقرا، وقوة وضعفا، وعزا وذلا، على حسب أحوال الإنسان كلها، ومنها الصدقة، فالصدقة في الأحوال لا تقتضي التفضيل من كل وجه، بمعنى: كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: تدارك شبابك؛ فإن الصدقة في الشباب والقوة والحاجة إلى المال أعظم من الصدقة في غير ذلك، وهذا لا يمنع أن الغني يتبوأ من رحمة الله ما لا يخطر له على بال، فهذا عثمان رضي الله عنه أغدق الله عليه من المال والخير وجعل الله يده يد بركة، فما اشترى شيئا إلا بورك له في صفقة يمينه، ومع ذلك كان أثرى الصحابة وأكثرهم صدقة، وجعل الله عز وجل صدقاته سببا في رحمة الله له.
فوجود الغنى لا يمنع أن ينال الإنسان أجره وثوابه، فلو تصدق الإنسان وهو غني بالأموال الكثيرة، وستر العورات وفرج الكربات فله دعوات الناس، وله كذلك أجر تفريج الكربات التي فرجها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما جاءه الصحابة وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور) .
فهذا يدل على أن أهل الغنى يفوزون بالدرجات العلى، وأن الغنى يجعل الإنسان يفوز بالأجر الكثير، لكننا نبهنا على أن الصدقة تضاعف بحسب ما يكون من البلاء فيها، فبلاء الفقير في الصدقة أعظم من بلاء الغني، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (سبق درهم مائة درهم) ، فرجل لا يملك إلا درهما فتصدق به، ورجل يملك المال الكثير فأخرج من عرض ماله مائة درهم، فالمائة درهم إذا قورنت بجوار عشرات الألوف من الدراهم فإنها لا تتساوي شيئا، والدرهم بجوار العشرة الدراهم يعتبر عشر المال، فإذا أخرجه فإنه يساوي شيئا كثيرا، وهذه مسألة نسبية، لكن لو أن غنيا تصدق بعشرة آلاف ريال، فهي يسيرة في ماله، لكن العشرة آلاف ريال فرجت كربة مكروب كان في أمس الحاجة إليها، فأجره عند الله عظيم: {ولكل درجات مما عملوا} [الأنعام:132] ، والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجره.
وهناك أمر لا بد من وضعه في الحسبان: وهو وجود الدعوات، ووجود الأمور التي تحتف بالصدقة؛ كالإخلاص والصدق والرغبة وعدم الغرور؛ والقبول من الله سبحانه وتعالى مقرون بمثل هذه الاعتبارات، ومن هنا قول بعض العلماء رحمهم الله وهو قول معتبر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (للعامل فيض مثل أجر خمسين) .
فجعل أجر العامل في أيام الشدة -كأيامنا، نسأل الله عز وجل أن يجعل ذلك- أو أيام الفتن الشديدة، كأجر خمسين رجلا، فإذا جاء الإنسان يتصدق، تكلمت عليه زوجته، وتكلم عليه أولاده، وجاءه الخوف أنه لا يستطيع أن يؤمن مستقبله كما يقولون، وجاءته الضائقة في دراسته وفي عمله ووظيفته من جهة أنه كان يريد سيارة يركبها، ويريد بيتا يسكنه، فهذه الأمور كلها التي آثار مرضاة الله عز وجل عليها في وجود مضاعفة الحسنات وجزيل الثواب على صدقته، فينال بها أضعاف أضعاف ما كان يؤمل مما لو تصدق في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فإن الرجل إذا تصدق في عهد الصحابة جزته أمه خيرا وجزاه أبوه خيرا، وأثنى عليه الناس وأحبوه وذكروه بالخير، أما اليوم فقل أن يجد من يعينه على الحق؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تجدون على الحق أعوانا، ولا يجدون على الحق أعوانا) ، فجعل مضاعفة أجر العامل في أيام الصبر بأجر الخمسين لعدم وجود المعين على الحق.
فدل على أن الجزاء والثواب يضاعف فيما يحيط به من البلاء والفتن، ومن هنا تكون صدقة الغني لها أجرها وصدقة الفقير لها أجرها، والله تعالى أعلم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #496  
قديم اليوم, 03:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,307
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب الهبة والعطية)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (400)

صـــــ(1) إلى صــ(18)





شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4]
من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم.
وجوب العمل بشروط الواقف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمع وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصف وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك] قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه الموقف.
فالواقف إذا اشترط شروطا، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطا في صرف الوقف وعمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها.
ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يوقف الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يصرف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة.
ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يعمم وإما أن يخصص، وإما أن يطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا: على أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذريته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقا.
وقد يجعل شرطا من جهة الصرف، فيخصه ببعض الذرية دون بعض، فيخصه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته.
فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمول به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلال بهذه الشروط أو تغيير لها؛ فإن القاضي يلزمه شرعا بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة.
ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميما وتخصيصا، وتقييدا وإطلاقا، وترتيبا على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يتقيد به وأن لا يغير ولا يبدل.
قوله: [في جمع وتقديم] الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلا لو كان له ابنان زيد وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني.
لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذ ينبغي أن يركز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحدا من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها.
وهكذا لو جمع وقال: على أولادي.
فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] ، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذ فرق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرق.
قوله: (وتقديم) : أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيد بهذا الترتيب، فلا يعطى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة.

قوله: [وضد ذلك] أي: ضد الجمع التفريق.

قوله: [واعتبار وصف] أي: لو قال مثلا: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء على المساكين على طلبة العلم على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف.
قوله: [وعدمه] أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى.
قوله: [وترتيب] أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عدم أولاده.
فإذا نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضا بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله.
فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته.
قوله: [ونظر] أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته.
فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواء كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلا أجنبيا فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف.
قوله: [وغير ذلك] أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة رضي الله عنها: (أهلي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت) .
وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعيا فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطا في الوقف فإنه ينبغي التقيد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثا، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاما، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف.
الوقف المطلق
من أوقف لا يخلو إما أن يشترط، وإما أن يترك الشرط، فإذا اشترط في وقفه شروطا، وكانت هذه الشروط شرعية؛ وجب العمل بها والتقيد بما فيها، وقد بينا وجه ذلك وأنه يلزم ناظر الوقف بتنفيذ هذه الشروط، وصرف مستحقات الوقف على ضوء ما اشترطه الواقف.
وإذا حصل الإخلال بما تقدم من التقييد؛ فإن الناظر يتحمل المسئولية، ويكون حينئذ ضامنا لكل ما يترتب على هذا الإخلال والصرف الذي لم يقع على الوجه المعتبر.
بقي السؤال عن الحالة الثانية: وهي أن يصدر الوقف خاليا من الشروط، وهذه الحالة تعتبر حالة إطلاق، بمعنى أن ينص على الوقف دون أن يقيد، ودون أن يشترط؛ فالحكم حينئذ أنه يبقى المطلق على إطلاقه، ولا يمكننا أن نضيف قيودا، ولا أن نضيق واسعا، فإذا أطلق صاحب الوقف عملنا بإطلاقه؛ لكن هذا الإطلاق في بعض الأحيان تترتب عليه بعض المسائل.
ومن هنا بين المصنف رحمه الله أنه إذا حصل الإطلاق عمل به، فلو قال: وقفت هذه المزرعة على أولادي.
استوى في ذلك الغني والفقير، فنعطي أولاده، سواء كانوا من الأغنياء أم كانوا من الفقراء، كذلك يستوي ذكرهم وأنثاهم، فنعطي الذكر ونعطي الأنثى؛ لأنه سوى بينهم وشرك فقال: أولادي، فيستوي الذكور والإناث والخناثى فكلهم يدخلون في هذا، ويصرف لهم من مستحق الوقف.
وهكذا إذا قال: وقفت هذه المزرعة وثمرتها تصرف على المساكين، فإننا نصرفها على كل من يصدق عليه أنه مسكين، سواء كان في غاية الصلاح كالصالحين، أو كان في المستوى العام لعموم المسلمين، بخلاف الحالات الأول فإنه إذا قال: وقفت داري على أولادي الذكور؛ تقيد الوقف بهم، ولو قال: وقفت داري على المطلقات من بناتي، فحينئذ يختص بالمطلقات، أو قال: أوقفت داري على أولادي الأفقه منهم، يقدم الأصلح أو يقدم الأرشد وهكذا.
كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد
إذا أطلق وقال: داري وقف على أولادي، فإنا نسوي بين الأولاد جميعا، حتى إن الولد الذي يكون من الصغار ولم يبلغ يدخل في هذا، بل بمجرد أن يولد يثبت استحقاقه في الوقف، ويكون له نصيبه، ويقسم الوقف بينهم بالسوية.
فمثلا لو أن مزرعة أوقفها على أولاده، وفيها مثلا مائة صاع، وله من الولد خمسة، فإننا نقسم المائة صاع بين الخمسة بالسوية، لا نفضل الذكر على الأنثى، ولا نعطي الكبير دون الصغير، ولا نخص الصالح دون غيره، بل يستوي الجميع في هذا الاستحقاق؛ لأنه أطلق وقال: على أولادي.
ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لو قال: وقفت داري على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي إلى أن ينقطع أو على عقبي حتى ينقطع، فقد سوى بين الطبقات، فالبطن الثاني يدخل مع البطن الأول لأنه لم يرتب، فلو قال: أوقفت داري هذه على أولادي.
فإنه لو كان له ولدان: محمد وعلي، وخلف محمد ثلاثة؛ فإن الثلاثة يقاسمون أباهم وعمهم؛ لأنه قال: أوقفت على أولادي؛ لكن في الحالات الأول التي سبقت الإشارة إليها يقول: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا يشارك البطن الثاني البطن الأول، وتختص القسمة بالبطن الأول دون الثاني؛ لكن إذا قال: أوقفت داري، أو مزرعتي على أولادي فإن انقطع نسلي أو انتهى عقبي فللمساكين، فحينئذ يستوي جميع أولاده كما سيأتي إن شاء الله في مسألة الولد وشموله للبطون، وسيذكرها المصنف رحمه الله.
بين المصنف في هذه العبارة أن الإطلاق يخالف التقييد، وهذا كله عمل بما كان من الواقف، ويؤكد ما تقدم أننا ملزمون بما فعله الواقف، إن قيد أو اشترط وجب علينا الوقوف عند قيده وشرطه، وإن أطلق ولم يقيد فإننا نبقى على هذا الإطلاق، ويرد السؤال في مسألة من هذه المسائل، وهو: إذا أطلق وصعب علينا أن نشمل الجميع، فهل نخص البعض دون البعض؟ هذا سيأتي الكلام عليه، لكن القاعدة العامة أننا في التقييد نتقيد بما قيد، وفي الإطلاق نعمل بالمطلق على إطلاقه.
قوله: [وضدهما] .
استوى الغني والذكر مع ضدهما، يعني ضد الغني وهو الفقير، وضد الذكر وهو الأنثى، فالإناث من الولد ضد الذكور، فنسوي بينهم، ولا نفضل الذكور على الإناث.
وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله؛ أن من قال وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نقسم غلة المزرعة بين أولاده بالسوية، ولا نفضل الذكر على الأنثى، لكن استحب طائفة من السلف رحمهم الله، ونص عليه غير واحد من الأئمة وهو الحق إن شاء الله، أن يقسم بين أولاده بقسمة الله تبارك وتعالى، فيجعل حظ الذكر ضعف حظ الأنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القسمة من فوق سبع سماوات، وهي قسمة العدل الحكيم الخبير اللطيف الذي هو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، ولا أعدل من الله.
وهذا لحكمة بالغة، فإن الله حمل الرجال المسئولية عن النساء، فالأصل في المرأة أن ترعى بيتها، وأن تقوم على ولدها، وأن تقر في قرارها، والعمل مخالف للأصل؛ لأن الله نص في كتابه فقال: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف:189] .
فالأصل في الخلقة والشرعة أن التعب للرجال، ولذلك قال: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} [طه:117] ، ولم يقل: (فتشقيا) ؛ لأن الرجل هو المسئول، وهو المتحمل لتبعة النفقة والقيام على المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحق في النفقة على الرجال، ولم يجعله على النساء.
فتبين أن التبعات والأمور التي يتحملها الرجال أكثر من الأمور التي تتحملها النساء، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالله عز وجل جعل نصيب الرجل ضعف نصيب الأنثى، فإذا أراد أن يعطي ولده فإنه يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقول مثلا: وقفت مزرعتي هذه على أولادي وللذكر مثل حظ الأنثيين، فيفضل بينهم بتفضيل الله عز وجل، والله سبحانه فضل جنس الرجال على جنس الإناث، ولذلك خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك خلق منه حواء، فجعل الرجل هو الأصل، وكل مؤمن مطالب بالتسليم، وينبغي أن يرضى بهذا الحكم وأن يذعن له، وأن يسلم بهذه القضية التي ليست مثار جدل أو نقاش.
لأن هذا التفضيل حكم من الله، ولا يستطيع أحد أن يقول: لماذا خلقني الله قصيرا وخلق غيري طويلا؟ لماذا خلقني فقيرا وخلق غيري غنيا؟ فالله يفضل وله الحكمة التامة البالغة، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ففضل هذا الجنس على هذا الجنس.
فنحن نفضل بتفضيل الله عز وجل، ولا يغض هذا ولا ينقص مكانة المؤمنة أبدا، بل عليها أن تسلم، فإذا أراد الوالد أن يوقف على هذا الوجه فإنه يعدل بين أولاده، ويجعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) .
ومن هنا كان مذهب طائفة من العلماء أن عطية الولد ضعف عطية الأنثى، وهذا لا شك أنه معتبر من حيث الأصول الشرعية.
والمصنف رحمه الله يقول: إنه يستوي الذكر والغني وضدهما، يعني ضد الذكر وضد الغني، فيستوي غنيهم وفقيرهم، فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، وكان له ولدان أحدهما غني والثاني فقير، فإننا نعطي الغني مثلما نعطي الفقير، ونعطي الفقير مثلما نعطي الغني، ولا نفضل أحدهما على الآخر.
من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق
قال رحمه الله: [والنظر للموقوف عليه] من أوقف شيئا إما أن يجعل لنظارته شروطا يحددها ويبينها، فيقول: والنظارة لهذا الوقف للأرشد فالأرشد من أولادي، ففي هذه الحالة يستحق النظارة من توفر فيه شرط الرشد فيقدم الأرشد.
لكن إذا أطلق وقال: هذه المزرعة وقف على أولاده وسكت، ولم يذكر لمن تكون النظارة، ولم يحدد من هو الناظر ولم يضع شروطا ولا صفات ولا أمارات معينة لمن نجعله ناظرا على وقفه، فإنه في هذه الحالة تكون النظارة للموقوف عليه.
بمعنى أن الأشخاص الذين أوقف عليهم هذه المزرعة هم الذين لهم حق النظر؛ لأنهم هم القائمون على الوقف، وهم المالكون لثمرته، وهم الذين سيمحضون هذا الوقف النصيحة، فهم أولى وأحق بالنظر في مصالحه، وليس هناك أصلح من نظر الإنسان بنفسه فيما هو له؛ لأنه لا يغش نفسه غالبا؛ ولأنه سيحرص على ما فيه مصلحة نفسه، ومصلحة من معه.
فلو أوقف الوالد على ولدين فالنظر لهما، لا يستبد أحدهما دون الآخر، ولا يتصرف أحدهما في الوقف دون إذن الآخر، فهما شركاء في هذا الاستحقاق؛ لكن لو أنهم اتفقوا على أن يفوضوا شخصا منهم، فقالوا نحن خمسة، وهذا الوقف يحتاج إلى شخص واحد متفرغ؛ فنحن وكلنا وفوضنا فلانا، فحينئذ يكون من فوضوه متصرفا أصالة عن نفسه، ووكالة عن غيره، فهو في هذه الحالة الذي له حق النظارة برضا الجميع واختيارهم.
فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معينين فلا إشكال في ذلك، إذا كانوا معينين كقوله مثلا: أوقفت داري هذه على أولادي، وأولاده عشرة، تفاهموا فيما بينهم وجعلوا ناظرا، أو كان العشرة كلهم يديرون هذا الوقف ومصالح الوقف لا إشكال.
لكن المشكلة إذا كان الموقوف علمه جهة من الجهات، كأن يقول: وقفت مزرعتي هذه على المساكين، فلا يمكن أن يكون كل المساكين نظراء على هذا الوقف، وذلك من الصعوبة بمكان، وقد يتعذر هذا، ففي هذه الحالة يختار القاضي بعضهم للقيام على مصلحة الوقف على التفصيل الذي ذكرناه.
مسائل الوقف على الأولاد
قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته؛ كما لو قال: على ولد ولده وذريته لصلبه] فقوله رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية) فيه مسائل: المسألة الأولى: إذا قال على ولدي.
المسألة الثانية: إذا قال: على ولد فلان.
المسألة الثالثة: إذا قال: على ولدي ثم على المساكين.
اشتراك الذكر والأنثى
فالعلماء كلهم متفقون على أن من قال: على ولدي أنه يشمل الذكور والإناث؛ لأن العرب عندما تطلق هذا اللفظ تريد به الإناث مع الذكور {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] .
فشرك سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى تحت مسمى الولد، فدل على أن الولد يشمل الذكور والإناث معا، وهكذا الخناثى فإن الخنثى المشكل يدخل في الولد.
فإذا المسألة الأولى أنه إذا قال: على ولدي، فجميع أولاده وجميع نسله من الذكور والإناث داخلون في هذا، هذا كله في البطن الأول.
والولد إما أن يكون من البطن الأول، وإما أن يكون من غيره، والبطن الأول هو الولد المباشر الذي هو ولدك مباشرة ذكرا كان أو أنثى، فالبطن الأول هو أول ما أنجب الإنسان، ويليه بعد ذلك البطن الثاني، وهو ابن الابن، وبنت البنت، وبنت الابن، وابن البنت، هذا البطن الثاني الذي بينك وبينه واسطة.
وهذه الواسطة هي فرع من البطن الأول، إما ذكر وإما أنثى، يتمحض ذكورا أو يتمحض إناثا، أو يجمع بينهما، يتمحض ذكورا كابن ابنك، ويتمحض إناثا مثل بنت بنتك، ويجمع بينهما ابن البنت وبنت الابن، والبطن الثاني فيه التفصيل، فالبطن الأول لا إشكال أنه إذا قال: وقفت داري على ولدي أن الذكور والإناث داخلون، وأنهم مستوون في الاستحقاق كما قدمنا.

دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق
لكن البطن الثاني فيه تفصيل وفيه مسائل: المسألة الأول: هل إذا قال: وقفت على ولدي.
يدخل البطن الثاني ومن بعده أو يختص بالبطن الأول؟ فمثلا: لو أن رجلا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي ثم على المساكين، فأولاده الذين هم من صلبه مباشرة لا إشكال أنهم مستحقون؛ لكن الإشكال: متى ننتقل للمساكين؟ هل قوله: (أولادي) يشمل جميع نسله حتى ينقطع، أو يختص بالبطن الأول ثم نحكم بانتقال الوقف وصيرورته إلى المساكين؟ لهذه المسألة وجهان عند العلماء، فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن هذه المسألة فنص على أن ولد الولد يدخل في حكم الولد، وأن من قال: على أولادي.
فإننا نلحق أولاد البطن الثاني بأولاد البطن الأول، ولا ينتقل للمساكين إلا إذا انقطع نسله أو انتهى عقبه.
وهناك وجه ثان وقول ثان لبعض العلماء، يقول: إذا قال: وقفت على أولادي أو على ولدي ثم على المساكين؛ فإنه حينئذ ينتقل الوقف إلى المساكين بعد موت البطن الأول.
وعلى هذا القول يكون قوله: (أولادي) خاص بالبطن الأول فقط، فلا نلحق أولاد الأولاد مكان الأولاد ولا ينزلون منزلتهم.
والصحيح الأول، وهو أنه إذا قال: وقفت على ولدي فإنه يلتحق ولد الولد حتى ينقطع نسله وعقبه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المساكين كما سبق، لكن كل هذا الخلاف محله ألا يأتي بقيد أو بعبارة تدل على أنه يريد ولد الولد، فإذا قال مثلا: على أولادي إلى أن ينقطع نسلي ثم على المساكين، أو يقول: على أولادي والمساكين من بعدهم إذا لم يوجدوا، أو على أولادي فإن انقطع عقبهم فللمساكين؛ فحينئذ لا إشكال، والإجماع منعقد على أننا ننزل الطبقة الثانية بعد الطبقة الأولى، وهكذا بالنسبة للطبقات.
هذه المسألة الأولى، نخرج منها بخلاصة وهي أن من قال: وقفت على أولادي ثم على المساكين، أن الانتقال إلى المساكين لا يكون إلا بعد انتهاء الولد، بحيث ينقطع نسله وعقبه.
وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، فإن وجدت قرينة فقول واحد أنه لا ينتقل إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل كقوله: على أولادي فإذا انقطع نسلهم فعلى المساكين.
اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف
المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على أولادي، وقلنا: إن البطن الثاني يستحق، يرد
السؤال متى نحكم بدخول البطن الثاني مع البطن الأول؟ فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي ثم على المساكين؛ وقلنا إن البطن الثاني يستحق كما يستحق البطن الأول؛ لكن هل هو على الترتيب أو على التشريك؟
و الجواب أنه على التشريك وأنه إذا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نلحق البطن الثاني بالأول، والبطن الثالث أيضا بهم، فجميعهم ولد له، فبمجرد ما يولد من البطن الثاني أو الثالث يستحق، وكل من يولد من هذه البطون مشترك في الاستحقاق؛ لأنه قال: (على أولادي) وقد سبق أن قلنا: فإن أطلق استوى الذكر والغني وضده، أي: يستوي الجميع في الاستحقاق.
فائدة المسألة: لو كان له محمد وعبد الله -من البطن الأول- ثم زيد وعمرو من البطن الثاني -أولاد عبد الله- في هذه الحالة تقسم الثمرة بين الأربعة، وندخل البطن الثاني مع البطن الأول ولو ولد الساعة؛ لأنه شرك بين أولاده ولم يرتب، وأطلق في هذا التشريك، فنقول: البطن الثاني مشترك مع البطن الأول.
فلو أن زيد بن عبد الله الذي هو البطن الثاني تزوج وخلف أحمد، فإن أحمد يشارك أعمامه، ويشارك عم أبيه وجده في القسمة.
إذا: لا ننتظر للبطن الثاني في استحقاقه موت البطن الأول، ولا ننتظر للبطن الثالث في استحقاقه موت البطن الثاني؛ لأنه شرك وأطلق، فهؤلاء كلهم ينزلون منزلة واحدة.
إذا لو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فإننا نحكم بأن أولاده يستحقون: الذكر والأنثى، البطن الأول والبطن الثاني والثالث، فلا يختص ببطن دون آخر ما لم يقل: الأقرب فالأقرب، أو: البطن الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه.
فإذا قال بالترتيب، كأن يقول: وقفت على أولادي من البطن الأول، فإن مات منهم أحد نزل ولده منزلته، فحينئذ يكون أيضا دخول للبطن الثاني مع البطن الأول لكن بالترتيب، وبالشرط أنه ينزل منزلة والده، وحينئذ نقسم على القسمة الأصلية، فإذا كان له ثلاثة أولاد نقسمه على ثلاثة، وتصبح خطوط الإرث على الثلاثة هذه، وكل ورثة من بطن ينزلون منزلة أصلهم.
وعلى هذا فلو قال لنا: وقفت على أولادي ثم المساكين، أو على ولدي فلان، مثلا شخص يكون عنده ذرية، ويريد أن يتصدق بالثلث على قريب، لما فيه من صلة الرحم، ولأن الصدقة عليه أعظم ثوابا، فقال: وقفت مزرعتي هذه -وهي تساوي الثلث- على ولد عمي صالح، فكل ذرية عمه صالح يدخلون في هذا الوقف، يستوي ذكورهم وإناثهم، هذا بالنسبة للبطن الأول، وبالنسبة للبطن الثاني فإنه يشارك البطن الأول، وكذلك البطن الثالث مثلما تقدم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #497  
قديم اليوم, 03:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,307
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي





اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث
يبقى السؤال في مسألة تشريك البطن ذكورا وإناثا، ففي البطن الأول يشرك بين الذكر والأنثى، وفي البطن الثاني يخص الاستحقاق بأولاد الذكور دون أولاد الإناث، مثلا: إذا كان له محمد، وعبد الله، وصالح، وفاطمة، فكلهم يشتركون ويقسم الاستحقاق على أربعة يستوي فيه الذكور والإناث.
فإذا أنجبت فاطمة فإن أولادها لا يستحقون؛ لأن أولادها أولاد لغيره وليسوا ولدا له.
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ولذلك ينسب للرجل ولا ينسب للمرأة كما هو معلوم، فحينئذ يشرك بين الذكر والأنثى في الطبقة الأولى، ثم ينظر في الطبقة الثانية التي هي البطن الثاني إلى ذرية الذكور دون ذرية الإناث، ثم هذا البطن الثاني وهم أولاد محمد وعبد الله وصالح يستوي ذكورهم وإناثهم، لكن الأنثى منهم لو أنجبت بطنا ثالثا لا يكون له استحقاق في الوقف لأنه ليس من ولد الميت، إنما يختص ولده بالذكر والأنثى، وولد الذكر المحض.
كما أنه في الميراث لا يرث ابن البنت إلا من جهة ذوي الأرحام، وهذه مسألة سيأتي تفصيلها إن شاء الله في كتاب الفرائض، فما جعل الله عز وجل لهم استحقاقا وإرثا، لا فرضا ولا تعصيبا من حيث الأصل، فابن البنت ابن لوالده الذي هو غريب عن الواقف، ولا يعتبر آخذا حكم ابن الابن.
إذا المسألة الثانية أننا نجعل أولاده مستوين ذكورا وإناثا بالنسبة للبطن الأول، وفي البطن الثاني نعطي الوقف لذرية الذكور من البطن الأول، دون ذرية الإناث سواء كانوا ذكورا أو إناثا، فلو أن البنت أنجبت ابنا أو أنجبت بنتا فالحكم واحد؛ لأن ابن البنت ابنا للغير، ولو أنه ينسب إليه تجوزا أو مسامحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد) ، فهذا من باب المسامحة.
وقال عليه الصلاة والسلام في النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (ابن بنت القوم منهم) .
فهذا كله مسامحة، لكن في حكم الله عز وجل في الاستحقاقات {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] .
ولذلك تجد نسبة هذا الولد من البنت إلى أصل ثان وهو أصل أبيه، ولا ينسب إلى والد أمه الذي هو الجد، فالذكور لهم حكم والإناث لهن حكم، وسلسلة النسبة والإضافة متعلقة في حكم الدنيا بالآباء دون الأمهات.
حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم
[كما لو قال على ولد ولده وذريته لصلبه] يريد المصنف أن يشير إلى المسألة الخلافية وهي: هل إذا قال على ولدي.
اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي.
لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول.
مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
نقول: نشرك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوسا ولا يأخذ شيئا في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحد من البطن الأول ذكرا كان أو أنثى قسم نصيبه على البقية.
ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم) ، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم.
فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملا، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نزل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول.
إذا: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم من بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا ينزل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول.
دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة
قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن] .
وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطردا في جميع البطون.
الوقف على جماعة يمكن حصرهم
قال رحمه الله: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي] وذلك كما لو قال: على ولدي، وولده -مثلا- عشرون، أو يبلغون الأربعين أو الخمسين؛ فحينئذ نقسم على الأربعين والخمسين لأنه أمكن حصرهم، لكن إذا قال: وقفت داري هذه على طلبة العلم أو: وقفت ثمرة بستاني هذا صدقة على المساكين، أو على الفقراء، وكان بموضع فيه حاجة وفيه عوز، ولا يمكن حصر الفقراء فيه.
فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نعمم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثما شرعا، وظالما معتديا لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوي بين الجميع إذا سوى بينهم الواقف.
فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مملكا -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله.
لكن لو أن الجهة التي خصت بالوقف لا يمكن حصرها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جدا، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده.
فمثلا إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاما للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذ نقول: لما كان الغني غير محتاج، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قدم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثوابا وأعظم أجرا، فيعطون ويصرف لهم.
ولو كان المحتاجون أيضا لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاء من غيرهم، فنقدم هؤلاء الذين هم أعظم بلاء، مثلا طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع فيفضل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] أي: جاز أن يفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن.
الأسئلة




استخلاف المسبوق في الصلاة
السؤال إمام طرأ عليه عذر فقدم رجلا من خلفه وكان هذا المقدم مسبوقا بركعة، فكيف يصنع، خصوصا أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟
الجواب هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) .
أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقا؟ إذا فرضنا أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلم بهم.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثبتت الطائفة الأولى وتشهدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام.
هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذورا.
تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحدا من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به.
والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمام في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها.
وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذا: من حيث الأصل الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذورا لسهو، أو معذورا لنقص، ثبت متشهدا حتى يتم خامسته ثم تتابعه في التشهد.
يبقى السؤال: لماذا لا تتم وتسلم؟ لو أتممت وسلمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم.
ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع، إلا إحرام وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتما به.
فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
فهو مضطر إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلا لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته.
وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون.
وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
تعيين حصة لناظر الوقف
السؤال لو عين الواقف ناظرا لوقفه واتفق على عشر نتاجه من المزرعة، فهل هذا التصرف صحيح أم أنه مبني على الجهالة والغرر، إذ لا يعلم كم سيكون نتاج المزرعة؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثل ولا متمول، وقد تقدم معنا.
لكن إذا جعل للناظر نصيبا، أو قال الناظر: أريد نصيبا، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيبا، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عشر الوقف لمن ولي النظارة.
وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يشك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟ مثلا لو أجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تدر المليون، عشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلا عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلا، ويكون عشرها عشرة آلاف، فإذا لا يمكن أن يعلم قدر هذا العشر.
فبعض العلماء يجعله مخرجا على المساقاة ملحقا بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يصار إلى تحديد النسبة احتياجا، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم.
لكن لا يشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئا، ويأكل بالمعروف.
ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكرا، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) ، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يتابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطا في كثير من المسائل.
لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.
إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه
السؤال ترك والد لأولاده بيتا، فاحتاج البيت إلى إصلاح، فهل تدفع الأنثى نصف ما يدفعه الذكر؟
الجواب لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفا وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفا وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفا، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفا إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف.
فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان) ، والله تعالى أعلم.
الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث
السؤال أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث.
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية.
الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي.
ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال.
فلو أن رجلا حصل له موجب ورأى بناته يطلقن ويتعرضن للأذية والإضرار فأوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوى يحفظهن، ولم يترك لهن بيتا يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة.
وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وجد الموجب للتفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به.
ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا ينظر لها خارجا عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله.
فإذا نظر إلى أنها تحفظ من الضيعة إذا طلقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجابا من النار.
قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت.
البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثا شرعيا؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #498  
قديم اليوم, 03:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,307
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب الهبة والعطية)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (401)

صـــــ(1) إلى صــ(21)




شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4]
من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم.
وجوب العمل بشروط الواقف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمع وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصف وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك] قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه الموقف.
فالواقف إذا اشترط شروطا، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطا في صرف الوقف وعمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها.
ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يوقف الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يصرف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة.
ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يعمم وإما أن يخصص، وإما أن يطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا: على أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذريته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقا.
وقد يجعل شرطا من جهة الصرف، فيخصه ببعض الذرية دون بعض، فيخصه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته.
فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمول به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلال بهذه الشروط أو تغيير لها؛ فإن القاضي يلزمه شرعا بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة.
ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميما وتخصيصا، وتقييدا وإطلاقا، وترتيبا على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يتقيد به وأن لا يغير ولا يبدل.
قوله: [في جمع وتقديم] الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلا لو كان له ابنان زيد وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني.
لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذ ينبغي أن يركز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحدا من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها.
وهكذا لو جمع وقال: على أولادي.
فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] ، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذ فرق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرق.
قوله: (وتقديم) : أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيد بهذا الترتيب، فلا يعطى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة.
قوله: [وضد ذلك] أي: ضد الجمع التفريق.
قوله: [واعتبار وصف] أي: لو قال مثلا: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء على المساكين على طلبة العلم على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف.
قوله: [وعدمه] أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى.
قوله: [وترتيب] أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عدم أولاده.
فإذا نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضا بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله.
فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته.
قوله: [ونظر] أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته.
فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواء كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلا أجنبيا فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف.
قوله: [وغير ذلك] أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة رضي الله عنها: (أهلي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت) .
وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعيا فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطا في الوقف فإنه ينبغي التقيد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثا، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاما، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف.
الوقف المطلق
من أوقف لا يخلو إما أن يشترط، وإما أن يترك الشرط، فإذا اشترط في وقفه شروطا، وكانت هذه الشروط شرعية؛ وجب العمل بها والتقيد بما فيها، وقد بينا وجه ذلك وأنه يلزم ناظر الوقف بتنفيذ هذه الشروط، وصرف مستحقات الوقف على ضوء ما اشترطه الواقف.
وإذا حصل الإخلال بما تقدم من التقييد؛ فإن الناظر يتحمل المسئولية، ويكون حينئذ ضامنا لكل ما يترتب على هذا الإخلال والصرف الذي لم يقع على الوجه المعتبر.
بقي السؤال عن الحالة الثانية: وهي أن يصدر الوقف خاليا من الشروط، وهذه الحالة تعتبر حالة إطلاق، بمعنى أن ينص على الوقف دون أن يقيد، ودون أن يشترط؛ فالحكم حينئذ أنه يبقى المطلق على إطلاقه، ولا يمكننا أن نضيف قيودا، ولا أن نضيق واسعا، فإذا أطلق صاحب الوقف عملنا بإطلاقه؛ لكن هذا الإطلاق في بعض الأحيان تترتب عليه بعض المسائل.
ومن هنا بين المصنف رحمه الله أنه إذا حصل الإطلاق عمل به، فلو قال: وقفت هذه المزرعة على أولادي.
استوى في ذلك الغني والفقير، فنعطي أولاده، سواء كانوا من الأغنياء أم كانوا من الفقراء، كذلك يستوي ذكرهم وأنثاهم، فنعطي الذكر ونعطي الأنثى؛ لأنه سوى بينهم وشرك فقال: أولادي، فيستوي الذكور والإناث والخناثى فكلهم يدخلون في هذا، ويصرف لهم من مستحق الوقف.
وهكذا إذا قال: وقفت هذه المزرعة وثمرتها تصرف على المساكين، فإننا نصرفها على كل من يصدق عليه أنه مسكين، سواء كان في غاية الصلاح كالصالحين، أو كان في المستوى العام لعموم المسلمين، بخلاف الحالات الأول فإنه إذا قال: وقفت داري على أولادي الذكور؛ تقيد الوقف بهم، ولو قال: وقفت داري على المطلقات من بناتي، فحينئذ يختص بالمطلقات، أو قال: أوقفت داري على أولادي الأفقه منهم، يقدم الأصلح أو يقدم الأرشد وهكذا.
كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد
إذا أطلق وقال: داري وقف على أولادي، فإنا نسوي بين الأولاد جميعا، حتى إن الولد الذي يكون من الصغار ولم يبلغ يدخل في هذا، بل بمجرد أن يولد يثبت استحقاقه في الوقف، ويكون له نصيبه، ويقسم الوقف بينهم بالسوية.
فمثلا لو أن مزرعة أوقفها على أولاده، وفيها مثلا مائة صاع، وله من الولد خمسة، فإننا نقسم المائة صاع بين الخمسة بالسوية، لا نفضل الذكر على الأنثى، ولا نعطي الكبير دون الصغير، ولا نخص الصالح دون غيره، بل يستوي الجميع في هذا الاستحقاق؛ لأنه أطلق وقال: على أولادي.
ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لو قال: وقفت داري على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي إلى أن ينقطع أو على عقبي حتى ينقطع، فقد سوى بين الطبقات، فالبطن الثاني يدخل مع البطن الأول لأنه لم يرتب، فلو قال: أوقفت داري هذه على أولادي.
فإنه لو كان له ولدان: محمد وعلي، وخلف محمد ثلاثة؛ فإن الثلاثة يقاسمون أباهم وعمهم؛ لأنه قال: أوقفت على أولادي؛ لكن في الحالات الأول التي سبقت الإشارة إليها يقول: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا يشارك البطن الثاني البطن الأول، وتختص القسمة بالبطن الأول دون الثاني؛ لكن إذا قال: أوقفت داري، أو مزرعتي على أولادي فإن انقطع نسلي أو انتهى عقبي فللمساكين، فحينئذ يستوي جميع أولاده كما سيأتي إن شاء الله في مسألة الولد وشموله للبطون، وسيذكرها المصنف رحمه الله.
بين المصنف في هذه العبارة أن الإطلاق يخالف التقييد، وهذا كله عمل بما كان من الواقف، ويؤكد ما تقدم أننا ملزمون بما فعله الواقف، إن قيد أو اشترط وجب علينا الوقوف عند قيده وشرطه، وإن أطلق ولم يقيد فإننا نبقى على هذا الإطلاق، ويرد السؤال في مسألة من هذه المسائل، وهو: إذا أطلق وصعب علينا أن نشمل الجميع، فهل نخص البعض دون البعض؟ هذا سيأتي الكلام عليه، لكن القاعدة العامة أننا في التقييد نتقيد بما قيد، وفي الإطلاق نعمل بالمطلق على إطلاقه.
قوله: [وضدهما] .
استوى الغني والذكر مع ضدهما، يعني ضد الغني وهو الفقير، وضد الذكر وهو الأنثى، فالإناث من الولد ضد الذكور، فنسوي بينهم، ولا نفضل الذكور على الإناث.
وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله؛ أن من قال وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نقسم غلة المزرعة بين أولاده بالسوية، ولا نفضل الذكر على الأنثى، لكن استحب طائفة من السلف رحمهم الله، ونص عليه غير واحد من الأئمة وهو الحق إن شاء الله، أن يقسم بين أولاده بقسمة الله تبارك وتعالى، فيجعل حظ الذكر ضعف حظ الأنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القسمة من فوق سبع سماوات، وهي قسمة العدل الحكيم الخبير اللطيف الذي هو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، ولا أعدل من الله.
وهذا لحكمة بالغة، فإن الله حمل الرجال المسئولية عن النساء، فالأصل في المرأة أن ترعى بيتها، وأن تقوم على ولدها، وأن تقر في قرارها، والعمل مخالف للأصل؛ لأن الله نص في كتابه فقال: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف:189] .
فالأصل في الخلقة والشرعة أن التعب للرجال، ولذلك قال: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} [طه:117] ، ولم يقل: (فتشقيا) ؛ لأن الرجل هو المسئول، وهو المتحمل لتبعة النفقة والقيام على المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحق في النفقة على الرجال، ولم يجعله على النساء.
فتبين أن التبعات والأمور التي يتحملها الرجال أكثر من الأمور التي تتحملها النساء، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالله عز وجل جعل نصيب الرجل ضعف نصيب الأنثى، فإذا أراد أن يعطي ولده فإنه يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقول مثلا: وقفت مزرعتي هذه على أولادي وللذكر مثل حظ الأنثيين، فيفضل بينهم بتفضيل الله عز وجل، والله سبحانه فضل جنس الرجال على جنس الإناث، ولذلك خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك خلق منه حواء، فجعل الرجل هو الأصل، وكل مؤمن مطالب بالتسليم، وينبغي أن يرضى بهذا الحكم وأن يذعن له، وأن يسلم بهذه القضية التي ليست مثار جدل أو نقاش.
لأن هذا التفضيل حكم من الله، ولا يستطيع أحد أن يقول: لماذا خلقني الله قصيرا وخلق غيري طويلا؟ لماذا خلقني فقيرا وخلق غيري غنيا؟ فالله يفضل وله الحكمة التامة البالغة، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ففضل هذا الجنس على هذا الجنس.
فنحن نفضل بتفضيل الله عز وجل، ولا يغض هذا ولا ينقص مكانة المؤمنة أبدا، بل عليها أن تسلم، فإذا أراد الوالد أن يوقف على هذا الوجه فإنه يعدل بين أولاده، ويجعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) .
ومن هنا كان مذهب طائفة من العلماء أن عطية الولد ضعف عطية الأنثى، وهذا لا شك أنه معتبر من حيث الأصول الشرعية.
والمصنف رحمه الله يقول: إنه يستوي الذكر والغني وضدهما، يعني ضد الذكر وضد الغني، فيستوي غنيهم وفقيرهم، فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، وكان له ولدان أحدهما غني والثاني فقير، فإننا نعطي الغني مثلما نعطي الفقير، ونعطي الفقير مثلما نعطي الغني، ولا نفضل أحدهما على الآخر.
من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق
قال رحمه الله: [والنظر للموقوف عليه] من أوقف شيئا إما أن يجعل لنظارته شروطا يحددها ويبينها، فيقول: والنظارة لهذا الوقف للأرشد فالأرشد من أولادي، ففي هذه الحالة يستحق النظارة من توفر فيه شرط الرشد فيقدم الأرشد.
لكن إذا أطلق وقال: هذه المزرعة وقف على أولاده وسكت، ولم يذكر لمن تكون النظارة، ولم يحدد من هو الناظر ولم يضع شروطا ولا صفات ولا أمارات معينة لمن نجعله ناظرا على وقفه، فإنه في هذه الحالة تكون النظارة للموقوف عليه.
بمعنى أن الأشخاص الذين أوقف عليهم هذه المزرعة هم الذين لهم حق النظر؛ لأنهم هم القائمون على الوقف، وهم المالكون لثمرته، وهم الذين سيمحضون هذا الوقف النصيحة، فهم أولى وأحق بالنظر في مصالحه، وليس هناك أصلح من نظر الإنسان بنفسه فيما هو له؛ لأنه لا يغش نفسه غالبا؛ ولأنه سيحرص على ما فيه مصلحة نفسه، ومصلحة من معه.
فلو أوقف الوالد على ولدين فالنظر لهما، لا يستبد أحدهما دون الآخر، ولا يتصرف أحدهما في الوقف دون إذن الآخر، فهما شركاء في هذا الاستحقاق؛ لكن لو أنهم اتفقوا على أن يفوضوا شخصا منهم، فقالوا نحن خمسة، وهذا الوقف يحتاج إلى شخص واحد متفرغ؛ فنحن وكلنا وفوضنا فلانا، فحينئذ يكون من فوضوه متصرفا أصالة عن نفسه، ووكالة عن غيره، فهو في هذه الحالة الذي له حق النظارة برضا الجميع واختيارهم.
فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معينين فلا إشكال في ذلك، إذا كانوا معينين كقوله مثلا: أوقفت داري هذه على أولادي، وأولاده عشرة، تفاهموا فيما بينهم وجعلوا ناظرا، أو كان العشرة كلهم يديرون هذا الوقف ومصالح الوقف لا إشكال.
لكن المشكلة إذا كان الموقوف علمه جهة من الجهات، كأن يقول: وقفت مزرعتي هذه على المساكين، فلا يمكن أن يكون كل المساكين نظراء على هذا الوقف، وذلك من الصعوبة بمكان، وقد يتعذر هذا، ففي هذه الحالة يختار القاضي بعضهم للقيام على مصلحة الوقف على التفصيل الذي ذكرناه.
مسائل الوقف على الأولاد
قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته؛ كما لو قال: على ولد ولده وذريته لصلبه] فقوله رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية) فيه مسائل: المسألة الأولى: إذا قال على ولدي.
المسألة الثانية: إذا قال: على ولد فلان.
المسألة الثالثة: إذا قال: على ولدي ثم على المساكين.
اشتراك الذكر والأنثى
فالعلماء كلهم متفقون على أن من قال: على ولدي أنه يشمل الذكور والإناث؛ لأن العرب عندما تطلق هذا اللفظ تريد به الإناث مع الذكور {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] .
فشرك سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى تحت مسمى الولد، فدل على أن الولد يشمل الذكور والإناث معا، وهكذا الخناثى فإن الخنثى المشكل يدخل في الولد.
فإذا المسألة الأولى أنه إذا قال: على ولدي، فجميع أولاده وجميع نسله من الذكور والإناث داخلون في هذا، هذا كله في البطن الأول.
والولد إما أن يكون من البطن الأول، وإما أن يكون من غيره، والبطن الأول هو الولد المباشر الذي هو ولدك مباشرة ذكرا كان أو أنثى، فالبطن الأول هو أول ما أنجب الإنسان، ويليه بعد ذلك البطن الثاني، وهو ابن الابن، وبنت البنت، وبنت الابن، وابن البنت، هذا البطن الثاني الذي بينك وبينه واسطة.
وهذه الواسطة هي فرع من البطن الأول، إما ذكر وإما أنثى، يتمحض ذكورا أو يتمحض إناثا، أو يجمع بينهما، يتمحض ذكورا كابن ابنك، ويتمحض إناثا مثل بنت بنتك، ويجمع بينهما ابن البنت وبنت الابن، والبطن الثاني فيه التفصيل، فالبطن الأول لا إشكال أنه إذا قال: وقفت داري على ولدي أن الذكور والإناث داخلون، وأنهم مستوون في الاستحقاق كما قدمنا.
دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق
لكن البطن الثاني فيه تفصيل وفيه مسائل: المسألة الأول: هل إذا قال: وقفت على ولدي.
يدخل البطن الثاني ومن بعده أو يختص بالبطن الأول؟ فمثلا: لو أن رجلا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي ثم على المساكين، فأولاده الذين هم من صلبه مباشرة لا إشكال أنهم مستحقون؛ لكن الإشكال: متى ننتقل للمساكين؟ هل قوله: (أولادي) يشمل جميع نسله حتى ينقطع، أو يختص بالبطن الأول ثم نحكم بانتقال الوقف وصيرورته إلى المساكين؟ لهذه المسألة وجهان عند العلماء، فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن هذه المسألة فنص على أن ولد الولد يدخل في حكم الولد، وأن من قال: على أولادي.
فإننا نلحق أولاد البطن الثاني بأولاد البطن الأول، ولا ينتقل للمساكين إلا إذا انقطع نسله أو انتهى عقبه.
وهناك وجه ثان وقول ثان لبعض العلماء، يقول: إذا قال: وقفت على أولادي أو على ولدي ثم على المساكين؛ فإنه حينئذ ينتقل الوقف إلى المساكين بعد موت البطن الأول.
وعلى هذا القول يكون قوله: (أولادي) خاص بالبطن الأول فقط، فلا نلحق أولاد الأولاد مكان الأولاد ولا ينزلون منزلتهم.
والصحيح الأول، وهو أنه إذا قال: وقفت على ولدي فإنه يلتحق ولد الولد حتى ينقطع نسله وعقبه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المساكين كما سبق، لكن كل هذا الخلاف محله ألا يأتي بقيد أو بعبارة تدل على أنه يريد ولد الولد، فإذا قال مثلا: على أولادي إلى أن ينقطع نسلي ثم على المساكين، أو يقول: على أولادي والمساكين من بعدهم إذا لم يوجدوا، أو على أولادي فإن انقطع عقبهم فللمساكين؛ فحينئذ لا إشكال، والإجماع منعقد على أننا ننزل الطبقة الثانية بعد الطبقة الأولى، وهكذا بالنسبة للطبقات.
هذه المسألة الأولى، نخرج منها بخلاصة وهي أن من قال: وقفت على أولادي ثم على المساكين، أن الانتقال إلى المساكين لا يكون إلا بعد انتهاء الولد، بحيث ينقطع نسله وعقبه.
وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، فإن وجدت قرينة فقول واحد أنه لا ينتقل إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل كقوله: على أولادي فإذا انقطع نسلهم فعلى المساكين.

اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف
المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على أولادي، وقلنا: إن البطن الثاني يستحق، يرد
السؤال متى نحكم بدخول البطن الثاني مع البطن الأول؟ فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي ثم على المساكين؛ وقلنا إن البطن الثاني يستحق كما يستحق البطن الأول؛ لكن هل هو على الترتيب أو على التشريك؟
و الجواب أنه على التشريك وأنه إذا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نلحق البطن الثاني بالأول، والبطن الثالث أيضا بهم، فجميعهم ولد له، فبمجرد ما يولد من البطن الثاني أو الثالث يستحق، وكل من يولد من هذه البطون مشترك في الاستحقاق؛ لأنه قال: (على أولادي) وقد سبق أن قلنا: فإن أطلق استوى الذكر والغني وضده، أي: يستوي الجميع في الاستحقاق.
فائدة المسألة: لو كان له محمد وعبد الله -من البطن الأول- ثم زيد وعمرو من البطن الثاني -أولاد عبد الله- في هذه الحالة تقسم الثمرة بين الأربعة، وندخل البطن الثاني مع البطن الأول ولو ولد الساعة؛ لأنه شرك بين أولاده ولم يرتب، وأطلق في هذا التشريك، فنقول: البطن الثاني مشترك مع البطن الأول.
فلو أن زيد بن عبد الله الذي هو البطن الثاني تزوج وخلف أحمد، فإن أحمد يشارك أعمامه، ويشارك عم أبيه وجده في القسمة.
إذا: لا ننتظر للبطن الثاني في استحقاقه موت البطن الأول، ولا ننتظر للبطن الثالث في استحقاقه موت البطن الثاني؛ لأنه شرك وأطلق، فهؤلاء كلهم ينزلون منزلة واحدة.
إذا لو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فإننا نحكم بأن أولاده يستحقون: الذكر والأنثى، البطن الأول والبطن الثاني والثالث، فلا يختص ببطن دون آخر ما لم يقل: الأقرب فالأقرب، أو: البطن الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه.
فإذا قال بالترتيب، كأن يقول: وقفت على أولادي من البطن الأول، فإن مات منهم أحد نزل ولده منزلته، فحينئذ يكون أيضا دخول للبطن الثاني مع البطن الأول لكن بالترتيب، وبالشرط أنه ينزل منزلة والده، وحينئذ نقسم على القسمة الأصلية، فإذا كان له ثلاثة أولاد نقسمه على ثلاثة، وتصبح خطوط الإرث على الثلاثة هذه، وكل ورثة من بطن ينزلون منزلة أصلهم.
وعلى هذا فلو قال لنا: وقفت على أولادي ثم المساكين، أو على ولدي فلان، مثلا شخص يكون عنده ذرية، ويريد أن يتصدق بالثلث على قريب، لما فيه من صلة الرحم، ولأن الصدقة عليه أعظم ثوابا، فقال: وقفت مزرعتي هذه -وهي تساوي الثلث- على ولد عمي صالح، فكل ذرية عمه صالح يدخلون في هذا الوقف، يستوي ذكورهم وإناثهم، هذا بالنسبة للبطن الأول، وبالنسبة للبطن الثاني فإنه يشارك البطن الأول، وكذلك البطن الثالث مثلما تقدم.

اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث
يبقى السؤال في مسألة تشريك البطن ذكورا وإناثا، ففي البطن الأول يشرك بين الذكر والأنثى، وفي البطن الثاني يخص الاستحقاق بأولاد الذكور دون أولاد الإناث، مثلا: إذا كان له محمد، وعبد الله، وصالح، وفاطمة، فكلهم يشتركون ويقسم الاستحقاق على أربعة يستوي فيه الذكور والإناث.
فإذا أنجبت فاطمة فإن أولادها لا يستحقون؛ لأن أولادها أولاد لغيره وليسوا ولدا له.
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ولذلك ينسب للرجل ولا ينسب للمرأة كما هو معلوم، فحينئذ يشرك بين الذكر والأنثى في الطبقة الأولى، ثم ينظر في الطبقة الثانية التي هي البطن الثاني إلى ذرية الذكور دون ذرية الإناث، ثم هذا البطن الثاني وهم أولاد محمد وعبد الله وصالح يستوي ذكورهم وإناثهم، لكن الأنثى منهم لو أنجبت بطنا ثالثا لا يكون له استحقاق في الوقف لأنه ليس من ولد الميت، إنما يختص ولده بالذكر والأنثى، وولد الذكر المحض.
كما أنه في الميراث لا يرث ابن البنت إلا من جهة ذوي الأرحام، وهذه مسألة سيأتي تفصيلها إن شاء الله في كتاب الفرائض، فما جعل الله عز وجل لهم استحقاقا وإرثا، لا فرضا ولا تعصيبا من حيث الأصل، فابن البنت ابن لوالده الذي هو غريب عن الواقف، ولا يعتبر آخذا حكم ابن الابن.
إذا المسألة الثانية أننا نجعل أولاده مستوين ذكورا وإناثا بالنسبة للبطن الأول، وفي البطن الثاني نعطي الوقف لذرية الذكور من البطن الأول، دون ذرية الإناث سواء كانوا ذكورا أو إناثا، فلو أن البنت أنجبت ابنا أو أنجبت بنتا فالحكم واحد؛ لأن ابن البنت ابنا للغير، ولو أنه ينسب إليه تجوزا أو مسامحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد) ، فهذا من باب المسامحة.
وقال عليه الصلاة والسلام في النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (ابن بنت القوم منهم) .
فهذا كله مسامحة، لكن في حكم الله عز وجل في الاستحقاقات {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] .
ولذلك تجد نسبة هذا الولد من البنت إلى أصل ثان وهو أصل أبيه، ولا ينسب إلى والد أمه الذي هو الجد، فالذكور لهم حكم والإناث لهن حكم، وسلسلة النسبة والإضافة متعلقة في حكم الدنيا بالآباء دون الأمهات.
لا ينتقل الوقف على الولد إلى المساكين بموت البطن الأول
قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره، ثم على المساكين] .
بقي
السؤال لو قال: على ولدي ثم المساكين، أو على أولادي ثم المساكين، كلمة (ثم) تقتضي الترتيب، فنحن لا نحكم بانتقال الوقف من ولده إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل والذرية، فإذا انقطعت ذريته، أو انقطع عقبه فإننا نحكم بأن الوقف قد صار إلى المساكين، أو قال: إلى الفقراء، أو قال: إلى طلبة العلم، أو غير ذلك، أو مثلا لبني عمي، فهذا ينتقل على حسب ما اشترط صاحب الوقف.
إذا قال: على ولدي أو ولد فلان، فالمصنف رحمه الله أدخل مسألة ولد فلان، يعني أن الحكم لا يختص بولده هو، فلو قال: على ولد عمي صالح، فحينئذ ننظر إلى أولاد عمه صالح ونشرك بين البطن الأول والبطن الثاني، ونسوي بين الذكور والإناث في البطن الأول، ونلحق البطن الثاني بالبطن الأول إذا كان من ذرية الذكور دون الإناث على التفصيل الذي تقدم بيانه.
[ثم على المساكين فهو لولده الذكور والإناث بالسوية] أي: ما لم يفضل فلو قال: (للذكر مثل حظ الأنثيين) ، فقد فضل.
قال: [ثم ولد بنيه دون بناته] هذا البطن الثاني.
إذا لو قال: على ولده، وعنده محمد وعبد الله وصالح، لم ينجب من هؤلاء الثلاثة إلا محمد، فالذين أنجبهم محمد نسوي ذكورهم وإناثهم، لأنهم يدلون بذكر، لكن بالنسبة للأنثى من محمد فليس لذريتها ونفسها استحقاق في الوقف.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #499  
قديم اليوم, 03:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,307
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي





حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم
[كما لو قال على ولد ولده وذريته لصلبه] يريد المصنف أن يشير إلى المسألة الخلافية وهي: هل إذا قال على ولدي.
اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي.
لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول.
مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
نقول: نشرك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوسا ولا يأخذ شيئا في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحد من البطن الأول ذكرا كان أو أنثى قسم نصيبه على البقية.
ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم) ، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم.
فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملا، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نزل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول.
إذا: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم من بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا ينزل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول.
اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بني أو بني فلان)
قال رحمه الله: [ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم] فقوله رحمه الله: (ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم) بعد أن بين المصنف رحمه الله اللفظ الذي يقتضي العموم بقوله (أولادي) شرع فيما يقتضي التخصيص، فلو قال: على بني، أو أبنائي، أو على بناتي، فحينئذ يختص بالبنين إن نص عليهم، ويختص بالإناث إن سماهن.
إذا فالابن لا يشمل الذكر والأنثى، وإنما يختص بالذكور دون الإناث، وعلى هذا مذهب العلماء قاطبة رحمهم الله.
لكن لو قال: على بني فلان، أو على الفقراء من بني سلمة، أو من بني زياد، أو من بني عمرو، فلفظة (بني) هذه تطلق على القبيلة فيستوي ذكورها وإناثها؛ لأن العرف واللغة يقتضي ذلك، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرمي أنه جعل البنوة شاملة للذكور والإناث، تقول: هؤلاء من بني عبد الله.
قال صلى الله عليه وسلم: (الأنصار وجهينة ومزينة وغفار وأسلم وبنو عبد الله من غطفان) غطفان هي مطير الموجودة الآن، وبنو عبد الله فخذ منهم، وكانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أشبه بالقبيلة، قال: (وبنو عبد الله من غطفان موالي الله ورسوله) كما في الصحيح، فسماهم قال: (بنو عبد الله) وشرك، وهذا مقتض لتشريك الذكور والإناث؛ لأنهم أسلموا وكان لهم بلاء في الإسلام.
فالبنوة تطلق على القبيلة ويراد بها العموم والشمول، فتشمل الذكور والإناث، تقول: بنو فلان فتشمل ذكورهم وإناثهم، إن قال: بنو عمي، بني، بنو خالي، بنو أخوالي، هذا كله يختص بالذكور، لا يشمل الذكور والإناث معا، لكن إذا قال: بنو فلان وهي قبيلة فإننا نحكم بالتشريك بين الذكور والإناث؛ لأن هذا اللفظ وإن كان يختص بالذكور دون الإناث؛ لكنه يطلق ويتجوز فيه فيعم الذكر والأنثى.
دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة
قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن] .
وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطردا في جميع البطون.
دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم
قال رحمه الله: [والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه] أي: فإن قال: وقف على أقربائي وأهل بيتي، أو أهلي، أو وقف على المسكين من أهلي، أو على المحتاج من أهلي، فإنه يشمل الذكور والإناث.
يقال إن أهل أصلها: آل، وهذا قول سيبويه من أئمة اللغة، وأبدلت الهمزة هاء.
وأهل الإنسان، وآل الإنسان، وقرابة الإنسان تشمل فروعه من الأصول.
وقومه كذلك، إن قال: للضعفاء، للفقراء، لطلبة العلم من قومي، فإنه يستوي فيه الذكور والإناث، إلا أن يخص، ولذلك قال: [يشمل الذكر والأنثى من أولاده] أي: لأن الآل لا تختص بالذكور دون الإناث، قال صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) ، والإجماع قائم على أن قوله: (آل محمد) ، شاملة للذكور والإناث، وأهل مثل آل، فلو قال: على أهل بيتي؛ فإنها تشمل الإناث، وفي حديث الكساء أنه عليه الصلاة والسلام جلل فاطمة رضي الله عنها وجعلها من أهل البيت، وهي من أهل بيته بالإجماع.
فأهل بيت الإنسان وآله وقرابته يستوي فيهم الذكور والإناث، قال تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود:73] ، فالخطاب متوجه لزوجة إبراهيم عليها السلام لما عجبت من أمر الله عز وجل فقيل لها: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} [هود:73] .
فأهل الإنسان تطلق على الزوجة {فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا} [طه:10] ، تطلق الأهل بمعنى البيت خاصة، سواء كان للزوجة وأولادها ومن هو قريب من ذلك كالخدم والحشم، وتطلق بمعنى العموم، ويقال: أهل الإنسان ومرادهم كل من يمت إليه بالقرابة والصلة.
وقوله: (وأولاد أبيه) : وهم من يجتمعون معه في الأصول، فيشمل ذلك أعمامه وعماته الأشقاء، وهم الذين شاركوا أباه في أصليه، والعمة لأب، والعمة لأم من حيث الأصل، لكن بالنسبة لمن فوقهم يختص بالأصول وهو جد أبيه ومن علا.
قال: [وجد أبيه] أي: جد أبيه، وجد جده، ونحو ذلك؛ لأنها كلها أصول وتدخل في آله وقرابته.
قال رحمه الله: [وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عمل بها] يريد إناثه؛ كان يقول: بيتي وقف على المطلقة من بناتي، أو على المطلقة من ذريتي، أو على المطلقة من نسلي، أو وقف على المحتاجة من قرابتي، هذا يخص الإناث دون الذكور، فالذكر لا يستحق في هذه الحالة، ولا يدخل.
وأثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه أوقف على الإناث من ذريته، وهذا قول لبعض العلماء، فيرى أنه يجوز تخصيص بعض الولد عند الموجب، وفي النفس منه شيء، لكن عمل به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويؤثر عن الزبير وابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع أنه خشي على بناته فجعله للمطلقة والأرملة؛ لأن الذكر يستطيع أن يكافح، ولكن الأنثى إذا طلقت أو مات عنها زوجها خشي عليها.
فيوقف على المحتاجة من ذريته إذا طلقت أو أصبحت أرملة خوفا عليها من العار، وهذا يجوزه بعض العلماء؛ لأنهم يقولون: يجوز أن يخص الوالد بعض ولده للعوز والحاجة، مثل أن يكون ابنه -لا قدر الله- مشلولا، فيجوز أن يعطيه ما لا يعطي الصحيح، ولو كان ابنه طالب علم يحتاج إلى نفقة خاصة أعطاه نفقة طالب علم، فهذا التفضيل للسبب، فيرى أنه إذا فضل بعض ولده بالوقف عليهم لسبب، أو مثلا جعل للذكور حظا، وجعل للإناث حظا، فأوقف على الذكور دارا، وأوقف على الإناث مزرعة وعدل بينهم، فهذا له وجهه.
الشاهد أنه إذا قيد بالأنثى؛ فإنه يعمل بتقييده، سواء كان ذلك بأمارة، أو كان صريحا، فقال: للمطلقة أو للأرملة إذا رملت، فإن قال: للمطلقة فإنه يكون مقيدا بالمطلقة ولا يشمل الكل، وإذا قال: للأرملة، أو قال: التي لا زوج لها، إذا قال: التي لا زوج لها فهذا أعم، لأنه يشمل الصغيرة التي لم تتزوج بعد، فمن حقها أن تسكن، ومن حقها أن تأكل من هذا الوقف، لكن إذا قال: للمطلقة؛ فلا بد أن تكون زوجت ثم بعد ذلك طلقت، ويراعى في هذا وجود الحاجة إلى الستر.
الوقف على جماعة يمكن حصرهم
قال رحمه الله: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي] وذلك كما لو قال: على ولدي، وولده -مثلا- عشرون، أو يبلغون الأربعين أو الخمسين؛ فحينئذ نقسم على الأربعين والخمسين لأنه أمكن حصرهم، لكن إذا قال: وقفت داري هذه على طلبة العلم أو: وقفت ثمرة بستاني هذا صدقة على المساكين، أو على الفقراء، وكان بموضع فيه حاجة وفيه عوز، ولا يمكن حصر الفقراء فيه.
فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نعمم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثما شرعا، وظالما معتديا لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوي بين الجميع إذا سوى بينهم الواقف.
فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مملكا -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله.
لكن لو أن الجهة التي خصت بالوقف لا يمكن حصرها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جدا، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده.
فمثلا إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاما للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذ نقول: لما كان الغني غير محتاج، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قدم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثوابا وأعظم أجرا، فيعطون ويصرف لهم.
ولو كان المحتاجون أيضا لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاء من غيرهم، فنقدم هؤلاء الذين هم أعظم بلاء، مثلا طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع فيفضل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] أي: جاز أن يفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن.

الأسئلة




تعيين حصة لناظر الوقف
السؤال لو عين الواقف ناظرا لوقفه واتفق على عشر نتاجه من المزرعة، فهل هذا التصرف صحيح أم أنه مبني على الجهالة والغرر، إذ لا يعلم كم سيكون نتاج المزرعة؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثل ولا متمول، وقد تقدم معنا.
لكن إذا جعل للناظر نصيبا، أو قال الناظر: أريد نصيبا، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيبا، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عشر الوقف لمن ولي النظارة.
وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يشك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟ مثلا لو أجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تدر المليون، عشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلا عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلا، ويكون عشرها عشرة آلاف، فإذا لا يمكن أن يعلم قدر هذا العشر.
فبعض العلماء يجعله مخرجا على المساقاة ملحقا بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يصار إلى تحديد النسبة احتياجا، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم.
لكن لا يشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئا، ويأكل بالمعروف.
ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكرا، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) ، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يتابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطا في كثير من المسائل.
لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.
إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه
السؤال ترك والد لأولاده بيتا، فاحتاج البيت إلى إصلاح، فهل تدفع الأنثى نصف ما يدفعه الذكر؟
الجواب لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفا وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفا وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفا، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفا إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف.
فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان) ، والله تعالى أعلم.
الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث
السؤال أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث.
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية.
الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي.
ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال.
فلو أن رجلا حصل له موجب ورأى بناته يطلقن ويتعرضن للأذية والإضرار فأوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوى يحفظهن، ولم يترك لهن بيتا يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة.
وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وجد الموجب للتفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به.
ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا ينظر لها خارجا عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله.
فإذا نظر إلى أنها تحفظ من الضيعة إذا طلقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجابا من النار.
قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت.
البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثا شرعيا؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم.
استخلاف المسبوق في الصلاة
السؤال إمام طرأ عليه عذر فقدم رجلا من خلفه وكان هذا المقدم مسبوقا بركعة، فكيف يصنع، خصوصا أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟
الجواب هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) .
أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقا؟ إذا فرضنا أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلم بهم.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثبتت الطائفة الأولى وتشهدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام.
هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذورا.
تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحدا من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به.
والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمام في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها.
وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذا: من حيث الأصل الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذورا لسهو، أو معذورا لنقص، ثبت متشهدا حتى يتم خامسته ثم تتابعه في التشهد.
يبقى السؤال: لماذا لا تتم وتسلم؟ لو أتممت وسلمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم.
ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع، إلا إحرام وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتما به.
فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
فهو مضطر إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلا لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته.
وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون.
وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 9 ( الأعضاء 1 والزوار 8)
ابوالوليد المسلم

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 327.22 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 321.83 كيلو بايت... تم توفير 5.39 كيلو بايت...بمعدل (1.65%)]