تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 50 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 666 - عددالزوار : 200231 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4912 - عددالزوار : 1956400 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4484 - عددالزوار : 1260239 )           »          فوائد النماذج المضادة في تعزيز التعلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          وقفات مع سورة الكهف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 20 )           »          كيف تكون التوبة من عوامل نجاح الحياة على الأرض؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          التربية بوعي واستمتاع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          مالي وللناس؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          التعلق المرضي ليس حبًّا .. فكيف نفرق بين الحب والتعلق؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          في سؤال التغيير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-12-2024, 06:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,559
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الرُّومِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4760 الى صـ 4770
الحلقة (491)





[ ص: 4760 ] وقد روى الإمام أحمد عن الزبير : قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البلاد بلاد الله والعباد عباد الله. فحيثما أصبت خيرا فأقم » . ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك فوجدوا خير نزل بها، عند ملكها النجاشي رحمه الله. ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الباقون إلى المدينة المنورة، عملا بالآية الكريمة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[57 - 61] كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون

كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون تحريض على العبادة وإخلاص الدين بتذكير الموت والرجعى. أو تسلية للمهاجر إلى الله، وتشجيع له، بأن لا يثبطه عن هجرته خوف الموت بسببها. فلا المقام بأرضه يدفعه، ولا هجرته عنه تمنعه. وفيه استعارة بديعة لتشبيه [ ص: 4761 ] الموت بأمر كريه الطعم، مره: والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين الذين صبروا أي: على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين. وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب: وعلى ربهم يتوكلون ثم أشار تعالى إلى كفالته لمن هاجر إليه، من الفقر والضيعة، بقوله سبحانه: وكأين أي: وكم: من دابة لا تحمل رزقها أي: لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله: الله يرزقها وإياكم أي: يقيض لها رزقها على ضعفها، ويرزقكم مع قوتكم واجتهادكم. فهو الميسر والمسهل لكل مخلوق من رزقه ما يصلحه. فلا يختص رزقه ببقعة دون أخرى، بل خيره عام وفضله شامل لخلقه، حيث كانوا وأنى وجدوا. وقد ظهر مصداق كفالته تعالى لأولئك المهاجرين، بما وسع عليهم وبسط لهم من طيب الرزق ورغد العيش وسيادة البلاد في سائر الأمصار. وهذا معنى ما ورد مرفوعا: « سافروا تصحوا وتغنموا» رواه البيهقي : وهو السميع العليم ولئن سألتهم يعني هؤلاء المشركين الذين يعبدون معه غيره: من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله أي: اعترافا بأنه المنفرد بخلقها: فأنى يؤفكون أي: فكيف مع هذا الاعتراف يصرفون عن عبادته وحده، ويشركون به ما لا يضر ولا ينفع. وكثيرا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعرفون بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[62 - 64] الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ولئن سألتهم من نـزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون

[ ص: 4762 ] الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم أي: فيفعل بعلمه، ما تقتضيه حكمته ولئن سألتهم من نـزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله أي: على أن جعل الحق بحيث لا يجترئ المبطلون على جحوده. وأنه أظهر حجتك عليهم. والمعنى: احمد الله عن جوابهم المذكور على إلزامهم وظهور نعم لا تحصى: بل أكثرهم لا يعقلون أي: فلذلك يتناقضون حيث ينسبون النعمة إليهم، ويعبدون غيره. وقوله: وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب إشارة إلى ازدراء الدنيا وتحقير شأنها، وكونها في سرعة زوالها، وتقضي أمرها، كما يلهى ويلعب به الصبيان، ثم يتفرقون عنه. ولا ثمرة إلا التعب. ففي الحصر تشبيه بليغ: وإن الدار الآخرة لهي الحيوان أي: دار الحياة الخالدة. ففيه مضاف مقدر. و(الحيوان) مصدر سمي به ذو الحياة، في غير هذا المحل. وإيثاره على (الحياة) لما فيه من المبالغة. لأن (فعلان) بالفتح في المصادر الدالة على الحركة: لو كانوا يعلمون أي: لم يؤثروا عليها الدنيا التي حياتها عارضة. وهذا جواب الشرط المقدر. لعلمه من السياق. وكونها للتمني بعيد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[65 - 67] فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون .

فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين أي: الدعاء. لعلمهم أنه لا ينجيهم من الغرق سواه: فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم أي: من [ ص: 4763 ] نعمة النجاة وربح التجارة: فسوف يعلمون أي: عاقبة ذلك حين يعاقبون: أولم يروا أي أهل مكة: أنا جعلنا حرما آمنا أي: لا يغزى أهله، ولا يغار عليهم، مع قلتهم وكثرة العرب: ويتخطف الناس من حولهم أي: يختلسون قتلا ونهبا وسبيا: أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون أي: أفبعد هذه النعمة الظاهرة وغيرها من النعم، التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، يكفرون خيره، ويشركون معه غيره.
القول في تأويل قوله تعالى:

[68 - 69] ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين

ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا بأن زعم أن له شريكا: أو كذب بالحق لما جاءه يعني الرسول أو الكتاب: أليس في جهنم مثوى للكافرين أي: موضع إقامة، جزاء افترائهم وكفرهم. بلى: والذين جاهدوا فينا أي: جاهدوا النفس والشيطان والهوى وأعداء الدين، من أجلنا ولوجهنا: لنهدينهم سبلنا أي: سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا. وذلك بالطاعات والمجاهدات: وإن الله لمع المحسنين أي: أعمالهم بالنصر والمعونة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

30- سُورَةُ الرُّومِ

قال المهايمي: سميت بها لاشتمال قصتها على معجزة تفيد للمؤمنين فرحا عظيما، بعد ترح يسير. فتبطل شماتة أعدائهم. وتدل على أن عاقبة الأمر لهم. وهذا من أعظم مقاصد القرآن.

وهي مكية. وآيها ستون آية.

[ ص: 4765 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1 - 6] الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون

غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على أن ملك فارس كان غزا بلاد الشام، وفتح دمشق، وبيت المقدس، الأولى سنة 613، والثانية سنة 614; أي: قبل الهجرة النبوية بسبع سنين -فحدث أن بلغ الخبر مكة، ففرح المشركون، وشمتوا بالمسلمين، وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب، ونحن وفارس وثنيون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرن عليكم، فنزلت الآية، فتليت على المشركين، فأحال وقوع ذلك بعضهم، وتراهن مع الصديق رضي الله عنه على مائة قلوص، إن وقع مصداقها، فلم يمض من البضع -وهو ما بين الثلاث إلى التسع- سبع سنين إلا وقد نظم هرقل جنود الروم وغزا بهم بلاد فارس سنة 621; أي: قبل الهجرة بسنة، فدوخها، واضطر ملكها للهرب، وعاد هرقل بالغنائم الوافرة.

ولا ريب أن ذلك أعظم معجزات القرآن; أعني إخباره عن غيب وقع مصداقه، [ ص: 4766 ] واستبان للجاحدين من نوره إشراقه، وفي ضمنه أن سائر غيوبه كذلك من ظهور الإسلام على الدين كله، وزهوق الباطل، وعلو الحق، وجعل المستضعفين أئمة، وإيراثهم أرض عدوهم، إلى غير ذلك.

وما ألطف ما قال الزبير الكلائي: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم، كل ذلك في خمس عشرة سنة -من أواخر غلبة فارس إلى أوائل غلبة المسلمين- والأرض، (كما قال الزمخشري ): أرض العرب; لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غلبوا في أدنى أرض العرب أي: أقربها منهم، وهي أطراف الشام: لله الأمر من قبل أي: من قبل غلبة فارس على الروم: ومن بعد أي: من بعد غلبة الروم على فارس. ويقال: لله العلم والقدرة والمشيئة من قبل إبداء الخلق، ومن بعد إفناء الخلق، والمعنى: أن كلا من كونهم مغلوبين أولا، وغالبين آخرا، ليس إلا بأمره وقضائه، وعلمه ومشيئته، كما قال تعالى: وتلك الأيام نداولها بين الناس

ويومئذ أي: يوم إذ يغلب الروم على فارس، ويحل ما وعده الله تعالى من غلبتهم يفرح المؤمنون بنصر الله أي: تغليبه من له كتاب على من لا كتاب له، وغيظ من شمت بهم من كفار مكة. ويقال: نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين: ينصر من يشاء أي: من عباده على عدوه: وهو العزيز أي: القاهر الغالب على أمره، لا يعجزه من شاء نصره: الرحيم أي: من نصره وتغليبه من يشاء: وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي: بحكمته تعالى، في كونه وأفعاله المحكمة، الجارية على وفق العدل، لجهلهم وعدم تفكرهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[7 - 8] يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ ص: 4767 ] أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون

يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهو ما يوافق شهواتهم وأهواءهم: وهم عن الآخرة أي: التي هي المطلب الأعلى: هم غافلون أي: لا يخطرونها ببالهم، فهم جاهلون بها تاركون لعملها.

لطائف:

قال الزمخشري : قوله تعالى: يعلمون بدل من قوله: لا يعلمون وفي هذا الإبدال من النكتة، أنه أبدل منه وجعله بحيث يقوم مقامه، ويسد مسده، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله: ظاهرا يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة، والأعمال الصالحة. انتهى.

وناقش الكرخي في إبدال: "يعلمون" قال: إن الصناعة لا تساعد عليه; لأن بدل فعل مثبت من فعل منفي يصح. واستظهر قول الحرفي; أن: "يعلمون" استئناف في المعنى. وأشار الناصر إلى جوابه بأن في تنكير: "ظاهرا" تقليلا لمعلومهم. وتقليله يقربه من النفي، فيطابق المبدل منه.

أقول: التقليل هو الوحدة المشار لها بقول الزمخشري : وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا، من جملة الظواهر.

أما قول أبي السعود: وتنكير: "ظاهرا" للتحقير والتخسيس دون الوحدة كما توهم. فغفلة عن مشاركتها للتعليل الذي به يطابق البدل المبدل منه. فافهم.

ثم أنكر عليهم قصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا، مع الغفلة عن الآخرة بقوله: أولم يتفكروا في أنفسهم أي: يحدثوا التفكر في أنفسهم، الفارغة من الفكر [ ص: 4768 ] والتفكر. فالمجرور ظرف للتفكر، ذكره لزيادة التصوير; إذ الفكر لا يكون إلا في النفس، والتفكر لا متعلق له; لتنزيله منزلة اللازم. وجوز كون المجرور مفعول: "يتفكروا" لأنه يتعدى بـ في أي: أو لم يتفكروا في أمر أنفسهم. فالمعنى حثهم على النظر في ذواتهم وما اشتملت عليه من بديع الصنع، وقوله تعالى: ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق متعلق بقول أو علم، يدل عليه السياق; أي: ألم يتفكروا فيقولوا أو فيعلموا.

وقال السمين: (ما) نافية، وفي هذه الجملة وجهان: أحدهما -أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها. والثاني- أنها معلقة للتفكر. فيكون في محل نصب على إسقاط الخافض. انتهى. والباء في قوله: "بالحق" للملابسة; أي: ما خلقها باطلا ولا عبثا بغير حكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحق: وأجل مسمى أي: وبتقدير أجل مسمى، لا بد لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة، ووقت الحساب، والثواب، والعقاب. ولذا عطف عليه قوله: وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون
القول في تأويل قوله تعالى:

[9 - 12] أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون [ ص: 4769 ] ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون

أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض أي قلبوها للزراعة، واستخراج المعادن، وغيرهما، مما كانوا أرقى فيه من أهل مكة: وعمروها أكثر مما عمروها أي: بالأبنية المشيدة، والصناعات الفريدة، ووفرة العدد والعدد، وتنظيم الجيوش، والتزين بزخارف أعجبوا بها، واستطالوا بأبهتها، ففسدت ملكاتهم، وطغت شهواتهم، حتى اقتضت حكمته تعالى إنذارهم بأنبيائهم، كما قال: وجاءتهم رسلهم بالبينات أي: الآيات الواضحات على حقيقة ما يدعونهم إليه: فما كان الله ليظلمهم أي: فكذبوهم فأهلكهم، فما كان الله ليهلكهم من غير جرم منهم: ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساءوا أي: عملوا السيئات: السوأى أي: العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة، وهي جهنم، و: "السوأى" تأنيث الأسوأ، وهو الأقبح، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ثم علل سوء عاقبتهم بقوله تعالى: أن أي: لأن: كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون الله يبدأ الخلق أي: ينشئهم: ثم يعيده أي: بعد الموت بالبعث: ثم إليه ترجعون أي: إلى موقف الحساب والجزاء: ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون أي: يسكتون متحيرين يائسين. يقال أبلس، إذا سكت وانقطعت حجته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[13 - 18] ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون [ ص: 4770 ] فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون

ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء أي: يجيرونهم من عذاب الله، كما كانوا يزعمون: وكانوا بشركائهم كافرين أي: بإلهيتهم وشركتهم لله تعالى، حيث وقفوا على كنه أمرهم: ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون أي: يتميز المؤمنون والكافرون في المحال والأحوال: فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون أي: يسرون: وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون أي: لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون لما ذكر الوعد والوعيد، تأثره بما هو وسيلة للفوز والنجاة، من تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والثناء عليه بصفاته الجميلة، وأداء حق العبودية، و(الفاء) للتقريع فكأنه قيل: إذا صح واتضح عاقبة المطيعين والعاصين، فقولوا: نسبح سبحان إلخ. والمعنى فسبحوه تسبيحا دائما. و(سبحان): خبر في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى وحمده; أي: الثناء عليه في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته، وتتجدد فيها نعمته.

وقوله تعالى: وعشيا معطوف على: حين وتقديمه على: "حين تظهرون" لمراعاة الفواصل، وقوله: وله الحمد معترض بينهما. والمراد بثبوت حمده فيهما، استحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهلها. قال أبو السعود: والإخبار بثبوت الحمد له، ووجوبه على المميزين من أهل السماوات والأرض، في معنى الأمر به على أبلغ وجه وآكده، وتوسيطه بين أوقات التسبيح، للاعتناء بشأنه، والإشعار بأن حقهما أن يجمع بينهما، كما ينبئ عنه قوله تعالى: ونحن نسبح بحمدك وقوله تعالى: فسبح بحمد ربك وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية جامعة للصلوات الخمس:

تمسون صلاة المغرب والعشاء. و: تصبحون [ ص: 4771 ] صلاة الفجر. و: "عشيا" صلاة العصر. و: تظهرون صلاة الظهر. فإن قيل: لم غير الأسلوب في: "عشيا"؟ أجيب، (كما قال أبو السعود): بأن تغير الأسلوب لما أنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي، كالمساء والصباح والظهيرة، ولعل السر في ذلك أنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس، وتتغير تغيرا ظاهرا مصححا; لوصفهم بالخروج عما قبلها، والدخول فيها، كالأوقات المذكورة. فإن كلا منها وقت تتغير فيه الأحوال تغيرا ظاهرا، أما في المساء والصباح فظاهر، وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعتاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة، كما مر في سورة النور. انتهى.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 30-12-2024, 06:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,559
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الرُّومِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4771 الى صـ 4781
الحلقة (492)





القول في تأويل قوله تعالى:

[19 - 21] يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون

يخرج الحي من الميت أي: كالإنسان من النطفة، والطائر من البيضة: ويخرج الميت من الحي كالنطفة والبيضة من الحيوان: ويحيي الأرض أي: بالنبات: بعد موتها أي: يبسها: وكذلك أي: ومثل ذلك الإخراج: تخرجون أي: من قبوركم.

وقال المهايمي: أي: بالصلاة عن موت القلب إلى حياته، ومن حياة النفس إلى موتها. ويحيي أرضها بنبات الهيئات الفاضلة، بعد موتها بالهيئات الرديئة. وبالعكس بتركها. وآثر هذا المعنى، على بعده، مراعاة لسياق الآية، ومن طريق الإشارة: ومن آياته أي: [ ص: 4772 ] الباهرة الدالة على قدرته على البعث: أن خلقكم من تراب أي: يعني: أصلكم آدم عليه السلام، أو النطفة والمادة، أو على تقدير مضاف; أي: ولا مناسبة بين التراب وبين ما أنتم عليه في ذاتكم، وصفاتكم: ثم إذا أنتم بشر تنتشرون أي: في الأرض انتشارا ملأ البسيطة وشمل الكرة، فأخذتم في بناء المدائن والحصون، والسفر في أقطار الأقاليم، وركوب متن البحار، والدوران حول كرة الأرض، وكسب الأموال وجمعها، مع فكرة ودهاء، ومكر وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة، كل بحسبه.

فسبحان من خلقهم وسيرهم، وصرفهم في فنون المعايش وفاوت بينهم في العلوم والمعارف، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة.

ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أي: جنسكم: أزواجا لتسكنوا إليها أي: تأنسوا بها. فإن المجانسة من دواعي التضام والتعارف: وجعل بينكم مودة ورحمة أي: توادا وتراحما بعصمة الزواج، بعد أن لم يكن لقاء ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم: إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون أي: في بدائع هذه الأفاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[22 - 25] ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينـزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون [ ص: 4773 ] ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون

ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين أي: أولي العلم كما قال: وما يعقلها إلا العالمون ومن آياته منامكم بالليل والنهار أي: لاستراحة القوى، ورد ما فقدته: وابتغاؤكم من فضله أي: بالسعي في الأسباب، والأخذ في فضل الاكتساب، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون أي: سماع تفهم واستبصار: ومن آياته يريكم البرق خوفا أي: من الصاعقة: وطمعا أي: في الغيث والرحمة، أو لتخافوا من قهر سلطانه وتطمعوا في عظيم إحسانه: وينـزل من السماء ماء فيحيي به الأرض أي: بالنبات: بعد موتها أي: يبسها: إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره أي: إرادته لقيامهما. قال أبو السعود: والتعبير عنها بالأمر، للدلالة على كمال القدرة، والغنى عن المبادئ والأسباب، وليس المراد بإقامتهما إنشاءهما; لأنه قد بين حاله بقوله تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس، كما قيل; فإن ذلك من تتمات إنشائهما، وإن لم يصرح به، تعويلا على ما ذكر في غير موضع من قوله تعالى: خلق السماوات بغير عمد ترونها الآية، بل قيامهما واستمرارهما على ما هما عليه، إلى أجلهما الذي نطق به قوله تعالى فيما قبل: ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وحيث كانت هذه الآية متأخرة عن سائر الآيات المعدودة، متصلة بالبعث في الوجود، أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضا، فقيل: ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون فإنه كلام مسوق للإخبار بوقوع البعث ووجوده، بعد انقضاء أجل قيامهما، [ ص: 4774 ] مترتب على تعداد آياته الدالة عليه، غير منتظم في سلكها كما قيل. كأنه قيل: ومن آياته قيام السماوات والأرض على هيآتهما بأمره تعالى، إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما، ثم إذا دعاكم; أي: بعد انقضاء الأجل من الأرض، وأنتم في قبوركم، دعوة واحدة، بأن قال: أيها الموتى! اخرجوا، فاجأتم الخروج منها، وذلك قوله تعالى: يومئذ يتبعون الداعي انتهى.

لطائف:

الأولى- الدعاء: إما على حقيقته، أو الكلام تمثيل، شبه سرعة ترقب حصول ذلك، على تعلق إرادته بلا توقف، واحتياج إلى تجشم عمل، بسرعة ترقب إجابة الداعي المطاع على دعائه، أو هو مكنية وتخييلية، بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم يتهيؤون لذلك، وإثبات الدعوة لهم قرينتها.

الثانية- قوله تعالى: من الأرض متعلق بـ: (دعا) كقوله: دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي، لا بـ: "تخرجون"; لأن ما بعد (إذا) لا يعمل فيما قبله.

الثالثة- قال الكرخي: قال هنا: إذا أنتم تخرجون وقال في خلق الإنسان: ثم إذا أنتم بشر تنتشرون لأنه هناك يكون خلق وتقدير وتدريج، حتى يصير التراب قابلا للحياة، فنفخ فيه الروح، فإذا هو بشر، وأما في الإعادة فلا يكون تدريج بل يكون بدء وخروج، فلم يقل هنا: ثم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[26 - 27] وله من في السماوات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .

[ ص: 4775 ] وله من في السماوات والأرض أي: خلقا وملكا وتصرفا: كل له قانتون أي: منقادون لتصرفه، لا يتأبون عليه: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده أي: بعد موتهم. قال أبو السعود: وتكريره لزيادة التقرير، والتمهيد لما بعده من قوله تعالى: وهو أهون عليه أي: من البدء; أي: بالقياس إلى من يقتضيه معقول المخاطبين; لأن من أعاد منهم صنعة شيء، كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، وإلا فهما عليه سبحانه سواء في السهولة.

لطائف:

الأولى- تذكير الضمير، مع رجوعه إلى الإعادة، لما أنها مؤولة بـ "أن يعيد".

الثانية- قال الزمخشري : فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله: وهو أهون عليه وقدمت في قوله: هو علي هين قلت: هناك قصد الاختصاص، وهو محزه. فقيل: "هو علي هين"، وإن كان مستصعبا عندكم أن يولد بين هم وعاقر، وأما ههنا، فلا معنى للاختصاص كيف؟ والأمر مبني على ما يعقلون، من أن الإعادة أسهل من الابتداء. فلو قدمت الصلة، لتغير المعنى.

قال الناصر: كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر، لا بالحبر، وإنما يلقى الاختصاص من تقديم ما حقه أن يؤخر.

الثالثة- قال الزمخشري : فإن قلت ما بال الإعادة استعظمت في قوله: ثم إذا دعاكم حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره، ثم هونت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة، لكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء. انتهى.

قال الناصر: إنما يلقي في السؤال تعظيم الإعادة من عطفها بـ (ثم) إيذانا بتغاير مرتبتها وعلو شأنها. وقوله _(في الجواب)-: إنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء، لا يخلص. فإن الإعادة ذكرت ههنا عقيب قيام السماوات والأرض بأمره، وقيامهما ابتداء وإنشاء أعظم من الإعادة، فيلزم [ ص: 4776 ] تعظيم الإعادة بالنسبة إلى ما عطف عليه من الإنشاء، ويعود الإشكال، والمخلص، والله أعلم، جعل: "ثم" على بابها لتراخي الزمان لا لتراخي المراتب، وإن سلم أنها لتراخي المراتب، فعلى أن تكون مرتبة المعطوف عليه العليا، ومرتبة المعطوف هي الدنيا، وذلك نادر في مجيئها لتراخي المراتب، فإن المعطوف حينئذ في أكثر المواضع، أرفع درجة من المعطوف عليه، والله أعلم. انتهى.

وفي حواشي القاضي: إن: (ثم)، إما لتراخي زمان المعطوف فتكون على حقيقتها، أو لعظم ما في المعطوف من إحياء الموتى، فتكون للتفاوت في الرتبة لا للتراخي الزماني، والمراد عظمه في نفسه، وبالنسبة إلى المعطوف عليه، فلا ينافي قوله: وهو أهون عليه وكونه أعظم من قيام السماء والأرض; لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء، وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات، وهو المقصود من خلق الأرض والسماوات. فاندفع اعتراض الناصر بأنه، على تسليمه، مرتبة المعطوف عليه هنا هي العليا، مع أن كون المعطوف في مثله أرفع درجة، أكثري لا كلي، كما صرح به الطيبي هنا. فلا امتناع فيما منعه، وهي فائدة نفيسة، ويجوز حمله على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي كما في (شرح الكشاف).

وقوله تعالى: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض أي: الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فيهما، كالقدرة العامة والحكمة التامة، وذلك لأنه لما جعل ما ذكر أهون عليه على طريق التمثيل، عقبه بهذا، فكأنه قيل هذا، لتفهم العقول القاصرة أن صفاته عجيبة وقدرته عامة وحكمته تامة، فكل شيء بدءا وإعادة وإيجادا وإعداما، عنده على حد سواء، ولا مثل له ولا ند.

وقال الزجاج : المراد بالمثل قوله: وهو أهون عليه فاللام فيه للعهد، فحمل المثل على ظاهره، وعلى ما ذكر أولا، وهو مجاز عن الوصف العجيب، فيشمل القول وغيره مما هو جار على ألسنة الدلائل ولسان كل قائل وهو العزيز أي: الغالب على أمره، الذي لا يعجزه بدء ممكن وإعادته: الحكيم الذي يجري أفعاله على سنن الحكمة والمصلحة.
[ ص: 4777 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[28 - 29] ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين

ضرب لكم مثلا أي: يتبين به بطلان الشرك: من أنفسكم أي: منتزعا من أحوالها، وهي أقرب الأمور إليكم وأظهر كشفا: هل لكم من ما ملكت أيمانكم أي: من العبيد والإماء: من شركاء في ما رزقناكم أي: من الأموال وغيرها: فأنتم فيه سواء أي: متساوون في التصرف فيما ذكر من غير مزية: تخافونهم أي: تهابون أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم، وهو خبر آخر لـ: "أنتم": كخيفتكم أنفسكم أي: كما يخاف بعضكم بعضا من الأحرار المساهمين لكم فيما ذكر، والمعنى نفي مضمون ما فصل من الجملة الاستفهامية; أي: لا ترضون بأن يشارككم فيما هو معار لكم، مماليككم، وهم أمثالكم في البشرية، غير مخلوقين لكم، بل لله تعالى، فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية، التي هي من خصائصه الذاتية، مخلوقه بل مصنوع مخلوقه، حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه؟ أفاده أبو السعود: كذلك نفصل الآيات أي: مثل ذلك التفصيل الواضح، توضح الآيات: لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم أي: يقين وبرهان: فمن يهدي من أضل الله أي: سبب صرف اختياره إلى كسبه; أي: لا يقدر على هدايته أحد: وما لهم من ناصرين أي: ينصرونهم من الله، إذا أراد بهم عذابا.
[ ص: 4778 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[30 - 32] فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون

فأقم وجهك للدين أي: فقومه له، واجعله مستقيما متوجها له. وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية، بتشبيه المأمور بالتمسك بالدين، ورعاية حقوقه، وعدم مجاوزة حدوده والاهتمام بأموره، بمن أمر بالنظر إلى أمر، وعقد طرفه به، وتسديد نظره وتوجيه وجهه له، لمراعاته والاهتمام بحفظه: حنيفا أي: مائلا عن كل ما سواه إليه. قال المهايمي: ولا يعسر الرجوع إليه لكونه: فطرت الله التي فطر الناس عليها أي: لأن عقل كل واحد يدل على أنه حادث يفتقر إلى محدث، ولا دلالة على الافتقار إلى متعدد أبدا. فالقول بتعدده تغيير للفطرة، لكن: لا تبديل لخلق الله أي: لا تغيير لأمر العقل الذي خلقه الله للاستدلال: ذلك أي: الدين المأمور بإقامة الوجه له، أو الفطرة: الدين القيم أي: المستقيم الذي لا عوج فيه. قال المهايمي: وإن لم يقم عند المبدلين دليل على استحالة التعدد، فهذا هو مقتضى الفطرة: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي: أنه مقتضى الفطرة، وهي أقطع قاطع وأحسم حاسم لشغب المشاغب; لأنها من الأمور التي لا تدخل تحت الكسب والاختيار.

وقوله تعالى: منيبين إليه أي: راجعين إليه بالتوبة والإنابة: ومن يغفر الذنوب إلا الله وهو حال من فاعل (الزموا)، المقدر ناصبا لـ: "فطرة" أو من فاعل: "أقم" على المعنى; إذ لم يرد به واحد بعينه، أو لأن الخطاب له صلى الله عليه وسلم، ولأمته، أو على أنه على حذف المعطوف عليه; أي: أقم أنت وأمتك، والحال من الجميع: [ ص: 4779 ] واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم أي: جعلوه أديانا مختلفة، لاختلاف أهوائهم: وكانوا شيعا أي: فرقا: كل حزب بما لديهم فرحون أي: كل حزب منهم فرح بمذهبه، مسرور، يحسب باطله حقا.

قال القاشاني: يعني المفارقين الدين الحقيقي، المتفرقين شيعا مختلفة، كل حزب عند تكدر الفطرة، وتكاثف الحجاب، يفرح بما يقتضيه استعداده من الحجاب، لكونه مقتضى طبيعة حجابه، فيناسب حاله من الاستعداد العارضي، وإن لم يلائم الحقيقة بحسب الاستعداد، ولهذا يجب به التعذيب عند زوال العارض.

ثم احتج عليهم برجوعهم إليه عند الشدائد، مما يحمل أن يرجع إليه بعبادته دائما، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[33 - 36] وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون أم أنـزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون

وإذا مس الناس ضر أي: شدة: دعوا ربهم منيبين إليه أي: راجعين إليه وحده دون شركائهم: ثم إذا أذاقهم منه رحمة أي: خلاصا من تلك الشدة: إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم أي: بالسبب الذي آتيناهم الرحمة من أجله، وهو الإنابة، واللام للعاقبة. وقيل: للأمر التهديدي، كقوله تعالى: فتمتعوا فسوف [ ص: 4780 ] تعلمون أي: عاقبة تمتعكم ووباله.

أم أنـزلنا عليهم سلطانا أي: حجة واضحة قاهرة: فهو يتكلم أي: تكلم دلالة، كما في قوله تعالى: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق بما كانوا به يشركون أي: بإشراكهم، وهذا استفهام إنكار، أي: لم يكن شيء من ذلك: وإذا أذقنا الناس رحمة أي: نعمة من صحة وسعة: فرحوا بها أي: بطرا وفخرا، لا حمدا وشكرا: وإن تصبهم سيئة أي: شدة: بما قدمت أيديهم أي: من المعاصي والآثام: إذا هم يقنطون أي: ييأسون من روح الله قال: هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله تعالى ووفقه، فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر، وقال: ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور أي: يفرح في نفسه، يفخر على غيره، وإذا أصابته شدة قنط، وأيس أن يحصل بعد ذلك خير بالكلية قال الله تعالى: إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أي: صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء، كما ثبت في (الصحيح): « عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له » .
القول في تأويل قوله تعالى:

[37] أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون

أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون قال الزمخشري : أنكر عليهم بأنهم قد عملوا أنه هو الباسط القابض، فما لهم [ ص: 4781 ] يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها، حتى يعيد إليهم رحمته؟

ولما بين تعالى أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[38 - 39] فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون

فآت ذا القربى حقه أي: من البر والصلة، واستدل به أبو حنيفة رحمه الله على وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب; لأن (آت): أمر للوجوب. والظاهر من: (الحق)، بقرينة ما قبله أنه ما لي، وهو استدلال متين: والمسكين وهو الذي لا شيء له ينفق عليه، أو له شيء لا يقوم بكفايته: وابن السبيل أي: السائل فيه، والذي انقطع به، وحقهما هو نصيبهما من الصدقة والمواساة: ذلك خير للذين يريدون وجه الله أي: النظر إليه يوم القيامة، وهو الغاية القصوى، أو يريدون ذاته بمعروفهم لا رياء ولا سمعة، ولا مكافأة يد، كما قال تعالى: الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وأولئك هم المفلحون أي: في الدنيا والآخرة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 30-12-2024, 06:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,559
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ لُقْمَانَ
المجلد الثالث عشر
صـ 4782 الى صـ 4792
الحلقة (493)





وما آتيتم من ربا أي: مال ترابون فيه: ليربو في أموال الناس أي: ليزيد في أموالهم; إذ تأخذون فيه أكثر منه: فلا يربو عند الله أي: لا يزكو ولا ينمو [ ص: 4782 ] ولا يبارك فيه، بل يمحقه محق ما لا عاقبة له عنده إلا الوبال والنكال، وذكر في تفسيرها معنى آخر، وهو أن يهب الرجل للرجل، أو يهدي له ليعوضه أكثر مما وهب أو أهدى. فليست تلك الزيادة بحرام، وتسميتها ربا مجاز; لأنها سبب الزيادة.

قال ابن كثير : وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه، إلا أنه نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، قاله الضحاك ، واستدل بقوله تعالى: ولا تمنن تستكثر أي: لا تعط العطاء، تريد أكثر منه. وقال ابن عباس : الربا رباءان، فربا لا يصح، يعني ربا البيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل، يريد فضلها وإضعافها. انتهى.

وأقول: في ذلك كله نظر من وجوه:

الأول- أن هذه الآية شبيهة بآية: يمحق الله الربا ويربي الصدقات وهي في ربا البيع الذي كان فاشيا في أهل مكة حتى صار ملكة راسخة فيهم، امتصوا بها ثروة كثير من البؤساء، مما خرج عن طور الرحمة والشفقة والكمال البشري. فنعى عليهم حالهم، طلبا لتزكيتهم بتوبتهم منه، ثم أكد ذلك في مثل هذه الآية; مبالغة في الزجر.

الثاني- أن الربا، على ما ذكر، مجاز، والأصل في الإطلاق الحقيقة، إلا لصارف يرشد إليه دليل الشرع، أو العقل، ولا واحد منهما هنا; إذ لا موجب له.

الثالث- دعوى أن الهبة المذكورة مباحة، لا بأس بها بعد كونها هي المرادة من الآية بعيدة غاية البعد; لأن في أسلوبها من الترهيب والتحذير ما يجعلها في مصاف المحرمات، ودلالة الأسلوب من أدلة التنزيل القوية، كما تقرر في موضعه.

الرابع- زعم أن المنهي عنه هو الحضرة النبوية خاصة، لا دليل عليه إلا ظاهر الخطاب، وليس قاطعا; لأن اختصاص الخطاب لا يوجب اختصاص الحكم على التحقيق، لا يقال الأصل وجوب [ ص: 4783 ] حمل اللفظ على حقيقته، وحمله على المجاز لا يكون إلا بدليل، وكذا ما يقال إن ثبوت الحكم في غير محل الخطاب يفتقر إلى دليل- لأنا نقول: الأصل في التشريعات العموم، إلا ما قام الدليل القاطع على التخصيص بالتنصيص، وليس منه شيء هنا. وقد عهد في التنزيل تخصيص مراد به التعميم إجماعا، كآية: يا أيها النبي اتق الله وأمثالها.

الخامس- أن في هذا المنهي عنه من إصعاد المرء إلى ذروة المحسنين الأعفاء، الذين لا يتبعون قلوبهم نفقتهم، ما يبين أنه شامل لسائرهم، لما فيه من تربية إرادتهم وتهذيب أخلاقهم. بل لو قيل إن الخطاب له صلوات الله عليه، والمراد غيره، كما قالوه في كثير من الآي- لم يبعد; لما تقرر من عصمته ونزاهته عن هذا الخلق، في سيرته الزكية، وحينئذ فالوجه في الآية هو الأول، وعليه المعول. والله أعلم: وما آتيتم من زكاة أي: مال تتزكون به من رجس الشح، ودنس البخل: تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون أي: ذوو الأضعاف من الثواب، جمع (مضعف)، اسم فاعل (من أضعف)، إذا صار ذا ضعف -(بكسر فسكون)- بأن يضاف له ثواب ما أعطاه، (كأقوى وأيسر)، إذا صار ذا قوة ويسار. فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة ما أنفقوا، على أنه (من أضعف) والهمزة للتعدية، ومفعوله محذوف، وهو ما ذكر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[40] الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون

الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون قال القاضي: أثبت له [ ص: 4784 ] تعالى لوازم الألوهية، ونفاها رأسا عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها، مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان، ووقع عليه الوفاق، ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[41 - 43] ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون

ظهر الفساد في البر والبحر أي: كثرة المضار والمعاصي على وجه الأرض، وعلى ظهر السفن في لجج البحر: بما كسبت أيدي الناس أي: من الآثام والموبقات، ففشا الفساد، وانتشرت عدواه وتوارثه جيل عن جيل أينما حلوا وحيثما ساروا: ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون اللام للعاقبة، أي: ظهور الشرور بسببهم، مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم، إرادة الرجوع. وقيل اللام للعلة، على معنى أن ظهور الجدب والقحط والغرق بسبب شؤم معاصيهم، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا، وقبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة، لعلهم يرجعون عما هم عليه، كقوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم

قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان [ ص: 4785 ] أكثرهم مشركين أي: فأذاقهم سبحانه سوء العاقبة، لشركهم المستتبع لكل إثم وعصيان: فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له أي: لا يقدر أحد على رده، وقوله: من الله متعلق بـ: "يأتي" أو بـ: "مرد"; لأنه مصدر على معنى لا يرده تعالى، لتعلق إرادته بمجيئه، وفيه انتقاء رد غيره بطريق برهاني. وقيل عليه، لو كان كذلك لزم تنوينه لمشابهته للمضاف. وأجيب بأن الشبيه بالمضاف قد يحمل في ترك تنوينه، كما في الحديث « لا مانع لما أعطيت » : يومئذ يصدعون أي: يتفرقون كالفراش المبثوث، أو فريق في الجنة، وفريق في السعير، كقوله: ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون
القول في تأويل قوله تعالى:

[44 - 45] من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين .

من كفر فعليه كفره أي: وبال كفره. قال الزمخشري : كلمة جامعة، لما لا غاية وراءه من المضار; لأن من كان ضاره كفره، فقد أحاطت به كل مضرة: ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون أي: يسوون منزلا في الجنة، أي: يوطئونه توطئة الفراش لمن يريد الراحة عليه: ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين
القول في تأويل قوله تعالى:

[46 - 47] ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين

[ ص: 4786 ] ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات أي: بالمطر: وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره أي: في البحر عند هبوبها: ولتبتغوا من فضله أي: بتجارة البحر: ولعلكم تشكرون أي: ولتشكروا نعمة الله فيما ذكر.

ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين هذه تسلية له صلى الله عليه وسلم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له، والوعيد لمن عصاه.

قال الزمخشري : في قوله تعالى: وكان حقا علينا نصر المؤمنين تعظيم للمؤمنين، ورفع من شأنهم، وتأهيل لكرامة سنية، وإظهار لفضل سابقة ومزية، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[48 - 50] الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينـزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير .

الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء إما سائرا وواقفا، مطبقا وغير مطبق، من جانب دون جانب، إلى غير ذلك: ويجعله كسفا أي: قطعا تارة أخرى: فترى الودق أي: المطر: يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينـزل عليهم أي: المطر: [ ص: 4787 ] من قبله لمبلسين أي: لآيسين. قال الزمخشري : من قبله، من باب التكرير والتوكيد، كقوله تعالى: فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها ومعنى التوكيد فيه، الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. انتهى.

وعكسه ابن عطية رحمه الله فقال: إنه يدل على سرعة تقلب القلوب البشرية، من الإبلاس إلى الاستبشار.

قال الشهاب: وما ذكره ابن عطية أقرب; لأن المتبادر من القبلية الاتصال، وتأكيده دال على شدة اتصاله: فانظر إلى آثار رحمت الله أي: أثر الغيث من النبات والأشجار والحبوب والثمار: كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك أي: العظيم الشأن الذي ذكر بعض شؤونه: لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير
القول في تأويل قوله تعالى:

[51 - 53] ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون

ولئن أرسلنا ريحا على الزرع: فرأوه مصفرا أي: من تأثيرها فيه: لظلوا من بعده يكفرون أي: من بعد اصفراره يجحدون ما تقدم إليهم من النعم، أو يقنطون ولا يصبرون على بلائه، وفيه من ذمهم، وعدم تدبرهم، وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم، وسوء رأيهم- ما لا يخفى.

[ ص: 4788 ] ثم أشار تعالى إلى أن من أنكر قدرته على إحياء الزرع بعد اصفراره، وقد رأى قدرته على إحياء الأرض بعد موتها، فهو ميت لا يمكن إسماعه خبر إحياء الموتى، بقوله سبحانه: فإنك لا تسمع الموتى أي: لما أن هؤلاء مثلهم، لانسداد مشاعرهم عن الحق: ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين قال أبو السعود: تقييد الحكم بما ذكر، لبيان كمال سوء حال الكفرة، والتنبيه على أنهم جامعون لخصلتي السوء، نبو أسماعهم عن الحق، وإعراضهم عن الإصغاء إليه، ولو كان فيهم إحداهما، لكفاهم ذلك، فكيف وقد جمعوهما؟ وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع أي: ما تسمع: إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون أي: منقادون لما تأمرهم به من الحق.

تنبيه:

قال ابن كثير : وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية: فإنك لا تسمع الموتى على توهيم عبد الله بن عمر في رواية مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم، حتى قال له عمر : يا رسول الله! ما تخاطب من قوم قد جيفوا؟ فقال: « والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول، منهم، ولكن لا يجيبون» . وتأولته عائشة على أنه قال: إنهم الآن يعلمون أن ما كنت أقول لهم حق.

وقال قتادة : أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته، تقريعا وتوبيخا ونقمة.

ثم قال ابن كثير : والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر ، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححا له عن ابن عباس مرفوعا: « ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام » . انتهى.

وقال ابن الهمام: أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع استدلالا بهذه الآية ونحوها، [ ص: 4789 ] ولذا لم يقولوا: بتلقين القبر، وقالوا: لو حلف لا يكلم فلانا، فكلمه ميتا لا يحنث. وأورد عليهم قوله صلى الله عليه وسلم في أهل القليب « ما أنتم بأسمع منهم » وأجيب تارة بأنه روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرته، وأخرى بأنه من خصوصياته صلى الله عليه وسلم معجزة له، أو أنه تمثيل، كما روي عن علي كرم الله وجهه ، وأورد عليه ما في مسلم من أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا. إلا أن يخص بأول الوضع في القبر، مقدمة للسؤال، جمعا بينه وبين ما في القرآن. نقله الشهاب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[54 - 55] الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون .

الله الذي خلقكم من ضعف قرئ بفتح الضاد وضمها; أي: من أصل ضعيف هو النطفة: ثم جعل من بعد ضعف يعني حال الطفولة والنشء: قوة يعني حال البلوغ والشبيبة إلى الاكتهال وبلوغ الأشد: ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة أي: بالشيخوخة والهرم: يخلق ما يشاء أي: من الأشياء، ومنها هذه الأطوار التي يتقلب بها الإنسان: وهو العليم القدير أي: الواسع العلم والقدرة، كيف؟ وهذا الترديد في الأحوال المختلفة والتغيير من صفة إلى صفة، أظهر دليل على علم الصانع سبحانه وقدرته، المستتبع انفراده بالألوهية: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة أي: في الدنيا أو القبور، وإنما يقدرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له، أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون: كذلك كانوا يؤفكون أي: مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا، وهكذا كانوا يبتون أمرهم على خلاف الحق. كذا في (الكشاف).

[ ص: 4790 ] وقال ابن كثير : يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضا، فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا، ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم. انتهى.

وقال الشهاب: المراد من قوله: كذلك كانوا يؤفكون تشابه حاليهم في الكذب، وعدم الرجوع إلى مقتضى العلم; لأن مدار أمرهم على الجهل والباطل، والغرض من سوق الآية، وصف المجرمين بالتمادي في الباطل، والكذب الذي ألفوه. انتهى.

وقيل: كان قسمهم استقلالا لأجل الدنيا، لما عاينوا الآخرة، تأسفا على ما أضاعوا في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[56 - 57] وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون .

وقال الذين أوتوا العلم والإيمان ردا لما حلفوا عليه، وإطلاعا لهم على الحقيقة: لقد لبثتم في كتاب الله أي: فيما كتبه الله وأوجبه بحكمته: إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون أي أنه حق، لتفريطكم في طلب الحق واتباعه: فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا أي: بالشرك، أو إنكار الربوبية، أو الرسالة، أو شيء لا يجب الإيمان به: معذرتهم أي: بأنهم كفروا عن جهل; لأنه إنما كان عن تقصيرهم في إزالته، أو عن عناد: ولا هم يستعتبون أي: ولا يطلب منهم الإعتاب; أي: إزالة [ ص: 4791 ] العتب بالتوبة والطاعة; لأنهما -وإن كانتا ماحيتين للكفر والمعاصي- فإنما كان لهما ذلك في مدة الحياة الدنيا، لا غير.
القول في تأويل قوله تعالى:

[58 - 60] ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون

ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل أي: من كل وصف يوضح الحق ويزيل اللبس، أو من كل دليل على الأمور الأخروية، والحق يجري مجرى المثل في الظهور: ولئن جئتهم بآية أي: مما اقترحوه أو غيرها: ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون أي: لا يؤمنون بها، ويعتقدون أنها سحر وباطل: كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون أي: لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق، بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها; فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق، ويوجب تكذيب المحق. قاله أبو السعود.

فاصبر أي: على ما تشاهد منهم، من الأقوال الباطلة، والأفعال السيئة: إن وعد الله حق أي: في قوله: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ولا يستخفنك أي: لا يحملنك على الخفة والقلق: الذين لا يوقنون أي: بما تتلو عليهم من الآيات البينة، بتكذيبهم إياها ومكرهم فيها; فإنه تعالى منجز لك ما وعدك من نصرك عليهم، وجعله العاقبة لك، ولمن اعتصم بما جئت به من المؤمنين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

31- سُورَةُ لُقْمَانَ


سميت به لاشتمالها على قصته التي تضمنت فضيلة الحكمة وسر معرفة الله تعالى وصفاته، وذم الشرك والأمر بالأخلاق والأفعال الحميدة. والنهي عن الذميمة.

وهي معظمات مقاصد القرآن. قاله المهايمي. وهي مكية. ويقال: إلا قوله تعالى: ولو أنما في الأرض من شجرة الآيتين. وآياتها أربع وثلاثون آية. وسيأتي الكلام على لقمان والخلاف فيه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 30-12-2024, 06:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,559
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ لُقْمَانَ
المجلد الثالث عشر
صـ 4793 الى صـ 4803
الحلقة (494)





[ ص: 4793 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1 - 6] الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين

الم تلك آيات الكتاب الحكيم أي: ذي الحكمة الناطق بها: هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون بيان لإحسانهم، يعني ما عملوه من الحسنات، أو تخصيص لهذه الثلاثة من شعبه، لإظهار فضلها وإناقتها على غيرها. والمراد بالزكاة، على أنها مكية هي مطلق إخراج المال تقربا بالتصديق منه، وتزكية للنفس بإيتائه، من وصمة البخل والشح المردي لها، لا أنصباؤها المعروفة; فإنها إنما بينت بالمدينة.

أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله تعريض بالمشركين، وأنهم يستبدلون بهذا الكتاب المفيد الهدى والرحمة والحكمة، ما يلهي من الحديث عن ذلك الكتاب العظيم، ليضلوا أتباعهم عن الدين الحق.

قال الزمخشري : و(اللهو): كل باطل ألهى عن الخير، وعما يعني. ولهو الحديث نحو [ ص: 4794 ] السمر بالأساطير، والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام، وما لا ينبغي، مما كانوا يؤفكون به عن استماع حكم التنزيل وأحكامه، ويؤثرونه على حديث الحق. وقوله تعالى: بغير علم أي: بما هي الكمالات ومنافعها، والنقائص ومضارها: ويتخذها هزوا الضمير للسبيل، وهو مما يذكر ويؤنث: أولئك لهم عذاب مهين
القول في تأويل قوله تعالى:

[7 - 10] وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنـزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم

وإذا تتلى عليه آياتنا ولى أي: أعرض عنها: مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا أي: ثقلا مانعا من السماع: فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها الضمير للسماوات، وهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة على قوله: بغير عمد كما تقول لصاحبك: أنا بلا سيف ولا رمح تراني. والجملة لا محل لها; لأنها مستأنفة، أو في محل الجر، صفة للعمد، أو بغير عمد مرئية; يعني أنه عمدها بعمد لا ترى، [ ص: 4795 ] وهي إمساكها بقدرته. كذا في (الكشاف): وألقى في الأرض رواسي أي: جبالا ثوابت: أن تميد بكم أي: تميل فتهلككم لما في جوفها من قوة الجيشان: وبث فيها من كل دابة أي: من كل نوع من أنواعها: وأنـزلنا أي: لحفظكم وحفظ دوابكم، وللرفق بكم وبدوابكم: من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج أي: صنف من الأغذية والأدوية: كريم أي: كثير المنافع.
القول في تأويل قوله تعالى:

[11 - 12] هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد

هذا أي: ما ذكر من السماوات والأرض، وما تعلق بهما من الأمور المعدودة: خلق الله أي: مخلوقه: فأروني ماذا خلق الذين من دونه أي: مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة: بل الظالمون في ضلال مبين إضراب عن تبكيتهم بما ذكر، إلى التسجيل عليهم بالضلال البين المستدعي للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة; لاستحالة أن يفهموا منها شيئا، فيهتدوا به إلى العلم ببطلان ما هم عليه، أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه. ووضع الظاهر موضع ضميرهم; للدلالة على أنهم بإشراكهم واضعون للشيء في غير موضعه، ومتعدون عن الحدود، وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد. أفاده أبو السعود.

ثم أشار تعالى إلى أن بطلان الشرك مقول على لسان ذوي الحكمة. كيف لا؟ والتوحيد أساس الحكمة، بقوله سبحانه: ولقد آتينا لقمان الحكمة يعني استكمال النفس بالعلوم النظرية، وملكة الأفعال الفاضلة بقدر الطاقة البشرية، آمرين له على لسان نبي أو بطريق [ ص: 4796 ] الإلهام; (على قول الجمهور أنه حكيم). أو الوحي; (على قول عكرمة أنه نبي) أن اشكر لله أي: على ما أعطاك من نعمه، من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا. كذا قاله المهايمي، والأظهر أن: "أن" مفسرة; فإن إتيان الحكمة في معنى القول. والشكر: كلمة تجمع ما تدور عليه سعادة الدنيا والآخرة; لأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه إلى ما خلق لأجله: ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه لعود ثمرات شكره عليه: ومن كفر فإن الله غني حميد أي: غني عن كل شيء، فلا يحتاج إلى الشكر، وحقيق بالحمد. بل نطق بحمده كل موجود.

تنبيه:

قال ابن كثير : اختلف السلف في لقمان; هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة، على قولين؟ الأكثرون على الثاني، ويقال إنه كان قاضيا على بني إسرائيل، في زمن داود عليه السلام، وما روي من كونه عبدا مسه الرق، ينافي كونه نبيا; لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها، ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيا، وإنما ينقل كونه نبيا عن عكرمة ، إن صح السند إليه; فإنه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة . قال: كان لقمان نبيا. وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي ، وهو ضعيف. والله أعلم. انتهى.

وزعم بعضهم أن لقمان هو بلعام المذكور في التوراة، وكان حكيم شعب وثني، وكان منبأ عن الله تعالى، وأغرب في تقريبه، بأن الفعل العربي وهو: (لقم)، معناه بالعبري بلع. والله أعلم.

وقد نظم السيوطي من اختلف في نبوته، فقال:


واختلفت في خضر أهل النقول قيل نبي أو ولي أو رسول لقمان، ذي القرنين، حوا، مريم
والوقف في الجميع رأي المعظم


[ ص: 4797 ] ثم قرن لقمان، بوصيته إياه بعبادة الله وحده، البر بالوالدين، كما قال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا وكثيرا ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن الكريم. وقال ههنا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[13 - 14] وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير

وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه أي: بالإحسان إليهما، لا سيما الوالدة; لأنه: حملته أمه وهنا على وهن أي: ضعفا فوق ضعف إلى الولادة. و: وهنا حال من: أمه أي: ذات وهن، أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال; أي: تهن وهنا. وقوله تعالى: على وهن صفة للمصدر; أي: كائنا على وهن، أي: تضعف ضعفا فوق ضعف; فإنها لا تزال يتزايد ضعفها; لأن الحمل كلما عظم ازدادت ثقلا وضعفا: وفصاله أي: فطامه: في عامين ثم فسر الوصية بقوله سبحانه: أن اشكر لي ولوالديك أي: بأن تعرف نعمة الإحسان، وتقدره قدره.

قال في (البصائر): الشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره. هذه الخمسة هي أساس الشكر، وبناؤه عليها، فإن عدم منها واحدة، اختلت قاعدة من قواعد الشكر، وكل من تكلم في الشكر، فإن كلامه إليها يرجع وعليها يدور. انتهى.

[ ص: 4798 ] وقوله تعالى: إلي المصير تعليل لوجوب الامتثال; أي: إلي الرجوع، لا إلى غيري، فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر.

تنبيهات:

الأول- قال الزمخشري : فإن قلت: قوله تعالى: حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟ قلت: لما وصى بالوالدين، ذكر ما تكابده الأم، وتعانيه من المشاق، والمتاعب في حمله، وفصاله هذه المدة المتطاولة، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا، وتذكيرا بحقها العظيم مفردا. ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له من أبر؟ « أمك ثم أمك ثم أمك » . ثم قال بعد ذلك: « ثم أباك » . وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره، وهو يقول في حدائه بنفسه.


أحمل أمي وهي الحماله ترضعني الدرة والعلاله ولا يجازى والد فعاله


الثاني - قال الحافظ ابن كثير : وقوله تعالى: وفصاله في عامين كقوله: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ومن ههنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر; لأنه قال في الآية الأخرى: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة، وتعبها، ومشقتها في سهرها ليلا ونهارا، ليذكر الولد بإحسانها المتقدم إليه، كما قال تعالى: وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا

[ ص: 4799 ] الثالث- قال الزمخشري : فإن قلت: ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت: المعنى في توقيته بهذه المدة، أنها الغاية التي لا تتجاوز، والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم، إن علمت أنه يقوى على الفطام، فلها أن تفطمه، ويدل عليه قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة
القول في تأويل قوله تعالى:

[15] وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون

وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما أي: في إشراك ما لا تعلمه مستحقا للعبادة، تقليدا لهما. وقال الزمخشري : أراد بنفي العلم به نفيه، أي: لا تشرك بي ما ليس بشيء، يريد الأصنام. كقوله: ما يدعون من دونه من شيء

قال في (الكشف): ليس هذا من قبيل نفي العلم لنفي وجوده، كما مر في القصص. وإلا لقال ما ليس بموجود. بل أراد أنه بولغ في نفيه حتى جعل كلا شيء، ثم بولغ في سلك المجهول المطلق.

قال الشهاب: وهذا تقرير حسن، فيه مبالغة عظيمة: وصاحبهما في الدنيا معروفا أي: صحابا معروفا يرتضيه الشرع، ويقتضيه الكرم.

قال السيوطي في (الإكليل): في الآية أن الوالد لا يطاع في الكفر، ومع ذلك يصحب معروفا: واتبع سبيل من أناب إلي أي: بالتوحيد والإخلاص في الطاعات، وعمل [ ص: 4800 ] الصالحات: ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون كناية عن الجزاء، كما تقدم نظائره.

قال القاضي: والآيتان، يعني: ووصينا الإنسان إلى قوله -: تعملون معترضتان في تضاعيف وصية لقمان، تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك. كأنه قال: وقد وصينا بمثل ما وصى به، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك; فإنهما -مع أنهما تلو البارئ تعالى في استحقاق التعظيم والطاعة- لا يجوز أن يطاعا في الإشراك. فما ظنك بغيرهما؟ انتهى.

ثم يبين تعالى بقية وصايا لقمان، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[16 - 17] يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور

يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل أي: إن الخصلة من الإساءة أو الإحسان، إن تك مثلا في الصغر كحبة الخردل: فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض أي: فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر، في أخفى مكان وأحرزه، كجوف الصخرة، أو حيث كانت في العلم العلوي أو السفلي: يأت بها الله أي: يحضرها ويحاسب عليها: إن الله لطيف أي: ينفذ علمه وقدرته في كل شيء: خبير أي: يعلم كنه الأشياء، فلا يعسر عليه. والآية هذه كقوله تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس [ ص: 4801 ] شيئا الآية، وقوله: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره

لطيفة:

قوله تعالى: فتكن في صخرة الآية، من البديع الذي يسمى التتميم; فإنه تمم خفاءها في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة، وهو من وادي قولها:


كأنه علم في رأسه نار


يا بني أقم الصلاة أي: بحدودها وفروضها وأوقاتها، لتكميل نفسك بعبادة ربك: وأمر بالمعروف وانه عن المنكر لتكميل غيرك: واصبر على ما أصابك أي: من المحن والبلايا، أو فيما أمرت به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر; لأن الداعي إلى الحق معرض لإيصال الأذى إليه، وهو أظهر. ويطابقه آية: وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر إن ذلك إشارة إلى الصبر، أو إلى كل ما أمر به: من عزم الأمور أي: مما عزمه الله من الأمور، أي: قطعه قطع إيجاب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[18 - 19] ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور [ ص: 4802 ] واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير

ولا تصعر خدك للناس أي: لا تعرض بوجهك عنهم، إذا كلمتهم أو كلموك، احتقارا منك لهم، واستكبارا عليهم، ولكن ألن جانبك، وابسط وجهك إليهم، كما جاء في الحديث « ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط » : ولا تمش في الأرض مرحا أي: خيلاء متكبرا: إن الله لا يحب كل مختال أي: معجب في نفسه: فخور أي: على غيره: واقصد في مشيك أي: توسط بين الدبيب والإسراع: واغضض من صوتك أي: انقص من رفعه، وأقصر، فإنه يقبح بالرفع حتى ينكره الناس، إنكارهم على صوت الحمير، كما قال: إن أنكر الأصوات لصوت الحمير معللا للأمر على أبلغ وجه وآكده و(أنكر) بمعنى أوحش. من قولك: (شيء نكر); إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت، كما يقال في العرف للقبيح. (وحش)، وأصله ضد الأنس والألفة. فهو إما مجاز أو كناية.

قال الزمخشري : الحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجردا، وتفاديهم من اسمه، أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به; فيقولون: (الطويل الأذنين). كما يكنى عن الأشياء المستقذرة، وقد عد في مساوي الآداب، أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا، وإن بلغت منه الرحلة. فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه، وإخراجه مخرج الاستعارة، وأن جعلوا حميرا، وصوتهم نهاقا - مبالغة [ ص: 4803 ] شديدة في الذم والتهجين، وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه، وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان. انتهى.

تنبيه:

جاء ذكر لقمان في أحاديث مرفوعة: منها ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئا حفظه » . وروى ابن أبي حاتم عن القاسم بن مخيمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « قال لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه: يا بني إياك والتقنع، فإنه مخوفة بالليل، مذمة بالنهار » .

ومن الآثار فيه ما رواه ابن أبي حاتم عن السري بن يحيى قال: قال لقمان لابنه: يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك.

وعن عون بن عبد الله قال: قال لقمان لابنه: يا بني! إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام -(يعني السلام)- ثم اجلس في ناحيتهم، فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم. نقله ابن كثير رحمه الله.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 30-12-2024, 08:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,559
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ السَّجْدَةِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4804 الى صـ 4814
الحلقة (495)



القول في تأويل قوله تعالى:

[20_21] ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير [ ص: 4804 ] وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنـزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير

ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض أي: من النجوم والشمس والقمر، التي ينتفعون من ضيائها، وما تؤثره في الحيوان، والنبات، والجماد بقدرته تعالى، وكذا من الأمطار والسحب والكوائن العلوية التي خلقها تعالى لنفع من سخرت له، وكذا ما أوجد في الأرض من قرار وأشجار وأنهار وزروع وثمار، ليستعملها من سخرت له فيما فيه حياته، وراحته، وسعادته: وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة أي: محسوسة ومعقولة، كإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإزاحة الشبه والعلل: ومن الناس يعني الجاحدين نعمته تعالى: من يجادل في الله أي: في توحيده وإرساله الرسل: بغير علم أي: برهان قاطع مستفاد من عقل: ولا هدى أي: دليل مأثور عن نبي: ولا كتاب منير أي: منزل من لدنه تعالى، بل لمجرد التقليد. والمنير: بمعنى المنقذ من ظلمة الجهل والضلال.

وإذا قيل لهم أي: لمن يجادل، والجمع باعتبار المعنى: اتبعوا ما أنـزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير أي: يدعو آباءهم إلى اعتقادات وأعمال، هي أسباب العذاب، كأنه يدعوهم إلى عين العذاب. فهم متوجهون إليه حسب دعوته، ومن كان كذلك فأنى يتبع.
القول في تأويل قوله تعالى:

[22 - 29] ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور [ ص: 4805 ] نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير

ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن أي: في أعماله: فقد استمسك بالعروة الوثقى أي: تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب، وهو تمثيل لحال المؤمن المخلص المحسن، بحال من أراد رقي شاهق، فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه: وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا أي: من الأعمال الظاهرة والباطنة: إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله أي: على أن جعل دلائل التوحيد بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون أيضا: بل أكثرهم لا يعلمون أي: شيئا ما; فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافهم.

لله ما في السماوات والأرض أي: فلا يستحق العبادة فيهما غيره: إن الله هو الغني أي: عن العالمين، وهم فقراء إليه جميعا: الحميد أي: المحمود فيما خلق وشرع، بلسان الحال والمقال: ولو أنما [ ص: 4806 ] في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده أي: من بعد نفاده: سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله أي: التي أوجد بها الكائنات، وسيوجد بها ما لا غاية لحصره ومنتهاه، والسبعة إنما ذكرت على سبيل المبالغة لا الحصر: إن الله عزيز حكيم ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة أي: إلا كخلقها وبعثها في سهولته: إن الله سميع بصير ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى أي: أمد قدره الله تعالى لجريهما، وهو يوم القيامة: وأن الله بما تعملون خبير أي: لأن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق، والتدبير الفائق، لا يكاد يغفل عن كون صانعه عز وجل محيطا بما يأتي ويذر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[30 - 32] ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور

ذلك إشارة إلى ما ذكر من سعة العلم، وشمول القدرة، وعجائب الصنع، واختصاص البارئ بها: بأن الله هو الحق أي: بسبب أنه الحق، وجوده وإلهيته: وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله أي: بإحسانه في تهيئة أسبابه: ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل [ ص: 4807 ] صبار أي: عظيم الصبر على البأساء والضراء: شكور أي: كثير الشكر للنعم، بالقيام بحقها: وإذا غشيهم أي: علاهم وأحاط بهم: موج كالظلل أي: كالسحب والحجب: دعوا الله مخلصين له الدين أي: التجأوا إليه تعالى وحده، لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد، بما دهاهم من الضر: فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد قال ابن كثير : قال مجاهد : أي: كافر، كأنه فسر (المقتصد) ههنا بالجاحد كما قال تعالى: فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون وقال ابن زيد : هو المتوسط في العمل، وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله تعالى: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد الآية، فالمقتصد ههنا هو المتوسط في العمل. ويحتمل أن يكون مرادا هنا أيضا، ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام، والآيات الباهرات في البحر، ثم من بعد ما أنعم الله عليه بالخلاص، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام، والدؤوب في العبادة، والمبادرة إلى الخيرات، فمن اقتصد بعد ذلك، كان مقصرا والحالة هذه، والله أعلم. انتهى.

وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار أي: غدار، ناقض للعهد الفطري، ولعقد العزيمة وقت الهول البحري: كفور أي: مبالغ في كفران نعمه تعالى، لا يقضي حقوقها، ولا يستعملها في محابه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[33] يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور

يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا أي: ليس بمغن أحدهما عن الآخر شيئا، لانقطاع الوصل في [ ص: 4808 ] ذلك اليوم الرهيب. قال أبو السعود: وتغيير النظم -في الثانية- للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزى، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة: إن وعد الله حق أي بالثواب والعقاب، لا يمكن إخلافه: فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور أي: الشيطان.
القول في تأويل قوله تعالى:

[34] إن الله عنده علم الساعة وينـزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير

إن الله عنده علم الساعة أي: علم وقت قيامها: وينـزل الغيث أي: في وقته الذي قدره، وإلى محله الذي عينه في علمه: ويعلم ما في الأرحام أي: من ذكر أو أنثى، سعيد أو شقي: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا أي: من خير أو شر: وما تدري نفس بأي أرض تموت أي: في بلدها أو غيره; لاستئثار الله تعالى بعلم ذلك، وقد جاء الخبر بتسمية هذه الخمس: مفاتح الغيب: إن الله عليم خبير أي: بما كان ويكون، وبظواهر الأشياء وبواطنها، لا إله إلا هو.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

32- سُورَةُ السَّجْدَةِ


سميت بها، لأن آية السجدة منها، تدل على أن آيات القرآن من العظمة بحيث تخر وجوه الكل، لسماع مواعظها، وتنزه منزلها عن أن يعارض في كلامه. وبشكره على كمال هدايته. وهذا أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايمي. وهي مكية، وآيها ثلاثون.

روى البخاري في (كتاب الجمعة) عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر، يوم الجمعة الم تنـزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان.

ورواه مسلم أيضا.

وروى الإمام أحمد عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تنـزيل السجدة، وتبارك الذي بيده الملك.

قال ابن كثير : تفرد به أحمد رحمه الله تعالى.

[ ص: 4810 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1 - 3] الم تنـزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون

الم تقدم أن هذه الفواتح أسماء للسور: تنـزيل الكتاب لا ريب فيه أي: في كونه منزلا: من رب العالمين أم يقولون افتراه أي: اختلقه من تلقاء نفسه: بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون أي: يتبعون الحق.

وذلك أن قريشا لم يبعث إليهم رسول قبله صلى الله عليه وسلم، فلطف تعالى بهم وبعث فيهم رسولا منهم صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[4 - 5] الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون

الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على [ ص: 4811 ] العرش تقدم الكلام في ذلك: ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أي: ما لكم عنده ناصر ولا شفيع من الخلق: أفلا تتذكرون أي: تتعظون بالقرآن فتؤمنوا: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض أي: يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية، من الملائكة وغيرها، نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض: ثم يعرج إليه أي: يصعد إليه، أي: مع الملك للعرض عليه: في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون أي: مقدار صعوده على غير الملك، ألف سنة من سني الدنيا.

قال ابن كثير : أي: يتنزل من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرضين، كما قال تعالى: الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنـزل الأمر بينهن الآية. وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق السماء. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[6 - 9] ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون

ذلك أي: المدبر: عالم الغيب أي: ما غاب عن العباد، وما يكون: والشهادة أي: ما علمه العباد، وما كان: العزيز أي: الغالب على أمره: الرحيم أي: بالعباد في تدبره: الذي أحسن كل شيء خلقه أي: أحكم خلق كل شيء; لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة: وبدأ خلق الإنسان يعني آدم: من طين ثم جعل [ ص: 4812 ] نسله أي: ذريته: من سلالة أي: من نطفة: من ماء مهين أي: ضعيف ممتهن، والسلالة الخلاصة، وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية: ثم سواه أي: قومه في بطن أمه: ونفخ فيه من روحه أي: جعل الروح فيه، وأضافه إلى نفسه تشريفا له: وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة أي: خلق لكم هذه المشاعر، لتدركوا بها الحق والهدى: قليلا ما تشكرون أي: بأن تصرفوها إلى ما خلقت له.
القول في تأويل قوله تعالى:

[10 - 12] وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون

وقالوا أي: كفار مكة: أإذا ضللنا في الأرض أي: صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض لا نتميز منه، أو غبنا فيها: أإنا لفي خلق جديد أي: نجدد بعد الموت: بل هم بلقاء ربهم أي: بالبعث بعد الموت للجزاء والحساب: كافرون أي: جاحدون.

قال أبو السعود: إضراب وانتقال من بيان كفرهم بالبعث، إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه، وهو كفرهم بالوصول إلى العاقبة، وما يلقونه فيها من الأحوال والأهوال جميعا: قل أي: بيانا للحق، وردا على زعمهم الباطل: يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم أي: يقبض أرواحكم: ثم إلى ربكم ترجعون أي: بالبعث للحساب والجزاء.

فائدة:

قال ابن أبي الحديد في (شــــرح نهج البـــلاغة) في هذه الآية: مذهب جمهور أصحابنا [ ص: 4813 ] أن الروح جسم لطيف بخاري يتكون من ألطف أجزاء الأغذية، ينفذ في العروق، حالة فيها، وكذلك للقلب، وكذلك للكبد.

وعندهم أن لملك الموت أعوانا تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه، لولا ذلك لتعذر عليه، وهو جسم أن يقبض روحين في وقت واحد في المشرق والمغرب; لأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين، في وقت واحد.

قال أصحابنا: ولا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضون للأرواح عند انقضاء الأجل.

قالوا: وكيفية القبض، ولوج الملك من الفم إلى القلب; لأنه جسم لطيف هوائي، لا يتعذر عليه النفوذ في المخارق الضيقة، فيخالط الروح، التي هي كالشبيهة بها; لأنها بخاري، ثم يخرج من حيث دخل، وهي معه.

وإنما يكون ذلك في الوقت الذي يأذن الله تعالى له فيه، وهو حضور الأجل.

فألزموا على ذلك أن يغوص الملك في الماء مع الغريق ليقبض روحه تحت الماء، فالتزموا ذلك، وقالوا: ليس بمستحيل أن يتخلل الملك الماء في مسام الماء، فإن فيه مسام ومنافذ، وفي كل جسم، على قاعدتهم في إثبات المسام في الأجسام.

قالوا: ولو فرضنا أنه لا مسام فيه، لم يبعد أن يلجه الملك فيوسع لنفسه مكانا، كما يلجه الحجر والسمك، وغيرهما. وكالريح الشديدة التي تقرع ظاهر البحر فتقعره وتحفره، وقوة الملك أشد من قوة الريح. انتهى.

والأولى الوقوف، فيما لم تعلم كيفيته، عند متلوه وعدم مجاوزته، أدبا عن التهجم على الغيب وتورعا عن محاولة ما لا يبلغ كنهه، وأسوة بما مضى عليه من لم يخض فيه، وهم الخيرة والأسوة، والله أعلم.

ولو ترى إذ المجرمون وهم القائلون تلك المقالة الشنعاء: ناكسو رءوسهم عند ربهم أي: مطأطئوها من الحياء والخزي، لما قدمت أيديهم: ربنا أي: يقولون ربنا: أبصرنا [ ص: 4814 ] وسمعنا أي: علمنا ما لم نعلم، وأيقنا بما لم نكن به موقنين: فارجعنا أي: إلى الدنيا: نعمل صالحا إنا موقنون أي: مقرون بك، وبكتابك، ورسولك، والجزاء.
القول في تأويل قوله تعالى:

[13 - 14] ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون

ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها أي: تقواها: ولكن حق القول مني أي: في القضاء السابق: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين أي: سبق القول حيث قلت لإبليس، عند قوله: لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين أي: فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم، بل منعناه من أتباع إبليس، الذين هؤلاء من جملتهم حيث صرفوا اختيارهم إلى الغي والفساد، ومشيئته تعالى لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها، فلما لم يختاروا الهدى، واختاروا الضلالة، لم يشأ إعطاءه لهم، وإنما آتاه الذين اختاروه من النفوس البرة، وهم المعنيون بما سيأتي من قوله تعالى: إنما يؤمن بآياتنا الآية. فيكون مناط عدم مشيئة إعطاء الهدى في الحقيقة سوء اختيارهم، لا تحقق القول. أفاده أبو السعود.

فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا أي: تركتم الإقرار به، والإيمان بصدق موعوده، وعاملتموه معاملة المنسي المهجور: إنا نسيناكم أي: جازيناكم جزاء [ ص: 4815 ] نسيانكم، أو تركناكم في العذاب ترك المنسي: وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون أي: من الموبقات، والتكرير للتأكيد والتشديد، وتعيين الفعل المطوي للذوق.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 30-12-2024, 08:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,559
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4815 الى صـ 4825
الحلقة (496)





القول في تأويل قوله تعالى:

[15 - 16] إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون .

إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها أي: وعظوا: خروا سجدا لسرعة قبولهم لها بصفاء فطرتهم، وذلك تواضعا لله وخشوعا، وشكرا على ما رزقهم من الإسلام: وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون أي: عن الانقياد لها، كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة، قال تعالى: إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين تتجافى جنوبهم عن المضاجع أي: ترتفع وتتنحى عن الفرش ومواضع النوم. والجملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم، وهم المتهجدون بالليل: يدعون ربهم أي: داعين له: خوفا من عذابه: وطمعا في رحمته: ومما رزقناهم أي: من المال: ينفقون أي: في وجوه البر والحسنات.
القول في تأويل قوله تعالى:

[17 - 20] فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون [ ص: 4816 ] أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نـزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون .

فلا تعلم نفس ما أخفي لهم أي: ما ذخر، وأعد أي: لهؤلاء الذين عددت مناقبهم: من قرة أعين أي: مما تقر به عينهم من طيبة النفس والثواب والكرامة في الجنة: جزاء بما كانوا يعملون أي: في الدنيا من الأعمال الصالحة.

أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا أي: كافرا جاحدا: لا يستوون أي: في الآخرة بالثواب والكرامة، كما لم يستووا في الدنيا بالطاعة والعبادة، ثم فصل مراتب الفريقين بقوله: أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نـزلا أي: ثوابا: بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وكقوله تعالى: كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها كناية عن دوام عذابهم واستمراره: وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون أي: يقال لهم ذلك، تشديدا عليهم، وزيادة في غيظهم، وتقريعا وتوبيخا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[21 - 22] ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون .

[ ص: 4817 ] ولنذيقنهم أي: أهل مكة: من العذاب الأدنى أي: عذاب الدنيا، من الجدب، والقتل، والأسر: دون العذاب الأكبر يعني عذاب الآخرة: لعلهم يرجعون أي يتوبون عن الكفر أي: يرجعون إلى الله عند تصفية فطرتهم بشدة العذاب الأدنى، قبل الرين بكثافة الحجاب: ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها أي: جحدها وكفر بها: إنا من المجرمين منتقمون أي: بالعذاب، وإظهار المتقين عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[23 - 24] ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون

ولقد آتينا موسى الكتاب أي: التوراة: فلا تكن في مرية من لقائه أي: لقاء الكتاب الذي هو القرآن، وعود الضمير إلى الكتاب المتقدم، والمراد غيره على طريق الاستخدام، أو إرادة العهد، أو تقدير مضاف، أي: تلقي مثله، أي: فلا تكن في مرية من كونه وحيا متلقى من لدنه تعالى. والمعنى: إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقيناه من الوحي مثل ما لقيناك، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله.

ونهيه صلى الله عليه وسلم عن الشك، المقصود به نهي أمته، والتعريض بمن صدر منه مثله: وجعلناه هدى لبني إسرائيل أي: من الضلالة: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا أي: قادة بالخير يدعون الخلق إلى أمرنا وشرعنا: لما صبروا أي: على العمل به، والاعتصام بأوامره: وكانوا بآياتنا يوقنون أي: يصدقون أشد التصديق وأبلغه. والمعنى كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه، هدى لأمتك، ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية.

ويؤخذ من فحوى الآية، أن بني إسرائيل لما نبذوا الاعتصام بالكتاب، ونبذوا الصبر على الأمر بالمعروف، والنهي [ ص: 4818 ] عن المنكر، وفقدوا الاستيقان بحقية الإيمان، فغيروا وبدلوا، سلبوا ذلك المقام، وأديل عليهم انتقاما منهم; وتلك سنته تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ففي طي هذا الترغيب، ترهيب وأي ترهيب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[25 - 27] إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون .

إن ربك هو يفصل أي: يقضي: بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أي: فيميز الحق من الباطل، بتمييز المحق من المبطل: أولم يهد لهم أي: يتبين لكفار مكة: كم أهلكنا من قبلهم من القرون أي: الماضية بعذاب الاستئصال: يمشون في مساكنهم أي: منازلهم، كمنازل قوم شعيب، وهود، وصالح، ولوط عليهم السلام، فلا يرون فيها أحدا ممن كان يعمرها ويسكنها، ذهبوا كأن لم يغنوا فيها; كما قال: فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك أي: فبما فعلنا بهم: لآيات أي: عبرا، ومواعظ، ودلائل متناظرة: أفلا يسمعون أي: أخبار من تقدم، كيف صار أمرهم بسبب تكذيبهم الرسل، وبغيهم الفساد في الأرض، فيحملهم ذلك على الإيمان.

أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز وهي التي جزر نباتها، أي: قطع: فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم يعني العشب والثمار والبقول: أفلا يبصرون أي: فيستدلون به على كمال قدرته، ووجوب [ ص: 4819 ] انفراده بالإلهية. وهذا كآية: فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا الآية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[28 - 29] ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون

ويقولون أي: كفار مكة: متى هذا الفتح أي: الانتصار علينا، استعجال لوقوع البأس الرباني عليهم، الذي وعدوا به، واستبعاد له، إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون لحلول ما يغشي الأبصار، ويعمي البصائر، وظهور منار الإيمان، وزهوق الفريق الكافر.

قال ابن كثير : أي: إذا حل بكم بأس الله، وسخطه، وغضبه في الدنيا والآخرة، لا ينفع الذين كفروا إيمانهم، ولا هم ينظرون، كما قال تعالى: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم الآيتين. ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتح مكة، فقد أبعد النجعة، وأخطأ فأفحش، فإن يوم الفتح، قد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام الطلقاء، وقد كانوا قريبا من ألفين، ولو كان المراد فتح مكة، لما قبل إسلامهم لقوله تعالى: قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل، كقوله: فافتح بيني وبينهم فتحا وكقوله: قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق الآية. وقال تعالى: واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد وقال تعالى: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح
[ ص: 4820 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[30] فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون

فأعرض عنهم أي: عن المشركين، ولا تبال بهم، وبلغ ما أنزل إليك من ربك: وانتظر أي: النصرة عليهم، فإن الله سينجز لك ما وعدك، إنه لا يخلف الميعاد: إنهم منتظرون أي: ما في نفوسهم، كقوله تعالى: أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ويتربص بكم الدوائر أي: وسيجدون مغبة انتظارهم من وبيل عقابه تعالى، وأليم عذابه بهم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

33- سُورَةُ الْأَحْزَابِ


سميت بها، لأن قصتها معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. متضمنة لنصره بالريح والملائكة. بحيث كفى الله المؤمنين القتال. وقد ميز بهم بين المؤمنين والمنافقين. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايمي.

وهي مدنية. وآياتها ثلاث وسبعون آية. وروى الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال: لقد رأيتها وإنها تعادل سورة البقرة. ولقد قرأنا فيها (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم).

وقال ابن كثير : وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضا.

والله أعلم. انتهى.

قلت: كان يصح هذا الاقتضاء، لو كان هذا الأثر صحيحا. أما ولم يخرجه أرباب الصحاح، فهو من الضعف بمكان.

[ ص: 4822 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[1] يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما .

يا أيها النبي اتق الله نودي صلوات الله عليه بوصفه دون اسمه، تعظيما له. وباب المخاطبة يعدل فيها عن النداء بالاسم تكريما للمخاطب، ولا كذلك باب الأخبار فقد يصرح فيها بالاسم، والتعظيم باق كآية: محمد رسول الله لتعليم الناس بأنه رسول الله، وتلقينهم أن يسموه بذلك، ويدعوه به، وأمره عليه السلام بالتقوى تفخيما وتعظيما للتقوى نفسها، حيث أمر بها مثله; فإن مراتبها لا تنتهي، مع أن المقصود الدوام والثبات عليها، ولم يجعل الأمر لأمته كما في نظائره; لأن سياق ما بعده لأمر يخصه، كقصة زيد رضي الله عنه: ولا تطع الكافرين والمنافقين أي: لا توافقهم على أمر، ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة، وجانبهم واحترس منهم; فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، لا يريدون إلا المضارة والمضادة: إن الله كان عليما حكيما أي: فهو أحق بأن تتبع أوامره ويطاع; لأنه العليم بعواقب الأمور، وبالمصالح من المفاسد، والحكيم الذي لا يفعل شيئا، ولا يأمر به، إلا بداعي الحكمة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[2 - 4] واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا [ ص: 4823 ] وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

واتبع ما يوحى إليك من ربك أي: في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك: إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا أي: أسند أمرك إليه، وكله إلى تدبيره، فكفى به حافظا موكولا إليه كل أمر: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم قال الزمخشري : أي: ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوة ودعوة في رجل. والمعنى: إن الله سبحانه، كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين; لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها- وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها، عالما ظانا، موقنا شاكا، في حالة واحدة- لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة أما لرجل زوجا له; لأن الأم مخدومة، مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره، كالمملوكة. وهما حالتان متنافيتان.

وأن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل، وابنا له; لأن البنوة أصالة النسب، وعراقة فيه، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل، وهذا مثل ضربه الله في ( زيد بن حارثة )، وهو رجل من كلب سبي صغيرا، وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، وطلبه أبوه وعمه فخير، فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه، وكانوا يقولون: ( زيد بن محمد ). فأنزل الله [ ص: 4824 ] هذه الآية، وقوله: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم

والتنكير في: (رجل)، وإدخال (من)، الاستغراقية على (قلبين)، تأكيدان لما قصد من المعنى كأنه قال: ما جعل الله لأمة الرجال، ولا لواحد منهم، قلبين البتة في جوفه.

وفائدة ذكر (الجوف)، كالفائدة في قوله: القلوب التي في الصدور وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصور والتجلي للمدلول عليه; لأنه إذا سمع به، صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإنكار. ومعنى: (ظاهر من امرأته)، قال لها: أنت علي كظهر أمي. وكان الظهار طلاقا عند أهل الجاهلية، فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها، كما يتجنبون المطلقة، وهو في الإسلام يقتضي الطلاق والحرمة إلى أداء الكفارة.

قال الأزهري : وخصوا (الظهر); لأنه محل الركوب. والمرأة تركب إذا غشيت، فهو كناية تلويحية، انتقل من الظهر إلى المركوب، ومنه إلى المغشي. والمعنى: أنت محرمة علي لا تركبين كما لا تركب الأم. كذا في (الكشف).

وقوله تعالى: ذلكم إشارة إلى كل ما ذكر; أي: من كونه ليس لأحد قلبان، وليست الأزواج أمهات، ولا الأدعياء أبناء، أو إلى الأخير فقط وهو الدعوة: قولكم بأفواهكم أي: لا حقيقة له فلا يقتضي دعواكم ذلك، أن يكون ابنا حقيقيا; فإنه مخلوق من صلب رجل آخر فلا يمكن أن يكون له أبوان، كما لا يمكن أن يكون لبشر واحد قلبان: والله يقول الحق أي: الثابت المحقق في نفس الأمر: وهو يهدي السبيل أي: سبيل الحق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[5] ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم [ ص: 4825 ] في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما .

ادعوهم لآبائهم أي: انسبوهم إليهم، وهو إفراد للمقصود من أقواله تعالى الحقة: هو أقسط عند الله أي: أعدل وأحكم. قال ابن كثير : هذا الأمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام، من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط والبر. روى البخاري عن ابن عمر قال: إن زيد بن حارثة رضي الله عنه، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد ، حتى نزل القرآن: ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله وأخرجه مسلم وغيره.

وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك، ولهذا قالت سهلة بنت سهيل ، امرأة أبي حذيفة رضي الله عنها: يا رسول الله! إنا ندعو سالما ابنا، وإن الله قد أنزل ما أنزل، وإنه كان يدخل علي، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا. فقال صلى الله عليه وسلم: « أرضعيه تحرمي عليه.. » الحديث. ولهذا لما نسخ هذا الحكم، أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقال عز وجل: لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وقال تبارك وتعالى في آية التحريم: وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم احترازا عن زوجة الدعي، فإنه ليس من الصلب.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 30-12-2024, 08:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,559
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4826 الى صـ 4836
الحلقة (497)



[ ص: 4826 ] فأما الابن من الرضاعة، فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا، بقوله صلى الله عليه وسلم في (الصحيحين): « حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب » .

فأما دعوة الغير ابنا، على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهى عنه في هذه الآية، بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، إلا الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من (جمع) فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: « أبيني! ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس » .

قال أبو عبيدة وغيره: (أبيني)، تصغير (ابني). وهذا ظاهر الدلالة; فإن هذا في حجة الوداع سنة عشر.

وفي مسلم عن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا بني » . رواه أبو داود والترمذي . انتهى كلام ابن كثير .

وفي ذهابه إلى أن الأمر في الآية ناسخ نظر; لأن الناسخ لا بد أن يرفع خطابا متقدما، وأما ما لا خطاب فيه سابقا، بل ورد حكما مبتدأ رفع البراءة الأصلية، فلا يسمى نسخا اصطلاحا. فاحفظه; فإنه مهم ومفيد في عدة مواضع.

[ ص: 4827 ] ولما أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم، إن عرفوا، أشار إلى دعوتهم بالإخوة والمولوية إن لم يعرفوا، بقوله سبحانه: فإن لم تعلموا آباءهم أي: فتنسبوهم إليهم: فإخوانكم أي: فهم إخوانكم: في الدين ومواليكم أي: أولياؤكم فيه; أي: فقولوا: هذا أخي، وهذا مولاي، ويا أخي ويا مولاي: وليس عليكم جناح أي إثم: فيما أخطأتم به أي: فيما فعلتموه من نسبة بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة، مخطئين بالسهو أو النسيان، أو سبق اللسان; لأن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ، ورفع إثمه: ولكن ما تعمدت قلوبكم أي: ففيه الجناح; لأن من تعمد الباطل كان آثما: وكان الله غفورا رحيما أي: لعفوه عن المخطئ.
القول في تأويل قوله تعالى:

[6] النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا

النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم أي: في كل شيء من أمور الدين والدنيا، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأن يبذلوها دونه، ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب، ووقاءه إذا لقحت حرب، وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم، ولا ما تصرفهم عنه، ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفهم عنه; لأن كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة، والظفر بسعادة الدارين، وما صرفهم عنه، فأخذ بحجزهم لئلا يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار. أفاده الزمخشري .

وهذا كما قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم [ ص: 4828 ] لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وفي (الصحيح): « والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، وماله، وولده، والناس أجمعين » : وأزواجه أمهاتهم أي: في وجوب تعظيمهن واحترامهن، وتحريم نكاحهن، وفيما عدا ذلك كالأجنبيات; ولذا قال ابن كثير : ولكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع، وإن سمى بعض العلماء بناتهن، أخوات المؤمنين، كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في (المختصر) وهو من باب إطلاق العبارة، لا إثبات الحكم، وهل يقال لمعاوية وأمثاله، خال المؤمنين؟ فيه قولان: وعن الشافعي أنه يقال ذلك. وهل يقال له صلى الله عليه وسلم: أبو المؤمنين؟ فيه قولان: فصح عن عائشة المنع، وهو أصح الوجهين للشافعية لقوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وروي عن أبي بن كعب وابن عباس رضي الله عنهما، أنهما قرآ: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم). وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن ، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما أنا لكم بمنزلة الوالد، أعلمكم. فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستطيب بيمينه » . أفاده ابن كثير .

وأولو الأرحام أي: ذوو القرابات: بعضهم أولى ببعض في كتاب الله أي: فيما فرضه، أو فيما أوحاه إلى نبيه عليه السلام: من المؤمنين والمهاجرين بيان لأولي الأرحام، أو صلة لـ: "أولي": إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم أي: إخوانكم المؤمنين والمهاجرين غير الرحم: معروفا أي: من صدقة ومواساة وهدية ووصية; فإن بسط اليد في المعروف مما حث الله عباده عليه، ويشارك فيه مع ذوي القربى وغيرهم.

[ ص: 4829 ] تنبيه:

قال في (الإكليل): استدل بقوله تعالى: وأولو الأرحام الآية، من ورث ذوي الأرحام. انتهى.

وهو استدلال متين، وليس مع المخالف ما يقاومه، بل فهم كثيرون أن المعني بها، أن القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار، وأنها ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة، التي كانت بينهم، ذهابا إلى ما روي عن الزبير وابن عباس : أن المهاجري كان يرث الأنصاري، دون قراباته وذوي رحمه، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنزل الله الآية. فرجعنا إلى مواريثنا.

إلا أن الاستدلال بذلك هو من عموم الأولوية، لا أنها خاصة بالمدعي فيها، كما أسلفنا بيانه مرارا: كان ذلك في الكتاب مسطورا أي: في القرآن، أو في قضائه وحكمه، وما كتبه وفرضه، مقررا لا يعتريه تبديل ولا تغيير.
القول في تأويل قوله تعالى:

[7] وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا

وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم أي أخذنا عهودهم بتبليغ الرسالة، والدعاء إلى الحق، والتعاون والتناصر والاتفاق، وإقامة الدين، وعدم التفرق فيه، كما قال تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين قال أبو السعود: وتخصيصهم بالذكر، يعني قوله: ومنك إلخ مع اندراجهم [ ص: 4830 ] في النبيين، للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم، وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع، وأساطين أولي العزم، وتقديم نبينا عليهم، عليهم الصلاة والسلام، لإبانة خطره الجليل. انتهى.

وقال في (الانتصاف): وليس التقديم في الذكر بمقتض لذلك، ألا ترى إلى قوله:


بهاليل منهم جعفر وابن أمه علي ومنهم أحمد المتخير


فأخر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليختم به تشريفا له. وإذا ثبت أن التفضيل ليس من لوازمه التقديم، فيظهر، والله أعلم في سر تقديمه عليه الصلاة والسلام، على نوح ومن بعده في الذكر، أنه هو المخاطب من بينهم، والمنزل عليه هذا المتلو، فكان تقديمه لذلك.

ثم لما قدم ذكره عليه الصلاة والسلام، جرى ذكر الأنبياء، صلوات الله عليهم بعده على ترتيب أزمنة وجودهم. والله أعلم. انتهى.

وقد صرح بأولي العزم هنا، وفي آية: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه قال ابن كثير : فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها وأخذنا منهم ميثاقا غليظا أي: عهدا عظيم الشأن، وكيف لا؟ وقد يعترضه من الماكرين والمحادين والمشاقين، ما تزول منه الجبال، لولا الاعتصام بالصبر عليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[8 - 9] ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا

ليسأل الصادقين عن صدقهم أي: فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء. ووضع [ ص: 4831 ] الصادقين موضع ضميرهم، لإيذان من أول الأمر، بأنهم صادقون فيما سئلوا عنه، وإنما السؤال لحكمة تقتضيه، أي: ليسأل الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عما قالوه لقومهم، أو عن تصديقهم إياها تبكيتا لهم. كما في قوله تعالى: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم أو المصدقين لهم عن تصديقهم. أفاده أبو السعود وأعد للكافرين عذابا أليما أي: لمن كفر من أممهم عذابا موجعا. ونحن -كما قال ابن كثير - نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، ونصحوا الأمم، وأفصحوا لهم عن الحق المبين الواضح الجلي، الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء، وإن كذبهم من كذبهم من الجهلة، والمعاندين، والمارقين، والقاسطين، فما جاءت به الرسل هو الحق، ومن خالفهم فهو على الضلال. انتهى.

يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم أي: ما أنعم به عليكم يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق: إذ جاءتكم جنود وهم الأحزاب: فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وهم الملائكة، أو ما أتى من الريح من طيور الجو وجراثيمه، المشوشة للقار المقلقلة للهادئ: وكان الله بما تعملون بصيرا
القول في تأويل قوله تعالى:

[10 - 13] إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا [ ص: 4832 ] ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا

إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم أي: من أعلى الوادي وأسفله، بقصد التحزب على أن يكونوا جملة واحدة على استئصال النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبه: وإذ زاغت الأبصار أي: مالت عن سننها ومستوى نظرها، حيرة وشخوصا: وبلغت القلوب الحناجر أي: منتهى الحلقوم; لأن بالفزع تنتفخ الرئة فترتفع، وبارتفاعها ترتفع القلوب، وذلك من شدة الغم. أو هو مثل في اضطراب القلوب وتظنون بالله الظنونا أي: أنواع الظنون المختلفة: هنالك ابتلي المؤمنون أي: اختبروا ليتميز الثابت من المتزلزل، والمؤمن من المنافق: وزلزلوا زلزالا شديدا أي: أزعجوا أشد الإزعاج من شدة الخوف والفزع، أو من كثرة الأعداء.

فائدة:

قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر : "الظنونا" بإثبات ألف بعد النون، وبعد لام الرسول، في قوله: وأطعنا الرسولا ولام السبيل، في قوله: فأضلونا السبيلا وصلا ووقفا، موافقة للرسم; لأن هذه الثلاثة رسمت في المصحف، كذلك، وأيضا فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة. وهاء السكت تثبت وقفا للحاجة إليها، وقد ثبتت وصلا إجراء للوصل مجرى الوقف. فكذلك هذه الألف.

وقرأ أبو عمرو وحمزة بحذفها في الحالتين; لأنها لا أصل لها، وقولهم: (أجريت الفواصل مجرى القوافي). غير معتد به; لأن القوافي يلزم الوقف عليها غالبا، والفواصل لا يلزم ذلك فيها، فلا تشبه بها، والباقون بإثباتها وقفا، وحذفها وصلا، إجراء للفواصل مجرى القوافي، في ثبوت ألف الإطلاق، ولأنها كهاء السكت، وهي تثبت وقفا، وتحذف وصلا. أفاده السمين.

ثم أشار تعالى إلى ما ظهر من المنافقين في تلك الشدة، بقوله سبحانه: وإذ يقول [ ص: 4833 ] المنافقون والذين في قلوبهم مرض أي: شبهة، تنفسا بما يجدونه من الوسواس في نفوسهم، وفرصة لانطلاق ألسنتهم، بما تكن صدورهم; لضعف إيمانهم وشدة ما هم فيه من ضيق الحال، وحصر العدو لهم: ما وعدنا الله ورسوله أي: من النصر: إلا غرورا أي: باطلا: وإذ قالت طائفة منهم أي: المنافقين: يا أهل يثرب وهي أرض المدينة: لا مقام لكم بضم الميم وفتحها، قراءتان; أي: لا إقامة لكم بعد اليوم بالمدينة، أو نواحيها لغلبة الأعداء: فارجعوا أي: إلى منازلكم من المدينة هاربين، أو فارجعوا عن الإسلام كفارا ليمكنكم المقام.

فائدة:

(يثرب) من أسماء المدينة. كما في (الصحيح): « أريت في المنام دار هجرتكم، أرض بين حرتين، فذهب وهلي أنها هجر، فإذا هي يثرب » وفي لفظ: « المدينة » .

قال ابن كثير : فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سمى المدينة (يثرب) فليستغفر الله تعالى، إنما هي طابة هي طابة » . تفرد به الإمام أحمد ، وفي إسناده ضعف. انتهى ويستأذن فريق منهم النبي أي: في الرجوع: يقولون إن بيوتنا عورة أي: غير حصينة يخشى عليها: وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا
القول في تأويل قوله تعالى:

[14 - 16] ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا [ ص: 4834 ] ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا

ولو دخلت أي: يثرب: عليهم من أقطارها أي: بأن دخل عليهم العدو من سائر جوانبها، وأخذ في النهب والسلب: ثم سئلوا الفتنة أي: الرجعة إلى الكفر: لآتوها أي: لفعلوها: وما تلبثوا بها إلا يسيرا أي: وما توقفوا بإعطائها إلا ريثما يكون السؤال والجواب; أي: فهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به، مع أدنى خوف وفزع. وهذا منتهى الذم لهم، ثم ذكرهم تعالى بما كانوا عاهدوه من قبل بقوله: ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل أي: من قبل هذا الخوف: لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا أي: عن الوفاء به: قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل أي: لأنه لا يؤخر آجالهم، ولا يطول أعمارهم. بل ربما كان ذلك سببا في تعجيل أخذهم غرة انتقاما منهم، ولهذا قال: وإذا أي: فررتم: لا تمتعون إلا قليلا أي: في الدنيا بعد فراركم، أو لأنهم فقدوا بذلك حظهم الأخروي، فمهما متعوا في الدنيا، فإنه قليل بجانب نعيم الآخرة للصابرين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[17 - 19] قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا [ ص: 4835 ] أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا

قل من ذا الذي يعصمكم أي: يجيركم: من الله إن أراد بكم سوءا أي: هلاكا أو هزيمة: أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا أي: مجيرا ولا مغيثا يدفع عنهم الضر: قد يعلم الله المعوقين منكم أي: المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم المنافقون. قال الشهاب: و (قد): للتحقيق، أو لتقليله باعتبار متعلقه، وبالنسبة لغير معلوماته. انتهى والقائلين لإخوانهم أي: من ساكني المدينة: هلم إلينا أي: أقبلوا إلى ما نحن فيه من الضلال والثمار: ولا يأتون البأس أي: القتال: إلا قليلا أي: إلا إتيانا قليلا; لأنهم يتثبطون ما أمكن لهم: أشحة عليكم أي: بخلاء بالمعونة والنفقة والمودة عليكم، أو أضناء بكم ظاهرا، إن لم يحضر خوف: فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم أي: في أحداقهم: كالذي يغشى عليه من الموت } أي: كنظره أو كدورانه: فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أي: بالغوا فيكم بالكلام طعنا وذما، فأحرقوكم وآذوكم، وأصل (السلق): بسط العضو ومده للقهر، كان يدا أو لسانا، ويجوز أن يشبه اللسان بالسيف على طريق الاستعارة المكنية، ويثبت له السلق وهو الضرب تخييلا: أشحة على الخير أي: على فعله: أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا
[ ص: 4836 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[20 - 21] يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا

يحسبون الأحزاب لم يذهبوا أي: لم ينهزموا بما أرسل عليهم من الريح والجنود، وأن لهم عودة إليهم لخورهم واضطرابهم: وإن يأت الأحزاب أي: مرة أخرى: يودوا لو أنهم بادون في الأعراب أي: فلا يذهبون إلى قتالهم، ولا يستقرون في المدينة، بل يتمنون أنهم خارجون إلى البدو بين الأعراب، وإن لحقهم عار جبنهم: يسألون أي: القادمين: عن أنبائكم أي: عما جرى لكم، ثم أشار تعالى إلى أنه لا يضر خروجهم عن المدينة، لو أتى الأحزاب، بقوله: ولو كانوا فيكم أي: في حدوث واقعة ثانية: ما قاتلوا إلا قليلا أي: رياء وخوفا من التعيير.

لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي: في أخلاقه وأفعاله قدوة حسنة; إذ كان منها ثباته في الشدائد وهو مطلوب، وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب، ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة، لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة أو كبيرة، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي، ويهد الصياصي، وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي، ومن صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى، وهو الرفيع الشأن، كان غيره أجدر إن كان ممن يتبع بإحسان: لمن كان يرجو الله واليوم الآخر أي: رضوان الله، ورحمته، وثواب اليوم الآخر، ونجاته; فإنه يؤثرهما على الحياة الدنيا، فلا يجبن; إذ لا يصح الجبن لمن صح اقتداؤه برسول الله صلى الله عليه وسلم، لغاية قبحه: وذكر الله كثيرا أي: وقرن بالرجاء ذكره تعالى بكثرة; أي: ذكر أمره [ ص: 4837 ] ونهيه ووعده ووعيده، فأدرك مواطن السعادة ومهاوي الشقاوة، وعلم أن في الثبات على قتل العدو، تطهير الأرض من الفساد، وتزيينها بالحق والصلاح والسداد، مما جزاؤه سعادة الدارين، والفوز بالحسنيين.

ثم بين تعالى ما كان من المؤمنين المخلصين في تلك الشدة، بعد بيان ما كان من غيرهم، بقوله سبحانه:


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 30-12-2024, 08:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,559
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4837 الى صـ 4847
الحلقة (498)




القول في تأويل قوله تعالى:

[22 - 23] ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .

ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله أي: لأنه تعالى وعدهم أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه، في قوله: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم وكذلك حدثهم الرسول صلوات الله عليه بالابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر والأمان: وصدق الله ورسوله أي: ظهر صدقهما فيما وعدانا به: وما زادهم أي: هذا الخطب والبلاء، عند تزلزل المنافقين وبث أراجيفهم: إلا إيمانا أي: بالله ورسوله، ومواعيدهما: وتسليما أي: لأمر الله ومقاديره.

من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في الصبر والثبات، والقيام بما كتب عليهم من القتال، لإعلاء كلمة الحق، ومن العمل بالصالحات، ومجانبة السيئات: فمنهم من قضى نحبه أي: أدى ما التزمه ووفى به، فقاتل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، صادقا حتى قتل شهيدا.

[ ص: 4838 ] قال الشهاب: أصل معنى (النحب) النذر، وقضاؤه الوفاء به. وقد كان رجال من الصحابة رضي الله عنهم نذروا أنهم إذا شهدوا معه صلى الله عليه وسلم حربا، قاتلوا حتى يستشهدوا. وقد استعير: (قضاء النحب)، للموت; لأنه لكونه لا بد منه، مشبه بالنذر الذي يجب الوفاء به، فيجوز أن يكون هنا حقيقة، أو استعارة من المشاكلة فيه. انتهى.

ومنهم من ينتظر أي: ما وعد الله به من نصره والشهادة على ما مضى عليه أصحابه: وما بدلوا تبديلا أي: ما غيروا شيئا من العهد، ولا نقضوه كنقض المنافقين في توليهم: ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار ففيه كناية تعريضية تفهم من تخصيصهم به، والتصريح بالمصدر لإفادة العموم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[24 - 25] ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا .

ليجزي الله الصادقين أي: في عهودهم: بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا بغيظهم أي: كمال غضبهم بما أرسله من الريح والجنود، بفضله ورحمته: لم ينالوا خيرا أي: نصرا لا غنيمة: وكفى الله المؤمنين القتال أي: فلم يحوجهم إلى مبارزتهم ليجلوهم عن المدينة. بل تولى كفاية ذلك وحده; ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده » : وكان الله [ ص: 4839 ] قويا أي: فلا يعارض قوته قوة شيء: عزيزا أي: غالبا على أمره.

(ذكر تفصيل نبأ الأحزاب المسمى بغزوة الخندق)

قال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد): كانت غزوة الخندق في سنة خمس من الهجرة، في شوال على أصح القولين; إذ لا خلاف أن أحدا كانت في شوال سنة ثلاث، وواعد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل وهي سنة أربع، ثم أخلفوه لأجل جدب السنة، فرجعوا، فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه. هذا قول أهل السير والمغازي، وخالفهم موسى بن عقبة وقال: بل كانت سنة أربع. قال أبو محمد ابن حزم: وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه. واحتج عليه بحديث ابن عمر في (الصحيحين): أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه. قال: وصح أنه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة. وأجيب عن هذا بجوابين: أحدهما- أن ابن عمر أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم رده لما استصغره عن القتال، وأجازه لما وصل إلى السن التي رآه فيها مطيقا، وليس في هذا ما ينفي تجاوزها بسنة أو نحوها.

والثاني- أنه لعله كان يوم أحد في أول الرابع عشرة، ويوم الخندق في آخر الخامس عشرة.

ثم قال ابن القيم رحمه الله: وكان سبب غزوة الخندق، أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أحد، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين، فخرج لذلك ثم رجع للعام المقبل، خرج أشرافهم كسلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع وغيرهم إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم، ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك، فاستجاب لهم من استجاب.

فخرجت [ ص: 4840 ] قريش، وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمر الظهران، وخرجت بنو أسد، وفزارة، وأشجع، وبنو مرة، وجاءت غطفان، وقائدهم عيينة بن الحصن، وكان قد وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف.

فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه، استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبادر إليه المسلمون، وعمل بنفسه فيه وبادروا، وهجم الكفار عليهم، وكان في حفره آيات نبوته وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به، وكان حفر الخندق أمام سلع. وسلع جبل خلف ظهور المسلمين، والخندق بينهم وبين الكفار، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فتحصن بالجبل من خلفه، وبالخندق أمامهم.

وقال ابن إسحاق : خرج في سبعمائة. (وهذا غلط من خروجه يوم أحد).

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة، واستخلف عليها ابن أم مكتوم ، وانطلق حيي بن أخطب إلى بني قريظة، فدنا من حصنهم. فأبى كعب بن أسد أن يفتح له، فلم يزل يكلمه حتى فتح له، فلما دخل عليه قال: لقد جئتكم بعز الدهر; جئتك بقريش، وغطفان، وأسد على قادتها لحرب محمد. قال: قال كعب : جئتني، والله! بذل الدهر وبجهام قد أراق ماءه، فهو رعد وبرق. فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل مع المشركين في محاربته، فسر بذلك المشركون. وشرط كعب على حيي أنه إن لم يظفروا بمحمد، أن يجيء حتى يدخل معه في حصنه، فيصيبه ما أصابه. فأجابه إلى ذلك، ووفى له به. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بني قريظة، ونقضهم للعهد، فبعث إليهم السعدين، وخوات بن جبير ، وعبد الله بن رواحة ليعرفوه: هل هم على عهدهم، أو قد نقضوه. فلما دنوا منهم فوجدوهم على أخبث ما يكون، وجاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرفوا عنهم، ولحنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحنا يخبرونه أنهم قد نقضوا العهد وغدروا. فعظم ذلك على المسلمين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: « الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين » . [ ص: 4841 ] واشتد البلاء وتجهر النفاق، واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة وقالوا: بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا. وهم بنو سلمة بالفشل، ثم ثبت الله الطائفتين.

وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا، ولم يكن بينهم قتال; لأجل ما حال الله به من الخندق، بينهم وبين المسلمين، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وجماعة معه، أقبلوا نحو الخندق، فلما وقفوا عليه قالوا: إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، ودعوا إلى البراز، فانتدب لعمرو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فبارزه فقتله الله على يديه، وكان من شجعان المشركين وأبطالهم، وانهزم الباقون إلى أصحابهم. وكان شعار المسلمين يومئذ: (حـم لا ينصرون).

ولما طالت هذه الحال على المسلمين، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف ، رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، وينصرفا بقومهما، وجرت المراوضة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك فقالا: يا رسول الله! إن كان الله أمرك بهذا، فسمعا وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا، فلا حاجة لنا فيه. لقد كنا نحن هؤلاء القوم على الشرك بالله، وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله! لا نعطيهم إلا السيف. فصوب رأيهما وقال: « إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة » .

ثم إن الله عز وجل، وله الحمد، صنع أمرا من عنده، خذل به بين العدو، وهزم جموعهم، وفل حدهم; فكان مما هيأ من ذلك، أن رجلا من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر ، رضي الله عنه، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني قد أسلمت، فمرني بما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت; فإن الحرب خدعة » . فذهب من فوره ذلك إلى بني قريظة، وكان عشيرا لهم [ ص: 4842 ] في الجاهلية، فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال: يا بني قريظة! إنكم قد حاربتم محمدا، وإن قريشا إن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين، وتركوكم ومحمدا، فانتقم منكم. قالوا: فما العمل يا نعيم؟! قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم مضى على وجهه إلى قريش. قال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم. قالوا: نعم. قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم. ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك، فلما كان ليلة السبت من شوال بعثوا إلى يهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا. فأرسل إليهم اليهود: إن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا، فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا لنا رهائن. فلما جاءتهم رسلهم بذلك، قالت قريش صدقكم، والله! نعيم. فبعثوا إلى يهود: إنا، والله! لا نرسل إليكم أحدا، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدا. فقالت قريظة: صدقكم، والله! نعيم. فتخاذل الفريقان: وأرسل الله عز وجل على المشركين جندا من الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدرا إلا كفأتها، ولا طنبا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وجند الله من الملائكة يزلزلونهم ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف. وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيأوا للرحيل. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم برحيل القوم، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رد الله عدوه بغيظه، لم ينالوا خيرا، وكفى الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ثم لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيدا منصورا، والمسلمون معه، ووضعوا السلاح، وكانت الظهر، أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل يأمرك بالمسير إلى بني قريظة -وهم قبيلة من يهود خيبر- فإني عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن في [ ص: 4843 ] الناس: « من كان سامعا مطيعا، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة » . واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، رضوان الله عنه، برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، فسار علي، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق. فقال: يا رسول الله! لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال: « لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى » . قال: نعم، يا رسول الله. قال: « لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا » . وتلاحق به الناس، وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله! صلى الله عليك وسلم، إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل بني قريظة، قد حاصر بني قينقاع وهم شعب من اليهود كانوا بالمدينة، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أبي ابن سلول فوهبهم له.

فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا ترضون، يا معشر الأوس! أن يحكم فيهم رجل منكم؟ » قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فذاك إلى سعد بن معاذ » .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها رفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: « اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب » . فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قومه فحملوه على حمار.

وكان رجلا جسيما جميلا، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: « قوموا إلى سيدكم » فقاموا إليه فأنزلوه.

[ ص: 4844 ] قال ابن كثير : إعظاما وإكراما، واحتراما له، في محل وليته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم. فلما جلس، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت » . وصارت تعرض له الأوس أن يحسن إليهم، وتقول: يا أبا عمرو ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.

فقال رضي الله عنه: عليكم عهد الله وميثاقه، أن الحكم فيهم لما حكمت. قالوا: نعم. قال: وعلى من ها هنا- (في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له)- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نعم » . قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : « لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة » . وفي رواية: « لقد حكمت بحكم الملك » - أي: لأن هذا جزاء الخائن الغادر- وكان سعد أصيب يوم الخندق; رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة، رماه في الأكحل. فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله. وقال سعد : اللهم! إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا، فأبقني لها: فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد، من قوم آذوا رسولك، وكذبوه، وأخرجوه. اللهم! وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. فاستجاب الله تعالى دعاءه، وقدر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم، طلبا من تلقاء أنفسهم.

ثم لما استنزلوا من حصونهم، حبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالا، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، وسبي من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم،
وهذا ما ذكره تعالى من أمر بني قريظة، إثر أمر الخندق بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[26 - 28] وأنـزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا .

وأنـزل الذين ظاهروهم أي: عاونوا الأحزاب، وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل الكتاب يعني بني قريظة، وهم طائفة من اليهود، كان نزل آباؤهم الحجاز لما فروا من الاضطهاد وتشتتوا كل شتات في أطراف البلاد: من صياصيهم أي: حصونهم وآطامهم التي كانوا فيها: وقذف في قلوبهم الرعب أي: الخوف، جزاء وفاقا.

قال ابن كثير : لأنهم كانوا مالئوا المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم -وليس من يعلم كمن لا يعلم- وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليعزوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال وانقلب إليهم القتال، لما انشمر المشركون وراحوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا; ولهذا قال تعالى: فريقا تقتلون وتأسرون فريقا يعني قتل الرجال المقاتلة، وسبي الذراري والنساء.

روى الإمام أحمد عن عطية القرظي قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا في. فأمر بي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا: هل أنبت بعد؟ فنظروني فلم يجدوني أنبت، فخلى عني، وألحقني بالسبي.

[ ص: 4846 ] وكذا رواه أهل السنن كلهم: وقال الترمذي : حسن صحيح.

وأورثكم أرضهم وديارهم حصونهم: وأموالهم أي: نقودهم وأثاثهم ومواشيهم: وأرضا لم تطئوها أي: أرضا لم تقبضوها بعد، يعني خيبر، وقيل مكة. رواه مالك عن زيد بن أسلم . وقيل: فارس والروم، وقال ابن جرير : يجوز أن يكون الجميع مرادا. قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم. وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة، ولم يبق إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها، وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب. قال بعضهم: يالله! ما أسوأ عاقبة الطيش! فقد تكون الأمة مرتاحة البال هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر يظنون من ورائه النجاح، فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم.

وهذا ما حصل لليهود في الحجاز; فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كل منهم الآخر، ولكن اليهود لم يوفوا بتلك العهود حسدا منهم وبغيا. فتم عليهم ما تم، سنة الله في المفسدين، فإن الله لا يصلح أعمالهم: وكان الله على كل شيء قديرا أي: وقد شاهدتم بعض مقدوراته فاعتبروا بغيرها.

يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا أي: السعة والتنعم فيها: وزينتها أي: زخارفها: فتعالين أمتعكن وأسرحكن أي: أعطكن المتعة وأطلقكن. والمتعة: ما يعطى للمرأة المطلقة على حسب السعة والإقتار، من ثياب أو دراهم أو أثاث، تطوعا لا وجوبا. وقوله تعالى: سراحا جميلا أي: طلاقا من غير ضرار ولا بدعة. وقد روي أنهن سألن النبي صلى الله عليه وسلم ثياب الزينة وزيادة النفقة مما ليس عنده. فنزلت الآية. ولما نزلت، بدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها، وكانت أحبهن إليه، فخيرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ثم اختار جميعهن اختيارها، قيل: وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة رضي الله عنهن، ثم صفية بنت حيي النضرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنهن.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 30-12-2024, 08:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,559
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4848 الى صـ 4858
الحلقة (499)





لطيفة:

قال الرازي: وجه التعلق، وهو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله: « الصلاة وما ملكت أيمانكم » . ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله، بقوله: يا أيها النبي اتق الله ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات، فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولذا قدمهن في النفقة. انتهى.


[29 - 30] وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا .

وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة أي: تردن رسوله. قال أبو السعود: وذكر الله عز وجل، للإيذان بجلالة محله عليه السلام، عنده تعالى: فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما أي: لا يقدر قدره. ولما خيرهن النبي صلى الله عليه وسلم، واخترن الله ورسوله، أدبهن الله وهددهن، للتوقي عما يسوء النبي صلى الله عليه وسلم، ويقبح بهن من الفاحشة، وأوعدهن بتضعيف العذاب بقوله تعالى: يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة أي: بين الشرع والعقل قبحها، إن قرئ بالفتح. أو مبينة قبحها بنفسها من غير تأمل، إن قرئ بالكسر: يضاعف لها العذاب ضعفين أي: ضعفي عذاب غيرهن. قال القاضي: لأن الذنب منهن أقبح، فإن زيادة قبحه تتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه، ولذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد، وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم: وكان ذلك على الله يسيرا لعموم قدرته.


[31 - 33] ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا .

ومن يقنت أي: يدم مطيعا: منكن لله ورسوله أي: في إتيان الواجبات، وترك المحرمات والمكروهات: وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين أي: مرة على الطاعة والتقوى، وأخرى على طلبهن رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحسن الخلق، وطيب المعاشرة، والقناعة: وأعتدنا لها أي: زيادة على أجرها المضاعف في الجنة، أو فيها، وفي الدنيا: رزقا كريما أي: حسنا مرضيا: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول أي: عند مخاطبة الناس; أي: فلا تجبن بقولكن لينا خنثا، مثل كلام المريبات والمومسات: فيطمع الذي في قلبه مرض أي: ريبة وفجور: وقلن قولا معروفا أي: بعيدا من طمع المريب بجد وخشونة، من غير تخنيث، أو قولا حسنا مع كونه خشنا.

وقرن في بيوتكن أي: اسكن ولا تخرجن منها. من (وقر يقر وقارا)، إذا سكن. أو من (قر يقر من باب ضرب)، حذفت الأولى من رائي (اقررن)، ونقلت كسرتها إلى القاف، فاستغنى عن همزة الوصل، ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح، من (قررت أقر)، من باب علم. وهي لغة قليلة: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى أي: تبرج النساء أيام جاهلية الكفر الأولى; إذ لا دين يمنعهم ولا أدب يزعهم، والتبرج، فسر بالتبختر والتكسر في المشي، وبإظهار الزينة وما يستدعى به شهوة الرجل، وبلبس رقيق الثياب التي لا تواري جسدها، وبإبداء محاسن الجيد والقلائد والقرط، وكل ذلك مما يشمله النهي; لما فيه من المفسدة والتعرض لكبيرة.

فائدة:

قيل: "الأولى" بمعنى القديمة مطلقا من غير تقييد بزمن. فيستدل بذلك لمن قال: إن الأول لا يستلزم ثانيا. قال في (الإكليل): وهو الأصح عند العلماء. فلو قال: أول ولد تلدينه فأنت طالق، لم يحتج إلى أن تلد ثانيا. انتهى.

وقال الزمخشري : الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء، من الزمن الذي ولد فيه إبراهيم، أو ما قبله، إلى زمن عيسى. والجاهلية ما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما. ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، ويعضده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر ، لما عير رجلا بأمه وكانت أعجمية: « إنك امرؤ فيك جاهلية » .

والمعنى نهيهن عن إحداث جاهلية في الإسلام، تشبه جاهلية الكفر قبله: وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله أي: بموافقة أمرهما ونهيهما. ثم أشار إلى أن مخالفتهما رجس لا يناسب فضل أهل البيت بقوله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا أي: ما أمركن ونهاكن، ووعظكن، إلا خيفة مقارفة المآثم، والحرص على التصون عنها بالتقوى. فالجملة تعليلية لأمرهن ونهيهن على سبيل الاستئناف.

قال الزمخشري : استعار للذنوب (الرجس)، وللتقوى (الطهر); لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها ويتدنس كما يتلوث بدنه بالأرجاس، وأما المحسنات فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به. و: أهل البيت نصب على النداء، أو على المدح. والمراد بهم من حواهم بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن كثير : وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا، لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح. وأما قول عكرمة ، إنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ومن شاء باهلته في ذلك، فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن، فصحيح. وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن، ففي هذا نظر; فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم جمع عليا وفاطمة والحسن والحسين ، ثم جللهم بكساء كان عليه، ثم قال: « هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس » .

وقد ساق ابن كثير طرق هذا الحديث ومخرجيه، إلا أن الشيخين لم يصححاه، ولذا لم يخرجاه، وأما ما رواه مسلم عن حصين بن سبرة، عن زيد بن أرقم ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما بعد، أيها الناس! إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، فحث على كتاب الله عز وجل، ورغب فيه. ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي -قالها ثلاثا- » . فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: آل علي، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس -رضي الله عنهم– فإنما مراد زيد، آله الذين حرموا الصدقة، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله. قال ابن كثير : وهذا احتمال أرجح، جمعا بين القرآن والأحاديث المتقدمة، إن صحت، فإن في بعض أسانيدها نظرا. انتهى.

وقال أبو السعود: وهذه كما ترى آية بينة، وحجة نيرة، على كون نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، قاضية ببطلان رأي الشيعة في تخصيصهم أهلية البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضوان الله عليهم، وأما ما تمسكوا به من حديث الكساء، وتلاوته صلى الله عليه وسلم الآية بعده، فإنما يدل على كونهم من أهل البيت، لا على أن من عداهم ليسوا كذلك، ولو فرضت دلالته على ذلك لما اعتد بها، لكونها في مقابلة النص. انتهى.

بقي أن الشيعة، تمسكوا بالآية أيضا على عصمة علي رضي الله عنه ، وإمامته دون غيره. قال ابن المطهر الحلي منهم: وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظ: "إنما" وإدخال اللام في الخبر، والاختصاص في الخطاب بقوله: ويطهركم تطهيرا وغيرهم ليس بمعصوم إلخ. وأجاب ابن تيمية رحمه الله في (منهاج السنة) بقوله: ليس في هذا دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم. وتحقيق ذلك في مقامين:

أحدهما- أن قوله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا كقوله: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج وكقوله: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وكقوله: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما فإن إرادة الله في هذه الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به، ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد، ولا أنه قضاه وقدره، ولا أنه يكون لا محالة، والدليل على ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال: « اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا » فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير، فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم، ولم يحتج إلى الطلب والدعاء.

وهذا على قول القدرية أظهر; فإن إرادة الله عندهم لا تتضمن وجود المراد، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، فليس في كونه تعالى مريدا لذلك، ما يدل على وقوعه.

وهذا الرافضي وأمثاله قدرية، فكيف يحتجون بقوله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت على وقوع المراد؟ وعندهم أن الله قد أراد إيمان من على وجه الأرض. فلم يقع مراده. وأما على قول أهل الإثبات، فالتحقيق في ذلك أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه. وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره. الأولى مثل هؤلاء الآيات. والثانية مثل قوله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء وقول نوح: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم

وكثير من المثبتة والقدرية يجعل الإرادة نوعا واحدا، كما يجعلون الإرادة والمحبة شيئا واحدا، ثم القدرية ينفون إرادته لما بين أنه مراد في الآيات التشريع; فإنه عندهم كل ما قيل إنه مراد، فلا يلزم أن يكون كائنا، والله قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين وأن يطهرهم، وفيهم من تاب وفيهم من لم يتب، وفيهم من تطهر وفيهم من لم يتطهر، وإذا كانت الآية دالة على وقوع أراده من التطهير وإذهاب الرجس، لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه.

ومما يبين ذلك أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية، والكلام في الأمر بالتطهير بإيجابه ووعد الثواب على فعله والعقاب على تركه. قال تعالى: يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا إلى قوله: وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومعهن الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد. لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعمم غيرهن من أهل البيت، جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره ليس مختصا بأزواجه. بل هو متناول لأهل البيت كلهم، وعلي، وفاطمة ، والحسن ، والحسين أخص من غيرهم بذلك، ولذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم، وهذا كما أن قوله: لمسجد أسس على التقوى من أول يوم نزلت بسبب (مسجد قباء)، لكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو (مسجد المدينة) وهذا يوجه ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: « هو مسجدي هذا » . وثبت عنه في الصحيح أنه كان يأتي قباء كل سبت ماشيا وراكبا، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي قباء يوم السبت، وكلاهما مؤسس على التقوى. وهكذا أزواجه، وعلي، وفاطمة ، والحسن ، والحسين رضي الله عنهم أخص بذلك من أزواجه; ولهذا خصهم بالدعاء. وقد تنازع الناس في آل محمد من هم؟ فقيل: أمته. وهذا قول طائفة من أصحاب محمد، ومالك ، وغيرهم. وقيل: المتقون من أمته. ورووا حديثا « آل محمد كل مؤمن [ ص: 4854 ] تقي » رواه الخلال، وتمام في (الفوائد) له. وقد احتج به طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، وهو حديث موضوع، وبنى على ذلك طائفة من الصوفية، أن آل محمد هم خواص الأولياء; كما ذكر الحكيم الترمذي .

والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته، وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد ، وهو اختيار الشريف أبي جعفر وغيرهم. لكن هل أزواجه من أهل بيته؟ على قولين هما روايتان عن أحمد . أحدهما -أنهن لسن من أهل البيت. ويروى هذا عن زيد بن أرقم . والثاني- وهو الصحيح أن أزواجه من آله. فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمهم الصلاة عليه: « اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته » . ولأن امرأة إبراهيم من آله وأهل بيته، وامرأة لوط من آله وأهل بيته; بدلالة القرآن. فكيف لا يكون أزواج محمد من آله وأهل بيته؟ ولأن هذه الآية تدل على أنهن من أهل بيته، وإلا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى، وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه; كما ثبت في (الصحيح) أنه قال: « إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما ولي الله وصالح المؤمنين » . فبين أن أولياءه صالح المؤمنين، وكذلك في حديث آخر: « إن أوليائي المتقون، حيث كانوا وأين كانوا » . وقد قال تعالى: وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين وفي (الصحاح) عنه أنه قال: « وددت أني رأيت إخواني » . قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: [ ص: 4855 ] « بل أنتم أصحابي، وإخوتي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني » . وإذا كان كذلك، فأولياؤه المتقون، بينه وبينهم قرابة الدين، والإيمان، والتقوى، وهذه القرابة الدينية أعظم من القرابة الطبيعية. والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان. ولهذا كان أفضل الخلق أولياؤه المتقون. وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر. فإن كان فاضل منهم، كعلي رضي الله عنه وجعفر والحسن والحسين ، ففضلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى، وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا بمجرد النسب.

فأولياؤه أعظم درجة من آله، وإن صلى على آله تبعا، لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه الذين لم يصل عليهم; فإن الأنبياء والمرسلين هم من أوليائه. وهم أفضل من أهل بيته، وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا، فالمفضول قد يختص بأمر، ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل. ودليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلي عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين. وقد ثبت باتفاق الناس كلهم أن الأنبياء أفضل منهن كلهن.

فإن قيل: فهب أن القرآن لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير وإذهاب الرجس، لكن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بذلك يدل على وقوعه، فإن دعاءه مستجاب. قيل: المقصود أن القرآن لا يدل على ما ادعاه بثبوت الطهارة وإذهاب الرجس، فضلا عن أن يدل على العصمة والإمامة. وأما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر.

ثم نقول في المقام الثاني: هب أن القرآن دل على طهارتهم، وعلى ذهاب رجسهم، كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يستحق معه طهارة المدعو لهم، وإذهاب الرجس عنهم. لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ، والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ; فإن الخطأ مغفور لهن ولغيرهن، وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس الذي هو الخبث، كالفواحش ويطهرهم تطهيرا من الفواحش وغيرها من الذنوب.

والتطهير من الذنب على وجهين، كما في قوله: وثيابك فطهر وقوله: إنهم أناس يتطهرون فإنه قال فيها: من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين والتطهر من الذنوب إما بأن يفعله العبد، وإما بأن يتوب منه كما في قوله: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ما أمر الله به من الطهارة ابتداء وإرادة، فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة، لا يتضمن الإذن فيها بحال. لكن هو سبحانه ينهى عنها، ويأمر من فعلها بأن يتوب منها. وفي (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: « اللهم! باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب. واغسلني بالثلج والبرد والماء البارد. اللهم! نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس » . وبالجملة، لفظ (الرجس)، أصله القذر. ويراد به الشرك. كقوله: فاجتنبوا الرجس من الأوثان ويراد به الخبائث المحرمة، كالمطعومات والمشروبات كقوله: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقا وقوله: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان وإذهاب ذلك إذهاب لكله، ونحن نعلم أن الله أذهب عن أولئك السادة الشرك والخبائث. ولفظ الرجس عام يقتضي أن الله يذهب جميع الرجس. فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذلك. وأما قوله: "وطهرهم تطهيرا" فهو سؤال مطلق بما يسمى طهارة.

وبعض الناس يزعم أن هذا مطلق فيكتفي فيه بفرد من أفراد الطهارة. ويقول مثل ذلك في قوله: فاعتبروا يا أولي الأبصار ونحو ذلك. والتحقيق أنه أمر بمسمى الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق، كما إذا قيل: أكرم هذا، أي: افعل معه ما يسمى عند الإطلاق إكراما، وكذلك ما يسمى عند الإطلاق اعتبارا، والإنسان لا يسمى معتبرا إذا اعتبر في قصة، وترك ذلك في نظيرها. وكذلك لا يقال: هو طاهر، أو متطهر، أو مطهر، إذا كان متطهرا من شيء، متنجسا بنظيره. ولفظ الطاهر كلفظ الطيب; قال تعالى: والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات كما قال: الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات وقد روي أنه قال لعمار: « ائذنوا له. مرحبا بالطيب المطيب » . وهذا أيضا كلفظ المتقي والمزكي; قال تعالى: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها وقال: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وقال: قد أفلح من تزكى وقال: ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء وليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب، فإن هذا -لو كان كذلك- لم يكن في الأمة متق، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين. كما قال: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم بأن يطهرهم تطهيرا، كدعائه بأن يزكيهم ويطيبهم ويجعلهم متقين، ونحو ذلك ومعلوم أن من استقر أمره على ذلك، فهو داخل في هذا، لا تكون الطهارة التي دعا بها لهم بأعظم مما دعا به لنفسه، وقد قال: « اللهم! طهرني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد » . فمن وقع ذنبه مغفورا أو مكفرا، فقد طهره الله منه تطهيرا، ولكن من مات متوسخا بذنوبه، فإنه لم يطهر منها في حياته. وقد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة التي هي أوساخ الناس. والنبي صلى الله عليه وسلم، إذا دعا بدعاء، أجابه الله بحسب استعداد المحل. فإذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات، لم يلزم أن لا يوجد مؤمن مذنب، فإن هذا، لو كان واقعا، لما عذب مؤمن، لا في الدنيا ولا في الآخرة. بل يغفر الله لهذا بالتوبة، ولهذا بالحسنات الماحية، ويغفر الله لهذا ذنوبا كثيرة، وإن واحدة بأخرى، وبالجملة، فالتطهير الذي أراده الله والذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم، ليس هو العصمة بالاتفاق، فإن أهل السنة عندهم، لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم. والشيعة يقولون: لا معصوم غير النبي صلى الله عليه وسلم والإمام.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 30-12-2024, 08:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,559
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4859 الى صـ 4869
الحلقة (500)





فقد وقع الاتفاق على انتقاء العصمة المختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم والإمام عن أزواجه وبناته وغيرهن من النساء، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به للأربعة، متضمنا للعصمة التي يختص بها النبي صلى الله عليه وسلم، والإمام عندهم. فلا يكون دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بهذا العصمة، لا لعلي ولا لغيره. فإنه دعا لأربعة مشتركين، لم يختص بعضهم بدعوة، وأيضا فالدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية. بل وبالتطهير أيضا; فإن الأفعال الاختيارية التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات عندهم غير مقدورة للرب، ولا يمكنه أن يجعل العبد مطيعا ولا عاصيا، ولا متطهرا من الذنوب ولا غير متطهر. فامتنع على أصلهم أن يدعو لأحد بأن يجعله فاعلا للواجبات تاركا للمحرمات، وإنما المقدور عندهم قدرة تصلح للخير والشر. كالسيف الذي يصلح لقتل المسلم والكافر، والمال الذي يمكن إنفاقه في الطاعة والمعصية، ثم العبد يفعل باختياره، إما الخير أو الشر بتلك القدرة. وهذا الأصل يبطل حجتهم، والحديث حجة عليهم في إبطال هذا الأصل، حيث دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالتطهير.

فإن قالوا: المراد بذلك أنه يغفر لهم ولا يؤاخذهم، كان ذلك أدل على البطلان من دلالته على العصمة. فتبين أن الحديث لا حجة لهم فيه بحال على ثبوت العصمة. والعصمة [ ص: 4859 ] مطلقا التي هي فعل المأمور وترك المحظور، ليست مقدورة عندهم لله، ولا يمكنه أن يجعل أحدا فاعلا لطاعة، ولا تاركا لمعصية، لا لنبي ولا لغيره، ويمتنع عندهم أن من يعلم أنه إذا عاش يطيعه باختيار نفسه، لا بإعانة الله وهدايته، وهذا مما يبين تناقض قولهم في مسائل العصمة. كما تقدم. ولو قدر ثبوت العصمة، فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة، والإجماع على انتقاء العصمة في غيرهم. وحينئذ تبطل حجتهم بكل طريق. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[34] واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا .

واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة أمر لهن بأن يذكرن ولا يغفلن ما يقرأ في بيوتهن من آيات كتابه تعالى، وسنة نبيه اللتين فيهما حياة الأنفس وسعادتها وقوام الآداب والأخلاق. وذكر ذلك مستوجب لتصور عظمته ومكانته وثمرة منفعته. وذلك يجر إلى العمل به. فمن تأول: "اذكرن" باعملن به، أراد ذلك تعبيرا عن المسبب باسم السبب. وجوز أن يكون المعنى: اذكرن هذه النعمة حيث جعلتن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي، مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة، حثا على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه.

قال أبو السعود: والتعرض للتلاوة في البيوت دون النزول فيها، مع كونه مهبط الوحي لعمومها لجميع الآيات، ووقوعها في كل البيوت، وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير، بخلاف النزول وعدم تعيين التالي لتعم تلاوة جبريل، وتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم، وتلاوتهن، وتلاوة غيرهن، تعليما وتعلما: إن الله كان لطيفا خبيرا أي: يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك أمر ونهي.
[ ص: 4860 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[35] إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما .

إن المسلمين والمسلمات أي: المنقادين في الظاهر لحكم الله من الذكور والإناث: والمؤمنين والمؤمنات أي: المصدقين بما يجب أن يصدق به في القلب: والقانتين والقانتات أي: بإدامة شغف الجوارح في الطاعات: والصادقين والصادقات في القول بمجانبة الكذب، والعمل بتجريد الإخلاص لوجهه تعالى فلا يكون في طاعتهم رياء: والصابرين والصابرات أي: على البأساء والضراء والنوائب، وعلى القيام بالعبادة والثبات عليها: والخاشعين والخاشعات أي: المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم. و(الخشوع): السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع، والحامل عليه الخوف منه تعالى ومراقبته: والمتصدقين والمتصدقات أي: بالإحسان إلى الفقراء والبؤساء الذين لا كسب لهم ولا كاسب، فيعطون من فضول أموالهم طاعة لله وإحسانا إلى خلقه وإتماما للخشوع: والصائمين والصائمات أي: الآتين بما طلب منهم من الصيام المورث للتقوى والرحمة على من يتضور جوعا ويتصبر فقرا: والحافظين فروجهم والحافظات أي: عن إبدائها وإراءتها، حياء وكفا عن مثار الشهوة المحرمة، أو عن الحرام والفجور: والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أي: بقلوبهم وألسنتهم: أعد الله لهم مغفرة أي: بسبب ما عملوا من الحسنات المذكورة غفرانا لما اقترفوا من الصغائر; لأنها مكفرة بذلك: وأجرا عظيما أي: ثوابا وافرا في الجنة، وقوله تعالى:
[ ص: 4861 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[36] وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا .

وما كان لمؤمن ولا مؤمنة أي: ما صح لهما: إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم أي: قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء، أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما ويعصوهما، لما في ذلك من المأثم، كما قال تعالى: ومن يعص الله ورسوله أي: فيما أمرا أو نهيا: فقد ضل ضلالا مبينا أي: جار عن قصد السبيل، وسلك غير الهدى والرشاد، وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش ، حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة ، فأبت لكونه مولى لا يماثلها في الشرف. فنزلت الآية فرضيت وتزوجها.

قال المهايمي: الظاهر أن الخطبة كانت بطريق الوجوب. ويحتمل أن تكون لا بطريق الوجوب، لكن اعتبار العار في مقابلة خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم معصية، لما فيه من ترجيح قول أهل العرف على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كونه قول الله بالحقيقة.

وقال بعضهم: إنما عد التنزيل إباءها عصيانا، وكأنه أرغمها على زواجه، لما أوقع الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك. وهو هدم تحريم زوجة المتبنى، الفاشي في الجاهلية. كما سيأتي سياقه.

وذكر أيضا أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط . وكانت أول من هاجر من النساء -بعد صلح الحديبية- فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فزوجها زيدا- أي: بعد فراقه زينب - فسخطت، فنزلت الآية، فرضيت.

وروى الإمام أحمد عن أنس قال: [ ص: 4862 ] خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جليبيب رضي الله عنه، امرأة من الأنصار إلى أبيها. فقال: حتى أستأمر أمها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « نعم إذا » . قال: فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فأبت أشد الإباء. فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم، فأنكحوه. قال: فكأنها جلت عن أبويها وقالا: صدقت. فذهب أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت رضيته فقد رضيناه. قال صلى الله عليه وسلم: « فإني قد رضيته » . قال: فزوجها. ثم ذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فقتل. ورئي حوله ناس من المشركين قد قتلهم. قال أنس : فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في المدينة. وفي رواية: (فما كان في الأنصار أيم أنفق منها).

وذكر الحافظ ابن عبد البر في (الاستيعاب) أن الجارية لما قالت في خدرها: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، نزلت هذه الآية: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة

ولا يخفى شمول الآية لما ذكر ولغيره، إلا أن تأثر هذه الآية بقصة زيد وزوجته، الآتية، يؤيد أنها نزلت في زوجه زينب ، لتناسق نظام الآيات حينئذ، وظهور هذه الآية كالطليعة لهذه القصة الجليلة.

وقد قدمنا مرارا أن معنى قولهم: (نزلت الآية في كذا). أنها مما تشمله لعموم مساقها; ولذا سأل طاوس ابن عباس عن ركعتين بعد صلاة العصر فنهاه. وقرأ له هذه الآية.

قال ابن كثير : هذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد ها هنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك وتعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وفي الحديث: « والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به » . ولهذا شدد في خلاف ذلك فقال: ومن يعص الله ورسوله [ ص: 4863 ] فقد ضل ضلالا مبينا كقوله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم

لطائف:

الأولى- قالوا على الروايات السالفة: إن ذكر الله في الآية، مع أن الآمر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، للدلالة على أنه بمنزلة من الله، بحيث تعد أوامره أوامر الله تعالى، أو أنه لما كان ما يفعله بأمره، لأنه لا ينطق عن الهوى، ذكرت الجلالة وقدمت للدلالة على ذلك. انتهى.

وهذا وقوف مع ما روي، وإلا فظاهر الآية يعم ما إذا قضى الله من كتابه، ورسوله في سنته.

الثانية-: "الخيرة" هنا مصدر، وذكروا أنه لم يجئ من المصادر على وزنه غير: طيرة.

الثالثة - جمع الضمير الأول -وهو لهم- لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث إنهما في سياق النفي. قال الشهاب: واعتبر عمومه، وإن كان سبب نزوله خاصا، دفعا لتوهم اختصاصه بسبب النزول، أو ليؤذن أنه كما لا يصح ما اختاروه مع الانفراد، لا يصح مع الجمع أيضا كيلا يتوهم أن للجمعية قوة تصححه. انتهى.

وجمع الثاني -وهو ضمير من أمرهم- مع أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو له ولله تعالى، للتعظيم. هذا ما أشار له القاضي وغيره. مع أنه لا يظهر امتناع عوده على ما عاد عليه الأول، مع ترجيحه بعدم التفكيك فيه، على أن يكون المعنى: ناشئة من أمرهم. والمعنى دواعيهم السابقة إلى اختيار خلاف ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو المعنى الاختيار في شيء من أمرهم، أي: دواعيهم. ورد هذا، بأنه قليل الجدوى، ضرورة أن الخيرة ناشئة من دواعيهم.. أو واقعة في أمورهم. وهو بين مستغن عن البيان. بخلاف ما إذا كان المعنى بدل [ ص: 4864 ] أمره الذي قضاه صلى الله عليه وسلم، أو متجاوزين عن آمره لتأكيده وتقريره للنفي. فهذا هو المانع من عوده إلى ما عاد عليه الأول.

قال الشهاب: وهو كلام حسن، ثم أشار تعالى إلى ما من به على المسلمين من هدم تحريم زوجة الدعي، والمتبنى الذي كان فاشيا في الجاهلية، بما جرى بين زيد متبنى النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه من الفراق، ثم تزويجه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إياها، رفعا للحرج فيه. فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[37 - 39] وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا .

وإذ تقول للذي أنعم الله عليه أي: بالإسلام ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو زيد بن حارثة : وأنعمت عليه أي: بالعتق والحرية والاصطفاء بالولاية والمحبة، وتزويجه بنت عمتك زينب بنت جحش .

[ ص: 4865 ] قال ابن كثير : كان سيدا كبير الشأن جليل القدر، حبيبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: (الحب). ويقال لابنه أسامة: (الحب ابن الحب). قالت عائشة رضي الله عنها: ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلا أمره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه. رواه الإمام أحمد أمسك عليك زوجك أي: لا تطلقها: واتق الله أي: اخشه في أمرها فإن الطلاق يشينها وقد يؤذي قلبها، وارع حق الله في نفسك أيضا، فربما لا تجد بعدها خيرا منها، وكانت تتعظم عليه بشرفها، وتؤذيه بلسانها، فرام تطليقها متعللا بتكبرها وأذاها، فوعظه صلى الله عليه وسلم وأرشده إلى الصبر والتقوى: وتخفي أي: تضمر: في نفسك ما الله مبديه أي: من الحكم الذي شرعه; أي: تقول ذلك، وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه، وأن لا منتدح عن امتثال أمر الله بنفسك، لتكون أسوة لمن معك ولمن يأتي بعدك، وإنما غلبك في ذلك الحياء، وخشية أن يقولوا تزوج محمد مطلقة متبناه، وهذا معنى قوله تعالى: وتخشى الناس أي: قالتهم وتعييرهم الجاهلي: والله أي: الذي ألهمك ذلك وأمرك به: أحق أن تخشاه أي: فكان عليك أن تمضي في الأمر من أول وهلة تعجيلا بتنفيذ كلمته وتقدير شرعه، ثم زاده بيانا بقوله: فلما قضى زيد منها وطرا أي: حاجة بالزواج: زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم أي: ضيق من العار في نكاح زوجات أدعيائهم: إذا قضوا منهن وطرا أي بموت أو طلاق أو فسخ نكاح وكان أمر الله مفعولا أي: قضاؤه واقعا، ومنه تزويجك زينب .

ما كان على النبي من حرج أي: مأثم وضيق: فيما فرض الله له أي: كتبه له من التزويج وأباحه له، وسن شريعة مثلى في وقوعه: سنة الله في الذين خلوا من قبل أي: الرسل عليهم السلام. وهو أن لا حرج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم، ووسع عليهم في باب النكاح وغيره; فإنه كان لهم الحرائر، والسراري، وتناول المباحات، والطيبات، وبهداهم [ ص: 4866 ] القدوة: وكان أمر الله قدرا مقدورا أي: قضاء مقضيا; أي: لا حرج على أحد فيما أحل له، ثم وصف شأنهم بقوله: الذين يبلغون رسالات الله أي: أحكامه، وأوامره، ونواهيه، ويصدعون بها: ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله أي: لا يخافون قالة الناس، ولائمتهم، ولا يبالون بها في تشريعه، ولا ريب أن سيد الناس في هذا المقام، بل وفي كل مقام، حضرة نبينا صلى الله عليه وسلم، كما علم من قيامه بالتبليغ بالقوة، والفعل أبلغ قيام: وكفى بالله حسيبا أي: حافظا لأعمال خلقه. وكافيا للمخاوف.
القول في تأويل قوله تعالى:

[40] ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما .

ما كان محمد أبا أحد من رجالكم هذا دفع لتعيير من جهل، فقال: تزوج محمد زوج ابنه زيد. فدفعه تعالى بأنه إنما يتصور لو كان صلى الله عليه وسلم أبا لزيد على الحقيقة، لكنه ليس أبا لأحد من أصحابه، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح، وزيد واحد منهم، الذين ليسوا بأولاده حقيقة، فكان حكمه حكمهم، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب غير: ولكن رسول الله أي: ولكن كان رسول الله مبلغا رسالاته: وخاتم النبيين بفتح التاء وكسرها، قراءتان; أي: فهذا نعته وهذه صفته، فليس هو في حكم الأب الحقيقي، وإنما ختمت النبوة به; لأنه شرع له من الشرائع ما ينطبق على مصالح الناس في كل زمان، وكل مكان; لأن القرآن الكريم لم يدع أما من أمهات المصالح إلا جلاها، ولا مكرمة من أصول الفضائل إلا أحياها، فتمت الرسالات برسالته إلى الناس أجمعين، وظهر مصداق ذلك بخيبة كل من ادعى النبوة بعده، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين: وكان الله بكل شيء عليما أي: فلا يقضي إلا بما سبق به علمه، ونفذت فيه مشيئته، واقتضته حكمته.

[ ص: 4867 ] تنبيهان في لطائف هذه القصة، وفوائدها الباهرات:

الأول- لم تختلف الروايات أنه نزلت في قصة زيد بن حارثة ، وزوجه زينب بنت جحش . ورواه البخاري عن أنس في التفسير. ورواه عنه في التوحيد قال: جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « اتق الله وأمسك عليك زوجك » . وأخرجه أحمد بلفظ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل زيد بن حارثة . فجاءه زيد يشكوها إليه. فقال له: « أمسك زوجك واتق الله » . فنزلت.

وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي . فساقها سياقا حسنا واضحا، ولفظه: بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش ، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بعد، أنها من أزواجه، فكان يستحي أن يأمره بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه; وكان قد تبنى زيدا.

وعنده، ومن طريق علي بن زيد بن جدعان عن علي بن الحسين بن علي ، قال: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه، وقال له: « اتق الله وأمسك عليك زوجك » . قال الله تعالى: (قد أخبرتك أني مزوجكها)، وتخفي في نفسك ما الله مبديه

[ ص: 4868 ] قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) بعد نقل ما تقدم: ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري ، ونقلها كثير من المفسرين، لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد. انتهى.

وقال الحافظ ابن كثير : ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثارا، أحببنا أن نضرب عنها صفحا; لعدم صحتها، فلا نوردها. انتهى.

الثاني- قال القاضي عياض رحمه الله في (الشفا) في بحث أقواله صلى الله عليه وسلم الدنيوية: ولا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أحدا بشيء أو ينهى أحدا عن شيء، وهو يبطن خلافه، وقد قال عليه السلام: « ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين، فكيف أن تكون له خائنة قلب؟ » . فإن قلت: فما معنى قوله في قصة زيد: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه الآية. فاعلم أكرمك الله ولا تسترب في تنزيه النبي عليه السلام عن هذا الظاهر، وأن يأمر زيدا بإمساكها، وهو يحب تطليقه إياها، ذكر عن جماعة من المفسرين، وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن علي بن حسين أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه، فلما شكاها إليه زيد، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: « أمسك عليك زوجك واتق الله » وأخفى منه في نفسه ما أعلمه الله به أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وطلاق زيد لها.

وروى نحوه عمرو بن فائد عن الزهري قال: نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش . فذلك الذي أخفى في نفسه، ويصحح هذا قول المفسرين في قوله بعد هذا: وكان أمر الله مفعولا أي: لا بد لك أن تتزوجها، ويوضح هذا أن الله تعالى لم يبد من أمره معها غير زواجه لها، فدل أنه الذي أخفاه عليه السلام، مما كان [ ص: 4869 ] أعلمه به تعالى، وقوله تعالى في القصة: ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له دل على أنه لم يكن عليه حرج في الأمر، ولو كان على ما قيل من وقوعها في قلبه، ومحبة طلاق زيد لها، لكان فيه أعظم الحرج. وكيف يقال: رآها فأعجبته وهي بنت عمته، ولم يزل يراها منذ ولدت، ولا كان النساء يحتجبن منه عليه السلام، وهو زوجها لزيد ، وإنما جعل الله طلاق زيد لها، وتزويج النبي صلى الله عليه وسلم إياها، لإزالة حرمة التبني وإبطال سببه. كما قال: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وقال: لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم قال ابن فورك: وليس معنى الخشية هنا الخوف، وإنما معناه الاستحياء; أي: يستحي منهم أن يقولوا تزوج زوجة ابنه، وأن خشيته عليه السلام من الناس كانت من إرجاف المنافقين واليهود، وتشغيبهم على المسلمين بقولهم: تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء، كما كان. فعتبه الله تعالى على هذا، أو نزهه عن الالتفات إليهم فيما أحله له، كما عتبه على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله: لم تحرم ما أحل الله لك الآية. كذلك قوله ههنا. انتهى ملخصا.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 9 ( الأعضاء 0 والزوار 9)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 550.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 545.04 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.07%)]