|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#501
|
||||
|
||||
![]() حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي. لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول. مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. نقول: نشرك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوسا ولا يأخذ شيئا في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحد من البطن الأول ذكرا كان أو أنثى قسم نصيبه على البقية. ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم) ، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم. فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملا، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نزل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول. إذا: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم من بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا ينزل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول. اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بني أو بني فلان) قال رحمه الله: [ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم] فقوله رحمه الله: (ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم) بعد أن بين المصنف رحمه الله اللفظ الذي يقتضي العموم بقوله (أولادي) شرع فيما يقتضي التخصيص، فلو قال: على بني، أو أبنائي، أو على بناتي، فحينئذ يختص بالبنين إن نص عليهم، ويختص بالإناث إن سماهن. إذا فالابن لا يشمل الذكر والأنثى، وإنما يختص بالذكور دون الإناث، وعلى هذا مذهب العلماء قاطبة رحمهم الله. لكن لو قال: على بني فلان، أو على الفقراء من بني سلمة، أو من بني زياد، أو من بني عمرو، فلفظة (بني) هذه تطلق على القبيلة فيستوي ذكورها وإناثها؛ لأن العرف واللغة يقتضي ذلك، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرمي أنه جعل البنوة شاملة للذكور والإناث، تقول: هؤلاء من بني عبد الله. قال صلى الله عليه وسلم: (الأنصار وجهينة ومزينة وغفار وأسلم وبنو عبد الله من غطفان) غطفان هي مطير الموجودة الآن، وبنو عبد الله فخذ منهم، وكانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أشبه بالقبيلة، قال: (وبنو عبد الله من غطفان موالي الله ورسوله) كما في الصحيح، فسماهم قال: (بنو عبد الله) وشرك، وهذا مقتض لتشريك الذكور والإناث؛ لأنهم أسلموا وكان لهم بلاء في الإسلام. فالبنوة تطلق على القبيلة ويراد بها العموم والشمول، فتشمل الذكور والإناث، تقول: بنو فلان فتشمل ذكورهم وإناثهم، إن قال: بنو عمي، بني، بنو خالي، بنو أخوالي، هذا كله يختص بالذكور، لا يشمل الذكور والإناث معا، لكن إذا قال: بنو فلان وهي قبيلة فإننا نحكم بالتشريك بين الذكور والإناث؛ لأن هذا اللفظ وإن كان يختص بالذكور دون الإناث؛ لكنه يطلق ويتجوز فيه فيعم الذكر والأنثى. دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن] . وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطردا في جميع البطون. دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم قال رحمه الله: [والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه] أي: فإن قال: وقف على أقربائي وأهل بيتي، أو أهلي، أو وقف على المسكين من أهلي، أو على المحتاج من أهلي، فإنه يشمل الذكور والإناث. يقال إن أهل أصلها: آل، وهذا قول سيبويه من أئمة اللغة، وأبدلت الهمزة هاء. وأهل الإنسان، وآل الإنسان، وقرابة الإنسان تشمل فروعه من الأصول. وقومه كذلك، إن قال: للضعفاء، للفقراء، لطلبة العلم من قومي، فإنه يستوي فيه الذكور والإناث، إلا أن يخص، ولذلك قال: [يشمل الذكر والأنثى من أولاده] أي: لأن الآل لا تختص بالذكور دون الإناث، قال صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) ، والإجماع قائم على أن قوله: (آل محمد) ، شاملة للذكور والإناث، وأهل مثل آل، فلو قال: على أهل بيتي؛ فإنها تشمل الإناث، وفي حديث الكساء أنه عليه الصلاة والسلام جلل فاطمة رضي الله عنها وجعلها من أهل البيت، وهي من أهل بيته بالإجماع. فأهل بيت الإنسان وآله وقرابته يستوي فيهم الذكور والإناث، قال تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود:73] ، فالخطاب متوجه لزوجة إبراهيم عليها السلام لما عجبت من أمر الله عز وجل فقيل لها: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} [هود:73] . فأهل الإنسان تطلق على الزوجة {فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا} [طه:10] ، تطلق الأهل بمعنى البيت خاصة، سواء كان للزوجة وأولادها ومن هو قريب من ذلك كالخدم والحشم، وتطلق بمعنى العموم، ويقال: أهل الإنسان ومرادهم كل من يمت إليه بالقرابة والصلة. وقوله: (وأولاد أبيه) : وهم من يجتمعون معه في الأصول، فيشمل ذلك أعمامه وعماته الأشقاء، وهم الذين شاركوا أباه في أصليه، والعمة لأب، والعمة لأم من حيث الأصل، لكن بالنسبة لمن فوقهم يختص بالأصول وهو جد أبيه ومن علا. قال: [وجد أبيه] أي: جد أبيه، وجد جده، ونحو ذلك؛ لأنها كلها أصول وتدخل في آله وقرابته. قال رحمه الله: [وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عمل بها] يريد إناثه؛ كان يقول: بيتي وقف على المطلقة من بناتي، أو على المطلقة من ذريتي، أو على المطلقة من نسلي، أو وقف على المحتاجة من قرابتي، هذا يخص الإناث دون الذكور، فالذكر لا يستحق في هذه الحالة، ولا يدخل. وأثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه أوقف على الإناث من ذريته، وهذا قول لبعض العلماء، فيرى أنه يجوز تخصيص بعض الولد عند الموجب، وفي النفس منه شيء، لكن عمل به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويؤثر عن الزبير وابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع أنه خشي على بناته فجعله للمطلقة والأرملة؛ لأن الذكر يستطيع أن يكافح، ولكن الأنثى إذا طلقت أو مات عنها زوجها خشي عليها. فيوقف على المحتاجة من ذريته إذا طلقت أو أصبحت أرملة خوفا عليها من العار، وهذا يجوزه بعض العلماء؛ لأنهم يقولون: يجوز أن يخص الوالد بعض ولده للعوز والحاجة، مثل أن يكون ابنه -لا قدر الله- مشلولا، فيجوز أن يعطيه ما لا يعطي الصحيح، ولو كان ابنه طالب علم يحتاج إلى نفقة خاصة أعطاه نفقة طالب علم، فهذا التفضيل للسبب، فيرى أنه إذا فضل بعض ولده بالوقف عليهم لسبب، أو مثلا جعل للذكور حظا، وجعل للإناث حظا، فأوقف على الذكور دارا، وأوقف على الإناث مزرعة وعدل بينهم، فهذا له وجهه. الشاهد أنه إذا قيد بالأنثى؛ فإنه يعمل بتقييده، سواء كان ذلك بأمارة، أو كان صريحا، فقال: للمطلقة أو للأرملة إذا رملت، فإن قال: للمطلقة فإنه يكون مقيدا بالمطلقة ولا يشمل الكل، وإذا قال: للأرملة، أو قال: التي لا زوج لها، إذا قال: التي لا زوج لها فهذا أعم، لأنه يشمل الصغيرة التي لم تتزوج بعد، فمن حقها أن تسكن، ومن حقها أن تأكل من هذا الوقف، لكن إذا قال: للمطلقة؛ فلا بد أن تكون زوجت ثم بعد ذلك طلقت، ويراعى في هذا وجود الحاجة إلى الستر. الوقف على جماعة يمكن حصرهم قال رحمه الله: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي] وذلك كما لو قال: على ولدي، وولده -مثلا- عشرون، أو يبلغون الأربعين أو الخمسين؛ فحينئذ نقسم على الأربعين والخمسين لأنه أمكن حصرهم، لكن إذا قال: وقفت داري هذه على طلبة العلم أو: وقفت ثمرة بستاني هذا صدقة على المساكين، أو على الفقراء، وكان بموضع فيه حاجة وفيه عوز، ولا يمكن حصر الفقراء فيه. فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نعمم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثما شرعا، وظالما معتديا لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوي بين الجميع إذا سوى بينهم الواقف. فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مملكا -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله. لكن لو أن الجهة التي خصت بالوقف لا يمكن حصرها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جدا، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده. فمثلا إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاما للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذ نقول: لما كان الغني غير محتاج، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قدم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثوابا وأعظم أجرا، فيعطون ويصرف لهم. ولو كان المحتاجون أيضا لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاء من غيرهم، فنقدم هؤلاء الذين هم أعظم بلاء، مثلا طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع فيفضل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] أي: جاز أن يفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن. الأسئلة تعيين حصة لناظر الوقف الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثل ولا متمول، وقد تقدم معنا. لكن إذا جعل للناظر نصيبا، أو قال الناظر: أريد نصيبا، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيبا، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عشر الوقف لمن ولي النظارة. وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يشك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟ مثلا لو أجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تدر المليون، عشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلا عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلا، ويكون عشرها عشرة آلاف، فإذا لا يمكن أن يعلم قدر هذا العشر. فبعض العلماء يجعله مخرجا على المساقاة ملحقا بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يصار إلى تحديد النسبة احتياجا، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم. لكن لا يشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئا، ويأكل بالمعروف. ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكرا، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) ، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يتابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطا في كثير من المسائل. لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم. السؤال ترك والد لأولاده بيتا، فاحتاج البيت إلى إصلاح، فهل تدفع الأنثى نصف ما يدفعه الذكر؟ إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه الجواب لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفا وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفا وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفا، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفا إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف. فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان) ، والله تعالى أعلم. السؤال أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث. الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية. الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي. ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال. فلو أن رجلا حصل له موجب ورأى بناته يطلقن ويتعرضن للأذية والإضرار فأوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوى يحفظهن، ولم يترك لهن بيتا يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة. وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وجد الموجب للتفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به. ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا ينظر لها خارجا عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله. فإذا نظر إلى أنها تحفظ من الضيعة إذا طلقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجابا من النار. قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت. البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثا شرعيا؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم. استخلاف المسبوق في الصلاة السؤال إمام طرأ عليه عذر فقدم رجلا من خلفه وكان هذا المقدم مسبوقا بركعة، فكيف يصنع، خصوصا أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟ الجواب هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) . أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقا؟ إذا فرضنا أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلم بهم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثبتت الطائفة الأولى وتشهدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام. هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذورا. تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحدا من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به. والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمام في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها. وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذا: من حيث الأصل الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذورا لسهو، أو معذورا لنقص، ثبت متشهدا حتى يتم خامسته ثم تتابعه في التشهد. يبقى السؤال: لماذا لا تتم وتسلم؟ لو أتممت وسلمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم. ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع، إلا إحرام وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتما به. فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها. فهو مضطر إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلا لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته. وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون. وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
#502
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (403) صـــــ(1) إلى صــ(14) شرح زاد المستقنع - باب تصرفات المريض من الهبة والعطية [2] من مرض مرضا مخوفا كالطاعون وغيره، فإن تصرفه بما زاد على الثلث غير صحيح، ولا ينفذ إلا بالثلث، ويلحق به إذا التحم الصفان، أو من حكم عليه بالقتل ونحوه، وإذا مرض مرضا مخوفا ثم عوفي فإن تصرفه صحيح ونافذ، ومن أصابه مرض مخوف لم يقعده على الفراش فتصرفه صحيح، سواء بعطية أو وصية، وهناك فرق بين العطية والوصية مبينة في هذه المادة. حكم هبة المطعون بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن وقع الطاعون ببلده، ومن أخذها الطلق لا يلزم تبرعه لوارث بشيء ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها] . لا زال المصنف رحمه الله في معرض بيانه للأحكام المترتبة على مرض الموت، وهذا يستلزم بطبيعة الحال أن يبين الأمراض المخوفة، فقد تقدم بيان جملة منها، لكن هناك أشياء تقع وتكون عامة، وأشياء تقع وتكون خاصة، فما تقدم من المرض المخوف المتعلق بالإنسان نفسه في خاصته تقدم بيانه، لكن الكوارث العامة والأمور التي تنزل في البلد فتشمل أكثر أهله ونحو ذلك؛ كالأمراض الوبائية، فهذه تأخذ حكم المرض المخوف ولو كان الإنسان سالما منها، فلو نزل -والعياذ بالله- الطاعون في بلد، وهو نوع من الأمراض التي تنتهي بصاحبها إلى الموت -والعياذ بالله-، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان على من قبلنا عذابا ورجسا، كما جعله الله عز وجل على قوم فرعون، وجعله الله لهذه الأمة رحمة وشهادة، فأيما إنسان مات بالطاعون فإنه نوع من أنواع الشهادة، فالمطعون شهيد، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه. وهذا النوع من الوباء ذكر بعض العلماء أنه في هذه العصر الأشبه به مرض (الكوليرا) أعاذنا الله وإياكم منه ومن غيره، فهذا النوع من المرض يقول بعض العلماء: إنه هو الطاعون، ويحتاج الأمر إلى تحرير والرجوع إلى أهل الخبرة والأطباء. فالشاهد: أن هذا المرض إذا أصاب الإنسان فإنه يهلكه، وإذا وقع في بلد وفيه إنسان فالسنة أنه لا يجوز للمسلم أن يدخل بلدا فيه الطاعون، ولا أن يخرج من بلد فيه الطاعون، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها) ، ولما أراد عمر رضي الله عنه دخول الشام لما وقع طاعون عمواس منع بهذا الحديث. والسبب في هذا: ما ذكر العلماء أن هذا النوع من المرض إذا كان الإنسان موجودا في البلد نفسه وخرج منه وسلم، ربما اعتقد أن خروجه هو الذي نجاه، وهذا يؤثر في عقيدة المسلم وفي توحيده وإيمانه بالله عز وجل، فالذي خلق الأسباب جعلها مؤثرة بقدرته جل وعلا، ولو شاء الله ألا تؤثر لما أثرت. ولذلك قال العلماء: إنه منع من الخروج من البلد حتى لا يعتقد المعتقد أن خروجه ينجيه، فيتعلق الناس بالأسباب دون أن يتعلقوا برب الأرباب، أو يشركوا بين الله وبين الأسباب -نسأل الله السلامة والعافية- والشريعة تحرص كل الحرص على أساس الدين، وعلى العقيدة التي عليها نجاة العبد وصلاح أمره في الدين والدنيا والآخرة. ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة) ، قيل المراد: أن يعتقد الإنسان أن العدوى تضر بنفسها، حتى إنك تجد الإنسان إذا مر على مزكوم أو على من به مرض من الأمراض المعدية يقطع ويجزم جزما تاما أنه إذا صافحه أو سلم عليه أو جلس إليه أو سمعه فإنه سيضره، ولا يكون عنده من التوحيد والإيمان واليقين ما يجعله يعتقد بالله سبحانه وتعالى أكثر وأعظم، ويجعل قدرة الله هي الأساس، وأن الله قادر على أن يجعله لا يصاب بشيء، فكم من أناس بروا بوالديهم وكان الوالد أو الوالدة مصابا بمرض معد، وبقوا معهم السنين، ومع ذلك ما أصابهم شيء؛ لأن الله لم يرد لهم ذلك. فالله سبحانه وحده هو القادر على كل شيء؛ ولذلك لما خرج القوم من بني إسرائيل خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} [البقرة:243] ، لأنهم ظنوا أن خروجهم هو الذي سينجيهم من بلاء الله عز وجل وقدره، فإذا اعتقد الإنسان في السبب اعتقادا مؤثرا في عقيدته فإن هذا أمر خطير، فالطاعون إذا وقع في بلد فلا يجوز الخروج منه ولا الدخول إليه؛ لأنه إذا دخل ربما اعتقد أن دخوله هو الذي أفضى به إلى الإصابة بهذا البلاء. وأيضا: فيه جمع بين السبب وبين المسبب، فالله سبحانه وتعالى هو الذي جعل لهذه الأسباب تأثيرا، ولذلك فالنار الأصل أنها تحرق، ولكن جبار السموات والأرض الذي أطت له وذلت لم يأذن لها أن تحرق إبراهيم؛ بل جعلها الله بردا وسلاما عليه، فالله على كل شيء قدير، وهذا النوع من الأمراض الغالب فيه الهلاك، وأنه إذا أصيب به الإنسان فإنه لا ينجو، وإذا ثبت في الغالب أنه مرض فتاك أو مهلك أو مخوف، فإن القاعدة في الشريعة تقول: (إن الغالب كالمحقق) ، وإن أحكام الشريعة تناط بالشيء الغالب، والنادر لا حكم له، والغالب في الأمراض المعدية أنها إذا وقعت في بلد فإنها تنتشر، فكل من في هذا البلد الغالب في سنة الله عز وجل وبقدرته جل جلاله أنهم يصابون به بحكم المخالطة والمداخلة، وبحكم الهواء الذي ينقل، وهذا كله بأمر الله عز وجل وقدره، فلو وقع الطاعون في بلد وفيه رجل، وبعد وقوع الطاعون تبرع بمائة ألف، وماله كله يعادل مائتي ألف، فمعنى ذلك أنه تبرع بنصف ماله، فنصحح تبرعه في حدود الثلث؛ لأننا حكمنا بكونه في حكم المريض مرض الموت، وهذا بالنسبة لمن وقع الطاعون في بلده وغلب على الظن أنه يصاب في هذا البلد. وهكذا بالنسبة لبقية الأمراض المهلكة المعدية التي يغلب على الظن أن صاحبها لا ينجو وأنها تنتشر وتفتك بالجماعات، وبالقرى والمدن إذا وقعت فيها، فإنها تعتبر في حكم المرض المخوف، وتأخذ أحكاما على التفصيل الذي تقدم. حكم تصرف من أخذها الطلق وقوله: [ومن أخذها الطلق] . أي: المرأة إذا أخذها الطلق عند الولادة، فإذا حضرها الولاد فإنها تكون بين الموت والحياة، وهذه هي أشد الساعات، وقد بين الله جل جلاله لعبده عظيم فضل أمه عليه حينما قص ما تعانيه الأم في قصة عيسى عليه السلام مع أمه، وانظر كيف كان اختيار الله سبحانه وتعالى، فإن عيسى كلمة الله وروح منه، ومع ذلك قال الله تعالى عن أمه: {فأجاءها المخاض إلى جذع} [مريم:23] ، (فأجاءها) أي: ألجأها واضطرها: {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} [مريم:23] ، فهذا يدل على عظم ما تعانيه الأم، فإذا كان هذا العبد الصالح الذي هو كلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم وفي الحفظ الإلهي الكامل التام، ومع ذلك تقول أمه: {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} [مريم:23] فكل مسلم يقرأ هذه الآية ويتدبر ويتفكر ما الذي عانته الوالدة تجاهه، ولذلك جعل الله حق الأم أعظم من حق الأب، وجعل فضلها على الولد أعظم من فضل الأب عليه، ولذلك جاء في الحديث: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صاحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) ، فجعل له الحق بعد حق الوالدة مكررا دالا على فضلها وعظيم ما عانته تجاه ولدها. فإذا ثبت هذا: فإن الطلق قد تنجو المرأة فيه وقد تهلك، واختلف العلماء في مسألة الحمل والولادة وما بعد الولادة: متى يحكم بكون المرأة في حكم الحالة الخطيرة التي لا يصح فيها تبرعها فيما زاد عن الثلث، وتأخذ الأحكام المتقدمة في مرض الموت؟ فبعض العلماء يقول: إذا حملت المرأة ومضى على حملها ستة أشهر، فإنها تدخل في حكم المريض مرض الموت، وهي بين السلامة وبين الهلاك، وبين النجاة وبين الموت، فإذا تم لحملها هذا القدر حكمنا بكونها في حكم مريض مرض الموت، وفائدة هذا القول: أنها لو حملت وبعد ستة أشهر من حملها وتمام الحمل أعطت شخصا أو تبرعت بمائة ألف، وهذه المائة ألف تعادل مالها كله أو نصفه، أو تعادل ما هو أكثر من الثلث، فإذا قلنا: إنها في حكم المريض مرض الموت، فنرد هذه العطية إلى الثلث إن ماتت، وتكون في حكم المريض مرض الموت، وإن قلنا: إنها ليست في حكم المريض مرض الموت؛ صحت ونفذت ومضى تبرعها. القول الثاني يقول: ليست العبرة بتمام الحمل ستة أشهر، وإنما العبرة بابتداء الطلق، وهذا القول هو الذي اختاره جمع من المحققين، ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره وصححه، وبينوا أنه هو الأولى بالصواب: أن العبرة ليست بالحمل، وإنما العبرة بحال الولادة إذا أخذها الطلق، فإذا ابتدأ معها الطلق فإنه حينئذ يحكم بكونها في حكم المريض مرض الموت، فلو أنها في هذه الحالة وصت أو أعطت ووهبت فحكمها حكم المريض مرض الموت، وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى، أي أن العبرة بحالة الولادة، وعلى هذا درج المصنف رحمه الله. فإذا وضعت الولد وبقي طلق من باقي المشيمة، ولم تكتمل ولادتها، فإنها تكون في حكم المريض مرض الموت؛ لأن الأمر مخوف في هذه الحالة، وكذلك أيضا إذا أصابها نزيف بعد الولادة وكان نزيفا خطيرا يخشى عليه هلاكها، فتكون في حكم المريض مرض الموت، وهذا نص عليه الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره من الأئمة، وبينوا أن المراة إذا وضعت ولدها وتعرضت بسبب الوضع إلى أمور يخشى معها على نفسها، فإنها تكون في حكم المريض مرض الموت. وقوله رحمه الله: (لا يلزم تبرعه لوارث بشيء) . أي: لا يلزم تبرع أحد هؤلاء لوارثه بشيء، فهناك حكمان: الحكم الأول: متعلق بالوصية، والحكم الثانية: متعلق بالعطية. أما الحكم الذي يتعلق بالوصية: فإذا قلت: إن هذه الأحوال يكون الإنسان فيها في حكم المريض مرض الموت، فإنه تسري عليه أحكام الوصية، فلا تصح وصيته لوارث، فلو وصت المرأة في هذه الحالة لابنتها الوارثة فإنه لا تصح وصيتها ابتداء، وإنما تورث على إجازة الورثة كما سيأتي؛ والسبب في هذا: أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بالوصية، ثم نسخ هذا الحكم بعد نزول آيات المواريث، فأعطى الله جل جلاله لكل ذي حق حقه من التركة، وتولى قسمتها من فوق سبع سماوات، وبين نصيب البنين والبنات وغيرهم من سائر القرابات، فأعطى كل ذي حق حقه من التركة، وفصل في حكم ما يتركه الإنسان من بعد موته من المال. وبعد بيان المواريث بين صلى الله عليه وسلم أنه: (لا وصية لوارث) ، فمنع من الوصية للوارث وأجاز الوصية لغير الوارث، فدل هذا على أن الإنسان إذا كان قد كتب وصيته، أو عهد بها إلى أشخاص يأخذونها من بعده، وفي الوصية: أعطوا ابني فلانا كذا وكذا، أو زوجوا ولدي بخمسين ألفا أو بعشرة آلاف أو نحو ذلك، فهذه وصية لوارث لا تصح إلا إذا أجاز الورثة كما سيأتي، فيقال لبقية الورثة: هل تجيزون وصية أبيكم؟ فإن قالوا: نعم. فإنها تمضي، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسألة وبيان كلام العلماء رحمهم الله في كتاب الوصايا، وهل الوصية باطلة في أصلها أم أنها موقوفة؟ وعلى كل حال: إذا قلنا: إنها باطلة فلها حكم، وإذا قلنا: إنها موقوفة على إجازة الورثة فلها حكم ثان، فبين رحمه الله أنه لا تصح وصيته كل من كان مريضا بهذه الأمراض المخوفة أو هذه الحالات المخوفة، فلا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث، ولا تصح وصيته لوارث. ويتلخص مما سبق: أن هناك أمراضا وهناك أحوالا، فالأمراض يرد فيها القول إلى أهل الخبرة والأطباء، ونسأل الأطباء: ما هي الأمراض المخوفة؟ ويسأل كل طبيب في تخصصه الذي عرف ضبطه فيه وإلمامه به، وأما بالنسبة للأحوال، فقد ذكر المصنف منها حالة الطاعون، ويلتحق بهذه الحالة أحوال في مسائل منها: أحوال تلحق بمن كان مرضه مخوفا وتأخذ حكمه في التصرف بالمال ومما يلتحق بمسألة من مرض مرضا مخوفا: مسألة التحام الصفين وتقابل المتقاتلين، فإذا وقع القتال بين المسلمين والكافرين، وتقابل الصفان والتحم الجيشان، فإذا ابتدأ القتال فيحكم على أهل المعركة من المسلمين أنهم في حكم المريض مرض الموت، فلا تصح وصيتهم لوارث، ولا تنفذ عطيتهم فيما زاد عن الثلث؛ لأن هذه الحالة الغالب فيها عدم السلامة، وقل أن يخرج الإنسان منها سالما. وفي حكم ذلك: من كان محكوما عليه بالقتل، كرجل قتل رجلا ظلما وعدوانا فحكم عليه بالقصاص، وإذا حكم عليه بالقصاص ومضى الحكم وتم وثبت عند القاضي وحكم به، فمذهب طائفة من العلماء أنه بحكم المريض مرض الموت، فلا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث، ولا تصح وصيته لوارث. وكذلك أيضا يدخل في حكم هذه المسألة: أحوال الخوف التي تقع في وسائل النقل، فمثلا: ركوب البحر، فذكر العلماء رحمهم الله في القديم ركوب البحر، فإذا كان البحر ساكنا فلا إشكال والغالب السلامة، وأما إذا هاج البحر وماج وجاءت ريح عاصف، وأصبحوا في حالة الخوف والكرب، فإنهم حينئذ يحكم بكونهم في حكم المريض مرض الموت، فلو أن شخصا في تلك الحالة قال: مالي كله في سبيل الله، أو أوصيت بمالي كله في سبيل الله، أو أوصيت بمالي إلى فلان، أو أعطيت ولدي فلانا، فحينئذ لا يصح تصرفه في العطية فيما زاد عن الثلث، ولا تصح وصيته لوارث، هذا إذا كان البحر في حالة الهيجان. وكذلك أيضا من الأحوال التي تلتحق بما سبق: إذا تعرض المركوب -كطائرة أو سيارة أو قطار- إذا تعرض إلى حالة من حالات الخوف أو الهلاك الغالبة، فإنها تلتحق بما ذكره العلماء رحمهم الله في القديم من كون الإنسان في حكم المريض مرض الموت. حكم تصرف من أصيب بالجروح وحوادث السير وحوادث السيارات -نسأل الله السلامة والعافية- بعض إصاباتها قد تذهب عقل الإنسان وتمييزه وإدراكه، وحينئذ فلا يصح تصرفه، وأما إذا كان عنده الإدراك والعقل، وشعوره معه، فإنه يحكم بصحة وصيته، ولكن يسري عليها ما يسري على وصية المريض، وكذلك عطيته تصح ويكون حكمها حكم عطية المريض مرض الموت، هذا إذا كانت الإصابة قد أثرت فيه أثرا الغالب أنه يموت بسببه. أما الدليل على كوننا نحكم بأن وصيته وعهده صحيح وتصرفه صحيح مع أن الغالب أنه سيهلك وسيموت: فهو أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصحيح: أنه لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي -لعنه الله- وحمل إلى بيته، ثم جاء من يعالجه ويداويه وأمر بسقيه اللبن فخرج اللبن مع الجرح وعلم أنه ميت، فلما علم ذلك وصى رضي الله عنه وأرضاه وعمل الصحابة بوصيته؛ فدل هذا على أن الطعن أو الإصابة أو الحادث أو إصابة الحادث إذا كان الغالب أنها تهلك الإنسان، لكن شعوره معه وإدراكه معه، فإنه يحكم بصحة تصرفاته، ولكن تبقى هذه التصرفات في حكم تصرفات المريض مرض الموت. أما لو أنه غيب وأصبح يخلط مثلما يقع -نسأل الله السلامة والعافية- في بعض الإصابات في الرأس التي تذهب العقل، وقد يأتي معها نزيف في الدماغ أو نحو ذلك، ويصبح عند الإنسان خلط وعدم ضبط، فمثل هذا لا يصح تصرفه، ويعتبر في حكم المجنون، ويحجر عليه، ولا تصح منه هبة ألبتة، بمعنى: لا نحكم بصحة هبته، فلو قال مثلا: تصدقوا وأعطوا الفقراء والمساكين، والأطباء يقولون: إن هذه الإصابة قد أثرت في عقله وأصبح لا يميز، فإنه قد تقدم معنا أن المجنون محجور عليه وأنه لا ينفذ تبرعه، وحينئذ ينتقل المال كله للورثة. هذا بالنسبة لمسالة الإصابات، لكنها إذا كانت الإصابة خطيرة والغالب أن صاحبها يهلك، فإنها تكون في حكم مرض الموت بلا إشكال عند العلماء رحمهم الله. قال رحمه الله تعالى: (ولا بما فوق الثلث) . أي: ولا تصح عطيته بما فوق الثلث، فإذا كان عنده ثلاث مائة ألف وأصابته هذه الأمراض المخوفة، أو تعرض لهذه الحالات التي نحكم فيها بكونه في حكم مرض الموت فإنه لا ينفذ تبرعه فيما زاد عن الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ سعد رضي الله عنه لما قال: (أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا. قال: فبثلثيه؟ قال: لا. قال: فبالنصف؟ قال: لا. قال: فبالثلث، قال: الثلث والثلث كثير) ، فبين صلى الله عليه وسلم بذلك أنه لا حظ له فيما زاد عن الثلث، وأنه لا يجوز له أن يجاوز هذا الثلث إلزاما، لكن لو رضي الورثة وطابت خواطرهم بذلك فحينئذ لا إشكال؛ لأن الحق لهم، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) ، فكل عطية أعطاها ومرضه مرض مخوف فإننا ننظر في قدرها من رأس المال والتركة، فإن عادلت ثلث ماله أو أقل صحت ونفذت، وإن كانت فوق ذلك فإنها تصح في الثلث ويبقى ما زاد عن الثلث موقوفا على إجازة الورثة. وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها) استثناء، أي: إلا إذا أجاز الورثة ما زاد عن الثلث، وقد جاء ذلك مرفوعا في الأثر: (إلا أن يجيز ذلك الورثة) ، فإذا أجاز الورثة فإنهم يجيزون أمرين: الأمر الأول: أن يجيزوا وصيته للوارث، فلو أنه قال: أعطوا ولدي محمدا مائة ألف من تركتي، لكن محمد وارث، فحينئذ نقول: لا يجوز له أن يوصي لوارث، ثم نسأل بقية الورثة: هل تجيزون وصيته لأخيكم؟ فإن قالوا: نعم، أجزنا وصية أبينا لأخينا، فحينئذ تمضي، ولكن هل تعتبر عطية مبتدأة أو تعتبر عطية ماضية كانت موقوفة ثم نفذت؟ فنبني على ذلك فروعا سيأتي بيانها -إن شاء الله تعالى- في كتاب الوصايا. الأمر الثاني: أن يجيزوا وصيته بما زاد عن الثلث، فإن أجازوها مضنت ونفذت، وإلا فلا. حكم تصرف من مرض مرضا مخوفا ثم عوفي منه وقوله: [إن مات منه] . أي: إن مات من الطاعون، فهذا شرط، لكن لو أنه جاء الطاعون في بلده وأوصى أو أعطى ثلاثمائة ألف في سبيل الخير، وهذه الثلاثمائة ألف تعادل ماله كله، ثم ارتفع الطاعون عن بلده ومات بعد ارتفاعه بأسبوع أو بشهر بسبب غير الطاعون، فعند ذلك عطيته صحيحة؛ لأن اعتبار الطاعون مبني على الغالب، لكن إذا زال الطاعون وارتفع فحققنا أن ذلك الظن قد بان خطؤه، ولا نحكم بظنة كونه في حكم المريض مرض الموت؛ لأنه سلم وتبين أنه من الناجين، مع أن سنة الله عز وجل أن القليل من يسلم ومن ينجو لكن الله جعله من القليل، فلما اختلط من ينجو ومن لا ينجو، وذلك لعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى؛ بقينا في الحكم الغالب أنه لا ينجو وقلنا: لا يجوز تصرفه، فإن ارتفع الطاعون وسلم منه ثم مات بسبب آخر كحادث سيارة، أو مات بسكتة قلبية أو بمرض آخر، فحينئذ نصحح عطيته حينما أعطى وهو في حال الغالب أنه يهلك، لكنه لما ارتفع هذا الحال ولم يصب بسوء؛ فلم يكن له أي تأثير على عطيته، فتنفذ الثلاثمائة ألف وتصح عطيته؛ لأنه أعطاها وتبين أنه في حكم السالم لا في حكم المريض، فقوله: (إن مات منه) ، هذا شرط بأن يقع الموت بهذا السبب الغالب تأثيره. وقوله: [وإن عوفي كصحيح] . إن عوفي تماما من السل أو من الفالج أو مما تقدم من أمراض مخوفة فإن عطيته التي أعطاها تكون صحيحة. أما إذا كان معه مرض -لا قدر الله- يخشى عليه من الهلاك فنوقف العطية ونقول لصاحب العطية: انتظر، فإن مات من هذا المرض فليس لك ما زاد عن الثلث؛ لأن هناك استحقاقا للورثة، ولك شريك مستحق، فلا يجوز أن تنفرد بهذه العطية كاملة ما دام أنها زائدة عن الثلث، وإن لم يمت فحقك يأتيك وتأخذ العطية كاملة، وبناء على ذلك: الأمراض المخوفة إذا كان الإنسان مصابا بها فنحجر على ماله ونمنع تصرفاته فيما زاد عن الثلث؛ لأن الغالب أنه يهلك في هذه الأمراض المخوفة، فإن شفي من هذا المرض المخوف، وسلمه الله عز وجل منه، فإننا نحكم بكونه في حكم الصحيح وعطيته نافذة، ولا يقيد بالثلث فيما كان من هباته وصدقاته وعطاياه. تصرف المريض مرضا مخوفا لم يقعده على الفراش قال رحمه الله: [ومن امتد مرضه بجذام أو سل أو فالج ولم يقطعه بفراش فمن كل ماله والعكس بالعكس] . قوله: (ومن امتد مرضه بجذام أو سل أو فالج) . هذه الأمراض يصاحبها على حالتين: الحالة الأولى: إما أن تقعده عن الفراش وتمنعه من الخروج لقضاء حوائجه، فحينئذ لا إشكال أنه في حكم المريض مرض الموت، وأما إذا كان يذهب ويأتي ويقضي أموره ويفعل ما يفعله الصحيح، إلا أنها تؤثر في صحته بعض الشيء، فهذا لا تأثير له فعطيته نافذة وحكمه حكم الصحيح. إذا: العبرة فيما ذكر من الأمراض -كالفالج والجذام- أن هذه الأمراض كلها إذا لم تعق صاحبها وتحبسه في بيته فإنها لا تؤثر، ومثل ذلك: الهرم وكبر السن، فالكبير في سنه يضعف في أحواله ويضعف في أموره، ولا يستطيع أن يقضي مصالحه كما يقضيها من هو شاب جلد، فحينئذ لا نقول: إن الهرم يجعله في حكم المريض مرض الموت ولا يصح تصرفه فيما زاد عن الثلث، بل إنه يعامل معاملة الصحيح، والأمراض كذلك، فإن كان معه هذه الأمراض كالفالج والجذام -نسأل الله السلامة والعافية- ولم تقعده فإنه يكون في حكم الصحيح، لكن إذا أقعدته وألزمته الفراش ثم مات وامتدت إلى الموت، فيعتبر صاحبها في حكم المريض مرض الموت منذ أن أقعدته، كما إذا أدخل المستشفى ثم لزم المستشفى حتى توفاه الله، فإن كانت عطيته قبل دخوله وكان يذهب ويقضي مصالحه قبل الدخول، مع أنه قرر الأطباء أنه مصاب بهذا المرض، فمثلا: قرر الأطباء أنه مصاب في بداية محرم، فأعطى عطية وهو يذهب ويأتي ويقوم بمصالحه، فأعطى عطية، ثم بعد فترة أقعدته على الفراش فأعطى عطية ثانية، فالعبرة في عطيته الثانية بالثلث، وأما عطيته الأولى فإنها ماضية تامة. وقوله: (ولم يقطعه بفراش) . وهكذا بالنسبة للهرم وكبير السن، إذا أقعده هرمه ولزم الفراش فإنه يصح تصرفه في الثلث فما دونه، ويكون حكمه حكم المريض مرض الموت. وقوله: (فمن كل ماله والعكس بالعكس) . أي: من امتد مرضه ولم يقطعه بفراشه، بمعنى: أنه لم يعقده، فعكسه من أقعده على الفراش، فإنه يوجب الحكم بكونه في حكم المريض مرض الموت إذا امتد به ومات بسبب ذلك المرض.
__________________
|
#503
|
||||
|
||||
![]() العبرة في الثلث الموصى به أو المعطى عند الموت قال رحمه الله: [ويعتبر الثلث عند موته] . إذا ثبت ما تقدم أن العبرة بالحالة الموجبة لحكمنا بكون الإنسان في حكم المريض مرض الموت، وبينا الأمراض والأحوال التي توجب الحكم على الشخص في ذلك، وما الذي يترتب على هذا الحكم، وأنه لا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث ولا تصح وصيته لوارث، فيبقى السؤال هذا الثلث، هل العبرة فيه بالوقت الذي وصى أو أعطى فيه أم بوقت الموت؟ وفائدة هذا الخلاف: أنه ربما يكون الشخص -مثلا- عنده مائة ألف ريال، فيوصي بهذه المائة الألف ريال في أول محرم وهو مريض مرض الموت، فإذا كان مريضا مرض الموت وأصابه المرض في أول محرم وأعطى مائة ألف هبة أو عطية أو صدقة فما الحكم؟ نقول: إنه في حكم المريض مرض الموت، فلا ينفذ إلا ثلثها، هذا من حيث الأصل؛ لكن لو أنه توفي في الخامس عشر من محرم وقبل وفاته بأسبوع وهب مائة ألف، ثم توفي فورث مائتي ألف، فأصبح مجموع تركته عند الوفاة ثلاثمائة ألف، وأصل تركته عند العطية مائة ألف، فهل العبرة بوقت العطية أم العبرة بوقت الموت؟ العبرة بالموت، فإن كان الوقت الذي مات فيه تعادل عطيته الثلث فما دون صحت، ولو كانت قبل أكثر، والعكس بالعكس، فلو أنه أعطى مائة ألف وقد دخل المستشفى -مثلا- في بداية محرم، وحكم الأطباء أن هذا المرض مرض مخوف وأنه لا ينجو إلا إذا شاء الله سبحانه وتعالى، فلما أدخل المستشفى كانت تركته تعادل ثلاثمائة ألف، فقال لأولاده: هذه مائة ألف ريال، اجعلوها في المساجد وفي سبل الخير والبر، إذا: وصيته في حدود الثلث، ولا إشكال فيها، والمائة ألف تعادل الثلث من الثلاثمائة ألف، فلما مرض وأدخل المستشفى احتاج إلى علاج بمائة ألف، فأصبحت تركته ناقصة فلما توفي في منتصف محرم إذا تركته مائتا ألف، فهل العبرة بوقت ما أوصى ووقت ما أعطى وتصدق ووهب، أم العبرة بوقت الموت؟ بين رحمه الله أن العبرة بالوقت الثاني وهو الأخير، وألا ننظر إليه قبل ذلك فقرا ولا غنى، فإن العبرة بوقت الموت، فإن كان المال الذي وصى به أو أعطاه معادلا للثلث في ذلك الوقت حكمنا بكونه صحيحا، وإن نقص أو زاد على التفصيل الذي ذكرنا. الفرق بين الوصية والعطية شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يفرق فيها بين الوصية والعطية، وفي الحقيقة أن هذا الفصل -تصرفات المريض- هو وسط بين العطية وبين الوصية؛ ولذلك تتداخل أحكام الوصية والعطية، ويحتاج المصنف إلى بيان الأمور التي يفرق فيها بين الوصية والعطية. فالوصية: عهد من الميت لورثته أو لمن يقيم على وصيته من بعد موته، فهي إسناد لما بعد موته، كقوله: إذا مت فابنوا لي مسجدا، أو احفروا بئرا، أو افعلوا كذا وكذا من الأمور التي يرجو بها الثواب والأجر بعد موته، فهذه هي الوصية، فإذا وقعت من الإنسان بعطية أو بمال، فإن كانت من شخص واحد فلا إشكال، لكنه لو أعطى ثلاثة أشخاص، كأن أعطى محمدا وزيدا وعمرا، فوصى لمحمد بمائة ألف، ثم بعد يوم وصى لزيد بمائة، ثم بعد يوم وصى لعمرو بمائة، فهذه ثلاثمائة ألف ريال أوصى بها، وكانت تركته مثلا تسعمائة ألف ريال، إذا: هي في حدود الثلث ولا إشكال، لكن عند موته أصبحت تركته -مثلا- أربعمائة ألف ريال، فنقصت فلم تعادل الثلث أو نقصت عن الثلث، فما الحكم؟ ننظر إلى المال الذي خلفه عند موته ونأخذ ثلثه ونقسمه أثلاثا، لمحمد الثلث، ولزيد مثله، ولعمرو مثله، فننظر نسبة ما وصى به لكل واحد ويسوى بينهم، فيسوى بين المتقدم وبين المتأخر، فعلى هذا الوصية يشرك فيها بين الأوصياء، فنقدم متى وصى لزيد ومتى وصى لمحمد، فمحمد متقدم ثم بعده زيد ثم بعده عمرو، في الوصية: لا تنظر إلى التاريخ فتقدم من هو مقدم ونؤخر من هو مؤخر، فلا يجتمع الكل عند الموت؛ لأن الوصية في الأصل لا ينتقل الاستحقاق فيها إلا بعد موت الشخص، فهي مسندة لما بعد الموت، فما قبل الموت يكون قد قدم هذا أو أخر هذا فلا تأثير له؛ لأنهم عند الموت اشتركوا جميعا في كونهم موصى إليهم. قال رحمه الله: [ويبدأ بالأول فالأول في العطية] . العطية عكس الوصية، فمثلا: لو أن الذي حدث في الوصية حدث في العطية، ففي الوصية قال: إذا أنا مت فأعطوا محمدا مائة ألف، وبعد يوم قال: إذا أنا مت فأعطوا زيدا مائة ألف، وقال لعمرو مثل ذلك، لكن في العطية جاء قبل وفاته أو في مرض الموت وقال: يا محمد! خذ مائة ألف من مالي، (خذه) هذه حالة ما أسندها إلى بعد الموت، بل قال: خذ، أو أعطوا محمدا مائة ألف من مالي، وهذا الكلام وقع في أول النهار، وبعد ساعة دخل عليه زيد، فقال: أعطوا زيدا مائة ألف من مالي، ثم بعد ساعة دخل عليه عمرو فقال أيضا: أعطوا عمرا مائة ألف من مالي، فهذه عطية لثلاثة أشخاص، ولكنها لم تقع في وقت واحد، فحينئذ يقدم المقدم ويؤخر المؤخر، فلو أنه كان في وقت قوله: (أعطوا) ، تعادل الثلاثمائة ألف ثلث ماله، ثم تأخروا في القبض ولم يقبضوها حتى أصبح ماله -مثلا- ثلاثمائة ألف، فحينئذ لا تستطيع أن تعطي كل واحد منهم مائة ألف، وأصبح الثلث مائة ألف، فهل تقسم الثلث بينهم؟ الجواب لا، في العطية نبدأ بالمقدم، وهو أول من أعطاه، فحينئذ يعطى المائة الألف، وأما الآخران فلا شيء لهم؛ لأنه زائد عن الثلث، فهذا بالنسبة لمسالة التسوية في الوصية والمفاضلة في العطية. والسبب في هذا: أن الموجب -يسمونه العلماء: الموجب أو السبب- يختلف في الوصية والعطية، فالعطية تلزم بالقبول وعقدها معتبر، فإذا قال: أعطيتك مائة ألف، وقال الآخر: قبلت، فحينئذ تم العقد، والعقد الأول مقدم على العقد الثاني، بمعنى: أن العطية الأولى والعدة بها مقدمة على العدة الثانية وهكذا الثانية بالنسبة للثالثة بخلاف الوصية، أما الوصية فإنها موقوفة على الموت، فإذا كان الإنسان حيا فإنه لا يحل لأحد استحقاق المال، فهؤلاء الثلاثة كانوا كلهم في حال حياته ولو قبل موته بلحظة كلهم في كونهم موصى إليهم، فهم جميعا مشتركون، بخلاف العطية، فالعطية لا تنتظر الموت، بل العطية مباشرة؛ لأنه لم يعلقها على موت ولم يعلقها على شرط، وعلى هذا فإنه يقدم في العطية الأول فالأول. وأما في الوصية فيسوى بينهم ويشرك، على خلاف بين العلماء في قضية التشريك، فبعضهم يقول: على قدر حصته، بمعنى: ينظر إلى نسبة المبلغ الذي أعطاه مع شركائه كما ذكرنا، فإذا كانوا متساوين في المبالغ، فيعطى كل واحد منهم الثلث إذا كانوا ثلاثة -أي: ثلث الثلث- وأما إذا قال: أعطوا محمدا -مثلا- خمسمائة ألف، وأعطوا زيدا مائتين وخمسين ألفا، وأعطوا عمرا مائتين وخمسين ألفا، فعند ذلك نعطي الأول سهمين منها -وهو النصف- ونعطي الثاني ربع الثلث، ونعطي الثالث ربع الثلث، وهذا إذا كان يفاضل بينهم، فحينئذ النسبة بين الخمسمائة والمائتين والخمسين للآخرين نسبة النصف، فمجموع عطيته مليون، فلو ترك قدرا لا يعادل ثلثه المليون، بل يكون الثلث نصف مليون، فإذا كان قد أعطى محمدا خمسمائة وأعطى زيدا مائتين وخمسين وعمرا مائتين وخمسين، فإذا كان الثلث خمسمائة ألف فيعطي مائتين وخمسين لمحمد ومائة وخمسة وعشرين لكل واحد من الآخرين، وهذا بالنسبة للقسمة عند المفاضلة في الوصايا إذا ضاقت عن الثلث. وقد تقدم في المجلس الماضي أن الوصية تخالف العطية في جملة من المسائل، وذكرنا بعض هذه المسائل التي أشار إليها المصنف رحمه الله، ثم شرع في بيان مسألة من هذه المسائل التي تخالف فيها الوصية العطية، وهي: أنه لا يملك الرجوع في العطية، بخلاف الوصية. فلو أن مريضا مرض الموت أعطى عطية وقبلها المعطى، وحكم بلزومها، فإنه لا يملك المريض الرجوع فيها، ولا يحق للورثة أن يطالبوا المعطى بما أعطاه مورثهم؛ لأنها أصبحت لازمة، وحينئذ تكون ملكا للذي أعطي، فلو أعطاه سيارة مثلا، أو أعطاه أرضا، أو أعطاه نقودا، وحكم بلزوم العطية؛ فإنه حينئذ لا يملك صاحب العطية الرجوع فيها، وهكذا ورثته ليس من حقهم أن يطالبوا بنقض هذه العطية ورد المال إليهم. قال رحمه الله: [ولا يملك الرجوع فيها] . أي: بخلاف الوصية، فإن الوصية من حقك أن تبدل فيها وتغير؛ لأن الوصية تصرف لما بعد الموت، وحينئذ من حقك أن تغير في هذا التصرف، وقد وسع الله على عباده في تغيير الوصية، فلو كانت الوصية لا يملك الإنسان الرجوع فيها لحصل في ذلك من الضرر والمفاسد على العباد شيء كثير. فقد يوصي الإنسان بشيء بناء على أن أولاده صغار، ثم يتغير الحال فيصبح أولاده كبارا، وقد يوصي لشخص يعرفه بالأمانة والديانة والاستقامة والصلاح وحسن النظر في الأمور، ثم يتغير حاله فيكبر سنه، أو تأتيه ظروف تغير من حاله بحيث يكون من الصالح لورثته من بعده وذريته ألا يليهم مثل هذا، وبناء على ذلك وسع الله عز وجل على عباده في الوصية، وجعل لهم حق الرجوع فيها والتغيير والتبديل، ولذلك قال بعض الأئمة رحمهم الله: إن الله رحم العباد بجواز التغيير في الوصية، فلولا ذلك لما أقدم أحد على الوصية خوفا من أن يلزم بشيء لا يملك الرجوع فيه من بعد. فالشاهد: أن الوصية والعطية بينهما خلاف، فالعطية لا يملك الرجوع فيها، والوصية يملك الرجوع فيها، ولا شك أن الإلزام بالعطية مستقيم مع مقاصد الشريعة العامة وأصولها التي تعتبر العطية بمصالحها المترتبة عليها. بخلاف الوصية فإن الحكم يختلف فيها، ولذلك جاز الرجوع فيها. الأمر الثاني: أن الوصية معلقة على الموت، فالتصرف فيها بعد الموت كما ذكرنا، فأنت لست بملزم بشيء، ويجوز لك فسخها، فما دام أنه لم يقع الموت فمن حقك أن تغير وتبدل، وتقدم وتؤخر، فلا حرج عليك في ذلك. فمثلا: لو أنه أوصى أن يعطى ربع ماله إلى قريب، ثم نظر في هذا القريب فوجد أموره قد تحسنت، كأن كان فقيرا حينما كتب الوصية، وكان محتاجا حينما كتبت له الوصية، ثم بعد سنة أو سنتين -والوصية موجودة- تغير حال هذا القريب فأصبح أغنى حتى من الموصي، فحينئذ يتدارك الموصي، وينظر من هو أحوج منه، ولربما كان ورثته وذريته أحوج، فيبطل الوصية ولا يوصي لأحد، ويبقي المال لورثته؛ لأنه يرى في ذلك أنه أعظم لأجره وأحسن عاقبة لذريته وولده. فمن حقه أن يبدل ويغير، ويقدم ويؤخر في الوصية كما ذكرنا؛ لوجود المصالح المترتبة على هذا التغيير؛ ولأن الناس بحاجة إليه، فوسع الله على عباده في ذلك. وقوله: [ويعتبر القبول لها عند وجودها] . أي: ويعتبر القبول للعطية عند وجودها، فإذا قال له: أعطيتك سيارتي، أو أعطيتك أرضي، وكانت دون الثلث في مرض الموت، وقال: قبلت، فإنه إذا قال: قبلت، تمت الصيغة بإيجابها وقبولها، وحينئذ يكون له ما أعطي؛ لأنه قبل في حياة المعطي، فلابد أن يكون القبول حين العطية، بخلاف الوصية، فالوصية يمكن أن يتأخر قبولها إلى ما بعد الموت؛ لأنها في الأصل مسندة ومضافة، والتصرف فيها معتبر لما بعد الموت، فأعطي كل عقد من هذين العقدين حقه. وقوله: [ويثبت الملك إذا] . أي: ويثبت الملك للمعطى، وقوله: (إذا) : التنوين عوض عن كلمة، أي: إذا قبله، أي: إذا قبل فإنه يثبت له الملك حينئذ، وأما إذا لم يقبل فحينئذ تلغى العطية لأنها متوقفة على قبول المعطى. وقوله: [والوصية بخلاف ذلك] . أي: أنها ضد العطية في الأحكام التي ذكرت، وبناء على ذلك: لا تكون الوصية كالعطية، فيسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ولكن يراعى الأقدم فالأقدم في العطية، ولا يملك الرجوع في العطية، ويملك الرجوع في الوصية. الأسئلة مسألة إعتاق ثلث العبيد السؤال بناء على أن الرقاب من الأموال، هل من أعتق عبيده يرد هذا العتق إلى الثلث أم أن العتق أقوى؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالرقاب هي من الأموال، وإذا وصى فيجزأ عبيده ويقرع بينهم وينظر في الثلث مما يقرع بينهم، وهذا فيه قضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أعتق عبيده ولا مال عنده غيرهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وجزأهم أثلاثا وأقرع بينهم، فمن خرجت قرعته عتق ومن لم تخرج قرعته فإنه لا يصح عتقه؛ لأن المال الذي أعتق منه هذا السيد ليس بملك له؛ لأن الزائد عن الثلث يصبح ملكا للورثة، فإذا أعتق ما زاد عن الثلث من عبيده ومواليه فإنه قد أعتق في مال غيره، كما لو أعتق عبد غيره ومولى غيره فإنه لا يصح عتقه، والله تعالى أعلم. السؤال هل يجوز أن نضع صدقة جارية للوالد من التركة قبل تقسيمها دون رضا الورثة؟ حكم جعل صدقة جارية من تركة الميت قبل تقسيمها الجواب هذه مسألة مهمة، وهي أن بعض الورثة تغلبهم العاطفة ويحدثون في تصرفاتهم بعد وفاة الميت أمورا غير شرعية، ومن ذلك: أنهم يأخذون من المال ويصرفون منه بنية صالحة على سبيل الإحسان إلى الميت، وهذا لا يجوز إلا بإذن الورثة، فالمال للورثة، وينبغي استئذان الورثة، فإذا أذن الجميع وكان الصرف الذي صرفوه مشروعا وأذن الله به، فإنه لا إشكال في جوازه واعتباره، وتكون عطية من الورثة وبرا منهم لوالديهم. أما أن يأتي شخص ويأخذ من تركة الشخص مالا ويقول: نعطيه لطلاب العلم، أو للفقراء أو للمساكين، أو ننفقه في بناء المساجد دون استئذان من الورثة، فهذا غير صحيح ولا يلزم مثل هذا، بل يرد المال إلى أهله الورثة ويستأذنون، ولا ينفذ هذا التصرف؛ لأن مالكه الحقيقي لم يأذن به، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسه، وإذا وقع شيء بين الورثة باتفاق منهم أن يبنوا مسجدا أو يبروا والدهم شيئا من البر والخيرات، فهذا من بر الوالدين، ومما يضع الله فيه البركة للورثة في مالهم الموروث من ميتهم ومورثهم. لكن هنا مسألة نحب أن ننبه عليها وهي: أن بعض الإخوة يحرج أخواته وأقرباءه في الصدقة، فيأتي -مثلا- عند قسمة المال ويقول: يا إخوان! نريد أن نخرج مائة ألف صدقة عن والدنا، أو نريد أن نخرج كذا وكذا عن والدنا، فحينئذ كل من الورثة عندما يقال له مثل ذلك الكلام فإنه يستحي ويجامل، وهذا الحياء والمجاملة يقتضي أنه قد نزع منه المال بدون طيبة نفس منه، فعلى كل أخ كبير أو وصي قائم على مال أن يتقي الله عز وجل في حقوق الورثة، والذي أوصي به أن ينظر -أولا- إلى حال الورثة، فقد تكون هناك الأخت المديونة المعسرة، وقد تكون عندها ظروف في أولادها وأطفالها أحوج من أي صدقة، وصرف هذا المال إليهم أفضل من إعطائه لأي قريب، وترك مال أبيهم وأمهم وجد الأولاد لهم يكون أجره للوالد الذي ترك أعظم من الصدقة للغريب، وهذا أمر لا يدركه الكثير، بمعنى: أن العاطفة تغلب على البعض فيقول: نتصدق به، ولماذا نتركه لأولاده؟ وكأنهم يظنون أن المال لو بقي للأولاد فإنه لا أجر فيه، والصحيح هو العكس، فبقاء المال لإخوانك وأخواتك من والدك ووالدتك أعظم أجرا لهما من الصدقة به لغيرهم؛ لأنه صدقة من الوالد على فلذة كبده وعلى قريبه، وخاصة إذا كانت أختك معسرة أو محتاجة، أو أولادها بحاجة، أو هناك زوجة محتاجة وتريد أن تتجمل معها، وتريد أن تحسن إليها وتكفيها حاجتها. فهذا أمر ينبغي التنبه له، وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس على مثل هذه الأمور، لوقوع مظالم كثيرة وخاصة في ميراث النساء، فقد يخرجون النساء مع أنه قد يكون عند البنت من الذرية والأطفال والنسل من هو أحوج إلى إرثها؛ فعلى هذا ينبغي التنبيه على أن الواجب على الوصي أو من يقوم على توزيع التركة ألا يحرج إخوانه. والحل الأمثل: أن يقولوا: إن هذا المال تركه والدنا، ومن أراد منكم أن يتصدق فليتصدق الصدقة الخفية التي هي أقرب للتقوى وأعظم للأجر، فينوي كل شخص بماله ويتصدق به على والده، أو يقول: يا إخواني! هذا مال تركه لكم أبوكم، فلا تنسوا فضل الوالد عليكم فتصدقوا عنه واذكروا والدكم بالصدقة؛ لأنه شرع التصدق عن الميت، كما في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا تصدق الابن عن أبيه غيبا دون أن يعلم إخوانه ودون أن يطلعوا على أنه أخرج من مال أبيه مالا، فهذا أتقى لله وأعظم أجرا، وينبغي تقديم الأقارب على غيرهم، فإن الصدقة عليهم أعظم والثواب فيهم أتم وأكمل، والله تعالى أعلم. أفضلية الصلاة داخل الحجر السؤال هل هناك أي ثواب خاص لصلاة النفل داخل الحجر؟ الجواب الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى داخل البيت) ، فإن تيسر للإنسان أن يصلي داخل البيت فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وفيه تأس بالسنة، وإن تعذر عليه وصلى في الحجر فهذا نوع من التأسي والاقتداء، وله فضل بالاهتداء برسول صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك: أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي داخل البيت، فمنعها وأمرها أن تصلي في الحجر، وجعل الحجر من البيت، كما في الحديث الصحيح، على الخلاف في القدر الذي تركته ما بين ثلاثة أذرع وزيادة، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أن صلاتها داخل الحجر كصلاتها في البيت، وقلنا: إن الإنسان يشرع له التأسي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى داخل البيت لتيسر ذلك، فإن لم يتيسر لك فـ عائشة لم يتيسر لها، لأنهم ذكروا عدة علل منها: أنه يقع زحام من الرجال للنساء داخل البيت، فإذا كان البيت مفتوحا فالأفضل أن يترك الحجر للنساء لوجود مجال للرجال أن يصلوا، فيترك الحجر للنساء، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة، لكن إذا قفل البيت وما تيسر الدخول إلا في أوقات معينة؛ لأن هذا راجع إلى سادن البيت، وهذا حق من حقوقه، وهو أمر شرعي وله أصل في الشريعة، فإذا فتح البيت وأمكن للإنسان أن يصلي في داخله متأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بأس، ولكنه ليس بواجب ولا لازم، إنما له أجر لمتابعته للنبي صلى الله عليه وسلم، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يتكلف ويدخل إلى البيت ويرقى حتى يدخل داخل البيت -حيث أنه كان الباب مرتفعا كما هو موجود الآن- فيصعد إليه ويتكلف الدخول إليه ليس هذا إلا لمعنى. وعلى هذا: فإن تسير له ذلك فالحمد لله، وإن لم يتيسر له وصلى في الحجر فهو على خير، وفيه نوع من التأسي؛ لأنه لم يستطع الصلاة في داخل البيت، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة أن تصلي في الحجر عند تعذر دخولها إلى البيت، وهذا أصل عام، والله تعالى أعلم. رطوبة فرج المرأة السؤال السائل الذي يخرج من المرأة أثناء الحمل هل هو ناقض من نواقض الوضوء؟ الجواب السائل الخارج من فرج المرأة أو ما يسمى برطوبة فرج المرأة له حكم النجاسة على أصح قولي العلماء رحمهم الله. وهذا السائل فيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان في أول الإسلام إذا جامع الرجل امرأته ولم تنزل لا غسل عليه ولا عليها، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طرق على أحد الأنصار، فخرج الأنصاري فجأة وكان ملما بأهله، فقال صلى الله عليه وسلم: (لعلنا أعجلناك، إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك) ، وفي رواية: (لتغسل ما أصابك منها) ، فأمره إذا لم يقع الإنزال أن يغسل العضو؛ لأنه حكم بنجاسة ذلك السائل؛ لقوله: (لتغسل ما أصابك منها) ، والذي أصابه منها رطوبة الفرج. فهذه المسألة مسألة واضحة، فالسنة فيها واضحة، ولا تحتاج إلى كلام طبيب ولا غيره؛ لأن هناك مسائل شرعية الحكم فيها واضح ليس فيها أي إشكال. فقوله: (لتغسل ما أصابك منها) لا يصيبه منها إلا الرطوبة التي جعلها الله عز وجل مثل المذي في الرجل، وهذا شيء ذكره العلماء رحمهم الله المتقدمون وأشاروا إليه، أن رطوبة فرج المرأة بالنسبة للمرأة كالمذي بالنسبة للرجل، ويكون عند شدة الشهوة وزيادتها، وكل هذه الأمور واضحة لا لبس فيها، لا من جهة الأثر ولا من جهة النظر، فالقول بكونها نجسة لا إشكال فيه، وإذا ثبت كونها نجسة فحكمها حكم النجاسة، فاجتمع حينئذ خروجها من الفرج ووصف الخارج، وإذا اجتمع المخرج والخارج وصفا مؤثرا حكم بانتقاض الوضوء، وحينئذ تكون كالبول، فنقول: يجب الوضوء من رطوبة الفرج؛ لأنها سائل نجس أوجب الشرع في نصوص السنة الثابتة وجوب الوضوء من كل سائل نجس خارج من الفرج، بدليل المذي والبول والودي ودم الاستحاضة، فكلها سائلة، ودم الاستحاضة ليس ببول ولا غائط، لكنه سائل نجس خارج من الموضع. فعلى كل حال: إذا ثبت المخرج والخارج وكان الخارج نجسا فإن هذا يؤثر؛ لأن مسألة انتقاض الوضوء فيها تفصيل عند العلماء: هل نعتبر المخرج ولا نلتفت للخارج؟ أو نعتبر الخارج ولا نلتفت للمخرج، أو نعتبر الأمرين؟ فإذا قلت: أعتبر الخارج ولا أعتبر المخرج، فحينئذ تقول: العبرة عندي بالنجاسة، فالمخرج ليس له تأثير، فلو خرج حصى أو خرج دود من القبل، وهذا الخارج طاهر -كالحصى- فحينئذ لا ينتقض الوضوء، وإذا خرج النجس وهو الدم من غير المخرج كالرعاف فينتقض الوضوء، وهذا مسلك الحنفية والحنابلة، ولذلك أوجب الحنابلة رحمهم الله الوضوء من الدم الكثيف إذا خرج من سائر البدن، فأوجبوه من الرعاف وأوجبوه من الحجامة؛ لأنه سائل نجس خارج من البدن، فلم يلتفتوا إلى مخرجه ولكن التفتوا إلى الخارج. وهناك مذهب آخر يقول: الثابت عندنا بالمخرج لا بالخارج، فكل شيء خرج من المخرج أثر، ولا عبرة بنوعية الخارج؛ وبناء على ذلك وفي زماننا لو أدخل المنظار أو أدخلت آلة الكشف من القبل أو الدبر ثم أخرجت، نقضت الوضوء؛ لأنها خرجت من المخرج، والعبرة عندهم بالمخرج لا بالخارج، فسواء كان الخارج طاهرا أو نجسا فإن العبرة عندنا بالمخرج. ودليل من ينظر إلى أن العبرة بالخارج لا بالمخرج: أن القيء قد أوجبت الشريعة الوضوء منه، كما في حديث ثوبان: (قاء فتوضأ) ، مع أنه لم يخرج من المخرج بل خرج من الفم، والفم ليس بمخرج نجس، لكنه لما كان القي نجسا أثر في الحكم، فدل على أن مناط الحكم هو الخارج النجس وليس المحل، وبناء على ذلك قالوا بانتقاض الوضوء منه واعتدوا بالخارج لا بالمخرج. وأما الذين يرون العبرة بهما على تفصيل، فيعتبر مذهبهم من أقوى المذاهب؛ لأن الشريعة تشهد بالمخرج وتشهد بالخارج، لكن مسألة القيء وكونه ينقض الوضوء أجاب الأولون عنها وقالوا: إن الشريعة أوجبت الوضوء من القيء؛ لأنه نجس، لكنه نجس من الموضع الذي هو المعدة، فاستوى خروجه من الأعلى أو من الأدنى، وأيضا القيء لا يعتبر مؤثرا -وهذا بإجماعهم كلهم- إلا إذا استحال الطعام وتغير، قالوا: فإذا استحال الطعام وتغير كان في حكم الفضلة التي يستوي خروجها من أعلى البدن، أو من أسفل البدن، فنظروا إليه فضلة ولم ينظروا إليه في مسألة كونه نجسا، وقالوا: الدليل على هذا: أننا لو نظرنا إلى القيء لم يستحكم فيه التغير كالقلس أو لم يؤثر فيه تأثيرا قويا لا نحكم بانتقاض الوضوء به، ويؤكد هذا أنه لو فتحت في المعدة فتحة وكانت تحت السرة وخرج منها خارج، حكمنا بانتقاض وضوئه؛ فدل على تأثير المادة نفسها من الموضع وليس كونها نجسة أو طاهرة، وهذا المسلك فيه كلام طويل للعلماء رحمهم الله، وفيه خلاف مشهور بين جهابذة أهل العلم رحمهم الله. أما مسألة الرطوبة وخروجها من الفرج فلا إشكال في قوة تأثير هذا النوع من الخارج ونقض الطهارة به، فإذا أصبح مسترسلا فحينئذ نقول للمرأة: عليها أن تضع القطن، فإذا كان يغلب القطن فإنها تشد الفرج، كما وصى النبي صلى الله عليه وسلم في الاستحاضة، وعندنا السنة واضحة، ومسائل التخفيف واضحة، فلو قال قائل: كيف تنقضون الوضوء وكيف تحملون النساء مسألة الوضوء كل دقيقة؟ قلنا: ما دام أنه نجس وينقض الوضوء فهذا لا يفصل بالمشقة؛ لأن عندنا المستحاضة أنه إذا غلبها رجعت إلى التخفيف، فجمعت جمع تأخير إن شاءت، أو جمعا صوريا إن شاءت، وإن شاءت توضأت بدخول وقت كل صلاة وصلت الفرض، وهذا ليس فيه مشقة، بدليل أن الشريعة قد حكمت بذلك في المستحاضة، فما الفرق بين المستحاضة التي غلبها الدم وبين التي معها رطوبة الفرج؟ لا فرق بينهما، فهذه أخرجت فضلة نجسة وهذه أخرجت فضلة نجسة، فوجب الحكم بالتخفيف في هذه كما وجب الحكم بالتخفيف لهذه ولا فرق بينهما، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________________
|
#504
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوصايا) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (404) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [1] شرع الله عز وجل الوصية في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيتها واستحبابها، وقد كانت في البداية واجبة، ثم نسخ وجوبها وبقي استحبابها لغير الوارث، ويختلف حكمها باختلاف الحقوق الواجبة على الموصي، فقد تكون الحقوق لله تعالى وقد تكون للمخلوقين، ولها صفة معلومة يذكرها العلماء في بابها. تعريف الوصية ومشروعيتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول رحمه الله تعالى: [كتاب الوصايا] الوصايا: جمع وصية، وهي: عهد بالتصرف مسندا لما بعد الموت. وقد عبر رحمه الله بالكتاب؛ لأن هذه الأحكام والمسائل ليست مبنية على ما تقدم؛ بل إنها منفصلة عن الأبواب والكتب السابقة. ونظرا لاختصاص هذا العهد بجملة من المسائل والأحكام أفرده العلماء رحمهم الله بكتاب مخصوص، فقالوا: كتاب الوصايا. وأصل الوصية: الوصل، يقال: وصى بالشيء ووصى الشيء إذا وصله. والوصية في الأصل: عهد من الإنسان للغير، وقد تكون بالأموال وقد تكون بغير الأموال، وفي اصطلاح العلماء: هي التصرف في الشيء بما بعد الموت، أو التصرف بالشيء مسندا لما بعد الموت. فخرج بذلك التصرف في حال الحياة. وهذا الكتاب يبين العلماء رحمهم الله فيه مشروعية الوصية للإنسان، وما يجوز له أن يوصي به، ولمن يوصى، وما يترتب على الوصية من الآثار والأحكام والمسائل. يقول المصنف رحمه الله: (كتاب الوصايا) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالوصايا. وقد جمعها المصنف رحمه الله لاختلاف أنواعها، فهناك وصية مشروعة، وهناك وصية ممنوعة، وهناك وصية موقوفة، وكل من المشروعة والممنوعة والموقوفة تشتمل على عدد من الأنواع من الوصايا؛ فلذلك جمعها المصنف رحمه الله إشارة إلى تعدد أنواعها واختلافها. ولقد شرع الله عز وجل الوصية في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الوصية وجوازها، قال تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة:180] . مشروعية الوصية بالكتاب والسنة والإجماع فقد كانت الوصية مفروضة في أول التشريع، والله عز وجل جعل الوصية للإنسان، يوصي لأقربائه؛ سواء كانوا أصولا كالوالدين، أو فروعا كالأولاد، أو ما يتصل بذلك من القرابة والحواشي. فكان الأمر في أول الإسلام أن المريض مرض الموت يصرف ماله إلى قرابته، فيقول: أعطوا فلانا كذا وكذا، وأعطوا فلانا كذا وكذا من قرابته، فيبدأ بوالديه، ثم الأقرب فالأقرب، ولم تكن هناك مواريث، فكان كل يوصي لقرابته بما يراه. ثم إن الله تعالى تولى قسمة المواريث من فوق سبع سماوات، فلم يكلها إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، فنسخت فرضية الوصية، وبقي استحبابها لغير الوارث، وتكون هذه الآية: {كتب عليكم} [البقرة:180] ، أي: فرض، ثم قال الله في خاتمتها: {حقا على المتقين} [البقرة:180] . وهذا يدل على الوجوب واللزوم، لكن هذه الآية منسوخة حكما لا تلاوة، فهي مما بقيت تلاوته، ونسخ حكمه، فهي محكمة تلاوة لا حكما. وقد بين الله سبحانه وتعالى في آيات المواريث في مواضع عديدة من الكتاب استحقاق كل وارث؛ سواء كان من ذوي الفروض من الأصول أو من الفروع، وبينت السنة أيضا أحكام العصبات وما يستحقون في الإرث. وبعد هذا البيان للفرائض نسخت فرضية الوصية، وبقيت على الاستحباب بالنسبة لغير الوارث. وأما السنة فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية الوصية، لكن السنة فصلت في حكم الوصية: فالشخص لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون عليه حقوق لله عز وجل، أو لعباده، أو لهما معا. الحالة الثانية: أن لا تكون عليه حقوق. فإن كانت عليه حقوق واجبة لله عز وجل، أو لعباده أو لهما؛ فإن الوصية فرض عليه، فيكتب الوصية ويبين حق كل ذي حق، وقدر ذلك الحق الذي وجب عليه؛ وذلك كشخص حضرته الوفاة وعليه كفارات، فيكتب في وصيته أن عليه إطعام ستين مسكينا من كفارة ظهار مثلا إذا كان لم يستطع الصوم، ولم يستطع العتق، أو جماع في نهار رمضان، أو يكتب إن عليه دما واجبا جبرانا لواجب في حج، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق، فيكتب في وصيته ما هو حق عليه لله سبحانه وتعالى. والوصية فرض عليه في هذه الحالة؛ لأنه يجب عليه الوفاء بحق الله، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما كان الوفاء بهذا الحق متوقفا على أن يعهد إلى ورثته من بعده أن يقوموا بأداء هذه الكفارات وإيصالها إلى أهلها؛ وجبت عليه الوصية بهذا. إذا: الوصية بالحقوق لله سبحانه وتعالى واجبة؛ لأنه وسيلة للقيام بالواجب. وكذلك إذا كان عليه حقوق للناس، مثل ديون لأشخاص، فإنه يكتب في وصيته أن فلان ابن فلان علي كذا وكذا، أو في ذمتي كذا وكذا، ويبين في وصيته اسم ذلك الشخص كاملا وعنوانه، خاصة إذا خشي التباسه بغيره، أو صعبت معرفته إلا عن طريق ذلك، فيجب عليه بيانه. كذلك أيضا تجب عليه الوصية في غير الأموال. الشاهد: أن السنة بينت أن الوصية لها حالتان: فإذا كانت هناك حقوق وواجبات مالية على العبد، فالوصية واجبة عليه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في حديث ابن عمر في الصحيحين: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) . فهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم لزوم ووجوب الوصية، لكن إذا كان هناك شيء، بمعنى: إذا تعلقت ذمته بحقوق للناس، أو بحقوق لله عز وجل، فليس من حقه أن يضيع هذه الحقوق، أو يتعاطى أسباب تضييعها بالتفريط في الوصية. وأما إذا كان الإنسان خلوا من الحقوق والواجبات التي لله عز جل وللناس، وذمته بريئة من هذا كله، فقد تكون الوصية واجبة عليه من حقوق غير مالية، مثل أن يكون عنده أولاده، وهؤلاء الأولاد دون البلوغ، ولا شك أن الإنسان عرضة للموت في لحظاته فضلا عن دقائقه، فضلا عن ساعات عمره، فضلا عن أيامه، فهو عرضة للموت بين العشية والضحى، فالواجب عليه إذا كانت عنده ذرية ضعيفة، كالقصار والأولاد الصغار، أن يكتب وصية يعهد فيها إلى شخص يثق بدينه وأمانته وعقله وحسن نظره في أمر ذريته من بعده؛ لأن هذا من النصيحة للولد، وأعظم الحقوق بعد حقوق الوالدين حقوق الأولاد؛ لأن الله حمل العبد مسئوليتهم، وألزمه أمانتهم، فالواجب عليه أن لا يدخر وسعا إذا علم أمرا فيه صلاح دينهم أو دنياهم أو آخرتهم أو مجموع ذلك كله إلا ووصى به، فيوصي بذريته الضعيفة، كما أمر الله سبحانه وتعالى وأشار إلى ذلك بقوله: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا} [النساء:9] . فوصى الله سبحانه وتعالى من ابتلي بالذرية الضعيفة؛ كالأيتام والقصار من بعده، والنساء -ولو كن بالغات فهن يحتجن من يزوجهن ومن ينظر في أمورهن ومصالحهن- أن يكتب وصيته إلى من يثق بدينه وأمانته وعقله من قرابته، فيبدأ بالأقرباء لأنهم أستر وأكثر حفظا للعرض، وأكثر حفظا للسر، فإذا لم يجد في القرابة من تتوفر فيه الصفات وتبرأ به الذمة، عهد إلى من يثق به من إخوانه المسلمين. وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الوصية، وقد فعل ذلك أئمة السلف وخيار الناس من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فقد وصى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، ووصى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصى التابعون لهم بإحسان، والأئمة، ولذلك فلا يشك في مشروعية الوصية، وأنها من أعظم الخير الذي يسديه الإنسان لأهله وولده من بعد موته. صفة الوصية ينبغي على المسلم إذا أراد الوصية أن يبدأ بحمد الله عز وجل والثناء عليه، سواء كانت مكتوبة، أو ملقاة، فيبدأ أولا بذكر اسم الله عز وجل، كما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه فيما حكاه عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يبدءون وصاياهم ببسم الله الرحمن الرحيم. وهذا أصل عند العلماء: أن الأمور التي فيها تذكير بالله عز وجل، وذكر لله سبحانه، تستفتح باسمه؛ لأن اسم الله مبارك، كما قال تعالى: {تبارك اسم ربك} [الرحمن:78] ، فاسم الله فيه البركة والخير، وما كان في قليل إلا كثره، ولا يسير إلا باركه، فليس هناك أبرك من اسم الله عز وجل. فيبدأ وصيته ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم يحمد الله ويثني عليه بالذي هو أهله، ثم يبدأ بأعظم الوصايا وأجلها وهي الوصية بتوحيد الله عز وجل، كما أخبر الله عن أنبيائه وصفوته من خلقه صلوات الله وسلامه عليهم، فقد وصى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب بنيهم أن لا يشركوا بالله شيئا، وأن يفردوا الله بالعبادة، وأن يقوموا بحق الله عز وجل، وأعظم تلك الحقوق توحيده سبحانه وتعالى. فيوصي أولاده بتوحيد الله أولا، وإخلاص العبادة لله عز وجل، والقيام بحقوقه الواجبة من إقامة الصلوات، وإيتاء الزكوات، وصوم رمضان، وحج البيت، وغيرها من فرائض الإسلام، فيجمل أو يفصل تفصيلا مناسبا لا إطالة فيه. ثم بعد الوصية بحق الله عز وجل يبدأ بالأهم فالأهم من أموره؛ فيبدأ أول ما يوصي به بعد ذلك أن يوصي بتجهيزه وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه على وفق السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحذر ذريته من البدعة والحدث، وإحداث الأمور التي لم يأذن الله عز وجل بها في تغسيله، أو تكفينه، أو الصلاة عليه، أو تشييعه، أو دفنه، فيحذرهم من البدع في ذلك كله، ويأمرهم بما أمر الله ورسوله به، ويذكرهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويأمرهم بالرجوع إلى العلماء ومن يوثق بدينه وعلمه؛ لكي يقوم بذلك على وجهه المعتبر. ثم بعد ذلك يوصي بما يتبع ذلك من العزاء وغيره من الأمور، ألا يحدث فيها شيء من البدع، ويوصيهم بالصبر واحتسابه عند الله عز وجل، وأن في الله خلفا من كل فائت، فالله عوض للعبد من كل ما يفوته من الدنيا وما فيها، ومن كانت سلوته بالله عز وجل جبر كسره، وأعظم أجره، وأخلف عليه بأحسن الخلف سبحانه وتعالى، ويوصيهم بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في المصائب من الاسترجاع وسؤال الله الخلف، وهو حديث أم سلمة الثابت في الصحيحين. ثم بعد ذلك يوصيهم بحقوق القرابة التي هي أعظم الحقوق بعد حق الله عز وجل، فيوصهم ببر الوالدين، فإن كان والدا وصاهم ببره من بعد موته؛ بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له، وسؤال الله عز وجل أن يفسح له في قبره، وأن يحسن له فيما يكون من آجل أمره. ويوصيهم ببر والدتهم إن بقيت من بعده، فيوصيهم بوالدتهم خيرا، وفاء لزوجه وحفظا لحقها، وكذلك أيضا يوصيهم ببعضهم خيرا إن كانوا إخوة؛ أن يحفظوا حقوق الأخوة، وأن يجتمعوا ولا يفترقوا، وأن يتواصلوا ولا يقطع بعضهم بعضا، وأن يتقوا الله عز وجل في بعضهم فيحسنوا ولا يسيئوا. كذلك أيضا يوصيهم بأضعفهم، فيوصي الذكور بالإناث خيرا؛ لأن المرأة ضعيفة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم حقها فقال عليه الصلاة والسلام: (إني أحرج حق الضعيفين المرأة واليتيم) ، فيوصي الذكور بأخواتهم خيرا؛ أن يحسنوا إليهن، وأن يكونوا على أحسن ما يكون الأخ لأخته، خاصة أن الأنثى بعد فقد الوالد تشعر بفراغ كبير، وعجز عظيم، فإنها تفقد حنانا عظيما، والله عز وجل إذا أراد بها خيرا بارك لها في أخيها، فكم من أخ مبارك قام على إخوانه مقام والده! فيوصي الإخوان بأخواتهم خيرا، ويذكرهم بصلتهم وزيارتهم وتفقد أحوالهم من بعد موته، ودائما يكون الأخ حافظا لهذه الوصية حتى ولو لم يوص بها الوالد، فإن للأخت على أخيها حقا عظيما، وتحتاج إليه ولو كانت مزوجة؛ بل قد تكون الأخت بعد زواجها أحوج ما تكون إلى عطف أخيها وبره وصلته، أكثر مما لو كانت غير ذات زوج. فتحتاج إلى أن تستشيره، وتحتاج إلى معونته ومواساته، وتحتاج إلى كلمة منه تثبتها في همومها وغمومها، فهذا مما يوصى به -حقوق الإخوان والأخوات- ويوصي الأخوات بإخوانهن خيرا كذلك. ثم ينظر إلى الأمور التي يحتاج إليها من بعد موته، فيوصيهم أن لا تفرق الدنيا بينهم خاصة في أمور الإرث؛ فيوصي الذكور بحفظ حقوق الإناث، ويوصي القوي أن يحفظ حق الضعيف، وأن يتقي الله جل جلاله في حقوق إخوانه القصار كالأيتام والضعفة، فلا يأكل أموالهم بناء على أنهم صغار ويقول: إذا كبروا أعطيهم المال، فهذا من التفريط؛ لأنه لا يأمن أن تتغير أموره، ولا يأمن الفقر، فيحفظ أموالهم كاملة تامة غير منقوصة، ويحرص على حسن النظر فيها إذا كانت المتاجرة بها فيها خير ومصلحة، ويوصيهم بحفظ حق العاجز والمحتاج، مثل المتخلف في عقله، أو الذي فيه سفه في تصرفه، فيوصي بعضهم ببعض خيرا على هذا الوجه. ويفضل أن يجعل أحدهم قائما عليهم، ويكون كالخليفة من بعده في ولده، وبالأخص إذا كان أكبرهم سنا، فإن الأكبر له حق على الأصغر وهو مقدم عليه، ولذلك ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة القسامة أنه لما أراد حويصة أن يتكلم قال عليه الصلاة والسلام: (كبر كبر) ، فيقدم الكبير إذا كان أكثر عقلا، وأكثر نظرا، وأكثر رحمة وشفقة. وينظر إذا كان الكبير ليس بهذه المثابة، وعلم أن أصغر أولاده، أو الأوسط، أو أحدهم ممن هو أصغر منه أكثر ديانة، وتقوى لله عز وجل، وحفظا للحقوق، فإنه يجعل العهد إليه، ويسلي من هو أكبر؛ فيعتذر له بالتي هي أحسن، ويقول له قبل موته: إني كنت سأوصي إليك، ولكن يعتذر إذا استطاع حتى ولو بالتورية، ويقول: أراك مشغولا، ولا أريد أن أحملك، أو نحو ذلك، مما يكون فيه جبر لخاطره، وإطفاء لنار الفتنة أن يوغر صدره على أخيه. فيوصي بالأرشد فالأرشد من أولاده، والأتقى لله عز وجل؛ لأن التقي يخاف الله عز وجل، ويرجع إلى العلماء حتى يسعى في فكاك نفسه من النار، فيحرص على أن يولي أمرهم من يخاف الله عز وجل ويتقيه فيه. وإذا كانت هناك أمور يحتاجها، مثل أن يتصدق بصدقات أو هبات فيسمي هذه الصدقات، ويقول: أخرجوا من مالي كذا وكذا في سبيل البر، أو في سبيل الخيرات، أو أخرجوا من مالي كذا وكذا إفطارا للصائمين، أو أضحية، أو نحو ذلك من الوصايا التي يجعلها من بعد موته في حدود الثلث فما دونه كما سيأتي. كذلك أيضا إذا أراد الوصية ينتبه لحقوق الناس، فيوصي أولاده بالأقرباء من الأعمام والعمات والأخوال والخالات، فيوصيهم بالقرابة خيرا، ويوصيهم بأهل وده ومحبته من بعد موته، أن يوصلوا ولا يقطعوا، وأن يحسن إليهم ويبروا ويكرموا؛ إنفاذا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم ببر الوالدين في ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه) . فإذا كان له إخوان وأصدقاء فيهم حاجة، وهو غني ثري وترك لورثته مالا، وكان يتفقد إخوانه وأصدقاءه بالمال، فيوصي أولاده أن يتفقدوا هؤلاء الإخوان والخلان؛ لأن هذا من حفظ العهد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان) ، فإذا كانت بينك وبين أخيك محبة ومودة ولو مجلسا واحدا جلسته معه على ذكر الله وطاعة الله فأحببته في الله، فإنه يربطه بك حق عظيم. فهذا من حفظ العهد، أن توصي بإخوانك وأصدقائك وخلانك أن يزاروا، فربما زارهم ابن من أبنائك ففرج الله به كرباتهم، فكان سببا في الترحم عليك والدعاء لك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه) ؛ لأنه إذا جاء الابن بعد وفاة أبيه لزيارة صديقه تذكر الصديق ما كان عليه صديقه من المحبة، ولربما بكى فخشع قلبه فترحم عليه، ولربما سامحه في حقوقه التي هي عليه، فهذا كله فيه خير كثير للميت. ولم تأت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم به من فراغ، فيحرص على وصيتهم بأصدقائه وإخوانه، ووصيتهم بالجيران، وغير ذلك مما وصى الله به من الأعمال الصالحة. فإذا كانت الوصية مستجمعة للخير أعظم الله الأجر للموصي، وكتب ثوابه، وختم له بخاتمة الحسنى؛ لأنه عمل صالح من بعد موته يأجره الله عليه، فكم من أبناء وبنات صلحت أحوالهم بالوصايا! فالوصايا لها وقع بليغ في القلوب والنفوس. ومما وقع أن رجلا كان له أولاد، وكانوا على أشر ما أنت راء من الفرقة والعداوة والتقاطع والتهاجر، فكتب وصيته، فأوصاهم بتقوى الله عز وجل، وذكرهم بحقوق الأخوة من بعد موته، فلما مرض مرض الموت اجتمعوا عنده، وأمرهم أن يقرءوا وصيته من بعده، فلما توفي تأثروا جميعا، وانكسرت قلوبهم، فلما فتحوا وصيته وقرءوها بكوا جميعا، وأقبل بعضهم على بعض، وسامح بعضهم بعضا، وكانوا على خير ما يكون الأخ مع أخيه، فالله يكتب له ثواب إصلاح ولده من بعده، فالوصايا لها أثر عظيم في القلوب. ويستحب أن تقرأ الوصية قبل تجهيزه وتكفينه؛ لأنه ربما كانت فيها أمور كأن يوصي لشخص معين أن يغسله، كأن يكون عالما، أو طالب علم، فيحسن تغسيله على السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما وصى بشيء يخرج عنه، أو حق يؤدى عنه، فهذا كله فيه احتياط، وهو كونها تقرأ قبل تجهيزه وقبل الصلاة عليه؛ لأنهم إذا فعلوا ما فيها آجره الله وأعظم ثوابه. والوصية إذا جمعت هذا الخير الكثير؛ لا شك أنها تحقق الهدف الذي من أجله شرعت، فالله عز وجل فتح أبواب رحمته لعباده، ولم يجعل الإحسان للعبد في حال حياته فقط؛ بل جعل له أبواب الخير بعد موته من صدقات فيوصي بها مثل الأوقاف، فإذا رأى من المصلحة أن يكون هناك وقف أوقف، ووصى من يراه صالحا بالنظارة وعهد به إليه، كما فعل الخلفاء الراشدون كـ عمر رضي الله عنه وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا استجمعت الوصية هذه المقاصد ا اختيار الكلمات الجامعة النافعة في الوصية فيحرص الإنسان على الوصية، ولا يقول: قد أثقل أو أطول عليهم، فقد تكون مقاصد الوصية وكلماتها لها أبلغ الأثر، واختيار العبارات المؤثرة، فإن الورثة ينظرون إلى هذا الكتاب وهذه الوصية أنه بقية مما ترك والدهم، وينظرون إلى كلماته كلمات ميت إلى أحياء، ويحسون وهم يقرءون الوصية أنها من والدهم، وأن والدهم مشفق في هذه الكلمات، فتقع في نفوسهم موقعا بليغا وتؤثر أثرا عظيما. فإذا اخترت لها جوامع مقاصد الإسلام العظيمة فقد أعذرت إلى الله عز وجل، وأيضا حركتهم للخير، فقد تجد الرجل العاقل الحكيم يقول كلمة في وصيته فيفتح بها -بفضل الله- أبواب الخير لذريته، فيقول في وصيته مثلا: أوصي أولادي بمحبة العلماء والرجوع إلى العلماء، فيمكن أن تكون هذه الوصية سببا في سعادة ولده في الدنيا والآخرة؛ لأنه لما ربطهم بأهل العلم، ووصاهم بأهل العلم، فقد وصاهم بما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم. وتجد الآخر يقول: أوصيهم بلزوم السنة ومحبتها، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيصبح الولد كلما سمع شيئا فيه سنة وهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حرص على تطبيقه واتباعه ولزومه. والكلمات الجامعة والوصايا العظيمة المؤثرة البليغة هي التي تصل إلى المراد {وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} [النساء:63] ، ولذلك فإن الله عز وجل اختار للمواعظ وللوصايا ما يؤثر، وقال في الوصية في الذرية الضعيفة: {فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا} [النساء:9] . ولن يكون القول سديدا إلا إذا وافق الحق، وسدد صاحبه، فأصبح لسانه يقول ما قال الله، وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، ويوصي بما وصى به الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويقرأ المسلم وصايا السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ويهتدي بهذا الهدي المبارك. أمور ينبغي توفرها في الوصية وينبغي للمسلم أن تكون وصيته جاهزة، فلا يبيت إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه، وينبغي عليه أن يحتاط في هذه الوصية، فيشهد عليها عدلين إذا كانت فيها حقوق؛ لأن هذا يثبت الوصية، ويعين على وصول الحق إلى أهله، وإذا كتبت فتكون بخط واضح ومقروء. كذلك أيضا يضعها في مكان أمين بحيث إذا احتيج إليها بعد وفاته يعرف مكانها، فيقول: يا أولادي! وصيتي في هذا المكان، أو في هذا الدرج، أو مكتوبة عند رأسي، فإذا توفيت فخذوا هذه الوصية، وليس المراد أن يضعها تحت رأسه كما يفعل البعض؛ لأنه قد يكون فيها ذكر الله عز وجل وأسمائه وآياته، إنما عند رأسه يعني قريبة منه، ولأن الإنسان إذا توفي في نومه يبحث عن الأشياء القريبة منه فتوجد وصيته، وهذا يدل على أنه ينبغي أن تكون قريبة منه، ولذلك يحرص الوالد، وتحرص الوالدة، ويحرص كل مسلم على وضع الوصية في مكان تحفظ فيه. كذلك أيضا في بعض الأحوال خاصة إذا كان الشخص عنده مال وافتتن بكثرة المال، وافتتنت ذريته، ويكون في أولاده -لا قدر الله- من فيه جرأة على تغيير الوصية، أو التلاعب فيها، فينبغي أن يحتاط. فإذا علم أن هناك من ورثته من يتلاعب ويغير في الوصية؛ كتب الوصية وعهد بها إلى قريب من أقربائه، أو إلى رجل أمين، ويجعل الوصية عنده إذا خاف من أولاده أن يتلاعبوا في الوصية، أو يضيعوا، كما يكون في بعض الأحيان فقد يعتدي الذكور على حقوق الإناث، فيحتاط بذلك، أو يعلم أن الكبار لا يرضون بوصيته للصغير، فيحتاط بكتابة الوصية وإعطائها من يحفظها، بحيث إذا احتاج ولده إليها من بعد موته فتكون محفوظة، إلى غير ذلك من الأمور التي يتحقق بها المقصود في الوصايا. وإذا اتقى العبد ربه جعل له من أمره يسرا، فشرح صدره، ويسر أمره، ورزقه التوفيق والسداد في أموره كلها. الأسئلة حكم التصدق عند الموت بثلث المال السؤال التصدق بثلث المال عند الموت، هل هو مندوب إليه ومن السنة، وهل ورد فيه فضل خاص؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمريض مرض الموت أن يتصدق بثلث ماله، وقال: (الثلث والثلث كثير) ، لكن هذا على سبيل الإباحة، ثم يفصل في الناس، فإذا كان الشخص غنيا، وماله كثير، وهناك أقرباء لا يرثونه، وهم محتاجون، فإنه حينئذ يستحب له أن يوصي لمثل هؤلاء؛ لما فيه من الصلة والبر، ولأنه لا يضر ورثته. أما لو كان قليل المال، أو المال الذي يتركه ليس بذاك، أو ترك مالا ولكن ترك عيالا كثيرين، وهم محتاجون لهذا المال، فحينئذ يبدأ بأقربائه، فيترك ورثته على غنى أفضل من أن يتصدق، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، فمن أفضل ما تصدق به الإنسان بعد موته أن يترك ورثته أغنياء لا يحتاجون إلى الناس؛ فإن من أعظم البلاء والكرب حاجة الإنسان إلى الغير. فنسأل الله العظيم أن لا يجعل لنا ولا لكم إلى لئيم حاجة، فالذل والفاقة تكسر الإنسان، ولربما كذب الصادق وخان الأمين بسبب الفقر والعياذ بالله! والفقر قد يهلك الإنسان، وقد يجره إلى ما لا تحمد عقباه، فيعد ولا يفي، ويقول ولا يصدق، وكل ذلك تحت الضرورة، وتحت وطأة الفقر وشدته. فلذلك لو ترك الورثة على غنى وكفاف، وعدم حاجة، فلا شك أن هذا أفضل، أما إذا كان المال كثيرا، وهناك قرابة محتاجون، ولا شك أنه إذا أوصى لهم يجبر كسرهم، ويكون له فيه أجر كثير، فحينئذ يستحب له أن يوصي، ويكون له في ذلك الأجر من الصلة والبر، والله تعالى أعلم.
__________________
|
#505
|
||||
|
||||
![]() حكم شراء الكفن وجهاز الموت حال الحياة السؤال إن في كتابة الوصية تذكير العبد برحيله من الدنيا، فهل من السنة أيضا أن يشتري أكفانه ويضعها عنده، وكذا ما يحتاج إليه من الجهاز للموت؟ الجواب هذا الأمر في الحقيقة فيه تفصيل: فإن كان الشخص يخاف من المال الحرام، ومن الكفن بمال حرام؛ فإنه يحتاط، وله الحق أن يوصي، ولذلك وصى أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه في كفنه ألا يكون فيه مال فيه شبهة، فإذا كان الإنسان يخاف من المال الحرام، أو هناك أقرباء له، وأعمالهم مشبوهة، وتجارتهم فيها حرام، وفيها كسب حرام، واحتاط فاشترى كفنه، فلا شك أن هذا فيه خير كثير له، وفيه سلامة له وعافية، فمثل هذا لا بأس به. وأما إذا كان الأمر على سعة فالأمر فيه على سعته، فلا داعي أن يضيق على نفسه، أو يعين له كفنا معينا، لكن ليس هناك من بأس، وقد أثر حتى عن بعض السلف الصالح رحمهم الله في قضية الكفن أنهم اختاروا لأنفسهم أكفانهم وألزموا بها، ولا بأس في ذلك، لكن المعول أن يكون كسب الكفن من حلال لا من حرام، والله تعالى أعلم. حكم وضع المحتدة للصبغة أو الإثمد على العينين للضرورة السؤال امرأة توفي عنها زوجها، وهي تشتكي عينيها، فهل يجوز أن تضع فيها صبغة أو إثمدا يسكن هذا الألم، مع أنها كبيرة في السن؟ الجواب الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الزينة بالنسبة للمرأة المحتدة، ولما اخبرته المرأة أن ابنتها تشتكي عينيها قالت: (أفنضمدها بالصبر؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا) ، ومنعها من ذلك؛ لأنه فيه زيادة التجمل، واغتفر بعض العلماء الدواء الذي لا زينة فيه، فإذا تيسرت القطرة التي لا زينة فيها فلا إشكال؛ لأنه يوجد البديل الذي لا زينة فيه، وأما إذا كان الدواء يشتمل على تزين، ويوجد هناك دواء لا زينة فيه، فلا شك أنه يتعين ما لا زينة فيه، ومن هنا وجود القطرات التي يمكن وضعها والتداوي بها تغني عن مثل هذا، والله تعالى أعلم. الوصية بكتب العلم ووقفها السؤال هل الكتب لطالب العلم تعتبر من الأموال فلا يزاد عن الثلث فيما لو أراد أن يوقفها على طلاب العلم ونحو ذلك؟ الجواب أما من حيث الأصل فالكتب أموال، وتأخذ حكم التركة، فلو ترك كتبا من بعده فتقيم هذه الكتب، فلو كانت بستة آلاف وأوصى بثلثها؛ فإن وصيته تنفذ في الثلث، ولا تنفذ فيما زاد إلا بإذن الورثة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، أما الكتب فإنها مال، ومن أفضل المال وأطيبه. لكن بالنسبة لقضية وقفية الكتب ينبغي أن يكون الإنسان بعيد النظر في الوصية، فإذا كانت الوصية بكتب فينبغي أن يضع في حسبانه أن الكتب تحتاج إلى أماكن توضع فيها، وتحتاج إلى قيم يقوم عليها، وهذا أمر يحتاج إلى احتياط، فلا يحمل الورثة ما لا يطيقون من بعد موته، ولا يلزمهم بشيء يعلم أنهم لا يقومون به، أو لا يستطيعون القيام به فيدخل عليهم الإثم، ولا ينصح لهم. فإذا كانت الكتب يمكن وقفيتها، ووضعها في أوقاف عامة، مثل المدارس التي يحتاج فيها إلى وجود المكتبات، أو الجامعات والمكتبات العامة، فهو أفضل، والمهم أنه يحتاط ويضع في حسبانه الأمور اللازمة لوقفية المكتبات، ولا يحرج ورثته، ويحملهم ما لا يطيقون، الأمر الذي قد يفضي بهم إلى الإثم والعقوبة، والله تعالى أعلم. السؤال من تذكر أنه لم يصل صلاة الفجر، وهو قد صلى العشاء، فهل يعيد صلاة الفجر فقط أم يعيد من صلاة الفجر إلى العشاء على الترتيب؟ حكم من نسي صلاة الفجر إلى ما بعد العشاء الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: فقالت طائفة من أهل العلم: يجب الترتيب، ولا تصح العشاء إذا لم يصل المغرب، وبناء على هذا القول: يلزمه أن يعيد الفجر ثم الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وهذا القول هو الذي دل عليه دليل الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب: فإن الله تعالى يقول: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء:103] ، فنص سبحانه على تأقيت الصلاة، والتأقيت هو التحديد. وبناء على ذلك: لا تصح الظهر إلا بعد الفجر، ولا تصح العصر إلا بعد الظهر، ولا تصح المغرب إلا بعد العصر، ولا تصح العشاء إلا بعد المغرب، كما رتبها الله عز وجل. وأما السنة: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: أنه لما شغل يوم الخندق -قبل شرعية صلاة الخوف- عن الصلوات، ففاتته صلاة العصر؛ صلى العصر ثم المغرب ثم العشاء، فراعى الترتيب عليه الصلاة والسلام، مع أن الوقت الذي صلى فيه كان محتاجا إلى تدارك وقت المغرب؛ لأنه أتاه عمر رضي الله عنه وقد غربت الشمس فقال: (يا رسول الله! والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها، قوموا بنا إلى بطحان ... ) . يقول: (حتى كادت الشمس تغرب) ، ومعناه: أنه بعدها صلاها غابت الشمس مباشرة، فاحسب حساب وضوئه وصلاته للعصر -أعني عمر - ثم مجيئه للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (قوموا بنا إلى بطحان) . ومن يعرف المدينة يعرف أن الثغر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يناضل فيه المشركين، ويرميهم بالنبل، بعيد عن بطحان، فهناك مسافة بين الجبهة التي كان فيها الرمي وبين بطحان بما لا يقل عن ربع ساعة تقريبا، إذا نزل الإنسان من طرف الثغر الذي كان يرامي ويراشق فيه المشركين -صلوات الله وسلامه عليه- وهو سفح جبل سلع الشمالي الغربي، فنزل عليه الصلاة والسلام وقال: (قوموا بنا إلى بطحان) ، فنزل إلى بطحان، وتوضأ من بطحان ثم صلى، قال الراوي: (فصلى العصر والمغرب والعشاء) . فلا شك أنه كان محتاجا إلى تدارك وقت المغرب؛ لأن أقل ما فيه أنه سيدرك آخر وقت المغرب؛ فكونه عليه الصلاة والسلام يبدأ بالعصر قبل المغرب، مع أن المغرب يخشى فواتها، يدل على لزوم الترتيب، وهذا هو الأصل، وهو القول الصحيح إن شاء الله في هذه المسألة، أن من نسي صلاة فإنه يعيدها ويعيد ما بعدها من الصلوات؛ لأنه لا تصح صلاة إلا وهي مرتبة على التي قبلها. وهناك قول يغتفر الترتيب ويصحح الصلاة البعدية إذا نسي القبلية، فيصلي القبلية ولو صلى بعدها الصلوات، والصحيح ما ذكرناه، والله تعالى أعلم. السنة في التعزية السؤال ما هي السنة في التعزية والجلوس لها؟ الجواب أولا: تعزية المسلم لأخيه المسلم جبر لخاطره، ومواساة له في مصابه، يثبت الله بها قلبه، ويسدد بها لسانه، ويشرح بها صدره، فكم من كلمات طيبات مباركات من المؤمنين والمؤمنات، في الحوادث والملمات، دفعت عن أهلها هموما وغموما، لا يعلمها إلا الله عز وجل، فالمسلم يحتاج إلى تعزية أخيه ومواساته. وخاصة في حال فقد العزيز من والد أو والدة أو أخ أو أخت أو ابن أو بنت، فيواسي المسلم أخاه المسلم، فيذكره بما عليه السنة في المصيبة من الاسترجاع، وسؤال الله عز وجل حسن الخلف، وحسن العوض. ويذكره بأن الله سبحانه وتعالى فيه عوض عن كل فائت، فلو زالت الدنيا عن العبد، فإن الله تعالى إذا تأذن له بحسن الخلف سيعوضه خيرا منها عاجلا أو آجلا، وكم من مصائب وكوارث ومتاعب عادت على أهلها بكل خير في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فأول ما ينبغي عليه أن يثبت قلب أخيه. ثانيا: إذا جاء في التعزية يراقب حال أخيه فإن رآه على سنة ثبته عليها، وإن رأى منه خطأ أو تقصيرا أو بدعة أو ضلالة ذكره بالله، ونصحه، فأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر، وحذره من معصية الله عز وجل في عزائه من إحداث القراء وإحداث البدع في البيوت، والمبالغة في وضع الكراسي ووضع الأنوار على البيوت، مما قد يكون في بعض الأحيان من أموال اليتامى والقصار، ففيه اعتداء على الأموال التي أمر الله بحفظها لأهلها، أو الإتيان بالقراء أو الذبائح، أو إطعام أهل العزاء، ونحو ذلك من الأمور المنكرة التي ما أنزل الله بها من سلطان، التي أحدثها الناس بمحض أهوائهم، وجارى بعضهم بعضا محاباة. فينبغي تذكير الناس في مثل هذا، وينبغي على طلاب العلم أن ينصحوا، وعلى أئمة المساجد أن يذكروا، فكلمة الحق منهم غالبا مسموعة، وألا يجامل الناس في مثل هذا، فإذا كان المبتدع لم يجامل في بدعته، ولم يخف منك، فينبغي عليك وأنت على الحق وعلى السنة ألا تجامل، وألا تخاف منه؛ بل تبدي له الحق وتقول له: يا أخي! هذا لا يجوز، وهذا فيه اعتداء على السنة. ولو أن العزاء يذكر فيه الناس بعضهم بعضا بالسنة، ويحذر بعضهم بعضا من البدعة؛ لأحييت سنن المرسلين ولأميتت بدع المضلين، ولكن السكوت على مثل هذه المنكرات، ومجاراة الناس فيها، كل ذلك جرأ أهل الباطل على باطلهم، فلا ينبغي لطلاب العلم، ولا للأخيار ولا للصالحين أن يسكتوا عن مثل هذا. وكذلك يسن في التعزية أن يتفقد الإنسان ما يحتاج إليه الميت بعد موته؛ فإذا كانت هناك أمور يوصي ورثته بها مما فيه خير في أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم فإنه يأمرهم بها. وليس هناك لفظ معين في العزاء، فكل شيء قاله مما يجبر به كسر أخيه المسلم فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم الناس بكلمة معينة. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب) ، فهذا وقع قبل موت الغلام، كما هو معلوم ومعروف من سياق القصة، قاله لأنها أرسلت إليه أن اشهد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (فمرها فلتصبر ولتحتسب) . فهذا ليس بإلزام بلفظ العزاء، لكن لو قاله الإنسان لأخيه فهو على سنة وخير؛ لأنه لفظ يتضمن المعاني المقصودة: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب) ، وهذا شيء طيب، وكلام مناسب، يناسب الصدمة ويناسب الحال؛ لكن لا نستطيع أن نفرضه على الناس، ونقول: لا يقول أحد عند العزاء إلا هذا، بحيث لو جاء أحد يقول لأخيه: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، فنقول له: هذا بدعة. ولو كان هناك لفظ مخصوص لما سكت الكتاب والسنة عنه؛ لكن لما ترك الناس لما يكون فيه جبر للخاطر، ومواساة له، فكل كلام تقوله تجبر به خاطر أخيك، وتجبر به كسره؛ فإنه مما فيه الخير له ومن البر والصلة، وأنت مأجور عليه. وإذا اخترت الوارد -كما ذكرنا- فهذا أفضل، لكنه ليس بلازم وفرض على الإنسان أن يقوله، وأيا ما كان فينبغي الحرص على السنة، وأمر الناس بها، ودلالتهم عليها في التعزية وغيرها، والأمور التي يفعلها الناس مما يكون منها في مقام العبادات يتوقف فيه على الوارد، وما يكون منها خارجا عن العبادات فإنهم لا يلزمون بما ليس بلازم. فإذا أراد أن يعزي القرابة فيبدأ بكبيرهم وذي الحق منهم، ويبدأ بمن هو أعظم مصيبة؛ كأولاد الميت ونحو ذلك، يبدأ بهم لأن الحق لهم آكد، وقد جاء لحق فيبدأ به، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح من حديث عتبان حينما قال له: (إني أريدك أن تأتي إلى بيتي فتصلي في مكان أتخذه مصلى) فلما دخل البيت -بيت عتبان -، كان أول ما كلمه قال: (أين تحب أن أصلي لك؟) . فقالوا: إن في هذا الحديث دليلا على أن من جاء لأمر فيبدأ به قبل كل شيء، وكان عتبان قد ذبح وأعد طعاما، وصنع طعاما، فقبل أن يطعم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه بدأ بالشيء الذي جاء من أجله. فلما كان المقصود هو التعزية وجاء من أجل التعزية، فإنه يبدأ بأحق الناس بالتعزية، وهم أقرباؤه كالوالدين، والمرأة تبدأ بالوالدة، وأولاد الميت، فيبدأ بذي الحق، ثم بعد ذلك الأقرب فالأقرب. وما يحدث من الناس في بعض الأحيان أنك ترى الكبير يرتب بعضهم بعضا، فيقف الكبير ثم من بعده الصغير، فإن هذا قد اغتفره العلماء والمشايخ، وقد أدركنا أهل العلم لا ينكرون في مثل هذا؛ لأنك لا تستطيع أن تأتي بين أمة على القبر في بعض الأحيان يصلون إلى ألف شخص فتظل تبحث عن قرابة الميت. فلابد أن تعرف قرابة الميت، فحينما يصطفون ويعرف كبيرهم، ويعرف ذو الحق منهم، فهذا أمر وسع فيه العلماء، وما أدركنا أحدا من مشايخنا رحمة الله عليهم يشدد في هذا؛ لأنهم لا يقصدون به العبادة، ولا يقصد به شيء معين للتعبديات. لكن من البدعة والحدث وضع الأيدي على الأكتف، فإن هذا شيء ليس له أصل، بل تسلم عليه وتصافحه، فالمصافحة هي السنة، وتأمره بالصبر واحتساب الأجر، وكذلك تعزي أكثرهم ألما، ومن ترى فيه الحزن أكثر تشد عليه وتذكره أكثر، فهذا أمر ينبغي مراعاته أثناء العزاء. أما كونهم يجتمعون في بيت الميت فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعدون الجلوس في بيت الميت من النياحة، وهذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان الناس قليلين، ويمكن أن تعزي الرجل وتراه في المسجد. ولكن في زماننا توسع العلماء رحمهم الله من المتأخرين في مسألة حضورهم في بيت واحد؛ لأن ذلك أرفق على الناس، ومن الصعوبة بمكان -خاصة في الأزمنة المتأخرة- أن تنتقل بين عشرة أو عشرين بيتا -وهم قرابة الميت- في مدينة واحدة، وهذا لا شك أن فيه صعوبة عليهم، فإذا اجتمعوا في بيت أكبرهم، أو في بيت القريب الأقرب، وجاء الناس وعزوهم جميعهم في مكان واحد، فهذا لا بأس به، وقد خفف فيه بعض العلماء. ولكن الجلوس لغير الحاجة، مثلما يقع من بعض الناس من الإتيان إلى أهل الميت وإطالة الجلوس عندهم، كل هذا من البدع والمحدثات، ولا شك أنه يترتب عليه ضرر لقرابة الميت، والمنبغي هو التخفيف عليهم والتوسعة عليهم. وكذلك إحضار الطعام، والتكلف في الولائم، كل هذه من الأمور التي أحدثها الناس، إلا ما وردت به السنة عند الصدمة الأولى من صنع الطعام في اليوم الأول، فإن وافق الموت ظهرا صنع لهم طعام الغداء، وفي الحقيقة الذي يظهر هو جواز صنع طعام الغداء، أما طعام العشاء ففي النفس منه شيء، ويكون ذلك مرة واحدة؛ لأنه قال: (اصنعوا لآل جعفر طعاما) ؛ لأن الإنسان يطعم في يومه. والذي يظهر أنه في حدود الحاجة كالغداء، وأما أن يصنع الغداء ثم العشاء ثم الغداء في اليوم الثاني ثم العشاء، ويرتبون على ذلك ثلاثة أيام، فإن هذا من البدع والحدث، وما أنزل الله بها من سلطان، ولذلك شدد الناس على أنفسهم، وضيقوا على أنفسهم في هذا، فكلفوها ما لا تطيق من الذبائح والولائم. نسأل الله العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة، وأن يعيذنا من البدعة، والله تعالى أعلم. حكم من ماتت وعليها صيام قضاء وصيام نذر السؤال امرأة كانت إذا حاضت لا تقضي الصيام، وكانت لا تصوم أيضا، وعندما كبرت ندمت، وقالت: يا رب إن أبقيتني حية لأصومن ستة أشهر، فصامت منها شهرين ونصف، فما الحكم؟ الجواب إذا نذر المؤمن أو المؤمنة شيئا، وكان في ملكه ذلك الشيء؛ لزمه الوفاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ، فأمر عليه الصلاة والسلام الناذر إذا كان نذره نذر طاعة أن يفي بنذره، فدل على لزوم النذر إذا التزمه الإنسان. وإذا عجزت المرأة عن إتمام الصوم، ولم تستطع ذلك؛ فإنه لا وفاء في نذر لا يملكه الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا عتق فيما لا يملك، ولا نذر فيما لا يملك) ، فإذا كان يتعذر عليها الصوم، أو حصل ما علقت عليه النذر بعد عجزها عن الصوم؛ فإنه يسقط عنها الصوم، وحينئذ يرى بعض العلماء أنه يسقط كلية، وبعضهم يرى أنه يلزمها أن تكفر؛ لأن نذرها انعقد. ولا شك أنها إذا عجزت بالكلية، أو وافق وقت الوفاء عجزا كليا فإنه يسقط النذر على ظاهر السنة التي ذكرنا. أما بالنسبة للصوم الذي تركته حينما كانت تحيض، فالصوم الذي تركته يجب عليها قضاؤه، وهو مقدم على نذرها، فتبدأ أول شيء بالصوم الذي فرضه الله عز وجل عليها وتبرئ ذمتها منه. وأما الجهل فليس لها فيه عذر؛ لأن هذا مما يمكن السؤال عنه، والعذر بالجهل يكون في أحوال مخصوصة، ومسائل ضيقة جدا، أما شخص يأتي في ركن من أركان الإسلام، أو في أمر من أمور دينه فرض عليه أن يسأل عنه ويتعلمه، ثم لا يسأل ولا يتعلم، ثم يقول: كنت جاهلا؛ ثم نعذره بالجهل أبدا. وذلك مثل شخص يأتي للحج والعمرة، فيفعل ما يشاء في عمرته، ويفعل ما يشاء في حجه، ثم يقول: لم أكن أعلم، فلا يقبل من ذلك؛ فإن الله قد فرض عليه أن يتعلم، وفرض عليه أن يسأل، وفرض عليه أن يرجع إلى أهل العلم: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل:43] ، فيقصر في الرجوع ثم نعطيه الرخصة، حاشا وكلا! ومثل هذا ليس بمعذور؛ بل هو مفرط، ومن فرط ألزم بعاقبة تفريطه، ومثل هذه المرأة تلزم بقضاء ما كان عليها من الصوم، وإن لم تستطعه تحديدا بنت على تقديرها، وحسبت كم أيام عادتها، ثم بعد ذلك تحسب السنوات التي كان عليها صيام من رمضان فيها، فتقضيها جميعها، والله تعالى أعلم. من يقدم في الطاعة من الوالدين؟ السؤال في قول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي: (أمك ثم أمك) ، يشكل علي هذا الحديث أني إذا دخلت على الوالدين فلا أدري من أبدأ بالسلام، وكذا لو اتصلت بالهاتف لا أدري من أطلب منهما، وأخشى لو ابتدأت بالأم أن أجرح الوالد، أو أن يشعر أن في ذلك انتقاصا له، فما الحل لهذا الإشكال؟ الجواب من حيث الأصل حق الأم أعظم من حق الأب، وهذا لا إشكال فيه، ولذلك اختار جمع من العلماء أنه لو مات والداه ولم يحجا وأراد أن يحج عنهما، فيبدأ بالأم قبل الأب؛ لعظيم حقها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لما سأله الرجل: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) . فجعل حقه بعد حقها مرتبا ثلاثا، وعظم حقها بالتكرار ثلاثا، ولذلك جعلوا لها من الحق أضعاف ما للوالد، والواقع يصدق ذلك؛ فإنها حملته وهنا على وهن، وتحملت في حمله ووضعه وإرضاعه وفصاله ما لم يتحمله الأب، فعظم الله عز وجل حقها، فالأم أحق من هذا الوجه. لكن ولاية الأب على البيت، وولايته على الأسرة، قد يكون هذا خاصا، بمعنى: أنك إذا دخلت في مكان فتنظر إلى ذي الحق، فالوالد في البيت حقه أقوى من حق الأم من جهة الولاية، ولذلك جعل الله الولاية للرجل على أهله، قال عليه الصلاة والسلام: (الرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته) ، أي: مسئول عن زوجته وأولاده؛ لأن الله جعل المرأة تبعا للرجل تقوم على شأنه، كما قال تعالى: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف:189] ، فالرجل له حق الولاية، ومن دخل في مجلس، أو دخل في مكان ابتدأ بذي الحق. ولذلك إذا دخلت في مجلس؛ فالسنة أن تبدأ بذي الحق فتسلم عليه، وكذلك في الطعام والشراب تبدأ بذي الحق أولا؛ لأن إكرامه واجب، وحقه آكد، ثم تأخذ عن يمينه، فتجمع بين الفرض والسنة، أما أن يأخذ الإنسان مثلا بحديث خاص في قوله: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك) ، فهذا من ناحية الإحسان والبر والقيام والرعاية، لكن في الدخول في المجالس يبدأ بذي الحق، ولذلك ابتدئ به عليه الصلاة والسلام في المجالس، وكان يبتدأ بالتحية، وبالإجلال والإكرام صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن له حقا. فإذا كان في مجلس فيه الوالد فحقه في الولاية آكد، وهذا الحق بالمناسبة، فإذا جئت إلى مجلس وسألت: من الذي يبدأ به السلام؟ فإنك تبدأ بمن له الولاية في المجلس، فإن كان مجلس علم فالولاية للعالم، وإن كان مجلس ولاية وسلطة، فتبدأ بصاحب تلك الولاية والسلطة، وإذا كان في مجلس سفر مثلا لثلاثة ركب فأكثر، وعليهم شخص هو المسئول عنهم، فالولاية له. وقد أعطى الإسلام كل شي حقه، فتبدأ بذي الولاية، وتشرفه وتكرمه، وتقدمه على غيره، ثم بعد ذلك تسلم على الأم، وتأخذ بخاطرها، وتبرها كما أمرك الله عز وجل ببرها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
#506
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوصايا) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (405) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [2] الوصية قبل الموت تتنوع بحسب حالها، فقد تكون الوصية واجبة إذا كانت متعلقة بحق لله أو بحقوق للمخلوقين واجب، وقد تكون مستحبة إذا قصد بها سبل الخير، وقد تكون محرمة إذا كانت تأمر بعقوق أو بقطيعة رحم، أو أن يصرف بعض المال في دعم أفعال محرمة أو مبتدعة، وقد تكون مكروهة. ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث، والأفضل أن يوصى بأقل من الثلث، فإن كان ولابد فالثلث والثلث كثير. أنواع الوصايا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [يسن لمن ترك خيرا] . شرع المصنف رحمه الله في بيان الأحكام والمسائل المتعلقة بالوصية، فابتدأ بمسألة حكم الوصية، فبين رحمه الله أن من السنة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصي المسلم وتكون وصيته بعد موته، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد عبر المصنف رحمه الله بقوله: (يسن) ، ومعنى ذلك: أن الوصية ليست بواجبة، وهذا هو قول جمهور العلماء رحمهم الله، أن الوصية تعتريها عدة أحكام؛ فتارة تكون واجبة لازمة، وتارة تكون مندوبة مستحبة، وتارة تكون محرمة ممنوعة، وتارة تكون مكروهة يثاب تاركها، ولا يعاقب فاعلها. فهذه أربعة أحكام تتعلق بالوصية، لكن الأصل العام أنها مسنونة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن لأمته سنن الهدى، ومن ذلك الوصية التي يكتبها المسلم، فيأمر فيها بما أمر الله، أو ينهى فيها عما نهى الله عز وجل عنه، أو يجمع بين الأمرين. الوصية الواجبة أما كونها واجبة: فإن أي شخص تعلقت به حقوق لله عز وجل أو لعباده، فإنه يجب عليه أن يكتب وصيته، وأن ينبه على هذه الحقوق، والدليل على ذلك: أن الله فرض علينا أداء هذه الحقوق والواجبات، فقال سبحانه وتعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58] ، فلو كانت عند الإنسان حقوق ومظالم للناس، ولا طريق للوصول إلى أدائها إلى أهلها والتحلل منها إلا بالوصية؛ صارت الوصية واجبة. ومن أمثلة ذلك: لو استدان شخص مبلغا من المال وكتب عليه صاحب المبلغ سندا وأشهد فلا إشكال؛ لأن صاحب الحق محفوظ حقه بوجود البينة. لكن لو أنه يحبك وتحبه وبينكما مودة، وحصل شيء من الاستحياء أو الثقة، فلم تكتبا، فاطمأن إليك؛ فالواجب عليك أن تكتب في وصيتك أن لفلان علي مبلغا من المال؛ لأنك لو لم تكتب ذلك لأدى إلى ضياع حقه وحرمانه مما له عليك، والله قد أمرك بأداء هذه الأمانة، وأداء هذا الواجب متوقف على الوصية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. إذا: كل شخص عليه حق لله أو حق للمخلوق، فينبغي عليه أن يكتب وصيته، وأن ينبه على هذا الحق؛ صيانة لحقوق الناس، وأداء للأمانات ووفاء بها. أما حقوق الله تعالى فتشمل الكفارات، كأن تكون عليه كفارات، أو تكون عليه فدية في حج أو عمرة، كما لو وقع في بعض المحظورات ولزمته الفدية ولم يؤدها؛ فالواجب عليه ألا يبيت إلا وقد كتب في وصيته أن عليه فدية من كذا وكذا، أو عليه كفارة كذا وكذا، أو عليه صيام، على القول بأن الولي يصوم عن وليه إذا كان صيام نذر أو كان صيام كفارة، فإذا كان صياما عن قضاء فيكتب هذا وينبه عليه؛ لأن الله فرض عليه أن يقوم بحقه، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: (إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) . فمن كانت عليه حقوق لله عز وجل؛ من صيام، أو وجب عليه الحج ولكنه قصر في ذلك مع قدرته واستطاعته؛ فالواجب أن يخرج من تركته وماله ما يحج به عنه، أو يقوم بعض ورثته بذلك مجزيا من الله بأعظم الجزاء وأحسنه، وهذا بالنسبة لحقوق الله عز وجل. أما حقوق المخلوقين: فمثل الدين، والودائع والأمانات، كأن تكون استعرت كتابا من أخيك، فالواجب أن تكتب في وصيتك، وأن تنبه على هذا الكتاب والحق الذي لأخيك المسلم، حتى لا يضيع؛ لأنك لو لم تكتب ذلك ولم تنبه عليه لربما ضاع هذا الحق، ولربما ضم الكتاب إلى كتبك، فإذا استعار طالب العلم كتابا فينبه أو يكتب في وصيته أن الكتاب الفلاني لفلان، وكذلك لو استعار شيئا من أخيه؛ كالأدوات والآلات ونحو ذلك من الأشياء التي هي حقوق للناس؛ فالواجب أن يكتب ذلك في وصيته، وينبه عليه إذا توقف أداؤه على مثل هذا. إذا: فالوصية واجبة إذا كانت بحق لله أو حق للمخلوقين ويدخل في هذا الوصية بالأمر بما أمر الله به والنهي عما نهى الله عنه، فإذا كان يعلم أن ورثته من بعده قد يقعون في بعض المحرمات والأمور التي لا ترضي الله عز وجل؛ فعليه أن يكتب في وصيته أنني أوصيكم بتحري السنة في تغسيلي وتكفيني وتجهيزي والصلاة علي، وإذا كان يعلم أنهم سيبالغون في البكاء فيوصيهم بأن لا يفعلوا ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) ، وقال بعض العلماء: إن هذا في حالة علم الميت أنه سيبكى عليه ويبالغ في البكاء حتى يوصل إلى الحد المحرم، فسكت على ذلك ولم ينه عنه. إذا: لابد أن تشتمل الوصية على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فمتى ما توقف إحقاق الحق وإبطال الباطل على ذلك؛ فإنه يجب عليه أن يكتب الوصية بذلك فإنها واجبة، وهكذا إذا علم حقوقا بين الناس، كأن يعلم أن هناك حقا لفلان على فلان، فيكتب ذلك وينبه على ذلك. المهم أن الوصية تكون واجبة إذا توقف عليها أداء الحقوق وردها لأهلها وأصحابها. الوصية المستحبة ثانيا: تكون الوصية مستحبة إذا قصد الإنسان منها سبل الخير، وطلب بها مرضاة الله سبحانه وتعالى في الأمور غير الواجبة عليه، مثل أن يوصي بالصدقات، أو يوقف شيئا من أملاكه، أو يوصي بعمل بر من بعد موته غير واجب عليه، فإذا وصى بمثل هذا؛ فإن الوصية تكون أفضل وأعظم استحبابا وأجرا وثوابا عند الله سبحانه وتعالى عندما تكون لأقرباء الإنسان الذين لا يرثون، فيوصي -مثلا- لعمه، أو لخاله، أو لأولاد عمه، أو لأولاد خاله، ويوصي لخالته، ولعمته، عندما يعلم أن هناك زيادة في المال، وأن العم والعمة والخال الخالة وجميع آله وقرابته محتاجون للمال لقضاء دين أو تفريج كربة؛ فيكتب في وصيته: أن أخرجوا من مالي مبلغ كذا لعمي، أو اجعلوا المبلغ الفلاني لأعمامي، أو اجعلوه لإخواني الذين لا يرثون؛ لأنه قد يكون عنده أبناء يحجبون الإخوة، فهو يريد أن يصل إخوانه وأخواته، ويعلم أن أخته مديونة، أو أن أخاه مديون، فأراد أن يفرج كربته؛ فأوصى أن يقضى دين أخيه، أو يقضى دين أخته، أو يوصي وصية عامة ويقول -إذا أحب أن يوصي بالثلث-: ثلث مالي يتصدق به على أقربائي في قضاء ديونهم، أو يكون ثلث مالي لأيتام أخي، أو يكون ربع مالي من بعد موتي لأيتام أختي، ونحو ذلك من الوصايا التي يقصد بها البر وطاعة الله سبحانه وتعالى. فأفضل الصلة عندما تكون للرحم، وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل الرحم تتساوى مراتبها من حيث العموم فكل ما كان للرحم فله فضله من دون تفصيل أم أن هناك تفصيلا؟ فاختار بعض الأئمة وبعض المحققين رحمهم الله أن الوصية المستحبة تتفاوت درجاتها ومراتبها بحسب تفاوت القرابة والرحم، فأول من تقدم القرابة من جهة النسب، ثم يليهم القرابة من جهة الرضاعة، ثم يليهم القرابة من جهة المصاهرة، ثم الولاء. فأما بالنسبة للقرابة من جهة النسب فقالوا: تقدم المحارم على غير المحارم، فمثلا: وصيته لعمه وعمته أفضل من وصيته لابن عمه وابن عمته؛ لأن المحرمية في العم والعمة، فإذا وصت لعمها أو وصى لعمته؛ فإن العم والعمة من المحارم، فالوصية لهم أفضل وأعظم أجرا عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله جعل مرتبتهم مقدمة على مرتبة غيرهم. كذلك أيضا لو كان له أبناء عم، وبعضهم أقرب من بعض، فمثلا: ابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأب، وابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأم ونحو ذلك، فالقرابة من جهة النسب تتفاوت مراتبهم. والذي اختاره جمع من العلماء: أن الوصية للأرحام الذين يكونون من الذكور والإناث أفضل وأعظم ثوابا عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك جعل الشرع لهم من الحق ما لم يجعله لغيرهم، وقال: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأنفال:75] ، فقدموا الرحم - أي: المحرمية- من هذا الوجه. ثم يأتي بعد القرابة الوصية للأقرباء من جهة الرضاعة، كأمه التي أرضعته -سواء كانت محتاجة أو غير محتاجة- ويوصي لأقربائه من جهة الرضاعة؛ كأمه وأخته وعمته من الرضاعة، ونحو ذلك من القرابات من جهة الرضاعة، ويقدم محارمه على غيرهم، وتكون صلة وبرا يعظم من الله عز وجل أجرها وثوابها. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم عظم أمر الرضاعة، وأن لها حقا على المسلم، ولما خرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف، وقاتل هوازن، وغنم الغنائم، اتقى الله فيهم ورعى الرحم، فلم يقسم غنائم حنين مباشرة، وكان صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يكلموه حتى لا تسبى ذراريهم، ولا تقسم أموالهم شفقة عليهم منه صلوات الله وسلامه عليه، وحفظا للرضاعة من حليمة السعدية التي أرضعته صلوات الله وسلامه عليه. فلما ذهب إلى الطائف وفتحها وبعد رجوعه ونزوله بالجعرانة قسم صلى الله عليه وسلم الغنائم، فلما قسمها تألمت هوازن، وجاءه عليه الصلاة والسلام وفدها، وقام خطيبهم وقال له: يا رسول الله! إن اللاتي بالحظائر ما هن إلا عماتك وخالاتك من الرضاعة، فتأثر عليه الصلاة والسلام أثرا بليغا، وقال له عباس بن مرداس السلمي في أبياته المشهورة والتي منها: امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك تملؤه من محضها الدرر إلى غير ذلك مما كان من الأبيات التي ذكرته حق الرضاعة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم) ، وقالت الأنصار مثل ذلك، وهذا كله يدل على حفظه صلى الله عليه وسلم لحق الرضاعة. فالمرضعة والأقرباء من جهة الرضاعة يوصلون بالوصية، وتكون الوصية مستحبة في حقهم؛ لأنهم لا يرثون. ثم بعد الرضاعة القرابة من جهة المصاهرة، فلو لم يكن له أقرباء لا من جهة النسب، ولا من جهة الرضاعة؛ فحينئذ ينظر إلى أصهاره، وهم أقرباؤه من جهة زوجته أو زوجة والده أو زوجة ولده؛ فهؤلاء يصلهم لتكون رحما وصلة يرجو ثوابها من الله سبحانه وتعالى. هذا بالنسبة للوصية المستحبة التي تكون لغير الوارث، وتكون صلة وبرا للأقرباء، وهي أفضل وأعظم ما تكون أجرا وثوابا من الله سبحانه وتعالى، وقد قرر العلماء أن الوصية للأقرباء أعظم أجرا من الوصية لغير الأقرباء؛ لثبوت النصوص بذلك، ولذلك لما دخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنه وقالت: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة -أي: أعتقتها لوجه الله- فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) . مع أن العتق أمره عظيم، وإذا أعتق الإنسان فإنه يعتق بكل عضو من المعتق عضو منه من النار، ومع هذا يقول لها (لو أنك أعطيتها أخوالك) أي: لو أبقيتها على العتق ووصلت بها القرابة لكان أعظم لأجرك عند الله سبحانه وتعالى. الوصية المحرمة ثالثا: وقد تكون الوصية محرمة، وهذا هو النوع الثالث من الأحكام المتعلقة بالوصية، وتكون الوصية محرمة إذا اشتملت على حرام، وقد مثل العلماء لذلك بأن يوصي لكنيسة، أو يوصي بنسخ التوراة أو الإنجيل أو الكتب المحرفة، أو الكتب التي تشتمل على الضلالات والبدع والأهواء التي تضل الناس وتخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فمثل هذه لا ترضي الله ولا ترضي رسوله عليه الصلاة والسلام. وكذلك إذا وصى بحرام؛ كأن يغضب الأخ على أخيه فيقول: لا يشهد فلان جنازتي، ولا يحضر تغسيلي ولا تكفيني، ولا يفعل كذا ولا كذا فهذه قطيعة للرحم، وأمر بمعصية، وأمر بما لا يحبه الله ولا يرضاه، فإن الله يحب من القريب أن يشهد قريبه، ويترحم عليه، ويدعو له، والأقرباء أبلغ شفقة من غيرهم، فإذا وصى أنه لا يدخل بيته ولا يشهد تغسيله ولا يحضر جنازته، فهذه من القطيعة، وقد يكون هذا بين الوالد وولده والعياذ بالله! فهذه -نسأل الله السلامة والعافية- من الوصايا المحرمة. حتى ذكر العلماء رحمهم الله أن الوصية المحرمة من علامات سوء الخاتمة -والعياذ بالله- للإنسان؛ لأنه يختم ديوانه وعمله -والعياذ بالله- بالقطيعة وبعقوق الوالدين وبالمظلمة، وإذا ختم له بعقوق الوالدين أو عقوق الأولاد أو قطيعة الرحم؛ فإن هذه كبائر توجب دخول النار ما لم يغفر الله الذنب، فيختم له بخاتمة سيئة تكون سببا في دخوله النار تعذيبا إذا كان من الموحدين، ثم يخرج منها بفضل الله وهو أرحم الراحمين، وهذا ممن يعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه الكتاب في بعض العمل إذا لم يكن مخلدا في النار فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها مطهرا من ذنب كبير. وهذا هو أحد الأوجه عند العلماء رحمهم الله في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة) ، فيكون عبدا صالحا ثم يغضب على ولده أو على قريبه، ثم يكتب هذه الوصية الجائرة الظالمة التي تشتمل على عقوق أو تشتمل على قطيعة، فيختم له -والعياذ بالله- بهذه الخاتمة السيئة، نسأل الله السلامة والعافية. فلا يجوز أن يوصي بالمحرمات، فإذا وصى بمثل هذه الوصايا فهي وصية باطلة، ولا يجوز للورثة أن يطيعوا، ولا يجوز حتى للقريب أن يطيع قريبه في قطيعة الرحم، ولو قالت الأم: لا تزر خالك، أو لا تزر عمك، أو لا تزر قريبك؛ فلا تطاع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الطاعة في المعروف) ، وهذا ليس بمعروف، ولأن الله أمرك بصلة الرحم، وغيرك نهاك عنها؛ فتقدم أمر الله على سائر الأوامر، وطاعة الله على سائر الطاعات، فلذلك لا تنفذ مثل هذه الوصايا، ولا يجوز العمل بها. الوصية المكروهة رابعا: وقد تكون الوصية مكروهة، مثل أن يكون الشخص قليل المال وورثته محتاجون لهذا المال فيوصي بصدقة، فإن هذه الصدقة تضيق على ورثته في الإرث، فمثلا: لو كان الورثة محتاجين لهذا المال، أو كان عنده ولد، والولد مديون مكروب، وترك ألفا أو ألفين قد لا تفي بسداد دينه، فجاء ووصى بثلثها، فهذا يضيق على ولده ويضيق على وارثه إلى درجة أنه قد لا ينتفع النفع المرجو من التركة، فحينئذ كره العلماء رحمهم الله مثل هذه الوصية، وبينوا أن الوصية في حق الفقير أو قليل المال مكروهة إذا كانت تضيق على الورثة وتوجب لهم ما ذكرنا من الحرج. هذا بالنسبة لأحوال الوصية الواجبة، والمندوبة المستحبة، والمحرمة، والمكروهة، فما عدا ذلك من حيث الأصل العام فالوصية سنة، أي: سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله شرع لهذه الأمة سنن الهدى، وذلك بأقواله وأفعاله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، التي جعلها الله أسوة للمؤمنين، وقدوة للأخيار والصالحين، فلا أكمل من هديه بأمي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. اختلاف العلماء في حكم الوصية الخير: هو المال الكثير كما فسره المصنف رحمه الله. وقوله: (المال) لا يشترط السيولة، إنما المال كل شيء له قيمة، فلو لم يترك نقودا، وإنما ترك (عمائر) ، فلو ترك عشر عمائر فهي مال، وإن لم يترك أي ريال في محفظته أو في رصيده، فهو يعتبر ممن ترك خيرا، فلا يشترط أن تكون هناك سيولة بالنقد، إنما العبرة بقيمة المال؛ سواء كان من الأعيان أو من غيرها. فقوله: (يسن لمن ترك خيرا) أي: من بعد وفاته، ولذلك العبرة بما يكون في حال مرض الموت ويغلب على ظنه أنه يموت فيه، فلو أنه وصى وهو غني ميسور، ثم أصابته أمراض، أو جاءت كربات أو نكبات على أمواله فخسر؛ فالعبرة بحاله عند مرض الموت لا عندما كتب الوصية. وقوله: (لمن ترك خيرا) أي: ينظر في حال مرضه للموت ودنو الأجل، فلو كتب وصيته قبل موته بسنة أو قبل موته بشهور، فإن هذا لا يعتد به؛ لأن العبرة بحاله عند موته، أو بما هو قريب من موته؛ وذلك لأن هذا سيؤثر على مصالح الورثة، والعبرة في المال الكثير والخير الكثير بما يكون سابقا للأجل لا بما قبل ذلك، فالورثة ماذا يستفيدون لو كان قبل وفاته بسنة عنده ملايين الأموال، ولما حضرته المنية لم يكن عنده إلا يسير من المال؛ فالعبرة بما يؤول إليه الأمر وينتهي إليه الحال، فقوله رحمه الله (لمن ترك خيرا) أي: بعد وفاته، وغلب على ظنه أنه سيكون بعد وفاته. والخير كما قال: (المال الكثير) وهذا تأس بالكتاب؛ لأن الله نص على الوصية وألزم بها إذا ترك خيرا. وقوله رحمه الله: (يسن) فيه رد على من يقول: إن الوصية واجبة، فقد ذهب بعض السلف كـ الزهري وأبي مجلد رحمة الله عليهما إلى أن الوصية واجبة، سواء كان الإنسان عليه حقوق أو لم تكن عليه حقوق، فيجب عليه أن يوصي، والأصل أنهم استدلوا بظاهر قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين} [البقرة:180] ، و (كتب) بمعنى: فرض، وهذا القول عارضه قول جمهور العلماء رحمهم الله من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. وهو قول طائفة من السلف كـ إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وغيرهم من الأئمة -رحمة الله على الجميع- بأن الوصية ليست بواجبة من حيث الأصل. وهناك قول ثالث في المسألة يقول: الوصية واجبة لأقربائك الذين لا يرثون، وهذا هو قول الظاهرية، وهو قول بعض السلف كـ مسروق صاحب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورحم الله الجميع، وكذلك قال به طاوس بن كيسان وقتادة من تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما، يقولون: إن الوصية واجبة للقريب الذي لا يرث، فمن كان عنده قريب لا يرث فيجب أن يكتب في وصيته له شيئا، ويرون أن الآية منسوخة بالنسبة للوارثين، وتبقى محكمة في غير الوارث: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية} [البقرة:180] قالوا: (كتب) بمعنى: فرض، فنسخ الله ذلك في أهل المواريث، فبقي الأقرباء الذين لا يرثون؛ فيجب عليك أن توصي لهم. والصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، وهو: أن الوصية ليست بواجبة، والدليل على ذلك حديث ابن عباس الصحيح، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) ، وقد اختلف في الجملة الأولى هل هي مدرجة أو من كلامه صلى الله عليه وسلم؟ فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) يدل من حيث الأصل على أن آية المواريث التي نزلت في سورة النساء وغيرها قد نسخت فرضية الوصية، فلم تكن هناك مواريث في أول الإسلام، وإنما الشخص يوصي ويكتب: أعطوا فلانا، وأعطوا فلانة، فيتولى قسمة تركته قبل موته، ولكن الله سبحانه وتعالى تولى قسمة المواريث من فوق سبع سماوات: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء:176] ، والكلالة: هي أن يموت الرجل وليس له والد ولا مولود، قال الناظم: ويسألونك عن الكلالة هي انقطاع النسل لا محالة لا والد يبقى ولا مولود انقطع الآباء والجدود فاستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقال الله تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء:176] ، فتولى جبار السموات والأرض قسمتها من فوق سبع سماوات قسمة العدل، فأعطى كل ذي حقه. فإذا كانت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قد قسمت الحقوق، وأعطت كل ذي حق حقه؛ فحينئذ ليس من حق أحد أن يقول: إن هناك من الأقارب من له حق يجب عليك أن توصي له؛ لأنه لو كان هناك لبين الله تعالى كيف يقسم للأقارب الذين لا يرثون، وبناء على ذلك: فلا يعتبر القول بأنها محكمة في الأقارب الذين لا يرثون صحيحا من هذا الوجه. والذي يترجح: أن الوصية ليست بواجبة عليك إلا في الأحوال التي يتوقف عليها أداء حق الله عز وجل، أو إيصال حقوق الناس إليهم، على التفصيل الذي ذكرناه، وهذا القول هو قول الجمهور بقوة دليل السنة، على أن آية الوصية منسوخة وليست بمحكمة. ومما يقوي هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر في الصحيحين: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي فيه أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) ، فهذا يدل على أن الوصية لو كانت واجبة لسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وترك آية الوصية دالة على اللزوم؛ لكنه لما بين أن الوصية تكون واجبة في مثل هذه الحالة؛ دل على أن الأصل عدم وجوبها، وعلى هذا قال المصنف رحمه الله: (يسن لمن ترك) : أي للشخص الذي ترك، سواء كان رجلا أو امرأة، وسيأتي من هو الذي يوصي، وما هي الشروط المعتبرة في الأوصياء. ضابط المال الكثير قال رحمه الله: [وهو المال الكثير] . الكثير: وصف للمال، وكيف نعرف أن هذا المال كثير أو أنه ليس بكثير؟ هذا يرجع فيه إلى العرف، وتجري في ذلك القاعدة المشهورة: العادة محكمة، فإذا كان العرف أن هذا المبلغ الذي تركه يعتبر كثيرا فهو كثير، فلو نظرنا قبل خمسين سنة فربما كانت العشرة ريالا تعتبر من المال الكثير جدا، والعشرة الريال ربما تعادل الآن أكثر من مائة ألف، مما يشتري بها الإنسان من رخص الأشياء وعزة المال وقلته وندرته، لكن اليوم لو كانت تركته مائة أو ألف ريال فقد تكون قليلة، فيرجع إلى العرف، وقد بين الله تعالى في كتابه وفي هدي رسوله صلى الله عليه وسلم أن عرف المسلمين محتكم إليه، ولذلك ردت كثير من القضايا والمسائل والأحكام والتقديرات إلى الأعراف، فما دل عرف المسلمين أو عرف الميت على أنه كثير فهو كثير، وما دل العرف على أنه قليل فهو قليل. القدر الذي يوصى به من المال قال رحمه الله تعالى: [أن يوصي بالخمس، ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي، ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذا] . قوله: (أن يوصي بالخمس) : إذا كانت الوصية مسنونة، ومستحب للإنسان أن يوصي، فما هو القدر الذي يوصي به؟ من حيث الأصل: فإن الإجماع قائم على أنه لا يجوز للشخص أن يوصي فوق الثلث؛ لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يوصى فوق الثلث، كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، فإنه لما مرض بمكة، ودخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني لا وارث لي إلا ابنة -أي: ليس لي وارث إلا ابنة واحدة- وعندي مال كثير، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا، قال: أفأوصي بثلثيه؟ قال: لا. قال: فبنصفه؟ قال: لا. قال: فبالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) . ثم قال له قولته المشهورة: (اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا، لعلك أن تخلف فينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون) ، فقد كان سعد يظن أن أجله قد حضر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا) فاستجيبت دعوته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فشفي سعد، ثم قال: (لعلك أن تخلف فينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون) ، فرفع لواء الجهاد في سبيل الله؛ فأعلى الله به كلمته، وكبت به أعداءه، وكان على يديه من الفتوح والخيرات على الإسلام والمسلمين ما الله به عليم، نسأل الله العظيم أن يجزيه بخير الجزاء وأعظمه وأسناه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلك أن تعمر -فمد له في عمره رضي الله عنه وأرضاه- فينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون) . ثم قال: (اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم خاسرين، لكن البائس سعد بن خولة) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. وهذا الحديث المشهور قد اشتمل على بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وجملة من المسائل والأحكام، منها: مسألة الوصية، فإنه يعتبر قاعدة عند العلماء في باب الوصية. ولذلك قال له: (الثلث والثلث كثير) ، فلما قال: (أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا) ، وهذا يقتضي التحريم والمنع، فلما قال: (بالثلثين؟ قال: لا) ، وهذا يقتضي التحريم ومنع الوصية بالثلثين. (فبنصفه؟ قال: لا)، وهذا يقتضي التحريم والمنع أيضا، ثم قال له: (بالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير) ، فسن عليه الصلاة والسلام الثلث من حيث الحد الأعلى. فاتفق العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للموصي أن يجاوز الثلث، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند موتكم زيادة في أعمالكم) ، فهذه رحمة من الله عز وجل بالإنسان أنه يتصدق ويوصي في حدود الثلث ولا يزيد، فيصل رحمه، ويكون له من الأجر والخير في تلك الصلة، فيتدارك بعض الأعمال الصالحة، ولا يزيد على الثلث. لكن السؤال هل يوصي بالثلث كاملا أو ينقص من الثلث؟ وإذا أنقص من الثلث فهل يقارب الثلث أو يبتعد عن الثلث؟ لكل ذلك تفصيل عند العلماء، فمن أهل العلم من قال: يوصي بالثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) ، ولذلك قال عمر رضي الله عنه فيما رواه عنه البيهقي: (الثلث وسط، لا نقص فيه ولا شطط) . فقول عمر رضي الله عنه: (الثلث وسط لا نقص فيه) ؛ بحيث إن الإنسان عندما ينقص من الثلث تقل حسناته وأجره، وقوله رضي الله عنه: (ولا شطط) ؛ لأنه ليس فيه تضييق على الورثة؛ فقد ترك للورثة ثلثي ماله؛ فحينئذ كان عدلا. وقال بعض العلماء: إنه يغض من الثلث، أي: ينقص منه ولا يبلغ الثلث على الأفضل، وكلهم متفقون على جواز الوصية بالثلث، فإن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنها ماضية وصيته؛ لكن الإشكال: هل الأفضل أن تستغرق الثلث كاملا فتتصدق وتعمل الأعمال الصالحة وتبقى لك صدقات جارية بعد موتك، أم أن الأفضل أن تحد وتنقص من الثلث؟ قلنا: إن بعض السلف يرى أنه يستغرق الثلث، فيتدارك به الأعمال الصالحة، وقد تبقى أشياء، مثل: أن يحفر آبارا، وقد يبني مساجد، وقد يشيد أربطة ينتفع بها الفقراء والضعفاء، فتبقى له حسنات جارية من بعد موته، وهذا لا شك أن فيه تداركا لكثير من الخير، وقال بعض السلف: لا يصل إلى الثلث. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو أن الناس غضوا من الثلث، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الثلث والثلث كثير) ، فقوله: (لو أن الناس غضوا) أي: لا يصلون إلى الثلث، بل يغضون منه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) . ومذهب أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وطائفة من الصحابة أن المستحب هو الخمس، ولذلك وصى أبو بكر رضي الله عنه -مع أنه كان له مال- بخمس ماله، وقال في وصيته المشهورة: (إني رضيت بما رضي الله لنفسه) يقصد قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} [الأنفال:41] ، فقال: (رضيت بما رضي الله لنفسه) ، وهو الخمس، فجعل الوصية في الخمس. وكذلك علي رضي الله عنه قال: (من أوصى بالسدس أحب إلي من الربع، ومن أوصى بالربع أحب إلي ممن أوصى بالثلث) ، وهم يريدون من ذلك أن يكون للورثة الحظ الأكثر. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل منعه لـ سعد بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، فهم يرون أن المال الذي يترك للورثة فيه صدقة على الورثة، والصدقة على القريب أعظم أجرا من الصدقة على الغريب، وعلى هذا قالوا: إنه يفضل ألا يبلغ الثلث، وألا يصل إلى الثلث؛ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) .
__________________
|
#507
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة حكم تخصيص بعض الورثة ببعض الميراث السؤال سائل لديه أبناء معاقون، وآخر لديه بنت لم تتزوج، فهل إذا ملكوا دارا أو شقة يحتاج فيه أيضا إلى إذن الورثة، أم أن عذرهم هذا شفيع لهم؟ الجواب السؤال فيه بعض الغموض، هو يقول: إن هناك ورثة معاقين، وإن هناك بنتا لم تتزوج لآخر؛ فهل إذا ملكوا شقة أو (عمارة) لابد من إذن الورثة؟ فهل مقصوده كونه يعطي أولاده المعاقين، أو يوصي لأولاده المعاقين بالشقق أو العمائر، بمعنى: أن يملكهم إياها شفقة عليهم لوجود الإعاقة؟ في الحقيقة الحكم واحد، والقاعدة في عدم جواز الوصية للوارث شاملة للوارث المحتاج ولغير المحتاج، فمثلا: لو كانوا ثلاثة أبناء وواحد من الأبناء معاق، فأحب الوالد أن يخص هذا المعاق بشيء ويوصي له بشيء خاص؛ فإنه لا وصية لوارث، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والدليل: أن الحديث عام لم يفصل بين وارث معاق وغير معاق، أو وارث محتاج أو غير محتاج، فيبقى العام على عمومه، وهذا من حيث الأصل عند العلماء بلا خلاف، وهو أنه لا وصية لوارث بدون تفصيل، لكن لو أنه نظر إلى أنه بحاجة إلى شيء معين، وأحب أن يخصه بهذا الشيء المعين، فلا بأس أن يرضي إخوانه، فيقول لإخوانه: أنتم تعلمون حاجة أخيكم، وتعلمون اضطراره، فأنا أوصي له بكذا وكذا، فأخذ رضاهم، فلا بأس بهذا، وهو -إن شاء الله- مأجور على ذلك؛ لأن هذا من الرحمة، لكن من حيث الحكم الشرعي ليس من حقه أن يخص بعض الورثة بشيء دون وجود إذن الورثة جميعا في ذلك. تبقى مسألة تمليكهم شقة أو (عمارة) : بالنسبة لتمليك الشقق قد أبدينا عليه ملاحظة، بمعنى: أنه لا يصح لشخص أن يبيع شقة من عمارة، وقد فصلنا في هذا فيما تقدم من الدروس، وبينا أنه إذا أراد الشخص أن يدخل شريكا لصاحب العمارة فيقول له: أشتري نصف العمارة، أو ربعها أو ثلثها، أما شقة من العمارة فلا، وبينا أن السبب في ذلك أنه إذا نظرنا إلى أصول الشريعة فنجد أن من ملك أرضا ملك باطنها وظاهرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أراضين) ، فجعل باطن الشيء تابعا للشيء، فإذا جاء يملك شقة وقلنا أنه يملك الشقة، فمعناه: أنه يملك الشقة وما تحتها من حيث الأصل العام، ولذلك صح الطواف في الدور الثاني ونزل منزلة الدور الأول، فإن من ملك أرضا ملك سماءها، وصح للمعتكف أن يصعد إلى سطح المسجد الحرام ولا يبطل اعتكافه ما دام أنه من داخل المسجد؛ لأن هذا كله في حكم الأرض نفسها، وتابع للأرض نفسها. فإذا جئنا نقول: إنه يملك الشقة فقط التي في الدور الثاني، فيبقى السؤال الآن بالنسبة للدور الأول والثالث والرابع والخامس، فكل شخص يملك فيه شقة، ولو كانت العمارة من أربعة أدوار، فلمن تكون السطوح؟ قالوا: ملك للمالك الأصلي، والمالك الأصلي سيبني شقة، ثم يبني في الدور الخامس والسادس والسابع إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى ويقول: أنا مالك للسطوح، فيفعل فيه ما يشاء؛ لأنه لا يعتد ولا يرى أن من ملك أرضا ملك سماءها بالنسبة لأصحاب الشقق، وحينئذ يحدث الغرر، ووجه الغرر: أنه اشترى شقة، وهذه الشقة باقية ببقاء العمارة، فقد تنهدم العمارة بعد سنة أو بعد عشرين سنة، وقد تنهدم بعد ثلاثين سنة، فهو ملك مؤقت مثل المستأجر، كأنه ملكها مدة بقائها، وملكية البيع لا تقتضي هذا؛ بل ملكية البيع تنصب على ذاتها، فتكون مالكا للأرض، ومن دخل في عمارة بالبيع الشرعي المعروف، فيدخل مالكا لربعها أو لنصفها أو لثلثها. ويصح أن يقول شخص: عندي عمارة ثلاثة أدوار، ومن أراد أن يشتري مني ثلث هذه العمارة فليدفع مائة ألف؛ فيصبح عندي شريكا في الثلث وأعطيه شقة من الشقق، وهذه يسمونها: (قسمة المهايأة) ، فهذه جائزة، والشريعة -والحمد لله- لم تضيق على الناس، لكن لا ندخل في عقود لا يعرفها المسلمون، بل استحدثت عليهم، وقد تدخل عليهم اللبس، فمثلا: افرض أنه في يوم من الأيام أراد صاحب العمارة أن يهدمها، فقال لأصحاب الشقق: اخرجوا، فبأي تعليل شرعي تمنعه؟ فقد يقول: الأرض أرضي، فتقول: نحن نملك الشقق، فيقول: لكن أنا أريد أن أهدم هذه العمارة وأبني أرضي؛ لأني أملك الأرض الأساسية، ولأنك أبحت له أن يبني الدور الأعلى والذي أعلاه؛ لأنه مالك للأرض وما عليها. إذا: فكيف تجعل صاحب الشقة يملك فقط هذه الشقة من العمارة؟ فالغرر في هذا واضح، ولذلك لا يعرف المسلمون مثل هذا البيع، ولا يعرف هذا البيع في بلاد المسلمين قبل خمسين سنة تقريبا، إنما طرأ قريبا ودخل على المسلمين، وهو من البيوع التي فيها الإشكال الذي ذكرناه، لكن أن تدخل مع مالك العمارة بالملك الشرعي الذي تتحمل فيه مسئولية العمارة، وتأخذ ربح العمارة سواء بسواء مثل أخيك، وعلى قدر حصتك من الملكية، فهذا هو الصحيح، أما أن تدخل على وجه فيه غرر، فهذا لا يجوز. فإذا قال له: أملك شقة، فلا، وإنما يملكه جزءا من العمارة، ويقول: وهبت له نصف العمارة أو ربعها أو ثلثها، ويعطي قدرا من العمارة وتقدر العمارة، فإذا بلغت الثلث فحكمها حكم الوصية بالثلث، وإذا كانت أكثر من الثلث فتصح فيما نقص، وتبطل فيما زاد عن الثلث، والله تعالى أعلم. حكم من عليه أقساط شهرية ويريد أن يوصي السؤال إذا كانت علي حقوق مالية تشتمل على أقساط شهرية، فهل تتغير كتابة الوصية في نهاية كل شهر؟ الجواب من حيث الأصل يمكن للشخص أن يقول: المؤسسة الفلانية لها علي مائة ألف، أو لها علي سيارة مقسطة بقسط كذا وكذا، فيسأل عما بقي من الأقساط، وهذا يكفي إن كان من أحلت عليه صادقا. وينبغي للشخص الذي عليه أقساط أن يحتفظ بالأوراق التي تثبت دفعا؛ لأن هذا يحفظ حقوق الورثة، ويحفظ لهم المال من بعد موته ولا يغرر بهم، حتى يعرفوا ما الذي له وما الذي عليه، والله تعالى أعلم. السؤال إذا توضأ الجنب وأراد أن ينام فهل له أن يقرأ أذكار النوم المتضمنة لآيات من القرآن؟ حكم قراءة الجنب للقرآن الكريم الجواب الجنب لا يقرأ القرآن، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا الأدلة على أن الجنب لا يقرأ القرآن، وأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحجزه عن القرآن وجود الجنابة، وعلى هذا أشرنا إلى الحديث الذي رواه أبو يعلى في مسنده، وهو من أقوى ما ورد شاهدا لرواية: (كان لا يحجزه شيء عن القرآن إلا الجنابة) ، وهذا الشاهد قواه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وأثبتوا أن الجنابة تمنع من قراءة القرآن، ويقوي هذا ما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر عليه الرجل، وكان قد قضى حاجته، فسلم عليه عليه الصلاة والسلام، فاستدار إلى الجدار وضرب بكفيه فتيمم، ثم رد السلام وقال: (إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله) ، فإذا كان هذا في الحدث الأصغر فمن باب أولى الحدث الأكبر. وأيا ما كان فإن الجنب لا يجوز له أن يقرأ القرآن، لكن إذا كان الجنب أو الحائض يخشى الضرر، مثل: أن يخشى السحر أو العين، وضاق عليه الوقت ودخل عليه وقت المغرب أو دخل عليه وقت الفجر وعليه جنابة، وخشي أن يبتلى؛ فقد رخص بعض العلماء في قراءة المعوذات خوفا من السحر، وفي هذه الحالة: الأفضل له أن يتيمم ويخرج من الإشكال ثم يقرأ القرآن، فهذا أكمل وأفضل، وأما أذكار النوم فما كان منها من غير القرآن فإنها تقرأ، سواء كان على الإنسان جنابة أم لا، وأما ما كان من القرآن كقراءة آية الكرسي ونحوها، فلا بد فيه من الطهارة، والله تعالى أعلم. حكم تأخير دفن الجنازة ليصلي عليها من لم يصل السؤال من صلى على جنازة ثم تبعها، وقبل أن تدفن أراد من لم يدرك الصلاة أن يصلي عليها، فهل يجوز له أن يصلي معهم مرة ثانية؟ الجواب السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حضرت الجنازة دفنها مباشرة، وهذا هو المحفوظ من هديه، ولذلك إذا صلي عليها مع الجماعة فمن أدرك فالحمد لله، ومن لم يدرك فلا حاجة إلى تأخير دفنها؛ لأن هذا من تأخير الجنازة لمصلحة الحي، والميت من مصلحته المبادرة. وهذه سنة تخفى على الكثير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال: (أسرعوا بالجنازة) ، وهي إذا كانت صالحة تقول: قدموني قدموني، فأي تأخير فإنه حجز لها عن الفضل وحجز لها عن الخير، فلا يجوز في هذه الحالة أن يعتدى على الميت بتأخيره لمصلحة الحي. وقد يقول قائل: إنه سيدعي له ويترحم عليه، فنقول: إن هذا متدارك بالدعاء له حتى بعد دفنه، فليس الأمر موقوفا على الصلاة عليه فقط؛ لأن الصلاة عليه قصدت للدعاء، وقد حصل هذا المقصود وتحقق بصلاة الجماعة، خاصة إذا كان في الحرمين أو نحو ذلك، فكلما جيء بجنازة قبل دفنها توضع ثم يقال: من لم يصل فليصل ونحو ذلك، فهذا فيه تكلف. والذي يظهر من ظاهر السنة أننا مطالبون بالإسراع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة) ، فهذا أمر يقتضي المبادرة والتعجل، وحق الميت في هذا ينبغي حفظه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله) . ومن هنا وصى أهل العلم رحمهم الله بأنه لا يجوز تأخير الجنائز، وهذا أمر تساهل فيه كثير من الناس إلا من رحم الله، فينبغي المبادرة بالجنائز والإسراع بها، وهذا فضل للميت وخير له، وقد صح عن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم أن الله كشف له الغيب، وبين أن الجنازة تصيح وتقول: قدموني قدموني إذا كان صالحة، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا ذلك القائل: قدموني قدموني؛ لما يرجو من رحمة الله والخير، ونقول: الدعاء له متدارك بعد دفنه، خاصة وأن هناك قولا -وإن كان مرجوحا- بجواز الصلاة عليه بعد الدفن، والله تعالى أعلم. معنى قول العلماء: (قياس مع الفارق) السؤال نرجو من فضيلتكم توضيح قول الفقهاء رحمهم الله: (قياس مع الفارق) ؟ الجواب القياس دليل شرعي، وهذا الدليل الشرعي لا يجوز لأحد أن يستخدمه إلا إذا علم ضوابط الشريعة فيه، فالسلف والعلماء والأئمة أكثر من عشرة قرون قد قعدوا هذا الدليل الشرعي، وبينوا ضوابطه، فلا يجوز لأي شخص أن يستخدم هذا النوع من الأدلة إلا وهو يعرف أركانه وشروط، أي: الأركان المعتبرة للعمل به وإثباته، فلا يأتي أحد فيقيس شيئا على شيء دون علم ومعرفة؛ لأنه قد يحلل ما حرم الله، وقد يحرم ما أحل الله، والرأي قد يكون مزلة للإنسان إذا لم يحسنه؛ لأن الرأي سلاح ذو حدين، فإما أن يكون سببا في بناء الشرع وتميز أحكامه ومعرفتها والوصول إلى الحق في المسائل المشكلة، وإما أن يكون العكس والعياذ بالله! ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه المشهور الذي كتبه لـ أبي موسى الأشعري، وهو من أعظم كتب الفقه، وقد اشتمل على قواعد مهمة للفقيه، حتى إن الإمام ابن القيم رحمه الله شرحه في أكثر من مائة صفحة، وهو كتاب عمر رضي الله عنه الذي قال فيه: (اعرف الأشباه والنظائر، ثم قس الأمور بأمثالها) ، فبدأ بالمعرفة، فتحتاج إلى أن تعرف ما هو الأصل؟ وما هي العلة التي تربط بين الأصل والفرع؟ وتعرف الحكم المستنبط والذي تتوصل إليه، والذي من أجله أثبت القياس. والقياس يقوم على أربعة أركان: 1 - فرع مختلف فيه. 2 - وأصل متفق عليه بين الطرفين. 3 - وحكم لذلك الأصل. 4 - وعلة تربط بين الفرع وبين الأصل. فمثلا: نقول: لا يجوز التفاضل في الأرز كما لا يجوز في التمر، بجامع الكيل عند الحنفية، والقوت والادخار عند المالكية، والطعم عند الشافعية، والطعم مع الكيل أو الوزن على رواية عند الحنابلة رحمهم الله، أو الطعم على الرواية الثانية، أو الكيل على الرواية الثالثة، فهذا القياس قد ألحقت الأرز بالتمر فقلت: لا يجوز أن يباع الرز بالأرز متفاضلا، ويجري فيه الربا مثل التمر والشعير؛ لأنك ترى أن الأرز والشعير لا فرق بينهما من حيث القياس. إذا: الفرع هو الأرز؛ لأنه لم يرد فيه نص لا في الكتاب ولا في السنة، والأصل المتفق عليه هو التمر؛ بأنه لا يجوز بيع التمر بالتمر متفاضلا، والحكم: هو عدم جواز التفاضل، والعلة: ما ذكرناه في المذاهب الأربعة مفصلة، وفي هذه الحالة يجري القياس. ويشترط في الأصل الذي تقيس عليه من الشروط: ألا يكون معدولا به عن سنن القياس؛ فلابد أن يكون صالحا لأن يقاس عليه غيره، فإذا كان معدولا به عن سنن القياس فلا يصح، فمثلا: المرأة إذا قذفها زوجها -والعياذ بالله- بالزنا فإنه يلاعنها إذا لم تكن له بينة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) ، وذلك في حديث ابن عباس لما قذف هلال بن أمية رضي الله عنه امرأته بـ شريك بن سحماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) ، فاشتكى هلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه نزل فيك وفي صاحبتك قرآن) ، فجاءت فتلاعنا، فالرجل مع زوجته إذا قذفها فإنهما يتلاعنان، لكن لو أن أخا قذف أخاه والعياذ بالله، فهل يجري بينهما اللعان؟ فلو جاء شخص يجهل ضوابط القياس فقال: يجري اللعان بين الأخ وأخيه كما يجري بين الزوج وزوجته، بجامع وجود القرابة في كل؛ فنقول: هذا قياس فاسد؛ لأن الأصل معدول به عن سنن القياس. إذا: هناك شروط وضوابط في الأقيسة، فمثلا: إذا كانت الجوارب خفيفة، وقد كان الموجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الجوارب سميكة، فنزلت الجوارب السميكة منزلة الخف؛ لأنه مثله في الوصف وقريب منه، حتى إنهم ربما يواصلون عليه المشي ولا يسترون أقدامهم، حتى إنهم يلفون التساخين لأجل الوقاية من الحجارة، ولا تكون كذلك إذا كانت رقيقة، فإذا كان الأمر كذلك، فلو جاء أحد يقيس فقال مثلا: يجوز المسح على الخفيف من الجوارب كما يجوز المسح على الخفين، فنقول: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الخف يمكن مواصلة المشي عليه، وهو ساتر للرجل بخلاف هذا الشفاف الرقيق، ولأن الخف في الأصل رخصة عدل بها عن الأصل الذي هو غسل الرجلين، وهذه الرخصة ينبغي أن تتقيد بما ورد وثبت في السنة، والمحفوظ في زمان النبي صلى الله عليه وسلم هو الخف، والجورب الثخين، ولذلك جاء في رواية السنن: (الجورب المنعل) ، أي: الذي يكون في أسفله جلد، فإذا ثبت هذا، ثم إذا جاء أحد يقيس -وأعني: عند من لا يرى المسح على الخفيف- فنقول: إن هذا قياس مع الفارق؛ لأن الثخين في حكم الخف، ولذلك جاز المسح على الجوارب لأنها في حكم الخفاف، فلا يجوز قياس الخفيف عليها، وهذا كله قياس مع الفارق، فتثبت الفارق بينهما؛ فإذا أثبت الفارق قدحت في القياس. والقياس مع الفارق يسميه العلماء: قادح من قوادح القياس، وهذا القياس الذي أثبته العلماء كدليل وحجة يعترض عليه، ويقدح فيه من أربعة عشر وجها، منها: فساد الاعتبار، والقلب، والنقض، ومنها: أن يقال: هذا قياس مع الفارق، فتثبت أن هناك فرقا بين الأصل وبين الفرع، وتضعف إلحاق الفرع بالأصل من هذا الوجه. فالقياس مع الفارق قادح من قوادح القياس الأربعة عشر، وإذا سلم الخصم أن هذا الفارق مؤثر فحينئذ يبطل قياسه، أو يلزم بدليل آخر بدلا عنه، والله تعالى أعلم. جدة الزوجة محرم للزوج السؤال هل يكون زوج المرأة محرما لجدة تلك المرأة من أبيها، أي: هل يدل قوله تعالى: {وأمهات نسائكم} [النساء:23] على ذلك؟ الجواب نعم، أم الزوجة من جهة أبيها ومن جهة أمها أم لها، ولذلك تعتبر محرما له، وقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء:23] يشمل الأم المباشرة والأم بواسطة، سواء تمحضت بالإناث كأم الأم، أو تمحضت بالذكور كأم أب الأب، فجدة الزوجة سواء كانت من جهة أمها -وهي الجدة التي تمحضت بالإناث وهي أم أم الزوجة- أو كانت جدتها من جهة أبيها؛ كأم أبيها أو أم أبي أمها، فإنها محرم؛ لأنها في حكم الأم؛ للعموم الذي ذكرناه بنص الآية الكريمة، والله تعالى أعلم. تخصيص شعبان بكثرة الصيام السؤال هل ورد فضل للصيام في شهر شعبان سواء كله أو بعضه؟ الجواب لم يرد في شعبان دليل على تخصيصه بالصيام من جهة الفضل، لكن ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم ويكثر في شعبان من أجل التقوي على رمضان، وليس المراد من هذا خصوص الشهر، ولا يراد به الاعتقاد في الشهر، وإنما يراد به التقوي على رمضان، ولا يخفى أن من دخل عليه رمضان، ولم يكن قد صام شيئا من شعبان؛ فإنه يضعف في أول رمضان، وقد يتعب في الأيام الأول من رمضان، وينهك بدنه؛ لأنه لم يألف الصوم، ولم يتعود عليه قبل دخول رمضان، فإذا أراد أن يكون قويا في رمضان، ويتقوى على صيامه؛ فالأفضل ألا يبالغ في صيام شعبان، ولا يترك -أيضا- صيام شعبان؛ لأنه إذا بالغ في صيام شعبان فإن رمضان سيدخل عليه وهو منهك، فيؤذيه الصوم، فيكون قد اشتغل بالنافلة عن الفرض، وإذا ترك صيام شعبان كلية دخل عليه رمضان فأضعفه بالصوم، ولذلك فإن من يعتاد الصيام في شعبان إذا دخل عليه اليوم الأول فلا يصدع رأسه، ولا ينهك بدنه، ولا تخور قواه، لكن بعض الناس ممن لا يألف الصوم ربما سقط من بعد صلاة الظهر، وإذا به لا يتحرك، وقد لا يستطيع أن يصلي العصر من شدة ما يأتيه من وطأة الصوم عليه. فالمقصود من صيام شعبان هو التقوي على صيام رمضان، وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هنا نهي عن الصيام بعد منتصف شعبان؛ لحديث العلاء بن عبد الرحمن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصوم بعد منتصف شعبان) ؛ لأنه إذا انتصف شعبان وبالغ في الصوم أنهكه عن رمضان، ولما نهى عن الصوم بعد المنتصف، كأنه يحبب الصوم قبل المنتصف، وهذا مفهوم مخالفة، فإذا صام بعد منتصف شعبان، وبالغ في الصيام؛ ضعف عن رمضان. ونقول: إنه يفصل في ذلك: فمن كان الصوم لا يضعفه فيجوز له الصوم، ليتقوى به على رمضان، ويدل على ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) . وهذا أصح من حديث النهي عن الصوم بعد منتصف شعبان، فلما نهى عن ذلك وقال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) نبه على أنه يجوز تقدمه بصوم أربعة أيام أو خمسة، وذلك من باب التقوي على رمضان، وهذا أمر يخفى على الكثير، حتى في بعض الخلافات التي وقعت بين العلماء رحمهم الله في هذه المسألة أن صوم شعبان لا يراد لذاته، وإنما يراد به التقوي على رمضان، بحيث إذا دخل عليه وقد ألفت نفسه الصوم قوي عليه في فريضته، ولم يبالغ في ذلك إلى درجة ينهك بسببها في صيام رمضان الفريضة، والله تعالى أعلم. وصايا مهمة لمن يحضر الدروس العلمية السؤال نود منكم نصيحة لمن يضع سيارته خلف سيارات يريد أصحابها الخروج فلا يستطيعون بسبب تلك السيارة، ونريد نصيحة أخرى لمن يؤذي المسلمين أثناء الدرس بفتح نغمات التلفون أو بالكلام؟ الجواب لا يجوز للمسلم أن يتسبب في الإضرار بأخيه، وأوصي كل طالب علم، وأحرج عليه بالله عز وجل -لما وجدنا من الأذية في الدروس، وإزعاج بعض العوام وتشويشهم- أنه إذا أوقف سيارته ألا يوقفها وهي مقفلة على أحد، ولو أن يضعها على بعد كيلو من المسجد، فلا يحضر مجلسي أحد قد آذى أحدا بقفل سيارته على إخوانه، وهذا أمر قد تكرر أكثر من مرة، سواء في درس جدة أو في درس مكة أو غيره من الدروس، فرجائي للإخوة أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم، وأن يتقوا الله في إخوانهم، وقد حدث في بعض الدروس أن كان بعض الجيران عنده مريض، واحتاج إلى إسعافه، فلم يستطع، لأن أحدهم أقفل بسيارته على سيارة صاحب المريض. وبعضهم يأتي وكلما وجد سيارة ظنها سيارة طالب مثله، فيقفل عليها، فهذا لا ينبغي أبدا، فإذا أردت أن توقف سيارتك فلا تقفل على أحد وإلا حملت الإثم والوزر، وخاصة إن كنت طالب علم أو كنت منتسبا للعلم. الأمر الثاني: مما كثرت الشكوى فيه: قضية الجوالات وأصوات البيجرات أثناء الدروس، فأناشدكم الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه ألا يجلس أحد في مجلس علم -وأخص مجلسي- وقد فتح جواله، فإذا أراد أن يجلس ويغلق الجرس فليجلس، أما أن يجلس ومعه جواله وقد فتح جرسه، فلا آذن له، والله يشهد على ذلك، وأشهد الله أنه مؤذ لإخوانه ومضر بهم، سواء كان ذلك عن طريق فتح الجرس فيزعج من حوله -وهذه الأجراس تعرفون أن كثيرا منها موسيقية وذات نغمات لا تليق في بيت الله عز وجل- أو كان ذلك عن طريق التكلم والتحدث أثناء الدرس، وهذا قد تكرر أكثر من مرة، وقد بعث لي الإخوة رسائل في درس جدة ومكة، أنه بلغ ببعضهم أنه يتكلم أثناء الدرس وداخل الحلقة، وما رأيت ذلك، لكن لا أشك أنه ظالم لإخوانه؛ لأنه إذا أراد أن يكلم أحدا فليخرج من الحلقة، والأغرب من هذا أن البعض يخرج ويتخطى الرقاب ثم يرجع مرة ثانية، ولا أرى له شرعا أن يعود إلى المكان. وعليه: فالذي يريد أن يتصل ويكلم الناس فليجعل كلامه في الخارج، وليبتعد عن الحلقة، فهذا مكان علم، ومكان تتلى فيه آيات الله والحكمة، وليحمد الله المسلم أن الله شرفه وكرمه بسماع آيات التنزيل والأحكام، وهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى يغبط عليها، فهذه الثواني والدقائق إن كانت عندك قليلة فإنها عند الله ليست بالقليلة، بل هي التي تكفر فيها السيئات، وترفع فيها الدرجات، وكفى الإنسان لغط الدنيا وهمومها، ألا يستطيع أن يصبر ساعة في ذكر الله جل جلاله؟ والبعض قد يأخذ معه جواله وبيجره إلى الصلاة، فيزعج ويشغل فلا يعرف كيف صلى، نسأل الله السلامة والعافية، اللهم إنا نعوذ بك من قسوة القلوب أنت أثناء الصلاة في آخرتك، فالإنسان يقضي الساعات كلها في أمور الدنيا، أفلا يستطيع أن يصبر نفسه دقائق؟! فالصلوات لا تبلغ بعض الأحيان ربع ساعة، أفلا يستطيع أن يغلق جواله؟! وهل الذي يتصل عليه أعز عليه من ربه الذي يلقاه ويستقبله ويذكره ويمجده ويثني عليه بالذي هو أهله سبحانه وتعالى؟! إن ذلك كله بسبب قسوة القلب والعياذ بالله! ولا أشك أن هذه من الفتن التي فتحت على الناس حتى شغلوا في موقفهم بين يدي الله جل جلاله. فينبغي على الإنسان أن يكون منتبها لهذه الأمور، فبمجرد أن آتي إلى المسجد أغلق جوالي، أو أفتح جوالي وأتركه في السيارة وليتصل من أراد، ثم إذا رجعت رجعت إلى دنياي، لكن إذا دخلت في آخرتي مقبلا على ربي فليس هناك أي شيء يشغلني عن الله جل جلاله، ولأن الشخص إذا اتصل عليه أحد في الصلاة، فإنه يتشوش ويقول في نفسه: من هذا الذي اتصل؟ أهي الزوجة أم الأهل أم غيرهم؟ أمور كلها تدخل على الإنسان الوساوس وتشغله عن ذكر الله عز وجل. فهذا أمر قد كثرت فيه الشكاوي، ولذلك أعود وأكرر: إني أحرج بالله على كل شخص يحضر مجلسنا ألا يتسبب في أذية إخوانه، سواء عن طريق البيجرات أو عن طريق الجوالات، ولينصح بعضكم بعضا. وإذا حضر إلى الدرس فهذا درس علم ومجلس علم، يذكر فيه الله جل جلاله، ويبتعد الإنسان عن أي شيء يزعج إخوانه أو يؤذيهم، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يعصمنا من الزلل وأن يوفقنا في القول والعمل، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد عظم أذية المسلم إلى درجة أنه أسقط صلاة الجماعة عمن أكل ثوما، وهذا الثوم رائحة فقط، فإذا جئت لتصلي وتقف بين يدي الله شوش عليك في الرائحة؛ فكيف وأنت تستمع حكما شرعيا تنتظره أمم من طالب العلم؟ فالأمر ليس بالسهل، الأمر تتقطع له القلوب حرقة، وقد كنا نرى من مشايخنا من يسقط طالب العلم من عينه لمجرد غلطة يذيعها أثناء درسه وحضوره مجلس العلم. ربما أثناء اتصال الجوال يكون إخوانك متجهة أفهامهم وأنظارهم لمسألة، فقطعتهم وحرمتهم منها، أليس هذا ظلم؟ أليس هذا جور؟ أليس هذا اعتداء لحدود الله عز وجل؟ وهذه المسألة قد تكون من أهم المسائل، وقد تكون معضلة من المعضلات، فقد جاء طالب العلم ربما من عشرات الكيلو مترات من أجل (قال الله وقال رسوله) ، فأنصت وأصغى وأحضر قلبه، حتى إذا أراد أن يصل إلى النتيجة جاء هذا الاتصال وقطعه عنها، فمن الذي يسأل أمام الله عن هذا؟ وأي ضرر يحصل للإنسان في مثل هذا؟ وإذا كان الشخص لا يعظم مثل هذا، فإننا والله نعظم حدود الله ونعظم شعائره، وعندنا الكلمة من العلم تساوي شيئا كثيرا، وعندنا الحكم الشرعي كبير جدا؛ لأن هذا العلم هو الذي رفعنا على رءوس الناس بفضل الله سبحانه وتعالى، وهو الذي رقينا به المنابر، وهو الذي نلنا به الخير والسعادة والبركة؛ فكل قليل منه عندنا كثير وكبير جدا، فلا نستخف بمثل هذا. فإذا جاء أحد ومعه جواله وبيجره فليحتط، ولا يتسبب في أذية إخوانه، فالأمر ليس بالسهولة مثلما يظن البعض، وينبغي علينا أن نتواصى بالحق، وأن يزجر بعضنا بعضا، فالشخص الذي يفعل هذا لا يفوتك، وقل له بعد الصلاة: يا أخي! اتق الله، فهذا لا يجوز، وهذا من الاعتداء على حدود الله عز وجل، فيأتمر المسلم بما أمر الله، وينهى أخاه عما حرم الله عز وجل من أذيته والإضرار به. والأمر أيضا عند النساء: قضية الأطفال، وإزعاج طالبات العلم بهم، وقد تكررت الشكوى من النساء، حتى إن بعض النسوة قد ناشدنني فقلن: اتق الله فينا، فإننا نحضر من مسافات بعيدة، ونريد هذه الساعة في الأسبوع لسماع الذكر وسماع الأحكام، ونحن أحوج ما نكون، فيأتي الأطفال ويشوشن علينا، ولربما يصل الأمر إلى تدليل الأطفال وعبثهم ولعبهم على مرأى ومسمع من والدتهم، وهذا لا يجوز. فلا يجوز ترك الأطفال -سواء عند الرجال أو عند النساء- بطريقة تشوش على طلاب العلم، فهذه بيوت الله، وليخش والد الطفل أن يدعى على طفله دعوة تكون سببا في شقائه؛ لأن بعض الناس لا يتمالك نفسه، وقد يأخذه القهر لأنه يأتي من عشرات الكيلو مترات للعلم الذي يريد أن يفني له عمره وحياته، ويضحي له بالغالي والرخيص، فيأتي من يشوش عليه سواء ممن يعقل أو لا يعقل. فعلى المرأة أن تحفظ أطفالها، وإذا غلب على ظنها أن حضور الأطفال يشوش على أخواتها فلتتقي الله عز وجل، ولتخف منه سبحانه وتعالى، ولتجلس في بيتها وتسمع الشريط، أما أن تأتي إلى بيت الله عز وجل بأطفالها، وتزعج من حضر من طالبات العلم، وتسبب في ضياع تركيزهن وضبطهن للعلم، ونحن أحوج ما نكون إلى طالبة علم تضبط هذا الدين وتقوم بحقوقه، فهذا لا يجوز، فأوصي أخواتي بأن يراعين ذلك، وأن يتقي الله بعضنا في بعض، نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، إنه المرجو والأمل، والله تعالى أعلم. وأختم هذا الدرس بوصيتكم بما وصى الله به المسلم تجاه أخيه المسلم: بأن يعينه وأن يناصره وأن يؤازره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) . فكم من مسلم دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب، فجعل الله سعادته في دعوته، فقال الملك: آمين، ولك مثله، وكم من كربة ونكبة وفاجعة فرجت عن مسلم بفضل الله ثم بدعوة أخ له صادق بظهر الغيب! فأعظم الله أجر الداعي، وأحسن العاقبة لمن دعي له، وإن إخوانك في الشيشان يعانون كربا وبلاء عظيما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فقد شردوا، وأخرجوا من ديارهم،، وفرق بين الوالدة وأولادها، وبين الأخ وأخيه، وعانوا من البلاء ما الله به عليم عندما طرقتهم أبواب البرد في مكان هو من أشد أرض الله عز وجل بردا وزمهريرا! فلا يعلم ما الذي يكابدون ويجدون من كيد وحقد أعداء الإسلام والمسلمين على هذا الدين إلا الله سبحانه وتعالى، فما أحوجهم منكم إلى النصرة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وهذا أصل شرعي، وهو: أن الله فرض على المسلم أن ينصر أخاه المسلم. وإن مما ينصر به المسلم الدعاء، ولا يستهين المسلم بالدعاء، فإن الله تعالى قد زلزل عروش الظالمين وشتت شملهم أجمعين بدعوة المظلومين، والله يرفع دعوة المظلوم ويقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) . فاضرعوا إلى جبار السموات والأرض، وابتهلوا لهم بخالص الدعاء، خاصة في مظان الإجابة من الأسحار وبين الأذان والإقامة بقلوب خاشعة متجهة إلى الله سبحانه وتعالى، بل بكل ما يستطيع المسلم من خشوع وإخبات وإنابة، فيستجمع بها ما يكون سببا في قبول دعوته نصيحة لإخوانه المسلمين. وعلى الأئمة أن يضرعوا إلى الله بالدعاء في القنوت، فيقنتوا ويستحضروا الخشوع، ويستحضروا عظمة الله جل جلاله، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والله على كل شيء قدير، ولا يعجز الله شيء أبدا، فإن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وما أهون الكافر على ربه! وما أهون العبد على ربه إذا أراد أخذه! وإن أخذ الله أليم شديد، فاضرعوا إلى الله بالدعاء، وابتهلوا بسؤال الله سبحانه وتعالى حتى يفرج
__________________
|
#508
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوصايا) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (406) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [3] من المسائل المتعلقة بالوصايا: أن الوصية بأكثر من الثلث أو تخصيص بعض الورثة بشيء من المال لا يجوز إلا بموافقة الورثة. ومنها: أنه يكره للفقير أن يوصي بشيء من ماله وعنده ورثة محتاجون، ومنها من مات ولا وارث له، فهل يوصي بماله كله أم أنه يقتصر على الثلث؟ ومسألة تزاحم الوصايا، وغيرها من المسائل التي فصل فيها الشيخ هنا. حكم الوصية بما زاد على الثلث بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي، ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت، فتصح تنفيذا] . بين المصنف رحمه الله في هذه الجملة أن الوصية لا تصح فيما زاد على الثلث، وقد بينا أن الأصل في هذه المسألة حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) ومن هنا أخذ العلماء دليلا على أنه لا يملك الإنسان في وصيته ما زاد على الثلث، وإذا فعل ذلك فإنه يطالب الورثة بالإذن أو الامتناع، فإن شاءوا امتنعوا فتلغى الوصية فيما زاد على الثلث، وإن شاءوا وافقوا فتمضي، كما ذكر المصنف رحمه الله، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، أن الذي يملكه الإنسان في صدقته ووصاياه في حدود الثلث. وفي هذا حكمة من الله عظيمة؛ لأن الإنسان إذا حضره الأجل عظم خوفه من الآخرة، وانكشفت له حقائق الأمور، وزال عنه اللهو والغرور، وأصبح مقبلا على آخرته، فعندها لو مكن الله الإنسان من جميع ماله لتصدق بجميع ماله؛ لأنه يريد أن يفتدي من عذاب الله عز وجل، وأن يسلم من تبعات الأموال التي جمعها، والخيرات التي حصلها؛ فإذا وقف على آخر الدنيا فإنه يغلب مصلحة نفسه على مصلحة ورثته، ولو فتح هذا الباب لما أبقى ميت لورثته شيئا، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الثلث، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) ، أي: عند الوفاة، حتى تكون من وصية الإنسان لآخرته يستصلح بها ما فسد، ويتدارك بها ما فات؛ فيصل بها رحمه، ويجعل بها صدقة جارية عليه بعد موته، فهذا من الخير والرحمة التي جعلها الله عز وجل لعباده المؤمنين. قال رحمه الله: (ولا تجوز بأكثر من الثلث) أي: لا تصح الوصية في الشيء الزائد على الثلث، فالثلث نستخرجه من جميع ما تركه الميت؛ سواء كان من النقود أو من غيرها، فمثلا: لو كان قد ترك سيولة من النقد ما يقارب مائة ألف، وترك (عمائر) وأراضي وعقارات وأمورا أخرى، ففي هذه الحالة لو قال: أوصيت بمائتي ألف، فالسيولة تعادل المائتي ألف، فإننا لا نقول: إنه قد أوصى بكل ماله، وإنما ننظر كم قيمة العقارات التي تركها والسيارات التي كان يملكها، ولو كان عنده أطعمة في بيته، مثل أكياس الأرز التي للتجارة، ونحوها، فإذا كانت تجارات ونحوها فإنها تقوم وتنظر قيمتها، ثم ينظر المبلغ الذي وصى به هل يعادل ثلث جميع التركة أو لا يعادلها؟ فلو أننا وجدنا العقارات تساوي مليونا، وهو قد أوصى بمائتي ألف، فلا شك أن المائتين نافذة؛ لأنها دون الثلث، فتصح وصيته وتمضي، ولكن إذا كانت العقارات مجموعها يعادل مائة ألف، كأن يكون مجموع ما عنده من الأراضي -مثلا- أربع قطع، وكل قطعة تساوي خمسة وعشرين ألفا، فهذه مائة ألف، ثم هو قد أوصى بمائتي ألف، فالمائتان تعادل ثلثي التركة، فحينئذ تصح في المائة، وتبقى المائة الزائدة ويسأل عنها الورثة: هل يمضونها أم لا؟ وينبغي أن يكون إمضاء الورثة بدون إحراج، فبعض الورثة قد يضايق بعضا في إنفاذ وصية الوالد والوالدة فيما زاد على الثلث، وهذا أمر لا ينبغي؛ لأن الذي يخرج بوجه الحياء وبالإكراه لا خير فيه، وربما أن هذا المال إذا أخذه الإنسان على هذا الوجه فقد يكون منزوع البركة، فتأتي العاقبة الوخيمة لمن أخذه من صاحبه بدون رضاه ولا بطيب نفس منه. فينبغي ألا يضايق بعض الورثة بعضا في هذا، فيقول مثلا: إن الوالدة قد وصت بالمائة ألف لكي نخرجها، وفي ذلك إضرار، فقد يكون بعض الورثة مديونا، وقد يكون معسرا، وقد يكون عنده من العيال والضعفة ما يجعله يحتاج إلى أن يأخذ من الإرث حتى يواسيهم، أو يصلح من شئونهم، فينبغي النظر في مثل هذه الأمور، وعدم تغليب العواطف على الأمور الشرعية المقررة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المواريث والفرائض التي قسمها الله من فوق سبع سماوات أمرها عظيم، وقد بينها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى تصل الحقوق إلى أهلها. وقد تترك الوالدة -مثلا- حليا، وهذا الحلي في بعض الأحيان يعادل أربعين ألفا، وفي بعض الأحيان يعادل مائة ألف، وبعض النساء قد يعادل حليها عشرات الآلاف أو مئات الآلاف، فتجد بعض الورثة يقول: نأخذ حليها ونتصدق به، فلا ينبغي هذا؛ بل ينبغي وضع الأمور في نصابها، ومعرفة ما الذي خلفه الميت، وما الذي ينفذ من وصاياه إلزاما، وما الذي ينفذ اختيارا، أي: باختيار الورثة وموافقتهم، وينبغي الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم في مثل هذا، وعدم تغليب العواطف في هذه الأشياء؛ حتى يكون الإنسان على السنن، وتكون طاعته لله عز وجل على بصيرة ونور. وقوله: (ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذا (قوله: (إلا) استثناء أي: إلا أن يجيز الورثة ما زاد عن الثلث، فنسأل الورثة ونقول: هذا الزائد عن الثلث هل نمضيه أو لا نمضيه؟ فمثلا: لو كان الثلث مائة ألف، وهو قد أوصى بمائتي ألف، فحينئذ نسأل الورثة عن المائة الزائدة؛ لأن الوصية تصح في المائة الأولى، وتبقى المائة الثانية موقوفة على إجازة الورثة، فإذا سألنا الورثة فإن جوابهم لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتفقوا. توقف إمضاء الوصية بما زاد على الثلث على قبول الورثة الحالة الثانية: أن يختلفوا. وإذا اتفقوا فإما أن يتفقوا على الإمضاء، وإما أن يتفقوا على الإلغاء، فإذا اتفقوا على الإمضاء، وقالوا: رضينا ما وصى به والدنا، أو ما وصت به الوالدة، فحينئذ تمضي المائتان، وتنفذ الوصية في المبلغ كاملا، في المائة الأولى استحقاقا للميت، والمائة الثانية إما تنفيذا وإما ابتداء. وأما إذا اتفقوا على إلغاء الوصية، كأن يكون الورثة فقراء ضعفاء، ووالدهم ترك لهم مائتي ألف، وتصدق بما زاد على الثلث فقال: نصف مالي صدقة، أو أوصي أن نصف مالي يتصدق به، فنسأل الورثة فيما زاد: هل توافقون؟ فإن قالوا: نحن أحوج، ونريد هذا المال، ولا نريد إمضاء هذا الزائد على الثلث، فنقول: هذا من حقكم، ولا تثريب عليكم، وهذا ليس بعقوق للوالدين، فلا يظن أحد أن هذا عقوق، ولو كان عقوقا لما أمر الله به، ولما أحله من فوق سبع سماوات، ولكن قد ينظر الوالد شيئا لحظ نفسه، وأيضا الوارث ينظر لحظ نفسه، فالوالد ينظر إليه تطوعا وتفضلا، والوارث يراه لحظ نفسه واجبا وإلزاما؛ فلو كان -مثلا- أحد أولاده عليه ديون أو حقوق، ورأى أن والده أوصى لغيره، فلو أنه أمضى وصيته فيما زاد على الثلث لتضرر هو فيما يكون من استحقاقه من الإرث، فعند ذلك من حقه أن يقول: لا أمضيها، تقديما لحقوق أولاده؛ لأن الأولاد لهم حق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك وبمن تعول) ، فجعل بعد النفس من يعول، ففي هذه الحالة إذا اتفقوا على الإمضاء أو اتفقوا على الإلغاء فلا إشكال. الحالة الثانية: أن يختلفوا، فيقول بعضهم: نمضي، ويقول بعضهم: لا نمضي. فمثلا: لو أنه ترك ابنا وبنتا، فوصى بما زاد على الثلث، ثم سألنا الابن والبنت، فقالت البنت: أنا أجيز ما أمضاه والدي، وقال الابن: لا أجيز، فحينئذ تنفذ بقدر ثلث ما زاد على الثلث؛ لأن الزائد على الثلث استحقاق للابن والبنت، والابن له مثل حظ الأنثيين، فمعنى ذلك: أن للابن سهمين فيما زاد على الثلث، وللبنت سهم واحد فيما زاد على الثلث، فإن أمضت البنت مضى ثلث ما زاد على الثلث، وإن أمضى الذكر مضى ثلثا ما زاد على الثلث. فلو كان الذي زاد على الثلث ثلاثة آلاف ريال، فسألنا البنت فقالت: أمضوه، وقال الولد: أنا محتاج، فحينئذ نمضي ألفا ونبقي ألفين، فصحت في الألف والتغت في الألفين. وعلى هذا فإنه ينظر إلى نصيب كل وارث، فإن اختلفوا فيصح في استحقاق كل ذي حق بقدر نصيبه من ذلك الزائد على الثلث. توقف إمضاء الوصية بما زاد عن الثلث على قبول الورثة وقوله: (ولا لوارث بشيء) . فلا يصح أن يوصي لوارثه بشيء، فلو خص بعض الورثة وقال: أوصي بأن يعطى فلان من أولادي الثلث أو الربع، أو يعطى مائة ألف من التركة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم هذا ومنعه، حيث قال: (لا وصية لوارث) ، وجاء في حديث ابن عباس -وقد سبقت الإشارة إليه- إلا أن العلماء اختلفوا في قوله: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) ، فهذا يدل على أن الوارث لا يوصى له. والعبرة بالوارث هو ما يكون بعد الموت، فإذا كان غير وارث حين الوصية، ثم أصبح وارثا بعد الموت، أو كان وارثا حال الوصية ثم أصبح غير وارث عند موته، فهذا كل سيأتي بيانه إن شاء الله. أما من حيث الأصل فلا يجوز للميت أن يوصي لمن يرثه، سواء كان من الذكور أو من الإناث، وفي هذا حكمة عظيمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قسم المواريث وأعطى كل ذي حق حقه من التركة، فينبغي أن لا تترك القسمة؛ لأنها هي العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض. فإذا جاء يوصي وقال: بناتي، أو أبنائي أريد أن أزيدهم، فكأنه يستدرك على الشرع، ولذلك قطع من هذا ومنع. كما أن الوصية للوارث توغر صدور الورثة بعضهم على بعض، وتوغر صدورهم أيضا على مورثهم، سواء كان من الرجال أو من الإناث، كما حرم الله عز وجل تخصيص بعض الورثة بالعطية دون بعضهم كما تقدم معنا. توقف إمضاء الوصية للوارث على إجازة الورثة وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذا) قوله: (إلا) استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، (إلا بإجازة الورثة لها) وإجازة الورثة لأمرين: الأمر الأول: لما زاد على الثلث، وقد تقدم بيانه. الأمر الثاني: إذا خص بعض الورثة بشيء ما، كأن يكون واحد من أبنائه معاقا ويحتاج إلى المال أكثر، فخصه بشيء، فقال: سيارتي، أو بيتي الفلاني، أو عمارتي الفلانية لهذا الابن المعاق، أو نظر إلى ابنته ولها أطفال، ولها وضع معين، وأراد أن يستسمح الورثة، فوافقوا في حياته أو بعد موته؛ فإن هذا يمضي ولا إشكال فيه؛ لأن الحق حقهم، وإذا كان الحق لهم، فإنهم كما يملكون بذله يملكون إمضاء وصية والدهم أو وصية والدتهم إذا وصى أحدهما بذلك. وقوله: (تنفيذا) إذا وصى لوارث واتفق الورثة على إمضاء الوصية، أو وصى بما زاد على الثلث واتفق الورثة على إمضاء هذا الزائد، فهل هذا الذي أمضوه يعتبر ابتداء أو تنفيذا؟ بعض العلماء يقول: إذا أمضى الورثة وصية مورثهم للوارث، فهذا تنفيذ للوصية، وإذا كان تنفيذا؛ فحينئذ إذا وقع القبول من الموصى إليه في زمان، ثم أجاز الورثة بعد ذلك، كأن أجازوا مثلا بعد شهر أو شهرين؛ فإن قلنا: إنه تنفيذ، وخلال الشهر والشهرين أجرت الدار، وهذه الدار إجارتها بألف أو ألفين، أو أجرت السيارة أو أجرت الدابة، وحصل منها دخل، فإن قلت: إجازة الورثة تعتبر تنفيذا لما وصى به الميت؛ فحينئذ الأجرة مستحقة لمن أوصي له، والذي وصي له يستحق هذه الأجرة؛ لأن ملكيته تثبت بمجرد أن يجيزوا، فتثبت بقبوله -كما سنبينه إن شاء الله- إذا قبل بعد الموت، فلو حصل قبوله في أول شهر محرم، فقالوا: إن أباك قد وصى بهذه السيارة لك، فقال: قبلت -أي: جاءه بعد وفاة والده- وحصل هذا في أول محرم، ثم حصل للورثة ما حصل من أخذ وعطاء، فرتبوا أمورهم، فلما جاءوا إلى وصية وارثه قالوا: إن والدكم أوصى بهذه السيارة فهل تجيزون ذلك؟ فقالوا: نجيز، وهذا حدث بعد شهرين، فخلال هذين الشهرين لو حصل زيادة في الشيء الذي وصي به أو نماء؛ فإنه يكون في ملك هذا الشخص الذي وصي له. الفرق بين التنفيذ والابتداء في إجازة الوصية للوارث أو ما زاد على الثلث وأما إذا قلنا: إنها ابتداء، فحينئذ يستحق الورثة الأجرة لما بين إجازتهم وبين قبوله؛ فإنها تكون في ملكهم، ولا تكون في ملك من وصي له. وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت) بعض العلماء يقول: إذا أخذ رضا الورثة في حياته فإنه يكون هذا مسقطا للإثم من ناحية تخصيص بعض الورثة، لكن الوصية أصلا لا تنفذ ولا تعتبر -كما سيأتي- إلا بالموت، وعلى هذا فإنه لا بد أن يكون قبول الورثة وإجازتهم بعد موت المورث الذي وصى، فعليه إذا وقعت الإجازة من الورثة على هذا الوجه بعد موت مورثهم، بأن اتفقوا، أو قال بعضهم بإجازتها وامتنع البعض؛ صحت بحسب الحال الذي ذكرناه، فإما أن تصح كلا إذا كان الجميع قد وافقوا، وإما أن تصح بالجزء الذي وافق صاحبه. قال رحمه الله: [وتكره وصية فقير وارثه محتاج] تقدم معنا أن الوصية تعتريها الأحكام التكليفية، فقد تكون محرمة، أو مكروهة، أو واجبة، أو مندوبة، وبينا هذه الصور كلها وأدلة كل صورة، وهنا يقول المصنف: (تكره) أي: تكره الوصية من الشخص الفقير، والفقر والغنى أمر عرفي، فيرجع في ذلك إلى العرف، فلو كانت عنده خمسة آلاف ريال، والعرف يقول: من عنده خمسة آلاف ريال فهو في حكم الفقير، فهو فقير، فمثله يكره له أن يوصي؛ بشرط أن يكون له وارث محتاج. كراهة وصية الفقير الذي وارثه محتاج إذا: لابد من أمرين: أولا: أن يكون المال الذي يتركه قليلا، بحيث يوصف معه بالفقر والحاجة. ثانيا: أن يكون وارثه محتاجا إلى هذا المال. فإذا تحقق الشرطان فالوصية مكروهة، وبعض العلماء يقول: إنها خلاف الأولى، وبعضهم يقول: مكروهة، وقد اختلف علماء الأصول: هل خلاف الأولى يعتبر مكروها أم لا؟ أما كونها خلاف الأولى، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا بالدليل الصحيح، فإن ميمونة رضي الله عنها أخذت جارية من جواريها فأعتقتها، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لو أنك أعطيتها لأخوالك لكان أعظم لأجرك) ، مع أن الإنسان إذا أعتق لوجه الله عتق كل عضو منه بما أعتق، حتى ينجو من النار بهذا العتق، إذا وقع على الوجه المقبول عند الله سبحانه وتعالى، خالصا لوجهه الكريم، ومع هذا يقول لها: لو أبقيتها على الرق ووهبتها لأخوالك فوصلت بها الرحم؛ لكان أعظم لأجرك. فجعل العتق خلاف الأولى، ووجه ذلك أنها تصدقت على غريب، مع وجود حاجة القريب. وبناء عليه: أخذ العلماء أن البداءة بالغريب مع وجود حاجة القريب خلاف الأولى، وهل خلاف الأولى مكروه؟ حينئذ ترد المسألة الأصولية التي ذكرناها، لكن بعض العلماء يقول: إن الورثة قد بين النبي صلى الله عليه وسلم تأكد الأمر في حقهم بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، فهو فقير، والمال ليس بذاك، ومعناه: أنه إذا لم يترك لأولاده هذا المال، فالغالب أن أولاده سيحتاجون، وعلى ذلك قالوا: إنه يكره، ولا شك أن القول بالكراهة له وجهه وله قوته؛ لأنه لا شك يضيق على الورثة، ويجحف بهم، وعلى ذلك تكون صدقته على الورثة خيرا له من أن يعطي المال للغريب، ولو كان ذلك الغريب محتاجا؛ بل إن تركه للمال نوع من الإحسان ونوع من الصلة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلة يبدأ بها الإنسان بأدنى الناس منه، ولذلك قال: (ثم أدناك أدناك) ، وعلى هذا فيبدأ بورثته قبل أن يبدأ بالناس. حكم الوصية بجميع المال لمن لا وارث له قال رحمه الله: [وتجوز بالكل لمن لا وارث له] . يرد هنا السؤال لو أن شخصا ليس له وارث، وأراد أن يوصي صدقة وبرا بجميع ماله، فهل يصح ذلك وتمضي صدقته، أم أنها لا تصح وصيته إلا في حدود الثلث؟ في المسألة قولان للعلماء: قال بعض العلماء: إنه إذا أوصى بماله كله وليس له وارث، مثل: شخص أسلم وقرابته كلهم كفار، وليس له من وارث، ثم حضرته المنية وعنده أموال، فقال: جميع أموالي من بعدي تكون في بناء المساجد، أو في تشييد الأربطة، وغير ذلك من أعمال البر والإحسان، وهذه الوصية قد شملت جميع المال، فقال أصحاب هذا القول: إذا وصى بجميع ماله ولا وارث له صحت وصيته، كما ذكر المصنف رحمه الله، وهذا القول مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يرى أنه إذا وصى بجميع ماله فله ذلك، فهو أحق الناس بماله. وأيضا: أكدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلة هي وجود الورثة حين قال: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، قالوا: فجعل هذا بمثابة التعليل للأمر. وخالف هذا القول طائفة من أهل العلم، وهو القول الثاني في المسألة فقالوا: تصح في الثلث، والزائد على الثلث يرد إلى بيت مال المسلمين، وهذا القول اختاره جمهور العلماء رحمهم الله، والسبب في هذا: أولا: أن من لا وارث له فوارثه بيت مال المسلمين. ثانيا: أن بيت مال المسلمين هو الذي يكفنه لو لم يترك مالا، فلو أنه لم يترك مالا فمن أين سيكفن؟ ومن أين سيقام على مئونة تجهيزه وحوائجه إلا من بيت مال المسلمين، فكما أن المسلمين غرموا؛ فكذلك يغنمون في حال وصيته على هذا الوجه، فقالوا: يرجع الثلثان إلى بيت مال المسلمين ردا. ويكون هذا أيضا فيه إحسان إلى عموم المسلمين، فالإحسان به مقدم على الإحسان إلى بعضهم، وهذا القول الثاني من القوة بمكان؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، جاء من باب الوصف، ولم يجئ من باب التقييد بالحكم، بمعنى: أنه إذا لم يكن لك ورثة فإنه يجوز لك أن تفعل بمالك ما شئت. والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال له سعد: (يا رسول الله! لي مال كثير ولا وارث لي إلا ابنة، أفأتصدق بمالي كله؟) ، فلو كان الأمر فيه سعة في حالة عدم وجود الوارث؛ لضيق النبي صلى الله عليه وسلم الأمر في حدود عدم الإضرار بالابنة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الرد إلى الثلث. وأكد أصحاب القول الثاني هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) ، فدل على أن الذي يملكه هو الثلث، وحينئذ إذا تصدق وليس له وارث بما زاد على الثلث فقد تصدق بما لا يملكه؛ لأن المال في هذه الحالة يكون ردا إلى بيت مال المسلمين، فكما أنه إذا زاد على الثلث في حال وجود الوارث دخل في ملك الغير، فكذلك في حال صدقته بجميع ماله ولا وارث له دخل على بيت مال المسلمين، فتكون وصيته في حدود الثلث إعمالا للأصل؛ لأن الحديث الذي ذكرناه: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) من حيث المنطوق أقوى من حديث: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء) لأنه ربما يكون بمثابة الوصف -كما ذكرنا- لا من باب التقييد بالعلة. مسألة تزاحم الوصايا قال رحمه الله: [وإن لم يف الثلث بالوصايا فالنقص بالقسط] بعد أن بين لنا ما الذي يشرع من جهة المقدار، وهو أن يكون في حدود الثلث؛ بين حكم ما زاد على الثلث، وحكم ما نقص عن الثلث أنه ماض، فورد السؤال لو أن شخصا وصى وازدحمت الأشياء التي وصى بها، وأصبح الثلث لا يسعها، فوصى بمبلغ معين لشخص، ثم بمبلغ ثان لشخص آخر من قرابته غير الوارثين، فأصبح ما وصى به زائدا على الثلث، فازدحم الشخصان وللتوضيح أكثر: شخص توفي وترك تسعة آلاف ريال -مثلا- فمعنى ذلك: أن ثلث التركة هو ثلاثة آلاف ريال، وفي وصيته قال: أعطوا محمدا -الذي هو المحتاج- ألفين، وأعطوا صالحا -المحتاج الثاني- ألفين، فأصبح مجموع ما يعطاه الشخصان يعادل أربعة آلاف ريال، والثلث ثلاثة آلاف ريال، فكيف نقسم الثلاثة آلاف ريال على أربعة آلاف ريال؟ بين المصنف رحمه الله أنها تكون بالقسط، وهذه المسألة في الحقيقة فيها تفصيل: ازدحام الوصايا مع كونها متساوية أولا: إذا ازدحمت الوصايا، فلا تخلو إما أن تكون مستوية أو أن تكون مختلفة، وازدحام الوصايا المستوية مثل أن تكون في حقوق واجبة، أو في أمور مستحقة استوت من جهة الاستحقاق. فمثلا: لو أن رجلا وصى أن يحج عنه، والحج كان واجبا عليه فماطل وتأخر، فوصى أن يخرج من ماله ما يحج به عنه، وأيضا وصى بكفارات، وهذه الكفارات عدلها -مثلا- ألف ريال، والحج عنه يكون بألف ريال، والثلث ألف ريال، فحينئذ لا يمكن للألف ريال التي هي ثلث ماله أن تستوعب الوصية بالحقين، والحق الأول واجب، والحق الثاني واجب كذلك، فازدحم حقان واجبان لله عز وجل. ازدحام الوصايا مع كونها مختلفة الحالة الثانية: أن يكون الازدحام عند الاختلاف، مثل أن يوصي بحق واجب كالحج، ويوصي بمستحب، فيقول مثلا: أخرجوا من الثلث ما يحج به عني حجة فريضة، وأخرجوا من الثلث عشرة آلاف ريال لفلان صدقة مني عليه، فعندما جئنا ونظرنا وإذا بثلثه لا يمكن أن يحج عنه وتخرج العشر آلاف ريال، أي: لا يستوعب الأمرين، فوجدنا أن الحج عنه فريضة واجبة لازمة، والعشرة آلاف صدقة مستحبة، فازدحمت الوصيتان إحداهما واجبة والثانية مستحبة. وهذه كلها تعرف عند العلماء بمسائل الازدحام في الوصية، فإذا ازدحمت الوصايا وكانت كلها واجبة؛ فمذهب بعض العلماء رحمهم الله أنه ينظر إلى صفة الوجوب من حيث اللزوم، مثل الحج في لزومه وفرضيته آكد من غيره. وبعض العلماء يقول: لا ينظر إلى مثل هذا، وإنما تقدم الكفارات لأنها دين، والحج لا يجب مع الدين، بمعنى: أن الحج يسقط مع الدين، فإذا كان الشخص مديونا فالحج يسقط، فحينئذ حقوق الكفارات الواجبة عليه مقدمة على الحج؛ لأنه لو كان حيا وأراد أن يسأل لقلنا له: أد الكفارات الواجبة عليك ثم حج؛ لأن الحج لا يجب على من عليه دين، فقدمت الكفارات والنذور والأيمان من هذا الوجه، وهذا القول عند النظر والتأمل أقوى. أما بالنسبة لازدحام الواجب مع المستحب والمندوب فلا إشكال، فلو أنه وصى بالحج وبالصدقة، حججنا عنه ثم نتصدق بما بقي. فمثلا: لو كان الحج عنه بألفي ريال، ووصى بعشرة آلاف ريال لرجل صدقة، فلنفرض أن الثلث ثمانية آلاف ريال فنخرج منه ألفين للحج عنه، وندفع الستة آلاف الباقية للشخص الذي وصى له، ويكون له ما فضل عن الواجب، فتكون المستحبات استحقاقها في الوصية عند الازدحام مع الواجبات فيما فضل وزاد. هذا بالنسبة لازدحامها، أما في حال الاجتماع بالاستواء مثل: المستحبات، فلو كانت وصاياه كلها مستحبة، كأن يقول: أعطوا محمدا ثلاثة آلاف ريال، وأعطوا زيدا ثلاثة آلاف ريال، وأعطوا عمرا ثلاثة آلاف ريال، فهذه تسعة آلاف ريال، وثلث التركة ثلاثة آلاف ريال، فكيف تقسم ثلاثة آلاف على تسعة؟ في هذه الحالة ننظر إلى سهم كل واحد منهم من أصل مسألة في مجموع الوصايا، فإذا وصى لكل واحد من الثلاثة بثلاثة آلاف ريال، فمعناه: أن نصيبهم مستو، فتنظر إلى عدد رءوسهم وهم ثلاثة، فتعطي كل واحد منهم ثلث الثلث، وهذا هو معنى: بالقسط وبالحساب. وعلى هذا: ننظر إلى الرءوس واستحقاقها بنسبة المال الذي وصى به، فلو اختلفت فقال: أعطوا محمدا ألفين وزيدا ألفا وعمرا ألفا، فحينئذ تكون متفاوتة؛ لكن بين الألفين والألف تناسب، فتكون مقسومة على أربعة، فيصبح لمحمد نصف الثلث، ولزيد ربع الثلث، ولعمر الربع الآخر، فلو كان الثلث يعادل أربعة آلاف ريال، فنقول في هذه الحالة: يمضي نصف الثلث لمحمد -وهي الألفان- ثم لزيد ألف ولعمر ألف؛ لأنها تعادل ربع الثلث. ومسألة أن تجزئ بالأقساط هي مسألة مفرعة على مسألة العول في الفرائض، ومسألة العول في الفرائض حكي فيها إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، والأصل في ذلك قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المرأة لما توفيت وقد تركت أختين وزوجا، فالزوج له النصف، والأختان لهما الثلثان، فأصبح لا يمكنك أن تعطي نصف التركة للزوج؛ لأنك إذا أعطيته النصف بقي النصف، ولو أعطيت الأختين الثلثين بقي الثلث، والزوج يريد النصف، فحينئذ ماذا يفعل؟ لما وقعت هذه الحادثة في زمان عمر بن الخطاب جمع الصحابة رضوان الله عليهم وشاورهم في هذا الأمر، وكان عمر رضي الله عنه إذا نزلت به النازلة يبدأ بأفاضل الصحابة والسابقين للإسلام، ويقدم المهاجرين، ثم الأنصار، ثم يشاور عموم الناس بعد ذلك، ولا يشاور قبل أهل العلم أحدا أبدا، فيبدأ أولا بأهل العلم فيشاورهم، فإن وجد عندهم حلا أمضاه؛ لأنهم هم أمناء الأمة، وأعلم بدين الله وشرعه، وهم أتقى لله وأقرب إلى الإخلاص، والبصيرة فيهم نافذة بتوفيق الله سبحانه وتعالى لهم. فشاور رضي الله عنه فقهاء الصحابة وأجلاءهم، وكان فيهم الزبير رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (يا أمير المؤمنين! ما أرى هذه المسألة إلا كرجل توفي وعليه دين عشرة وترك أقل من ذلك، فننظر نصيب كل واحد من أصلها) . ومراده بذلك: أننا ننظر إلى ما تركه الميت ويجزأ، ويكون النقص داخلا على كل شخص بقدر سهمه، فإذا كان الثلثان مع النصف فتعول المسألة إلى سبعة، فبدلا من أن نقسمها على ستة نقسمها على سبعة، وحينئذ يكون للأختين الثلثان أربعة، ويكون للزوج النصف ثلاثة، ويقسم النصيب فينقص صاحب النصف بقدر مناسب لصاحب الثلثين، ويدخل النقص على الجميع بقدر السهم، كما سيأتي إن شاء الله بيانه وتفصيله في كتاب الفرائض. وهذه المسألة عندما وقعت بين الصحابة صارت أصلا عند العلماء في النماء والفضل إذا ترك التركات والمال، وصارت أصلا -أيضا- في العد والنقص، ففي هذه الحالة لو ازدحمت الوصايا وعين وقال: لفلان ألفان، والثاني له ألفان، والثالث له ألفان، وترك ثلاثة آلاف، فحينئذ ندخل النقص على كل واحد بقدر حصته من أصل المسألة، وهذا شبه إجماع بين الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة، وقد فرع العلماء رحمهم الله عليها مسائل الازدحام.
__________________
|
#509
|
||||
|
||||
![]() حكم من كان وارثا أو غير وارث قبل الوصية ثم تغير حاله قال رحمه الله: [وإن أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث؛ صحت، والعكس بالعكس] . قوله: (إن أوصى لوارث) نستطيع أن نمثل لهذه المسألة بمثال يكون أصلا لغيره، فمثلا: الأخ لا يرث مع وجود الابن الذكر؛ لأن كلا منهما يرث بالعصبة، فعصبة الأخوة بعد البنوة. فإذا أردت أن تجعله في حال الوصية وارثا، وتجعله عند الموت غير وارث، فتجعل الرجل بدون ابن، ثم يوصي لأخ، فحينئذ الأخ وارث، فإذا ولد له الولد صار غير وارث عند الموت، فإذا وصى لأخ على أنه وارث، مع أنه كان وارثا أثناء الوصية، ثم ولد له ابن ذكر، وتوفي، فقد أصبح الوارث -وهو الأخ- غير وارث بعد الموت، فتصح الوصية؛ لأن العبرة في الوصية بما بعد الموت، ولذلك يستطيع أن يلغيها ويستطيع أن يرجع فيها، ولا عبرة بالقبول قبل الموت، وكل شيء موقوف فيها على ما بعد الموت، فنحن لا ننظر إلى ما كان عليه هذا الشخص، وهو أن الأخ قبل الموت وأثناء كتابة الوصية أو التلفظ بها كان وارثا، لكن المهم هو ما كان عند الموت، فلما توفي الرجل إذا به قد أصبح غير وارث، ويكون هذا عند حال الشك، فتكون زوجته مثلا حاملا فيوصي، فإذا كانت أنثى فالأخ له الباقي؛ لأنه عصبة، وإذا كان ذكرا، فحينئذ ليس للأخ من شيء. وفي بعض الأحيان الأفضل للأخ أن يكون ذكرا، وبعض الأحيان يكون العكس، فمثلا: قد يكون وارثا ويوصي له، مثل الأخ، فقد يكون غير وارث ثم يصبح وارثا، فقال: أعطوا أخي فلانا عشرة آلاف ريال من ثلثي وصية، وعنده ولد ذكر، فالأخ غير وارث مع وجود الولد الذكر، فأخذ الموصي بالسنة فوصى لقريب لا يرث، فشاء الله أن تكون منية الابن الذكر قبل أبيه، فتوفي بحادث وجاء الخبر لوالده فمات، فحينئذ الأخ الذي لم يكن وارثا أصبح وارثا؛ لأنه لما توفي الابن في هذه الحالة تقدمت درجة الأخوة، وأصبح الأخ في هذه الحالة من الوارثين، لكنه عند الوصية كان غير وارث، فالعبرة بما بعد الموت، فحينئذ تكون وصية لوارث، وعلى هذا فيكون الحكم واحدا؛ لأنه من حيث الأصل هو الذي وصي له، وهو الذي يرث المال، بمعنى: هو الذي يوصي له، وهو الذي يكون مسئولا عما زاد إذا لم يترك غيره. وقوله: (والعكس بالعكس) . أي: إن كان غير وارث فأصبح وارثا، أو وارثا ثم أصبح غير وارث، فالحكم بما بعد الموت، ولا تأثير لما تقدم على ذلك. قال رحمه الله: [ويعتبر القبول بعد الموت وإن طال لا قبله] . الإيجاب والقبول من أركان الوصية الوصية لها أركان وهي: الموصي، والموصى إليه: وهو الوصي، والموصى به: وهو الشيء أو محل الوصية، والصيغة. فهذه أربعة أركان للوصية: فالشخص الذي يوصي، والشخص الذي يوصى إليه، والمحل الذي يوصي به (الشيء الذي يوصي به) والصيغة. والصيغة: هي الإيجاب والقبول، الإيجاب بالنسبة للميت الذي كان حيا حينما وصى، ويشترط فيه شروط سيأتي إن شاء الله بيانها، والذي يوصى إليه أيضا يشترط فيه شروط لابد من توفرها، فلا بد من وجود الصيغة من هذا الشخص الذي وصى. إذا: هي الإيجاب والقبول، الإيجاب من الموصي، والقبول من الوصي أو الموصى إليه، وإذا وقع الإيجاب فإنه ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يكون الإيجاب باللفظ. الثاني: أن يكون بغير اللفظ. فالإيجاب يكون صريحا إذا كان باللفظ، مثل قوله: وصيت بعشرة آلاف لفلان، فهذا لفظ صريح، ويعتبر إيجابا واضحا في الدلالة ليس فيه أي احتمال. والألفاظ الضمنية التي تدل على الوصية ضمنا ما جرى به العرف من الألفاظ المعروفة، كقوله: أعطوا فلانا من ثلثي كذا وكذا، فنعتبرها وصية، رغم أنه ما قال: وصية مني، بل قال: أعطوا فلانا، لكن (أعطوا) تدل ضمنا على أنه يريد الوصية، فهذا هو اللفظ الصريح واللفظ غير الصريح. وهناك أمور أخرى تدل على الوصية من الأفعال، مثل الكتابة، فلو كتب وصيته وأشهد عليها عدلين صحت الوصية، لو كان أخرس لا يتكلم لكن عنده إشارة مفهومة ومعروفة؛ فالإشارة في هذا تنزل منزلة العبارة، أو كان يسمع ولكنه لا يستطيع الكلام، فقيل له: هل تريد أن توصي؟ فأشار برأسه أن نعم، فقيل له: السنة ألا تزيد على الثلث، فهل تريد أن توصي بالثلث كله؟ فهز رأسه بنعم، أو قال: لا، فقيل له: الخمس مثلا، فأشار بنعم، فهذه إشارات ليس فيها لفظ فتعتبر من الصيغة الدالة على الوصية، فالإيجاب يكون من الوصي، والقبول يكون من الشخص الذي وصى إليه. ومن حيث الأصل عند العلماء رحمهم الله لا بد من وجود الصيغة؛ لأنها ركن الوصية، وإذا وقعت الصيغة يكون الإيجاب فيها والقبول. والعقود تنقسم إلى قسمين: هناك عقود يشترط فيها أن يقع القبول بعد الإيجاب مباشرة، بحيث لو دخل بين الإيجاب والقبول أي فاصل مؤثر فإنه يسقط الإيجاب ولا يعتد بذلك القبول، مثل: البيع، والإجارة، والصرف، والسلم، والنكاح. فلو قال شخص لشخص: زوجتك بنتي فلانة بعشرة آلاف، فسكت ولم يجب، ولم يفعل أي فعل دال على القبول، ثم ذهب إلى الغرفة ورجع، وبعد أن افترقا قال: قبلت، فهذا الفاصل يقطع الإيجاب الأول، ولا يصح العقد بهذا، فلابد من إيجاب جديد؛ لأن القبول وقع متراخيا مع وجود فاصل مؤثر، والفاصل يكون بالأقوال ويكون بالأفعال. ولو قال له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، فقال له: كيف حالك؟ عساك طيب، فتكلم بكلام أجنبي، فهذا الكلام الأجنبي يخرج الإيجاب؛ لأنه لو كان قابلا لقال مباشرة: قبلت، فلما قال: كيف حالك؟ كيف فلان؟ كيف الوالد؟ كيف مريضك؟ فمعناه: أنه خرج بالكلية، وأعرض عن الإيجاب، فسقط الإيجاب ولم يعتبر. إذا: العقود تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: عقود لابد فيها من وجود القبول مترتبا على الإيجاب بدون فاصل. القسم الثاني: عقود يغتفر فيها الفاصل. ومن العقود التي يغتفر فيها الفاصل: عقد الوصية، فإذا قال: أعطوا فلانا عشرة آلاف ريال -من ثلث ماله- فهذه وصية، وفلان مسافر، وتوفي الرجل، ولم يأت إلا بعد عشر سنوات، فقيل له: يا فلان! إن فلانا قد وصى لك بعشرة آلاف من ثلثه، فقال: قبلت، فهنا صحت الوصية ونفذت، مع أن القبول كان بعد فاصل طويل جدا، فلو طال الزمان فإنه يصح القبول. إذا: القبول في الوصية لا يشترط فيه أن يكون تابعا للإيجاب، وهو ما يسمى بالقبول المنجز، فالوصية تخرج من القبول المنجز، لكن النكاح والبيع والإجارة والصرف والسلم ونحوها من العقود لابد أن يكون القبول فيها منجزا. وقوله: (ويعتبر القبول بعد الموت) القبول إما أن يقع في حياة الموصي، وإما أن يقع بعد موته، فإذا وقع في حياته فلا عبرة به؛ لأن الوصية لا تكون لازمة على الميت ويجب تنفيذها إلا بعد وفاته، أما قبل وفاته فإنه يستطيع أن يرجع عنها أو أن يبدل أو يغير فيها، وعلى هذا فإن العبرة بموت الموصي، فالقبول لا بد أن يكون بعد الوفاة، فإذا قال: قبلت، وكان ذلك بعد وفاته؛ صحت الوصية إذا كانت على الوجه المعتبر. وقوله: (وإن طال (، أي: وإن طال الزمان الفاصل بين الإيجاب والقبول. حكم سكوت الموصى له عن قبول الوصية ورفضها لكن هنا مسألة وهي: لو أن شخصا وصى لشخص فقال: أعطوا فلانا عشرة آلاف ريال من ثلث مالي، ثم توفي الرجل الذي وصى، فجئنا إلى الموصى له وقلنا له: إن فلانا وصى لك بعشرة آلاف من الثلث، فلم يقل: نعم، أو قبلت، أو رضيت، ولم يقل: لا أقبل، فلم يقبل ولم ينف؛ بل سكت، أما إذا قبل فإننا نعطيه وتنفذ الوصية بالشروط التي ذكرناها، وإذا لم يقبل فحينئذ نرد المال للورثة ويقسم كإرث؛ لأننا لا نستطيع أن نجبر أحدا على أخذ المال، لكن لو سكت، فلم نعرف قبوله من رفضه، فهل يجبر على أن يقبل أم لا يجبر؟ قال بعض العلماء: إذا امتنع حكمنا بأنه لا يريد، ونرد المال إلى الورثة، فيكون امتناعه عن الرد وعن الإجابة موجبا للحكم عليه، كما يقول الشافعية والحنابلة رحمهم الله، ويعتبرونه موجبا لصرف المال للورثة، فيرد المال؛ لأنه لو كان قابلا لقال: قبلت، فيقولون: نعتبر دلالة الحال كدلالة المقال؛ لأنه لو كان راضيا لقال: قبلت، فكونه لم يقبل ولم ينص على القبول؛ فإن في هذه دلالة على أنه لا يريد، وحنيئذ يرد المال إلى الورثة ويقسم عليهم. وقوله: (لا قبله (، أي: لا قبل الموت. قال رحمه الله: [ويثبت الملك به عقب الموت] قوله: (ويثبت الملك -والملك والملك- به) أي: بالقبول، بشرط أن يكون عقب الموت، ويكون الملك بعد موت الموصي، فتثبت ملكية العقار وملكية النقد والأثمان على ما هو معلوم في الوصايا. ثبات ملكية الموصى به بالقبول بعد الموت وإذا ثبتت الملكية بعد القبول فتتفرع المسألة التي ذكرناها، وهي: أن المدة التي ذكرناها فاصلة، فبعض العلماء يقول: المال لا يستحق نماءه من وصي له، فلو مرض مثلا فقال: أعطوا فلانا ناقتي الفلانية وصية من الثلث، فحددها وقال: الناقة الفلانية تعطى من ثلث مالي لفلان، والناقة في مرض موت الموصي كانت حاملا ثم وضعت، ثم بعد وضعها مباشرة توفي الرجل، وقبل من وصي له، فإذا جئنا ونظرنا إلى وقت الوصية، فلو قلنا: يثبت الملك بمجرد ما وصى، فما دام أنه قبل الوصية فلنرجع إلى الزمان الذي تلفظ به الموصي، فيكون بذلك ولد الناقة تابعا للناقة، ومن ثم سيملكه، فقال المصنف: (يثبت الملك به) ، أي: بالقبول بعد الموت لا قبله، وحينئذ لا يستحق هذا النماء المنفصل، وإنما يكون للورثة، فيكون ولد الناقة ملكا للورثة؛ لأنه مستحق على مال مورثهم. السؤال لو لم يكن للمورث إلا ابنا من الرضاعة، فهل يرث أم للمورث أن يوصي له بماله؟ الأسئلة حكم الوراثة بالرضاعة والوصية لهم الجواب الابن من الرضاعة ليس له ميراث، فليس هو من الوارثين بإجماع العلماء رحمهم الله، فالرضاعة لا توجب الميراث، وبناء على ذلك يجوز أن يوصي له، وعند العلماء رحمهم الله أن الشخص إذا أراد أن يوصي لغير الوارث فيبدأ بالأقرباء الذين لا يرثون، فأخوه من النسب مقدم على أخيه من الرضاعة، فلا يذهب ويوصي بثلث ماله لإخوانه من الرضاعة وإخوانه من النسب موجودون؛ لأن الإخوة من النسب إذا لم يكونوا وارثين؛ فإن الأجر فيهم أعظم والصلة بهم أبر؛ فيبدأ بهم. ثم بعد النسب تأتي الرضاعة، وبعدها المصاهرة والرحم، فيوصي لقرابته من جهة الرضاعة، كأمه من الرضاعة، وأخته من الرضاعة، وبنته من الرضاعة، وابنه من الرضاعة، فيوصي لهم ويراعي قربهم، وهذا لا شك أن الله عز وجل يثيبه عليه، ثم المصاهرة، والمصاهرة مثل أن يوصي لأم زوجته، ووالد زوجته، وذي الرحم منه، فيصل رحمه، فهذا مما يكون فيه الأجر والمثوبة. قال صلى الله عليه وسلم: (إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها) ، فهذا نوع من الرحم، فقرابة الزوجة ذو رحم منه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما) يقصد: مصر؛ لأن لهم رحما من جهة إسماعيل؛ لأن أمه هاجر، ولهم رحم من جهة مارية؛ لأن ابنها إبراهيم؛ فهذا يدل على أن القرابة من جهة الزوجة لهم حق، وإذا أراد الإنسان أن يصلهم فإنه يراعي مرتبهم في الصلة، ولا شك أن الله يأجره على ذلك، والله تعالى أعلم. مسألة رفض الموصى له للوصية السؤال أشكل علي في مسألة رفض الموصى له أخذ الوصية أنها ترجع إلى الورثة، ولم نصرفها في وجوه البر، خصوصا أن نية المورث في بذل الخير وأنه أراد الصدقة؟ الجواب أشققت عن قلبه؟! بعض الأحيان قد يوصي لشخص محاباة، وبعض الأحيان قد يوصي لشخص من باب المكافأة له على معروف بينه وبينه، وبعض الأحيان قد يوصي لشخص لدفع ضرره عن أولاده وذريته من بعده. وأيا ما كان السبب، فغير مسلم أن نقول: إن هذا متعين أن قصده البر والصلة، فليس كل الناس يوصي لأشخاص معينين وقصده البر والصلة، وعلى هذا فالحكم الشرعي أن من أوصى لمعين وفات المعين؛ فاتت الوصية بفواته، على تفصيل عند العلماء في مسألة ما يشترط له القبض وما لا يشترط له القبض؛ لكن الكلام إذا لم يقع القبول وتوفي ولم يمكن إنفاذ الوصية، ففي هذه الحالة يرجع المال إلى الورثة، فهم أحق به وأولى، والله تعالى أعلم. السؤال أدركت الإمام بعد فراغه من قراءة الفاتحة وقبيل التأمين، فهل إذا أمن أؤمن معه، أم أن التأمين يكون لمن أدرك الفاتحة؟ يلزم المأموم بالتأمين إذا أدرك موضع التأمين الجواب يشرع التأمين لمن أدرك موضع التأمين، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا قال: {ولا الضالين} [الفاتحة:7] فقولوا: آمين) ، فأمر عليه الصلاة والسلام بالتأمين لكل من حضر موضع التأمين، وعليه فإنه يلزم المأموم بالتأمين إذا أدرك هذا الموضع، والله تعالى أعلم. السؤال إذا غلب على ظن الوالد أن أبناءه سيصرفون الإرث فيما لا يرضي الله، فهل له أن يوصي بأكثر من الثلث؟ حكم حرمان الوالد لأبنائه من الميراث الجواب باب الوصية باب عظيم، وفيه أمور مهمة جدا، والناس مأمورون بشرائع هي سنن الهدى، قد دلت عليها نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عليهم إلا أن يلتزموها، ويسيروا على نهجها، ويتركوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، فالله جل وعلا أمر من يوصي ألا يتجاوز هذا الحد، وعليه أن يلتزم بذلك وألا يجتهد، وما يدريه فلعل هؤلاء الذين ينظر إليهم أنهم فاسدون أن يكونوا من خيار عباد الله الصالحين بعد موته، فكم من أناس كانوا على ضلال ثم اهتدوا بعد موت والدهم أو بعد موت والدتهم! وكم من أناس فجعوا بموت الأقرباء فأصبحوا من الأخيار والسعداء: {فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} [النساء:19] قالوا: ومن هذا أن تأتي المصيبة لعبد فيقلب الله حاله من حال الشقاء إلى حال السعداء، وهذه رحمة من الله سبحانه وتعالى يتدارك بها عبده. وقد ترى الرجل كأسوأ ما أنت راء في عقوق الوالدين وقطيعة الرحم، فما أن يموت والده حتى يتفطر قلبه ويكون من أرحم أولاده به بعد موته، وقد يكون الولد من أبر الناس بوالده في حال حياته، ثم يفتح الله عليه الدنيا بعد موت أبيه، أو يفتح الله عليه من الفتن فينشغل بأولاده وزوجته، حتى إنه لربما مر عليه اليوم والأسبوع وربما الشهر لا يذكر والده برحمة أو دعوة إلا قليلا، مع أنه كان من أبر الناس بوالده في حياته. فالأمور لا يعملها إلا الله سبحانه وتعالى، فالله وحده هو المطلع على السرائر وعلى الضمائر، وهو الذي قدر كل شيء وفصله: {وكل شيء فصلناه تفصيلا} [الإسراء:12] ، فمسألة أن الإنسان يرى أولاده عصاة اليوم؛ فيريد أن يوصي بالمال كله حتى لا يعصوا الله تعالى به، فهذه أمور منوطة بالغيب، ولذلك فما عليه إلا أن يلتزم الأصل الشرعي، وهو الالتزام بالثلث، وما زاد على الثلث فلا يجاوزه؛ التزاما بالشرع، وتسليما لحكم الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم. السؤال في قوله تعالى: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات:17 - 18] هل يشترط قضاء وقت الليل بالصلاة للدخول في هذا الوصف؟ ولو عكف طالب العلم معظم الليل على طلب العلم فهل يدخل في هذا الوصف؟ فضل قيام الليل الجواب هذه الآية الكريمة اشتملت على خصلة جليلة عظيمة جعلها الله للأنبياء والأخيار والصالحين، فما من عبد يفتح الله عليه باب قيام الليل إلا فتح له أبواب الرحمات، فهو شأن الصالحين، ودأب أولياء الله المتقين، كما ذكر الله في كتابه المبين، حتى إن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يبين عظيم منزلة قيام الليل، وأنه مفتاح كل خير للعبد، أول ما أمر الله به نبيه عليه الصلاة والسلام في صبيحة الوحي بقوله: {يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا} [المزمل:1 - 2] ، وهذا يدل على أن قيام الليل فيه أمور عظيمة تكون سببا في سعادة العبد في دنياه وآخرته. لقد جعل الله عز وجل في قيام الليل سداد اللسان، وإذا استقام اللسان استقامت الجوارح والأركان، قال تعالى: {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا} [المزمل:6] . وجعل الله قيام الليل سببا في هبات الآخرة، مع أنه سبب في صلاح دين العبد في دنياه، فإنه سبب في هبات الله ونعمه وخيره للعبد في الآخرة: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} [الإسراء:79] ، فجعل الله المقام المحمود مقرونا بقيام الليل، وهذا يدل على عظيم ما في قيام الليل، حتى إن بعض العلماء يقول: عجبت من الليل كيف جعل الله عز وجل فيه هذه الخيرات العظيمة! حتى إن فرضية الصلاة والإلزام بها وتقديرها وبيانها الذي شرف الله به نبيه عليه الصلاة والسلام جعل ذلك كله في الليل، فقال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} [الإسراء:1] ، وجعل الآيات العظيمة لنبيه عليه الصلاة والسلام في ذلك الليل، فأري عليه الصلاة والسلام من الآيات ما امتلأ قلبه بها إيمانا وتوحيدا لله جل جلاله، فالله أعلم حينما أصبح رسول الهدى بذلك الإيمان واليقين بعد أن أري آيات الله العظيمة، وكل ذلك جعله الله عز وجل في الليل. ومن ذلك قال العلماء: إن قيام الليل من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الأعمال بعد الطاعات والمكتوبات قال: (وركعتان يركعهما العبد في جوف الليل الآخرة) ، فهذا يدل على فضل قيام الليل. لكن ما ورد في آية الذاريات من قوله: {وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات:18] ثناء من الله عز وجل بذكر خاص بعد عام، والخاص هو الاستغفار؛ لأن قيام الليل يقوم على الذكر عموما، ومن أشرفه وأفضله: كثرة تلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتمجيد والتوحيد لله عز وجل بالثناء عليه بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، ومن ذلك: الاستغفار، فجعل الله عز وجل الاستغفار سببا في الرحمة: {وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات:18] ، فهذا الوقت استحب العلماء رحمهم الله فيه لمن أصابه أن يكثر فيه من الاستغفار، وأن يسأل الله عز وجل فيه العفو والمغفرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى اختاره فينزل الله فيه جل وعلا نزولا يليق بجلاله وعظمته وكماله، ويبسط لعباده الخير والرحمة، ينزل نزولا حقيقيا يليق بجلاله وكماله وعظمته، فيقول: (هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) علم سبحانه شدة حاجة عباده وفاقتهم إليه؛ فجعل لهم هذا الوقت المبارك للرحمة والعفو والمغفرة، والله أعلم في تلك الساعة كم من رقاب عتقت! وكم من ذنوب غفرت! وكم من درجات رفعت! وكم من فضائل ونوائل ورحمات أبوابها فتحت! فقيام الليل باب من أبواب الرحمة، وعلى العبد أن يحرص على السحر والاستغفار فيه، ولذلك سهام الليل في الأسحار، فما من عبد يدعو دعوته في السحر ويلازم دعاء السحر إلا شرح الله صدره. وقد كان العلماء رحمهم الله والأئمة يوصون أهل الذنوب والذين كانوا في بداية هدايتهم وصلاحهم بلزوم الأسحار بكثرة الدعاء والاستغفار فيها، وهكذا من تغير حاله فضاقت عليه الدنيا، وأصابه الكرب والهم والغم، فليلزم الأسحار؛ لأنها ساعات رحمة؛ لثبوت السنة والخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتعرض لنفحات الله ورحماته التي يرحم بها عباده. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل لنا من ذلك أوفر حظ ونصيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
#510
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوصايا) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (407) صـــــ(1) إلى صــ(13) شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [4] من المسائل المتعلقة بالوصايا: أن من قبل الوصية ثم ردها لم يصح هذا الرد، ومنها أنه يجوز للموصي أن يتراجع عن وصيته، وتراجعه قد يكون باللفظ وقد يكون بالفعل، ومنها أنه يجب على الورثة إخراج الحقوق والواجبات التي في ذمة الميت قبل القسمة؛ لأن نفس الميت معلقة بتلك الحقوق، وينبغي على المسلم أن يبتعد عن الاستدانة قدر المستطاع؛ وذلك لأن أمر الدين عظيم، ومن استدان وهو يريد قضاء دينه أدى الله عنه. حكم قبول الوصية ثم ردها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن قبلها ثم ردها لم يصح الرد] بين المصنف رحمه الله في هذه الجملة أن من وقع منه قبول الوصية، وتم هذا القبول بعد وفاة الموصي؛ فإنه حينئذ لا يصح رده لها، ولا رجوعه عن ذلك القبول، والسبب في ذلك: أنه إذا أوصى شخص إلى شخص آخر بوصية، فقبلها على الوجه المعتبر؛ فإن ملكيته تثبت لتلك الوصية. فلو قال زيد من الناس: أوصيت لعمر بعشرة آلاف، ثم قال عمرو لما أخبر أن زيدا توفي وأوصى له بعشرة آلاف: قبلت، فإذا قال: قبلت بعد وفاة الموصي، فقد ثبتت ملكية العشرة آلاف له، فإذا قال بعد ذلك: رجعت عن القبول؛ فقد رجع عما يملك، ورجوع الإنسان عما يملكه لا يعتد به، فلو أن شخصا يملك بيتا فقال: هذا البيت لي، وليس المراد به على وجه الإقرار، وإنما المراد أنه يريد أن يخرج ملكيته عنه لا على وجه الهبة ولا على وجه الصدقة ولكن هكذا، فإنه لا يصح رجوع المالك عن الملكية بعد ثبوتها على الوجه المعتبر. وحينئذ نقول: إن قبولك بعد وفاة الموصي يثبت ملكيتك لهذا الشيء الذي وصي به إليك، وحينئذ إما أن تتصدق به، أو تهبه، أو تتصرف فيه، أما الرجوع فلا يعتد به، وهذا كما ذكرنا شبه قول جماهير العلماء رحمهم الله، أن الرجوع بعد ثبوت الملكية ليس من حقه. وهناك من العلماء من قال: له أن يرجع؛ لأن الإنسان حر في نفسه، فله أن يختار في وقت يرى من المصلحة أن يقبل، وله أن يختار الرد في وقت يرى من المصلحة أن يرده. جواز رجوع الموصي في وصيته حال حياته قال رحمه الله: [ويجوز الرجوع في الوصية] . يقول المصنف رحمه الله: (ويجوز) أي: يباح للمسلم إذا وصى بوصية أن يرجع عنها، وذلك لأن الإجماع منعقد على أن الوصية ليست بعقد لازم في أول الحال، وقد تقدم معنا أن العقود منها ما هو لازم، ومنها ما هو جائز، والذي يوصف باللزوم إما أن يكون لازما للطرفين، إما أن يكون لازما لأحد الطرفين، وقد بينا هذا وفصلناه في مقدمات البيوع، وعند الكلام على باب الخيار. والوصية في الأصل أنها عقد جائز في حق أحد الطرفين، لازم في حق الآخر؛ لأن الموصي من حقه أن يغير ويقدم ويؤخر ويبدل في وصيته ما لم يمت، وهذا حق من حقوقه، وعلى هذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى؛ لأنه لو ضيق على الإنسان في وصيته لما أمكنه أن يتدارك كثيرا من المصالح، ولما أمكنه أن يدرأ عن نفسه كثيرا من المفاسد، ولو أن الشريعة ضيقت على الموصي أن يرجع عن وصيته لتحاشى الناس الوصية؛ لأنهم يعلمون أن أي وصية يقومون بها سيلزمون بها. وحينئذ كان من رحمة الله تبارك وتعالى ولطفه بعباده كما قال العلماء: أن يسر على المسلم في رجوعه في وصيته، فيقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، على حسب اختلاف الأوقات والأزمنة والأحوال، فلربما كان في وقت يرى من المصلحة أن يوصي لغير الوارث، فيوصي بثلث ماله أو بربعه إلى قرابة له لا يرثون، ثم يشاء الله أن تكثر ذريته وتتغير الأحوال، وحينئذ تكون ذريته أحوج ما تكون إلى هذا المال، فيكون من المصلحة أن يلغي الوصية بالثلث، وأن يلغي الوصية بالربع، وأن يلغي الوصية لغير الوارث، وأن يقدم ورثته الذين هم أحوج، وهذا لا شك أن فيه رحمة من الله وتوسعة على العباد. وممن أشار إلى هذا القرافي في كتابه (الذخيرة) ، فقد بين أن الله تعالى تدارك عباده برحمته حينما وسع عليهم في الرجوع عن الوصية، فلو لم يملك الإنسان الرجوع عن الوصية لصارت الوصية محل ضرر على الناس من جهة، ولتحاشي الناس الوصية من جهة أخرى. قال: (يجوز) أي: يباح، فمن أوصى وصية ورأى من المصلحة أن يلغيها ويكتب غيرها، أو يلغي بعضها ويثبت بعضها؛ فالأمر عائد إليه، وعلى هذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، وفيه أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رواه الإمام البيهقي في السنن، أثبت مشروعية الرجوع عن الوصية. والرجوع يكون بالقول، ويكون بالفعل، والرجوع بالقول يكون صريحا ويكون ضمنيا، فالرجوع القولي الصريح كقوله: رجعت عن وصيتي، وكذلك أيضا ما يدل على إلغائها: أبطلت وصيتي، وألغيت وصيتي، ولا تنفذوا وصيتي، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على أنه قد رجع عما وصى به، فإذا قال ذلك فإن الوصية تبطل. الرجوع عن الوصية بالقول وأما الرجوع الضمني: فكأن يقول: يا محمد! أوصيت لك بهذه السيارة، ثم قال بعد ساعة، أو بعد يوم أو شهر: يا أولادي! السيارة بيعوها وسددوا بها ديني، فعلمنا أنه لا يريد تنفيذ الوصية الأولى، وإنما يريد أن يرجع عنها حينما جعلها في سداد الحقوق، فعلى هذا: إذا رجع صراحة، أو رجع ضمنا، كما ذكرنا في التصرفات كالبيع أو الهبة، فمثلا: كان قد وصى ببيت، وقال: هذا البيت يعطى لابن عمي فلان، وابن عمه ليس من الورثة، فوصى لغير وارث، ثم شاء الله عز وجل أن قال لهم بعد ذلك بزمان قصير أو طويل: هذا البيت بيعوه ثم افعلوا بثمنه كذا وكذا -خلافا لما أوصى به أولا- فنعلم أن هذا التصرف يدل على أنه قد رجع عن الوصية الأولى وألغاها. الرجوع عن الوصية بالفعل وأما الرجوع الفعلي فمثل أن يتصرف بالفعل، فبدلا من أن يبيع بالقول يتصرف بالمعاطاة، فمثلا يقول: يا محمد! هذا الكتاب وصية مني لك بعد موتي، ثم جاءه شخص بعد ذلك وقال له: يا فلان! بعني هذا الكتاب بهذه المائة، فأعطاه الكتاب مناولة وقبض المائة، فتصرفه ببيع المعاطاة يوجب إلغاء الوصية. وهكذا لو فعل فعلا استنفذ ما وصى به، كأن يكون الموصى به طعاما، ثم أكله أو أعطاه أولاده ليأكلوه، أو تصرف فيه بالفعل؛ فإن هذا الفعل يوجب إلغاء الوصية الأولى، واعتبار الفعل الثاني سواء كان وصية أو كان غير ذلك. إذا: بين المصنف رحمه الله أنه يجوز الرجوع، وقال: (يجوز) ، فلا يجب ولا يحرم ولا يكره، فهذا الأمر إليك، فمتى ما رأيت المصلحة أن تقدم في الوصية أو تؤخر فيها فإن ذلك راجع إليك، سواء وجد السبب للرجوع أو لم يوجد؛ فالإجماع قائم على أن من حقك أن تغير في وصيتك، سواء وجد سبب يقتضي هذا التغيير أو لم يوجد سبب. لكن ينبغي لمن أراد أن يرجع عن وصيته أن يحتاط، فعندنا وصية منسوخة ووصية متأخرة ناسخة، فالوصية المنسوخة إذا كانت موثقة في القضاء، أو موثقة بحكم قاض، أو موثقة بشهود، أو مكتوبة، فينبغي على من يرجع أن يحتاط في الرجوع فيشهد شاهدين عدلين، فيوثق هذا الرجوع كما وثق الوصية، وألا يعرض حقوق الورثة للضياع حينما لا يحتاط بتوثيق الرجوع، أو الدلالة عليه على وجه معتبر بحيث يرجع إليه بعد وفاته. الوصية المعلقة بشرط قال رحمه الله: [وإن قال: إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو، فقدم في حياته فله، وبعدها لعمرو] . إن قال: (إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو) هذه وصية معلقة، كأن يقول مثلا: إن قدم زيد إن ذهب عمرو إن حصل كذا وكذا إن افتقر فلان فأعطوه، وإلا أعطوا فلانا، المهم أن هذه الوصية المعلقة مبنية على شرط، وينبغي علينا أن نتقيد بهذا الشرط. فإذا قال: إن قدم زيد فله، أي: قد أوصيت له بما أوصيت به لعمرو، كأن يكون عنده عشرة آلاف ريال، وزيد هو ابن عمه القريب، وعمرو ابن عمه البعيد، فأراد أن يوصي للأقرب ثم الأقرب، فقال: هذا المال لزيد بشرط أن يقدم قبل وفاته، فإذا لم يقدم قبل وفاته قال: فإنه لعمرو، وهذا هو معنى قوله: (إن قدم زيد فله) (له) : بمعنى يملك، والوصية التي وصيت بها لعمرو من عقار ومن منقول له، أي: لزيد، فزيد لا يملك هذا الموصى به إلا إذا تحقق الشرط وهو: قدومه قبل الوفاة، كما أخبر: إن قدم زيد فله ما وصيت به لعمرو، أيا كان هذا الشيء الذي وصى به. فقوله: (إن قدم زيد) أي: قبل وفاته؛ وهذا أمر واضح بأنه يرتب القدوم على أساس أنه يقدم قبل وفاته، فإن توفي ولم يقدم زيد؛ سقط استحقاق زيد وبقيت الوصية على ما هي عليه. وبناء على ذلك: يفصل في هذه المسألة فنقول: إنه من حيث الأصل أراد المصنف بهذا التمثيل أن يبين أن الوصية المعلقة ينبغي علينا أن نتقيد بشروطها وبالتعليق الوارد فيها، كأن يقول: إن قدم زيد إن جاء الغد وقدم زيد إن انتهى الشهر إن انتصف الشهر إن جاءت الجمعة إن غابت الشمس، فهذه كلها وصايا معلقة، فتعلق بالزمان، أو بالمكان، أو بالأفعال، فأي شيء اشترطه الموصي، وكان شرطا معتبرا خاليا من الغرر والإبهام والجهالة، فإنه محتكم إليه؛ لأن من حق الموصي أن يوصي مطلقا، ومن حقه أن يوصي مقيدا، فمن حقه أن يقول: وصيت لعمرو بعشرة آلاف، ولا يعلق ولا يقيد ولا يشترط؛ ومن حقه أن يقول: وصيت لزيد بعشرة آلاف بشرط ألا يقدم عمرو قبل وفاتي، أو ألا يكون فلان محتاجا؛ لأنه في بعض الأحيان تجده يقول: هذه عشرة آلاف ريال تعطى لبني عمي من بني فلان إذا كانوا محتاجين وإلا فتعطى لبني فلان. فمعنى ذلك: أننا نصرفها إلى الأول الموصى إليه بشرط تحقق وجود الحاجة، ونصرفها إلى الثاني متى ما تخلف الشرط في الأول، وهذا أمر معتبر، أي: أنه يجب علينا أن نتقيد بشروط الموصي. ومناسبة هذه المسألة: أنه ذكرها بعد الرجوع، وهذا فيه نوع من اللطف، وهو أن الرجوع تارة يكون رجوعا مطلقا، مثل أن يقول: وصيت لعمرو، ثم يقول: ألغوا الوصية، فهذا رجوع مطلق، وتارة يكون رجوعا بقيد؛ لأنه حينما قال: إن قدم زيد فله ما وصيت لعمرو؛ معناه: أنه رجع عن وصيته لعمرو بشرط قدوم زيد، فصار رجوعا معلقا. فبعد أن فرغ -وهذا من دقته رحمة الله عليه- من الرجوع المطلق، شرع في الرجوع المعلق، وإلا فالأصل أن مسائل الأشياء التي يوصي بها -المعلقات- سيأتي بيانها والإشارة إليها. قال رحمه الله: [ويخرج الواجب من دين وحج وغيره من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به] قوله: (يخرج الواجب) ، أي: يجب على ورثة الميت أن يتقوا الله عز وجل في مورثهم، فيخرجوا من ماله الحقوق الواجبة، سواء كانت لله عز وجل، أو كانت للمخلوقين، فهم مسئولون أمام الله عز وجل عن إخراج هذا الحق، فالأصل يقتضي أننا نبدأ أولا بمئونة التجهيز، فيجهز، ويغسل، ويكفن، ويحمل، ويصلى عليه، ويدفن، وكل هذه الأمور إذا احتاجت إلى مئونة، فتكون من مئونة التجهيز. وجوب سداد الحقوق التي على الميت بعد موته ومن أهل العلم من قال: يقضى الدين قبل مئونة التجهيز، وهذا لا شك -إن تيسر- أنه من أبر البر للوالدين، ومن أعظم الصلة للقريب، ومن أفضل ما يقدم للميت؛ أن تبرأ ذمته وتقضى الحقوق عنه قبل أن يغسل وقبل أن يفعل به شيء؛ حتى إذا ترحم الناس عليه وسألوا الله له المغفرة يكون خالصا من حقوق الناس وبريئا من عهدهم، فهذا لا شك أنه من أفضل ما يكون؛ أن يقضى الدين، ويبادر به مبادرة تامة. فإذا قضي ابتدئ بعد قضاء الدين بمئونة التجهيز على القول الذي ذكرناه، ثم بعد ذلك إذا لم يقض الدين وابتدئ بمئونة التجهيز، فينظر في أصحاب الحقوق وأصحاب الديون، وتسدد هذه الديون كاملة، ولا يجوز للورثة أن يؤخروا سداد الدين؛ لأن كل من مات حلت ديونه حتى ولو كان الدين على أقساط لعدة سنوات؛ لأن القاعدة تقول: إن من مات حلت ديونه، فلو أن شخصا اقترض مائة ألف على أن يكون سدادها على عشر سنوات، ثم توفي في السنة الأولى، فهنا تصبح المائة ألف حالة عليه، أي: يجب أن تسدد فورا، والسبب في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينة) أي: مرهونة به، نسأل الله السلامة والعافية، وكذلك بين نص الكتاب، فقال تعالى: {من بعد وصية توصون بها أو دين} [النساء:12] {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء:11] {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء:12] ، فقدم سبحانه وتعالى الدين والوصية على قسمة التركات وإعطاء الوارثين حقوقهم، فالواجب أن يبدأ بسداد الدين؛ لأن أمر الدين عظيم، فإذا جهز الميت نظر في ديونه العامة والخاصة، وديونه فيما بينه وبين الله عز وجل، وديونه التي بينه وبين العباد. فديونه التي بينه وبين الله تبارك وتعالى مثل أن يكون عليه دم واجب لفوات واجب في حجه، أو عليه فدية أو كفارة ظهار، ونحو ذلك من الحقوق الواجبة على الميت لله سبحانه وتعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) .
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 6 ( الأعضاء 0 والزوار 6) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |