تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 52 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كتاب الصيام والحج من الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 19 - عددالزوار : 22 )           »          واتساب يستخدم وضع الإضاءة المنخفضة لمكالمات الفيديو.. كيف يعمل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          هل يعانى هاتف أيفون 16 من مشكلات فى عمر البطارية؟ إليكم ما نعرفه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          استكشف مزايا أنظمة شبكة Wi-Fi مقارنة بأجهزة التوجيه التقليدية فى منزلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          كوالكوم تلغي إنتاج نظام Windows المصغر على أجهزة الكمبيوتر بهذا المعالج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          تطبيق ChatGPT متوفر الآن لنظام Windows.. اعرف التفاصيل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          ما تخافش لو اتسرق منك.. 3 مزايا جديدة من جوجل تساعدك على استعادة هاتفك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          Android 15 متاح الآن لهواتف Pixel.. كيفية التحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          علامات إدمان الأطفال للهواتف الذكية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          هل سقط الماء على اللاب توب؟ إليك كيفية إصلاحه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #511  
قديم 25-02-2025, 02:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يس
المجلد الرابع عشر
صـ 4981 الى صـ 4990
الحلقة (511)






القول في تأويل قوله تعالى:

[ 22 ] وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور .

[ ص: 4981 ] وما يستوي الأحياء ولا الأموات تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين أي: ما يستوي أحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله، ومعرفة تنزيله، وأموات القلوب ; لغلبة الكفر عليها حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه، ولا تعرف الهدى من الضلال: إن الله يسمع من يشاء أي: يوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته: وما أنت بمسمع من في القبور أي: كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله، فيهديهم به إلى سبيل الرشاد، فكذلك لا يقدر أن ينتفع بمواعظ الله وبيان حججه، من كان ميت القلب عن معرفة الله وفهم كتابه وواضح حججه. وهذا ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات، وإشباع في إقناطه عليه الصلاة والسلام، من إيمانهم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 23 ] إن أنت إلا نذير .

إن أنت إلا نذير أي: ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع، وإن كان من المصرين فلا عليك.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 24 ] إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير .

إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير أي: وما من أمة من الأمم الدائنة بملة، إلا مضى فيها نذير من قبلك ينذرهم على كفرهم بالله، ويزيح عنهم العلل كما قال تعالى: إنما أنت منذر ولكل قوم هاد وكقوله سبحانه: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة

[ ص: 4982 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 25 ] وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير .

وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير أي: وإن يكذبوك ولم يستجيبوا لك، فلا تبال بهم وتأس بمن كذب من الرسل السالفة، فقد جاءوهم بالآيات، والخوارق المحسوسة على صحة نبوتهم، وبالصحف المرشدة لهم إلى مسالك الفلاح والنجاح، وبالكتاب المنير لمن تدبره وتأمله، أنه الحق الناطق بالصواب والصدق، وليس المراد أن كل رسول جاء بجميع ما ذكر، حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب، بل المراد أن بعض الرسل جاء بهذا، وبعضهم جاء بهذا، وجوز أن يراد بالجميع واحد، والعطف لتغاير الأوصاف.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 26 ] ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير .

ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير أي: إنكاري بالعقوبة، وفيه مزيد تشديد وتهويل لها.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 27 ] ألم تر أن الله أنـزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود : ألم تر أن الله أنـزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود قرأ الجمهور: جدد بضم الجيم وفتح الدال، جمع (جدة) بالضم، وهي الطريقة من (جده) إذا قطعه، أي: ومن الجبال [ ص: 4983 ] ذوو جدد، أي: طرائق بيض وحمر ، وإنما قدر المضاف; لأن الجبال ليست نفس الطرائق. وغرابيب: جمع (غربيب) وهو الأسود المتناهي في السواد، يقال: أسود غربيب، كما يقال: أحمر قان، وأصفر فاقع، تأكيدا. وإنما قدم هنا، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد للمبالغة، ورأى بعضهم أنه مقدم من تأخير، ذهابا إلى جواز تقديم الصفة على موصوفها.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 28 ] ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور .

ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك أي: اختلافا كذلك، أي: كاختلاف الثمرات والجبال. وقوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء تكملة لقوله تعالى: إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب بتعيين من يخشاه عز وجل من الناس، بعد بيان اختلاف طبقاتهم، وتباين مراتبهم، أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل، وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح، توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان; أي: إنما يخشاه تعالى بالغيب، العالمون به عز وجل ، وبما يليق به من صفاته الجليلة، وأفعاله الجميلة; لما أن مدار الخشية معرفة المخشي والعلم بشؤونه، فمن كان أعلم به تعالى، كان أخشى منه عز وجل. كما قال عليه الصلاة والسلام: « أنا أخشاكم لله وأتقاكم له » . ولذلك عقب بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته ، وحيث كان الكفرة بمعزل من هذه المعرفة، امتنع إنذارهم بالكلية. أفاده أبو السعود .

وقال القاشاني : أي: ما يخشى الله إلا العلماء العرفاء به ; لأن الخشية ليست هي خوف العقاب، بل هيئة في القلب خشوعية انكسارية عند تصور وصف العظمة، واستحضاره لها، [ ص: 4984 ] فمن لم يتصور عظمته لم يمكنه خشيته، ومن تجلى الله له بعظمته، خشيه حق خشيته، وبين الحضور التصوري الحاصل للعالم غير العارف، وبين التجلي الثابت للعالم العارف - بون بعيد - ومراتب الخشية لا تحصى بحسب مراتب العلم والعرفان. انتهى.

ويذكر بعض المفسرين هنا القراءة الشاذة. رفع الاسم الجليل ونصب العلماء، ويتأولون الخشية بالتعظيم استعارة، وربما استشهدوا بقوله:


أهابك إجلالا وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها


وقد طعن في (" النشر") في هذه القراءة، والحق له; لمنافاتها للسياق والسباق، وما أغنى المنقحين عن تسويد الصحف بمثل هذه الشواذ ! وبالله التوفيق.

إن الله عزيز غفور أي: غالب على كل شيء بعظمته، غفور لمن تاب وأناب وعمل صالحا.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 29 ] إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور .

إن الذين يتلون كتاب الله أي: يداومون على تلاوته وتدبره، للأخذ بما فيه: وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور أي: أجرا وفضلا لا يفنى، والتجارة استعارة لتحصيل الثواب بالطاعة، والبوار بمعنى الكساد والهلاك ترشيح للاستعارة.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 30 ] ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور .

ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور أي: لأعمالهم، والشكر مجاز عن الإثابة والجزاء بالإحسان.

[ ص: 4985 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 31 - 32 ] والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير : والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا أي: ثم، بعد أخذ الذين كفروا، أورثنا الكتاب الذي هو أعظم فضل، وعناية، ورحمة ، المصطفين من الموحدين. ثم بين انقسامهم في العمل به إلى ثلاثة، بقوله تعالى: فمنهم ظالم لنفسه أي: بالإثم والعصيان: ومنهم مقتصد أي: في العمل، ليس من المجرمين، ولا من السابقين: ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 33 - 34 ] جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور .

جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور

[ ص: 4986 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 35 ] الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب .

الذي أحلنا دار المقامة أي: الإقامة: من فضله لا يمسنا فيها نصب أي: تعب: ولا يمسنا فيها لغوب أي: كلال.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 36 - 37 ] والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير .

والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير أي: أوما عشتم في الدنيا أعمارا ينتفع فيها من يتذكر ويتبصر؟ قال قتادة : اعلموا أن طول العمر حجة. فتعوذ بالله أن تغتر بطول العمر، وقد نزلت هذه الآية، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ ص: 4987 ] [ 38 - 39 ] إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا .

إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور هو الذي جعلكم خلائف في الأرض أي: مستخلفين فيها، أباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة: فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا أي: بغضا شديدا

ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 40 ] قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينت منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا .

قل أي: تبكيتا لهم: أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أي: شركة في خلقها: أم آتيناهم كتابا فهم على بينت منه أي: حجة وبرهان، بأنه أذن لهم في الإشراك: بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا أي: في قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

[ ص: 4988 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 41 - 43 ] إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا .

إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما أي: ما أمسكهما: من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين يعني إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم: فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا وفي معنى الآية قوله تعالى: أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها وقوله تعالى: وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به فسوف يعلمون

[ ص: 4989 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 44 - 45 ] أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا .

أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا أي: بما اقترفوا من معاصيهم: ما ترك على ظهرها من دابة أي: من نسمة تدب، لشؤم معاصيهم، والضمير للأرض لسبق ذكرها: ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى أي: يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل معلوم عنده: فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا أي: فإذا جاء أجل عقابهم فإن الله كان بعباده بصيرا بمن يستحق أن يعاقب، وبمن يستوجب الكرامة.

سُورَةُ يس

هي مكية. واستثنى منها بعضهم قوله تعالى: إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم الآية، لما أخرجه الترمذي والحاكم عن أبي سعيد قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة . فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية .

ولا حاجة لدعوى الاستثناء فيها وفي نظائرها. لأن ذلك مبني على أن المراد بالنزول أن الواقعة كانت سببا لنزولها، مع أن النزول في الآثار يشمل ذلك، وكل ما تصدق عليه الآية، كما بيناه مرارا. لا سيما في المقدمة. يؤيده أنه جاء في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم قرأ لهم هذه الآية. كما في رواية الصحيحين. وهكذا يقال فيما روي أن آية وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله من هذه السورة نزلت في المنافقين. فإن المراد ما ذكرناه. ولم يهتد لهذا التحقيق أرباب الحواشي هنا، فاحفظه. وآيها ثلاث وثمانون آية.

ومما روي في فضلها ما أخرجه الترمذي عن أنس رفعه: إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ، وفي إسناده ضعف.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #512  
قديم 25-02-2025, 02:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يس
المجلد الرابع عشر
صـ 4991 الى صـ 5000
الحلقة (512)






[ ص: 4991 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 1 ] يس .

يس تقدم الكلام في مثل هذه الفواتح مرارا. وحاصله - كما قاله أبو السعود - أنها إما مسرودة على نمط التعديد، فلا حظ لها من الإعراب، أو اسم للسورة كما نص عليه الخليل وسيبويه ، وعليه الأكثر، فمحله الرفع على أنه خبر محذوف، أو النصب، مفعولا لمحذوف، وعليهما مدار قراءة: يس بالرفع والنصب.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 2 ] والقرآن الحكيم .

والقرآن الحكيم أي: ذي الحكمة أو الناطق بالحكمة، ولما كانت منزلة الحكمة من المعارف، منزلة الرأس ، وكانت أخص أوصاف التنزيل، أوثرت في القسم به دون بقية صفاته، لذلك.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 3 - 4 ] إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم .

إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم وهو الموصل إلى المطلوب بدون لغوب. والتنكير للتفخيم والتعظيم.

[ ص: 4992 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 5 ] تنـزيل العزيز الرحيم .

تنـزيل العزيز الرحيم بالنصب على إضمار فعله، وبالرفع خبر لمحذوف، أو خبر لـ: يس إن كان اسما للسورة، أو مؤولا بها. والجملة القسمية معترضة، والقسم لتأكيد المقسم عليه والمقسم به ، اهتماما.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 6 ] لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون .

لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم أي: برسول ولا كتاب: فهم غافلون أي: عن أمر حق الخالق والمخلوق، بالكفر، والفساد، ونكران البعث، والمعاد.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 7 ] لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون .

لقد حق القول على أكثرهم أي: استأهلوا لأن ينزل بهم العذاب، وينتقم منهم أشد الانتقام: فهم لا يؤمنون أي: لا يريدون أن يؤمنوا ويهتدوا، كفرا، وكبرا، وعنادا، وبغيا في الأرض بغير الحق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 8 ] إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون .

إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان أي: اللحى; أي: واصلة إليها وملزوزة إليها: فهم مقمحون أي: ناصبو رؤوسهم، غاضو أبصارهم. يقال: أقمح الرجل، رفع رأسه وغض بصره. وأقمح الغل الأسير، إذا ترك رأسه مرفوعا لضيقه، فهو مقمح، وذلك إذا لم يتركه عمود الغل الذي ينخس ذقنه، أن يطأطئ رأسه. قال ابن الأثير : هي في قوله تعالى: [ ص: 4993 ] فهي إلى الأذقان كناية عن الأيدي لا عن الأعناق; لأن الغل يجعل اليد تلي الذقن والعنق، وهو مقارب للذقن. وقال الأزهري : أراد عز وجل أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم، رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا، كالإبل الرافعة رؤوسها، وهذا معنى قول ابن كثير : اكتفى بذكر الغل في العنق، عن ذكر اليدين، وإن كانتا مرادتين، لما دل السياق عليه; فإن الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 9 ] وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون .

وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون قال الزمخشري : مثل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين، في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم له، وكالحاصلين بين سدين، لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم، في أن لا تأمل لهم ولا تبصر، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله . انتهى. أي: فالمجموع استعارة تمثيلية.

وفي (الانتصاف) للناصر: إذا فرقت هذا التشبيه، كان تصميمهم على الكفر مشبها بالأغلال، وكان استكبارهم عن قبول الحق، وعن الخضوع، والتواضع لاستماعه، مشبها بالإقماح; لأن المقمح لا يطأطئ رأسه. وقوله: فهي إلى الأذقان تتمة للزوم الإقماح لهم، وكان عدم الفكر في القرون الخالية مشبها بسد من خلفهم، وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبها بسد من قدامهم. انتهى. فيكون فيه تشبيه متعدد. قال الشهاب : والتمثيل أحسن منه. انتهى.

ثم قال الناصر : يحتمل أن تكون الفاء في: فهم مقمحون للتعقيب، كالفاء الأولى، أو للتسبب، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغل يوجب الإقماح; فإن اليد، والعياذ بالله، تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن، دافعة بها ومانعة من وطأتها. ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير، فإن [ ص: 4994 ] اليد متى كانت مرسلة مخلاة، كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها، ولعله يتحيل بها على فكاك الغل، ولا كذلك إذا كانت مغلولة. فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة، أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والانخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم، مشبها بغل الأيدي; فإن اليد آلة الحيلة إلى الخلاص. انتهى.

وإنما اختير هذا; لأن ما قبله وما بعده في ذكر أحوالهم في الدنيا، وجعله أبو حيان لبيان أحوالهم في الآخرة، على أنه حقيقة لا تمثيل فيه، فورد عليه أن يكون أجنبيا في البين، وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله: حق القول على أكثرهم والأول أدق، وبالقبول أحق.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 10 ] وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون .

وسواء عليهم أأنذرتهم أي: خوفتهم بالقرآن: أم لم تنذرهم لا يؤمنون أي: لا يريدون أن يؤمنوا، ولما صدقت الآية على مثل أبي جهل وأصحابه من كفرة قريش ، الذين هلكوا في بدر ، وكانوا طواغيت الكفر، أشار بعضهم إلى أن الآية نزلت في ذلك.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 11 ] إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم .

إنما تنذر أي: الإنذار المترتب عليه النفع: من اتبع الذكر أي: القرآن بالتأمل فيه والعمل به: وخشي الرحمن بالغيب أي: عمل الصالحات لوجهه، وإن كان لا يراه

فبشره بمغفرة أي: لذنوبه في الدنيا: وأجر كريم أي: ثواب حسن في الجنة.

[ ص: 4995 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 12 ] إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين .

إنا نحن نحيي الموتى أي: للبعث: ونكتب ما قدموا أي: نحفظ عليهم ما أسلفوا من الخير والشر: وآثارهم أي: ما تركوه من سنة صالحة، فعمل بها بعد موتهم، أو سنة سيئة فعمل بها بعدهم: وكل شيء أحصيناه في إمام مبين أي: في اللوح المحفوظ، أو العلم الأزلي.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 13 ] واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون .

واضرب لهم مثلا أي: مثل لأهل مكة مثلا: أصحاب القرية أي: اذكر لهم قصة عجيبة، قصة أصحاب القرية: إذ جاءها المرسلون أي: الدعاة إلى الحق، ورفض عبادة الأوثان.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 14 ] إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون .

إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث أي: فقويناهما برسالة ثالث: فقالوا إنا إليكم مرسلون

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 15 - 17 ] قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنـزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون [ ص: 4996 ] قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين .

قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنـزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين أي: التبليغ عن الله ظاهرا بينا لا سترة فيه، وقد خرجنا من عهدته.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 18 ] قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم .

قالوا إنا تطيرنا بكم أي: تشاءمنا بكم، فكان إذا حدث في البلد ما يسيء من حريق أو بلاء، نسبوه إليهم. وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه، وآثروه وقبلته طباعهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه; فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا ببركة هذا وبشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط : وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه وعن مشركي مكة : وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك أفاده الزمخشري لئن لم تنتهوا أي: عن دعوتكم إلى التوحيد: لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 19 ] قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون .

قالوا أي: الرسل: طائركم معكم أي: سبب شؤمكم معكم، وهو الكفر والمعاصي: أإن ذكرتم أي: وعظتم بما فيه سعادتكم. وجواب الشرط محذوف، ثقة بدلالة ما قبله عليه; أي: تطيرتم، وتوعدتم بالرجم والتعذيب: بل أنتم قوم مسرفون أي: في الشؤم والعدوان.

[ ص: 4997 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 20 ] وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين .

وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى أي: يسرع في المشي، حيث سمع بالرسل: قال يا قوم اتبعوا المرسلين أي: بالإيمان بالله وحده.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 20 ] اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون .

اتبعوا من لا يسألكم أجرا أي: جعلا، ولا مالا على الإيمان: وهم مهتدون أي: في أنفسهم بالكمالات، والأخلاق الكريمة، والآداب الشريفة; أي: فيجدر أن يتأسى بهم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 22 ] وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون .

وما لي لا أعبد الذي فطرني أي: خلقني، وهذا تلطف في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه، وإمحاض النصح، حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه. والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره; كما ينبئ عنه قوله: وإليه ترجعون أي: بعد الموت.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 23 ] أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون .

أأتخذ من دونه آلهة أي: فأضرع إليها وأعبدها، وهي في المهانة والحقارة بحيث إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون أي: من ذلك الضر، بالنصر والمظاهرة. وفيه تحميق لهم; لأن ما يتخذ ويصنعه المخلوق، كيف يعبد؟

[ ص: 4998 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 24، 25 ] إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون .

إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون أي: فاسمعوا إيماني واشهدوا به. قال السمين : الجمهور على كسر النون، وهي نون الوقاية، حذفت بعدها ياء الإضافة، مجتزى عنها بكسرة النون، وهي اللغة العالية. وقرأ بعضهم بفتحها وهي غلط. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 26، 27 ] قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين .

قيل ادخل الجنة أي: ثوابا على صدق إيمانك، وفوزك بسببه بالشهادة: قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين أي: ليقبلوا على ما أقبلت عليه، ويضحوا لأجله النفس والنفيس.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 28 ] وما أنـزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منـزلين .

وما أنـزلنا على قومه من بعده أي: من بعد موته بالشهادة: من جند من السماء أي: لإهلاكهم: وما كنا منـزلين قال الرازي : إشارة إلى هلاكهم بعده سريعا، على أسهل وجه، فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 29 ] إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون .

[ ص: 4999 ] إن كانت إلا صيحة واحدة أي: ما كانت العقوبة إلا صيحة واحدة من السماء هلكوا بها: فإذا هم خامدون ميتون كالنار الخامدة، رمزا إلى أن الحي كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب، والميت كالرماد، كما قال لبيد:


وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع


تنبيهات:

الأول - قال ابن كثير : روي عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية ، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح عيسى عليه السلام، كما نص عليه قتادة وغيره، وهو الذي لم يذكر عن أحد من متأخري المفسرين، غيره. وفي ذلك نظر من وجوه:

أحدها - أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل، لا من جهة المسيح عليه السلام، كما قال تعالى: إذ أرسلنا إليهم اثنين ولو كان هؤلاء من الحواريين، لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام. والله أعلم. ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: إن أنتم إلا بشر مثلنا.

الثاني - أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح ; ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللائي فيهن بطاركة، وهن: القدس ; لأنها بلد المسيح ، وأنطاكية ; لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، والإسكندرية ; لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البطارقة والأساقفة والشمامسة والرهابين، ثم رومية ; لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأطده، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطرك من [ ص: 5000 ] رومية إليها - كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم - كسعد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين - فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم.

الثالث - أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغير واحد من السلف، أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم. بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين، ذكروه عند قوله تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى فعلى هذا يتعين أن أهل هذه القرية المذكورة في القرآن، قرية أخرى غير أنطاكية ، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا، أو تكون أنطاكية - إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة - مدينة أخرى غير المشهورة المعروفة; فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية، ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى كلام ابن كثير.

وأقول: إن من محاسن التنزيل الكريم وبلاغته الخارقة، هو الإيجاز في الأنباء التي يقصها ، والإشارة منها إلى روحها وسرها، حرصا على الثمرة من أول الأمر، واقتصارا على موضع الفائدة، وبعدا عن مشرب القصاص والمؤرخين; لأن القصد من قصصه الاعتبار والذكرى ، وما من حاجة إلى تسمية تلك المبهمات كائنة ما كانت، ثم إن المفسرين رحمهم الله عنوا بالبحث، والأخذ، والتلقي، فكان من سلف منهم يرون فيما يرون أن من العلم تفصيل مجملات التنزيل وإبانة مبهماته ، حتى جعل ذلك فنا برأسه، وألف فيه مؤلفات، ولا بأس في التوسع من العلم والازدياد منه بأي طريقة كانت، لاسيما وقد رفع عنا الحرج بالتحدث عن بني إسرائيل، إلا أنه يؤاخذ من يجزم بتعيين مبهم ما، إن كان جزمه من غير طريق القواطع [ ص: 5001 ] ; فإن القاطع هو ما تواتر أو صح سنده إلى المعصوم، صحة لا مغمز فيها ، وهذا مفقود في الأكثر، ومنه بحثنا المذكور; فإن تعيين أن البلدة أنطاكية وتسمية الرسل، إنما روي موقوفا ومنقطعا، وفي بعض إسناده متهمون، ولذا قد يرد على من يقطع بذلك ما لا مخرج له منه، فالمفسر أحسن أحواله أن يمشي مع التنزيل، إجمالا فيما أجمله، وتفصيلا فيما فصله ، ولا يأخذ من إيضاح مبهماته إلا بما قام عليه قاطع أو كان لا ينبذه العلم الصحيح، وإلا فليعرض عن تسويد وجوه الصحف بذلك، بل عن تشويهها.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #513  
قديم 25-02-2025, 03:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يس
المجلد الرابع عشر
صـ 5001 الى صـ 5010
الحلقة (513)




والذي حمل السلف على قص ما نحن فيه، هو تلقيهم له عن مثل كعب ووهب ، وموافقة من في طبقتهما لهما فيه. هذا أولا.

وثانيا شهرة بلدة أنطاكية في ذلك العهد، لا سيما وقد أسس فيها معبدا أحد رسل عيسى عليه السلام.

ثالثا ما جرى في أنطاكية لما قدم ملك الرومان، وتهدد كل من أبى عبادة الأوثان بالقتل، وكان في مقدمة الآبين رجل مقدم في المؤمنين، فأراده على الشرك فأبى وجهر بالتوحيد، فأرسله من أنطاكية موثقا وأمر بأن يطعم للوحوش، فألقي في رومية إلى أسدين كبيرين فابتلعاه، ولما قدم لهما استبشر وتهلل لنيل الشهادة في سبيل الله.

وكذلك يؤثر عن رجل مؤمن كان يدافع عن المؤمنين في عهد الرومانيين لغيرته وصلاحه، فطلب منه الحاكم أن يرتد فأبى وجهر بوجوب عبادة الإله الواحد، ونبذ عبادة من لا يضر ولا ينفع. فهدده بأن يضربه من الرأس إلى القدم. فأجاب بأنه مستبشر بنعمة الله وكرامته الأبدية. ثم أمر به الحاكم فقتل مع رفقته، والشواهد في هذا الباب لا تحصى، معروفة لمن أعار نظره جانبا مما كتب في تواريخ مبدأ ظهور الأديان، وما كان يلاقيه من أعدائه ومقاوميه، فللقصة الكريمة هذه مصدقات لا تحصى.

رابعا شهرة المرسلين برسل عيسى عليه السلام، وكانوا انبثوا في البلاد لمحو الوثنية، والكف عن الكبائر والشرور التي كانت عليها دولة الرومان وقتئذ. هذا وما ذكره ابن كثير من وقوف عذاب الاستئصال بعد نزول التوراة يحتاج إلى قاطع. وإلا، فقد خربت كثير من البلاد الأثيمة بعدها، وتدمرت بتسليط الله من شاء عليها، والصيحة [ ص: 5002 ] أعم من أن تكون صيحة سماوية، أو صيحة أرضية، وهي صيحة من سلط عليهم للانتقام منهم، حتى أباد ملكهم وقهر صولتهم ومحا من الوجود سلطانهم، وإن كان عذاب الصيحة ظاهره الأول.

وبالجملة فنحن يكفينا من النبأ الاعتبار به وفهمه مجملا ، وأما تعيينه بوقت ما، وفئة ما، فهو الذي ينشأ منه ما ينشأ، وما بنا من حاجة إلى الزيادة عن الاعتبار، وتخصيص ما لا قاطع عليه.

الثاني - ذكر الرازي في قوله تعالى: إذ أرسلنا لطيفة، إن صح أن الرسل المنوه بهم هم رسل عيسى عليه السلام، وهي أن إرساله لهم كإرساله تعالى; لأنه بإذنه وأمره، وبذلك تتمة التسلية للنبي صلوات الله عليه، لصيرورتهم في حكم الرسل.

ثم قال: وهذا يؤيد مسألة فقهية; وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل، وكيل الموكل لا وكيل الوكيل، حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه، وينعزل إذا عزله الموكل الأول. انتهى.

الثالث - في قوله تعالى: وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ليكونوا في النصح باذلين جهدهم كما فعل.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 30 ] يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون .

يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون أي: يا ندامة عليهم تكون يوم القيامة بسبب استهزائهم وسخريتهم في الدنيا بالناصحين ، حتى أفضى بهم الحال إلى قتلهم كما فعل أصحاب القرية، أو المراد شدة خسرانهم حتى استحقوا أن يتحسر عليهم أهل الثقلين، أو التحسر منه تعالى مجازا، وتقريره أن التحسر ما يلحق المتحسر [ ص: 5003 ] من الندم حتى يبقى حسيرا، وهو لا يليق به تعالى، فيجعل استعارة، بأن شبه حال العباد بحال من يتحسر عليه الله فرضا، فيقول، يا حسرة على عبادي، قيل: وهو نظير قوله تعالى: بل عجبت ويسخرون على القراءة بضم التاء، فالنداء للحسرة تعجب منه. والمقصود تعظيم جنايتهم، أي: عدها أمرا عظيما بتعجب منه. أفاده الشهاب .

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 31 ] ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون .

ألم يروا أي: يخبروا: كم أهلكنا قبلهم من القرون أي: من الأمم الخالية: أنهم إليهم لا يرجعون أي: كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 32 ] وإن كل لما جميع لدينا محضرون .

وإن كل أي: من هؤلاء المتفرقين: لما جميع لدينا محضرون أي: إلا جميعهم محضرون للحساب والجزاء، وإنما أخبر عن (كل) ، بجميع ومعناهما واحد; لأن (كلا) ، تفيد الإحاطة حتى لا ينفلت عنهم أحد. و (جميع) ، تفيد الاجتماع، وهو فعيل بمعنى مفعول، وبينهما فرق، ومن ثم وقع أجمع في التوكيد تابعا لـ: (كل) ; لأنه أخص منه، وأزيد معنى.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 33 - 35 ] وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون .

وآية لهم أي: عبرة لأهل مكة عظيمة: الأرض الميتة أحييناها أي: بالنبات [ ص: 5004 ] لتدل على إحياء الموتى: وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أي: وليأكلوا مما عملته أيديهم، وهو ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما، على ما استظهره القاضي.

وقال الزمخشري : أي: عملته بالغرس، والسقي، والآبار، قيل وهذا التفسير خلاف الظاهر; أي: لاحتياجه إلى تجوز، إلا أن فيه تذكيرا بلذة ثمرة العمل، وسرور النفس بعده، وفي الحديث « أفضل الكسب بيع مبرور، وعمل الرجل بيده » رواه الإمام أحمد عن أبي بردة . وجوز أن تكون: ما نافية، والمعنى: أن الثمر بخلق الله لا بفعلهم: أفلا يشكرون أي: خالق هذه النعم الجسام بعبادته وحده، وهو إنكار لعدم قيامهم بواجب الشكر .

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 36 ] سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون .

سبحان الذي خلق الأزواج أي: الأصناف كلها: كلها مما تنبت الأرض أي: مما ذكر وغيره: ومن أنفسهم يعني الذكر والأنثى: ومما لا يعلمون أي: من الأصناف والأنواع الموجودة في البر والبحر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 37 ] وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون .

وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون بيان لقدرته تعالى في الزمان ، إثر ما بينها في المكان، أي: نزيله ونكشفه عن مكانه. استعير لإزالة الضوء، السلخ الذي هو كشط الجلد وإزالته عن الحيوان المسلوخ. وفيه إشارة إلى أن النهار طارئ على الليل، كما أن المسلوخ [ ص: 5005 ] منه قبل المسلوخ، الذي هو كالغطاء الطارئ على المغطى. قال الشهاب : لأن الليل سابق عرفا وشرعا ومعنى: مظلمون داخلون في الظلام، يقال (أظلمنا)، كما يقال: أعتمنا وأدجينا.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 38 ] والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم .

والشمس تجري لمستقر لها أي: لحد لها مؤقت مقدر ينتهي إليه دورها اليومي أو السنوي، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره. فالمستقر اسم مكان تقطعه في حركتها الدائمة ثم تعود. ووجه الشبه الانتهاء إلى محل معين، واللام تعليلية، أو بمعنى ( إلى ). وقيل مستقرها: منقطع جريها عند خراب العالم. ومستقر عليه اسم زمان: ذلك تقدير العزيز العليم أي: ذلك الجري المتضمن للحكم، والمصالح، والمنافع ، والمدهش نظام سيره وإحكامه بلا اختلال، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علما بكل معلوم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 39 ] والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم .

والقمر قدرناه منازل أي: صيرنا له منازل ينزل كل ليلة في واحد منها : حتى عاد كالعرجون القديم أي: حتى إذا كان في آخر منازله، دق واستقوس وصار كالعذق المقوس اليابس، إذا حال عليه الحول. فالعرجون هو الشمروخ; وهو العنقود الذي عليه الرطب، ويسمى العذق، بكسر العين. والقديم: العتيق، وإذا قدم دق وانحنى واصفر. فشبه به من ثلاثة أوجه.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 40 ] لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [ ص: 5006 ] لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر أي: تجتمع معه في وقت واحد، وتداخله في سلطانه فتطمس نوره: ولا الليل سابق النهار أي: يسبقه بأن يتقدم على وقته فيدخل قبل مضيه. أو المراد بالليل والنهار آيتاهما; أي: ولا القمر سابق الشمس فيكون عكسا للأول; أي: ولا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس. والمعنى على هذا، أن كل واحد منهما لا يدخل على الآخر في سلطانه، فيطمس نوره، بل هما متعاقبان بمقتضى تدبيره تعالى، وعليه فسر إيثار: ( سابق ) على ( مدرك )، كما قبله، هو أن السبق مناسب لسرعة سير القمر; إذ السبق يشعر بالسرعة، والإدراك بالبطء; وكذلك الشمس بطيئة السير تقطع فلكها في سنة. والقمر يقطعه في شهر. فكانت الشمس لبطئها جديرة بأن توصف بالإدراك، والقمر لسرعته جديرا بأن يوصف بالسبق.

لطيفة:

قال الناصر في )" الانتصاف": ( يؤخذ من هذه الآية أن النهار، تابع لليل، وهو المذهب المعروف للفقهاء، وبيانه من الآية أنه جعل الشمس التي هي آية النهار غير مدركة للقمر الذي هو آية الليل .

وإنما نفى الإدراك لأنه هو الذي يمكن أن يقع، وذلك يستدعي تقدم القمر وتبعية الشمس، فإنه لا يقال: ( أدرك السابق اللاحق )، ولكن: ( أدرك اللاحق السابق )، وبحسب الإمكان توقيع النفي، فالليل إذا متبوع والنهار تابع. فإن قيل: هل يلزم على هذا أن يكون الليل سابق النهار، وقد صرحت الآية بأنه ليس سابقا؟

فالجواب أن هذا مشترك الإلزام. وبيانه: أن الأقسام المحتملة ثلاثة: إما تبعية النهار لليل وهو مذهب الفقهاء، أو عكسه وهو المنقول عن طائفة من النحاة، أو اجتماعهما. فهذا القسم الثالث منفي بالاتفاق. فلم يبق إلا تبعية النهار لليل وعكسه. وهذا السؤال وارد عليهما جميعا; لأن من قال إن النهار سابق الليل لزمه أن يكون مقتضى البلاغة أن يقال: ولا الليل يدرك النهار; فإن المتأخر إذا نفي إدراكه [ ص: 5007 ] كان أبلغ من سابقه. مع أنه يتناءى عن مقتضى قوله: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر تنائيا لا يجمع شمل المعنى باللفظ، فإن الله تعالى نفى أن تكون مدركة، فضلا عن أن تكون سابقة.

فإذا أثبت ذلك، فالجواب المحقق عنه، أن المنفي السبقية الموجبة لتراخي النهار عن الليل، وتخلل زمن آخر بينهما، وحينئذ يثبت التعاقب، وهو مراد الآية. وأما سبق أول المتعاقبين للآخر منهما، فإنه غير معتبر. ألا ترى إلى جواب موسى بقوله: هم أولاء على أثري فقد قربهم منه عذرا عن قوله تعالى: وما أعجلك عن قومك فكأنه سهل أمر هذه العجلة بكونهم على أثره. فكيف لو كان متقدما وهم في عقبه لا يتخلل بينهم وبينه مسافة؟ فذاك لو اتفق، لكان سياق الآية يوجب أنه لا يعد عجلة ولا سبقا. فحينئذ يكون القول بسبقية النهار لليل، مخالفا صدر الآية على وجه لا يقبل التأويل. فإن بين عدم الإدراك الدال على التأخير والتبعية، وبين السبق بونا بعيدا، ومخالفا أيضا لبقية الآية، فإنه لو كان الليل تابعا ومتأخرا، لكان أحرى أن يوصف بعدم الإدراك، ولا يبلغ به عدم السبق، ويكون القول بتقديم الليل على النهار مطابقا لصدر الآية صريحا، ولعجزها بوجه من التأويل مناسب لنظم القرآن، وثبوت ضده أقرب إلى الحق من حبل وريده، والله الموفق للصواب من القول وتسديده. انتهى.

وكل في فلك يسبحون أي: كل مما ذكر يجرون في مدار عظيم كالسابح في الماء. وتقدم لنا في سورة الأنبياء، ما قاله بعض علماء الفلك في مثل هذه الآية. فراجعه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 41 ] وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون .

وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون أي: حملنا أولادهم الذين يرسلونهم [ ص: 5008 ] في تجارتهم. قال الشهاب : ولا يخفى مناسبته لقوله قبله: في فلك يسبحون وذكر ( المشحون )، أقوى في الامتنان بسلامتهم فيه، أو لأنه أبعد عن الخطر، وقيل المراد فلك نوح عليه السلام. فهو مفرد، وتعريفه للعهد، والمعنى حمل آبائهم الأقدمين الذين بهم حفظ بقاء النوع لما عم الطوفان، ونجوا مع نوح في السفينة، وإنما كان آية، لأن بقاء نسلهم ونجاتهم بسفينة واحدة، صنع عجيب ومقدور كبير. وآثر البعض الوجه الأول; لأن الثاني محتاج للتأويل. وأرى جدارة الثاني بالإيثار; لقاعدة الحمل على الأشباه والنظائر، ما وجد له سبيل; لأنه أقرب وأسد، وقد جاء نظيره آية: إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية وإن ورد في نظير الأول الآية: وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام وأشباهها، إلا أن لفظ الحمل اتحد في الآيتين، فقارب ما بينهما.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 42 ] وخلقنا لهم من مثله ما يركبون .

وخلقنا لهم من مثله أي: مثل الفلك: ما يركبون أي: من الإبل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل، حتى شاع إطلاق السفينة عليها، كما قيل: سفائن بر والسراب بحارها. أو ما يركبون; أي: من السفن والزوارق على الوجه الثاني، وهو أن يراد بالفلك سفينة نوح .
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 43 ] وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون .

وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم أي: لا مغيث لهم، أو لا مستغيث منهم، أو لا استغاثة، وذلك لأن الصريخ يكون المغيث والمستغيث وهو الصارخ. ومصدرا للثلاثي [ ص: 5009 ] كالصراخ، يتجوز به عن الإغاثة; لأن المغيث ينادي من يستغيث به ويصرخ له، ويقول: جاءك العون والنصر. أنشد المبرد في أول الكامل:


كنا إذا ما أتانا صارخ فزع كان الصراخ له قرع الظنابيب


أي إذا أتانا مستغيث، كانت إغاثته الجد في نصرته.

ولا هم ينقذون أي: ينجون من الموت به.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 44 ] إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين .

إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين أي: لكن رحمناهم ومتعناهم إلى زمن قدر لهم، يموتون فيه بعد النجاة من موت الغرق، ومن هنا أخذ أبو الطيب قوله:


وإن أسلم فما أبقى ولكن سلمت من الحمام إلى الحمام

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 45 ] وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون .

وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم أي: من الوقائع الخالية في الأمم المكذبة للرسل

وما خلفكم أي: من العذاب المعد في الآخرة، أو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة [ ص: 5010 ] ، أو عكسه، أو ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر: لعلكم ترحمون أي: باتقائكم وشكركم، وجواب ( إذا ) محذوف دل عليه قوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 46 ] وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين .

وما تأتيهم من آية من آيات ربهم أي: الدالة على صدق الرسل: إلا كانوا عنها معرضين بالتكذيب والصد عن الإيمان بها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 47 ] وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين .

وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله أي: تصدقوا على الفقراء، من مال الله الذي آتاكم: قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين أي: حيث أمرتمونا بما يخالف مشيئة الله. وقولهم هذا، إما تهكم أو عن اعتقاد. وجوز أن يكون: { إن أنتم } جوابا من الله لهم، أو حكاية لجواب المؤمنين. وفي هذه الآية أبلغ زجر عن اقتصاص ما يحكى عن البخلاء، في اعتذارهم بمثل ما ضلل به المشركون ومجازاتهم فيه; فإن ذلك من اللؤم، وشح النفس، وخبث الطبع، وإن كان يورده بعضهم للفكاهة أو الإغراب; كما فعل الجاحظ سامحه الله في كتاب "البخلاء".

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 48 ] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين .

ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين يعنون وعد البعث.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #514  
قديم 25-02-2025, 03:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يس
المجلد الرابع عشر
صـ 5011 الى صـ 5020
الحلقة (514)






[ ص: 5011 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 49 ] ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون .

ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون أي: يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم; أي: أنها تبغتهم وهم في أمنهم وغفلتهم عنها. و ( يخصمون ) بفتح الياء وكسر الخاء لالتقاء الساكنين. والصادر على الأصل، وأصله: يختصمون سكنت التاء وأدغمت، ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 50 ] فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون .

فلا يستطيعون توصية أي: أن يوصوا في شيء من أمورهم توصية: ولا إلى أهلهم يرجعون أي: لا يقدرون على الرجوع إلى أهليهم، ليروا حالهم، بل يموتون حيث تفجؤهم الصيحة.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 51 ] ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون .

ونفخ في الصور أي: للبعث: فإذا هم من الأجداث أي: من القبور: إلى ربهم ينسلون أي: يعدون مسرعين، كما في قوله تعالى: يوم يخرجون من الأجداث سراعا ولا منافاة بين هذا وما في آية: فإذا هم قيام ينظرون لأنهما في زمان واحد متقارب.

[ ص: 5012 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 52 ] قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون .

قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا أي: رقادنا أو مكانه. فيقال لهم: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون أي: المخبرون عن ذلك الوعد.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 53 ] إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون .

إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون أي: بمجرد تلك الصيحة. وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر، عليه تعالى.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 54، 55 ] فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون .

فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون أي متنعمون متلذذون، وفي تنكير: شغل تعظيم ما هم فيه وتفخيمه.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 56، 57 ] هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون .

هم وأزواجهم في ظلال أي: في ظلال الأشجار، أو في مأمن من الحرور [ ص: 5013 ] : على الأرائك أي: السرر المزينة: متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 58 ] سلام قولا من رب رحيم .

سلام قولا من رب رحيم أي: ولهم سلام يقال لهم قولا كائنا منه تعالى. فيكون: { سلام } مبتدأ محذوف الخبر، أو هو بدل من: { ما } أو خبر محذوف، أي: هو سلام، أو مبتدأ خبره الناصب لـ: { قولا } أي: سلام يقال لهم قولا، أو مبتدأ وخبره: { من رب } و: { قولا } مصدر مؤكد لمضمون الجملة، وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر. والمعنى أنه تعالى يسلم عليهم تعظيما لهم، كقوله: تحيتهم يوم يلقونه سلام
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 59 ] وامتازوا اليوم أيها المجرمون .

وامتازوا اليوم أيها المجرمون أي: عن المؤمنين في موقفهم. كقوله تعالى: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقوله: ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون يومئذ يصدعون أي: يصيرون صدعين فرقتين: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم

[ ص: 5014 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 60 ] ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين .

ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين تقريع منه تعالى للكفرة، يقال لهم إلزاما للحجة. وعهده تعالى إليهم هو ميثاق الفطرة. كما قاله القاشاني . أو ما نصبه لهم من الحجج العقلية، والسمعية، الآمرة بعبادته وحده ونبذ عبادة غيره.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 61 ] وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم .

وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم أي: وأن أفردوني بالعبادة فإنه السبيل السوي. وفي تنكيره إشعار بأنه صراط بليغ في استقامته، جامع لكل ما يجب أن يكون عليه، وأصل لمرتبة يقصر عنها التوصيف، فالتنوين للتعظيم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 62 ] ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون .

ولقد أضل أي: الشيطان وأغوى بالشرك: منكم جبلا كثيرا أي: خلقا كثيرا قبلكم. فحاق بهم سوء العذاب: أفلم تكونوا تعقلون أي: من أولي العقل. إنكار لأن يكونوا منهم، وقد قامت البراهين والإنذارات.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 63، 64 ] هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون .

[ ص: 5015 ] هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون أي: ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 65 ] اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون .

اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون أي: عندما يجحدون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم، قال الرازي : وفي الختم على الأفواه وجوه، أقواها أن الله يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها، وينطق جوارحهم فتشهد عليهم ، وإنه في قدرة الله يسير، أما الإسكات فلا خفاء فيه، وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة. فكما جاز تحركه بها، جاز تحرك غيره بمثلها، والله قادر على الممكنات.

والوجه الآخر، أنهم لا يتكلمون بشيء; لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم، فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليؤوس، لا يجد عذرا فيعتذر، ولا مجال توبة فيستغفر، وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار، حتى تنطق به الأيدي والأبصار. كما يقول القائل: )الحيطان تبكي على صاحب الدار). إشارة إلى ظهور الحزن، والأول صحيح. انتهى.

أي: لإمكانه وعدم استحالته، فلا تتعذر الحقيقة. ويؤيده آية: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء

[ ص: 5016 ] ومن لطائف بعض أدباء العصر ما نظمه في الفونغراف، مستشهدا به في ذلك، فقال:


بنطق الفونغراف لنا دليل على نطق الجوارح والجماد وفيه لكل ذي نظر مثال
على بدء الخليقة والمعاد يدير شؤونه فرد بصور
به الأصوات تجري كالمداد فيثبت رسمها قلم بلوح
على وفق المشيئة والمراد وبعد فراغها تمضي كبرق
ولا أثر لها في الكون بادي تظن بأنها ذهبت جفاء
كما ذهبت بريح قوم عاد وأحلى رنها فيه لتبقى
كأرواح تجرد عن مواد متى شاء المدير لها معادا
ورام ظهورها في كل ناد يدير الصور بالآلات قسرا
فينشر ميتها بعد الرقاد وهذي آلة من صنع عبد
فكيف بصنع خلاق العباد؟ تبارك من يعيد الخلق طرا
بنفخة صوره يوم التناد.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 66 ] ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون .

ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون أي: لو شاء تعالى، لمسح أعينهم. فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المسلوك لهم لم يقدروا، لعماهم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 67 ] ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون .

ولو نشاء لمسخناهم أي: بتغيير صورهم وإبطال قواهم: على مكانتهم أي: مكانهم: فما استطاعوا مضيا أي: ذهابا: ولا يرجعون أي: ولا رجوعا; أي: أنهم لا يقدرون على مفارقة مكانهم. فوضع الفعل موضعه للفواصل. وإذا كان بمعنى: ( لا يرجعون عن تكذيبهم ) [ ص: 5017 ] ، فهو معطوف على جملة: ( ما استطاعوا ). والمراد أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم، أحقاء بأن يفعل بهم ذلك. لكنا لم نفعل لشمول الرحمة، واقتضاء لحكمة إمهالهم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 68 ] ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون .

ومن نعمره أي: نطل عمره: ننكسه في الخلق أي: بتناقص قواه وضعف بنيته حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من العلم، كما قال عز وجل: ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ثم رددناه أسفل سافلين أفلا يعقلون أي: من قدر على ذلك، قدر على الطمس والمسخ، وأن يفعل ما يشاء.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 69 ] وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين .

وما علمناه الشعر أي: حتى يأتي بشعر. وهذا رد لقولهم أنه صلوات الله عليه شاعر أتى بشعر. قاسوه على من يشعر بقراءة الدواوين وكثرة حفظها، وكيف يشابه ما نزل عليه الشعر، وليس منه لا لفظا; لعدم وزنه وتقفيته، ولا معنى; لأن الشعر تخيلات، وهذا حكم، وعقائد، وشرائع، وحقائق.

وما ينبغي له أي: وما يصح لمقامه; لأن منزل النبوة والرسالة يتسامى عن الشعر وقرضه ; لما يرمي به الشعراء كثيرا من الكذب، والمين، ومجافاة مقاعد الحقيقة; ولذا قال تعالى: إن هو أي: القرآن الذي يتلوه: إلا ذكر أي: عظة وإرشاد منه تعالى: وقرآن مبين أي: كتاب سماوي بين أمره وحقائقه، فلا مناسبة بينه وبين الشعر [ ص: 5018 ] بوجه ما.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 70 ] لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين .

لينذر من كان حيا أي: عاقلا متأملا; لأن الغافل كالميت: ويحق القول أي: وتجب كلمة العذاب: على الكافرين أي: المعرضين عن اتباعه.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 71 ] أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون .

أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أي: مما تولينا نحن خلقه، لم يقدر على إحداثه غيرنا أنعاما فهم لها مالكون أي: متصرفون فيها تصرف الملاك، أو ضابطون قاهرون لها كما قال:



أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك راس البعير إن نفرا

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 72 ] وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون .

وذللناها لهم أي: صيرناها منقادة غير وحشية: فمنها ركوبهم أي: مركوبهم

ومنها يأكلون أي: ينتفعون بأكل لحمه.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 73 ] ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون .

ولهم فيها منافع أي: من الجلود، والأصواف، والأوبار: ومشارب أي: من ألبانها: أفلا يشكرون أي: فيعبدوا المنعم بأصناف هذه النعم الجسيمة.

[ ص: 5019 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 74 ] واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون .

واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون أي: ينصرونهم فيما نابهم من الكوارث.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 75 ] لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون .

لا يستطيعون نصرهم وهم لهم أي: لآلهتهم: جند محضرون أي: معدون لخدمتهم والذب عنهم، فمن أين لهم أن ينصرونهم، وهم على تلك الحال من العجز والضعف؟ أي: بل الأمر بالعكس. وقيل: المعنى محضرون على أثرهم في النار، وجعلهم - على هذا - جندا، تهكم واستهزاء. وكذا لام: لهم الدالة على النفع.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 76 ] فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون .

فلا يحزنك قولهم أي: في الله تعالى بالإلحاد والشرك. أو في حقك بالتكذيب والإيذاء: إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون أي: فنجازيهم عليه. كنى عن مجازاتهم بعلمه تعالى، للزومه له; إذ علم الملك القادر بما جرى من عدوه الكافر، مقتض لمجازاته وانتقامه. وتقديم السر، لبيان إحاطة علمه تعالى بحيث يستوي السر عنده والعلانية . أو للإشارة إلى الاهتمام بإصلاح الباطن; فإنه ملاك الأمر.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 77 ] أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين .

أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين أي: جدل بالباطل [ ص: 5020 ] ، بين الجدال، وهذه تسلية ثانية، بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر. تأثرت الأولى وهي قوله: فلا يحزنك الآية، عناية بشأنه صلوات الله عليه.

قال الطيبي : هذا معطوف على: أولم يروا قبله. والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس; فإنه خلق له ما خلق ليشكر، فكفر وجحد النعم والمنعم، وخلقه من نطفة قذرة ليكون منقادا متذللا، فطغى وتكبر وخاصم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 78 ] وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم .

وضرب لنا مثلا أي: في استبعاد البعث وإنكاره : ونسي خلقه أي: خلقنا إياه: قال من يحيي العظام وهي رميم أي: بالية أشد البلى، بعيدة عن الحياة غاية البعد. وإنما لم يؤنث لأنه اسم لما بلي من العظام، جامد غير صفة، كالرمة والرفات، أو مشتق فعيل بمعنى فاعل، إلا أنه لما غلب جريانه على غير موصوف، ألحق بالأسماء فلم يؤنث، أو بمعنى مفعول من ( رمه )، بمعنى أبلاه. وأصله الأكل، من: ( رمت الإبل الحشيش ). فكأن ما بلي أكلته الأرض. وقال الأزهري : إن ( عظاما ) ، لكونه بوزن المفرد، ككتاب وقراب، عومل رميم معاملته، وذكر له شواهد. قال الشهاب : وهو غريب.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 79 ] قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم .

قل يحييها الذي أنشأها أول مرة أي: فلا تقاس قدرة الخالق على قدرة المخلوقين. وإنما تقاس إعادته على إبدائه: وهو بكل خلق عليم أي: فلا يمتنع عليه جمع الأجزاء بعد تفرقها، لعلمه بأصولها وفصولها ومواقعها، وطريق ضمها إلى بعضها.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #515  
قديم 25-02-2025, 03:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الصافات
المجلد الرابع عشر
صـ 5021 الى صـ 5030
الحلقة (515)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 80]

الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80)
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أي الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضرا نضرا فأثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا يوقد به النار، كذلك هو فعال لما يشاء، قادر على ما يريد. لا يمنعه شيء. قال قتادة: الذي أخرج النار من هذا الشجر، قادر على أن يبعثه. وقيل: المراد بذلك شجر المرخ والعفار (من شجر البادية) في أرض الحجاز. فيأتي من أراد قدح نار وليس معه زناد، فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدها بالآخر، فتتولد النار من بينهما كالزناد سواء. روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. والعفار الزند وهو الأعلى.
والمرخ الزندة وهو الأسفل بمنزلة الذكر والأنثى. وعكس الجوهري فجعل المرخ ذكرا والعفار أنثى، واللفظ مساعد له. إلا أن الأول يؤيده قول الشاعر:
إذا المرخ لم يور تحت العفار ... وضن بقدر فلم تعقب
وقال أبو زياد: ليس في الشجر كله أورى نارا من المرخ. وربما كان المرخ مجتمعا ملتفا، وهبت الريح، وجاء بعضه بعضا فأورى فأحرق الوادي. ولم نر ذلك في سائر الشجر.
وقال الأزهري: العرب تضرب بالمرخ والعفار، المثل في الشرف العالي.
فتقول: (في كل شجر نار. واستمجد المرخ والعفار) أي كثرت فيهما على ما في سائر الشجر. و (استمجد) استكثر واستفضل. وذلك أن هاتين الشجرتين من أكثر الشجر نارا، وزنادهما أسرع الزناد وريا. وفي المثل: اقدح بعفار أو مرخ، ثم اشدد إن شئت أو أرخ. ويقال (في كل شجر نار إلا العناب) .
قال الشهاب: ولذا يتخذ منه مدق القصارين. ثم أنشد لنفسه:
أيا شجر العناب نارك أوقدت ... بقلبي. وما العناب من شجر النار
انتهى.
والمقصود أنه تعالى لا يمتنع عليه إعادة المزاج الذي به تعلق الروح بعد انعدامه بالكلية. لأن الذي يبدل مزاج الشجر الرطب بمزاج النار، وهي حارة يابسة بالفعل، مع ما في الشجر من المائية المضادة لها، أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضا، تطرأ عليه اليبوسة والبلى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 81]
أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81)
أوليس الذي خلق السماوات والأرض أي مع كبر جرمهما بقادر على أن يخلق مثلهم أي في الصغر والضعف ثانيا، بعد ما خلقهم أولا بلى أي هو القادر وهو الخلاق أي الكثير الخلق مرة بعد أخرى العليم أي الواسع المعلومات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 82]
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82)
إنما أمره أي شأنه الأعلى أو قوله النافذ إذا أراد شيئا أي إذا تعلقت إرادته بإيجاد شيء أن يقول له كن فيكون أي فيوجد عن أمره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 83]
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83)
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء تنزيه له مما وصفه به المشركون،
وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا. وهو مالك كل شيء والمتصرف فيه بلا وازع ولا منازع. وإليه ترجعون أي بعد الموت، فيجازيكم بأعمالكم.
فائدة:
قال ابن كثير: الملك والملكوت واحد في المعنى. كرحمة ورحموت ورهبة ورهبوت، وجبر وجبروت. ومن الناس من زعم أن الملك هو عالم الأجسام، والملكوت هو عالم الأرواح. والصحيح الأول. وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم. انتهى.
ولبعضهم: إن الملكوت صيغة مبالغة من الملك. فهو بمعنى الملك التام، والله هو العليم العلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصافات
سميت بها لاستمال الآية التي هي فيها على صفات للملائكة تنفي إلهية الملائكة من الجهات الموهمة لها فيهم. فينتفي بذلك إلهية ما دونهم، فيدل على توحيد الله، وهو من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايمي.
وهي مكية اتفاقا، وآيها مائة واثنتان وثمانون.
روى النسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصفات
.
قال ابن كثير: تفرد به النسائي.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
والصافات صفا (1) فالزاجرات زجرا (2) فالتاليات ذكرا (3) إن إلهكم لواحد (4)
والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته، إظهارا لعظم شأنها وكبر فوائدها. وتنبيها إلى الاعتبار بصفتها وما تستدعيه من سمتها. و (الصافات) جمع صافة، أي طائفة صافة، أو جماعة صافة. فيكون في المعنى جمع الجمع. أو على تأنيث مفردة باعتبار أنه ذات ونفس، والمراد بالصفات الملائكة. لقيامها مصطفة في مقام العبودية لمالك الملك. من قوله تعالى: وإنا لنحن الصافون [الصافات: 165] ، أو لصفها أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله تعالى. وفالزاجرات أي: الناس عن المعاصي، بإلهام الخير. من (الزجر) بمعنى المنع والنهي. أو الزاجرات الأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور به. من (الزجر) بمعنى السوق والحث.
و (التاليات) أي: آياته تعالى على أنبيائه عليهم السلام، وقيل: الصافات الطير. من قوله تعالى: والطير صافات [النور: 41] ، و (الزاجرات) ، كل ما زجر عن معاصي الله. و (التاليات) كل من تلا كتاب الله. أو هم العلماء الصافون في العبادات أقدامهم، الزاجرون عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح، التالون آيات الله وشرائعه.
أو هم الغزاة الصافون في الجهاد والزاجرون الخيل أو العدو، التالون لذكر الله، لا يشغلهم فيها عنه مبارزة العدو. وقد ذكر غير هذا، مما يشمله اللفظ ولا يأباه.
وبالجملة، فالعطف إما لاختلاف الذوات أو الصفات. وإيثار الفاء على (الواو) لقصد الترتيب والتفاضل طردا أو عكسا. أما الأول فاعتناء بالأهم فالأهم. وأما الثاني فالترقي إلى الأعلى. و (صفا) و (زجرا) مصدر مؤكد. وكذا (ذكرا) ويجوز فيه كونه مفعولا به. قال الناصر: وفي هذه الآية دلالة على مذهب سيبويه والخليل في مثل والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى [الليل: 1- 2] ، فإنهما يقولان: الواو الثانية وما بعدها عواطف. وغيرهما يذهب إلى أنها حروف قسم. فوقوع الفاء في هذه الآية موقع
الواو. والمعنى واحد. إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها، دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق، للعطف لا للقسم. انتهى.
وقوله تعالى: إن إلهكم لواحد الجواب للقسم. وفي تأكيد المقسم عليه بتقديم الإقسام وتوكيد الجملة، اهتمام به بتحقيق الحق فيه الذي هو التوحيد، وتمهيد لما يعقبه من البرهان الناطق به، وهو قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 5]
رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق (5)
رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق فإن وجودها وانتظامها على هذا النمط البديع، من أوضح دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته، وأعدل شواهد وحدته. أي مالك السموات والأرض وما بينهما من الموجودات ومربيها ومبلغها إلى كمالاتها. والمراد بالمشارق مشارق الشمس. وإعادة ذكر الرب فيها، لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم. فإنها ثلاث مائة وستون مشرقا. تشرق كل يوم من مشرق منها. وبحسبها تختلف المغارب، وتغرب كل يوم في مغرب منها. وأما قوله تعالى: رب المشرقين ورب المغربين فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما.
أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 6]
إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (6)
إنا زينا السماء الدنيا أي الجهة العليا القربى من كرة الأرض بزينة أي عجيبة بديعة الكواكب بالجر، بدل من (زينة) . وقرئ بالإضافة، على أنها بيانية، أو على معنى ما زينت هي به، وهو ضوؤها، والمراد التزيين في رأي العين. فإن الكواكب تبدو للناظرين كأنها جواهر متلألئة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 7]
وحفظا من كل شيطان مارد (7)
وحفظا من كل شيطان مارد أي خارج عن الطاعة، يقذفه بشهبها، كيما يتطاول إلى استراق السمع من جهتها وحفظا إما منصوب بإضمار فعله. أي حفظناها حفظا، أو بعطفه على بزينة من حيث المعنى. أي خلقنا الكواكب
للسماء زينة وحفظا. أو على المفعول لأجله بزيادة الواو. والعامل فيه زينا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 8]
لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب (8)
لا يسمعون إلى الملإ الأعلى قرئ بالتخفيف والتشديد. وأصله (يتسمعون) أي يتطلبون السماع. والضمير لكل شيطان. لأنه في معنى الشياطين. والجملة مستأنفة لبيان ما عليه حال المسترقة للسمع من أنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة إلخ. أو هي علة للحفظ. أي لئلا يسمعوا. فحذفت اللام ثم (أن) وأهدر عملها. وضعفوه بلزوم اجتماع حذفين، وهو منكر. كما ذكروه في قوله تعالى: يبين الله لكم أن تضلوا [النساء: 176] ، أي لئلا تضلوا، وقد يقال:
إنما ينكر حذف شيئين فيما يخل بانسجام الكلام. أما في تقدير أمر له نظائر، ومرجعه إلى تحليل معنى. لا يأباه اللفظ- فلا وجه للتعصب في رده، لمجرد أن الكوفيين، مثلا، ذهبوا إليه أو غيرهم. وشاهد المعنى أعدل من حكم القواعد وتحكيمها ويقذفون أي يرمون من كل جانب أي من جميع جوانب السماء، إذا قصدوا الصعود إليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 9]
دحورا ولهم عذاب واصب (9)
دحورا أي للدحور وهو الطرد ولهم عذاب واصب أي شديد غير منقطع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 10]
إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب (10)
إلا من خطف الخطفة أي اختلس الكلمة فأتبعه شهاب أي لحقه شعلة نارية تنقض من السماء ثاقب أي مضيء. كأنه يثقب الجو بضوئه.
تنبيه:
ذكر المفسرون أن الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء. فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب، وكانوا يخبرونهم به ويوهمونهم
أنهم يعلمون الغيب. فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب.
فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم.
قال ابن كثير: يعني إذا أراد الشيطان أن يسترق السمع، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه. ولهذا قال جل جلاله لا يسمعون إلى الملإ الأعلى أي: لئلا يصلوا إلى الملإ الأعلى، وهي السموات ومن فيها من الملائكة، إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى بما يقوله من شرعه وقدره. كما وردت الأخبار بذلك في تفسير قوله تعالى:
حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم، قالوا الحق، وهو العلي الكبير [سبأ: 23] ، انتهى.
قال بعض علماء الفلك: كما أن العرش تحفه الأرواح الغيبية- حسبما تقدم بيانه في آية ثم استوى على العرش [الأعراف: 54] ، في الأعراف- فكذلك الكواكب الأخرى مسكونة مع الحيوانات والدواب بأرواح، منها الصالح (الملك) ومنها الطالح (الشيطان) وكذلك أرضنا هذه. فيها من الملائكة ومن الشياطين مالا نبصره إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم
[الأعراف: 27] . ولا يخفى أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود. فعدم إدراكنا لهذه الأرواح لا يدل على عدم وجودها. كما أن عدم معرفة القدماء للميكروبات وللكهرباء التي تشاهد الآن آثارها العظيمة، لم يكن يدل على عدم وجودها إذ ذاك في العالم. فمن الجهل الفاضح إنكار الشيء لعدم معرفته أو العثور عليه. على أن لنا الآن من مسألة استحضار الأرواح أكبر دليل على وجود أرواح في هذه الأرض، لا نبصرها ولا نشعر بها. وقد قدر الله تعالى أن الحيوانات في هذه الأرض، إذا خرجت عنها إلى حيث ينقطع الهواء ويبطل التنفس، تموت في الحال. وكذلك قدر أن الأرواح الطالحة التي في أرضنا هذه، إذا أرادت الصعود إلى السماء والاختلاط بالأرواح التي في الكواكب الأخرى، انقض عليها، قبل أن تخرج من جو الأرض، شهاب من هذه الكواكب أو من غيرها، فأحرقها وأهلكها، بإفساد تركيبها ومادتها. حتى لا يحصل اتصال بين هذه وتلك، ولا تطلع على أسرار العوالم الأخرى. وهذه الشهب التي تنقض، إن كانت صادرة من أجرام ملتهبة، كانت ملتهبة. وإن كانت صادرة من أجرام غير ملتهبة. التهبت فيما بعد لشدة شرعتها واحتكاكها بالغازات التي تمر فيها في جونا هذا. ولعل في مادة الشياطين ما يجتذب إلى هذه الشهب ويتحد بها. كما تجتذب العناصر الكيماوية بعضها بعضا (مثال ذلك عنصر الصوديم فإنه يجتذب إليه الأكسجين من
الماء فيحلله) ولا نقول إن جميع الشهب تنقض لهذا السبب، بل منها ما ينقض لأسباب أخرى. كاجتذاب بعض الأجرام السماوية له. ومنها ما ينقض لإهلاك الشياطين، كما بينا هنا. والشياطين مخلوقة من مواد غازية كانت ملتهبة والجان خلقناه من قبل من نار السموم [الحجر: 27] والمراد (بالسماء الدنيا) في هذه الآية الفضاء المحيط بنا القريب منا. أي هذا الجو الذي نشاهده وفيه العوالم كلها.
أما ما وراءه من الجواء البعيدة عنا، التي لا يمكن أن نصل إليها بأعيننا ولا بمناظيرنا، فهو فضاء محض لا شيء فيه. فلفظ (السماء) له معان كثيرة كلها ترجع إلى معنى السمو. وتفسر في كل مقام بحسبه.
ثم قال: فكل مسألة جاء بها القرآن حق، لا يوجد في العلم الطبيعي ما يكذبها. لأنه وحي الله حقا، والحق لا يناقضه الحق سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد [فصلت: 53] .
وقال أيضا: يعتقد الآن علماء الفلك أن أكثر الشهب تنشأ من ذوات الأذناب.
ويحتمل أن بعضها ناشئ من بعض الشموس المنحلة، أو الباقية الملتهبة، أو من براكين بعض السيارات، أو مما لم ينطفئ من السيارات للآن. ومتى علمنا أن ذوات الأذناب والسيارات جميعا مشتقة من الشموس، كان مصدر جميع الشهب هو الشموس أو النجوم.
(قال) : وهذا يفهمنا معنى هذه الآية. اه كلامه.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير [الملك: 5] ، وقوله عز وجل:
ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين [الحجر: 16- 18] ، وقوله سبحانه إخبارا عن الجن: وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [الجن: 8- 9] .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #516  
قديم 25-02-2025, 03:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الصافات
المجلد الرابع عشر
صـ 5031 الى صـ 5040
الحلقة (516)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 11]
فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب (11)
فاستفتهم أي فاستخبر مشركي مكة أهم أشد خلقا أي أقوى خلقة
وأمتن بنية أم من خلقنا أي من السموات والأرض والجبال. كقوله تعالى: أأنتم أشد خلقا أم السماء [النازعات: 27] الآية، وقوله لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [غافر: 57] ، وفي اضطرارهم إلى الجواب بصغر خلقهم وتضاؤله عما ذكر، اعتراف بأنه لا يتعالى عليه أمر بعد هذا. كشأن البعث وغيره.
وإليه الإشارة بقوله تعالى: إنا خلقناهم من طين لازب أي لزج ضعيف لا قوة فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 12]
بل عجبت ويسخرون (12)
بل عجبت أي من إنكارهم للبعث بعد اضطرارهم للاعتراف بما يحققه ويسخرون أي من تقرير أمر البعث والاحتجاج عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 13]
وإذا ذكروا لا يذكرون (13)
وإذا ذكروا أي بما يؤيده، أو وعظوا وخوفوا من المخالفة لا يذكرون أي ما يقتضيه؟ لتعنتهم وعنادهم. أو لا يخافون ولا يتعظون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 14]
وإذا رأوا آية يستسخرون (14)
وإذا رأوا آية أي برهانا واحتجاجا على مصداقه، من آيات الكائنات في أنفسهم أو في الآفاق يستسخرون أي يبالغون في السخرية، بدل الاعتبار والتدبر والتفكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 15]
وقالوا إن هذا إلا سحر مبين (15)
وقالوا إن هذا أي ادعاء ما ذكر، والاستدلال عليه والصدع بشأنه، والقراع فيه إلا سحر مبين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 16 الى 18]
أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون (16) أوآباؤنا الأولون (17) قل نعم وأنتم داخرون (18)
أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون قل أي تبكيتا لهم.
نعم أي تبعثون وأنتم داخرون أي ذليلون، لا جدل منكم يدفعه ولا قدرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 19]
فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون (19)
فإنما هي أي البعثة زجرة واحدة أي صيحة واحدة فإذا هم ينظرون أي قيام من مراقدهم أحياء، أولو قوة مدركة، بها يبصرون. أو ينتظرون ما يفعل بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 20]
وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين (20)
وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين أي الجزاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 21 الى 22]
هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون (21) احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون (22)
هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا أي أنفسهم بالكفر والمعاصي والسعي بالفساد وأزواجهم أي وأشباههم من الفجرة. أو نساءهم الكافرات وما كانوا يعبدون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 23]
من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم (23)
من دون الله أي من الأصنام وغيرها، زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم فاهدوهم إلى صراط الجحيم أي فعرفوهم طريقها ليسلكوها. والتعبير ب (الهداية) و (الصراط) للتهكم بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 24]
وقفوهم إنهم مسؤلون (24)
وقفوهم أي احبسوهم في الموقف إنهم مسؤلون أي عن عقائدهم وأعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 25]
ما لكم لا تناصرون (25)
ما لكم لا تناصرون أي لا ينصر بعضكم بعضا، وقد كان شأنكم التعاضد في الحياة الأولى، وهو توبيخ لهم وتقريع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 26]
بل هم اليوم مستسلمون (26)
بل هم اليوم مستسلمون أي منقادون مخذولون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 28]
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (27) قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين (28)
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين أي عن القهر والغلبة. أي كنتم تضطرونا إلى ما تدعونا إليه. كما في آية وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا [سبأ: 33] ، وقيل عن الحلف والقسم. وقيل عن جهة الخير وناحية الحق.
من (اليمن) ضد الشؤم. أي توهمونا وتخدعونا أن ما أنتم عليه أمر ميمون فيه الخير والفوز فأين مصداقه وقد نزل ما نزل؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 29 الى 35]
قالوا بل لم تكونوا مؤمنين (29) وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين (30) فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون (31) فأغويناكم إنا كنا غاوين (32) فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون (33)
إنا كذلك نفعل بالمجرمين (34) إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (35)
قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون أي عن الاستجابة للداعي إليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 36]
ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون (36)
ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون أي لقول من يقول بالمقدمات الخيالية عن الجنون. فرد عليهم بأنه لم يأت بكلام مخيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 37]
بل جاء بالحق وصدق المرسلين (37)
بل جاء بالحق وصدق المرسلين أي الذين هم أعقل الأمم وأحكم الحكماء.
فمتى يتفقون على قول مصدره الجنون؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 38 الى 44]
إنكم لذائقوا العذاب الأليم (38) وما تجزون إلا ما كنتم تعملون (39) إلا عباد الله المخلصين (40) أولئك لهم رزق معلوم (41) فواكه وهم مكرمون (42)
في جنات النعيم (43) على سرر متقابلين (44)
إنكم أي بافترائكم لذائقوا العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم على سرر متقابلين أي في الصف مترائين، لا يحجب بعضهم عن بعض، ولا يتفاضلون في المقاعد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 45]
يطاف عليهم بكأس من معين (45)
يطاف عليهم بكأس من معين أي شراب معين، جار كالنهر لا ينقطع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 46 الى 47]
بيضاء لذة للشاربين (46) لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون (47)
بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول أي ما يغتال العقل، ولا فساد من فساد خمر الدنيا ولا هم عنها ينزفون أي تذهب عقولهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 48 الى 49]
وعندهم قاصرات الطرف عين (48) كأنهن بيض مكنون (49)
وعندهم قاصرات الطرف أي على أزواجهن أو مبيضاته تشبيها بالثوب المقصور، وهو المحور. عين أي كبار الأعين كأنهن بيض مكنون أي بيض نعام في الصفاء، مستور لم يركب عليه غبار.
قال الشهاب: وهذا على عادة العرب في تشبيه النساء بها. وخصت ببيض النعام، لصفائه وكونه أحسن منظرا من سائره. ولأنها تبيض في الفلاة وتبعد ببيضها عن أن يمس. ولذا قالت العرب للنساء (بيضات الخدور) ولأن بياضه يشوبه قليل صفرة مع لمعان، كما في الدر. وهو لون محمود جدا. إذ البياض الصرف غير محمود. وإنما يحمد إذا شابه قليل حمرة في الرجال، وصفرة في النساء. انتهى.
وحكى ابن جرير عن ابن عباس أنه عنى بالبيض المكنون (اللؤلؤ) .
ثم قال: والعرب تقول لكل مصون (مكنون) لؤلؤا كان أو غيره. كما قال أبو دهبل:
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغواص ميزت من جوهر مكنون
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 50]
فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (50)
فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون معطوف على (يطاف) والمعنى، يشربون فيتحادثون على الشراب، كعادة أهل الشرب، عما جرى لهم وعليهم.
وقال القاشاني: أي يتحادثون أحاديث أهل الجنة والنار، ومذاكرة أحوال السعداء والأشقياء، مطلعين على كلا الفريقين وما هم فيه من الثواب والعقاب، كما ذكر في وصف أهل الأعراف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 51 الى 53]
قال قائل منهم إني كان لي قرين (51) يقول أإنك لمن المصدقين (52) أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون (53)
قال قائل منهم أي في المحادثة إني كان لي قرين أي جليس في الدنيا
يقول أإنك لمن المصدقين أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون أي لمبعوثون فمجزيون. أي يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب. والمعنى: فهنا قد صدقنا ربنا وعده، وأحل بالقرين وعيده. كما أشار بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 54]
قال هل أنتم مطلعون (54)
قال أي ذلك القائل هل أنتم مطلعون أي إلى أهل النار من كوى الجنة ومطالها، لأريكم ذلك القرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 55 الى 57]
فاطلع فرآه في سواء الجحيم (55) قال تالله إن كدت لتردين (56) ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين (57)
فاطلع فرآه في سواء الجحيم أي وسطه قال تالله إن كدت لتردين أي لتهلكني بالإغواء ولولا نعمة ربي أي بالهداية واللطف بي لكنت من المحضرين أي معك في النار. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 58 الى 59]
أفما نحن بميتين (58) إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين (59)
أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين من تتمة كلامه لقرينه، تقريعا له. أو معاودة إلى محادثة جلسائه، تحدثا بنعمة الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 60 الى 61]
إن هذا لهو الفوز العظيم (60) لمثل هذا فليعمل العاملون (61)
إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون أي لنيل مثله، فليجد المجدون.
ولما وصف ملاذ أهل الجنة، تأثره بمطاعم أهل النار، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 62]
أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم (62)
أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم وهي شجرة كريهة المنظر والطعم، كما ستذكر صفتها.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #517  
قديم 25-02-2025, 03:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الصافات
المجلد الرابع عشر
صـ 5041 الى صـ 5050
الحلقة (517)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 63 الى 65]
إنا جعلناها فتنة للظالمين (63) إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم (64) طلعها كأنه رؤس الشياطين (65)
إنا جعلناها فتنة أي محنة وعذابا للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها أي حملها كأنه رؤس الشياطين أي مثل ما يتخيل ويتوهم من قبح رؤوس الشياطين، فهي قبيحة الأصل والثمر والمنظر والملمس. قال الزمخشري:
وشبه برءوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهية وقبح المنظر. لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير. فيقولون في القبيح الصورة (كأنه وجه شيطان) (كأنه رأس شيطان) وإذا صوره المصورون جاءوا بصورته على أقبح ما يقدر وأهوله. كما أنهم اعتقدوا في الملك أنه خير محض لا شر فيه. فشبهوا به الصورة الحسنة. قال الله تعالى: ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم [يوسف: 31] ، وهذا تشبيه تخييلي. انتهى. أي لأمر مركوز في الخيال.
وبه يندفع ما يقال إنه تشبيه بما لا يعرف، وذلك لأنه لا يشترط أن يكون معروفا في الخارج. بل يكفي كونه مركوزا في الذهن والخيال. ألا ترى امرأ القيس- وهو ملك الشعراء- يقول:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهو لم ير الغول. والغول نوع من الشياطين، لأنه في خيال كل أحد مرتسم بصورة قبيحة، وإن كان قابلا للتشكل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 66]
فإنهم لآكلون منها فمالؤن منها البطون (66)
فإنهم لآكلون منها أي من طلعها فمالؤن منها البطون أي لغلبة الجوع أو الإكراه على أكلها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 67]
ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم (67)
ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم أي لشرابا كالصديد أو الغساق، ممزوجا من ماء متناه في الحرارة، يقطع أمعاءهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 68]
ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم (68)
ثم إن مرجعهم أي مصيرهم لإلى الجحيم أي إلى دركاتها. أو إلى نفسها لا مفر لهم منها ولا محيص كيفما تحولوا. قال ابن كثير: أي ثم إن مردهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج وسعير تتوهج. فتارة في هذا وتارة في هذا. كما قال تعالى:
يطوفون بينها وبين حميم آن هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية. وهو تفسير حسن قوي. انتهى.
ومن لطائف الإشارات في هذه الآية، ما قاله القاشاني. وعبارته: إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم وهي شجرة النفس الخبيثة المحجوبة النابتة في قعر جهنم المتشعبة أغصانها في دركاتها القبيحة الهائلة ثمراتها من الرذائل والخبائث كأنها من غاية القبح والتشوه والخبث بالتنفر رؤس الشياطين أي تنشأ منها الدواعي المهلكة والنوازع المردية الباعثة على الأفعال القبيحة والأعمال السيئة. فتلك أصول الشيطنة ومبادئ الشر والمفسدة، فكانت رؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها يستمدون منها ويتغذون ويتقوون، فإن الأشرار غذاؤهم من الشرور ولا يلتذون إلا بها فمالؤن منها البطون بالهيئات الفاسقة والصفات المظلمة، كالممتلئ غضبا وحقدا وحسدا وقت هيجانها ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم الأهواء الطبيعية والمنى السيئة الرديئة، ومحبات الأمور السفلية، وقصور الشرور الموبقة، التي تكسر بعض غلة الأشرار ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم لغلبة الحرص والشره، بالشهوة والحقد والبغض والطمع وأمثالها. واستيلاء دواعيها مع امتناع حصول مباغيها.
انتهى.
وهذه الإشارات من المجازات التي تتسع لها اللغة. لأنها لا تنحصر في الحقيقة، ولا يقال إنها المرادة هنا، لنبؤها عن نظائرها من آيات الوعيد، والله أعلم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 69 الى 70]
إنهم ألفوا آباءهم ضالين (69) فهم على آثارهم يهرعون (70)
إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال. و (الإهراع) الإسراع الشديد كأنهم يزعجون على
الإسراع على آثارهم، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير نظر وبحث، بل مجرد تقليد وترك اتباع دليل. قال الرازي: ولو لم يوجد في القرآن آية غير هذه الآية في ذم التقليد، لكفى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 71 الى 72]
ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين (71) ولقد أرسلنا فيهم منذرين (72)
ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين أي أنبياء حذروهم العواقب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 73]
فانظر كيف كان عاقبة المنذرين (73)
فانظر كيف كان عاقبة المنذرين أي الذين أنذروا وخوفوا. فقد أهلكوا جميعا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 74]
إلا عباد الله المخلصين (74)
إلا عباد الله المخلصين أي الذين أخلصوا دينهم لله. أو الذين أخلصهم تعالى لدينه. على القراءتين. أي فإنه تعالى نصرهم وجعل العاقبة لهم. ثم أشار تعالى إلى أنبائهم، تثبيتا لفؤاده صلوات الله عليه. وتبشيرا لأتباعه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 77]
ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون (75) ونجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) وجعلنا ذريته هم الباقين (77)
ولقد نادانا نوح أي بقوله رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [نوح: 26] ، فلنعم المجيبون أي نحن بهلاك قومه. لأنه لا يجيب المضطر غيره.
ونجيناه وأهله من الكرب العظيم أي من الغرق والطوفان. والمراد بأهله، من آمن معه وجعلنا ذريته هم الباقين أي في الأرض بعد هلاك قومه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 78 الى 79]
وتركنا عليه في الآخرين (78) سلام على نوح في العالمين (79)
وتركنا عليه في الآخرين أي أبقينا عليه في الأمم بعده ثناء حسنا، فمفعول (تركنا) محذوف، أو ما حكاه تعالى بقوله سلام على نوح في العالمين أي أن يسلموا عليه إلى يوم القيامة. أي أن يقولوا هذه الجملة. قال السمين: قوله سلام على نوح مبتدأ وخبر. وفيه أوجه: أحدها أنه مفسر ل (تركنا) والثاني أنه مفسر لمفعوله. أي تركنا عليه شيئا وهو هذا الكلام. أو ثم قول مقدر. أي فقلنا سلام. أو ضمن (تركنا) معنى (قلنا) أو سلط (تركنا) على ما بعده. وقرئ (سلاما) وهو مفعول به ل (تركنا) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 80]
إنا كذلك نجزي المحسنين (80)
إنا كذلك نجزي المحسنين تعليل لما أثيب به من التكرمة، بأنه مجازاة له على إحسانه، وهو مجاهدته في إعلاء كلمة الله، والدعوة إلى الحق ليلا ونهارا، سرا وجهارا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 81]
إنه من عبادنا المؤمنين (81)
إنه من عبادنا المؤمنين أي المصدقين، وتعليل إحسانه بالإيمان، إظهار لفضل الإيمان ومزيته. حيث مدح من هو من كبار الرسل به. فالمقصود بالصفة مدحها نفسها، لا مدح موصوفها. وذلك لأن الإيمان أساس لكل خير يوجد، ومركز لدائرته، ومسك خاتمته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 82]
ثم أغرقنا الآخرين (82)
ثم أغرقنا الآخرين أي من كفار قومه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 83]
وإن من شيعته لإبراهيم (83)
وإن من شيعته لإبراهيم أي ممن شايعه وتابعه في الإيمان والدعوة القوية إلى التوحيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 84]
إذ جاء ربه بقلب سليم (84)
إذ جاء ربه بقلب سليم أي أقبل إلى توحيده بقلب خالص من الشوائب، باق على الفطرة، سليم عن النقائص والآفات، محافظ على عهد التوحيد الفطري، منكر على من غير وبدل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 85]
إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون (85)
إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أي من دون الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 86]
أإفكا آلهة دون الله تريدون (86)
أإفكا آلهة دون الله تريدون أي أتريدون بطريق الكذب، آلهة دون الله؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 87]
فما ظنكم برب العالمين (87)
فما ظنكم برب العالمين أي بمن هو الحقيق بالعبادة، لكونه ربا للعالمين، حتى تركتم عبادته وأشركتم به غيره، والمعنى: لا يقدر في وهم ولا ظن ما يصد عن عبادته. لأن استحقاقه للعبادة أظهر من أن يختلج عرق شبهة فيه. فأنكر ظنهم الكائن في بيان استحقاقه للعبادة. وهو الذي حملهم على عبادة غيره. أو المعنى: فما ظنكم به؟ ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟ وعلى كل، فالاستفهام إنكاري. والمراد من إنكار الظن إنكار ما يقتضيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 88]
فنظر نظرة في النجوم (88)
فنظر نظرة في النجوم أي ليريهم على أنه يستدل بها على شيء لأنهم كانوا منجمين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 89]
فقال إني سقيم (89)
فقال إني سقيم أي مريض لا يمكنني الخروج معكم إلى معيدكم. ترخص عليه السلام بذلك. ليتخلص من شهود زورهم ومنكراتهم وأفانين شركهم، مما تجوزه المصلحة. أو عنى أنه سقيم القلب. تشبيها لغمه وحزنه بالمرض، على طريق التشبيه. أو أراد أنه مستعد للموت استعداد المريض. فهو استعارة أو مجاز مرسل.
قال الزمخشري: والذي قاله إبراهيم عليه السلام، معراض من الكلام. ولقد نوى به ان من في عنقه الموت، سقيم. ومنه المثل (كفى بالسلامة داء) وقول لبيد:
فدعوت ربي بالسلامة جاهدا ... ليصحني، فإذا السلامة داء
ومات رجل فجأة، فالتف عليه الناس وقالوا: مات وهو صحيح. فقال أعرابي:
أصحيح من الموت في عنقه؟ انتهى.
وقال السيوطي في (الإكليل) : في الآية استعمال المعاريض والمجاز للمصلحة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 90]
فتولوا عنه مدبرين (90)
فتولوا عنه مدبرين أي إلى معيدهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 91]
فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون (91)
فراغ إلى آلهتهم أي ذهب إليها في خفية فقال أي للأصنام استهزاء ألا تأكلون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 92 الى 96]
ما لكم لا تنطقون (92) فراغ عليهم ضربا باليمين (93) فأقبلوا إليه يزفون (94) قال أتعبدون ما تنحتون (95) والله خلقكم وما تعملون (96)
ما لكم لا تنطقون أي بإيجاب ولا سلب فراغ عليهم أي هجم عليهم ضربا باليمين أي التي هي أقوى الباطشتين، فكسرها. فأقبلوا إليه أي إلى إبراهيم بعد ما رجعوا يزفون أي يسرعون لمعاتبته على ما صدر منه. فأخذ عليه السلام يبرهن لهم على فساد عبادتهم قال أتعبدون ما تنحتون أي من الأصنام والله خلقكم وما تعملون أي وما تعملونه من الأصنام المنوعة الأشكال، المختلفة المقادير. ولما قامت عليهم الحجة، عدلوا إلى أخذه باليد والقهر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 97 الى 98]
قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم (97) فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين (98)
قالوا ابنوا له أي لإحراقه بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين أي الأذلين بإبطال كيدهم. جعل النار عليه بردا وسلاما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 99]
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين (99)
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين أي مهاجر إلى بلد أعبد فيه ربي، وأعصم فيه ديني. قال الرازي: فيه دليل على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء، تجب مهاجرته. وذلك لأن إبراهيم عليه السلام، مع ما خصه تعالى به من أعظم أنواع النصرة، لما أحس من قومه العداوة الشديدة، هاجر. فلأن يجب على غيره. بالأولى.
وقوله: سيهدين أي إلى ما فيه صلاح ديني، أو إلى مقصدي. وإنما بت القول لسبق وعده تعالى. إذ تكفل بهدايته. أو لأن من كان مع الله كان الله معه «1» (احفظ الله يحفظك) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 100 الى 101]
رب هب لي من الصالحين (100) فبشرناه بغلام حليم (101)
رب هب لي من الصالحين أي ولدا صالحا يعينني على الدعوة والطاعة فبشرناه بغلام حليم أي متسع الصدر حسن الصبر والإغضاء في كل أمر، والحلم رأس الصلاح وأصل الفضائل.
(1)
أخرجه الترمذي في: القيامة، 59- باب حدثنا بشر بن هلال.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 102]
فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (102)
فلما بلغ معه السعي أي السن الذي يقدر فيه على السعي والعلم قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى أي: إني أمرت في المنام بذبحك- ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة- فانظر هل تصبر على إمضائي أمر الرؤيا والعمل بظاهرها؟ قال يا أبت افعل ما تؤمر، أي يأمرك الله به. فإن كان ذاك أمرا من لدنه فأمضه. قال القاضي: ولعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأمورا به. أو علم أن رؤيا الأنبياء حق، وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر، ثم قال: ولعل الأمر في المنام دون اليقظة، لتكون مبادرتهما إلى الامتثال، أدل على كمال الانقياد والإخلاص. انتهى.
قال الرازي: الحكمة في مشاورة الابن في هذا الباب، أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة الله، فتكون فيه قرة عين لإبراهيم، حيث يراه قد بلغ في الحلم إلى هذا الحد العظيم. وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية. ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة، والثناء الحسن في الدنيا. وقوله:
ستجدني إن شاء الله من الصابرين أي على الذبح، أو على قضاء الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 103]
فلما أسلما وتله للجبين (103)
فلما أسلما أي استسلما وانقادا لأمره تعالى بدون إبطاء، واستل إبراهيم السكين، وتله للجبين أي صرعه على شقه، فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة. و (تله) أصل معناه: رماه على التل، وهو التراب المجتمع. ك (تربه) . ثم عم لكل صرع.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #518  
قديم 25-02-2025, 03:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الصافات
المجلد الرابع عشر
صـ 5051 الى صـ 5060
الحلقة (518)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 104 الى 105]
وناديناه أن يا إبراهيم (104) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين (105)
وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا أي لا تذبحه وقد قمت بمصداقها في بذل الوسع من الأخذ بإمضاء ما تشير إليه وكمال الطاعة في هذا الشاق. وأوتيت
أجر الامتثال والصبر والثبات. وفي جواب (لما) ثلاثة أوجه، أظهرها أنه محذوف.
أي نادته الملائكة. أو ظهر صبرهما. أو أجزلنا لهما أجرهما، الثاني في أنه وتله للجبين بزيادة (الواو) وهو رأي الكوفيين والأخفش. الثالث أنه وناديناه والواو زائدة أيضا. إنا كذلك نجزي المحسنين أي باللطف والعناية والنداء والوحي والفرج بعد الشدة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 106]
إن هذا لهو البلاء المبين (106)
إن هذا لهو البلاء المبين أي الاختيار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره. إشارة إلى أن هذا الأمر كان ابتلاء وامتحانا لإبراهيم في صدق الخلة لله، وتضحية أعز عزيز لديه، وأحب محبوب عنده، لأمر ربه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 107]
وفديناه بذبح عظيم (107)
وفديناه بذبح عظيم أي رزقناه ما يذبح بدلا عنه وفداء له، منة وتطولا. وقد روي أنه عليه السلام لما نودي، حانت منه التفاتة إلى ما حوله، فأبصر كبشا قد انتشب قرناه في شجرة. فتم به المرئي في المنام المقصود به القربان لله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 108 الى 113]
وتركنا عليه في الآخرين (108) سلام على إبراهيم (109) كذلك نجزي المحسنين (110) إنه من عبادنا المؤمنين (111) وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين (112)
وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين (113)
وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم أي مثل ما تركنا على نوح. كما تقدم بيانه وإعرابه كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه أي على إبراهيم وعلى إسحاق أي: بتكثير الذرية وتسلسل النبوة فيهم، وجعلهم ملوكا، وإيتائهم ما لم يؤت أحد ومن ذريتهما محسن أي في علمه وظالم لنفسه أي بالكفر والمعاصي مبين أي ظاهر الظلم.
تنبيهات:
الأول- يروي المفسرون هاهنا في قصة الذبح روايات منكرة لم يصح سندها ولا متنها: بل ولم تحسن، فهي معضلة تنتهي إلى السدي وكعب. والسدي حاله معلوم في ضعف مروياته. وكذلك كعب.
قال ابن كثير رحمه الله: لما أسلم كعب الأحبار في الدولة العمرية، جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديما: فربما استمع له عمر. فترخص الناس في استماع ما عنده عنه، غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة حاجة إلى حرف واحد مما عنده. انتهى.
ولقد صدق رحمه الله. ولذا لا نرى التزيد على أصل ما قص في التنزيل من الضروري له، إلا إذا صح سنده، أو اطمأن القلب به. وقد ولع الخطباء في دواوينهم برواية هذه القصة في خطبة الأضحى من طرقها الواهية عند المحدثين. ويرونها ضربة لازب على ضعف سندها وكون متنها منكرا أيضا أو موضوعا. ولما صنفت مجموعة الخطب حذفت هذه الرواية من خطبة الأضحى ككل مروي ضعيف في فضائل الشهور والأوقات، واقتصرت على جياد الأخبار والآثار. وذلك من فضل الله علينا فلا نحصي ثناء عليه. وأمثل ما
روي في هذا النبأ من الآثار ما أخرجه الإمام أحمد «1» عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا، قال: لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك، عرض له الشيطان عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة. فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب. ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، ثم تله للجبين، وعلى إسماعيل عليه السلام قميص أبيض. فقال له: يا أبت! إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه. فعالجه ليخلصه، فنودي من خلفه: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين، قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش.
الثاني- قال السيوطي في (الإكليل) : في هذه الآية أن رؤيا الأنبياء وحي، وجواز نسخ الفعل قبل التمكن، وتقديم المشيئة في كل قول. واستدل بعضهم بهذه القصة على أن من نذر ذبح ولده، لزمه ذبح شاة.
(1)
أخرجه في المسند 1/ 297. والحديث رقم 7 ر 27. []

ثم قال السيوطي: فسر الذبح العظيم في الأحاديث والآثار بكبش. فاستدل به المالكية على أن الغنم في التضحية أفضل من الإبل. انتهى.
الثالث- استدل بالآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه- كما ذكره الرازي- وذلك في باب الابتلاء. أي ابتلاء المأمور في إخلاصه وصدقه، فيما يشق على النفس تحمله.
الرابع- يذكر كثير الخلاف في الذبيح، قال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) :
وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا القول إنما هو متلقى من أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم. فإن فيه إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه (بكره) . وفي لفظ (وحيده) ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده. والذي غر وأصحاب هذا القول إن في التوراة التي بأيديهم (اذبح ابنك إسحاق) قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم. لأنهم تناقض قوله (بكرك) (وحيدك) ولكن يهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختارونه دون العرب. ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله. وكيف يسوغ أن يقال إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [هود: 70- 71] ، فمحال أن يبشرها بأنه يكون له ولد ثم يأمر بذبحه. ولا ريب أن يعقوب داخل في البشارة. فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ الواحد. وهذا ظاهر الكلام وسياقه. فإن قيل، لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجرورا عطفا على إسحاق، فكانت القراءة ومن وراء إسحاق يعقوب أي ويعقوب من وراء إسحاق.
قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشرا به. لأن البشارة قول مخصوص: وهي أول خبر سار صادق. وقوله: ومن وراء إسحاق يعقوب جملة متضمنة بهذه القيود، فيكون بشارة بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية. أو لما كانت البشارة قولا، كان موضع هذه الجملة نصبا على الحكاية بالقول. كأن المعنى: وقلنا لها من وراء إسحاق يعقوب والقائل إذا قال: بشرت فلانا بقدوم أخيه، وثقله في أثره، لم يعقل منه إلا بشارة بالأمرين جميعا. هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة. ثم يضعف الجر
أمر آخر، وهو ضعف قولك (مررت بزيد ومن بعده عمرو) لأن العاطف يقوم حرف الجر، فلا يفصل بينه وبين المجرور: كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور، ويدل عليه أنه سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه في هذه السورة، قال: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين [الصافات: 103- 111] ، ثم قال: وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [الصافات: 112] ، فهذا بشارة من الله له، شكرا على صبره على ما أمر به. وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول. بل هو كالنص فيه. فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته. أي لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله، جازاه الله على ذلك، بأن أعطاه النبوة. قيل: البشارة وقعت على المجموع، على ذاته ووجوده وأن يكون نبيا. ولهذا ينصب نبيا على الحال المقدر أي مقدرا نبوته. فلا يمكن إخراج البشارة أن يقع على الأصل، ثم يخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة. هذا محال من الكلام. بل إذا وقع البشارة على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى، وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر. كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله. ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة، دون إسحاق وأمه. ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل. وكان النحر بمكة، من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا. ولو كان الذبح بالشام، كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم، لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة. وأيضا فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليما لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه. ولما ذكر إسحاق سماه عليما فقال: هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون
[الذاريات:
24-
25]
إلى أن قال قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم [الذاريات: 28] ، وهذا إسحاق بلا ريب، لأنه من امرأته وهي المبشرة به. وأما إسماعيل فمن السرية. وأيضا فإنهما بشرا به على الكبر واليأس من الولد. وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك. وأيضا فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده. وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلا. والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وأن لا

يشارك بينه وبين غيره فيها. فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل، فأمره الجليل بذبح المحبوب. فلما أقدم على ذبحه، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة. إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس فيه، فقد حصل المقصود، فنسخ الأمر، وفدي الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرب. ومعلوم أن هذا الامتحان والاختيار. إنما حصل عند أول مولود.
ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول. بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة، ما يقتضي الأمر بذبحه. وهذا في غاية الظهور. وأيضا فإن سارة امرأة الخليل غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة. فإنها كانت جارية. فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة. فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة، ليبرد عن سارة حرارة الغيرة. وهذا من رحمته ورأفته. فكيف يأمره سبحانه بعد هذا، أن يذبح ابنها، ويدع ابن الجارية بحاله هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وخيرته لها. فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟ بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية، فحينئذ يرق قلب الست على ولدها. وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتا، هذه وابنها منهم، ويرى عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة. وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم، إلى ذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه، من جعل آثارهما وموطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة. وهذا سنته تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه، أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره. قال تعالى: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين [القصص: 5] ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [الحديد: 21] ، انتهى.
وقال السيوطي في (الإكليل) : واستدل بقوله تعالى بعد وبشرناه بإسحاق [الصافات: 112] ، من قال إن الذبيح إسماعيل. وهو الذي رجحه جماعة. واحتجوا له بأدلة. منها وصفه بالحلم وذكر البشارة بإسحاق بعده. والبشارة بيعقوب من وراء إسحاق. وغير ذلك، وهي أمور ظنية لا قطعية، ثم قال: وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضي القطع أو يقرب منه- ولم أر من سبقني إلى استنباطه- وهو أن البشارة وقعت مرتين. مرة في قوله تعالى: إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني
أذبحك
[الصافات: 99- 102] ، فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح. ومرة في قوله: وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [هود: 71] الآية. فقد صرح فيها أن المبشر به إسحاق. ولم يكن بسؤال من إبراهيم. بل قالت امرأته إنها عجوز. وإنه شيخ. وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط وهو في آخر أمره. أما البشارة الأولى لما انتقل من العراق إلى الشام، حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد، ولذلك سأله. فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين، بغلامين. أحدهما بغير سؤال، وهو إسحاق صريحا. والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره. فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 114]
ولقد مننا على موسى وهارون (114)
ولقد مننا على موسى وهارون أي بالنبوة والرسالة، والاصطفاء على عالمي زمانهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 115]
ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم (115)
ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم وهو قهر فرعون لهم، بذبح الأولاد ونهاية الاستعباد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 116]
ونصرناهم فكانوا هم الغالبين (116)
ونصرناهم فكانوا هم الغالبين أي مع ضعفهم وقوة فرعون وقومه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 117]
وآتيناهما الكتاب المستبين (117)
وآتيناهما الكتاب المستبين أي البليغ في بيانه للأحكام والتشريعات، والآداب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 118]
وهديناهما الصراط المستقيم (118)
وهديناهما الصراط المستقيم أي في باب الاعتقاد والمعاملات الموصل
رعايته والسلوك عليه، إلى السعادة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 119 الى 123]
وتركنا عليهما في الآخرين (119) سلام على موسى وهارون (120) إنا كذلك نجزي المحسنين (121) إنهما من عبادنا المؤمنين (122) وإن إلياس لمن المرسلين (123)
وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين وإن إلياس لمن المرسلين وهو من أنبياء بني إسرائيل من بعد زمن سليمان. أرسله الله لما انتشرت الوثنية في الإسرائيليين، وساعد على انتشارها بينهم ملوكهم، وبنوا لها المذابح وعبدوها من دون الله تعالى، ونبذوا أحكام التوراة ظهريا. فقام إلياس عليه السلام يوبخهم على ضلالهم ويدعوهم إلى التوحيد، ويسمى في التوراة (إيليا) وله نبأ فيها كبير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 124]
إذ قال لقومه ألا تتقون (124)
إذ قال لقومه ألا تتقون أي عذاب الله ونقمته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 125]
أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين (125)
أتدعون بعلا أي تعبدونه أو تطلبون الخير منه؟ وهو صنم من أصنام الفينيقيين، أقاموا له ولغيره من الأوثان معابد ومذابح وكهنة، يعظمون من شأنهم ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة. ويقدمون لهم ضحايا بشرية وتذرون أحسن الخالقين أي تتركون عبادته. قال القاضي: وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار، المعني بالهمزة. ثم صرح به بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 126 الى 127]
الله ربكم ورب آبائكم الأولين (126) فكذبوه فإنهم لمحضرون (127)
الله ربكم ورب آبائكم الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون أي في العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 128 الى 130]
إلا عباد الله المخلصين (128) وتركنا عليه في الآخرين (129) سلام على إل ياسين (130)
إلا عباد الله المخلصين أي الذين آمنوا به واتبعوه وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة ب (ياسين) . وقرئ آل ياسين بإضافة آل (بمعنى أهل) إليه. وكله من التصرف في العلم الأصلي، الذي هو (إيليا) على قاعدة العرب في الأعلام العجمية، إذا أرادت أن تلفظها في الاستعمال، وتخففها على الألسنة.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #519  
قديم 25-02-2025, 03:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الصافات
المجلد الرابع عشر
صـ 5061 الى صـ 5070
الحلقة (519)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 131 الى 134]
إنا كذلك نجزي المحسنين (131) إنه من عبادنا المؤمنين (132) وإن لوطا لمن المرسلين (133) إذ نجيناه وأهله أجمعين (134)
إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وإن لوطا لمن المرسلين أي للدعاء إلى الله والنهي عن الفواحش إذ نجيناه وأهله أجمعين أي من عذاب قومه المنذرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 135]
إلا عجوزا في الغابرين (135)
إلا عجوزا وهي امرأته، فإنها وإن خرجت عن مكان عذابهم، كانت في الغابرين أي في حكم الباقين في العذاب، لكونها على دين قومها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 136]
ثم دمرنا الآخرين (136)
ثم دمرنا
أي أهلكنا الآخرين
بجعل قريتهم عاليها سافلها، وإمطار حجارة من سجيل عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 137 الى 139]
وإنكم لتمرون عليهم مصبحين (137) وبالليل أفلا تعقلون (138) وإن يونس لمن المرسلين (139)
وإنكم
أي يا أهل مكة لتمرون عليهم مصبحين
وبالليل
أي فترون دائما علامات مؤاخذتهم أفلا تعقلون وإن يونس لمن المرسلين
أي إلى أهل نينوى للتوحيد، والزجر عن ارتكاب المآثم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 140]
إذ أبق إلى الفلك المشحون (140)
إذ أبق
أي: بغير إذن ربه عن قومه المرسل إليهم إلى الفلك المشحون
أي السفينة المملوءة، ليركب منها إلى بلد آخر. روي أنه نزل من يافا وركب الفلك إلى ترسيس. فهبت ريح شديدة كادت تغرقهم. فاقترعوا ليعلموا بسبب من، أصابهم هذا البلاء. فوقعت على يونس. فألقوه في البحر. وهو معنى قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 141]
فساهم فكان من المدحضين (141)
فساهم
أي قارع فكان من المدحضين
أي المغلوبين بالقرعة. وأصله الزلق عن الظفر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 142]
فالتقمه الحوت وهو مليم (142)
فالتقمه الحوت أي ابتلعه وهو مليم أي آت بما يلام عليه من السفر بغير أمر ربه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 143]
فلولا أنه كان من المسبحين (143)
فلولا أنه كان من المسبحين أي الذاكرين الله بالتسبيح والإنابة والتوبة، في بطن الحوت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 144]
للبث في بطنه إلى يوم يبعثون (144)
للبث في بطنه إلى يوم يبعثون أي لكان بطنه قبرا له إلى يوم القيامة. أي لكن رحمناه بتسبيحه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 145]
فنبذناه بالعراء وهو سقيم (145)
فنبذناه بالعراء أي حملنا الحوت على طرحه باليبس من الشط وهو سقيم أي مما ناله من هذا المحبس الذي يأخذ بالخناق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 146]
وأنبتنا عليه شجرة من يقطين (146)
وأنبتنا عليه شجرة من يقطين أي لتقيه من الذباب والشمس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 147]
وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون (147)
وأرسلناه أي بعد ذلك، بأن أمرناه ثانية بالذهاب إلى مائة ألف أو يزيدون وهم قومه المرسل إليهم، الذين أبق عن الذهاب إليهم أولا. و (أو) للإضراب. أو بمعنى الواو أو للشك بالنسبة إلى مرأى الناظر. أي إذا رآها الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر. والغرض الوصف بالكثرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 148]
فآمنوا فمتعناهم إلى حين (148)
فآمنوا أي فسار إليهم ودعاهم إلى الله، وأنذرهم عذابه إن يرجعوا عن الكفر والغي والضلال والفساد والإفساد. فأشفقوا من إنذاره واستكانوا لدعوته وآمنوا معه فمتعناهم إلى حين أي حين انقضاء آجالهم بالعيش الهني والمقام الأمين، ببركة الإيمان والعمل الصالح. وإنما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص من قوله: وتركنا عليه إلخ اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 149]
فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون (149)
فاستفتهم أي قريشا المنذرين بأنباء الرسل وقومهم ألربك البنات ولهم البنون
أي سلهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها. جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور، في قولهم (الملائكة بنات الله) مع كراهتهم الشديدة لهن، ووأدهم واستنكافهم من ذكرهن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 150]
أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون (150)
أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون أي حاضرون، حتى فاهوا بتلك العظيمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 151 الى 152]
ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152)
ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله أي صدر منه الولد. مع أن الولادة من خواص الأجسام القابلة للفساد وإنهم لكاذبون أي في مقالتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 153]
أصطفى البنات على البنين (153)
أصطفى البنات أي اختار الإناث على البنين أي الذكور.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 154]
ما لكم كيف تحكمون (154)
ما لكم أي: أي شيء عرض لعقولكم كيف تحكمون بنسبة الناقص إلى المقام الأعلى، وتخيركم الكامل.
لطيفة:
قال الزمخشري: قال قلت: أصطفى البنات بفتح الهمزة، استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد، فكيف صحت قراءة أبي جعفر بكسر الهمزة على الإثبات؟
قلت: جعله من كلام الكفرة، بدلا عن قولهم ولد الله وقد قرأ بها حمزة والأعمش رضي الله عنهما. وهذه القراءة، وإن كان هذا محملها، فهي ضعيفة.
والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها. وذلك قوله وإنهم لكاذبون وما لكم كيف تحكمون فمن جعلها للإثبات، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 155]
أفلا تذكرون (155)
أفلا تذكرون أي أنه منزه عن ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 156]
أم لكم سلطان مبين (156)
أم لكم سلطان مبين أي حجة واضحة وبرهان قاطع. ثم لا يجوز أن يكون ذلك عقليا، لاستحالته عند الفعل. فغايته أن يكون مأثورا عن أسفار مقدسة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 157]
فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين (157)
فأتوا بكتابكم
أي المسطور فيه ذلك عن وحي سماوي إن كنتم صادقين
أي في دعواكم. وهذا كقوله تعالى: أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون [الروم: 35] ، وفيه إشعار بأن المدار في الدعوى على البرهان البين. وأنها بدونه لا يقام لها وزن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 158]
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون (158)
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا أي قربا منه. قال مجاهد: قال المشركون:
الملائكة بنات الله تعالى. فقال أبو بكر رضي الله عنه: فمن أمهاتهن؟ قالوا: بنات سروات الجن. وكذا قال قتادة وابن زيد. ثم أشار إلى أن لا نسبة تقتضي النسب بوجه ما. عدا عن استحالة ذلك عقلا، بقوله: ولقد علمت الجنة أي المنسوب إليهم هذا النسب إنهم لمحضرون أي في النار يوم القيامة. لكون الجنة كالجن، علما في الأغلب للفرقة الفاسقة عن أمر ربها من عالم الشياطين. أي: فالمنسوب إليهم يتبرؤون من هذه النسبة، لما يعلمون من أنفسهم أنهم من أهل السعير، لا من عالم الأرواح الطاهرة، فما بال هؤلاء المشركين يهرفون بما لا يعرفون؟ وفسر بعضهم (الجنة) بالملائكة المحدث عنها قبل. والضمير في (إنهم) للكفرة. ولعل ما ذكرناه أولى، لخلوه عن تشتيت الضمائر، ولموافقته للأغلب من استعمال الجن والجنة.
وذلك فيما عدا الملائكة. وقلنا (الأغلب) لما سمع من إطلاق الجن في الملائكة.
قال الأعشى يذكر سليمان عليه السلام:
وسخر من جن الملائك تسعة ... قياما لديه يعملون محاربا
وقال الراغب: الجن يقال على وجهين: أحدهما للروحانيين المستترة عن الحواس كلها، بإزاء الإنس. فعلى هذا تدخل فيه الملائكة. وقيل: بل الجن بعض الروحانيين. وذلك أن الروحانيين ثلاثة: أخيار وهم الملائكة. وأشرار وهم الشياطين. وأوساط فيهم أخيار وأشرار، وهم الجن، ويدل على ذلك قوله تعالى:
قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن [الجن: 1] إلى قوله تعالى: ومنا القاسطون [الجن: 14] . انتهى.
ورد إطلاق الجن على الملائكة العلامة الفاسي في شرحه على (القاموس) فقال: تفسير الجن بالملائكة مردود. إذ خلق الملائكة من نور لا من نار كالجن.
والملائكة معصومون. ولا يتناسلون ولا يتصفون بذكورة وأنوثة، بخلاف الجن.
ولهذا قال الجماهير: الاستثناء في قوله تعالى: إلا إبليس [البقرة: 34] ، منقطع أو متصل. لكونه كان مغمورا فيهم، متخلقا بأخلاقهم. انتهى. وهو يؤيد ما ذهبنا إليه. وبيت الأعشى لا يصلح حجة، لفساد مصداقه. لأن سليمان لم تسخر الملائكة لتشيد له المباني. وليس ذلك من عملهم عليهم السلام. وقد مر الكلام على ذلك في تفسير سورة (سبأ) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 159]
سبحان الله عما يصفون (159)
سبحان الله عما يصفون أي من الولد والنسب. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 160]
إلا عباد الله المخلصين (160)
إلا عباد الله المخلصين استثناء من (المحضرين) الذين هم الجنة، متصل على القول الأول، أي المؤمنين منهم. ومنقطع على الثاني. أو استثناء منقطع من (واو) يصفون. هذا، وبقي وجه في الآية لم يذكروه. وهو أن يراد بالنسب المناسبة والمشاكلة في العبادة. ويراد بالجنة الملائكة. ويكون المراد من الآية الإخبار عمن
عبد الملائكة من العرب وجعلوهم ندا ومثلا له تعالى، وحكاية لضلال آخر لهم، غير ضلال دعواهم، أنهم بنات الله سبحانه، من عبادتهم له. مع أنهم عليهم السلام يعلمون أن هؤلاء الضالين محضرون في العذاب. والآية في هذا كآية ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن، أكثرهم بهم مؤمنون [سبأ: 40- 41] ، وكان السياق من هنا إلى آخر، كالسياق في طليعة السورة. كله في تقرير عبودية الملائكة له تعالى، وكونها من مخلوقاته الصافة لعبادته، فإنى تستحق الربوبية؟ والله أعلم. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 161]
فإنكم وما تعبدون (161)
فإنكم وما تعبدون عود إلى خطابهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 162]
ما أنتم عليه بفاتنين (162)
ما أنتم عليه بفاتنين أي مفسدين أحدا بالإغواء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 163]
إلا من هو صال الجحيم (163)
إلا من هو صال الجحيم أي ضال مثلكم. مستوجب للنار، قال ابن جرير:
يقول تعالى ذكره: فإنكم أيها المشركون بالله وما تعبدون من الآلهة والأوثان ما أنتم عليه بفاتنين أي ما أنتم على ما تعبدون من دون الله بمضلين أحدا، إلا من هو صال الجحيم أي من سبق في علمي أنه صال الجحيم. وقد قيل: إن معنى (عليه) به. انتهى.
ثم بين تعالى اعتراف الملائكة بالعبودية، للرد على عبدتهم، بقوله حاكيا عنهم:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 164]
وما منا إلا له مقام معلوم (164)
وما منا إلا له مقام معلوم أي في العبودية وتسخيره فيما يريده تعالى منه. لا
يتعدى فيه طوره، ولا يجاوز منه قدره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 165]
وإنا لنحن الصافون (165)
وإنا لنحن الصافون أي في أداء الطاعة ومنازل الخدمة التي نؤمر بها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 166]
وإنا لنحن المسبحون (166)
وإنا لنحن المسبحون أي المنزهون الله عما يصفه به الملحدون. أو المصلون له خشوعا لعظمته، وتواضعا لجلاله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 167]
وإن كانوا ليقولون (167)
وإن كانوا ليقولون أي مشركو قريش.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 168]
لو أن عندنا ذكرا من الأولين (168)
لو أن عندنا ذكرا من الأولين أي كتابا من الكتب التي نزلت عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 169]
لكنا عباد الله المخلصين (169)
لكنا عباد الله المخلصين أي لأخلصنا العبادة له. فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو أهدى الكتب والمعجز من بينها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 170]
فكفروا به فسوف يعلمون (170)
فكفروا به فسوف يعلمون أي عاقبة كفرهم. وهذا كقوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا [فاطر: 42] . وقوله تعالى: أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على
طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها
[الأنعام: 156- 157] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 171]
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171)
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أي وعدنا لهم الأزلي، وهو:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 172 الى 173]
إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173)
إنهم لهم المنصورون وإن جندنا أي الرسل ومن آمن معهم هم الغالبون
أي الظاهرون على أعدائهم، والمالكون لنواصيهم كقوله تعالى: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز [المجادلة: 21] .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #520  
قديم 25-02-2025, 04:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ ص
المجلد الرابع عشر
صـ 5071 الى صـ 5080
الحلقة (520)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 174]
فتول عنهم حتى حين (174)
فتول عنهم أي أعرض عنهم إعراض الصفوح الحليم عمن ينال منه. كقوله تعالى: ودع أذاهم [الأحزاب: 48] ، وقوله: فاصفح الصفح الجميل [الحجر: 85] ، حتى حين أي إلى استقرار النصر لك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 175]
وأبصرهم فسوف يبصرون (175)
وأبصرهم أي بصرهم وعرفهم عاقبة البغي والكفر، وما نزل بمن أنذر قبلهم، أو أوضح لهم الدلائل والحجج في مجاهدتك إياهم بالقرآن والوحي. فإن لم يبصروا الآن، فسوف يبصرون أي ما قضينا لك من التأييد والنصرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 176]
أفبعذابنا يستعجلون (176)
أفبعذابنا يستعجلون أي قبل حلول أجله، وإنه لآت، لأنه يوم الفتح الموعود به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 177]
فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين (177)
فإذا نزل بساحتهم أي بقربهم وفنائهم فساء صباح المنذرين أي فبئس الصباح صباح من أنذرتهم بالرسل فلم يؤمنوا. لأنه يوم هلاكهم ودمارهم. قال الزمخشري: مثل العذاب النازل بهم، بعد ما أنذروه فأنكروه، بجيش أنذر بهجومه بعض نصاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره، ولا أخذوا أهبتهم، ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم، حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة، وقطع دابرهم. وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحا. فسميت الغارة (صباحا) وإن وقعت في وقت آخر. وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل. انتهى. أي فهي استعارة تمثيلية. أو في الضمير استعارة مكنية، والنزول تخييلية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 178 الى 179]
وتول عنهم حتى حين (178) وأبصر فسوف يبصرون (179)
وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون قال الزمخشري: إنما ثنى ذلك ليكون تسلية علي تسلية، وتأكيدا لوقوع الميعاد إلى تأكيد. وفيه فائدة زائدة. وهي إطلاق الفعلين معا عن التقييد بالمفعول. وإنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به من الذكر من صنوف المسرة وأنواع المساءة. وقيل: أريد بأحدهما عذاب الدنيا، وبالآخر عذاب الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 180]
سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180)
سبحان ربك رب العزة أي المنعة والقدرة والغلبة عما يصفون أي من الشريك والولد ونحوهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 181]
وسلام على المرسلين (181)
وسلام على المرسلين أي سلام وأمان وتحية على المرسلين المبلغين رسالات ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 182]
والحمد لله رب العالمين (182)
والحمد لله رب العالمين أي على نعمه، التي أجلها إرسال الرسل لإظهار أسمائه الحسنى وشرائعه العليا، وإصلاح الأولى والأخرى.
فوائد في خواتم هذه السورة:
الأولى- روى ابن جرير عن الوليد بن عبد الله قال: كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت وإنا لنحن الصافون فصفوا. وقال أبو نضرة: كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ثم قال: أقيموا صفوفكم، استقيموا قياما، يريد الله بكم هدى الملائكة. ثم يقول: وإنا لنحن الصافون تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وفي صحيح مسلم «1» عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. وجعلت لنا الأرض مسجدا. وتربتها لنا طهورا.
الثانية-
روى الشيخان «2» عن أنس رضي الله عنه قال: صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر. فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش، رجعوا وهم يقولون: محمد والله! محمد والخميس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر (إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)
.
دل تمثله صلى الله عليه وسلم بالآية على شمولها لعذاب الدنيا، أولا وبالذات.

الثالثة- قال ابن كثير: لما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص، بدلالة المطابقة. ويستلزم إثبات الكمال، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال المطلق مطابقة، ويستلزم التنزيه من النقص- قرن بينهما في هذا الموضع، وفي مواضع كثيرة من القرآن. ولهذا قال تبارك وتعالى: سبحان ربك الآيات.
الرابعة-
روى ابن حاتم عن الشعبي مرسلا: من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى
(1)
أخرجه في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 4.

(2)
أخرجه البخاري في: الأذان، 6- باب ما يحقن بالأذان من الدماء، حديث 246.

وأخرجه مسلم في: النكاح، حديث رقم 87.
من الأجر يوم القيامة، فليقل آخر مجلسه، حين يريد أن يقوم: سبحان ربك الآيات.
وروي أيضا عن علي موقوفا.
وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم مرفوعا: من قال دبر كل صلاة سبحان ربك الآيات، ثلاث مرات، فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر.
وقد بين الرازي أن خاتمة هذه السورة الشريفة جامعة لكل المطالب العالية.
فارجع إليه.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ص
مكية. وقيل: مدنية وضعف وآياتها ثمان وثمانون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
ص والقرآن ذي الذكر (1)
ص بالسكون على الوقف. وقرئ بالكسر والفتح. اسم للسورة، على القول المتجه عندنا فيه وفي نظائره. لما قدمنا غير ما مرة. وقيل: قسم رمزي، وإليه نحا المهايمي. قال: أقسم الله سبحانه وتعالى بصدق محمد صلى الله عليه وسلم الذي اعترف به الكل في غير دعوى النبوة، حتى صدقه أهل الكتابين في إخباره عن الغيوب، الدال على الصدق في دعوى النبوة. أو بصفائه عن رذائل الأخلاق وقبائح الأفعال الدال على صفائه عن نقيصة الكذب. أو بصعوده في مدارج الكمالات، الدال على صعوده في مدارج القرب من الله- أو بصبره الكامل هو لوازم الرسالة على أنه رسوله. انتهى.
والقرآن ذي الذكر أي الشرف الدال على حقيقته وصدقه. أو التذكير، كآية لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم [الأنبياء: 10] ، والجواب محذوف لدلالة السياق عليه. أي إنه لحق. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 2]
بل الذين كفروا في عزة وشقاق (2)
بل الذين كفروا في عزة أي كبر وشقاق أي عداوة للحق والإذعان له.
إضراب عما قبله. كأنه قيل: لا ريب فيه قطعا. وليس عدم إيمان الكفرة به لشائبة ريب مما فيه. بل هم في حمية جاهلية وشقاق بعيد لله ولرسوله. ولذلك لا يذعنون له. وقيل: الجواب ما دل عليه الجملة الإضرابية. أي ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه. بل الذين كفروا في عزة وشقاق ثم أوعدهم على شقاقهم بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 3]
كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص (3)
كم أهلكنا من قبلهم من قرن أي لكبرهم عن الحق، ومعاداتهم لأهله فنادوا أي فدعوا واستغاثوا ولات حين مناص أي وليس الحين حين فرار ومهرب ومنجاة. والكلام على (لات) وأصلها وعملها والوقف عليها، ووصل التاء بها أو فصلها عنها، مبسوط في مطولات العربية، وفي معظم التفاسير هنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 4 الى 5]
وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب (4) أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب (5)
وعجبوا أن جاءهم منذر أي رسول منهم أي من أنفسهم. يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب أي بليغ في العجب. وذلك لتمكن تقليد آبائهم في نفوسهم، ورسوخه في أعماق قلوبهم. ومضي قرون عديدة عليه، وإلفهم به وأنسهم له، حتى ران على قلوبهم، وغشي على أبصارهم، ونسي باب النظر والاستدلال. بل محي بالكلية من بينهم.
وصار عندهم من أبطل الباطل وأمحل المحال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 6]
وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد (6)
وانطلق الملأ منهم أي الأشراف من قريش يحضون بعضهم على التمسك بالوثنية، ويتواصون بالصبر على طغيانهم قائلين أن امشوا أي في طريق آبائكم واصبروا على آلهتكم أي عبادتها مهما سمعتم من تسفيه أحلامنا وتفنيد مزاعمنا إن هذا لشيء يراد تعليل للأمر بالصبر. أي يراد منا إمضاؤه وتفنيده لا محالة. أي يريده محمد من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يقال من طرف اللسان.
أو المعنى: إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد منا. أي بنا. فلا انفكاك لنا عنه.
وما لنا إلا الاعتصام عليه بالصبر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 7]
ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق (7)
ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة أي ما سمعنا بهذا التوحيد الذي ندعى إليه في ملة النصارى. لأنهم مثلثة غير موحدة. أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا
إن هذا إلا اختلاق أي ما هذا التوحيد إلا فرية محضة، لا مستند له سوى هذا الذكر بزعمهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 8]
أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب (8)
أأنزل عليه الذكر من بيننا أي مع أن فينا من هو أثرى وأعلى رئاسة. قال الزمخشري: أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم، وينزل عليه الكتاب من بينهم كما قالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [الزخرف: 31] ، وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد، على ما أوتي من شرف النبوة من بينهم بل هم في شك من ذكري إضراب عن مقدر. أي: إنكارهم للذكر ليس عن علم، بل هم في شك منه. يقولون في أنفسهم:
إما وإما بل لما يذوقوا عذاب أي على الإنكار. فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد، وصدقوا وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ لأنهم صدقوا مضطرين.
قال الناصر في (الانتصاف) : ويؤخذ منه أن (لما) لائقة بالجواب. وإنما ينفى بها فعل يتوقع وجوده. كما يقول سيبويه. وفرق بينها وبين (لم) بأن (لم) نفي لفعل يتوقع وجوده لم يقبل مثبته (قد) . و (لما) نفي لما يتوقع وجوده أدخل على مثبته (قد) .
وقال: وإنما ذكرت ذلك لأني حديث عهد بالبحث في قوله عليه الصلاة والسلام: الشفعة فيما لم يقسم. فإني استدللت به على أن الشفعة خاصة بما يقبل القسمة. فقيل لي: إن غايته أنه أثبت الشفعة فيما نفى عنه القسمة. فإما لأنها لا تقبل قسمة. وإما أنها تقبل ولم تقع القسمة، فأبطلت ذلك بأن آلة النفي المذكورة (لم) ومقتضاها، قبول المحل الفعل المنفي وتوقع وجوده. ألا تراك تقول: الحجر لا يتكلم. ولو قلت: الحجر لم يتكلم. لكان ركيكا من القول، لإفهامه قبوله للكلام.
انتهى. وهو لطيف جيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 9]
أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب (9)
أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أي حتى يتخيروا للنبوة ما تهوى أنفسهم. كلا وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة [القصص: 68] ، الله أعلم حيث يجعل رسالته [الأنعام: 124] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 10]
أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب (10)
أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب أي فليصعدوا في المراقي التي توصلهم إلى السماء، وليتحكموا بما شاءوا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية.
روى ابن جرير بسنده عن الربيع بن أنس قال: الأسباب أدق من الشعر وأشد من الحديد. وهو بكل مكان. غير أنه لا يرى. انتهى.
وهذا البيان ينطبق على ما يعرف به الأثير الموجود في أجزاء الخلاء المظنون أنها فارغة. فتأمل.
ثم قال ابن جرير: وأصل السبب عند العرب، كل ما تسبب به إلى الوصول إلى المطلوب من حبل أو وسيلة، أو رحم أو قرابة أو طريق أو محجة، وغير ذلك. انتهى.
وقال المهايمي: أي فليصعدوا في الأسباب التي هي معارج الوصول إلى العرش، ليستووا عليه، فيدبروا العالم وينزلوا الوحي على من شاءوا. وأنى لهم ذلك؟؟





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 462.17 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 456.32 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.26%)]