تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 58 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         هل نفقة الأبناء تصبح دينًا على الأب تؤخذ من تركته؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 253 - عددالزوار : 42674 )           »          انفعالات المراهق- عندما ننظر للمراهق على أنه إنسان.. عندها فقط نعرف ما يريد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 5 - عددالزوار : 1014 )           »          الرجولة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 658 )           »          السبيل إلى معرفة التوحيد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 80 )           »          حكم حجز الأماكن في المسجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          التأخر في أداء واجب العزاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          النبي القدوة معلما ومربيا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 90 )           »          مع سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 113 )           »          السَّعادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 97 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #571  
قديم 20-05-2024, 12:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (569)
سُورَةُ الْجِنِّ
صـ 311 إلى صـ 318


[ ص: 311 ] وقال القرطبي : قوله تعالى : ألم تروا كيف على جهة الإخبار لا المعاينة .

كما تقول : ألم تر كيف فعلت بفلان كذا ؟

وعلى كلام القرطبي يرد السؤال الأول ، إذا كان ذلك على جهة الإخبار ، فكيف يجعل الخبر دليلا على خبر آخر لا يدرك إلا بالسمع ؟

والجواب عن ذلك مجملا مما تشير إليه آيات القرآن الكريم كالآتي :

أولا : إن تساؤل ابن كثير هل يتلقى ذلك من جهة السمع فقط ؟ أو هو من الأمور المدركة بالحس ، لا محل له ; لأنه لا طريق إلا النقل فقط ، كما قال تعالى : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم [ 18 \ 51 ] ، أي : آدم . فلم نعلم كيف خلق ، ولا كيف سارت الروح في جسم جماد صلصال ، فتحول إلى جسم حساس نام ناطق .

وأما قول القرطبي : إنه على جهة الإخبار لا المعاينة ، فهو الذي يشهد له القرآن .

ويجيب القرآن على السؤال الوارد عليه ، وذلك في قوله تعالى : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [ 41 \ 9 - 13 ] ; لأن الله تعالى خاطب هنا الكفار قطعا ; لقوله : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين .

وخاطبهم بأمور مفصلة لم يشهدوها قطعا من خلق الأرض في يومين ، ومن تقدير أقواتها في أربعة أيام ، ومن استوائه إلى السماء وهي دخان .

ومن قوله لها وللأرض : ائتيا طوعا أو كرها .

ومن قولهما : أتينا طائعين .

[ ص: 312 ] ومن قضائهن سبع سماوات في يومين .

ومن وحيه في كل سماء أمرها .

كل ذلك تفصيل لأمور لم يشهدوها ولم يعلموا عنها بشيء ، ومن ضمنها قضاؤه سبع سماوات ، فكان كله على سبيل الإخبار لجماعة الكفار .

وعقبه بقوله : ذلك تقدير العزيز العليم ; فكان مقتضى هذا الإخبار وموجب هذا التقدير من العزيز العليم ، أن يصدقوا أو أن يؤمنوا . وهذا من خصائص كل إخبار يكون مقطوعا بصدقه من كل من هو واثق بقوله : يقول الخبر ، وكان لقوة صدقه ملزما لسامعه ، ولا يبالي قائله بقبول السامع له أو إعراضه عنه .

ولذا قال تعالى بعد ذلك مباشرة : فإن أعرضوا أي : بعد إعلامهم بذلك كله ، فلا عليك منهم : فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود .

وحيث إن الله خاطبهم هنا ألم تروا كيف فكان هذا أمرا لفرط صدق الإخبار به ، كالمشاهد المحسوس الملزم لهم

وقد جاءت السنة ، وبينت تلك الكيفية أنها سبع طباق ، بين كل سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام ، وشمل كل سماء وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام .

وقد يقال : إن الرؤية هنا في الكيفية حاصلة بالعين محسوسة ، ولكن في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء والمعراج ; حيث عرج به ورأى السبع الطباق ، وكان يستأذن لكل سماء . ومشاهدة الواحد من الجنس كمشاهدة الجميع ، فكأننا شاهدناها كلنا لإيماننا بصدقه - صلى الله عليه وسلم - ولحقيقة معرفتهم إياه - صلى الله عليه وسلم - في الصدق من قبل . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ينص تعالى هنا أن قوم نوح اتبعوا من هذا وصفه مع أن المال يزيد الإنسان نفعا . وقد بين تعالى أن المال فعلا قد يورث خسارة وهلاكا كما في قوله تعالى : إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ 96 \ 6 - 7 ] ، أي : بالطغيان يكون إهلاكا .
قوله تعالى : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا

[ ص: 313 ] في هذا نص على أن نبي الله نوحا طلب من الله إهلاك من على الأرض جميعا ، مع أن عادة الرسل الصبر على أممهم ، وفيه إخبار نبي الله نوح عمن سيولد من بعد ، وأنهم لم يلدوا إلا فاجرا كفارا ، فكيف دعا على قومه هذا الدعاء ، وكيف حكم على المواليد فيما بعد ؟

والقرآن الكريم بين هذين الأمرين :

أما الأول : فإنه لم يدع عليهم هذا الدعاء إلا بعد أن تحدوه ويئس منهم ، أما تحديهم ففي قولهم : يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا [ 11 \ 32 ] .

وقوله : كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر [ 54 \ 9 - 10 ] .

وأما يأسه منهم ; فلقوله تعالى : وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن [ 11 \ 36 ] .

وأما إخباره عمن سيولد : بأنه لن يولد لهم إلا فاجر كفار ، فهو من مفهوم الآية المذكورة آنفا ; لأنه إذا لم يؤمن من قومه إلا من قد آمن ، فسواء في الحاضر أو المستقبل .

وكذلك بدليل الاستقراء ، وهو دليل معتبر شرعا وعقلا ، وهو أنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وما آمن معه إلا قليل ، كانوا هم ومن معهم غيرهم حمل سفينة فقط ، فكان دليلا على قومه أنهم فتنوا بالمال ولم يؤمنوا له ، وهو دليل نبي الله موسى - عليه السلام - أيضا على قومه .

كما قال تعالى : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 88 ] .

فأخبر نبي الله موسى عن قومه : أنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، وذلك من استقراء حالهم في مصر لما أراهم الآية الكبرى : فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى [ 79 \ 21 - 24 ] .

وبعد أن ابتلاهم الله بما قص علينا في قوله : [ ص: 314 ] فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين [ 7 \ 133 ] .

وقوله تعالى بعدها : ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون [ 7 \ 134 - 135 ] .

فمن كانت هذه حالته وموسى يعاين ذلك منهم ، لا شك أنه يحكم عليهم أنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .

وكذلك كان دليل الاستقراء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قومه ، استدل به على عكس الأقوام الآخرين ، حينما رجع من الطائف ، وفعلت معه ثقيف ما فعلت فأدموا قدميه ، وجاءه جبريل ومعه ملك الجبال ، واستأذنه في أن يطبق عليهم الأخشبين ، فقال : " لا ، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول : لا إله إلا الله " وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - علم باستقراء حالهم ; أنهم لا يعلمون فهم يمتنعون عن الإيمان لقلة تعلمهم ، وأنهم في حاجة إلى التعليم .

فإذا علموا تعلموا ، وأن طبيعتهم قابلة للتعليم لا أنهم كغيرهم في إصرارهم ; لأنه شاهد من كبارهم إذا عرض عليهم القرآن ، وخوطبوا بخطاب العقل ، ووعوا ما يخاطبون به ، وسلموا من العصبية والنوازع الأخرى ، فإنهم يستجيبون حالا كما حدث لعمر وغيره - رضي الله عنهم - إلا من أعلمه الله بحاله مثل : الوليد بن المغيرة : ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا إلى قوله إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إلى قوله سأصليه سقر [ 74 \ 11 - 26 ] فعلم - صلى الله عليه وسلم - حاله ومآله ، ولذا فقد دعا عليه يوم بدر .

ومثله أبو لهب لما تبين حاله بقوله تعالى : سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب [ 111 \ 3 - 4 ] فلكون العرب أهل فطرة ، ولكون الإسلام دين الفطرة أيضا كانت الاستجابة إليه أقرب .

انظر مدة مكثه - صلى الله عليه وسلم - من البعثة إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى ثلاثا وعشرين سنة ، كم عدد من أسلم فيها بينما نوح - عليه السلام - يمكث ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلم يؤمن معه إلا القليل .

[ ص: 315 ] ولذا كان قول نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - : ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ، كان بدليل الاستقراء من قومه ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا لم يبين هنا هل استجيب له أم لا ؟ وبينه في مواضع أخر ، منها قوله : ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له [ 21 \ 76 ] .

وفي هذه السورة نفسها وقبل هذه الآية مباشرة قوله تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا [ 71 \ 25 ] ، فجمع الله لهم أقصى العقوبتين : الإغراق ، والإحراق ، مقابل أعظم الذنبين : الضلال ، والإضلال .

وكذلك بين تعالى كيفية إهلاك قومه ونجاته هو وأهله ومن معه في قوله : فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا الآية [ 54 \ 10 - 14 ] .

قال ابن كثير : لقد أغرق الله كل من على وجه الأرض من الكفار ، حتى ولد نوح من صلبه . وهنا تنبيه على قضية ولد نوح في قوله يابني اركب معنا إلى قوله فكان من المغرقين [ 11 \ 42 - 43 ] لما أخذت نوحا العاطفة على ولده ، فقال : رب إن ابني من أهلي ، إلى قوله : إنه ليس من أهلك [ 11 \ 45 - 46 ] أثار بعض الناس تساؤلا حول ذلك في قراءة : إنه عمل غير صالح [ 11 \ 46 ] إنه عمل ماض يعمل ، أي : بكفره .

وتساءلوا حول صحة نسبه ، والحق أن الله تعالى قد عصم نساء الأنبياء ; إكراما لهم ، وأنه ابنه حقا ; لأنه لما قال : إن ابني من أهلي تضمن هذا القول أمرين : نسبته إليه في بنوته ، ثانيا : نسبته إليه في أهله ، فكان الجواب عليه من الله بنفي النسبة الثانية لا الأولى ، " إنه ليس من أهلك " . ولم يقل : إنه ليس ابنك ، والأهل أعم من الابن ، ومعلوم أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، والعكس بالعكس ، فلما نفى نسبته إلى أهله علمنا أن نسبته إليه بالبنوة باقية ، ولو لم يكن ابنه لصلبه لكان النفي ينصب عليها .

ويقال : إنه ليس ابنك ، وإذا نفى عنه البنوة انتفت عنه نسبته إلى أهله ، وكذلك قوله [ ص: 316 ] تعالى بعدها : ولا تخاطبني في الذين ظلموا [ 11 \ 37 ] أي ; لأن الظالمين ليسوا من الأهل بالنسبة للدين ; لأن الدين يربط البعيدين ، والظلم الذي هو بمعنى الكفر يفرق القريبين . والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 317 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ الْجِنِّ .

قوله تعالى : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا

فيه إثبات سماع الجن للقرآن وإعجابهم به ، وهدايتهم بهديه ، وإيمانهم بالله . وتقدمت الإشارة بذلك من كلام الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الأحقاف " عند قوله تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن [ 46 \ 29 ] ، وفي آية " الأحقاف " بيان لما قام به النفر من الجن بعد سماعهم القرآن ، بأنهم لما قضي سماعهم ولوا إلى قومهم منذرين .

وفيها : بيان أنهم عالمون بكتاب موسى وهو التوراة ، وقد شهدوا بأن القرآن مصدق لما بين يديه ، وأنه يهدي إلى صراط مستقيم ، كما جاء هنا قوله : يهدي إلى الرشد .
قوله تعالى : وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا

والشطط : البعيد المفرط في البعد ، قال عنترة في معلقته :


شطت مزار العاشقين فأصبحت عسرا على طلابها ابنة مخرم


وروي :
حلت بأرض الزائرين فأصبحت
وأنشد أيضا لغيره :


شط المزار بجذوي وانتهى الأمل
ففي كلا البيتين الشطط : الإفراط في البعد ، إذ في الأول قال : فأصبحت عسرا على طلابها ، وفي الثاني قال : وانتهى الأمل ، وقد بين القرآن أن المراد بالشطط البعد الخاص ، [ ص: 318 ] وهو البعد عن الحق ، كما في قوله تعالى : فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط [ 38 \ 22 ] .

ومنه البعد عن حقيقة التوحيد إلى الشرك ، وهو المراد هنا كما في سورة " الكهف " في قوله : لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا [ 18 \ 14 ] ; لأن دعاءهم غير الله أبعد ما يكون عن الحق .

ويدل على أن المراد هنا ما جاء في هذه السورة : فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا [ 72 \ 2
قوله تعالى : وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا

بين تعالى المراد بتلك الحراسة : بأنه لحفظها عن استراق السمع ، كما في قوله : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا [ 37 \ 6 - 7 ] ، وبين تعالى حالهم قبل ذلك بأنهم كانوا يقعدون منها مقاعد للسمع ، فيسترقون الكلمة وينزلون بها إلى الكاهن ، فيكذب معها مائة كذبة ، كما بين تعالى أن الشهب تأتيهم من النجوم .

كما في قوله تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين [ 67 \ 5 ] .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #572  
قديم 20-05-2024, 12:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (570)
سُورَةُ الْجِنِّ
صـ 319 إلى صـ 326


قوله تعالى : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا

فيه نص على أن الجن لا تعلم الغيب ، وقد صرح تعالى في قوله : فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين [ 34 \ 14 ] .

وقد يبدو من هذه الآية إشكال ، حيث قالوا أولا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به [ 72 \ 1 - 2 ] ثم يقولون وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا [ 72 \ 10 ] والواقع أنهم تساءلوا لما لمسوا السماء فمنعوا منها لشدة حراستها ، وأقروا أخيرا لما سمعوا القرآن وعلموا السبب في تشديد حراسة السماء ; لأنهم لما منعوا ما كان يخطر ببالهم أنه من أجل الوحي ; لقوله وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا [ 72 \ 7 ] .

وقوله تعالى : وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا [ 72 \ 8 ] يدل بفحواه أنهم منعوا من السمع ، كما قالوا : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] [ ص: 319 ] ولكن قد يظن ظان أنهم يحاولون السماع ولو مع الحراسة الشديدة ، ولكن الله تعالى صرح بأنهم لم ولن يستمعوا بعد ذلك ، كما قال تعالى : إنهم عن السمع لمعزولون [ 26 \ 212 ] .
قوله تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا وهذا كما قال تعالى : ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم [ 5 \ 66 ] ، وقوله : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [ 7 \ 96 ] فكلها نصوص على أن الأمة إذا استقامت على الطريقة القويمة شرعة الله لفتح عليهم بركات من السماء والأرض .

ومثل ذلك قوله تعالى : فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا [ 71 \ 10 - 12 ] .

ومفهوم ذلك : أن من لم يستقم على الطريقة فقد يكون انحرافه أو شركه موجبا لحرمانه من نعمة الله تعالى عليه ، كما جاء صريحا في قوله : واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر [ 18 \ 10 - 34 ] .

فهذه نعمة كاملة ، كما وصف الله تعالى فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا إلى قوله : وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا [ 18 \ 34 - 43 ] .

وما أشبه الليلة بالبارحة فيما يعيشه العالم الإسلامي اليوم بين الاتجاهين المتناقضين الشيوعي والرأسمالي . وما أثبته الواقع من أن المعسكر الشيوعي الذي أنكر وجود الله ، وكفر بالذي خلقه من تراب ثم من نطفة ثم سواه رجلا ، فإنه وكل من يسير في فلكه مع مدى تقدمه الصناعي ، فإنه مفتقر لكافة الأمم الأخرى في استيراد القمح ، وإن روسيا بنفسها [ ص: 320 ] لتفرج عن بعض احتياطها من الذهب لتشتري قمحا . ولا زالت تشتريه من المعسكر الرأسمالي .

وهكذا الدول الإسلامية التي تأخذ في اقتصادياتها بالمذهب الاشتراكي المتفرع من المذهب الشيوعي ; فإنها بعد أن كانت تفيض بإنتاجها الزراعي على غيرها ، أصبحت تستورد لوازمها الغذائية من خارجها ، وتلك سنة الله في خلقه ، ولو كانوا مسلمين كما قص الله تعالى علينا قصة أصحاب الجنة : إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ، إلى قوله فأصبحت كالصريم ، إلى قوله قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين [ 68 \ 17 - 29 ] .

ولذا كانت الزكاة طهرة للمال ونماء له .

وقوله لنفتنهم فيه [ 72 \ 17 ] ، أي : نختبرهم فيما هم فاعلون من شكر النعمة وصرفها فيما يرضي الله ، أم الطغيان بها ومنع حقها ؟ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ 96 \ 6 - 7 ] ، إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] ، إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 15 - 16 ] .
قوله تعالى : وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا

" المساجد " : جمع مسجد . والمسجد لغة اسم مكان على وزن مفعل ، كمجلس على غير القياس مكان الجلوس ، وهو لغة يصدق على كل مكان صالح للسجود .

وقد ثبت من السنة أن الأرض كلها صالحة لذلك ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ، واستثنى منها أماكن خاصة نهى عن الصلاة فيها ; لأوصاف طارئة عليها ، وهي المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، وفوق الحمام ، ومواضع الخسف ، ومعاطن الإبل ، والمكان المغصوب على خلاف فيه من حيث الصحة وعدمها ، والبيع .

وقد عد الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - تسعة عشر موضعا عند قوله تعالى : ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين [ 15 \ 80 ] في الكلام على حكم أرض الحجر ، ومواطن الخسف ، وساق كل موضع بدليله ، وهو بحث مطول مستوفى ; والمسجد عرفا [ ص: 321 ] كل ما خصص للصلاة ، وهو المراد بالإضافة هنا لله تعالى ، وهي إضافة تشريف وتكريم مع الإشعار باختصاصها بالله ، أي : بعبادته وذكره ، كما قال تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة [ 24 \ 36 - 37 ] .

ولهذا منعت من اتخاذها لأمور الدنيا من بيع وتجارة ، كما في الحديث : " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا له : لا أربح الله تجارتك " رواه النسائي ، والترمذي وحسنه .

وكذلك إنشاد الضالة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا سمعتم من ينشد ضالة بالمسجد ، فقولوا له : لا ردها الله عليك ; فإن المساجد لم تبن لذلك " رواه مسلم .

وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد قال له - صلى الله عليه وسلم - : " إن هذه المساجد لم تبن لذلك ; إنما هي لذكر الله وما والاه " ، وفي موطأ مالك : أن عمر - رضي الله عنه - بنى رحبة في ناحية المسجد تسمى : البطحاء . وقال : من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا ، أو يرفع صوته ، فليخرج إلى هذه الرحبة .

واللغط هو : الكلام الذي فيه جلبة واختلاط . وأل في المساجد : للاستغراق ; فتفيد شمول جميع المساجد ، كما تدل في عمومها على المساواة ، ولكن جاءت آيات تخصص بعض المساجد بمزيد فضل واختصاص ، وهي :

المسجد الحرام ; خصه الله تعالى بما جاء في قوله : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت [ 3 \ 96 - 97 ] . فذكر هنا سبع خصال ليست لغيره من المساجد من أنه : أول بيت وضع للناس ، ومبارك ، وهدى للعالمين ، وفيه آيات بينات ، ومقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا ، والحج والعمرة إليه ، وآيات أخر .

والمسجد الأقصى ; قال تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [ 17 \ 1 ] فخص بكونه مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه ، وبالبركة حوله ، وأري - صلى الله عليه وسلم - فيه من آيات ربه .

[ ص: 322 ] وقد كان من الممكن أن يعرج به إلى السماء من جوف مكة ، ومن المسجد الحرام ، ولكن ليريه من آيات الله : كعلامات الطريق ; لتكون دليلا له على قريش في إخباره بالإسراء والمعراج ، وتقديم جبريل له الأقداح الثلاثة : بالماء ، واللبن ، والخمر ، واختياره اللبن رمزا للفطرة . واجتماع الأنبياء له والصلاة بهم في المسجد الأقصى ، بينما رآهم في السماوات السبع ، وكل ذلك من آيات الله أريها - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الأقصى .

والمسجد النبوي ، ومسجد قباء : فمسجد قباء : نزل فيه قوله تعالى : لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين [ 9 \ 108 ] .

فجاء في صحيح مسلم : أن أبا سعيد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي مسجد أسس على التقوى من أول يوم ؟ فأخذ - صلى الله عليه وسلم - حفنة من الحصباء وضرب بها أرض مسجده ، وقال : " مسجدكم هذا " .

وجاء في بلوغ المرام وغيره : حديث ابن عباس - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أهل قباء ، فقال : " إن الله يثني عليكم " ، فقالوا : إنا نتبع الحجارة الماء ، رواه البزار بسند ضعيف .

قال ابن حجر : وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بدون ذكر الحجارة .

وقال صاحب وفاء الوفاء : وروى ابن شيبة من طرق ما حاصله أن : الآية لما نزلت أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل قباء .

وفي رواية : أهل ذلك المسجد .

وفي رواية : بني عمرو بن عوف . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور ، فما بلغ من طهوركم ؟ قالوا : نستنجي بالماء " .

قال : وروى أحمد ، وابن شيبة ، واللفظ لأحمد عن أبي هريرة ، قال : انطلقت إلى مسجد التقوى أنا وعبد الله بن عمر وسمرة بن جندب ، فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا لنا : انطلقوا إلى مسجد التقوى ، فانطلقنا نحوه . فاستقبلنا يداه على كاهل أبي بكر وعمر فثرنا في وجهه ، فقال : من هؤلاء يا أبا بكر ؟ فقال : عبد الله بن عمر ، وأبو هريرة ، وجندب .

[ ص: 323 ] فحديث مسلم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتلك النصوص في مسجد قباء .

وقد قال ابن حجر - رحمه الله - : والحق أن كلا منهما أسس على التقوى ، وقوله تعالى : فيه رجال يحبون أن يتطهروا [ 9 \ 108 ] ظاهر في أهل قباء .

وقيل : إن حديث مسلم في خصوص مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، جاء ردا على اختلاف رجلين في المسجد المعني بها ، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يبين لهم أن الآية ليست خاصة بمسجد قباء ، وإنما هي عامة في كل مسجد أسس على التقوى ، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما هو معلوم في الأصول .

وعليه ، فالآية إذا اشتملت وتشتمل على كل مسجد أينما كان ، إذا كان أساسه من أول يوم بنائه على التقوى ، ويشهد لذلك سياق الآية بالنسبة إلى ما قبلها وما بعدها ، فقد جاءت قبلها قصة مسجد الضرار بقوله : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه [ 9 \ 107 - 108 ] .

ومعلوم أن مسجد الضرار كان بمنطقة قباء ، وطلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي لهم فيه تبركا في ظاهر الأمر ، وتقريرا لوجوده يتذرعون بذلك ، ولكن الله كشف عن حقيقتهم .

وجاءت الآية بمقارنة بين المسجدين ، فقال تعالى له : لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا الآية [ 9 \ 108 ] .

وجاء بعد ذلك مباشرة للمقارنة مرة أخرى أعم من الأولى في قوله تعالى : أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم [ 9 \ 109 - 110 ] .

وبهذا يكون السبب في نزول الآية هو المقارنة بين مبدأين متغايرين ، وأن الأولية في الآية في قوله : من أول يوم [ 9 \ 108 ] أولية نسبية ، أي : بالنسبة لكل مسجد في أول [ ص: 324 ] يوم بنائه ، وإن كان الظاهر فيها أولية زمانية خاصة ، وهو أول يوم وصل - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، ونزل بقباء ، وتظل هذه المقارنة في الآية موجودة إلى ما شاء الله في كل زمان ومكان كما قدمنا .

وقد اختصت تلك المساجد الأربعة بأمور تربط بينها بروابط عديدة ، أهمها : تحديد مكانها حيث كان بوحي أو شبه الوحي ، ففي البيت الحرام قوله تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت [ 22 \ 26 ] .

وفي المسجد الأقصى ما جاء في الأثر عنه : أن الله أوحى إلى نبيه داود أن ابن لي بيتا ، قال : وأين تريدني أبنيه لك يا رب ؟ قال : حيث ترى الفارس المعلم شاهرا سيفه . فرآه في مكانه الآن ، وكان حوشا لرجل من بني إسرائيل . إلى آخر القصة في البيهقي .

وفي مسجد قباء بسند فيه ضعف . لما نزل - صلى الله عليه وسلم - قباء ، قال : " من يركب الناقة " إلى أن ركبها علي ، فقال له : " أرخ زمامها " فاستنت ، فقال : " خطوا المسجد حيث استنت " .

وفي المسجد النبوي : جاء في السير كلها : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان كلما مر بحي من أحياء المدينة ، وقالوا له : هلم إلى العدد والعدة ، فيقول : " خلوا سبيلها ، فإنها مأمورة " ، حتى وصلت إلى أمام بيت أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - . وكان أمامه مربد لأيتام ومقبرة ليهود ، فاشترى المكان ونبش القبور وبنى المسجد .

وكذلك في البناء فكلها بناء رسل الله ، فالمسجد الحرام بناه إبراهيم - عليه السلام - ، أي البناء الذي ذكره القرآن وما قبله فيه روايات عديدة ، ولكن الثابت في القرآن قوله تعالى : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل [ 2 \ 127 ] .

وكذلك بيت المقدس ، وبينه وبين البيت أربعون سنة ، كما في حديث عائشة في البخاري ، أي : تجديد بنائه .

وكذلك مسجد قباء ، فقد شارك - صلى الله عليه وسلم - في بنائه ، وجاء في قصة بنائه أن رجلا لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - حاملا حجرا ، فقال : دعني أحمله عنك يا رسول الله ، فقال له : " انطلق وخذ غيرها ، فلست بأحوج من الثواب مني " .

وكذلك مسجده الشريف بالمدينة المنورة ، حين بناه أولا من جذوع النخل وجريده [ ص: 325 ] ثم بناه مرة أخرى بالبناء بعد عودته من تبوك .

ولهذه الخصوصيات لهذه المساجد الأربعة ، تميزت عن عموم المساجد كما قدمنا .

ومن أهم ذلك مضاعفة الأعمال فيها ، أصلها الصلاة ، كما بوب لهذا البخاري بقوله : باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة . وساق الحديثين .

الأول حديث : " لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - " .

والحديث الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " .

كما اختص المسجد النبوي بروضته ، التي هي روضة من رياض الجنة .

وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ومنبري على ترعة من ترع الجنة " ، وهو حديث مشهور : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على ترعة من ترع الجنة " .

واختص مسجد قباء بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من تطهر في بيته ، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين ، كان له كأجر عمرة " ، أخرجه ابن ماجه وعمر بن شبة بسند جيد ، ورواه أحمد والحاكم ، وقال : صحيح بسند .

قال في وفاء الوفاء : وقال عمر بن شبة : حدثنا سويد بن سعيد ، قال حدثنا أيوب بن حيام ، عن سعيد بن الرقيش الأسدي ، قال : جاءنا أنس بن مالك إلى مسجد قباء ، فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري ، ثم سلم وجلس وجلسنا حوله ، فقال : سبحان الله ! : ما أعظم حق هذا المسجد ، ولو كان على مسيرة شهر كان أهلا أن يؤتى ، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه ليصلي فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة .

وقد اشتهر هذا المعنى عند العامة والخاصة ، حتى قال عبد الرحمن بن الحكم في شعر له :


فإن أهلك فقد أقررت عينا من المعتمرات إلى قباء من اللائي سوالفهن غيد
عليهن الملاحة بالبهاء


[ ص: 326 ] وروى ابن شبة بسند صحيح من طريق عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ، قالت : سمعت أبي يقول : لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين . لو يعلمون ما في قباء ; لضربوا إليه أكباد الإبل ، وغير ذلك من الآثار مرفوعة وموقوفة ، مما يؤكد هذا المعنى من أن قباء اختص بأن من تطهر في بيته وأتى إليه عامدا ، وصلى فيه ركعتين ; كان له كأجر عمرة .
تنبيه .

وهنا سؤال يفرض نفسه : لماذا كان مسجد قباء دون غيره ، ولماذا اشترط التطهر في بيته لا من عند المسجد ؟ ولقد تطلبت ذلك طويلا فلم أقف على قول فيه ، ثم بدا لي من واقع تاريخه ، وارتباطه بواقع المسلمين والمسجد الحرام : أن مسجد قباء له ارتباطات عديدة بالمسجد الحرام :

أولا : من حيث الزمن ، فهو أسبق من مسجد المدينة .

ومن حيث الأولية النسبية ، فالمسجد الحرام أول بيت وضع للناس .

ومسجد قباء أول مسجد بناه المسلمون .

والمسجد الحرام بناه الخليل .

ومسجد قباء بناه خاتم المرسلين .

والمسجد الحرام كان مكانه باختيار من الله ، وشبيه به مكان مسجد قباء .

ومن حيث الموضوعية; فالمسجد الحرام مأمن وموئل للعاكف والباد .

ومسجد قباء مأمن ومسكن وموئل للمهاجرين الأولين ، ولأهل قباء ، فكان للصلاة فيه شدة ارتباط بالمسجد الحرام تجعل المتطهر في بيته والقاصد إليه للصلاة فيه كأجر عمرة . ولو قيل : إن اشتراط التطهير في بيته لا عند المسجد شدة عناية به أولا ، وتمحيص القصد إليه ثانيا ، وتشبيه أو قريب بالفعل من اشتراط الإحرام للعمرة من الحل ، لا من عند البيت في العمرة الحقيقة ، لما كان بعيدا . فالتطهر من بيته والذهاب إلى قباء للصلاة فيه كالإحرام من الحل والدخول في الحرم للطواف والسعي ، كما فيه تعويض المهاجرين عما فاتهم من جوار البيت الحرام قبل الفتح . - والله تعالى أعلم - .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #573  
قديم 15-08-2024, 08:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (571)
سُورَةُ الْجِنِّ
صـ 327 إلى صـ 334



تنبيه آخر .

إن مما ينبغي أن يعلم : أن للمسجد في المجتمع الإسلامي رسالة عظمى ، ألزم ما يكون على المسلمين إحياؤها : وهي أن المسجد لهم هو بيت الأمة فيهم ، لجميع مصالحهم العامة والخاصة تقريبا مما يصلح له ، فكأن المسجد النبوي في أول أمر المسلمين المثال لذلك .

إذ كان المصلى الذي تتضاعف فيه الصلاة ، وكان المعهد لتلقي العلم منه - صلى الله عليه وسلم - ، ومن جبريل - عليه السلام - ومن الأئمة ورثة الأنبياء ، ولا يزال - بحمد الله - كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالما كعالم المدينة " .

وكما قال : " من راح إلى مسجدي لعلم يتعلمه أو يعلمه كان كمن غزا في سبيل الله " ، وكان فيه تعليم الصبيان للقراءة والكتابة ، وكان ولا يزال كذلك إلى اليوم - بحمد الله - ، وكان مقرا للإفتاء ، ومجلسا للقضاء ، ومقرا للضيافة ، ومنزلا للأسارى ، ومصحا للجرحى .

وقد ضربت لسعد فيه قبة لما أصابه سهم ليعوده - صلى الله عليه وسلم - من قريب ، ومقرا للقيادة ، فتعقد فيه ألوية الجهاد ، وتبرم فيه معاهدات الصلح ، ومنزلا للوفود : كوفد تميم وعبد القيس ، وبيتا للمال : كمجيء مال البحرين وحراسة أبي هريرة له .

ولما نقب بيت مال المسلمين ، قال عمر - رضي الله عنه - لعامله هناك : انقله إلى المسجد فلا يزال المسجد فيه مصلي ، أي : ليتولى حراسته ومقيلا للعزاب ومبيتا للغرباء . إلى غير ذلك مما لا يوجد في أي مؤسسة أخرى . ولا تتأتى إلا في المسجد ، مما يؤكد رسالة المسجد ، ويستدعي الانتباه إليه وحسن الاستفادة منه .
وبمناسبة اختصاص هذه المساجد الأربعة بمزيد الفضل وزيادة مضاعفة الصلاة ، فإن في المسجد النبوي خاصة عدة مباحث طالما أشير إليها في عدة مواضع وهي من الأهمية بمكان ، وأهمها أربعة مباحث نوردها بإيجاز ، وهي :

الأول : مضاعفة الصلاة بألف . وهل هي خاصة بمسجده - صلى الله عليه وسلم - الذي كان من بنائه - صلى الله عليه وسلم - ، أم يشمل ذلك ما دخله من زيادات .

وكذلك امتداد الصفوف خارجه عن الزحمة ، وهل هي في الفرض فقط أم فيه وفي النفل ؟ ، وهل هي للرجال والنساء أم للرجال فقط ؟ .

[ ص: 328 ] وقضية الأربعين صلاة الثانية بعد التوسعة الأولى لعمر وعثمان ، ونقل المحراب إلى القبلة عن الروضة ، فأي الصفين أفضل ؟ الصف الأول أم صفوف الروضة .

الثالثة : صلاة المأمومين عند الزحام أمام الإمام .

الرابعة : حديث شد الرحال والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يأتي مبحث موجب الربط بين أول الآية وآخرها ، وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا

لما فيه من التنويه والإيماء إلى بناء المساجد على القبور مع تمحيص العبادة لله وحده .

وتلك المباحث كنت قد فصلتها في رسالة المسجد النبوي التي كتبتها من قبل ، ونجمل ذلك هنا .

المبحث الأول .

هل الفضلية خاصة بالفرض ، أم بالنفل ؟ اتفق الجمهور على الفرض ، ووقع الخلاف في النفل ، ما عدا تحية المسجد ركعتين بعد الجمعة وركعتين قبل المغرب .

وأما الخلاف في النوافل الراتبة في الصلوات الخمس وفي قيام الليل ، وسبب الخلاف هو عموم : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه " فمن حمله على العموم شمله بالنافلة ، ومن حمل العموم على الأصل فيه قصره على الفريضة ، إذ العام على الإطلاق يحمل على الأخص منه ، وهي الفريضة .

وقد جاء حديث زيد بن ثابت عند أبي داود وغيره : " أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " .

وجاء التصريح بمسجده بقوله : " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة " .

وما جاء عن الترمذي في الشمائل ومجمع الزوائد : أن عبد الله بن سعد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في بيته والصلاة في المسجد ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد ; فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد ، إلا أن تكون المكتوبة " .

وفي رواية : " أرأيت قرب بيتي من المسجد ؟ " ، قال : بلى . قال : " فإني [ ص: 329 ] أصلي النافلة في بيتي "
.
المبحث الثاني .

أقوال الأئمة - رحمهم الله - ، وعلى هذا التفصيل كانت أقوال الأئمة - رحمهم الله - كالتالي :

قول الإمام أبي حنيفة : إن النافلة في البيت أفضل ، وإذا وقعت في المسجد النبوي كان لها نفس الأجر ، أي : أنها عامة في كل الصلوات . ولكنها في البيت أفضل هي منها في المسجد .

وعند الشافعي : اختلفت الرواية عنه ، فذكر النووي في شرح مسلم العموم . وجاء عنه في المجموع ما يفيد الخصوص وإن لم يصرح به .

والنصوص في صلاة النافلة في البيت عديدة ، منها : " اجعلوا صلاتكم في بيوتكم " .

ومنها : " أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم " .

وذكر القرطبي عن مسلم : " إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده ; فليجعل لبيته نصيبا من صلاته " .

وعند المالكية : يعم الفرض والنفل ، واستدل لذلك بأن الحديث في معرض الامتنان ، والنكرة إذا كانت في سياق الامتنان تعم ، أي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه " ، فصلاة لفظ نكرة .

وفي معرض الامتنان والتفضل بهذا الأجر العظيم ، فكان عاما في الفرض والنفل ، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - لا خلاف بين الفريقين . إذ فضيلة الألف حاصلة لكل صلاة صلاها الإنسان فيه فرضا كانت أو نفلا .

وصلاة النافلة في البيت تكون أفضل منها في المسجد بدوام صلاته - صلى الله عليه وسلم - النوافل في البيت مع قرب بيته من المسجد ، كما أن هذه الفضيلة تشمل صلاة الرجل والمرأة .

[ ص: 330 ] ولكن صلاة المرأة مع ذلك أفضل في بيتها منها في المسجد ، وهذا هو المبحث الثاني ، أي : أيهما أفضل للمرأة : صلاتها في بيتها أم في المسجد النبوي ؟ .

وهذه المسألة قد بحثها فضيلة الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قوله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال [ 24 \ 37 ] .

وأن مفهوم " رجال " مفهوم صفة في هذه المسألة لا مفهوم لقب ; وعليه فالنساء يسبحن في بيوتهن ، وقد ساق البحث وافيا في عموم المساجد وخصوص المسجد النبوي ، مما يكفي توسعا .
المبحث الثالث .

وهو : هل المضاعفة خاصة بمسجده - صلى الله عليه وسلم - الذي بناه ، والذي كان موجودا أثناء حياته - صلى الله عليه وسلم - ، أو أنها توجد فيه وفيما دخله من الزيادة من بعده .

أما مثار البحث هو ما جاء في نص الحديث اسم الإشارة في مسجدي هذا ، فقال بعض العلماء : اسم الإشارة موضوع للتعيين ، وقال علماء الوضع : إنه موضوع بوضع عام لموضوع له خاص ، فيختص عند الاستعمال بمفرد معين ، وهو ما كان صالحا للإشارة الحسية ، وهو عين ما كان موجودا زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

ومعلوم أن الإشارة لم تتناول الزيادة التي وجدت بعد تلك الإشارة ، فمن هنا جاء الخلاف والتساؤل .

وقد نشأ هذا التساؤل في زمن عمر - رضي الله عنه - عند أول زيادة زادها في المسجد النبوي ، فرأى بعض الصحابة يتجنبون الصلاة في تلك الزيادة ويرغبون في القديم منها ، فقال لهم : لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد توسعة المسجد لما وسعته ، ووالله إنه لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو امتد إلى ذي الحليفة ، أو ولو امتد إلى صنعاء ، فهذا مثار البحث وسببه .

ولكن لو قيل : إنه في نفس الحديث مبحث لغوي آخر وهو أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " في [ ص: 331 ] مسجدي " ، بالإضافة إليه - صلى الله عليه وسلم - ، والإضافة تفيد التخصيص أو التعريف .

وفيه معنى العموم والشمول ، والآن مع الزيادة في كل زمان وعلى مر الأيام ، فإنه لم يزل هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعليه كان تصريح عمر : إنه لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

أقوال العلماء : الجمهور على أن المضاعفة في جميع أجزائه بما فيها الزيادة ، ونقل عن النووي في شرح مسلم : أنها خاصة بالمسجد .

الأول : قبل الزيادة ، وقيل : إنه رجع عنه . وهذا الرجوع موجود في المجموع شرح المهذب ، وعليه فلم يبق خلاف في المسألة .

وقال ابن فرحون : وقفت على كلام لمالك ، سئل عن ذلك فقال : ما أراه - عليه السلام - أشار بقوله : " في مسجدي هذا " إلا لما سيكون من مسجد بعده ، وأن الله أطلعه على ذلك .

وقد قدمت الإشارة إلى أن عمر - رضي الله عنه - ما زاد في المسجد إلا بعد أن سمع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - رغبته في الزيادة ، فيكون تأييدا لقول مالك - رحمه الله - . وروي أيضا : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال يوما وهو في مصلاه في المسجد : " لو زدنا في مسجدنا " ، وأشار بيده نحو القبلة .

وفي رواية : " إني أريد أن أزيد في قبلة مسجدنا " ، مما يدل على أن الزيادة كانت في حسبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

ومع الرغبة في الزيادة لم تأت إشارة إلى ما يغير حكم الصلاة في تلك الزيادة المنتظرة ، ولا يقال : إنها قبل وجودها لا يتعلق بها حكم ; لأننا رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رتب أحكاما على أمور لم توجد بعد : كمواقيت الإحرام المصري والشامي والعراقي ، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ستفتح اليمن ، وستفتح الشام ، وستفتح العراق " ، ومع كل منها يقول : " سيؤتى بأقوام يبسون هلم إلى الرخاء والسعة فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " .

وقال البعض : إن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " في مسجدي هذا " لدفع توهم دخول سائر المساجد المنسوبة إليه بالمدينة غير هذا المسجد ، لا لإخراج ما سيزاد في المسجد النبوي . قاله [ ص: 332 ] السمهودي . اهـ .

ولكن لم يعلم أنه كانت هناك عدة مساجد له - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يكن إلا المسجد والمصلى ، وبقية المساجد أطلقت عليها اصطلاحا .

ولابن تيمية كلام موجز في ذلك ، وهو أن الزيادة كانت في عهدي عمر وعثمان - رضي الله عنهما - .

وقعت زيادة كل منهما من جهة القبلة ، ومع هذا فإن كلا منهما كان إذا صلى بالناس قام في القبلة الواقعة في تلك الزيادة ، فيمتنع أن تكون الصلاة في تلك الزيادة ليست لها فضيلة المسجد ، إذ يلزم عليه صلاةعمر وعثمان بالناس .

وصلاة الناس معهم في الصفوف الأولى في المكان المفضول مع ترك الأفضل . اهـ .

ومن كل ما قدمنا يتضح أن : حكم الزيادة في المسجد النبوي كحكم الأصل في مضاعفة الأجر إلى الألف .

وقد كنت سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ما يفيد ذلك ، وسيأتي ذلك - إن شاء الله - في مبحث الأربعين صلاة ، وصلاة الناس في الصف خارج المسجد .

تنبيه .

هذه المضاعفة أجمعوا على أنها في الكيف لا في الكم ، فلو أن على إنسان فوائت يوم خمس صلوات ، وصلى صلاة هي خير من ألف صلاة ، لن تسقط عنه شيئا من تلك الفوائت ، فهي في نظري بمثابة ثوب وثوب آخر أحدهما قيمته ألف درهم ، والآخر بدرهم واحد ، فكل منهما ثوب في مهمته ، ولن يلبسه أكثر من شخص في وقت مهما كان ثمنه .

وكذلك كالقلم والقلم ، فمهما غلا ثمن القلم ، فلن يكتب به شخصان في وقت واحد .

تنبيه آخر .

مما لا شك فيه أن للمسجد الأساسي خصائص لم توجد في بقية المسجد : كالروضة من الجنة . والمنبر على ترعة من ترع الجنة ، بعض السواري ذات التاريخ .

[ ص: 333 ] وقد قال النووي : إذا كان الشخص سيصلي منفردا أو نفلا ، فإن الأفضل أن يكون في الروضة وإلا ففي المسجد الأول ، وإذا كان في الجماعة ، فعليه أن يتحرى الصف الأول ، وإلا ففي أي مكان من المسجد ، وهذا معقول المعنى . والحمد لله .
المبحث الرابع .

وهو بعد هذه التوسعة وانتقال الصف الأول عن الروضة ، فهل الأفضل الصلاة في الجماعة في الصف الأول ، أم في الروضة مع تخلفه عن الأول ؟ ولتصوير هذه المسألة نقدم الآتي :

أمام المصلى موضعان :

أحدهما الروضة ; بفضلها روضة من رياض الجنة .

والصف الأول : وفيه : " لو يعلمون ما الصف الأول لاستهموا عليه " ، فأي الموضعين يقدم على الآخر ؟

ومعلوم أنهم كانوا قبل التوسعة يمكنهم الجمع بين الفضيلتين ، إذ الصف الأول كان في الروضة .

أما الآن وبعد التوسعة فقد انفصل الصف الأول عن الروضة ، ما دام الإمام يصلي في مقدمة المسجد ، ولم أقف على تفصيل في المسألة .

ولكن عمومات للنووي ، ولابن تيمية - على ما قدمنا في مبحث شمول المضاعفة للزيادة ، ولكن توجد قضية يمكن استنتاج الجواب منها ، وهي قبل التوسعة كان للصف الأول ميمنة وميسرة ، وكان للميمنة فضيلة على الميسرة . ومعلوم أن ميمنة الصف قبل التوسعة كانت تقع غربي المنبر ، أي : خارجة عن الروضة ، والميسرة كلها كانت في الروضة ، ومع ذلك فقد كانوا يفضلون الميمنة على الميسرة لذاتها ، عن الروضة لذاتها أيضا ، فإذا كانت الميمنة - وهي خارج الروضة - مقدمة عندهم عن الروضة ، فلأن يقدم الصف الأول من باب أولى .

وهناك حقيقة فقهية ذكرها النووي ، وهي تقديم الوصف الذاتي على الوصف العرضي ، وهو هنا الصف الأول وصف ذاتي للجماعة . وفضل الروضة وصف عرضي للمكان . أي : لكل حال من ذكر أو صلاة فريضة أو نافلة ، فتقديم الصف الأول لكونه ذاتيا

[ ص: 334 ] بالنسبة للجماعة أولى من تقديم الروضة ; لكونه وصفا عرضيا .

وقد مثل لهذه القاعدة النووي بقوله : فلو أن إنسانا في طريقه إلى الصلاة بالمسجد النبوي فوجد مسجدا آخر يصلي جماعة ، فكان بين أن يدرك الجماعة مع هؤلاء أو يتركها ويمضي إلى المسجد النبوي ، وتفوته الصلاة فيصلي منفردا بألف صلاة ، فقال : يصلي في هذا المسجد جماعة أولى له ; لأنه تحصيل الجماعة وصف ذاتي للصلاة ، وتحصيل خير من ألف صلاة وصف عرضي بسبب فضل المسجد النبوي . اهـ . ملخصا .

وقد يقال أيضا : إن العبد مكلف بإيقاع الصلاة في جماعة أكثر منه تكليفا بإيقاعها في المسجد النبوي .

وهكذا الحال ; فإنا مطالبون بالصف الأول على الإطلاق حيث ما كان ، أكثر منا مطالبة بالصلاة في الروضة . والعلم عند الله تعالى .
المبحث الخامس .

وهو في حالة ازدحام المسجد وامتداد الصفوف إلى الخارج في الشارع أو البرحة ، فهل لامتداد الصفوف تلك المضاعفة أم لا ؟

لنعلم أن فضيلة الجماعة حاصلة بلا خلاف . أما المضاعفة إلى ألف ، فلم أقف على نص فيها ، وقد سألت الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عن ذلك مرتين ، ففي الأولى : مال إلى اختصاص المسجد بذلك ، وفي المرة الثانية - وبينهما نحو من عشر سنوات - : مال إلى عموم الأجر ، وقال ما معناه : إن الزيادة تفضل من الله ، وهذا امتنان على عباده ، فالمؤمل في سعة فضل الله أنه لا يكون رجلان في الصف متجاورين أحدهما على عتبة المسجد إلى الخارج ، والآخر عليها إلى الداخل ، ويعطي هذا ألفا ويعطي هذا واحدة . وكتفاهما متلاصقتان ، وهذا واضح . والحمد لله .

وقد رأيت في مسألة الجمعة عند المالكية نصا ، وكذلك عند غيرهم ممن يشترطون المسجد للجمعة ، فإنهم متفقون أن الصفوف إذا امتدت إلى الشوارع والرحبات خارج المسجد أن الجمعة صحيحة ، مع أنهم أوقعوها في غير المسجد ، لكن لما كانت الصفوف ممتدة من المسجد إلى خارجه انجر عليها حكم المسجد وصحت الجمعة .

فنقول هنا : كذلك لما كانت الصفوف خارجة عن المسجد النبوي : ينجر عليها حكم المسجد - إن شاء الله - . والله تعالى أعلم .

[ ص: 335 ] وقد يستدل لذلك بالعرف وهو : لو سألت من صلى في مثل ذلك : أين صليت ؟ أفي قباء ؟ أم في المسجد النبوي ؟ لقال : بل في المسجد النبوي . فلم يخرج بذلك عن مسمى المسجد عرفا .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #574  
قديم 15-08-2024, 09:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (572)
سُورَةُ الْجِنِّ
صـ 335 إلى صـ 342


المبحث السادس .

وهو عند الزحام في المسجد النبوي خاصة ، وفي بقية المساجد عامة . حينما يضيق المكان ويضطر المصلون للصلاة في صفوف عديدة خارج المسجد ، وأمام الإمام متقدمين عليه بعدة صفوف ، فما حكم صلاة هؤلاء ؟

قد ذكر النووي في المجموع الخلاف عن الشافعي . وأن الصحيح من المذهب هو الصحة مع الكراهة .

وذكر المالكية الصحة كذلك ، وقد استدلوا لها بصلاة ابن عباس - رضي الله عنه - ذات ليلة عند ميمونة - رضي الله عنها - بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وابن عباس آنذاك غلام ، فقام على يساره - صلى الله عليه وسلم - ، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه ; تكريما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما شعر به - صلى الله عليه وسلم - وبعد أن كبر ودخل في الصلاة ، فأخذه - صلى الله عليه وسلم - بيده ونقله من ورائه ، وجعله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه بحذائه في موقف الواحد ، كما هو معلوم من حكم المنفرد مع الإمام .

ومحل الاستدلال في ذلك هو أن الجهات بالنسبة للإمام أربع : خلفه ; وهي للكثيرين من اثنين فصاعدا . وعن يمينه ; وهو موقف الفرد ، ويساره وأمامه . أما اليسار ; فقد وقف فيه ابن عباس وليس بموقف ، فأخذه - صلى الله عليه وسلم - وجعله عن يمينه .

ولكن بعد أن دخل في الصلاة وأوقع بعض صلاته في ذلك المقام ، وقد صحت صلاته حيث بنى على الجزء الذي سبق أن أوقعه عن اليسار ; لضرورة الجهل بالموقف .

وبقيت جهة الإمام ; فليست بجهة موقف ، ولكن عند الضرورة وللزحمة لم يكن من التقدم على الإمام بد ، فجازت أو فصحت للضرورة ، كما صحت عن يساره - صلى الله عليه وسلم - . - والله تعالى أعلم - .

ويقوي هذا الاستدلال : أنه لو جاء شخص إلى الجماعة ولم يجد له مكانا إلا بجوار

[ ص: 336 ] الإمام ، فإنه يقف عن يمينه
بجواره ، كما لو كان منفردا مع وجود الصفوف العديدة . ولكن صح وقوفه للضرورة .
المبحث السابع .

موضوع الأربعين صلاة ، وهو من جهة خاص بالمسجد النبوي ، ومن جهة عام في كل مسجد ، ولكن لا بأربعين صلاة بل بأربعين يوما . أما ما يخص المسجد النبوي ، فقد جاء في حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا تفوته صلاة ; كتبت له براءة ونجاة من العذاب ، وبرئ من النفاق " .

قال المنذري في الترغيب والترهيب : رواته رواة الصحيح . أخرجه أحمد في مسنده والطبراني في الأوسط .

وفي مجمع الزوائد : رجاله ثقات . وهو عند الترمذي بلفظ : " من صلى أربعين يوما في جماعة ، يدرك التكبيرة الأولى ، كتب له براءتان : براءة من النار ، وبراءة من النفاق " .

قال الترمذي : هو موقوف على أنس ، ولا أعلم أحدا رفعه .

وقال ملا علي القاري : مثل هذا لا يقال بالرأي ، وقد تكلم بعض الناس في هذا الحديث بروايتين :

أما الأولى : فبسبب نبيط بن عمر .

وأما الثانية : فمن جهة الرفع والوقف . وقد تتبع هذين الحديثين بعض أهل العلم بالتدقيق في السند ، وأثبت صحة الأول ، وحكم الرفع للثاني . وقد أفردهما الشيخ حماد الأنصاري برسالة رد فيها على بعض من تكلم فيهما من المتأخرين . نوجز كلامه في الآتي :

قال الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة في زوائد الأربعة : نبيط بن عمر ، ذكره ابن حبان في الثقات ، فاجتمع على توثيق نبيط كل من ابن حبان والمنذري والبيهقي وابن حجر ، ولم يجرحه أحد من أئمة هذا الشأن . فمن ثم لا يجوز لأحد أن يطعن ولا أن يضعف من وثقه أئمة معتبرون ، ولم يخالفهم إمام من أئمة الجرح والتعديل . وكفى من ذكروا من أئمة هذا الشأن قدوة .

[ ص: 337 ] ذلك ; ولو فرض وقدر جدلا أنه في السند مقال ، فإن أئمة الحديث لا يمنعون إذا لم يكن في الحديث حلال أو حرام أو عقيدة ، بل كان باب فضائل الأعمال لا يمنعون العمل به ; لأن باب الفضائل لا يشدد فيه هذا التشديد .

ونقل السيوطي مثل ذلك عن أحمد ، وابن المبارك .

أما حديث إدراك تكبيرة الإحرام في أي مسجد ، فهذا أعم من موضوع المسجد النبوي الذي نتحدث عنه ، وكل أسانيده ضعيفة ، ولكن قال الحافظ ابن حجر : يندرج ضمن ما يعمل به في فضائل الأعمال . انتهى ملخصا .

وهذا الحث على أربعين صلاة في المسجد النبوي ، لعله - والله تعالى أعلم - من باب التعود والتزود ، لما يكسبه ذلك العمل من مداومة ، وحرص على أداء الصلوات الخمس ثمانية أيام في الجماعة ، واشتغاله الدائم بشأن الصلاة وحرصه عليها ، حتى لا تفوته صلاة مما يعلق قلبه بالمسجد ، فتصبح الجماعة له ملكة ، ويصبح مرتاحا لارتياد المسجد ، وحريصا على بقية الصلوات في بقية أيامه لا تفوته الجماعة إلا من عذر .

فلو كان زائرا ورجع إلى بلاده رجع بهذه الخصلة الحميدة ، ولعل في مضاعفة الصلاة بألف تكون بمثابة الدواء المكثف الشديد الفعالية ، السريع الفائدة ، أكثر مما جاء في عامة المساجد بأربعين يوما لا تفوته تكبيرة الإحرام ، إذ الأربعون صلاة في المسجد النبوي تعادل أربعين ألف صلاة فيما سواه ، وهي تعادل حوالي صلوات اثنين وعشرين سنة .

ولو راعينا أجر الجماعة : خمسا وعشرين درجة ، لكانت تعادل صلاة المنفرد : خمسمائة وخمسين سنة ، أي : في الأجر والثواب لا في العدد ، أي : كيفا لا كما ، كما قدمنا . وفضل الله عظيم .

وليعلم أن الغرض من هذه الأربعين هو كما أسلفنا التعود والحرص على الجماعة .

أما لو رجع فترك الجماعة وتهاون في شأن الصلاة ، عياذا بالله ، فإنها تكون غاية النكسة . نسأل الله العافية ، كما نعلم أن هذه الأربعين صلاة لا علاقة لها لا بالحج ولا بالزيارة ، على ما تقدم للشيخ - رحمه الله - في آداب الزيارة في سورة " الحجرات " .

وأن الزيارة تتم بصلاة ركعتي تحية المسجد ، والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى

[ ص: 338 ] صاحبيه - رضوان الله تعالى علينا وعليهم - ، ثم الدعاء لنفسه وللمسلمين بالخير ، ثم إن شاء انصرف إلى أهله ، وإن شاء جلس ما تيسر له . وبالله تعالى التوفيق .
مبحث السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان جانب من جوانب السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الكلام على قوله تعالى : أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ 49 \ 2 ] في التحذير من مبطلات الأعمال وبيان ما هو حق لله فلا يصرف لغيره ، وما هو حق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يتجاوز به .

وقد يجر الحديث عن السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفضله وفضيلته إلى موضوع شد الرحال إلى المسجد ، وإلى السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
شد الرحال إلى المسجد النبوي للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

ومما اختص به المسجد النبوي ، بل ومن أهم خصائصه بعد الصلاة ، السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من داخل هذا المسجد قديما وحديثا .

كما جاء في الصحيح : " ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي ، فأرد عليه السلام " ومجمعون أن ذلك يحصل لمن سلم عليه - صلى الله عليه وسلم - من قريب ، وما كان هذا السلام يوما من الأيام إلا من المسجد النبوي ، سواء قبل أو بعد إدخال الحجرة في المسجد .

ومعلوم أن أول آداب الزيارة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - ، البدء بصلاة ركعتين تحية المسجد ، وبعد السلام ينصرف عن المواجهة ، ويدعو ما شاء وهو في أي مكان من المسجد .

وهنا مسألة طالما أثير النزاع فيها : وهي شد الرحال للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وهي إن كان محلها مبحث الزيارة وأحكامها وآدابها ، إلا أننا نسوق موجزا عنها بمناسبة حديث شد الرحال ، ونسأل الله تعالى الهداية والتوفيق .

من المعلوم أن أصل هذه المسألة هو حديث : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " المتقدم ذكره ; لاختلافهم في تقدير المستثنى منه . والمراد بشد الرحال إليه في تلك [ ص: 339 ] المساجد ، أهو خصوص الصلاة أم للصلاة وغيرها ؟ .

ولنتصور حقيقة هذه المسألة ينبغي أن نعلم أولا : أن البحث في هذه المسألة له ثلاث حالات :

الأولى : شد الرحال إلى المسجد النبوي للزيارة . وهذا مجمع عليه .

الثانية : زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه من قريب بدون شد الرحال ، وهذا أيضا مجمع عليه .

الثالثة : شد الرحال للزيارة فقط . وهذه الحالة الثالثة هي محل البحث عندهم ، ومثار النقاش السابق .

قال ابن حجر في فتح الباري على حديث شد الرحال : قال الكرماني : وقد وقع في هذه المسألة في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة ، وصنفت فيها مسائل من الطرفين .

قلت : - أي : ابن حجر - يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على تقي الدين بن تيمية ، وما انتصر به الحافظ : شمس الدين بن عبد الهادي وغيره لابن تيمية ، وهي مشهورة في بلادنا . اهـ . وهذا يعطينا مدى الخلاف فيها وتاريخه .

وقد أشار ابن حجر إلى مجمل القول فيها بقوله : إن الجمهور أجازوا بالإجماع شد الرحال لزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن حديث : " لا تشد الرحال " إنما يقصد به خصوص الصلاة ، وليس مكان أولى من مكان بالصلاة تشد له الرحال إلا المساجد الثلاثة ; لما خصت من فضيلة مضاعفة الصلاة فيها .

تقي الدين جعل موضوع النهي عن شد الرحال عاما للصلاة وغيرها . واعترض عليه باتفاق الأمة على جواز شد الرحال لأي مكان ; لعدة أمور كما هو معلوم .

ومما استدل به على عدم شد الرحال لمجرد الزيارة ، ما روي عن مالك : كراهية أن يقال : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وأجيب عن ذلك : بأن كراهية مالك للفظ فقط تأدبا لا أنه كره أصل الزيارة ، فإنها من أفضل الأعمال ، وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال ، وأن مشروعيتها محل إجماع [ ص: 340 ] بلا نزاع . والله الهادي إلى الصواب . اهـ .

ولعل مذهب البخاري حسب صنيعه هو مذهب الجمهور ; لأنه أتى في نفس الباب ، بعد حديث شد الرحال مباشرة بحديث : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه " ، مما يشعر بأنه قصد بيان موجب شد الرحال هو فضيلة الصلاة ، فيكون النهي عن شد الرحال مختصا بالمساجد ، ولأجل الصلاة إلا في تلك المساجد الثلاثة ; لاختصاصها بمضاعفة الصلاة فيها دون غيرها من بقية المساجد والأماكن الأخرى .

وقد ناقش ابن حجر لفظ الحديث ، ورجح هذا المذهب حيث قال :

قال بعض المحققين : قوله : " إلا إلى ثلاثة مساجد " المستثنى منه محذوف . فإما أن يقدر عاما فيصير لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة . أو أخص من ذلك . لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها ، فتعين الثاني .

والأولى : أن يقدر ما هو أكثر مناسبة ، وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة . فيبطل بذلك قول : من منع شد الرحال إلى زيارة قبره الشريف - صلى الله عليه وسلم - . وغيره من قبور الصالحين . والله أعلم .

وقال السبكي الكبير : ليس في الأرض بقعة تفضل لذاتها حتى تشد إليها الرحال غير البلاد الثلاثة . ومرادي بالفضل : ما شهد الشرع باعتباره ، ورتب عليه حكما شرعيا . أما غيرها من البلاد ، فلا تشد إليها لذاتها ، بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات .

قال : وقد التبس ذلك على بعضهم ، فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخل في المنع وهو خطأ ; لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه . فمعنى الحديث : لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان ، إلا إلى الثلاثة المذكورة . وشد الرحال إلى زيارة أو طلب ليس إلى المكان ، بل إلى من في ذلك المكان . والله أعلم . اهـ .

[ ص: 341 ] وبتأمل كلام ابن حجر ، نجده يتضمن إجراء معادلة على نص الحديث بأن له حالتين فقط :

الأولى : أن يقال : لا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة لخصوص الصلاة ، ولا تشد لغيرها من الأماكن لأجل الصلاة ، فيكون النهي منصبا على شد الرحال لأي مكان سوى المساجد الثلاثة ; من أجل أن يصلي فيما عداها . فيبقى غير الصلاة خارجا عن النهي ; فتشد له الرحال لأي مكان كان .

وغير الصلاة يشمل : طلب العلم ، والتجارة ، والنزهة ، والاعتبار ، والجهاد ، ونحو ذلك ، والنصوص في ذلك كله متضافرة .

ففي طلب العلم ما قدمنا من نصوص ، وقد رحل نبي الله موسى إلى الخضر ، كما قال تعالى : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ، إلى قوله : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، إلى قوله : قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا [ 18 \ 60 - 66 ] .

وفي السفر للتجارة قوله تعالى : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [ 73 \ 20 ] . وقوله : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه [ 67 \ 15 ] ، وغيرها كثيرة .

والسفر للعبرة قوله تعالى : قل سيروا في الأرض فانظروا [ 27 \ 69 ] .

وقوله ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 136 - 138 ] .

وقوله : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ 22 \ 45 - 46 ] .

فقد أمر الله العباد بالسير ; ليعقلوا بقلوبهم حالة تلك القرى الخاوية ليتعظوا بأحوال أهلها .

[ ص: 342 ] فهذه نصوص جواز السفر لعدة أمور ، فيكون من ضمنها السفر لزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه . حيث إن السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المشروعة بلا نزاع ، والحالة الثانية : أن يكون النهي عاما لجميع الأماكن في جميع الأمور ; فلا تشد الرحال قط إلا إلى ثلاثة المساجد وبلدانها الثلاثة . ولكن لا لخصوص الصلاة فقط ، بل لكل شيء مشروع بأصله مما قدمنا أنواعه من طلب العلم والتجارة والعظة والنزهة وغير ذلك : كصوم ، واعتكاف ، ومجاورة ، وحج ، وعمرة ، وصلة رحم ، ومشاهدة معالم تاريخية ونحو ذلك .

ومن هذا كله السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا شد الرحال إلى المدينة لكل شيء كان منها الزيارة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا معارضة على حالة من الحالتين ، ولا يتعارض معهما الحديث المذكور ، على أي تقدير المستثنى منه في هذا الحديث .
وجهة نظر .

وبالتحقيق في هذه المسألة وإثارة النزاع فيها ، يظهر أن النزاع والجدال فيها أكثر مما كانت تحتمل ، وهو إلى الشكلي أقرب منه إلى الحقيقي . ولا وجود له عمليا .

وتحقيق ذلك كالآتي : وهو ما داموا متفقين على شد الرحال للمسجد النبوي للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومتفقون على السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدون شد الرحال ; فلن يتأتى لإنسان أن يشد الرحال للسلام دون المسجد ، ولا يخطر ذلك على بال إنسان ، وكذلك شد الرحل للصلاة في المسجد النبوي دون أن يسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لن يخطر على بال إنسان . وعليه فلا انفكاك لأحدهما عن الآخر ; لأن المسجد النبوي ما هو إلا بيته - صلى الله عليه وسلم - ، وهل بيته إلا جزء من المسجد كما في حديث الروضة : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " .

فهذا قوة ربط بين بيته ومنبره في مسجده .

ومن ناحية أخرى : هل يسلم أحد عليه - صلى الله عليه وسلم - من قريب ، لينال فضل رد السلام عليه منه - صلى الله عليه وسلم - ، إلا إذا كان سلامه عن قرب ومن المسجد نفسه ؟

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #575  
قديم 15-08-2024, 09:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (573)
سُورَةُ الْجِنِّ
صـ 3435 إلى صـ 350




[ ص: 343 ] وهل تكون الزيارة سنية إلا إذا دخل المسجد وصلى أولا تحية المسجد ؟

وبهذا ; فلا انفكاك لشد الرحل إلى المسجد عن زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا لزيارته - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد ، فلا موجب لهذا النزاع .

وهنا وجهة نظر أخرى وهي : أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي ، فأرد عليه السلام " . فإن إطلاقه عن كل قيد من قرب أو بعد مما يدل على العموم من حيث المجيء للسلام عليه .

فيقال : إن هذه فضيلة عظيمة ، ولا يتأتى للبعيد تحصيلها إلا بشد الرحال إليها كوسيلة لتحصيلها ، والوسيلة تأخذ حكم الغاية من وجوب أو ندب أو إباحة ، كالسعي إلى الجمعة واجب ; لأن أداء الجمعة واجب ، وإعداد الثياب الجميلة إليها مثلا مندوب ; لأن التجمل إليها مندوب ، ومثله إعداد الطيب بالنسبة لحضورها .

وقد رأيت لابن تيمية مناقشة هذه المسألة ، ولكنه جاء بأمثلة قابلة هي للنقاش ، فقال : ليس كل غاية مشروعة تكون وسيلتها مشروعة ، كحج المرأة وخروجها إلى المسجد ، فإن الأول مشروط فيه وجود المحرم . والثاني : مشروط فيه إذن الزوج .

والنقاش لها أن سفر المرأة مطلقا ممنوع إلا مع المحرم ، سواء كان لهذا المسجد وللحج أو لغيره .

وخروجها إلى المسجد ليس بمطلوب منها في الأصل ، ولكن إذا طلبت الإذن يؤذن لها . فالأصل فيه المنع حتى تحصل على الإذن .

وعلى هذا يقال : لو كان شد الرحل إليها غير مشروع ، لما كان لفاعله نصيب في فضلها ، ولا يحصل على رد السلام منه - صلى الله عليه وسلم - .

ولو كان كذلك للزم التنبيه عليه عند بيان فضيلته ; لعدم تأخير البيان ، فكأن يقال مثلا : فأرد عليه السلام ، إلا من شد الرحل لذلك . أو يقال : من أتاني من قريب فسلم علي . . . إلخ . ولكن لم يأت شيء من هذا التنبيه وبقي الحديث على عمومه .

وليعلم أن ابن تيمية - رحمه الله - يفرق بين السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين عامة المسلمين ، لما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حقوق وخصائص ليست لغيره من : وجوب محبة ، وتعظيم ، وفرضية صلاة ، [ ص: 344 ] وتسليم في صلواتنا ، وعند دخول المساجد والخروج منها ، بل وعند سماع ذكره مما ليس لغيره قط .

كما أن زيارة غيره - صلى الله عليه وسلم - للدعاء له والترحم عليه ، بينما زيارته - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه ; ليرد الله تعالى عليه روحه فيرد علينا السلام .

وزيارة غيره في أي مكان من العالم لا مزية له ، بينما زيارته - صلى الله عليه وسلم - من مسجده وقد خص بما لم يختص به غيره .

وأعتقد أن هذه المسألة لولا نزاع معاصري ابن تيمية معه في غيرها لما كان لها محل ولا مجال .

ولكنهم وجدوها حساسة ولها مساس بالعاطفة ، ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأثاروها وحكموا عليه بالالتزام . أي : يلازم كلامه حينما قال :

لا يكون شد الرحال لمجرد الزيارة ، بل تكون للمسجد من أجل الزيارة ، عملا بنص الحديث ، فتقولوا عليه ما لم يقله صراحة . ولو حمل كلامه على النفي بدلا من النهي لكان موافقا ، أي : لا يتأتى ذلك ; لأنه لم يمنع زيارته - صلى الله عليه وسلم - ولا السلام عليه ، بل يجعلها من الفضائل والقربات ، وإنما يلتزم بنص الحديث في جعل شد الرحال إلى المسجد ، ولكل شيء ومنه السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما صرح بذلك في كتبه .

قال في بعض رسائله وردوده ما نصه :
فصل

قد ذكرت فيما كتبته من المناسك : أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره ، كما يذكر أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب .

وقد ذكرت في عدة مناسك الحج السنة في ذلك وكيف يسلم عليه ، وهل يستقبل الحجرة أم القبلة على قولين . فالأكثرون يقولون : يستقبل الحجرة ، كمالك ، والشافعي ، وأحمد ، إلى أن قال :

والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب باتفاق أئمة المسلمين ، لم يقل أحد من أئمة [ ص: 345 ] المسلمين : إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة ، ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده ، وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره - صلى الله عليه وسلم - ، بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة ، ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهي عن ذلك ، ولا نهي عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور .

إلى أن قال :

وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة ، فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى .

ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين ، وهو أن أمرنا أن نصلي عليه ونسلم عليه في كل صلاة ، ويتأكد ذلك في الصلاة وعند الأذان وسائر الأدعية ، وأن نصلي ونسلم عليه عند دخول المسجد ، مسجده وغير مسجده ، وعند الخروج منه ; فكل من دخل مسجده فلا بد أن يصلي فيه ويسلم عليه في الصلاة .

والسفر إلى مسجده مشروع ، لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره ، حين كره مالك - رحمه الله - أن يقال : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليها والدعاء لهم ، وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده ، وعند سماع الأذان وعند كل دعاء . فتشرع الصلاة عليه عند كل دعاء ، فإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم . اهـ .

وإذا كان هذا كلامه ، فإن المسألة شكلية وليست حقيقية . إذ أنه يقرر بأن السفر إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم - مشروع وإن كان يزور قبره - صلى الله عليه وسلم - ويسلم عليه ، وأن ذلك من أفضل القربات ومن صالح الأعمال .

أي : وإن كانت الزيارة مقصودة عند السفر .

وإذا كان السفر إلى المسجد لا ينفك عن السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - ، والسلام عليه لا ينفك عن الصلاة في المسجد . فلا موجب لهذا النقاش ، وجعل هذه المسألة مثار نزاع أو جدال .

وقد صرح بما يقرب من هذا المعنى في موضع آخر من كلامه ، إذ يقول في ج 27 ص 342 من المجموع ، ما نصه :

[ ص: 346 ] فمن سافر إلى المسجد الحرام ، أو المسجد الأقصى ، أو مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فصلى في مسجده وصلى في مسجد قباء ، وزار القبور كما قضت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا هو الذي عمل العمل الصالح .

ومن أنكر هذا السفر ، فهو كافر يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل .

وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في المسجد ، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ولا يسلم عليه في الصلاة ، بل أتى القبر ثم رجع ; فهذا مبتدع ضال ، مخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولإجماع أصحابه ، ولعلماء الأمة .

وهو الذي ذكر فيه القولان : أحدهما : أنه محرم . والثاني : أنه لا شيء عليه ، ولا أجر له .

والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية يصلون في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة ، وهذا مشروع باتفاق المسلمين . إلى أن قال : وذكرت أنه يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه . اهـ .

فأي موجب لنزاع أو خلاف في هذا القول ، فإن كان في قوله فيمن قصد السفر لمجرد زيارة القبر ، ولم يقصد الصلاة في المسجد ، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ولا سلم عليه في الصلاة بل أتى القبر ثم رجع ; فهذا مبتدع . . إلخ .

فمن من المسلمين يجيز لمسلم : أن يشد رحله إلى المدينة ; لمجرد زيارة القبر دون قصد الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، ودون أن يصلي عليه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، وهو يعلم أن الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - بألف صلاة .

فدل كلامه أن زيارة القبر والصلاة في المسجد مرتبطتان ، ومن ادعى انفكاكهما عمليا فقد خالف الواقع ، وإذا ثبتت الرابطة بينهما انتفى الخلاف وزال موجب النزاع . والحمد لله رب العالمين .

وصرح في موضع آخر ص 346 في قصر الصلاة في السفر لزيارة قبور الصالحين عن أصحاب أحمد أربعة أقوال . الثالث منها : تقصر إلى قبر نبينا - عليه الصلاة والسلام - .

وقال في التعليل لهذا القول : إذا كان عامة المسلمين لا بد أن يصلوا في مسجده [ ص: 347 ] فكل من سافر إلى قبره المكرم فقد سافر إلى مسجده المفضل .

وكذلك قال بعض أصحاب الشافعي ، إلى أن قال : وكذلك كثير من العلماء يطلق السفر إلى قبره المكرم ، وعندهم أن هذا يتضمن السفر إلى مسجده ، إذ كان كل مسلم لا بد إذا أتى الحجرة المكرمة أن يصلي في مسجده فهما عندهم متلازمان .

وبعد نقله لأقوال العلماء ، قال ما نصه :

وحقيقة الأمر أن فعل الصلاة في مسجده من لوازم هذا السفر ، فكل من سافر إلى قبره المكرم لا بد أن تحصل له طاعة وقربة ، يثاب عليها بالصلاة في مسجده .

وأما نفس القصد ، فأهل العلم بالحديث يقصدون السفر إلى مسجده ، وإن قصد منهم من قصد السفر إلى القبر أيضا إذا لم يعلم النهي .

وهذا غاية في التصريح منه أنه لا انفكاك من حيث الواقع بين الزيارة والصلاة في المسجد عند عامة العلماء .

ثم قال في حق الجاهل : وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر إلى القبر ، ثم إنه لا بد أن يصلي في مسجده فيثاب على ذلك . وما فعله وهو منهي عنه ولم يعلم أنه منهي عنه لا يعاقب عليه ، فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر . اهـ .

وقد أكثرنا النقول عنه ; لما وجدنا من ليس في هذا الموضوع على كثير من الناس ، حتى قال ابن حجر في فتح الباري فيها : وهذا أعظم ما أخذ على ابن تيمية ، فهي وإن كانت شهادة من ابن حجر أنها أشد ما أخذ عليه مع ما رمي به من خصومه في العقائد ومحاربة البدع ، إلا أنها - بحمد الله - بعد هذه النقول عنه من صريح كلام لم يعد فيها ما يتعاظم منه ، فعلى كل متكلم في هذه المسألة أن يرجع إلى أقواله فلم يترك جانبا إلا وبينه ، سواء في حق العالم أو الجاهل . وبالله تعالى التوفيق .

هذا ما يتعلق بخصوص السفر إلى المدينة المنورة للمسجد وللزيارة معا ، على التفصيل المتقدم .

أما بقية الأماكن ما عدا المساجد الثلاثة ، فلا تشد الرحال إليها للصلاة أو الدعاء أو الاعتكاف ونحو ذلك ، مما لا مزية لها في مكان دون آخر قط ، أيا كانت تلك البقعة أو [ ص: 348 ] كانت تلك العبادة . وذلك لحديث أبي هريرة في الموطأ في الساعة التي في يوم الجمعة ، قال : " خرجت إلى الطور ، فلقيت كعب الأحبار فجلست معه ، فحدثني عن التوراة ، وحدثته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان فيما حدثته أن قلت له : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ; فيه خلق آدم وفيه أهبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تطلع الشمس ; شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه " .

قال كعب : ذلك في كل سنة يوم . فقلت : بل في كل جمعة ، فقرأ كعب التوراة ، فقال : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو هريرة : فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري ، فقال : من أين أقبلت ؟ فقلت : من الطور . فقال : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : إلى المسجد الحرام ، وإلى مسجدي هذا ، وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس " يشك أبو هريرة .

ثم لقيت عبد الله بن سلام ، فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته به في يوم الجمعة إلى آخر الحديث هذا العظيم .

قال الباجي : على هذا الحديث : خروج أبي هريرة إلى الطور يحتمل أن يكون لحاجة عنت له فيه ، ويحتمل أن يكون قصده على معنى التعبد والتقرب بإتيانه ، إلا أن قول بصرة : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت . دليل على أن فهم منه التقرب بقصده . وسكوت أبي هريرة حين أنكر عليه دليل على أن الذي فهم منه كان قصده . أقول : لقد صرح أبو هريرة أنه كان للصلاة كما في مجمع الزوائد لأحمد عن شهر ، وقال : حسن .

والحديث يدل على أن من نذر صلاة بمسجد البصرة أو الكوفة أنه يصلي بموضعه ولا يأتيه ; لحديث بصرة المنصوص في ذلك ، وذلك أن النذر يكون فيما فيه القربة . ولا فضيلة لمساجد البلاد على بعضها البعض ، تقتضي قصده بإعمال المطي إليه إلا المساجد الثلاثة ; فإنها تختص بالفضيلة .

وأما من نذر الصلاة والصيام في شيء من مساجد الثغور ، فإنه يلزمه إتيانها والوفاء [ ص: 349 ] بنذره ; لأن نذره قصدها لم يكن لمعنى الصلاة فيها ، بل قد اقترن بذلك الرباط ، فوجب الوفاء به .

ولا خلاف في المنع من ذلك من غير المساجد الثلاثة ، إلا ما قاله محمد بن مسلمة في المبسوط . فإنه أضاف إلى ذلك مسجدا رابعا وهو مسجد قباء ، فقال : من نذر أن يأتيه فيصلي فيه كان عليه ذلك . اهـ .

ولعل مقصد محمد بن مسلمة في إضافته مسجد قباء ، العمل بما جاء في مسجد قباء من أثر اختص به عن أنس بن مالك فيما رواه عمر بن شبة ، قال : حدثنا سويد بن سعيد ، قال : حدثنا أيوب بن صيام عن سعيد بن الرقيش الأسدي ، قال : جاءنا أنس بن مالك إلى مسجد قباء ، فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري ، ثم سلم وجلسنا حوله ، فقال : سبحان الله ! ما أعظم حق هذا المسجد ، ولو كان على مسيرة شهر كان أهلا أن يؤتى ، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه ليصلي فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة .

وتقدم عن وفاء الوفاء نقله بقوله :

وكان هذا الحكم معلوما عند العامة ، حتى قال ابن شبة : قال أبو غسان : ومما يقوي هذه الأخبار ، ويدل على تظاهرها في العامة والخاصة ، قول عبد الرحمن بن الحكم في شعر له :
فإن أهلك فقد أقررت عينا من المعتمرات إلى قباء .

من اللاتي سوالفهن غيد عليهن الملاحة بالبهاء


تنبيه .

إن قول أنس ليشعر بجواز شد الرحل إلى قباء لو كان بعيدا ، ولكنه للمعاني في المساجد الثلاثة الأخرى ، فلا يتعارض مع الحديث الأول .

تنبيه آخر .

أبيات الشاعر تشعر بخطأ التجمع في يوم معين لقباء ، واجتماع الرجال والنساء .

[ ص: 350 ] تنبيه ثالث .

يوجد فرق بصفة إجمالية عامة بين زيارة عموم المقابر لعامة الناس ، وخصوص زيارة القبور الثلاثة . إذ الغرض من زيارة عامة المقابر هو الدعاء لها ، وتذكر الآخرة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ; فإنها تذكر الآخرة " .

أما هذه الثلاثة المشرفة ، فلها خصائص لم يشاركها فيها غيرها :

أولا : ومن حيث الموضوع : ارتباطها بالمسجد النبوي أحد المساجد التي من حقها شد الرحال إليها .

ثانيا : عظيم حق من فيها على المسلمين ، إذ بزيارتهم لا بتذكر الآخرة فحسب ، بل ويستفيد ذكريات الدنيا وعظيم جهادهم في سبيل إعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه ، وهداية الأمة ، والقيام بأمر الله ، حتى عبد الله وحده وعمل بشرعه ، فيما يثير إحساس المسلم وجوب تجديد العهد مع الله تعالى وحده على العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهدي خلفائه الراشدين - رضوان الله عليهم - .

وهذا ما يجعل الإنسان يتوجه إلى الله عقب السلام عليهم بخالص الدعاء ، أن يجزيهم على ذلك ما يعلم سبحانه أنهم أهل له .

ثالثا : عظيم الفضل من الله على من سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أن يرد الله تعالى عليه - صلى الله عليه وسلم - روحه فيرد عليه السلام ، وكل ذلك أو بعضه لا يوجد عند عامة المقابر . وهذا مع مراعاة الآداب الشرعية في الزيارة لما تقدم .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #576  
قديم 15-08-2024, 09:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (574)
سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ .
صـ 351 إلى صـ 358


مسألة .

في هذه الآية الكريمة : وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا [ 72 \ 18 ] ، جمع بين مسألتين ، فكأن الأولى تدل على الثانية بمفهومها ، وكأن الثانية تكون منطوق الأولى ; لأن كون المساجد لله يقتضي إفراده تعالى بالعبادة وألا يدعى معه أحد .

أما إفراده بالعبادة ، فقد كتب الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - على ذلك مبحثا كاملا في سورة " الحجرات " في مسألة من المسائل على قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ 49 \ 2 ] .

[ ص: 351 ] وبين في هذه المسألة ما هو حق لله ، وما هو حق لرسول الله ، ووجوب إفراد الله تعالى بما هو حقه تعالى ، وبين فيها آداب السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن وضع اليد على اليد كهيأة الصلاة نوع من أنواع العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى . اهـ .

وأن الجمع هنا بين المفهوم والمنطوق بنفس المفهوم ، لما يدل على شدة الاهتمام به والعناية بأمره ، وإنه ليلفت النظر إلى ما جاء في الأحاديث الصحيحة من النهي الأكيد والوعيد الشديد بالنسبة لقضية المساجد ودعوة التوحيد ، وما كان يفعله الأولون من بناء المساجد على القبور ، ويفتحون بذلك بابا مطلا على الشرك . كحديث أم سلمة وأم حبيبة - رضي الله عنهما - عند البخاري ومسلم ، في قصتيهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاهدتاه بالحبشة من هذا القبيل ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح ، أو العبد الصالح ، بنوا على قبره مسجدا ; أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " .

وكحديث الصحيحين : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ، قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره ، أي : خشية اتخاذه مسجدا " .

حديث الموطأ قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " فكل ذلك مما يشدد الحذر من الجمع بين القبور والمساجد ; خشية الفتنة وسدا للذريعة ، ويشهد لهذا ما ذكره علماء التفسير - رحمهم الله - من سبب النزول ، أن اليهود والنصارى كانوا إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم ، أشركوا مع الله غيره ، فحذر الله المسلمين أن يفعلوا ذلك .

وهذه المسألة مما تفشت في كثير من البلدان الإسلامية مما يستوجب التنبه لها ، وربط هذه الآية بها مع تلك النصوص النبوية الصريحة في شأنها مهما كان المسجد .

وذكر ابن كثير ، عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية لم يكن في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام ، ومسجد إيلياء ، بيت المقدس .

تنبيه .

قد أثير في هذه المسألة تساؤلات من بعض الناس بالنسبة للمسجد النبوي وموضع الحجرة منه بعد إدخالها فيه .

[ ص: 352 ] وقد أجاب عن ذلك ابن حجر في فتح الباري بقوله على حديث عائشة - رضي الله عنها - : إنه - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي مات فيه : " لعن الله اليهود والنصارى ; اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . قالت : ولولا ذلك لأبرز قبره ، غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا . رواه البخاري في كتاب الجنائز .

وفي بعض رواياته : غير أنه خشي ، فقال ابن حجر : وهذا قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي ، ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة ; حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة . اهـ .

وذكرت كتب السيرة وتاريخ المسجد النبوي بعض الأخبار في ذلك ، من ذلك ما رواه السمهودي في وفاء الوفاء ، قال : وعن المطلب ، قال : كانوا يأخذون من تراب القبر فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم ، وكان في الجدار كوة فأمرت بالكوة فسدت هي أيضا . ونقل عن ابن شبة ، قال أبو غسان بن يحيى بن علي بن عبد الحميد - وكان عالما بأخبار المدينة ومن بيت كتابة وعلم - : لم يزل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي دفن فيه هو وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - ظاهرا ، حتى بنى عمر بن عبد العزيز عليه الخطار المزور الذي هو عليه اليوم ، حين بنى المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك ، وإنما جعله مزورا ; كراهة أن يشبه تربيع الكعبة ، وأن يتخذ قبلة يصلى إليه .

قال أبو زيد بن شبة ، قال أبو غسان : وقد سمعت غير واحد من أهل العلم يزعم : أن عمر بن عبد العزيز بنى البيت غير بنائه الذي كان عليه ، وسمعت من يقول : بنى على بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أجدر فدون القبر ثلاثة أجدر : جدار بناء بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجدار البيت الذي يزعم أنه بنى عليه - يعني عمر بن عبد العزيز - ، وجدار الخطار الظاهر ، وقال : قال أبو غسان فيما حكاه الأقشهدي : أخبرني الثقة عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن منصور بن ربيعة ، عن عثمان بن عروة ، قال : قال عروة : نازلت عمر بن عبد العزيز في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ألا يجعل في المسجد أشد المنازلة ، فأبى وقال : كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه .

قال : قلت : فإن كان لا بد فاجعل له جؤجؤا . أي : وهو الموضع لنزور خلف الحجرة . اهـ .

[ ص: 353 ] فهذه منازلة في موضوع الحجرة والمسجد ، وهذا جواب عمر بن عبد العزيز .

وقد آلت إليه الخلافة وهو الخليفة الراشد الخامس ، وقد أقر هذا الوضع لما اتخذت تلك الاحتياطات من أن يكون القبر قبلة للمصلين ، وهذا مما لا شك فيه في خير القرون الأولى ، ومشهد من أكابر المسلمين ، مما لا يدع لأحد مجالا لاعتراض أو احتجاج أو استدلال ، وقد بحثت هذه المسألة من علماء المسلمين في كل عصر .

وقال القرطبي : بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأعلوا حيطان تربته ، وسدوا المدخل إليها ، وجعلوها محدقة بقبره - صلى الله عليه وسلم - ، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين ، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة ، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين ، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال ; حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره . اهـ . من فتح المجيد .

وقد قال بعض العلماء : إن هذا العمل الذي اتخذ حيال القبر الشريف وقبري صاحبيه ، إنما هو استجابة دعائه - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " ، كما قال ابن القيم في نونيته ، كابن تيمية قال :


فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه
في عزة وحماية وصيان


وقال صاحب فتح المجيد : ودل الحديث أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لو عبد لكان وثنا . ولكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس ; فلا يوصل إليه .

ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها . اهـ .

وهذا الذي قاله حقيقة دقيق مأخذها ; لأنه لو لم يكن بعد إدخال الحجرة في مأمن من الصلاة إليه لكان وثنا ، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - يكون في حياته داعيا إلى الله وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى يكون قبره وثنا ينافي التوحيد ، ويهدم ما بناه في حياته .

وكيف يرضى الله لرسوله ذلك حاشا وكلا . هذا مجمل ما قيل في هذه المسألة .
[ ص: 354 ] وجهة نظر .

وهنا وجهة نظر ، وإن كنت لم أقف على قول فيها ، وهي أن كل نص متقدم صريح في النهي عن اتخاذ المساجد على القبور ; بأن يكون القبر أولا ثم يتخذ عليه المسجد . كما جاء في قصة أصحاب الكهف : قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا أي : أن القبر أولا والمسجد ثانيا .

أما قضية الحجرة والمسجد النبوي فهي عكس ذلك ، إذ المسجد هو الأول وإدخال الحجرة ثانيا ، فلا تنطبق عليه تلك النصوص في نظري . والله تعالى أعلم .

ومن ناحية أخرى ، لم يكن الذي أدخل في المسجد هو القبر أو القبور ، بل الذي أدخل في المسجد هو الحجرة ، أي : بما فيها ، وقد تقدم كلام صاحب فتح المجيد في تعريف الوثن : أنه ما سجد إليه من قريب .

وعليه فما من مصل يبعد عن مكة إلا ويقع بينه وبين الكعبة قبور ومقابر . ولا يعتبر مصليا إلى القبور لبعدها ووجود الحواجز دونه ، وإن كان البعد نسبيا . فكذلك في موضوع القبور الثلاثة في الحجرة ، فإنها بعيدة عن مباشرة الصلاة إليها ، والحمد لله رب العالمين .

وأيضا لابن تيمية - رحمه الله - كلام في ذلك ملخصه من المجموع : مجلد 27 ص 323 وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات ودفن في حجرة عائشة - رضي الله عنها - ، وكانت هي وحجر نسائه في شرقي المسجد وقبليه ، لم يكن شيء من ذلك داخلا المسجد . واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة .

ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته ، وسع المسجد ، وأدخلت فيه الحجرة للضرورة . فإن الوليد كتب إلى نائبه - عمر بن عبد العزيز - : أن يشتري الحجر من ملاكها ورثة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهن كن توفين كلهن - رضي الله عنهن - ، فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد ، فهدمها وأدخلها في المسجد ، وبقيت حجرة عائشة على حالها . وكانت مغلقة لا يمكن أحد من الدخول إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا لصلاة عنده ، ولا لدعاء ، ولا غير ذلك . إلى حين كانت عائشة في الحياة وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة .

وقال في صفحة 328 : ولم تكن تمكن أحدا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهى عنه [ ص: 355 ] وبعدها كانت مغلقة ، إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبني عليها حائط آخر .

فكل ذلك صيانة له - صلى الله عليه وسلم - ، أن يتخذ بيته عيدا وقبره وثنا . وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون ، ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم ، وكلهم معظمون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم ; بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد . ولا يتخذ بيته عيدا ، ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم . انتهى .

وتقدم شرح ابن القيم لوضع الجدران الثلاثة وجعل طرف الجدار الثالث من الشمال على شكل رأس مثلث ، وأن المشاهد اليوم بعد ابن تيمية وابن القيم ، وجود الشبك الحديدي من وراء ذلك كله ، ويبعد عن رأس المثلث إلى الشمال ما يقرب من ستة أمتار يتوسطها ، أي : تلك المسافة محراب كبير ، وهذا كان في المسجد سابقا ، أي : قبل الشبك . مما يدل على بعد ما بين المصلي في الجهة الشمالية من الحجرة المكرمة وبين القبور الثلاثة ، وينفي أي علاقة للصلاة من ورائه بالقبور الشريفة . والحمد لله رب العالمين .

وفي ختام هذه المسألة ، وقد أثير فيها كلام في موسم حج سنة 1394 في منى ومن بعض المشتغلين بالعلم نقول :

لو أنها لم تدخل بالفعل لكان للقول بعدم إدخالها مجال . أما وقد أدخلت بالفعل وفي عهد عمر بن عبد العزيز وفي القرون المشهود لها بالخير ، ومضى على إدخالها ثلاثة عشر قرنا ، فلا مجال للقول إذا .

ومن ناحية أخرى ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت على ما هو أعظم من ذلك ، ألا وهو موضوع بناء الكعبة ، وكونها لم تستوعب قواعد إبراهيم ، ولها باب واحد ، ومرتفع عن الأرض .

وكان باستطاعته - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد بناءها على الوجه الأصح ، فتستوعب قواعد إبراهيم ، ويكون لها بابان ويسويهما بالأرض . ولكنه - صلى الله عليه وسلم - ترك ذلك ; لاعتبارات بينها في حديثعائشة - رضي الله عنها - .

ألا يسع من يتكلم في موضوع الحجرات اليوم ما وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ، وما وسع السلف - رحمهم الله - في عين الحجرة .

[ ص: 356 ] ومن ناحية ثالثة : لو أنه أخذ بقولهم ، فأخرجت من المسجد ، أي : جعل المسجد من دونها على الأصل الأول .

ثم جاء آخرون ، وقالوا : نعيدها على ما كانت عليه في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ، ألا يقال في ذلك ما قال مالك للرشيد - رحمهما الله - في خصوص الكعبة لما بناها ابن الزبير ، وأعادها الحجاج ، وأراد الرشيد أن يعيدها على بناء ابن الزبير ، فقال له مالك - رحمه الله - : لا تفعل ; لأني أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك . فيقال : هنا أيضا فتصبح الحجرة ألعوبة الملوك بين إدخال وإخراج . وفيه من الفتنة ما فيه . والعلم عند الله تعالى .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ .


قوله تعالى : ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا

بين تعالى المراد من المقدار المطلوب قيامه بما جاء بعده نصفه أو انقص منه [ 73 \ 3 ] ، أي : من نصفه أو زد عليه ، أي : على نصفه ، وفي هذه الآية الكريمة وما بعدها بيان لمجمل قوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك الآية [ 17 \ 79 ] .

وفيها بيان لكيفية القيام ، وهو بترتيل القرآن ، وفيها رد على مسألتين اختلف فيهما .

الأولى منهما : عدد ركعات قيام الليل ، أهو ثماني ركعات أو أكثر ؟

وقد خير - صلى الله عليه وسلم - بين هذه الأزمنة من الليل ، فترك ذلك لنشاطه واستعداده وارتياحه . فلا يمكن التعبد بعدد لا يصح دونه ولا يجوز تعديه ، واختلف في قيام رمضان خاصة ، والأولى أن يؤخذ بما ارتضاه السلف ، وقد قدمنا في هذه المسألة رسالة عامة هي رسالة التراويح أكثر من ألف عام في مسجد النبي - عليه السلام - ، وقد استقر العمل على عشرين في رمضان .

والمسألة الثانية : ما يذكره الفقهاء في كيفية قيام الليل عامة : هل الأفضل كثرة الركعات لكثرة الركوع والسجود ؟ ، وحيث إن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد ، أم طول القيام للقراءة ؟ حيث إن للقارئ بكل حرف عشر حسنات ، فهنا قوله تعالى : ورتل القرآن ترتيلا [ 73 \ 4 ] ، نص على أن العبرة بترتيل القرآن ترتيلا ، وأكد بالمصدر تأكيدا لإرادة هذا المعنى ، كما قال ابن مسعود : " لا تنثروه نثر الرمل ، ولا تهذوه هذ الشعر ؟ قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة " .

وقد بينت أم سلمة - رضي الله عنها - تلاوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقولها : كان يقطع قراءته آية آية : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] . رواه أحمد .

[ ص: 358 ] وفي الصحيح عن أنس : سئل عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : كانت مدا ، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم .

تنبيه .

إن للمد حدودا معلومة في التجويد حسب تلقي القراء - رحمهم الله - ، فما زاد عنها فهو تلاعب ، وما قل عنها فهو تقصير في حق التلاوة .

ومن هذا يعلم أن المتخذين القرآن كغيره في طريقة الأداء من تمطيط وتزيد لم يراعوا معنى هذه الآية الكريمة ، ولا يمنع ذلك تحسين الصوت بالقراءة ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " زينوا القرآن بأصواتكم " .

وقال أبو موسى - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو كنت أعلم أنك تسمع قراءتي ; لحبرته لك تحبيرا . وهذا الوصف هو الذي يتأتى منه الغرض من التلاوة ، وهو التدبر والتأمل ، كما في قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن [ 4 \ 82 ] ، كما أنه هو الوصف الذي يتأتى معه الغرض من تخشع القلب ، كما في قوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ، ولا تتأثر به القلوب والجلود إلا إذا كان مرتلا ، فإذا كان هذا كالشعر أو الكلام العادي لما فهم ، وإذا كان مطربا كالأغاني لما أثر . فوجب الترتيل كما بين - صلى الله عليه وسلم - .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #577  
قديم 15-08-2024, 09:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (575)
سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ .
صـ 359 إلى صـ 366




قوله تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا

معلوم أن القول هنا هو القرآن كما قال تعالى إنه لقول رسول كريم [ 69 \ 40 ] وقوله : ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون [ 28 \ 51 ] .

وقوله : إنه لقول فصل [ 86 \ 13 ] ، وقوله ومن أصدق من الله قيلا [ 4 \ 122 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

ولكن وصفه بالثقل مع أن الثقل للأوزان وهي المحسوسات .

فقال بعض المفسرين : إن الثقل في وزن الثواب ، وقيل في التكاليف به ، وقيل من أثناء نزول الوحي عليه ، وكل ذلك ثابت للقرآن الكريم : فمن جهة نزوله ، فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه الوحي أخذته [ ص: 359 ] برحاء شديدة ، وكان يحمر وجهه كأنه مذهبة ، وكان إذا نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو في سفره على راحلته بركت به الناقة ، وجاء عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان واضعا رأسه على فخذه ، فأتاه الوحي ، قال أنس : فكان فخذي تكاد تنفصل مني ، ومن جانب تكاليفه فقد ثقلت على السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها ، كما هو معلوم .

ومن جانب ثوابه : فقد جاء في حديث مسلم : " الحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض " .

وحديث البطاقة وكل ذلك يشهد بعضه لبعض ولا ينافيه .

وقد بين تعالى أن هذا الثقل قد يخففه الله على المؤمنين ، كما في الصلاة في قوله : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [ 2 \ 45 - 46 ] ، وكذلك القرآن ثقيل على الكفار ، خفيف على المؤمنين محبب إليهم .

وقد جاء في الآثار أن بعض السلف كان يقوم الليل كله بسورة من سور القرآن تلذذا وارتياحا ، كما قال تعالى : ولقد يسرنا القرآن للذكر [ 54 \ 17 ] ، فهو ثقيل في وزنه ثقيل في تكاليفه ، ولكن يخففه الله وييسره لمن هداه ووفقه إليه .
قوله تعالى : إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا

أي : ما تنشأه من قيام الليل أشد مواطأة للقلب ، وأقوم قيلا في التلاوة والتدبر والتأمل ، وبالتالي بالتأثر ، ففيه إرشاد إلى ما يقابل هذا الثقل فيما سيلقى عليه من القول ، فهو بمثابة التوجيه إلى ما يتزود به لتحمل ثقل أعباء الدعوة والرسالة .

وقد سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - قوله : لا يثبت القرآن في الصدر ، ولا يسهل حفظه وييسر فهمه إلا القيام به من جوف الليل ، وقد كان - رحمه الله تعالى - لا يترك ورده من الليل صيفا أو شتاء ، وقد أفاد هذا المعنى قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة [ 2 \ 45 ] ، فكان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .

وهكذا هنا فإن ناشئة الليل كانت عونا له - صلى الله عليه وسلم - على ما سيلقى عليه من ثقل القول .

مسألة :

قيل : إن قيام الليل كان فرضا عليه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تفرض الصلوات الخمس ; لقوله [ ص: 360 ] تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك [ 17 \ 79 ] ، والنافلة : الزيادة ، وقيل : كان فرضا عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى عامة المسلمين ; لقوله تعالى في هذه السورة : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ، ثم خفف هذا كله بقوله :

فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، إلى قوله : فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا [ 73 \ 20 ] .

ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عمل عملا داوم عليه ، فكان يقوم الليل شكرا لله كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - : " أفلا أكون عبدا شكورا " ، وبقي سنة لغيره بقدر ما يتيسر لهم . - والله تعالى أعلم - .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ .


قوله تعالى : يا أيها المدثر قم فأنذر

الإنذار إعلام بتخويف ، فهو أخص من مطلق الإعلام ، وهو متعد لمفعولين المنذر باسم المفعول والمنذر به ، ولم يذكر هنا واحد منهما .

أما المنذر فقد بينت آيات أخر أنه قد يكون للكافرين ، كما في قوله تعالى : وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ; تخويفا لهم .

وقد يكون للمؤمنين ; لأنهم المنتفعون به كما في قوله : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب [ 36 \ 11 ] .

وقد يكون للجميع ، أي : لعامة الناس كما في قوله تعالى : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا [ 10 \ 2 ] .

وأما المنذر به فهو ما يكون يوم القيامة .

وقد قدر الأمرين هنا ابن جرير بقوله : فأنذر عذاب الله قومك الذين أشركوا بالله وعبدوا غيره .

وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - تفصيل ذلك عند قوله تعالى : لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 2 ] في سورة الأعراف .
قوله تعالى : وثيابك فطهر

قد اختلف المفسرون في المراد من كل من لفظتي : الثياب ، وفطهر ، هل هما دلا على الحقيقة ويكون المراد طهارة الثوب من النجاسات ؟ أم هما على الكناية ؟ والمراد بالثوب : البدن ، والطهارة عن المعنويات من معاصي وآثام ونحوها ، أم على الحقيقة والكناية ؟ ، فقد ذكر ابن جرير وغيره نحوا من خمسة أقوال :

[ ص: 362 ] الأول : عن ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك أن معناه : لا تلبس ثيابك على معصية ولا على غدرة ، واستشهد بقول غيلان :


وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع


وقول الآخر :


إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل


فاستعمل اللفظين في الكناية ، وقد يستدل له بقوله : ووضعنا عنك وزرك [ 94 \ 2 ] .

وورد عن ابن عباس : لا تلبس ثيابك من كسب غير طيب ، فاستعمل الثياب في الحقيقة ، والتطهير في الكناية .

وعن مجاهد : أصلح عملك ، وعملك فأصلح ، فاستعملهما معا في الكناية عن العمل الصالح .

وعن محمد بن سيرين ، وابن زيد : على حقيقتهما ، فطهر ثيابك من النجاسة .

ثم قال : والذي قاله ابن سيرين وابن زيد أظهر في ذلك .

وقول ابن عباس وعكرمة قول عليه أكثر السلف . والله أعلم بمراده .

وقال غيره : ثيابك هي نساؤك ، كما في قوله هن لباس لكم [ 2 \ 187 ] ، فأمرهن بالتطهر ، وتخيرهن طاهرات خيرات .

هذه أقوال المفسرين واختيار ابن جرير منها ، والواقع في السياق ما يشهد لاختيار ابن جرير ، وهو حمل اللفظين على حقيقتهما .

وترجيح قول ابن سيرين أن المراد طهارة الثوب من النجاسة ، والقرينة في الآية أنها اشتملت على أمرين :

الأول : طهارة الثوب ، والثاني : هجر الرجز .

ومن معاني الرجز : المعاصي ، فيكون حمل طهارة الثوب على حقيقته ، وهو الرجز على حقيقته لمعنى جديد أولى .

[ ص: 363 ] وهذه الآية بقسميها جاء نظيرها بقسميها أصرح من ذلك في قوله تعالى وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان [ 8 \ 11 ] - . والله تعالى أعلم - .

وقد جعل الشافعي هذه الآية دليلا على الطهارة للصلاة .
قوله تعالى : فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير

الناقور : هو الصور ، وأصل الناقور الصوت ، وقوله : يوم عسير على الكافرين غير يسير .

قيل : عسير وغير يسير على الكافرين .

وقال الزمخشري : إن غير يسير كان يكفي عنها يوم عسير ، إلا أنه ليبين لهم أن عسره لا يرجى تيسيره ، كعسر الدنيا ، وأن فيه زيادة وعيد للكافرين .

ونوع بشارة للمؤمنين لسهولته عليهم ، ولعل المعنيين مستقلان ، وأن قوله تعالى : يوم عسير ، هذا كلام مستقل وصف لهذا اليوم ، وبيان للجميع شدة هوله ، كما جاء في وصفه في قوله تعالى : ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [ 22 \ 1 - 2 ] ، ومثل قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه [ 80 \ 34 - 35 ] ، ونحو ذلك .

ثم بين تعالى أن اليوم العسير أنه على الكافرين غير يسير ، كما قال تعالى عنهم فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به [ 73 \ 17 - 18 ] ، بينما يكون على المؤمنين يسيرا ، مع أنه عسير في ذاته لشدة هوله ، إلا أن الله ييسره على المؤمنين ، كما بين تعالى هذه الصورة بجانبها في قوله تعالى من سورة " النمل " :

ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب إلى قوله من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون [ 27 \ 87 - 90 ] . \ 5 [ ص: 364 ] فالفزع من صعقة يوم ينفخ في الصور عام لجميع من في السماوات ومن في الأرض ، ولكن استثنى الله من شاء ، ثم بين تعالى هؤلاء المستثنين ومن يبقى في الفزع ، فبين الآمنين وهم من جاء بالحسنة ، والآخرون من جاء بالسيئة .
قوله تعالى : عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر

في قوله تعالى : وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا حكى القرطبي في معنى الفتنة هنا معنيين :

الأول : التحريق كما في قوله : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات [ 85 \ 10 ] .

والثاني : الابتلاء . وقد تقدم للشيخ مرارا في كتابه ودروسه ، أن أصل الفتنة الاختبار . تقول : اختبرت الذهب إذا أدخلته النار ; لتعرف زيفه من خالصه .

ولكن السياق يدل على الثاني ، وهو الاختبار والابتلاء; لقوله تعالى :

وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا .

وقوله : وما يعلم جنود ربك إلا هو أي : عددهم ، فلو كان المراد التحريق والوعيد بالنار ، لما كان مجال لتساؤل الذين في قلوبهم مرض والكافرين عن هذا المثل ، ولما كان يصلح أن يجعل مثلا ، ولما كان الحديث عن عدد جنود ربك بحال ، وفي هذه الآية الكريمة عدة مسائل هامة .

الأولى : جعل المثل المذكور ، أي : جعل العدد المعين فتنة لتوجه السؤال أو مقابلته بالإذعان ، فقد تساءل المستبعدون واستسلم وأذعن المؤمنون ، كما ذكر تعالى في صريح قوله : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا [ 2 \ 62 ] .

ثم بين تعالى الغرض من ذلك طبق ما جاء في الآية هنا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ 2 \ 26 ] [ ص: 365 ] فهذه الآية من سورة " البقرة " مبينة تماما لآية " المدثر " .

المسألة الثانية : قوله تعالى : ليستيقن الذين أوتوا الكتاب أن هذا مطابق لما عندهم في التوراة ، وهذا مما يشهد لقومهم على صدق ما يأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما ادعاه لإيمانهم وتصديقهم .

وقد ذكر القرطبي حديثا في ذلك واستغربه ، ولكن النص يشهد لذلك .

المسألة الثالثة : أن المؤمن كلما جاءه أمر عن الله وصدقه ، ولو لم يعلم حقيقته اكتفاء بأنه من الله ، ازداد بهذا التصديق إيمانا وهي مسألة ازدياد الإيمان بالطاعة والتصديق .

المسألة الرابعة : بيان أن الواجب على المؤمن المبادرة بالتصديق والانقياد ، ولو لم يعلم الحكمة أو السر أو الغرض بناء على أن الخبر من الله تعالى . وهو أعلم بما رواه .

وفي هذه المسألة مثار نقاش حكمة التشريع ، وهذا أمر واسع ، ولكن المهم عندنا هنا ونحن في عصر الماديات ، وتقدم المخترعات ، وظهور كثير من علامات الاستفهام عند كثير من آيات الأحكام ، فإنا نود أن نقول :

إن كل ما صح عن الشارع الحكيم من كتاب أو سنة وجب التسليم والانقياد إليه ، علمنا الحكمة أو لم نعلم ; لأن علمنا قاصر ، وفهمنا محدود ، والعليم الحكيم الرءوف الرحيم - سبحانه - لا يكلف عباده إلا بما فيه الحكمة .

ومجمل القول أن الأحكام بالنسبة لحكمتها قد تكون محصورة في أقسام ثلاثة :

القسم الأول : حكم تظهر حكمته بنص كما في وجوب الصلاة ، جاء : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [ 29 \ 45 ] ، وهذه حكمة جليلة ، والزكاة جاء عنها أنها : تطهرهم وتزكيهم [ 9 \ 103 ] .

وفي الصوم جاء فيه : لعلكم تتقون [ 2 \ 183 ] .

وفي الحج جاء فيه : ليشهدوا منافع لهم [ 22 \ 28 ] . فمع أنها عبادات لله فقد ظهرت حكمتها جلية .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #578  
قديم 15-08-2024, 09:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (576)
سُورَةُ الْقِيَامَةِ .
صـ 367 إلى صـ 374



وفي الممنوعات كما قالوا في الضروريات الست ، حفظ الدين ، والعقل ، والدم ، [ ص: 366 ] والعرض ، والنسب ، والمال لقيام الحياة ووفرة الأمن ، وصيانة المجتمع ، وجعلت فيها حدود لحفظها وغير ذلك .

وقسم لم تظهر حكمته بهذا الظهور ، ولكنه لم يخل من حكمة : كالطواف ، والسعي ، والركوع ، والسجود ، والوضوء ، والتيمم ، والغسل ، ونحو ذلك .

وقسم ابتلاء وامتحان أولا ، ولحكمة ثانيا : كتحويل القبلة ، كما قال تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه [ 2 \ 143 ] .

وفي التحول عنها حكمة كما في قوله تعالى : لئلا يكون للناس عليكم حجة [ 2 \ 150 ] .

والمسلم في كلتا الحالتين ظهرت له الحكمة أو لم تظهر وجب عليه الامتثال والانقياد ، كما قال عمر عند استلامه للحجر : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك .

فقبله امتثالا واقتداء بصرف النظر عن ما جاء من : أن عليا - رضي الله عنه - قال له : بلى يا أمير المؤمنين ، إنه يضر وينفع ، فيأتي يوم القيامة وله لسان وعينان يشهد لمن قبله ; لأن عمر أقبل عليه ليقبله قبل أن يخبره علي - رضي الله عنه - .

وقد تنكشف الأمور عن حكمة لا نعلمها كما في قصة الخضر مع موسى - عليهما السلام - ، إذ خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار ، وكلها أعمال لم يعلم لها موسى - عليه السلام - حكمة ، فلما أبداها له الخضر علم مدى حكمتها .

وهكذا نحن اليوم وفي كل يوم ، وقد بين تعالى هذا الموقف بقوله : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ 3 \ 7 ] .

وقد جاء في نهاية الآية الكريمة ما يلزم البشر بالعجز ويدفعهم إلى التسليم ، في قوله : وما يعلم جنود ربك إلا هو .

فكذلك بقية الأمور من الله تعالى هو أعلم بها . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : [ ص: 367 ] ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين

في هذه الآية الكريمة : أن أصحاب اليمين يتساءلون عن المجرمين ، وسبب دخولهم النار ، وكان الجواب : أنهم لم يكونوا من المصلين ، ولم يكونوا يطعموا المسكين ، وكانوا يخوضون مع الخائضين . وكانوا يكذبون بيوم الدين ، فجمعوا بين الكفر بتكذيبهم بيوم الدين وبين الفروع ، وهي ترك الصلاة والزكاة المعبر عنها بإطعام المسكين إلى آخره ، فهذه الآية من الأدلة على أن الكافر مطالب بفروع الشرع مع أصوله .

وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مناقشة هذه المسألة عند قوله تعالى : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون [ 41 \ 7 ] في سورة " فصلت " .
قوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين

فيه : أن الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين ، كما أن فيها إثبات الشفاعة للشافعين ، ومفهوم كونها لا تنفع الكفار أنها تنفع غيرهم .

وقد جاءت نصوص في الشفاعة لمن ارتضاهم الله ، وقد دلت نصوص على كلا الأمرين ، فمن عدم الشفاعة للكفار قوله تعالى : ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع [ 40 \ 18 ] .

وقوله : وما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين [ 26 \ 99 - 100 ] ونحو ذلك من الآيات .

وفي القسم الثاني قوله تعالى : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [ 21 \ 28 ] .

وكذلك الشفيع لا يشفع إلا من أذن له ، ولا يشفعون إلا فيمن أذنوا فيه ، كما قال تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] ، وقوله : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن [ 20 \ 109 ] .

ومبحث الشفاعة واسع مقرر في كتب العقائد .

وخلاصة القول فيها : أنها لا تكون إلا بإذن من الله للمأذون له فيها ، وقد ثبت [ ص: 368 ] للنبي - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة العظمى وهي المقام المحمود ، وعدة شفاعات بعدها منها ما اختص به - صلى الله عليه وسلم - كالشفاعة العظمى ودخول الجنة ، والشفاعة في غير مسلم وهو عمه أبو طالب للتخفيف عنه ، ومنها ما يشاركه فيها غيره من الأنبياء والصلحاء . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة

في هذه الآية تشبيه المدعوين في إعراضهم عن الدعوة والتذكرة ، بالحمر الفارة من الصيادين أو الأسد ، وقد شبه أيضا العالم غير المنتفع بعلمه بالحمار يحمل أسفارا ، فهما تشبيهان بالداعي والمدعو إذا لم تنفعه الدعوة ، وتقدم للشيخ في مبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ الْقِيَامَةِ .


قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة

قال ابن جرير : اختلف القراء في قراءة قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة ، فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار : " لا أقسم " مفصولة من أقسم سوى الحسن والأعرج ، فإنه ذكر عنهما أنهما كانا يقرءان ذلك : " لأقسم بيوم القيامة " . بمعنى : أقسم بيوم القيامة .

ثم دخلت عليها لام القسم ، والقراءة التي لا أستجيز غيرها في هذا الموضع " لا " مفصولة ، " أقسم " مبتدأة على ما عليه قراء الأمصار بإجماع الحجة من القراء عليه .

وقد اختلف الذين قرءوا ذلك على الوجه الذي اخترنا قراءته في تأويله ، فقال بعضهم : لا صلة ، وإنما معنى الكلام : " أقسم بيوم القيامة " ، وعزاه إلى سعيد بن جبير .

وقال آخرون : بل دخلت " لا " توكيدا للكلام .

وذكر عن أبي بكر بن عياش في قوله : " لا أقسم " توكيد للقسم ، كقوله : لا والله .

وقال بعض نحوي الكوفة : " لا " رد لكلام قد مضى من كلام المشركين الذين كانوا ينكرون الجنة والنار .

ثم ابتدئ القسم ، فقيل : أقسم بيوم القيامة ، وكان يقول : كل يمين قبلها رد كلام ، فلا بد من تقديم " لا " قبلها ; ليفرق بذلك بين اليمين التي تكون جحدا واليمين التي تستأنف ، ويقول : ألا ترى أنك تقول مبتدئا : والله إن الرسول لحق ، وإذا قلت : لا والله ، إن الرسول لحق ، فكأنك أكذبت قوما أنكروه ، واختلفوا أيضا في ذلك هل هو قسم أم لا ؟ .

وذكر الخلاف في ذلك ، والواقع أن هذه المسألة من المشكلات من حيث وجود اللام ، وهل هي نافية للقسم أم مثبتة ؟ وعلى أنها مثبتة فما موجبها ؟ هل هي رد لكلام سابق أم تأكيد للقسم ؟ وهل وقع إقسام أم لا ؟ كما ذكر كل ذلك ابن جرير .

[ ص: 370 ] وقد تناولها الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في كتابه دفع إيهام الاضطراب في موضعين ، الأول : في هذه السورة . والثاني : في سورة " البلد " عند قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 \ 1 ] ، فبين في الموضع الأول أنها - أي " لا " - : نافية لكلام قبلها ; فلا تتعارض مع الإقسام بيوم القيامة فعلا الواقع في قوله تعالى : واليوم الموعود [ 85 \ 2 ] .

والثاني : أنها صلة ، وقال : سيأتي له زيادة إيضاح ، والموضع الثاني : لا أقسم بهذا البلد ، ساق فيه بحثا طويلا مهما جدا نسوق خلاصته . وسيطبع الكتاب - إن شاء الله - مع هذه التتمة فليرجع إليه .

خلاصة ما ساقه - رحمة الله تعالى علينا وعليه - :

قال : الجواب عليها من أوجه . الأول - وعليه الجمهور - : أن " لا " هنا صلة على عادة العرب ، فإنها ربما لفظت بلفظة " لا " من غير قصد معناها الأصلي ، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده كقوله : ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني [ 20 \ 92 - 93 ] . يعني أن تتبعني .

وقوله : لئلا يعلم أهل الكتاب [ 57 \ 29 ] .

وقوله : فلا وربك لا يؤمنون [ 4 \ 65 ] .

وقول امرئ القيس :


فلا وأبيك ابنة العامري لا يدع القوم أني أفر


يعني وأبيك ، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، قول الشاعر :


ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر


يعني وعمر ، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج :


في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتى رأى الصبح شجر


والحور : الهلكة : يعني في بئر هلكة ، وأنشد غيره :


تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع


والوجه الثاني : أن " لا " نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 371 ] وقوله : أقسم : إثبات مستأنف .

وقيل : إن هذا الوجه ، وإن قال به كثير من العلماء ، إلا أنه ليس بوجيه عندي ; لقوله تعالى في سورة القيامة : ولا أقسم بالنفس اللوامة ; لأن قوله : ولا أقسم بالنفس اللوامة يدل على أنه لم يرد الإثبات المستأنف بعد النفي بقوله " أقسم " والله تعالى أعلم .

الوجه الثالث : أنها حرف نفي أيضا ، ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به . فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية . والمراد أنه لا يعظم بالقسم ، بل هو في نفسه عظيم أقسم به أو لا . وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني ، ولا يخلو عندي من نظر .

الوجه الرابع : أن اللام لام الابتداء ، أشبعت فتحتها . والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف ، والكسرة بياء ، والضمة بواو . ومثاله في الفتحة قول عبد يغوث بن الحارث :


وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا


فالأصل : كأن لم تر ، ولكن الفتحة أشبعت .

وقول الراجز :


إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق


وقول عنترة في معلقته :


ينباع من ذفرى غضوب جسرة زيافة مثل العتيق المكدم


فالأصل ينبع ، يعني العرق ، ينبع من الذفرى : من ناقته ، فأشبعت الفتحة فصارت ينباع ، وقال : ليس هذا الإشباع من ضرورة الشعر .

ثم ساق الشواهد على الإشباع بالضمة والكسرة ، ثم قال : يشهد لهذا الوجه قراءة قنبل : " لأقسم بهذا البلد " بلام الابتداء ، وهو مروي عن البزي والحسن . والعلم عند الله تعالى اهـ . ملخصا .

فأنت ترى أنه - رحمه الله - قدم فيها أربعة أوجه : صلة ، ونفي الكلام قبلها ، وتأكيد [ ص: 372 ] للقسم ، ولام ابتداء . واستدل له بقراءة قنبل ، أي : " لأقسم " متصلة ، أما كونها لام ابتداء لقراءة قنبل والحسن ، فقد تقدم أن ابن جرير لا يستجيز هذه القراءة ; لإجماع الحجة من القراء على قراءتها مفصولة : لا أقسم .

ولعل أرجح هذه الأوجه كلها أنها لتوكيد القسم ، كما ذكر ابن جرير عن نحويي الكوفة . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه

هذا الحسبان قد جاء مصرحا به في قوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] .

وجاءه الجواب : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] .
قوله تعالى : بلى قادرين على أن نسوي بنانه

كل المفسرين على أن المعنى نجعل بنانه متساوية ملتحمة كخف البعير ، أي : لا يستطيع أن يتناول بها شيئا ولا يحسن بها عملا .

وهذا في الواقع لم نفهم له وجها مع السياق ، فهو وإن كان دالا على قدرة الله وعجز العبد . ولكن السياق في إنكار البعث واستبعاده ومجيء نظير ذلك في سورة " يس " ، يرشد إلى أن سبحانه قادر بعد موت العبد وتلاشيه في التراب وتحول عظامه رميما ، فهو قادر على أن يعيده تماما ، كما أنشأه أول مرة ، ومن ضمن تلك الإعادة أن يسوي بنانه ، أي : يعدلها وينشؤها كما كانت أول مرة ، والعلم عند الله تعالى .

ويرشد له قوله تعالى : وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 79 ] ، ومن الخلق ما كان عليه خلق هذا الإنسان المكذب المعترض ، فهو سبحانه يعيده على ما كان عليه تماما ، وهذا أبلغ في القدرة وأبلغ في الإلزام يوم القيامة . والعلم عند الله .
قوله تعالى : فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر

قرئ " برق " بكسر الراء وفتحها ; فبالكسر : فزع ودهش ، أصله من برق الرجل ، إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ، ومنه قول ذي الرمة :

[ ص: 373 ]
لو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه مي سافرا كاد يبرق


وقول الأعشى :


وكنت أرى في وجه مية لمحة فأبرق مغشيا علي مكانيا


و " برق " بالفتح : شق بصره ، وهو من البريق ، أي : لمع بصره من شدة شخوصه .

قال أبو حيان : والواقع أنه لا مانع من إرادة المعنيين ما دامت القراءتان صحيحتين ، وقد يشهد لهذا النص في سورة " إبراهيم " في قوله تعالى : إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم [ 14 \ 42 - 43 ] .

قال ابن كثير : ينظرون من الفزع هكذا وهكذا ، لا يستقر لهم بصر من شدة الرعب .

وقوله : يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر ، تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " ص " على قوله تعالى : كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص [ 38 \ 3 ] .
قوله تعالى : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر

المراد : " بما قدم " هنا هو ما قدمه من عمل ليوم القيامة ، كما في قوله تعالى : يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول ياليتني قدمت لحياتي [ 89 \ 23 - 24 ] ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه عند قوله تعالى وبدا لهم سيئات ما كسبوا [ 39 \ 48 ] من سورة " الزمر " .
قوله تعالى : بل الإنسان على نفسه بصيرة

بينه قوله تعالى : اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 14 ] .

وقوله : ووجدوا ما عملوا حاضرا [ 18 \ 49 ] ، وتقدم في سورة " الكهف " .
قوله تعالى : ولو ألقى معاذيره

أي : أنها لا تنفعه آنذاك ، كما في قوله تعالى : يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم [ 40 \ 52 ] .

[ ص: 374 ] وقد بين تعالى بعض معاذيرهم تلك في مثل قوله تعالى : قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون [ 28 \ 63 ] .

وقوله : فأغويناكم إنا كنا غاوين [ 37 \ 32 ] .

وقوله : قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 106 - 108 ] .

وقوله : وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 10 - 11 ] .
قوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه

فيه النهي عن تحريك لسانه - صلى الله عليه وسلم - ، وبيان أن الله تعالى عليه جمعه وقرآنه ، وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه ، يحرك لسانه عند الوحي فنهي عن ذلك .

وقد بين تعالى مدى هذا النهي ومدة هذه العجلة في قوله تعالى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] ، وفيه الإيماء إلى حسن الاستماع والإصغاء عند الإيحاء به ، كما في آداب الاستماع : فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون [ 7 \ 204 ] .

وقوله : إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 17 ] ، قد بين تعالى أن جمعه وقراءته عليه في قوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] .

تنبيه .

إن في قوله تعالى : إن علينا جمعه وقرآنه فيه إشارة إلى أنه نزل مفرقا ، وإشارة إلى أن جمعه على هذا النحو الموجود برعاية وعناية من الله تعالى وتحقيقا ; لقوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنه ، ويشهد لذلك أن هذا الجمع الموجود من وسائل حفظه ، كما تعهد تعالى بذلك . والله تعالى أعلم .

[ ص: 375 ] وقال أبو حيان : إن علينا جمعه في صدرك . " وقرآنه " ، أي : تقرؤه .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #579  
قديم 15-08-2024, 09:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (577)
سُورَةُ الْإِنْسَانِ .
صـ 375 إلى صـ 382




قوله تعالى : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه

تقدم للشيخ بيانه عند قوله تعالى : علمه شديد القوى [ 53 \ 5 ] ، من سورة " النجم " .
قوله تعالى : ثم إن علينا بيانه

قد نبه تعالى كما جاء في مقدمة الأضواء أنه ما من مجمل إلا وجاء تفصيله في مكان آخر ، وقد نص تعالى على هذا في كثير من الآيات ، كما في قوله : كتاب فصلت آياته [ 41 \ 3 ] ، وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، بيان ذلك في أول " فصلت " .
قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة

تقدم بيانه للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، عند قوله تعالى : قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني [ 7 \ 143 ] .
قوله تعالى : كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق

لم يبين ما هي التي بلغت التراقي ولكنه معلوم أنها الروح ، كما في قوله تعالى : فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون إلى قوله ترجعونها إن كنتم صادقين [ 56 \ 83 - 87 ] ، فهذه حالات النزع ، والروح تبلغ الحلقوم وتبلغ التراقي . وقد يترك التصريح للعلم كما في قوله تعالى : إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب [ 38 \ 32 ] ، أي : الشمس ، وهكذا هنا فلمعرفتها بالقرائن ترك التصريح بالروح أو النفس ، وقد صرح تعالى بذلك في قوله : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون الآية [ 6 \ 93 ] .

وقوله تعالى : وقيل من راق

اختلف في معنى راق هذه ، فقيل من الرقية أي : قال من حوله : من يرتقيه هل من طبيب يرقيه ؟ أي حالة اشتداد الأمر عليه رجاء لشفائه أو استبعادا بأنه لا ينفعه ، وقيل : من الرقي أي تقول الملائكة : من الذي سيرقى بروحه [ ص: 376 ] أملائكة العذاب أم ملائكة الرحمة ؟

ولكن في الآية قرينة على أن الأول أرجح ; لأن قول الملائكة يكون في حق الشخص المتردد في أمره ، وهذا هنا ليس موضع تردد ; لأن نهاية السياق فيه فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى [ 75 \ 31 ، 32 ] ، إلى ما بعده .

وقال أبو حيان : على أنه على قول الملائكة من يرقى بروحه ، يكون ذلك كراهية منهم أن يصعدوا بها ، وفي هذا نظر ; لأن الله تعالى جعل ملائكة للمشركين وهم ملائكة العذاب ، وملائكة للمؤمنين ، وهم ملائكة الرحمة . ولا يستكره فريق منهما أن يصعد بما تخصص له ، بل قد لا يسمح للآخر بما يخصه .

كما في حديث الذي قتل مائة نفس ، وأدركته الوفاة في منتصف الطريق ، فحضرته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب يختصمون أيهم يصعد بروحه ، كل يريد أن يتولى قبض روحه ، أولئك يقولون : إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيرا قط ، وأولئك يقولون : إنه خرج تائبا إلى الله تعالى .

وهذا كما تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - من ترجيح أحد المعنيين المختلف فيهما بين المفسرين ; لوجود قرينة في الآية . وقد وجدت القرينة وهي ما في آخر الآية والسياق من أنه ليس موضع تردد : فلا صدق ولا صلى الآية [ 75 \ 31 ] . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى

رد على زعم أنه خلق سدى وهملا ، وأنه لا يحاسب ولا يسأل وبالتالي لا يبعث .

وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك عند قوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] ، أي : تعالى الله عن العبث ، وقد ساق الشيخ الأدلة الوافية هناك .
قوله تعالى : ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى

[ ص: 377 ] بلى إنه على كل شيء قدير ، مجيء هذا الاستفهام الإنكاري أو التقريري ، بعد أيحسب الإنسان أن يترك سدى ، وسوق هذه الآيات العظيمات الدالة على القدرة الباهرة ، فيه رد على إنكار ضمني وهو أنه لا يعتقد وجوده سدى ، ولا حساب عليه إلا من استبعد البعث .

ولو أقر بالبعث لآمن بالجزاء واعترف بالسؤال ، وعلم أنه لم يخلق عبثا ، ولن يترك سدى . ولكن لما أنكر البعث ظن وحسب أنه يترك سدى ، فجاء تذكيره بأصل خلقته وتطوره ليستخلص منه اعترافه ; لأن من قدر على خلقه من مني يمنى ، وتطويره إلى علقة ثم إلى خلق سوي ، فهو قادر على بعثه مرة أخرى .

وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - هذه الأطوار في أكثر من موضع ، وأحال عليها عند قوله تعالى : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى [ 53 \ 45 - 47 ] في سورة " النجم " .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ الْإِنْسَانِ .


قوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا

اتفق المفسرون على أن " هل " هنا بمعنى قد ، أي : أن الاستفهام تقريري يستوجب الإجابة عليه بنعم .

ولفظ الإنسان في هل أتى على الإنسان ، وقيل : هو الإنسان الأول آدم - عليه السلام - ، أتى عليه حين من الدهر ، لم يكن شيئا يذكر .

وقيل : هو عموم الإنسان من بني آدم فيكون المعنى على الأول ، أن آدم - عليه السلام - أتى عليه حين من الدهر ، قيل : أربعون سنة .

ذكر عن ابن عباس : كان طينا ، ثم صلصالا ، حتى نفخ فيه الروح .

ويكون على الثاني : أن الإنسان أتى عليه حين من الدهر ، هو أربعون يوما نطفة ، ثم أربعون يوما علقة ، ثم أربعون يوما مضغة ، وكل ذلك شيء ولكنه لم يكن مذكورا ، أي ضعيفا ، وكلاهما محتمل .

ولفظ الإنسان الثاني في قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ، اتفقوا على أنه عام في بني آدم ; لأنه هو الذي خلق من نطفة أمشاج أخلاط ، وقد رجح الفخر الرازي أن لفظ الإنسان في الموضعين بمعنى واحد ، وهو المعنى العام ; ليستقيم الأسلوب بدون مغايرة بين اللفظين إذ لا قرينة مميزة .

ولعل في السياق قرينة تدل على ما قاله ، وهي أن قوله تعالى : نبتليه قطعا لبني آدم ; لأن آدم - عليه السلام - انتهى أمره بالسمع والطاعة : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم [ 2 \ 37 ] ، ولم يبق مجال لابتلائه ، إنما ذلك لبنيه . والله [ ص: 379 ] تعالى أعلم .

وقوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج فيه بيان مبدأ خلق الإنسان ، وله أطوار في وجوده بعد النطفة علقة ، ثم مضغة ، ثم خلقا آخر ، وكل ذلك من لا شيء قبله . كما قال تعالى : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا [ 19 \ 9 ] .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك عند الآية الكريمة : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا .
قوله تعالى : إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا

الهداية هنا بمعنى البيان ، كما في قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .

والسبيل : الطريق السوي ، وفيه بيان انقسام الإنسان إلى قسمين : شاكر معترف بنعمة الله تعالى عليه ، مقابل لها بالشكر ، أو كافر جاحد .

وقوله : إما شاكرا ، يشير إلى إنعام الله تعالى على العبد ، وقد ذكر تعالى نعمتين عظيمتين :

الأولى : إيجاد الإنسان من العدم بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ، وهذه نعمة عظمى لا كسب للعبد فيها .

والثانية : الهداية بالبيان والإرشاد إلى سبيل الحق والسعادة ، وهذه نعمة إرسال الرسل وإنزال الكتب ، ولا كسب للعبد فيها أيضا .

وقد قال العلماء : هناك ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها :

الأولى : وجوده بعد العدم .

الثانية : نعمة الإيمان .

الثالثة : دخول الجنة .

وقالوا : الإيجاد من العدم ، تفضل من الله تعالى كما قال : لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [ 42 \ 49 - 50 ] ، ومن جعله الله عقيما فلن [ ص: 380 ] ينجب قط .

والثانية : الإنعام بالإيمان ، كما في قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ 28 \ 56 ] .

وقد جاء في الحديث : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه " . الحديث .

وكون المولود يولد بين أبوين مسلمين ، لا كسب له في ذلك .

والثالثة : الإنعام بدخول الجنة كما في الحديث : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله " . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ; إلا أن يتغمدني الله برحمته " .

وقد ذكر تعالى نعمتين صراحة ، وهما خلق الإنسان بعد العدم ، وهدايته السبيل .

والثالثة : تأتي ضمنا في ذكر النتيجة : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 5 ] ; لأن الأبرار هم الشاكرون بدليل التقسيم : شاكرا وإما كفورا إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 3 - 5 ] .

وقوله تعالى : إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] تقدم أنها هداية بيان .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الهداية العامة والخاصة . والجمع بينهما في أكثر من موضع ، وفي مستهل هذه السورة بيان لمبدأ الإنسان وموقفه من بعثة الرسل وهدايتهم ، ونتائج أعمالهم من شكر أو كفر .

وقد جاءت السنة بقراءة هذه السورة في الركعة الثانية من فجر يوم الجمعة ، مع قراءة سورة السجدة في الركعة الأولى .

وقال ابن تيمية : إن قراءتهما معا في ذلك اليوم ; لمناسبة خلق آدم في يوم الجمعة ، ليتذكر الإنسان في هذا اليوم - وهو يوم الجمعة - مبدأ خلق أبيه آدم ، ومبدأ خلق عموم الإنسان ، ويتذكر مصيره ومنتهاه ; ليرى ما هو عليه من دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهل هو شاكر أو كفور . اهـ ملخصا .

ومضمون ذلك كله أنه يرى أن الحكمة في قراءة السورتين في فجر الجمعة ، أن يوم [ ص: 381 ] الجمعة هو يوم آدم - عليه السلام - فيه خلق ، وفيه نفخ فيه الروح ، وفيه أسكن الجنة ، وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه تيب عليه ، وفيه تقوم الساعة .

كما قيل : يوم الجمعة يوم آدم ، ويوم الإثنين يوم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أي : فيه ولد وفيه أنزل عليه ، وفيه وصل المدينة في الهجرة ، وفيه توفي .

ولما كان يوم الجمعة يوم إيجاد الإنسان الأول ويوم أحداثه كلها ، إيجادا من العدم ، وإنعاما عليه بسكنى الجنة ، وتواجده على الأرض ، وتلقي التوبة عليه من الله ; أي : يوم الإنعام عليه حسا ومعنى ، فناسب أن يذكر الإمام بقراءته سورة " السجدة " في فجر يوم الجمعة ; لما فيها من قصة خلق آدم في قوله : الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه [ 32 \ 7 - 9 ] .

وفيها قوله تعالى : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] ، مما يبث الخوف في قلوب العباد ، إذ لا يعلم من أي الفريقين هو ، فيجعله أشد حرصا على فعل الخير ، وأشد خوفا من الشر .

ثم حذر من نسيان يوم القيامة : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا [ 32 \ 14 ] .

وهكذا في الركعة الأولى ، يرجع المسلم إلى أصل وجوده ويستحضر قصة الإنسان الأول .

وكذلك يأتي في الركعة الثانية بقصته هو منذ بدأ خلقه : من نطفة أمشاج ، ويذكره بالهدي الذي أنزل عليه ، ويرغبه في شكر نعمه عليه ، ويحذره من جحودها وكفرانها .

وقد بين له منتهاه على كلا الأمرين : إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 4 - 5 ] .

فإذا قرع سمعه ذلك في يوم خلقه ويوم مبعثه ، حيث فيه تقوم الساعة ، فكأنه ينظر ويشاهد أول وجوده وآخر مآله ; فلا يكذب بالبعث . وقد علم مبدأ خلقه ولا يقصر في واجب ، وقد علم منتهاه ، وهذا في غاية الحكمة كما ترى .

[ ص: 382 ] ومما يشهد لما ذهب إليه - رحمه الله - ، اعتبار المناسبات كما في كثير من الأمور ، كما في قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ 2 \ 185 ] ، فجميع الشهور من حيث الزمن سواء ، ولكن بمناسبة بدء نزول القرآن في هذا الشهر جعله الله محلا للصوم ، وأكرم فيه الأمة كلها بل العالم كله ، فتتزين فيه الجنة وتصفد فيه مردة الشياطين ، وتتضاعف فيه الأعمال .

وكذلك الليلة منه التي كان فيها البدء اختصها تعالى عن بقية ليالي الشهر ، وهي ليلة القدر جعلها الله تعالى خيرا من ألف شهر ، وما ذاك إلا لأنها كما قال تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] السورة بتمامها .
مسألة .

لقد أكثر الناس القول في اعتبار المناسبات في الإسلام وعدم اعتبارها ، ووقع فيها الإفراط والتفريط ، وكما قيل :


كلا طرفي قصد الأمور ذميم


ومنطلقا من كلام ابن تيمية ، نقدم هذه النبذة في هذه المسألة ، وهي أنه بالتأمل في الشرع وأحداث الإسلام عامة وخاصة ، أي في عموم الأمم وخصوص هذه الأمة ، نجد المناسبات قسمين : مناسبة معتبرة عني بها الشرع لما فيها من عظة وذكرى تتجدد مع تجدد الأيام والأجيال ، وتعود على الفرد والجماعة بالتزود منها . ومناسبة لم تعتبر ، إما لاقتصارها في ذاتها وعدم استطاعة الأفراد مسايرتها .

فمن الأول يوم الجمعة ، وتقدم طرف من خصائص هذا اليوم في سورة " الجمعة " ، وكلام ابن تيمية وقد عني بها الإسلام في الحث على القراءة المنوه عنها في صلاة الفجر ، وفي الحث على أدائها والحفاوة بها من اغتسال وطيب وتبكير إليها ، كما تقدم في سورة " الجمعة " .

ولكن من غير غلو ولا إفراط ، فقد جاء النهي عن صوم يومها وحده ، دون أن يسبق بصوم قبله ، أو يلحق بصوم بعده ، كما نهى عن إفراد ليلتها بقيام ، والنصوص في ذلك متضافرة ثابتة ، فكانت مناسبة معتبرة مع اعتدال وتوجه إلى الله ، أي بدون إفراط أو تفريط .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #580  
قديم 15-08-2024, 09:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,045
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (578)
سُورَةُ الْإِنْسَانِ .
صـ 383 إلى صـ 390




[ ص: 383 ] ومنها يوم الإثنين كما أسلفنا ، فقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن صيامه يوم الإثنين ، فقال : " هذا يوم ولدت فيه ، وعلي فيه أنزل " ، وكان يوم وصوله المدينة في الهجرة ، وكان يوم وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فقد احتفى به - صلى الله عليه وسلم - للمسببات المذكورة ، وكلها أحداث عظام ومناسبات جليلة .

فيوم مولده - صلى الله عليه وسلم - وقعت مظاهر كونية ابتداء من واقعة أبرهة ، وإهلاك جيشه إرهاصا بمولده - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ظهور نجم بني الختان ، وحدثت أمه وهي حامل به فيما قيل : أنها أتيت حين حملت به - صلى الله عليه وسلم - ، فقيل لها : " إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ، فإذا وقع إلى الأرض فقولي :


أعيذه بالواحد من شر كل حاسد


ثم سميه محمدا " ، وذكر ابن هشام : أنها رأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام .

وذكر ابن هشام : أن حسان بن ثابت وهو غلام سمع يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب : يا معشر يهود ، حتى إذا اجتمعوا إليه ، قالوا : ويلك ! ما لك ؟ ، قال : طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به .

وساق ابن كثير في تاريخه ، والبيهقي في خصائصه ، وابن هشام في سيرته أخبارا عديدة مما شهده العالم ليلة مولده - صلى الله عليه وسلم - ، نوجز منها الآتي :

عن عثمان بن أبي العاص : أن أمه حضرت مولده - صلى الله عليه وسلم - ، قالت : فما شيء أنظر إليه في البيت إلا نور ، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول : ليقعن علي .

وعن أبي الحكم التنوخي ، قال : كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة إلى الصبح يكفأن عليه برمة ، فأكفأن عليه - صلى الله عليه وسلم - برمة ، فانفلقت عنه ، ووجد مفتوح العينين ، شاخصا ببصره إلى السماء .

وقد كان لمولده من الأحداث الكونية ما لفت أنظار العالم كله .

ذكر ابن كثير منها انكفاء الأصنام على وجوهها ، وارتجاس إيوان كسرى ، وسقوط بعض شرفه ، وخمود نار فارس ، ولم تخمد قبلها ، وغاضت بحيرة ساوة ، فكان في ذلك إرهاص بتكسير الأصنام وانتشار الإسلام ، ودخول الفرس في الإسلام ، ثم كان بدء الوحي [ ص: 384 ] عليه - صلى الله عليه وسلم - في يوم الإثنين .
الحفاوة بهذا اليوم .

لا شك أن العالم لم يشهد حدثين أعظم من هذين الحدثين : مولد سيد الخلق ، وبدء إنزال أفضل الكتب ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يحتفي به ، وذلك بصيامه ، وهو العمل المشروع الذي يعبر به المسلم عن شعوره فيه ، والعبادة الخالصة التي يشكر الله تعالى بها على هاتين النعمتين العظيمتين .

أما ما يفعله بعض الناس من احتفالات ومظاهر ، فقد حدث ذلك بعد أن لم يكن لا في القرن الأول ولا الثاني ، ولا الثالث ، وهي القرون المشهود لها بالخير ، وأول إحداثه في القرن الرابع .

وقد افترق الناس فيه إلى فريقين : فريق ينكره ، وينكر على من يفعله ; لعدم فعل السلف إياه ، ولا مجيء أثر في ذلك . وفريق يراه جائزا ; لعدم النهي عنه ، وقد يشدد كل فريق على الآخر في هذه المسألة .

لابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم كلام وسط في غاية الإنصاف ، نورد موجزه لجزالته ، والله الهادي إلى سواء السبيل .

قال ابن تيمية في فصل قد عقده للأعياد المحدثة : فذكر أول جمعة من رجب وعيد خم في الثامن عشر من ذي الحجة ، حيث خطب - صلى الله عليه وسلم - ، وحث على اتباع السنة وبأهل بيته ، ثم أتى إلى عمل المولد ، فقال :

وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى - عليه السلام - ، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا ، مع اختلاف الناس في مولده ، أي : في ربيع أو في رمضان ، فإن هذا لم يفعله السلف - رضي الله عنهم - مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه .

ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا ، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيما له منا ، وهم على الخير أحرص .

وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره ، وإحياء سنته باطنا [ ص: 385 ] وظاهرا ، ونشر ما بعث به ، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان ، فإن هذه طريقة السابقين الأولين منالمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، وأكثر هؤلاء الذين تراهم حرصاء على أمثال هذه البدع ، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه . وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه ولا يتبعه . وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه ، أو يصلي فيه قليلا ، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجاجيد المزخرفة ، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء والكبر ، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها .

واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع .

وفيه أيضا من بدعة وغيرها ، ثم رسم طريق العمل السليم للفرد في نفسه والداعية مع غيره ، فقال : فعليك هنا بأدبين : أحدهما : أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنا وظاهرا . الثاني : أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان ; فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه ، فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه ، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضمر من فعل ذلك المكروه .

ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير ، فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان ، إذ النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء .

ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرا إلا إلى مثله أو إلى خير منه ، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون ، قد أتوا مكروها فالتاركون أيضا للسنن مذمومون .

وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به . . .

ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة ، بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد .

[ ص: 386 ] ولهذا قيل لأحمد : إن بعض الأمراء ينفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك ، فقال : دعه ، فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب ، أو كما قال ، مع أن مذهبه : أن زخرفة المصاحف مكروهة ، فمثل هؤلاء إن لم يفعلوا هذا ، وإلا اعتاضوا عنه الفساد الذي لا صلاح فيه مثل أن ينفقها في كتب فجور ، ككتب الأسمار والأصفار ، أو حكمة فارس والروم .

ومراتب الأعمال ثلاث : إحداها العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه .

والثانية : العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها ، إما لحسن القصد ، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع .

والثالثة : ما ليس فيه صلاح أصلا .

فأما الأولى : فهي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي أعمال السابقين الأولين .

وأما الثانية فهي كثيرة جدا في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة ، ومن العامة أيضا ، وهؤلاء خير مما لا يعمل عملا صالحا مشروعا ولا غير مشروع ، ومع هذا فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ، ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له في ظاهر الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر ، ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين ، فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها والعمل بها اهـ .

لقد عالج - رحمه الله - هذه المسألة بحكمة الداعي وسياسة الدعوة مما لا يدع مجالا للكلام فيها .

ولكن قد حدث بعده - رحمه الله - أمور لم تكن من قبل ، ابتلي بها العالم الغربي ، وغزا بها العالم الشرقي ، ولبس بها على المسلمين ، وهي تلك المبادئ الهدامة والغزو الفكري ، وإبراز شخصيات ذات مبادئ اقتصادية أو فسلفية ، ارتفع شأنها في قومهم ، ونفثت سمومهم إلى بني جلدتنا ، وصاروا يقيمون لهم الذكريات ، ويقدمون عنهم الدراسات جهلا أو تضليلا ، فقام من المسلمين من يقول :

نعلم أن المولد ليس سنة نبوية ، ولا طريقا سلفيا ، ولا عمل القرون المشهود لها بالخير ، وإنما نريد مقابلة الفكرة بالفكرة ، والذكريات بالذكرى ، لنجمع شباب المسلمين [ ص: 387 ] على سيرة سيد المرسلين ، ويكون ذلك من باب : يحدث للناس من الأحكام بقدر ما أحدثت من البدع إلى آخره .

وهنا لا ينبغي الإسراع في الجواب ، ولكن انطلاقا من كلام ابن تيمية المتقدم ، يمكن أن يقال : إن كان المراد إحياء الذكرى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الله تعالى قد تولى ذلك بأوسع نطاق ; حيث قرن ذكره - صلى الله عليه وسلم - مع ذكره تعالى في الشهادتين ، مع كل أذان على كل منارة من كل مسجد ، وفي كل إقامة لأداء صلاة ، وفي كل تشهد في فرض أو نفل مما يزيد على الثلاثين مرة جهرا وسرا . جهرا يملأ الأفق ، وسرا يملأ القلب والحس .

ثم تأتي الذكرى العملية في كل صغيرة وكبيرة : في المأكل باليمين ; لأنه السنة ، وفي الملبس في التيامن ; لأنه السنة ، وفي المضجع على الشق الأيمن ; لأنه السنة ، وفي إفشاء السلام وفي كل حركات العبد وسكناته إذا راعى فيها أنها السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإن كان المراد التعبير عن المحبة ، والمحبة هي عنوان الإيمان الحقيقي ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ، وولده ، وماله ، والناس أجمعين " .

فإن حقيقة المحبة طاعة من تحب ، وفعل ما يحبه ، وترك ما لا يرضاه أو لا يحبه ، ومن هذا يمكن أن يقال : إن ما يلابس عمل المولد من لهو ولعب واختلاط غير مشروع ، وأعمال في أشكال لا أصل لها ، يجب تركه وتنزيه التعبير عن محبته - صلى الله عليه وسلم - عما لا يرضاه - صلى الله عليه وسلم - .

وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يكرم هذا اليوم بالصوم ، وإن كان المراد مقابلة فكرة بفكرة . فالواقع أنه لا مناسبة بين السببين ، ولا موجب للربط بين الجانبين لبعد ما بينهما ، كبعد الحق عن الباطل والظلمة عن النور .

ومع ذلك ، فإن كان ولا بد فلا موجب للتقييد بزمن معين ، بل العام كله لإقامة الدراسات في السيرة ، وتعريف المسلمين الناشئة منهم والعوام وغيرهم بما تريده من دراسة للسيرة النبوية .

وختاما ; فبدلا من الموقف السلبي عند التشديد في النكير ، أن يكون عملا إيجابيا فيه حكمة وتوجيه لما هو أولى بحسب المستطاع ، كما قال ابن تيمية . وبالله تعالى التوفيق .

ومن المناسبات ليلة القدر لبدء نزول القرآن فيها ; لقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] [ ص: 388 ] ثم بين تعالى مقدارها بقوله : ليلة القدر خير من ألف شهر [ 97 \ 3 ] ، وبين خواصها بقوله : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر [ 97 \ 4 - 5 ] .
الحفاوة بها .

لقد بين - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله : " التمسوها في العشر الأواخر ، وفي الوتر من العشر الأواخر " ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر كلها ; التماسا لتلك الليلة ، فكان يحييها قائما في معتكفه ، كما جاء في الحديث : " وإذا جاء العشر : شد مئزره ، وطوى فراشه ، وأيقظ أهله " ، فلم يكن يمرح ولا يلعب ولا حتى نوم ، بل اجتهاد في العبادة .

وكذلك شهر رمضان بكامله ; لكونه أنزل فيه القرآن أيضا ، كما تقدمت الإشارة إليه ، فكان تكريمه بصوم نهاره وقيام ليله ، لا بالملاهي واللعب والحفلات ، كماله بعض صار يعد الناس وسائل ترفيه خاصة ، فيعكس فيه القصد ويخالف المشروع .

ومن المناسبات يوم عاشوراء ، لقد كان له تاريخ قديم وكانت العرب تعظمه في الجاهلية وتكسو فيه الكعبة ، ولما قدم - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وجد اليهود يصومونه ، فقال لهم : " لم تصومونه ؟ " ، فقالوا : يوما نجى الله فيه موسى من فرعون ، فصامه شكرا لله فصمناه . فقال - صلى الله عليه وسلم - : " نحن أحق بموسى منكم " ، فصامه ، وأمر الناس بصيامه . إنها مناسبة عظمى : نجاة نبي الله موسى من عدو الله فرعون ، نصرة الحق على الباطل ، ونصر جند الله وإهلاك جند الشيطان .

وهذا بحق مناسبة يهتم لها كل مسلم . ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " نحن أحق بموسى منكم ، نحن معشر الأنبياء أبناء علات ، ديننا واحد " .

وقد كان صيامه فرضا حتى نسخ بفرض رمضان ، وهكذا مع عظم مناسبته من إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله ، كان ابتهاج موسى - عليه السلام - به في صيامه شكرا لله .

وكذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الطريق السليم والسنة النبوية الكريمة ، لا ما يحدثه بعض العوام والجهال من مظاهر وأحداث لا أصل لها ، ثم يأتي العمل الأعم والمناسبات [ ص: 389 ] المتعددة في مناسك الحج منها الهرولة في الطواف ، لقد كانت عن مؤامرة قريش في عزمها على الغدر بالمسلمين في عمرة القضية ، فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - أن يظهروا النشاط في الطواف ، وذلك حينما جاء الشيطان لقريش وقال لهم : هؤلاء المسلمون مع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، جاءوا إليكم وقد أنهكتهم حمى يثرب ، فلو ملتم عليهم لاستأصلتموهم ، فأخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان الموقف خطيرا جدا وحرجا ; حيث لا مدد للمسلمين ، ولا سبيل للانسحاب ، ولا بد لهم من إتمام العمرة .

فكان التصرف الحكيم ، أن يعكسوا على المشركين نظريتهم ، ويأتونهم من الباب الذي أتوا منه . فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : " أروهم اليوم منكم قوة " ، فهرولوا في الطواف ، وأظهروا قوة ونشاطا مما أدهش المشركين ، حتى قالوا : والله ما هؤلاء بإنس إنهم لكالجن " ، وفوتوا عليهم الفرصة بذلك ، وسلم المسلمون .

فهو أشبه بموقف موسى من فرعون ، فنجى الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غدر قريش ، فكان هذا العمل مخلدا ومشروعا في كل طواف قدوم حتى اليوم ، مع زوال السبب حيث هرول المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بعد فتح مكة بسنتين .

قال العلماء : بقي هذا العمل ; تأسيا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولا ، وتذكروا لهذا الموقف وما لقيه المسلمون في بادئ الدعوة .

وجاء السعي والهرولة فيه لما فيه من تجديد اليقين بالله ، حيث تركت هاجر ، وهي من سادة المتوكلين على الله والتي قالت لإبراهيم :

اذهب فلن يضيعنا الله . تركت حتى سعت إلى نهاية العدد ، كما يقول علماء الفرائض وهو سبعة .

إذ كل عدد بعده تكرار لمكرر قبله ، كما قالوا في عدد السماوات والأرض ، وحصى الجمار ، وأيام الأسبوع . إلخ .

وذلك لتصل إلى أقصى الجهد ، وتنقطع أطماعها من غوث يأتيها من الأرض ، فتتجه بقوة اليقين وشدة الضراعة إلى السماء ، وتتوجه بكليتها وإحساسها بقلبها وقالبها إلى الله . فيأتيها الغوث الأعظم سقيا لها وللمسلمين من بعدها .

فكان ذلك درسا عمليا ظل إحياؤه تجديدا له .

وهكذا النحر ، وقصة الفداء لما كان فيه درس الأمة لأفرادها وجماعتها في أسرة [ ص: 390 ] كاملة . والد ووالدة ، وولد كل يسلم قياده لأمر الله ، وإلى أقصى حد التضحية حينما قال إبراهيم لإسماعيل ما قصه تعالى علينا : يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى [ 37 \ 102 ] .

إنه حدث خطير ، وأي رأي للولد في ذبح نفسه ، ولكنه التمهيد لأمر الله ، فكان موقف الولد لا يقل إكبارا عن موقف الوالد :

ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين [ 37 \ 102 ] ، ولم يكن ذلك عرضا وقبولا فحسب ، بل جاء وقت التنفيذ إلى نقطة الصفر كما يقال .

والكل ماض في سبيل التنفيذ : فلما أسلما وتله للجبين [ 37 \ 103 ] ، يا له من موقف يعجز كل بيان عن تصويره ويئط كل قلم عن تفسيره ، ويثقل كل لسان عن تعبيره ، شيخ في كبر سنه يحمل سكينا بيده ، ويتل ولده وضناه بالأخرى ، كيف قويت يده على حمل السكين ، وقويت عيناه على رؤيتها في يده ، وكيف طاوعته يده الأخرى على تل ولده على جبينه ؟

إنها قوة الإيمان وسنة الالتزام ، وها هو الولد مع أبيه طوع يده ، يتصبر لأمر الله ويستسلم لقضاء الله : ستجدني إن شاء الله من الصابرين [ 37 \ 102 ] ، والموقف الآن والد بيده السكين ، وولد ملقى على الجبين ، ولم يبق إلا توقف الأنفاس للحظة التنفيذ ، ولكن - رحمة الله - أوسع ، وفرجه من عنده أقرب : وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين [ 37 \ 104 - 105 ] .

فكانت مناسبة عظيمة وفائدتها كبيرة ، خلدها الإسلام في الهدي والضحية .

وفي رمي الجمار ، إلى آخره ، وهكذا كلها في مناسك وعبادة وقربة إلى الله تعالى في تجرد وانقطاع ، ودوام ذكر لله تعالى .

وهناك أحداث جسام ومناسبات عظام ، لا تقل أهمية عن سابقاتها ، ولكن لم يجعل لها الإسلام أي ذكرى ، كما في صلح الحديبية .

لقد كان هذا الصلح من أعظم المناسبات في الإسلام ، إذ كان فيه انتزاع اعتراف قريش بالكيان الإسلامي مائلا في الصلح ، والعهد الذي وثق بين الطرفين ، وقد سماه الله فتحا ، كما قال تعالى : فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا [ 48 \ 27 ] .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 312.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 306.57 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.87%)]