تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 58 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الموسوعة التاريخية ___ متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 221 - عددالزوار : 21923 )           »          الفرق بين الفقه وأصول الفقه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          هل يقتضي النهي فساد المنهي عنه (الاتجاهات، المآخذ) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 35 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 53 - عددالزوار : 41035 )           »          سِيَر أعلام المفسّرين من الصحابة والتابعين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 109 - عددالزوار : 69041 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 34492 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14646 - عددالزوار : 869572 )           »          شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 617 - عددالزوار : 199996 )           »          كبر الهمَّة في العلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          علماء الحديث مهرة متقنون/ الإمام البخاري وشيخه أبو نعيم نموذجا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #571  
قديم 21-06-2025, 05:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ القمر
المجلد الخامس عشر
صـ 5586 الى صـ 5595
الحلقة (571)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 42 الى 49]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49)
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي انتهاء الخلق، ورجوعهم لمجازاتهم. والمخاطب وإما عامّ، أي أيها السامع أو العاقل، ففيه وعد ووعيد أو خاص بالنبيّ صلوات الله عليه، ففيه تسلية عما كان يلاقيه من جفاء قومه وجهلهم.
ثم أشار إلى بعض آياته الدالة على انفراده بالألوهية، بقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى أي خلق قوتي الضحك والبكاء، أو أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار، أو من شاء من أهل الدنيا، أو أعمّ.
قال الرازيّ: اختار هذين الوصفين لأنهما أمران لا يعللان، فلا يقدر أحد من الطبيعيين أن يبدي في اختصاص الإنسان بهما سببا، وإذا لم يعلل بأمر، فلا بد له من موجد، وهو الله تعالى. وأطال في ذلك وأطاب، رحمه الله تعالى.
وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا أي أمات من شاء من خلقه، وأحيى من شاء قال ابن جرير وعنى بقوله أَحْيا نفخ الروح في النطفة الميتة، فجعلها حية بتصييره الروح فيها وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي ابتدع إنشاءهما من نطفة إذا تدفق في الرحم. وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى أي إعادة الخلق بعد مماتهم في نشاة أخرى لا تعلم، كما قال: وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
[الواقعة: 61] ، وذلك للحساب والجزاء، المرتب على أعمال الخير والشر، بالمصير إلى الجنة أو النار وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى أي أغنى من شاء بالمال. و (أقناه) أي جعل له قنية، وهو ما يدخره من أشرف أمواله. وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وهو نجم مضيء خلف الجوزاء، وكان بعض أهل الجاهلية يعبده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 50 الى 56]
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى يعني قوم هود. وسميت الْأُولى لتقدمها في الزمان. وَثَمُودَ أي قوم صالح فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ أي أشد في كفرهم وَأَطْغى أي أشد طغيانا وعصيانا من الذين أهلكوا بعدهم، لتمردهم على الكفر، وردّ دعوته، في طول مدته بينهم، وهي أطول مدد الأنبياء عليهم السلام. وَالْمُؤْتَفِكَةَ أي قرى قوم لوط التي ائتفكت بأهلها، أي انقلبت.
أَهْوى أي أهواها على أهلها ودمّرها. فَغَشَّاها ما غَشَّى أي من العذاب السماويّ الذي صب عليها. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ أي نعمائه. تَتَمارى أي ترتاب وتشكّ وتجادل في أنها ليست من عنده، وهو الذي أنعم بالإغناء والإقناء وإرسال
الرسل، وقهر أعدائهم. هذا أي القرآن نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم. أو هذا الرسول نذير من جنس من تقدمه، ليس بدعا من الرسل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 57 الى 58]
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت القيامة الموصوفة بالقرب. فاللام في الْآزِفَةُ للعهد وقيل: الآزفة علم بالغلبة للساعة هنا، لئلا يلزم وصف القريب بالقريب.
قال الشهاب: وفيه نظر، لأن وصف القريب بالقرب يفيد المبالغة في قربه، كما يدل عليه الافتعال في (اقتربت) .
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي ليس لقيامها غير الله مبيّن لوقتها، كقوله:
لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] ، وكاشِفَةٌ صفة محذوف، أي نفس كاشفة، أو حال كاشفة. أو التاء للمبالغة. أو هو مصدر بني على التأنيث ومِنْ دُونِ اللَّهِ بمعنى غير الله، أو إلا الله. وقيل: الكشف بمعنى الإزالة. أي ليس لها نفس كاشفة إذا وقعت، إلا هو تعالى، من (كشف الغماء) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 59 الى 62]
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن الذي قص ما تقدم، وأنذر بما أخبر تَعْجَبُونَ أي: تعجب إنكار مع أن ما حواه مما يلجئ إلى الإذعان والإقرار، بل مما يفيض لحقيته الدمع المدرار، كما قال وَتَضْحَكُونَ أي استهزاء وَلا تَبْكُونَ أي مما فيه من وعيد للعصاة، ومما فرط منكم قبل سماع ذكراه كما يفعله الموقنون به، المحدث عنهم في آية وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:
109] ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي لاهون عما فيه من العبر، معرضون عن آياته كبرا.
قال مجاهد: كانوا يمرّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم غضابا مبرطمين، أي: شامخين.
وعن ابن عباس: هو الغناء: كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا، وهي لغة أهل اليمن. يقولون: اسمد لنا: تغنّ لنا. والمآل واحد. وإن اختلفت العبارة عنه. ولا ريب
أن كل ذلك مما كان يصدر عن المشركين.
قال في (الإكليل) : فيه استحباب البكاء عند القراءة، وذم الضحك والغناء، واللهو واللعب والغفلة. كما فسر بالأربعة قوله: سامِدُونَ وفسره السدّي بالاستكبار.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا أي واعبدوه دون من سواه من الأوثان، فإنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا له، فلا تجعلوا له شريكا في عبادته.
وعن عبد الله بن مسعود قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم) فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه.. الحديث.
وتقدم في أول السورة.
وروى الإمام أحمد «1» عن المطّلب بن وداعة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم. فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد- ولم يكن أسلم يومئذ المطّلب- فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا قرأها إلا سجد معه- ورواه النسائيّ-
(1)
أخرجه في المسند 3/ 420.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القمر
وتسمى سورة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وهي مكية. وآيها خمس وخمسون.
قال ابن كثير: ورد في حديث أبي واقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف وو اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ في الأضحى والفطر. وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار، لاشتمالهما على ذكر الوعد والوعيد، وبدء الخلق وإعادته، والتوحيد، وإثبات النبوات، وغير ذلك من المقاصد العظيمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي دنت الساعة التي تقوم فيها القيامة. كما قال: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] ، وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] .
قال ابن جرير: وهذا من الله تعالى إنذاره لعباده بدنوّ القيامة، وقرب فناء الدنيا، وأمر لهم بالاستعداد لأهوال القيامة، قبل هجومها عليهم، وهم عنها في غفلة ساهون. وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 2]
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ قال ابن جرير: كان ذلك، فيما ذكر، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، قبل هجرته إلى المدينة. وذلك أن كفار
أهل مكة سألوه آية، فأراهم صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر حجة على صدق قوله، وحقيقة نبوته، فلما أراهم أعرضوا وكذبوا، وقالوا هذا سحر مستمر، سحرنا محمد. ثم روى ذلك عن أنس وابن مسعود وابن عباس، وغير واحد من التابعين.
وقال القاضي عياض في (الشفا) أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي، وإعراض الكفرة عن آياته. وأجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه، ثم سرد الآثار في ذلك.
وزعم ابن كثير أن أحاديثه متواترة، إلا أن الشهاب نقل عن الإمام الخطابيّ أن معجزاته صلى الله عليه وسلم، غير القرآن، لم تتواتر. والحكمة فيه أنها لو تواترت كانت عامة، والمعجزة إذا عمت أهلك الله من كذّبها، كما جرت به العادة الإلهية. والنبيّ صلى الله عليه وسلم بعث رحمة، وأمّن الله أمته من عذاب الاستئصال.
ثم قال: وسبب تعرضهم للتواتر طعن بعض الملاحدة بأن القمر يشاهده كل أحد، فلو انقسم قطعتين تواتر وشاع في جميع الناس، ولم يخف على أحد. والطبائع حريصة على إشاعة ما لم يعهد مثله، ولا أغرب من هذا. مع أن الملازمة غير لازمة، لأنه في الليل، وزمان الغفلة. ولا يلزم امتداده. ولا أن يرى إذ ذاك في جميع الآفاق، لاختلاف المطالع. انتهى.
وقد ذكر ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث) أن الذي طعن في تلك الآثار المروية عن ابن مسعود هو النظّام، إلا أنه لم ينقل تأويله للآية على رأيه، ولعله هو القول الثاني الذي حكاه الزمخشريّ والبيضاويّ، ورواه أبو السعود عن عثمان بن عطاء عن أبيه أن المعنى: وسينشق القمر، يعني يوم القيامة وإذا انكدرت النجوم وانتثرت. والمراد بالآية إما القرآن أو ما يقترحونه لو أجيبوا إلى طلبه.
ومعنى مُسْتَمِرٌّ دائم مطرد، أو محكم قويّ، من (مررت الحبل) إذا أحكمت فتله. أو مارّ ذاهب لا يبقى، تعليلا لأنفسهم بالأماني الفارغة. أو منفور عنه لشدة مرارته مجازا.
وجملة (وإن يروا) مستأنفة أو حالية.
قال الشهاب: ولو كانت هذه الجملة حالية، والمعنى. أن الساعة اقتربت، وانشق القمر فيها دنا زمانه، وظهرت آثاره، والحال أنهم مصرون على العناد- كان منتظما أتم انتظام، ولا ضير فيه سوى مخالفته للمنقول عن السلف في تفسيرها، فتأمل. انتهى.
أقول ولي هاهنا كلمة لا بد من التنبيه عليها، وهي أن الرمي بالإلحاد لمنكر
حديث غير مجمع على تواتره، جناية كبرى، وزلة عظمى. فإن باب التفكير والتضليل، ليس بالأمر القليل. ولأجله صنف حجة الإسلام الغزالي كتابه (فيصل التفرقة) ودمغ بحججه أولئك المتعصبين الذين سهل عليهم الرمي لمن خالفهم بالزندقة. ولعمر الحق إن هذا مما فرّق الكلمة، ونفرّ حملة العلم عن تعرف المشارب والآراء، حتى أصبح باب التوسع في العلم مرتجا، ومحيطة بعد مده منحسرا، إذ هجرت كتب الفرق الأخرى بل أحرقت، وأهين من يتأثلها، ورمى بالابتداع أو التزندق، كما يمر كثير من مثل هذا بمطالع كتب التاريخ وطبقات الرجال، فلا جرم نسيت الأقوال الباقية، وعدت من الشاذ غير المقبول. وإذا ألصق اسم الإلحاد بقائلها فماذا يكون حالها؟ وهذا، كما لا يخفاك، حيف على قواعد العلم، وغل للأفكار.
نعم! تفلت منهم علم الأصول، فلم تزل الأقوال الغريبة تتراءى على صفحاته، وإن كان مما يغمز كثير منها، إلا أنها سارت تلج آذانهم، ويحتج بها عليهم. وقد تنبه كثير من المحققين لما ذكرناه، وأشاروا له في مواضع، فقرروا في كتب العقائد أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة.
وقال العلامة الفناريّ في (فصول البدائع) : ولا يضلل جاحد الآحاد.
وقال الإمام ابن تيمية الصواب أن من رد الخبر الصحيح، كما كانت الصحابة ترده، لاعتقاد غلط الناقل أو كذبه، لاعتقاد الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق، وإن لم يكن اعتقاده مطابقا. فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث. انتهى.
وذكر الغزاليّ في (الإحياء) في كتاب آداب تلاوة القرآن في الباب الثالث في أعمال الباطن في التلاوة أن من أركانها التخلي عن موانع الفهم. قال: فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن. وحجب الفهم أربعة. إلى أن قال:
وثانيها- أن يكون مقلدا لمذهب سمعه بالتقليد، وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة.
فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده، فصار نظره موقوفا على مسموعه، فإن لمع برق على بعد وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه، حمل عليه شيطان التقليد حملة، وقال: كيف يخطر هذا ببالك، وهو خلاف معتقد آبائك؟ فيرى أن ذلك غرور الشيطان فيتباعد منه، ويحترز عن مثله. ثم قال:
رابعها- أن يكون قرأ تفسيرا ظاهر، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي، وأن من فسر القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار، فهذا أيضا من الحجب العظيمة. ثم قال:
وسنبين معنى التفسير بالرأي، وأن ذلك لا يناقض قول عليّ رضي الله عنه: إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن. وأنه لو كان المعنى هو الظاهر المنقول، لما اختلف الناس فيه.
ثم ذكر بعد، عليه الرحمة، أن النهي عن التفسير بالرأي ينزل على أحد وجهين:
أحدهما- أن يكون له في الشيء رأي، وإليه ميل من طبعه وهواه، فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه، ليحتج على تصحيح غرضه، كالمحتج على تصحيح بدعة بتأويل يخترعه تلبيسا على خصمه، وكالجاهل المتقحّم يتأول ما شاء هواه.
وثانيهما- أن يتسارع إلى التأويل بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب التنزيل. انتهى.
ويأتي مثل البحث في كثير من المواضع التي فسرها بعض السلف بشيء، أو روى فيها ما أنكره غيره لما قام لديه. ولا ملام في معترك الأفهام- وبالله التوفيق-



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #572  
قديم 21-06-2025, 06:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ القمر
المجلد الخامس عشر
صـ 5596 الى صـ 5605
الحلقة (572)








القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 3]
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
وَكَذَّبُوا أي بآيات الله بعد ما أتتهم حقيقتها وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي ما زين لهم من دفع الحق مما وجدوا عليه آباءهم وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقر عليها. تعريض بأن أمر الرسول لا بد أن يستقر إلى غاية، هي الظهور والنصرة وأمر مكذبيه إلى الخذلان والشقاوة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 4 الى 5]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5)
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ أي عن القرون الخالية، والحقائق الكونية، مما يستحيل أن يأتي به أميّ غيره صلوات الله عليه ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي مرتدع عما هم مقيمون عليه من التكذيب والغفلة واللهو حِكْمَةٌ بالِغَةٌ أي بلغت غايتها من
الإحكام والتنزه عن الخلل، ومن الاشتمال على البراهين القاطعة والحجج الساطعة.
وهو بدل من (ما) أو خبر محذوف، أي هو حكمة بالغة فَما تُغْنِ النُّذُرُ جمع نذير. و (ما) نافية، أو استفهامية. أي: أيّ غناء تغنى عن قوم آثروا الضلالة على الهدى، فأعرضوا عنه، وكذبوا به. وجوز أن تكون حِكْمَةٌ بالِغَةٌ جملة مستأنفة للتعجب من حالهم، مع ما جاءهم مما يقود إلى الإيمان بادئ بدء. وهو ما يفهم من تأويل ابن كثير. وعبارته: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ أي في هدايته تعالى لمن هداه، وإضلاله لمن أضله فَما تُغْنِ النُّذُرُ يعني أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه. فمن ذا الذي يهديه من بعد الله؟ وهذه الآية كقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9] ، وكذا قوله تعالى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 6 الى 8]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي اصفح عن أذاهم، وانتظر ما يأتيهم من الوعيد الشديد، كما قال: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ أي داعي الله إلى موقف القيامة، وهو ملك. أو الدعاء تمثيل للإعادة كالأمر في قوله كُنْ فَيَكُونُ تمثيل للإبداء، والداعي هو الله تعالى: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي فظيع تنكره النفوس، وهو موقف الحساب والجزاء والبلاء خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ أي من الذل والصغار يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أي قبورهم كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ أي في الكثرة والتموج والانتشار. الجراد مثل في الكثرة مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ أي مسرعين مادّي أعناقهم إليه. يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أي لشدة أهواله ويَوْمَ يَدْعُ ظرف ل يَقُولُ وقيل: بمضمر، وقيل: ب يَخْرُجُونَ والأول أظهر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 9]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ أي زجر عن الإنذار والتبليغ بشدة وقساوة، كما يدل عليه صيغة (افتعل) .
قال الناصر: وليس قوله فَكَذَّبُوا الثاني تكرارا، لأن الأول مطلق، والثاني
مقيد. وهو كقوله في السورة فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر: 29] ، فإن تعاطيه هو نفس عقره، ولكن ذكره من جهة عمومه، ثم من ناحية خصوصه إسهابا، وهو بمثابة ذكره مرتين. وجواب آخر هنا وهو أن المكذب أولا محذوف، دل عليه ذكر نوح، فكأنه قال: كذبت قوم نوح نوحا ثم جاء بتكذيبهم ثانيا مضافا إلى قوله عَبْدَنا فوصف نوحا بخصوص العبودية. وأضافه إليه إضافة تشريف. فالتكذيب المخبر عنه ثانيا، أبشع عليهم من المذكور أولا، لتلك اللمحة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 10]
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي غلبني قومي تمردا وعتوّا. فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس منهم، فانتقم منهم بعذاب ترسله عليهم.
ثم أشار إلى استجابته تعالى دعاءه: بالطوفان الذي هلكوا فيه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 11 الى 16]
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16)
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي مندفق. وفيه استعارة تمثيلية، بتشبيه تدفع المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت لها أبواب السماء، وشق لها أديم الخضراء.
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر فَالْتَقَى الْماءُ أي ماء السماء وماء الأرض عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي على حال قدّره الله وقضاه، وهو هلاك قوم نوح وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ يعني السفينة. أقيمت صفاتها مقامها، لتأديتها مؤداها. وهو من بديع الكلام- كما بسطه في (الكشاف) -.
(ودسر) جمع دسار بكسر الدال، أو دسر كسقف وسقف وهي أضلاعها، أو حبالها التي تشد فيها أو مساميرها.
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي بمرأى منا. كناية عن حفظها بحفظه تعالى وعنايته.
جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي كفر به، وهو الله تعالى، أو نوح وما جاء به، فهو من (الكفر) ضد الإيمان. أو هو نوح عليه السلام لأنه نعمة كفروها، فهو متعد بنفسه، استعير لنوح النعمة بطريق الكناية، ونسب الكفران تخييلا أو حقيقة. وَلَقَدْ تَرَكْناها أي قصة نوح آيَةً أي جعلناها عبرة يعتبر بها فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي معتبر ومتعظ. وأصله (مذتكر) . فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي عذابي لهؤلاء الكفرة، قوم نوح، وإنذاراتي بما أحللت بهم، ليحذر أمثالهم وينتهوا عما يقترفونه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 17]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي سهلناه للادّكار والاتعاظ، لكثرة ما ضرب فيه من الأمثال الكافية الشافية فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي فيعتبر بما فيه، ويثوب إلى رشده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 22]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
كَذَّبَتْ عادٌ أي نبيّهم هودا عليه السلام، بمثل ما كذّبت به قوم نوح فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي شديد الهبوب، لها صرير، أو باردة، فِي يَوْمِ نَحْسٍ أي شر وشؤم عليهم مُسْتَمِرٍّ أي استمر عليهم ودام حتى أهلكهم، أو شديد المرارة لعظم بلائه، تَنْزِعُ النَّاسَ أي تقلعهم عن أماكنهم. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي أصول نخل منقلع من مغارسه. وأصل (مّنقعر) ما أخرج من القعر فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ كرّره للتهويل وللتنبيه على فرط عتوّهم. أي فكيف كان عذابي لقومه. وإنذاري لهم على لسانه؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ أي بما أنذرهم به نبيهم صالح عليه السلام. فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أي جنون، أو عناء. فهو اسم مفرد. وقيل:
جمع سعير، كأنهم عكسوا عليه، فرتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على اتباعهم له.
قال الزمخشريّ قالوا: أَبَشَراً إنكارا لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر، وهم الملائكة. وقالوا مِنَّا لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى. وقالوا واحِداً إنكارا لأن تتبع الأمة رجلا واحدا، أو أرادوا واحدا من أفنائهم ليس بأشرفهم وأفضلهم. ويدل عليه قولهم أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا يعنون: الوحي والنبوة. أي وفينا من هو أحق بها على زعمهم، لكونه أعز مالا ونفرا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي متكبر، حمله كبره على استتباعنا له.
سَيَعْلَمُونَ غَداً أي عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أي المتكبر عن الحق، البطر له إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ أي آية وحجة لصالح على قومه امتحانا لهم وابتلاء فَارْتَقِبْهُمْ أي انتظرهم وتبصر ما هم صانعوه بها وَاصْطَبِرْ أي على دعوتهم وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ أي الذي يردونه لشرب مواشيهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي مقسوم بينهم، لها شرب يوم، ولهم شرب يوم كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ أي يحضره صاحبه في نوبته و (الشرب) النصيب من الماء.
ثم أشار تعالى إلى عتوهم عن أمر ربهم بقوله فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فتناول الناقة بيده فَعَقَرَ أي فعقرها وقتلها فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي كالشجر اليابس المتكسّر، الذي يتخذه من يعمل الحظيرة للغنم ونحوها. أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. وقرئ بفتح الظاء، اسم مكان. أي كهشيم الحظيرة، أو الشجر المتخذ لها. وهو تشبيه لإهلاكهم وإفنائهم، وأنهم بادوا عن آخرهم، لم تبق منهم باقية، وخمدوا وهمدوا، كما يهمد وييبس الزرع والنبات بعد خضرة ورقه، وحسن نباته.
قال ابن زيد: كانت العرب يجعلون حظارا على الإبل والمواشي من يبس الشوك.
وعن سفيان: الهشيم، إذا ضربت الحظيرة بالعصا، تهشم ذاك الورق فيسقط،
والعرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس، هشيما وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 40]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً أي ملكا يرميهم بالحصباء والحجارة. أو ريحا تحصبهم بالحجارة، أي ترميهم إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ أي في سحر. أو (الباء) للملابسة، أو المصاحبة. وذلك أنه تعالى أوحى إليهم أن يخرجوا من آخر الليل، فنجوا مما أصاب قومهم. ولم يؤمن بلوط من قومه أحد، ولا رجل واحد، حتى ولا امرأته، وقد أصابها ما أصابهم. وخرج نبيّ الله لوط عليه السلام وبنات له، من بين أظهرهم سالمين لم يمسسهم سوء نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي إنعاما منها، وهو علة ل (نجينا) كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ أي فأطاع ربه، وانتهى إلى أمره ونهيه. و (الشكر) صرف العبد جميع ما أنعم عليه، إلى ما خلق لأجله وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ أي لوط بَطْشَتَنا أي أخذتنا بالعذاب فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي بإنذاراته، تكذيبا له وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أي طالبوه بإتيان الفاحشة معهم، وهم الملائكة الذين وردوا عليه في صورة شباب مرد حسان، محنة من الله بهم، فأضافهم لوط عليه السلام، وبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها تعلمهم بأضيافه عليه السلام، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان، فتلقاهم يناشدهم الله أن لا يخزوه في ضيفه، فأبوا عليه، وجاءوا ليدخلوا عليه، فأعمى الله أبصارهم، فلم يروهم، كما قال فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ أي يدوم بهم إلى النار. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ... إلخ؟ قلت: فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا، إذا سمعوا الحث على ذلك، والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشن تارات، لئلا يغلبهم السهو، ولا تستولي عليهم الغفلة. وهكذا حكم التكرير كقوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 13] ، عند كل نعمة عدها في سورة
(الرحمن) . وقوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 15] ، عند كل آية أوردها في سورة (والمرسلات) . وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها، لتكون العبر حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 42]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ يعني موسى وهارون، وجمعها للتعظيم، أو هو جمع نذير بمعنى الإنذار كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعني الآيات التسع، أو الأدلة والحجج التي أتتهم ناطقة بوحدانيته تعالى. فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ أي عاقبناهم عقوبة شديد لا يغالب مُقْتَدِرٍ أي عظيم القدرة لا يعجزه شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 44]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
أَكُفَّارُكُمْ يا معشر قريش خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أي الكفار المعدودين الذين حلت النقمة حتى يأمنوا جانبها أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أي براءة من عقابه تعالى، وأمان منه، مع أنكم على شاكلة من مضى نبؤهم أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أي ممتنع لا يرام. أو منتصر ممن أراد حربنا، وتفريق كلمتنا. أو متناصر، ينصر بعضنا بعضا. فالافتعال. بمعنى التفاعل، كالاختصام بمعنى التخاصم. وإفراد مُنْتَصِرٌ مراعاة للفظ جَمِيعٌ لخفة الإفراد، ولرعاية الفاصلة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 45 الى 46]
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ يعني جمع كفار قريش وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي يولّون أدبارهم المؤمنين بالله، عند انهزامهم. وإفراد الدُّبُرَ لإرادة الجنس، أو رعاية الفواصل، ومشاكلة قرائنه. وقد وقع ذلك يوم بدر. وهو من دلائل النبوّة، لأن الآية مكية، ففيها إخبار عن الغيب، وهو من معجزات القرآن. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ قال ابن جرير: ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من أنهم لا يبعثون بعد مماتهم، بل الساعة موعدهم للبعث والعقاب. وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ أي أعظم داهية، وهي الأمر المنكر الذي لا يهتدى لدوائه. وأمرّ مذاقا، أو أشد عليهم من الهزيمة التي سيهزمونها، إذا التقوا مع المؤمنين للقتال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 47 الى 48]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ أي عن الحق في الدنيا وَسُعُرٍ أي نيران في الآخرة.
وقال القاشانيّ: أي في ضلال عن طريق الحق، لعمى قلوبهم بظلمة صفات نفوسهم. وسُعُرٍ أي جنون ووله، لاحتجاب عقولهم عن نور الحق بشوائب الوهم، وحيرتها في الباطل.
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي يجرّون عليها. ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي حرّها وألمها. والاستعارة في المس تحقيقية. أو في سَقَرَ مكنية، وفي (المسّ) تخييلية. أو المس مجاز مرسل بعلاقة السببيّة للألم. واستعارة الذوق مشهورة، واستعمال الذوق في المصائب بمنزلة الحقيقة. وسَقَرَ من أسماء جهنم- أعاذنا الله منها-.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #573  
قديم 21-06-2025, 06:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الرحمن
المجلد الخامس عشر
صـ 5606 الى صـ 5615
الحلقة (573)



القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 49]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي بمقدار استوفى فيه مقتضى الحكمة، وترتب الأسباب على مسبّباتها. ومنه خلق دار العذاب، لما كسبت الأيدي، وإذاقة ألمها جزاء الزيغ عن الهدى. وهذه الآية كآية وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان: 2] وآية، سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: 1- 3] ، أي قدّر قدرا، وهدى الخلائق إليه. ولا مانع أن تكون هذه الآية وما بعدها إلفاتا لعظمته تعالى، وكبير قدرته، وأن من كانت له تلك النعوت المثلى لجدير أن يعبد وحده، ويرهب بأسه، ويتّقى بطشه، لا سيما وقد صدع الداعي بإنذاره، ومن أنذر فقد أعذر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 50]
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
وَما أَمْرُنا أي الذي به الإيجاد إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي كلمة واحدة يكون بها كل شيء، بمقتضى استعداده، كلمح بالبصر في السرعة.
قال القاشاني: إِلَّا واحِدَةٌ أي تعلّق المشيئة الأزلية الموجبة لوجود كل شيء في زمان معيّن، على وجه معلوم، ثابت في لوح القدرة، المسمّى في الشرع ب كن، فيجب وجوده في ذلك الزمان، على ذلك الوجه دفعة. انتهى.
وقيل: معنى الآية، معنى قوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل: 77] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 51]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة.
قال الشهاب: أصل معنى (الأشياع) جمع شيعة، وهم من يتقوّى بهم المرء من الأتباع. ولما كانوا في الغالب من جنس واحد، أريد به ما ذكر، إما باستعماله في لازمه، أو بطريق الاستعارة.
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي متّعظ بذلك ينزجر به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 52]
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ أي الكتب التي أحصتها الحفظة عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 53]
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أي من الأعمال مُسْتَطَرٌ أي مسطور لا يمحى ولا ينسى، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف: 49] ، وقوله سبحانه وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: 13- 14] .
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: يا عائشة! إيّاك ومحقّرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا. «1»
(1)
أخرجه في المسند 6/ 70.

قال ابن كثير: ورواه النسائيّ وابن ماجة من طريق سعيد بن مسلم بن ماهك المدنيّ، وثّقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم. وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا، من وجه آخر. ثم قال سعيد: فحدّثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي: ويحك يا سعيد! لقد حدّثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبا فاستصغره، فأتاه آت في منامه، فقال له: يا سليمان!
لا تحقرنّ من الذّنوب صغيرا ... إنّ الصغير غدا يعود كبيرا
إنّ الصغير، ولو تقادم عهده، ... عند الإله مسطّر تسطيرا
فازجر هواك عن البطالة، لا تكن ... صعب القياد وشمّرن تشميرا
إنّ المحبّ إذا أحبّ إلهه ... طار الفؤاد وألهم التفكيرا
فأسأل هدايتك الإله، فتتّئد ... فكفى بربّك هاديا ونصيرا
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 54 الى 55]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا عقاب الله بطاعته، وأداء فرائضه، واجتناب نواهيه، فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أي أنهار. واكتفى باسم الجنس المفرد لرعاية الفواصل.
وقرئ بسكون الهاء، وضم النون، وقرئ بضمهما. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ قال ابن جرير:
أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم.
وقال الزمخشريّ: في مكان مرضىّ. قال شراحه: فالصدق مجاز مرسل في لازمه، أو استعارة. وقيل: المراد صدق المبشّر به، وهو الله ورسوله. أو المراد أنه ناله من ناله بصدقه وتصديقه للرسل، فالإضافة لأدنى ملابسة.
عِنْدَ مَلِيكٍ بمعنى ملك. قال الشهاب: وليس إشباعا، بل هي صيغة مبالغة.
كالمقتدر مُقْتَدِرٍ قال القاشانيّ: أي يقدر على تصريف جميع ما في ملكه على حكم مشيئته، وتسخيره على مقتضى إرادته لا يمتنع عليه شيء.
وقال الشهاب: في تنكير الأسمين الكريمين إشارة إلى أن ملكه وقدرته لا تدري الأفهام كنههما، وأن قربهم منه بمنزلة من السعادة والكرامة، بحيث لا عين رأت، ولا أذن سمعت، مما يجل عن البيان، وتكلّ دونه الأذهان.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرحمن
قال المهايميّ: سميت به لأنها مملوءة بذكر الآلاء الجليلة، وهي راجعة إلى هذا الاسم.
وهي مكية، على قول ابن عباس. وآيها ثمان وسبعون.
وقد روى الإمام أحمد أن أول مفصل ابن مسعود، كان الرحمن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ أي بصّر به ما فيه رضاه، وما فيه سخطه، برحمته ليطاع باتباع ما يرضيه، وعمل ما أمر به، وباجتناب ما نهى عنه، وأوعد عليه، فينال جزيل ثوابه، وينجى من أليم عقابه.
قال القاضي: لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية، صدّرها ب الرَّحْمنُ وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلّها، وهو إنعامه بالقرآن، وتنزيله وتعليمه، فإنه أساس الدين، ومنشأ الشرع، وأعظم الوحي، وأعز الكتب، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها، مصدق لنفسه، ومصداق لها.
ثم أتبعه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 3 الى 4]
خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ إيماء بأن خلق البشر، وما تميز به عن سائر الحيوان من البيان- وهو التعبير عما في الضمير، وإفهام الغير- لما أدركه لتلقى الوحي،
وتعرف الحق، وتعلم الشرع. أي فإذا كان خلقهم إنما هو في الحقيقة لذلك، اقتضى اتصاله بالقرآن، وتنزيله الذي هو منبعه، وأساس بنيانه.
قال الزمخشريّ: وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟ وهذا- كما قال الشهاب- مصحح. والمرجح الإشارة إلى أن كلّا منها نعمة مستقلة تقتضي الشكر. ففيه إيماء إلى تقصيرهم في أدائه.
ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها، ربما توهم أنها كلها نعمة واحدة.
وقال الأصفهانيّ في (الذريعة) : لما كان للنطق أشرق ما خص به الإنسان، فإن صورته المعقولة التي بها باين سائر الحيوان. قال عز وجل خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ ولم يقل (وعلمه) إذ جعل قوله عَلَّمَهُ تفسيرا لقوله خَلَقَ الْإِنْسانَ تنبيها أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعا لكانت الإنسانية مرقفعة، ولذلك قيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. وقيل:
المرء مخبوء تحت لسانه.
قال الشاعر:
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدّم
أي إذا توهم ارتفاع النطق الذي هو باللسان، والقوة الناطقة التي هي بالفؤاد، لم يبق إلا صورة اللحم والدم. فإذا كان الإنسان هو اللسان فلا شك أن من كان أكثر منه حظّا كان أكثر منه إنسانية. والصمت من حيث ما هو صمت مذموم، فذلك من صفات الجمادات، فضلا عن الحيوانات. وقد جعل الله تعالى بعض الحيوانات بلا صوت، وجعل لبعضها صوتا بلا تركيب. ومن مدح الصمت، فاعتبارا بمن يسيء في الكلام، فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا. فإذا ما اعتبرا بأنفسهما، فمحال أن يقال في الصمت فضل، فضلا أن يخاير بينه وبين النطق. وسئل حكيم عن فضلهما فقال: الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق وسئل آخر عن فضلهما فقال: الصمت عن الخنا، أفضل من الكلام بالخطا. وعنه أخذ الشاعر:
الصّمت أليق بالفتى ... من منطق في غير حينه
انتهى. وقد جوّز- كما حكاه الشهاب- أن يكون الرَّحْمنُ خبر محذوف، أي الله الرحمن، وما بعده مستأنف لتعديد نعمه. ثم قال: وعَلَّمَ من التعليم، ومفعوله مقدر. أي علّم الإنسان، لا جبريل أو محمدا عليهما الصلاة والسلام. وليس (من العلامة من غير تقدير) كما قيل. أي جعله علامة وآية لمن اعتبر- لبعده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 5 الى 7]
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي يجريان بحساب معلوم مقدّر في بروجهما ومنازلهما، به تتسق أمور الكائنات السفلية، وتختلف الفصول والأوقات، ويعلم السنون والحساب. وَالنَّجْمُ أي النبات الذي ينجم، أي يطلع من الأرض ولا ساق له. وَالشَّجَرُ أي الذي له ساق يَسْجُدانِ أي ينقادان لله فيما يريد بهما طبعا، انقياد الساجد من المكلفين طوعا. فهو استعارة مصرّحة تبعيّة. شبّه جريهما على مقتضى طبيعته، بانقياد الساجد لخالقه والجملة- إن كانت خبرا عن الرحمن لعطفها على الخبر- فالرابط محذوف لوضوحه، أي بحسبانه ويسجدان له. أو مستأنفة، فالقطع لأنها مسوقة لغرض آخر. وإدخال العاطف بينهما، لما أن الشمس والقمر سماويّان، والنجم والشجر أرضيّان، فبينهما مناسبة بالتقابل، وبانقياد الكل لإرادته. وَالسَّماءَ رَفَعَها أي خلقها مرفوعة. وَوَضَعَ الْمِيزانَ أي العدل بين خلقه في الأرض.
قال القاشاني: أي خفض ميزان العدل إلى أرض النفس والبدن، فإن العدالة هيئة نفسانية، لولاها لما حصلت الفضيلة الإنسانية. ومنه الاعتدال في البدن الذي لو لم يكن، لما وجد، ولم يبق. ولمّا استقام أمر الدين والدنيا بالعدل، واستتبّ كمال النفس والبدن به، بحيث لولاه لفسد- أمر بمراعاته ومحافظته قبل تعديد الأصول بتمامها، لشدّة العناية به، وفرط الاهتمام بأمره. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 8 الى 9]
أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي بالإفراط عن حدّ الفضيلة والاعتدال، فيلزم الجور الموجب للفساد. و (أن) مصدرية على تقدير الجارّ. أي لئلا تطغوا فيه، أو مفسرة لما في وضع الميزان من معنى القول، لأنه بالوحي، وإعلام الرسل. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ أي الاستقامة في الطريقة، وملازمة حدّ الفضيلة، ونقطة الاعتدال في جميع الأمور، وكل القوى. وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ قال القاشانيّ: أي بالتفريط عن حدّ الفضيلة.
قال بعض الحكماء: العدل ميزان الله تعالى، وضعه للخلق، ونصبه للحق.
انتهى.
وممن فسّر الْمِيزانَ في الآية بالعدل، مجاهد، وتبعه ابن جرير، وكذا ابن كثير، ونظر لذلك بآية لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] ، وجوّز أن يراد بالميزان ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما. ومنه قال السيوطيّ في (الإكليل) : فيه وجوب العدل في الوزن، وتحريم البخس فيه. وعليه، فوجه اتصال قوله وَوَضَعَ الْمِيزانَ بما قبله، هو أنه لما وصف السماء بالرفعة التي هي مصدر القضايا والأقدار، أراد وصف الأرض بما فيها، مما يظهر به التفاوت، ويعرف به المقدار، ويسوّى به الحقوق والمواجب- كذا ارتآه القاضي- والله أعلم وفي الحقيقة، الثاني من أفراد الأول، وأخذ اللفظ عامّا أولى وأفيد.
ومن اللطائف التي يتسع لها نظم الآية الكريمة قول الرازيّ: الْمِيزانَ ذكر ثلاث مرات، كل مرة بمعنى. فالأول: هو الآلة. والثاني: بمعنى المصدر. والثالث:
للمفعول. قال: وهو كالقرآن، ذكر بمعنى المصدر في قوله تعالى: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
[القيامة: 18] ، وبمعنى المقروء في قوله إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[القيامة: 17] ، وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد: 31] ، فكأنه آلة ومحل له، وفي قوله تعالى: آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] . ثم قال: وبين القرآن والميزان مناسبة، فإن القرآن فيه من العلم ما لا يوجد في غيره من الكتب. والميزان فيه من العدل ما لا يوجد في غيره من الآلات. انتهى.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #574  
قديم 21-06-2025, 06:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الرحمن
المجلد الخامس عشر
صـ 5616 الى صـ 5625
الحلقة (574)





القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 10 الى 13]
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ أي مهّدها للخلق فِيها فاكِهَةٌ أي صنوف مما يتفكّه به وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ أي أوعية الطلع، وهو الذي يطلع فيه العنقود، ثم ينشقّ عن العقود فيكون بسرا، ثم رطبا. ثم ينضج ويتناهى نفعه واستواؤه. وإنما أفردها بالذكر، لما فيها من الفوائد العظيمة، على ما عرف من اتخاذ الظروف منها، والانتفاع بجمّارها وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك. فثمرتها في أوقات مختلفة كأنها ثمرات مختلفة، فهي أتم نعمة بالنسبة إلى غيرها من الأشجار، فلذا ذكر النخل باسمه، وذكر الفاكهة دون أشجارها، فإن فوائد أشجارها في عين ثمارها. وَالْحَبُّ
ذُو الْعَصْفِ
أي وفيها الحبّ. وهو حبّ البرّ والشعير ونحوهما ذُو الْعَصْفِ أي الورق اليابس كالتبن. وَالرَّيْحانُ أي الورق الأخضر. تذكير بالنعمة به وبورقه في حالتيه. هذا على (قراءة) (الريحان) بالجرّ. وقرئ بالرفع، وهو الزرع الأخضر مطلقا، سمي به تشبيها له بما فيه الروح، لأن حياته النباتية في نضرة خضرته.
قال ابن عباس: الريحان خضر الزرع.
وقال القرطبيّ: الريحان، إما فيعلان، من (روح) ، فقلبت الواو ياء، وأدغم ثم خفف، أو فعلان، قلبت واوه ياء للتخفيف، أو للفرق بينه وبين الروحان، وهو ما له روح. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قال أبو السعود: الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى: لِلْأَنامِ [الرحمن: 10] ، وسينطق به قوله تعالى: أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] . والفاء لترتيب الإنكار، والتوبيخ على فصل من فنون النعماء، وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتما. والتعرّض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير، وتشديد التوبيخ.
ومعنى تكذيبهم بآلائه تعالى، كفرهم بها، إما بإنكار كونه نعمة في نفسه، كتعليم القرآن، وما يستند إليه من النعم الدينية، وإما بإنكار كونه من الله تعالى، مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه، كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره تعالى استقلالا، أو اشتراكا صريحا، أو دلالة، فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها. والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب، لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر، شهادة منها بذلك، فكفرهم تكذيب بها لا محالة، أي فإذا كان الأمر كما فصل، فبأي فرد من أفراد آلاء مالككما ومربيّكما بتلك الآلاء تكذبان، مع أن كلّا منهما ناطق بالحق، شاهد بالصدق. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 16]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16)
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ قال أبو السعود: تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين. و (الصلصال) الطين اليابس الذي له صلصلة. و (الفخار) الخزف. وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طينا، ثم حمأ مسنونا، ثم صلصالا. فلا تنافي بين الآية
الناطقة بأحدها، وبين ما نطق به بأحد الآخرين. وَخَلَقَ الْجَانَّ أي الجن، أو أبا الجن، مِنْ مارِجٍ أي لهب صاف مِنْ نارٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النّعم. ومما أظهره لكما بالقرآن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 17 الى 18]
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ أي مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما، أو مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما فيهما من النعم والفوائد التي لا تحصى، كاختلاف الفصول، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه من الخيرات والبركات التي بها قوام العالم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 19 الى 21]
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسلهما، من (مرج فلان دابته) إذا خلّاها وتركها.
والمعنى: أرسل وأجرى البحر الملح، والبحر العذب يَلْتَقِيانِ أي يتجاوران بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجر من قدرة الله تعالى وبديع صنعه لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة، وإبطال الخاصية.
قال الشهاب: يعني أنهما إذا دخل أحدهما في الآخر، قد يجرى فيه فراسخ، ولا يتلاشى ويضمحل، حتى يغير أحدهما طعم الآخر ولونه، كما نشاهده.
وقيل: المراد بحري فارس والروم، فإنهما يلتقيان في البحر المحيط، وبينهما برزخ من الأرض، لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما- وهو مروي عن قتادة والحسن- قال الشهاب: لكنه أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ... [الفرقان: 53] الآية. والقرآن يفسر بعضه بعضا.
واختار ابن جرير ما روي عن ابن عباس وغيره، أنه عني به بحر السماء وبحر الأرض وذلك أن الله قال يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 22] ، واللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قطر ماء السماء. فمعلوم أن ذلك بحر الأرض وبحر السماء. انتهى.
وفيه ما في الذي قبله من عدم موافقته لتلك الآية. والأصل في الآي التشابه.
زاد ابن كثير: أن ما بين السماء والأرض لا يسمى برزخا، وحجرا محجورا.
فالأولى هو الأول. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما في البحرين وخلقهما من الفوائد، وقد أشار إلى بعضهما بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 22 الى 23]
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أي كبار الدر وصغاره. أو (المرجان) الخرز الأحمر المعروف. وإنما قيل مِنْهُمَا مع أنه يخرج من أحدهما، وهو الملح، لأنه لامتزاجهما يكون خارجا منهما حقيقة، أو أنه نسب لهما ما هو لأحدهما، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم. قال الناصر: وهذا هو الصواب. ومثله لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، وإنما أريد إحدى القريتين. وكما يقال: هو من أهل مصر، وإنما هو من محلة منها. انتهى.
قال الشهاب: ولا يخفى أن هذا، وإن اشتهر، خلاف الظاهر. فإما أن يكون ضمير مِنْهُمَا لبحري فارس والروم، أو يقال معنى خروجه منهما ليس أنه متكون فيهما، بل أنهما يحصلان في جانب من البحار انصبّت إليها المياه العذبة. انتهى.
والخطب سهل.
ولما كان خروج هذين الصنفين نعمة على الناس، لتحلّيهم بهما، كما تشير له آية وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [فاطر: 12] ، قال سبحانه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 24 الى 25]
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
وَلَهُ الْجَوارِ يعني السفن، جمع جارية الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ قرئ بكسر الشين، بمعنى الظاهرات السير اللاتي تقبلن وتدبرن، وبفتحها بمعنى المرفوعات القلاع اللاتي تقبل بهن وتدبر. و (الأعلام) جمع علم، وهو الجبل الطويل. ولما كانت من أعظم الأسباب للمتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، مما فيه صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع، قال تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي نعمه التي أنعم بها في هذه الجواري.
قال القاضي: أي من خلق موادها، والإرشاد إلى أخذها، وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر خلقها وجمعها غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 28]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ أي: من على ظهر الأرض هالك وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي ذاته الكريمة ذُو الْجَلالِ أي العظمة والعلوّ والكبرياء وَالْإِكْرامِ أي التفضل العام، وهذه الآية كآية كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] .
ولما كان فناء الخلق سببا لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل، وينقلب الأول بالثواب، ويبوء الآخر بالعقاب، وذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين- قال سبحانه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
وقد أشار الرازيّ إلى ما في قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ من الفوائد، بقوله: فيه فوائد:
منها- الحث على العبادة، وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة.
ومنها- المنع من الوثوق بما يكون للمرء. فلا يقول- إذا كان في نعمة- إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى الله، معتمدا على ماله وملكه.
ومنها- الأمر بالصبر إن كان في ضر، فلا يكفر بالله معتمدا على أن الأمر ذاهب، والضر زائل.
ومنها: ترك اتخاذ الغير معبودا، والزجر عن الاغترار بالقرب من الملوك، وترك التقرب إلى الله تعالى. فإن أمرهم إلى الزوال قريب.
ومنها- حسن التوحيد، وترك الشرك الظاهر والخفي جميعا، لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 29 الى 30]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يدعونه ويرغبون إليه، ويرجون رحمته لفقرهم الذاتي، وغناه المطلق. كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي كل وقت يحدث أمورا، ويجدّد أحوالا.
قال مجاهد: يعطي سائلا، ويفك عانيا، ويجيب داعيا، ويشفي سقيما.
وروى ابن جرير أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية. فقيل: يا رسول الله! وما ذاك الشأن قال: يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع أقواما، ويضع آخرين.
وقال القاشاني: المراد يسأله كلّ شيء، فغاب العقلاء، وأتى بلفظ مَنْ أي كل شيء يسأله بلسان الاستعداد والافتقار دائما كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ بإفاضة ما يناسب كل استعداد ويستحقه، فله كل وقت في كل خلق شأن، بإفاضة ما يستحقه ويستأهله باستعداده. فمن استعدّ بالتصفية والتزكية للكمالات الخيرية والأنوار، يفيضها عليه مع حصول الاستعداد. ومن استعد بتكدير جوهر نفسه بالهيئات المظلمة والرذائل، ولوث العقائد الفاسدة، والخبائث، للشرور والمكاره، وأنواع الآلام والمصائب والعذاب والوبال: يفيضها عليه مع حصول الاستعداد. انتهى.
وقد أخذ الآية عامة من حيث السائلون خاصة بلسان الاستعداد وغيره- كابن كثير والقاضي- رآها خاصة بمن يعقل، عامة بلسان الحال أو المقال. والأقرب هو ما يتبادر بادئ بدء إلى الفهم، وهو ما ذكرناه أولا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما يسعف به سؤالكما، ويخرج لكما من مخبأ قدره وخلقه آنا فآنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 32]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ قال القرطبي: يقال: فرغت من الشغل أفرغ فراغا وفروغا. وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته. والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه. وإنما المعنى: سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، فهو وعيد لهم وتهديد، كقول القائل لمن يريد تهديده: إذا أتفرغ لك، أي أقصدك.
وقال الزجّاج: الفراغ في اللغة على ضربين: أحدهما الفراغ من الشغل، والآخر القصد للشيء. والإقبال عليه، كما هنا. وهو تهديد ووعيد. تقول: قد فرغت مما كنت فيه، أي قد زال شغلي به. وتقول: سأفرغ لفلان، أي سأجعله قصدي. فهو على سبيل التمثيل. شبه تدبيره تعالى أمر الآخرة، من الأخذ في الجزاء، وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين، بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي، والإماتة والإحياء، والمنع والإعطاء، وأنه لا يشغله شأن عن شأن- بحال من إذا كان في شغل يشغله عن شغل آخر، إذا فرغ من ذلك الشغل، شرع في آخر. وجازت الاستعارة التصريحية أيضا. وقد ألم به صاحب (المفتاح) حيث قال: الفراغ الخلاص عن
المهام. والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن، وقع مستعارا للأخذ في الجزاء وحده.
لطيفة:
ترسم أَيُّهَ بغير ألف. وأما في النطق فقرأ أبو عمرو والكسائي (أيها) بالألف في الوقف، ووقف الباقون على الرسم (أيه) بتسكين الهاء، وفي الوصل قرأ ابن عامر (أيه) برفع الهاء، والباقون بنصبها.
و (الثقلان) تثنية (ثقل) بفتحتين، فعل بمعنى مفعل، لأنهما أثقلا الأرض، أو بمعنى مفعول، لأنهما أثقلا بالتكاليف. وقال الحسن: لثقلهما بالذنوب.
والخطاب في (لكم) قيل للمجرمين، لكن يأباه قوله: أَيُّهَ الثَّقَلانِ نعم! المقصود بالتهديد هم. ولا مانع من تهديد الجميع- كما أفاده الشهاب- ولا يفهم من هذا أن اللفظ الكريم وعيد بحت، بل هو حامل للوعد أيضا، لأن المعنى: سنفرغ لحسابكم، فنثيب أهل الطاعة، ونعاقب العصاة، وهو جليّ. ولذا اعتد ذلك نعمة عليهم بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي من ثوابه أهل طاعته، وعقابه أهل معصيته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 33 الى 34]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34)
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم، أي بخروجكم عن قهره ومحل سلطانه ومملكته حتى لا يقدر عليكم فَانْفُذُوا أي فجوزوا واخرجوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي بقوة وقهر وغلبة، وأنّي لكم ذلك ونحوه وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [العنكبوت: 22] ، ويقال: معنى الآية: إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان، يعني البينة من الله تعالى. والأول أظهر، لأنه لما ذكر في الآية الأولى أنه لا محالة مجاز للعباد، عقبه بقوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ... إلخ، لبيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه، إذا أراده. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قال ابن جرير: أي من التسوية بين جميعكم، بأن جميعكم لا يقدرون على خلاف أمر أراده بكم.
وقال القاضي: أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 35 الى 36]
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ أي من لهب مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ أي صفر مذاب يصبّ على رؤوسهم فَلا تَنْتَصِرانِ أي تمتنعان وتنقذان منه. يعني: إذا أصررتما على الكفر والطغيان وعصيان الرسول، فما أمامكم في الآخرة إلا هذا العذاب الأليم.
وقد ذهب ابن كثير إلى أن هذه الآية وما قبلها، مما يخاطب به الكفرة في الآخرة، وعبارته:
هذا في مقام الحشر، والملائكة محدقة بالخلائق، فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان، أي بأمر الله يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة: 10- 12] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [يونس: 27] ، ولهذا قال تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ والمعنى لو ذهبتم هاربين يوم القيامة، لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا. انتهى.
ثم رأيت قد سبقه إلى ذلك، الإمام ابن القيّم رحمه الله، فقد قال رحمه الله في أواخر كتابه (طريق الهجرتين) في تفسير هذه الآية، بعد أن ذكر نحو ما قدمنا من الوجهين في تأويل قوله تعالى إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا ما مثاله:
وفي الآية تقرير آخر، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة، إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض، وأحاط سرادق النار بالآفاق، فهرب الخلائق، فلا يجدون مهربا ولا منفذا كما قال تعالى: وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [غافر: 32- 33] ، قال مجاهد: فارّين غير معجزين. وقال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندّوا هربا، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الحاقة: 17] ، وقوله: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.. [الرحمن: 33] الآية.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #575  
قديم 21-06-2025, 06:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الرحمن
المجلد الخامس عشر
صـ 5626 الى صـ 5643
الحلقة (575)






وهذا القول أظهر- والله أعلم- فإذا بده الخلائق ولوا مدبرين، يقال لهم: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم، فافعلوا. وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول، فإن قبلها سَنَفْرُغُ لَكُمْ ... الآية، وهذا في الآخرة، وبعدها فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ.. [الرحمن: 37] الآية، وهذا في الآخرة، وأيضا فإن هذا خطاب لجميع الإنس. والجن فإنه أتى فيه بصيغة العموم، وهي قوله:
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فلا بد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه، وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر.
وقال تعالى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ولم يقل: إن استطعتما، لإرادة الجماعة، كما في آية أخرى امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ
[الأنعام: 130] ، وقال: يُرْسَلُ عَلَيْكُما، ولم يقل: يرسل عليكم، لإرادة الصنفين، أي لا يختص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفين معا. وهذا، وإن كان مرادا بقوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ [الرحمن: 33] ، فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن. أي من استطاع منكم. وحسّن الخطاب بالتثنية في قوله: عَلَيْكُما أمر آخر، وهو موافقة رؤوس الآي، فاتصلت التثنية بالتثنية. وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما- والله أعلم- انتهى كلام ابن القيم.
وأنت ترى أن لا قرينة تخصص الآية بالقيامة، وما استشهد به من الآيات لا يؤيده، لأنه ليس من نظائره. فالوجه ما ذكرناه.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قال القاضي: فإن التهديد لطف، والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار، من عداد الآلاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 38]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي انفطرت فاختل نظامها العلوي فَكانَتْ وَرْدَةً أي كلون الورد الأحمر كَالدِّهانِ أي كالدهن الذي هو الزيت، كما قال: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ [المعارج: 8] ، وهو دردي الزيت، يعني في لونه الكدر وذوبانه، لصيرورتها إلى الفناء والزوال. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما يحله بكم بعد ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 39 الى 40]
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ أي لا يفتح له باب المعذرة، كقوله وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] ، ففي السؤال مجاز عن نفي سماع الاعتذار. فهو من باب نفي السبب لانتفاء المسبب. وأخذ كثير السؤال على حقيقته، وحاولوا الجمع بينه وبين ما قد ينافيه.
قال القاشاني: وأما الوقف والسؤال المشار إليه في قوله وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: 24] ، ونظائره، ففي مواطن أخر من اليوم الطويل الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، وقد يكون هذا الموطن قبل الموطن الأول في ذلك اليوم، وقد يكون بعده.
وكذا قال ابن كثير: إن هذه الآية كقوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35- 36] ، فهذا حال. وثمّ حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم، قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92- 93] ، وفي الآية تأويل آخر. قال مجاهد: لا يسأل الملائكة عن المجرم، يعرفون بسيماهم.
وقال الإمام ابن القيّم في (طريق الهجرتين) اختلف في هذا السؤال المنفي، فقيل: هو وقت البعث والمصير إلى الموقف، لا يسألون حينئذ، ويسألون بعد إطالة الوقوف، واستشفاعهم إلى الله أن يحاسبهم، ويريحهم من مقامهم ذلك. وقيل المنفيّ سؤال الاستعلام والاستخبار، لا سؤال المحاسبة والمجازاة. أي قد علم الله ذنوبهم، فلا يسألهم عنها سؤال من يريد علمها، وإنما يحاسبهم عليها. انتهى.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قال ابن جرير: أي من عدله فيكم أنه لم يعاقب منكم إلا مجرما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 41 الى 45]
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ أي بما يعلوهم من الكآبة والحزن والذلة. وقيل:
بسواد الوجوه، وزرقة العيون فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ أي فتأخذهم الزبانية بنواصيهم وأقدامهم، فتسحبهم إلى جهنم، وتقذفهم فيها. والباء للآلة، كأخذت
بالخطام، أو للتعدية. و (الناصية) مقدم الرأس. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قال ابن جرير: أي من تعريفه ملائكته، أهل الإجرام من أهل الطاعة منكم، حتى خصوا بالإذلال والإهانة، المجرمين دون غيرهم هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ أي ماء حار آنٍ أي انتهى حره، واشتد غليانه. وكل شيء قد أدرك وبلغ فقد أنى. ومنه قوله: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] ، يعني إدراكه وبلوغه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي من عقوبته أهل الكفر به، وتكريمه أهل الإيمان به.
ثم تأثر ما عدد عليهم من الآلاء الدينية، والدنيوية بتعداد ما أفاض عليهم في الآخرة، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 59]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59)
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي قيامه عند ربه للحساب، فأطاعه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. فإضافته للرب لأنه عنده، فهو كقول العرب: ناقة رقود الحلب، أي رقود عند الحلب، أو موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، فإضافته للرب لامية لاختصاص الملك يومئذ به تعالى. أو هو كناية عن خوف الرب وإثبات خوفه له بطريق برهاني بليغ، لأن من حصل له الخوف من مكان أحد، يهابه وإن لم يكن فيه، فخوفه منه بالطريق الأولى. وهذا كما يقول المترسلون: المقام العالي، والمجلس السامي جَنَّتانِ أي جنة لمن أطاع من الإنس، وجنة لمن أطاع من الجن. أو هو كناية عن مضاعفة الثواب، وإيثار التثنية للفاصلة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي بإثابته المحسن ما وصف ذَواتا أَفْنانٍ أي أنواع من الأشجار والثمار. جمع (فن) بمعنى النوع، أو أغصان لينة، جمع (فنن) وهو ما دقّ ولان من الغصن فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ
وهو ما غلظ من الديباج.
نبه على شرف الظهارة، بشرف البطانة، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
قال ابن مسعود: هذه البطائن، فكيف لو رأيتم الظواهر؟! وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ أي وثمرهما المجنيّ داني القطوف فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي منكسرات الجفن، خافضات النظر، غير متطلعات لما بعد، ولا ناظرات لغير زوجها. أو معناه: إن طرف النظر لا يتجاوزها، كقول المتنبي:
وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأنّ عليه من حدق نطاقا
فالمراد: قاصرات طرف غيرهن عن التجاوز لغيرهن. أو المعنى: شديدات بياض الطرف، كما يقال: أحور الطرف وحوراؤه، من قولهم: ثوب مقصور وحوّاري.
وجليّ أن المعاني هاهنا لا تتزاحم لتحقق مصداقها كلها. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ أي لم يمسهن. وأصله خروج الدم، ولذلك يقال للحيض (طمث) ثم أطلق على جماع الأبكار، لما فيه من خروج الدم. ثم عمّ كل جماع. وقد يقال:
إن التعبير به للإشارة إلى أنها توجد بكرا كلما جومعت. ويستدل بالآية على أن الجن يطمثن ويدخلن الجنة. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ أي في الحسن والبهجة، أو في حمرة الوجنة والوجه، أدبا وحياء فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 60 الى 78]
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69)
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ أي في العمل إِلَّا الْإِحْسانُ أي في الثواب، وهو الجنة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَمِنْ دُونِهِما أي دون تينك الجنتين المنوّه بهما جَنَّتانِ أي بستانان آخران. إشارة إلى وفرة الجنان واتصالها وسعة امتداد الطرف في مناظرها فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُدْهامَّتانِ أي خضراوان من الري، تضربان إلى السواد من شدة الخضرة. أو من كثرة أشجارها الممتدة لا إلى نهاية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ أي فوّارتان بالماء فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ وإنما أفردهما بالذكر بيانا لفضلهما، كأنهما، لما لهما من المزية، جنسان آخران فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ خَيْراتٌ جمع (خيّرة) بالتشديد، إلا أنه خفف. وقد قرئ على الأصل. أي فاضلات الأخلاق. وإيثار ضمير المؤنث على التثنية مراعاة للفظ المسند إليه بعده حِسانٌ أي حسان الوجوه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ الحور: جمع (حوراء) وهي البيضاء النقية. ومعنى مَقْصُوراتٌ قصرن أنفسهنّ على منازلهنّ، لا يهمهنّ إلا زينتهنّ ولهوهنّ. وفيه المعاني المتقدمة أيضا. والْخِيامِ قال ابن جرير: يعني بها البيوت. وقد يسمّي العرب هوادج النساء خياما، ثم أنشد له. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ يعني بهنّ حور الجنتين اللتين من دون الأوليين. أو تكرير لما سبق، للتنويه بهذا الوصف، وكونه في مقدمة المشتهيات، وطليعة الملذات: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ أي سرر أو مساند أو وسائد خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ أي طنافس وبسط حِسانٌ أي جياد. والصفة كاشفة، ولذا قال ابن جبير: (العبقري) عتاق الزرابي، أي جيادها. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي من إكرامه أهل طاعته منكما هذا الإكرام. تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي ذي العظمة والكبرياء، والتفضل بالآلاء و (الاسم) هنا كناية عن الذات العليّة، لأنه كثر اقتران الفعل المذكور معها، كآية تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الفرقان: 61] ، وآية تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1] ، ونحوهما. وسر إيثار الاسم التنبيه على أنه لا يعرف منه تعالى إلا أسماؤه الحسنى، لاستحالة اكتناه الذات المقدسة. فما عرف الله إلا الله. هذا هو التحقيق.
وقيل: لفظ (اسم) مقحم، كقوله:
إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما
وذهب ابن حزم إلى بقاء الاسم على حقيقته. وردّ من استدلّ بأن الاسم هو المسمى بما مثاله:
لا حجة فيما احتجوا به. أما قول الله عزّ وجلّ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ فحقّ. ومعنى تَبارَكَ تفاعل من البركة، والبركة واجبة لاسم الله عزّ وجلّ الذي هو كلمة مؤلّفة من حروف الهجاء. ونحن نتبرّك بالذكر له وبتعظيمه ونجلّه ونكرّمه، فله التبارك وله الإجلال منا ومن الله تعالى، وله الإكرام من الله تعالى ومنا، حينما كان من قرطاس، أو في شيء منقوش فيه، أو مذكور بالألسنة. ومن لم يجلّ اسم الله عزّ وجلّ كذلك ولا أكرمه، فهو كافر بلا شكّ. فالآية على ظاهرها دون تأويل، فبطل تعلقهم بها. انتهى كلامه رحمه الله.
فائدة:
فيما قاله الأئمة في سر تكرير فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قال السيوطيّ في (الإتقان) في بحث التكرير:
قد يكون التكرير غير تأكيد صناعة، وإن كان مفيدا للتأكيد معنى. ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين، فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكدة.
ثم قال: وجعل منه قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإنها، وإن تكررت نيفا وثلاثين مرة، فكل واحدة تتعلق بما قبلها، ولذلك زادت على ثلاثة، ولو كان الجميع عائدا إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة، لأن التأكيد لا يزيد عليها- قاله ابن عبد السلام وغيره- انتهى.
وفي (عروس الأفراح) : فإن قلت: إذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب بل هي ألفاظ كل أريد به غير ما أريد به الآخر.
قلت: إذا قلنا: العبرة بعموم اللفظ، فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر، ولكن كرر ليكون نصّا فيما يليه، ظاهرا في غيره.
فإن قلت: يلزم التأكيد؟
قلت: والأمر كذلك، ولا يرد عليه أن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة، لأن ذاك في التأكيد الذي هو تابع. أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة، فلا يمتنع.
انتهى.
وقال العز بن عبد السلام في آخر كتابه (الإشارة إلى الإيجاز) وأما قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فيجوز أن تكون مكررة على جميع أنعمه، ويجوز أن يراد بكل واحدة منهن ما وقع بينها وبين التي قبلها من نعمة ويجوز أن يراد بالأولى ما تقدمها
من النعم، وبالثانية ما تقدمها، وبالثالثة ما تقدم على الأولى والثانية والرابعة ما تقدم على الأولى والثانية والثالثة، وهكذا إلى آخر السورة.
فإن قيل: كيف يكون قوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ نعمة، وقوله: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ نعمة، وكذلك قوله: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ وقوله: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ وقوله: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ.
قلنا: هذه كلها نعم جسام، لأن الله هدد العباد بها استصلاحا لهم، ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان إلى حيز الطاعة والإيمان، والانقياد والإذعان. فإن من حذر من طريق الردى، وبين ما فيها من الأذى، وحث على طريق السلامة، الموصلة إلى المثوبة والكرامة، كان منعما غاية الإنعام، ومحسنا غاية الإحسان. ومثل ذلك قوله هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: 52] ، وعلى هذا تصلح فيه مناسبة الربط، بذكر صفة الرحمة في ذلك المقام. وأما قوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] ، فإنه تذكير بالموت والفناء، للترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء، وفي الإعراض عن دار الفناء. انتهى.
وقال البغوي: كررت هذه الآية في أحد وثلاثين موضعا تقريرا للنعمة، وتأكيدا للتذكير بها. ثم عدد على الخلق آلاءه، وفصل بين كل نعمتين بما نبههم عليه، ليفهمهم النعم ويقررهم بها. كقول الرجل لمن أحسن إليه، وتابع إليه بالأيادي، وهو ينكرها ويكفرها: ألم تكن فقيرا فأغنيتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملا فعززتك، أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب انتهى.
وقال السيد مرتضى في (الدرر والغرر) : التكرار في سورة الرحمن، إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعدّدة، فكلما ذكر نعمة أنعم بها، وبّخ على التكذيب، كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ فيحسن فيه التكرير، لاختلاف ما يقرر به، وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، كقول مهلهل يرثي كليبا:
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا رجف العضاه من الدّبور
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خرجت مخبّأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما أعلنت نجوى الأمور
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خيف المخوف من الثّغور
على أن ليس عدلا من كليب ... غداة تلاتل الأمر الكبير
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما خار جار المستجير
ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط، وهو من لطائف العرب، فاعرفه.
وقال شيخ الإسلام في (متشابه القرآن) : ذكرت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة، ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم. ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، بعدد أبواب جهنم، وحسن ذكر الآلاء عقبها، لأن من جملة الآلاء، رفع البلاء، وتأخير العقاب.
وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما، بعدد أبواب الجنة، وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين، أخذا من قوله: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ. فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة. انتهى.
اللهم زدنا اطّلاعا على لطائف قرآنك الكريم، وغوصا على لآلئ فرقانك العظيم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #576  
قديم 21-06-2025, 06:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله




تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ القمر
المجلد السادس عشر
صـ 5644 الى صـ 5655
الحلقة (576)






بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الواقعة
سميت بها لأنها مملوءة بوقائع القيامة، التي هي الواقعة العظمى، لوقوعها في أشد الأحوال- قاله المهايمي-.
وهي مكية. وآيها ست وتسعون.
وعن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله! قد شبت! قال شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعمّ يتساءلون وإذا الشمس كورت- رواه الترمذي «1»
وقال:
حسن غريب.
وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخف من صلاتكم.
وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور.
(1)
أخرجه الترمذي في: التفسير، سورة الواقعة، 6- حدثنا أبو كريب. حدثنا معاوية بن هشام. []

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3)
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي نزلت وجاءت. والْواقِعَةُ علم بالغلبة على القيامة، أو منقول، سميت بذلك لتحقق وقوعها، وكأنه قيل: إذا وقعت التي لا بد من وقوعها، واختيار (إذا) مع صيغة المضي، للدلالة على ما ذكر لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي كذب أو تكذيب. وقد جاء المصدر على زنة (فاعلة) كالعاقبة، والعافية. واللام للاختصاص. أو المعنى: ليس حين وقعتها نفس كاذبة، أي تكذب على الله، أو تكذب في نفيها. واللام للتوقيت.
قال الشهاب: والْواقِعَةُ السقطة القوية، وشاعت في وقوع الأمر العظيم، وقد تخص بالحرب، ولذا عبر بها هنا. خافِضَةٌ رافِعَةٌ أي تخفض الأشقياء إلى الدركات، وترفع السعداء إلى الدرجات. وقيل، الجملة مقررة لعظمة الواقعة على طريق الكناية، لأن من شأن الوقائع العظام أنها تخفض قوما وترفع آخرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 4 الى 6]
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6)
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي زلزلت زلزالا شديدا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتّتت، أو سيقت وأذهبت، كقوله وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ [النبأ: 20] ، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا أي متفرقا. قال قتادة: الهباء ما تذروه الريح من حطام الشجر. وقال غيره: هو ما يرى من الكوة كهيئة الغبار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 7 الى 12]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً أي أصنافا ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ تقسيم وتنويع للأزواج الثلاثة، مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها. وإطلاق (الميمنة) و (المشأمة) اللتين هما الجهتان المعروفتان، على منزلة السعداء الذين هم الأبرار والمصلحون من الناس، وعلى دركة الأشقياء الذين هم الأشرار والمفسدون من الناس- أصله من تيمّن العرب باليمين، وتشاؤمهم بالشمال، كما في السانح والبارح، وقولهم للرفيع: هو منى باليمين، وللوضيع: هو منى بالشمال، تجوّزا به، أو كناية به عما ذكر.
وقيل: الميمنة والمشأمة بمعنى اليمين والشؤم، فليس بمعنى الجهة، بل بمعنى البركة وضدها، لما عاد عليهم من أنفسهم وأفعالهم. وفي جملتي الاستفهام إشارة إلى ترقّي أحوالهما في الخير والشر، تعجّبا منه.
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أي الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة، بعد ظهور الحق، وأوذوا لأجله، وصبروا على ما أصابهم، وكانوا الدعاة إليه.
فإن قيل: لم خولف بين المذكورين في السابقين، وفي أصحاب اليمين، مع أن كل واحد منهما إنما أريد به التعظيم والتهويل لحال المذكورين؟
فنقول: التعظيم المؤدي بقوله: السَّابِقُونَ أبلغ من قرينه. وذلك أن مؤدي هذا أن أمر السابقين، وعظمة شأنه، ما لا يكاد يخفى. وإنما تحير فهم السامع فيه مشهور. وأما المذكور في قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ فإنه تعظيم على السامع بما ليس عنده منه علم سابق. ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فجمع بين اسم الإشارة المشار به إلى معروف، وبين الإخبار عنه بقوله: الْمُقَرَّبُونَ معرفا بالألف واللام العهدية؟ وليس مثل هذا مذكورا في بسط حال أصحاب اليمين، فإنه مصدر بقوله: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ- أفاده الناصر-.
والسَّابِقُونَ الثاني إما خبر، أي الذين عرفت حالهم، واشتهرت أوصافهم على حدّ (وشعري شعري) ، أو تأكيد، والخبر قوله:
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ أي الذين يقرّبهم الله منه بإعلاء منازلهم فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 14]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي هم جماعة كثيرة من الذين سبقوا، لرسوخ إيمانهم وظهور أثره في أعمالهم من العمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على الجهاد في سبيله، إلى غير ذلك من المناقب التي كانت ملكات لهم. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي الذين جاءوا من بعدهم في الأزمنة التي حدثت فيها الغير، وتبرّجت الدنيا لخطّابها، ونسي معها سر البعثة، وحكمة الدعوة. فما أقلّ الماشين على قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وصحابه! لا جرم أنهم وقتئذ الغرباء، لقلّتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 15 الى 26]
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ أي مصفوفة، أو مشبكة بالدرّ والياقوت أو الذهب.
و (الوضن) التشبيك والنسج. مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ أي بوجوههم، متساوين في الرتب، لا حجاب بينهم أصلا. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي مبقون على سنّ واحدة لا يموتون. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ أي حال الشرب. و (الكوب) إناء لا عروة ولا خرطوم له. و (الإبريق) إناء له ذلك. وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي خمر جارية.
ثم أشار إلى أنها لذّة كلها، لا ألم معها ولا خمار لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أي لا يصدر عنها صداعهم لأجل الخمار، كخمور الدنيا، والصداع: وجع الرأس. وقرئ بالتشديد من التفعل. أي لا يتفرقون. وَلا يُنْزِفُونَ بكسر الزاي وفتحها. أي لا تذهب عقولهم بسكرها وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يختارون ويرتضون. وأصله أخذ الخيار والخير.
قال ابن كثير: وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخيّر لها، ثم استشهد له
بحديث عكراش لما أتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بثريد، وأقبل عكراش يخبط بيده
في جوانبه فقبض النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده وقال: يا عكراش! كل من موضع واحد، فإنه طعام واحد. ثم أتي بطبق فيه تمر أو رطب، فجعل عكراش يأكل من بين يديه، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق فقال: يا عكراش! كل من حيث شئت، فإنه غير لون واحد- رواه الترمذي «1»
واستغربه- وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي يتمنون وَحُورٌ عِينٌ أي وأزواج بيض واسعة الأعين. عطف على وِلْدانٌ أو مبتدأ محذوف الخبر. أي وفيها. أو ولهم حور.
وقرئ بالجرّ عطف على بِأَكْوابٍ قال الشهاب: وحينئذ إما أن يقال: يَطُوفُ بمعنى ينعمون مجازا أو كناية. على حدّ قوله:
وزجّجن الحواجب والعيونا
أو يبقى على حقيقته وظاهره، وأن الولدان تطوف عليهم بالحور أيضا، لعرض أنواع اللذات عليهم من المأكول والمشروب والمنكوح، كما تأتي الخدام بالسراري للملوك ويعرضونهن عليهم. وإلى هذا ذهب أبو عمرو وقطرب وجوّز جعله من الجر الجواري. قيل: والفصل يأباه ويضعفه. وأما عطفه على جَنَّاتِ بتقدير مضاف أي هم في جنات، ومصاحبة حور- فقال أبو حيّان: هو فهم أعجمي، فيه بعد وتفكيك للكلام المرتبط، وهو ظاهر. ومن عصّبه فقد تعصّب.
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي صفاؤهنّ كصفاء، الدّرّ في الأصداف الذي لا تمسّه الأيدي وأصل الْمَكْنُونِ الذي صين في كنّ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي من الصالحات. لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً أي هذيانا وكلاما غير مفيد، باطلا من القول. وَلا تَأْثِيماً أي ما يؤثم من الفحش والكذب والغيبة وأمثالها. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً قال القاشاني: أي قولا هو سلام في نفسه منزّه عن النقائص، مبرّأ عن الفضول والزوائد. أو قولا يفيد سلامة السامع من العيوب والنقائض، ويوجب سروره وكرامته، ويبين كماله وبهجته، لكون كلامهم كله معارف وحقائق، وتحايا ولطائف، على اختلاف وجهي الإعراب، أي من كون سَلاماً بدلا من قِيلًا أو مفعوله. والتكرير للدلالة على فشوّ السلام بينهم وكثرته، لأن المراد: سلاما بعد سلاما، كقرأت النحو بابا بابا، فيدلّ على تكرّره وكثرته.
(1)
أخرجه في: الأطعمة، 41- باب ما جاء في التسمية في الطعام.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ أي: أي شيء هم! أي هم شرفاء، عظماء كرماء، يتعجب من أوصافهم في السعادة فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ أي لا شوك له. أو موقر بالثمار وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ يعني شجر الموز الذي نضد ثمره من أسفله إلى أعلاه. قال مجاهد: كانوا يعجبون بوجّ من طلحه وسدره. وشجرة الموز ثمرتها حلوة دسمة لذيذة لا نوى لها وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أي ممتد منبسط لا يتقلّص وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي مصبوب دائم الجريان وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ أي لا تنقطع عنهم متى أرادوها، لكونها غير متناهية، وَلا مَمْنُوعَةٍ أي لا تمنع عن طالبها. والقصد مباينتها لفاكهة الدنيا، فإنها تنقطع أحيانا، كفاكهة الصيف في الشتاء، وتمتنع أحيانا لعزتها أو جدبها وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أي مرتفعة في منازلها، أو على الأرائك للرقود والمضاجعة.
وقد يؤيده تأثره بوصف من يضاجعهن فيها. وهو قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً أي بديعا فائق الوصف. فالضمير يعود على ما فهم من السياق والسباق. وقيل: قد يكنى عن الحور بالفرش، كما يكنى عنهن باللباس. فالضمير المذكور على طريق الاستخدام، إذ عاد إلى الفرش بمعنى النساء، بعد إرادة معناها المعروف منها. وقيل:
على طريق الحقيقة. أي مرفوعة على الأرائك. كآية هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ [يس: 56] ، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً أي لم يطمثن. عُرُباً جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها. المحبوبة لتبعلها أَتْراباً أي على سن واحدة لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلق ب (أنشأنا) أو (جعلنا) أو صفة ل أَبْكاراً أو خبر لمحذوف، مثل هن ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي جماعة وأمة من المتقدمين في الإيمان، وممن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان من هذه الأمة.
والكثرة ظاهرة لوفرة أصحاب اليمين في أواخرهم دون السابقين، كما بينا أولا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 48]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ أيّ حر نار ينفذ في المسامّ وَحَمِيمٍ أي ماء متناهي الحرارة وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ أي من دخان أسود، طبق أهويتهم المردية، وعقائدهم الفاسدة، وهيئات نفوسهم المسودة، بالصفات المظلمة، والهيئات السود الرديئة لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ أي ليس له صفتا الظل الذي يأوي إليه الناس من الروح، ونفع من يأوي إليه بالراحة، بل له إيذاء وإيلام وضرّ، بإيصال التعب واللهب والكرب إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ أي منهمكين في اللذات والشهوات، منغمسين في الأمور الطبيعية، والغواشي البدنية، فبذلك اكتسبوا هذه الهيئات الموبقة، والتبعات المهلكة. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ أي الذنب العظيم، من الأقاويل الباطلة والعقائد الفاسدة، التي استحقوا بها العذاب المخلد، والعقاب المؤبد. وفسره (السبكي) بالقسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] ، قال الشهاب: وهو تفسير حسن، لأن الحنث، وإن فسر بالذنب مطلقا أو الذنب العظيم، فالمعروف استعماله في عدم البر بالقسم، ولذا تأثره بما كانوا يعتقدونه من إنكار البعث بقوله: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 49 الى 56]
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي معين عنده تعالى، وهو يوم القيامة ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ أي الجاهلون المصرّون على جهالاتهم، والجاحدون للبعث. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ وهو من أخبث شجر البادية في المرارة، وبشاعة المنظر. ونتن الريح فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي من
ثمراتها الوبيئة البشعة المحرقة فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ أي الماء الذي انتهى حره وغليانه. قال الزمخشري: وأنّث ضمير الشجر على المعنى، وذكّره على اللفظ في قوله (منها) و (عليه) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ أي الإبل التي بها الهيام، وهو داء لا ريّ معه، لشدة الشغف والكلب بها وهذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ أي جزاؤهم في الآخرة.
وفيه مبالغة بديعة، لأن النزل ما يعدّ للقادم عاجلا إذا نزل، ثم يؤتى بعده بما هو المقصود من أنواع الكرامة، فلما جعل هذا، مع أنه أمر مهول، كالنزل، دلّ على أن بعده ما لا يطيق البيان شرحه. وجعله نزلا. مع أنه ما يكرم به النازل، متهكما، كما في قوله:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 62]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ أي معشر قريش، والمكذبين بالبعث، فأوجدناكم بشرا، ولم تكونوا شيئا فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أي بالخلق. وهم، وإن كانوا مقرين به لقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] و [الزمر: 38] ، إلا أنه نزل منزلة العدم والإنكار، لأنه إذا لم يقترن بالطاعة، والأعمال الصالحة، لا يعد تصديقا. أو المعنى: فلولا تصدقون بالبعث، فإن من قدر على الإبداء، قدر على الإعادة أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أي ما تقذفونه في الرحم من النطف. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أي بجعله بشرا سويّا أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أي بإفاضة الصورة الإنسانية عليه نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أي كتبنا على كل نفس ذوقه. أي: ومن كان سبيله ذلك، فشأنه أن يرهب من نزوله، ويتأهب لما يخوّف به من بعده. والجملة مقررة لما قبلها بإيذان أنهم في قبضة القدرة، فلا يغترون بالإمهال، بدليل ما قدره عليهم من الموت. وفي قوله تعالى: بَيْنَكُمُ زيادة تنبيه، كأنه بين ظهرانيهم، ثم أكد ما قرره بقوله تعالى:
وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي بمغلوبين عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
أي بعد مهلككم، فنجيء بآخرين من جنسكم وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
من صور وأشكال أخرى، فكيف نعجز عن إعادتكم؟.
قال الشهاب: والظاهر أن قوله: وَنُنْشِئَكُمْ
المراد به إذا بدلناكم بغيركم، لا في الدار الآخرة، كما توهم. وهذا كقوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء: 133] ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى أي أنه أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة. فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي فتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة، وهي البداءة. قادر على النشأة الأخرى، وهي الإعادة، وأنها أهون عليه




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #577  
قديم 21-06-2025, 06:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ القمر
المجلد السادس عشر
صـ 5656 الى صـ 5665
الحلقة (577)





القول في تأويل قوله تعالى:

[63 - 67] أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون

أفرأيتم ما تحرثون أي: ما تحرثون الأرض لأجله، وهو الحب. و (الحرث): شق الأرض للزراعة، وإثارتها، وإلقاء البذر فيها.

أأنتم تزرعونه أي: تنبتونه أم نحن الزارعون أي: المنبتون، وعن بعض السلف أنه كان إذا قرأ هذه الآية وأمثالها يقول: بل أنت يا رب! لو نشاء لجعلناه حطاما أي: أيبسناه قبل استوائه واستحصاده. وأصل (الحطام) ما تحطم وتفتت لشدة يبسه.

فظلتم تفكهون أي: تعجبون من هلاكه ويبسه بعد خضرته. أو تندمون على اجتهادكم فيه الذي ضاع وخسر. أو (تفكهون) على ما أصبتم لأجله من المعاصي، فتتحدثون فيه. و (التفكه): التنقل بصنوف الفاكهة، وقد استعير للتنقل بالحديث؛ لأنه ذو شجون.

وقوله تعالى: إنا لمغرمون مقول قول مقدر، هو حال، أي: قائلين، أو يقولون: إنا لمغرمون، أي: ملزمون غرامة ما أنفقنا، أو مهلكون لهلاك رزقنا. من الغرام بمعنى الهلاك قال:


إن يعذب يكن غراما وإن يع ط جزيلا فإنه لا يبالي


بل نحن محرومون أي: حرمنا رزقنا.

[ ص: 5657 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[68 - 70] أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنـزلتموه من المزن أم نحن المنـزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون

أفرأيتم الماء الذي تشربون يعني العذب الصالح للشرب.

أأنتم أنـزلتموه من المزن أي: السحاب المعبر عنه بالسماء في غير ما آية أم نحن المنـزلون أي: لكم إلى قرار الأرض، ومسلكوه ينابيع فيها.

لو نشاء جعلناه أجاجا أي: ملحا لا يصلح لشرب ولا زرع فلولا تشكرون أي: نعمة الله عليكم في جعله عذبا فراتا، لشربكم وزرعكم، وصلاح معايشكم ومنافعكم.

لطيفة:

قال الإمام ابن الأثير في "المثل السائر" في النوع الحادي عشر من المقالة الثانية، في بحث ورود لام التوكيد في الكلام، وأنها لا تجيء إلا لضرب من المبالغة، في سر مجيء اللام في قوله تعالى: لجعلناه حطاما دون قوله: جعلناه أجاجا ما مثاله:

أدخلت اللام في آية المطعوم، دون آية المشروب، وإنما جاءت كذلك; لأن جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا في العرف والعادة، والموجود من الماء الملح، أكثر من الماء العذب، وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة، أحالتها إلى الملوحة; فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا إلى زيادة تأكيد; فلذلك لم تدخل عليه لام التأكيد المفيدة زيادة التحقيق. وأما المطعوم فإنه جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد; فلذلك قرن بلام التأكيد، زيادة في تحقيق أمره، وتقرير إيجاده. انتهى.

[ ص: 5658 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[71 - 74] أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم

أفرأيتم النار التي تورون أي: تقدحون، أي: تستخرجونها من الزند، وهو العود الذي تقدح منه.

أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون أي: بل نحن جعلناها مودعة في موضع. وللعرب شجرتان: إحداهما المرخ، والأخرى العفار، إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحك أحدهما بالآخر، تباين من بينهما شرر النار. وقد تقدم بيانه في آخر سورة يس.

نحن جعلناها تذكرة أي: جعلنا نار الزناد تبصرة في أمر البعث; لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها، قادر على إعادة ما تفرقت مواده، أو تذكيرا لنار جهنم ومتاعا أي: منفعة للمقوين أي: المسافرين الذين ينزلون القواء، وهي القفر. يقال: أقوى إذا نزل القواء، كأصحر إذا دخل الصحراء، فإن الإفعال يكون للدخول في معنى مصدر مجرده. وعن مجاهد : المقوين: المستمتعين؛ المسافر والحاضر.

وعن ابن زيد : هم الجائعون، تقول العرب: أقويت منه كذا وكذا، أي: ما أكلت منه. وأقوت الدار: خلت من ساكنيها وانتفاعهم بها؛ لأنهم يطبخون بها. ولشدة احتياجهم له، خصوا بالذكر مع انتفاع غيرهم بها.

فسبح باسم ربك العظيم أي: سبح اسمه، قال الزمخشري : بأن تقول: سبحان الله، إما تنزيها له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته، ويكفرون نعمته، [ ص: 5659 ] وإما تعجبا من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة، وإما شكرا لله على النعم التي عدها ونبه عليها.

القول في تأويل قوله تعالى:

[75 - 79] فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون

فلا أقسم بمواقع النجوم أي: منازل الكواكب ومركزها البهيجة في السماء. أو بمساقطها ومغاربها، وهي أوقات غيبتها عن الحواس، أو بمساقطها وانتشارها يوم القيامة. و " لا " في " لا أقسم " إما مزيدة للتأكيد وتقوية الكلام، وقد عهدت زيادتها في كلامهم، كما أوضحه في "فقه اللغة" وإما لا أقسم بتمامها؛ صيغة من صيغ القسم، على ما ارتضاه بعض المحققين.

وإنه لقسم لو تعلمون عظيم أي: لما في القسم من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة.

إنه لقرآن كريم أي: له كرم وشرف وقدر رفيع لاشتماله على أمهات الحكم والأحكام، وما تنطبق عليه حاجات الأنام على الدوام.

في كتاب مكنون أي: محفوظ مصون، لا يتغير ولا يتبدل. أو محفوظ عن ترداد الأيدي عليه، كغيره من الكتب، بل هو كالدر المصون إلا عن أهله، كما قال: لا يمسه إلا المطهرون اعلم أن في الآية أقوالا عديدة؛ مرجعها إلى أن المس مجاز أو حقيقة، وأن الضمير عائد للكتاب بمعنى الوحي المتلقى، أو المصحف، وأن المطهرون هم الملائكة، أو المتطهرون من الأحداث والأخباث; وذلك لاتساع ألفاظهما الكريمة، لما ذكر بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز، وهاك ملخص ذلك ولبابه:

[ ص: 5660 ] فأما أكثر المفسرين: فعلى أنه عنى بالآية الملائكة. فنفي مسه كناية عن لازمه، وهو نفي الاطلاع عليه، وعلى ما فيه. والمراد ب (المطهرين) حينئذ إما جنس الملائكة، أو من نزل به وهو روح القدس. وطهارتهم نقاء ذواتهم عن كدورات الأجسام، ودنس الهيولى، أو عن المخالفة والعصيان.

وقال ابن زيد : زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه: لا يمسه إلا المطهرون كما قال:

وما تنـزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون انتهى. قال ابن كثير : وهذا القول قول جيد.

وقال الفراء : لا يجد طعمه ولا نفعه إلا من آمن به. ومثله قول محمد بن الفضل: لا يقرؤه إلا الموحدون.

فنفي مسه كناية عن ترك تقبله، والاهتداء به، والعناية به؛ فإن مس الشيء سبب حب الملموس، وأثر الإقبال عليه، ورائد الانصياع له، والطهارة حينئذ هي نظافة القلب من دنس الشرك والنفاق، والملكات الرديئة، والغرائز الفاسدة.

وقال آخرون: عني ب: (المطهرين) المتطهرون من الجنابة والحدث، قالوا: ولفظ الآية خبر، ومعناها النهي، إشارة إلى أن تلك الصفة طبيعة من طبائعه، ولازم من لوازمه، لشرفه وعظم شأنه.

قالوا: والمراد ب: (الكتاب) المصحف، واحتجوا بما رواه الإمام مالك في "موطئه" عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر» . وبما روى الدارقطني في قصة إسلام عمر ، أن أخته قالت له قبل أن يسلم: إنه رجس و لا يمسه إلا المطهرون إلا أن فيهما مقالا [ ص: 5661 ] بينه الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" وأشار له ابن كثير أيضا. ومع ذلك فالدلالة ليست قطعية، وقد أوضح ذلك الشوكاني في "نيل الأوطار" وعبارته:

الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن، والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر، ومن ليس على بدنه نجاسة. ويدل لإطلاقه على الأول قوله تعالى: إنما المشركون نجس وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة : «المؤمن لا ينجس» . وعلى الثاني: وإن كنتم جنبا فاطهروا وعلى الثالث قوله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين: «دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين» ، وعلى الرابع: الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهرا. وقد ورد إطلاق ذلك في كثير. فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه، حمله عليه هنا. والمسألة مدونة في الأصول، وفيها مذاهب، والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها، فلا يعمل به حتى يبين. وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمس المصحف، وخالف في ذلك داود، واستدل المانعون للجنب بقوله تعالى: لا يمسه إلا المطهرون وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعا إلى القرآن، والظاهر رجوعه إلى الكتاب، وهو اللوح المحفوظ؛ لأنه الأقرب. و المطهرون الملائكة. ولو سلم عدم الظهور، فلا أقل من الاحتمال، فيمتنع العمل بأحد الأمرين، ويتوجه الرجوع إلى البراءة الأصلية. ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين، لكانت دلالته على المطلوب، وهو منع الجنب من مسه، غير مسلمة; لأن المطهر من ليس بنجس، والمؤمن ليس بنجس دائما، لحديث: «المؤمن لا ينجس» وهو متفق عليه; فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية، بل تعين حمله على من ليس بمشرك، كما في قوله تعالى:

إنما المشركون نجس لهذا الحديث، ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو. ولو [ ص: 5662 ] سلم صدق اسم (الطاهر) على من ليس بمحدث حدثا أكبر أو أصغر، فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملا في معانيه، فلا يعين حتى يبين، وقد دل الدليل هاهنا أن المراد به غيره لحديث: «المؤمن لا ينجس» ، ولو سلم عدم وجود دليل يمنع من إرادته، لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحا بلا مرجح، وتعيينه لجميعها استعمالا للمشترك في جميع معانيه، وفيه الخلاف، ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال في جميع معانيه، لما صح، لوجود المانع، وهو حديث: «المؤمن لا ينجس» . واستدلوا أيضا بحديث عمرو بن حزم المتقدم، وأجيب بأنه غير صالح للاحتجاج; لأنه من صحيفة غير مسموعة، وفي رجال إسناده خلاف شديد، ولو سلم صلاحيته للاحتجاج، لعاد البحث السابق في لفظ طاهر، وقد عرفته.

قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر، لا يصح حقيقة ولا مجازا ولا لغة. صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه؛ فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائما، فلا يتناوله الحديث، سواء كان جنبا أو حائضا أو محدثا، أو على بدنه نجاسة. فإن قلت: إذا تم ما تريد من حمل الطاهر على من ليس بمشرك، فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم: «أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين. و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء إلى قوله: مسلمون » ، مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب، ووقوع اللمس منهم له معلوم؟

قلت: أجعله خاصة بمثل الآية والآيتين، فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار لمصلحة، كدعائه إلى الإسلام. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه قد صار باختلاطه بغيره [ ص: 5663 ] لا يحرم لمسه، ككتب التفسير، فلا تخصص به الآية والحديث. إذا تقرر لك هذا عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك. وقد عرفت الخلاف في الجنب. وأما المحدث حدثا أصغر، فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن علي والمؤيد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود أنه يجوز له مس المصحف، وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى: لا يجوز واستدلوا بما سلف، وقد سلف ما فيه. انتهى كلام الشوكاني.

تنبيه في لطف دلالة هذه الآية وما تشير إليه من العلم المكنون:

قال الإمام ابن القيم في "أعلام الموقعين" في مباحث أمثال القرآن الكريم، ما مثاله: الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني أن لا يتجاوز بألفاظها ومعانيها، ولا يقصر بها، ويعطى اللفظ حقه، والمعنى، وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه، وأخبر أنهم أهل العلم، ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني والعلل، ونسبة بعضها إلى بعض، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله وشبهه ونظيره، ويلغى ما لا يصح، هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط.

قال الجوهري: الاستنباط كالاستخراج. ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ؛ فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط; إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر، ومقاصد المتكلم. والله سبحانه ذم من سمع ظاهرا مجردا فأذاعه وأفشاه، وحمد من استنبط من أولي العلم حقيقته ومعناه يوضحه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير مستنبطه، ومنه استنباط الماء من أرض البئر والعين. ومن هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما [ ص: 5664 ] يؤتيه الله عبدا في كتابه! ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره، ومراد المتكلم بكلامه، ومعرفة حدود كلامه، بحيث لا يدخل فيها غير المراد ولا يخرج منها شيء من المراد. وأنت إذا تأملت قوله تعالى: إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن جاء من عند الله، وأن الذي جاء به روح مطهرة، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل. ووجدت الآية أخت قوله: وما تنـزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون ووجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر، ووجدتها دالة أيضا بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوته وطعمه إلا من آمن به وعمل به، كما فهمه البخاري من الآية، فقال في صحيحه في باب: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها لا يمسه لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلا المؤمن لقوله: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا وتجد تحته أيضا لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي، إلا القلوب الطاهرة، وإن القلوب النجسة ممنوعة من فهمه، مصروفة عنه، فتأمل هذا السبب القريب، وعقد هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية، واستنباط هذه المعاني كلها من الآية بأحسن وجه وأبينه، فهذا من الفهم الذي أشار إليه علي رضي الله عنه . انتهى.

[ ص: 5665 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[80 - 82] تنـزيل من رب العالمين أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون

تنـزيل من رب العالمين أي: الذي رباهم بالكمالات، وهداهم إليها بتنزيلها منه.

أفبهذا الحديث يعني القرآن الذي قص عليكم فخامة شأنه، وعظمة مقداره أنتم مدهنون قال ابن جرير : أي: تلينون القول للمكذبين، ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر. وأصل الادهان -كما قال الشهاب- جعل الأديم ونحوه مدهونا بشيء من الدهن، ولما كان ذلك ملينا له محسوسا، أريد به اللين المعنوي، على أنه تجوز به عن مطلق اللين، أو استعير له; ولذا سميت المداراة والملاينة مداهنة. وهذا مجاز معروف، ولشهرته صار حقيقة عرفية، فلذا تجوز به هنا عن التهاون أيضا; لأن المتهاون بالأمر لا يتصلب فيه.

وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون أي: شكر رزقكم إياه تكذيبكم به، كفرا لنعمته، وجحدا لمنته.

قال ابن جرير : أي: وتجعلون شكر الله على رزقه إياكم التكذيب، وذلك كقول القائل للآخر: جعلت إحساني إليك إساءة منك إلي؛ بمعنى: جعلت شكر إحساني أو ثواب إحساني إليك، إساءة منك إلي.

وقد ذكر عن الهيثم بن عدي : أن من لغة أزدشنوءة: ما رزق فلان، بمعنى ما شكر. انتهى.

وقد حمل بعضهم الرزق هنا على النعمة مطلقا، والأظهر أنه نعمة القرآن، للسياق.

[ ص: 5666 ] وقال القاشاني: أي: وتجعلون قوتكم القلبي ورزقكم الحقيقي، تكذيبه، لاحتجابكم بعلومكم، وإنكاركم ما ليس من جنسه، كإنكار رجل جاهل ما يخالف اعتقاده كأن علمه نفس تكذيبه. أو رزقكم الصوري، أي: لمداومتكم على التكذيب، كأنكم تجعلون التكذيب غذاءكم، كما تقول للمواظب على الكذب: الكذب غذاؤه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #578  
قديم 21-06-2025, 06:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الحديد
المجلد السادس عشر
صـ 5666 الى صـ 5675
الحلقة (578)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 83 الى 85]
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85)
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ أي النفس، لدلالة الكلام عليها الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ أي حالة نزعه، أو تنتظرون لفظه النفس الأخير. والخطاب لمن حول المحتضر: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ قال جمهور السلف: يعني ملك الموت أدنى إليه من أهله، ولكن لا تبصرون الملائكة. أو لا تدركون كنه ما يقاسيه. وبعضهم فسر القرب بالعلم والقدرة. وتقدم بسط الأقوال، وترجيح الأول في تفسير آية وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ، في سورة (ق) فرجع إليه فإنه مهم.
وهذه الجملة معترضة، أو حالية كالتي قبلها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 86 الى 96]
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90)
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي غير مجزيين يوم القيامة. أو مملوكين مقهورين. من (دانه) أذله واستعبده. تَرْجِعُونَها أي تردّون النفس إلى مقرها عند بلوغها الحلقوم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أنكم غير مسوسين، مربوبين مقهورين.
يعني أنكم مجبرون عاجزون تحت قهر الربوبية، وإلا لأمكنكم دفع ما تكرهون أشد الكراهية، وهو الموت. فَأَمَّا إِنْ كانَ أي الميت مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي السابقين من الأصناف الثلاثة المذكورة في أول السورة فَرَوْحٌ أي فله راحة وَرَيْحانٌ أي رزق طيب، أو شجر ناضر يتفيأ ظلاله وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي يتنعم فيها مما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ قال ابن كثير: أي تبشرهم الملائكة بذلك. تقول لأحدهم: سلام لك، أي لا بأس عليك أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين.
وقال قتادة وابن زيد: سلم من عذاب الله، وسلّمت عليه ملائكة الله، كما قال عكرمة: تسلم عليه الملائكة، وتخبره أنه من أصحاب اليمين. وهذا معنى حسن.
ويكون ذلك كقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ الآيات [فصلت: 30] . انتهى.
وقال الرازي: في السلام وجوه:
أولها- يسلم به صاحب اليمين، على صاحب اليمين كما قال تعالى من قبل:
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة: 25] .
ثانيها- فَسَلامٌ لَكَ أي سلامة لك من أمر خاف قلبك منه، فإنه في أعلى المراتب. وهذا كما يقال لمن تعلق قلبه بولده الغائب عنه، إذا كان يخدم عند كريم: كن فارغا من جانب ولدك، فإنه في راحة.
ثالثها- أن هذه الجملة تفيد عظمة حالهم، كما يقال: فلان ناهيك به، وحسبك أنه فلان. إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد الفضل. انتهى.
ثم قال الرازيّ: والخطاب بقوله: لَكَ يحتمل أن يكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وحينئذ فيه وجه. وهو ما ذكرنا أن ذلك تسلية لقلب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنهم غير محتاجين إلى شيء من الشفاعة وغيرها. فسلام لك يا محمد منهم، فإنهم في سلامة وعافية، لا يهمك أمرهم. أو فسلام لك يا محمد منهم، وكونهم ممن يسلم على محمد صلى الله عليه وسلم دليل العظمة، فإن العظيم لا يسلم عليه إلا عظيم. انتهى.
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ أي بآيات الله الضَّالِّينَ أي الجائرين عن سبيله. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ أي ماء انتهى حرّه. فهو شرابه وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي إحراق بالنار إِنَّ هذا أي المذكور من أحوال الفرق الثلاثة وعواقبهم لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي حقيقة الأمر، وجلية الحال، لا لبس فيه ولا ارتياب. والإضافة إما من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي الحق اليقين: كما يقال: دار الآخرة. والدار الآخرة أو بالعكس، أي اليقين الحق. أو من إضافة العام للخاص، أي كعلم الأمر اليقين. فالإضافة حينئذ لامية، أو بمعنى (من) .
تنبيه:
في (الإكليل) : استدل بالآيات هذه على أن الروح بعد مفارقة البدن، منعّمة أو معذّبة، وعلى أن مقر أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار.
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزهه عما يصفونه به من الأباطيل، وما يتفوهون به من الأضاليل، قولا وعملا.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحديد
سميت به لأنه ناصر لله ولرسوله في الجهاد، فنزل منزلة الآيات الناصرة لله ولرسوله، على أنه سبب لإقامة العدل، كالقرآن. وأيضا أنه جامع للمنافع، فأشبهه أيضا، فسميت سورة ذكر فيه، بذلك- أفاده المهايمي-.
وهي مدنية على الأصح، بل قال النقاش: إنها مدنية بإجماع المفسرين، ونظم آياتها. وما تشير إليه، يؤيده قطعا.
وآيها تسع وعشرون.
روى الإمام أحمد «1» عن عرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد. وقال: إن فيهنّ آية أفضل من ألف آية. وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي
.
قال ابن كثير: والآية المشار إليها في الحديث هي- والله أعلم- قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ الآية. لما سيأتي بيانه- والله أعلم.

(1)
أخرجه في مسنده 4/ 128.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أظهر كل موجود تنزيهه عن الشريك والولد، وكل ما لا يليق به، وآذن بانفراده في ألوهيته، وتدبيره وعلمه وقدرته. فإن من شاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها، على حال من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض، لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي غاياته- فبالضرورة يقضي بأن هذا الترتيب المحكم هو أثر خالق واحد، مدبر لنظامه، مريد لسيرة في سننه، كما بسطناه في (دلائل التوحيد) . وَهُوَ الْعَزِيزُ أي القويّ الذي يقهر كل ما في السموات والأرض الْحَكِيمُ أي الذي رتب نظام كل موجود على ترتيب حكمي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 2]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي سلطانهما، ونفوذ الأمر فيهما يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يوجد ما يشاء من الحيوان والنبات كيفما شاء، ويميته بعد بلوغه أجله فيفنيه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي تام القدرة، فلا يتعذر عليه شيء أراده من إحياء وإماتة وغيرهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 3]
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
هُوَ الْأَوَّلُ أي السابق على كل موجود، من حيث إنه موجده ومحدثه وَالْآخِرُ أي الباقي بعد فناء كل شيء وَالظَّاهِرُ أي وجوده بالأدلة الدالة عليه.
وقال ابن جرير. أي الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه وَالْباطِنُ أي باحتجابه بذاته وماهيته. أو العالم بباطن كل شيء. قال ابن جرير: أي الباطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه، كما قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي تام العلم، فلا يخفى عليه شيء.
وقد روى الإمام أحمد «1» عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم: اللهم! رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته. أنت الأول فليس قبلك شيء. وأنت الآخر فليس بعدك شيء. وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن ليس دونك شيء. اقض عنا الدين. وأغننا من الفقر- ورواه مسلم «2» وغيره-
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 4]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ قال القاشاني: أي من الأيام الإلهية، وقيل المعهودة- والله أعلم- ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قال ابن جرير: أي هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين، فدبّرهن وما فيهن، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه وعلا. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي من خلقه كالأموات والبذور والحيوانات وَما يَخْرُجُ مِنْها أي كالزروع وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ أي من الأمطار والثلوج والبرد والأقدار والأحكام وَما يَعْرُجُ فِيها أي من الملائكة والأعمال وغيرها. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ قال ابن جرير: أي وهو شاهد لكم، أينما كنتم، يعلمكم ويعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (شرح حديث النزول) : لفظ المعية
(1)
أخرجه في المسند 2/ 381.

(2)
أخرجه في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث 61.

في سورة الحديد والمجادلة، في آيتيهما، ثبت تفسيره عن السلف بالعلم. وقالوا:
هو معهم بعلمه. وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم أحد يعتدّ بقوله. وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم. قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية: هو على العرش وعلمه معهم، وهكذا عمن ذكر معه. وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في (الرد على الجهمية) . ولفظ المعية في كتاب الله جاء عاما كما في هاتين الآيتين، وجاء خاصّا كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
[النحل: 128] ، وقوله:
إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] ، وقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة:
40] ، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء، لكان التعميم يناقض التخصيص، فإنه قد علم أن قوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أراد به تخصيصه وأبا بكر، دون عدوّهم من الكفار. وكذلك قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ خصهم بذلك دون الظالمين والفجار. وأيضا، فلفظ المعية، ليست في لغة العرب، ولا شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، كما في قوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح: 29] ، وقوله فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 146] ، وقوله: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] ، وقوله: وَجاهَدُوا مَعَكُمْ [الأنفال: 75] ، ومثل هذا كثير. فامتنع أن يكون قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ، يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق. وأيضا، فإنه افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم به. وقد بسط الكلام عليه في موضع آخر، وبيّن أن لفظ المعية في اللغة، وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقاربة، فهو إذا كان مع العباد، لم يناف ذلك علوّه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه. فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان. ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد. انتهى.
وقال الإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي رضي الله عنه في كتاب (ذم التأويل) :
فإن قيل: فقد تأولتم آيات وأخبارا، فقلتم في قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أي بالعلم، ونحو هذا من الآيات والأخبار، فيلزمكم ما لزمنا؟
قلنا: نحن لم نتأول شيئا، وحمل هذه اللفظات على هذه المعاني ليس بتأويل
لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ، بدليل أنه المتبادر إلى الإفهام منها. وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه، حقيقة كان أو مجازا. ولذلك كان ظاهر الأسماء العرفية، المجاز دون الحقيقة، كاسم الرواية والظعينة وغيرهما من الأسماء العرفية، فإن ظاهر هذا، المجاز دون الحقيقة، وصرفها إلى الحقيقة يكون تأويلا يحتاج إلى دليل وكذلك الألفاظ التي لها عرف شرعيّ، وحقيقة لغوية، كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج، إنما ظاهرها العرف الشرعيّ دون الحقيقة اللغوية. وإذا تقرر هذا، فالمتبادر إلى الفهم من قولهم (إن الله معك) أي بالحفظ والكلاءة. ولذلك قال الله تعالى فيما أخبر عن نبيّه إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] ، وقال لموسى إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] ، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص، لوجوده في حق غيرهم، كوجوده فيهم، ولم يكن ذلك موجبا لنفي الحزن عن أبي بكر، ولا علة له. فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه، فلم يكن تأويلا. ثم لو كان تأويلا فما نحن تأوّلناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم، الذين ثبت صوابهم، ووجب اتباعهم، هم الذين تأوّلوه. فإن ابن عباس والضحاك ومالكا وسفيان وكثيرا من العلماء قالوا في قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أي علمه. ثم قد ثبت بكتاب الله، والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف، أن الله تعالى في السماء على عرشه، وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها، وهو قوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [المجادلة: 7] ، ثم قال في آخرها إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فبدأها بالعلم، وختمها به، ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليه، وهذه قرائن كلها دالة على إرادة العلم، فقد اتفق فيها هذه القرائن، ودلالة الأخبار على معناها، ومقالة السلف وتأويلهم. فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى، وإن خفي فقد كشفناه وبيّنّاه بحمد الله تعالى. ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يخرج ولم يلزمه شيء، فإنه لا يلزم أحدا الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى.
انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فيجازيكم عليه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #579  
قديم 21-06-2025, 06:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الحديد
المجلد السادس عشر
صـ 5676 الى صـ 5685
الحلقة (579)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : الآيات 5 الى 6]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي أمور جميع خلقه، فيقضي بينهم بحكمه. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخل ما نقص من ساعات أحدهما فيجعله زيادة في الآخر بحكمته وتقديره. وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بضمائر صدور عباده، وما عزمت عليه نفوسهم من خير أو شر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 7]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أي آمنوا الإيمان اليقيني ليظهر أثره عليكم، فيسهل عليكم الإنفاق من مال الله الذي موّلكم إياه، وجعلكم مستخلفين فيه، بتمكينكم وإقداركم على التصرّف فيه بحكم الشرع، إذ الأموال كلها لله، واختصاص نسبة التصرّف إنما هو بحكمه في شريعته- أفاده القاشاني-.
وقال الشهاب: الخلافة إمّا عمّن له التصرّف الحقيقي، وهو الله تعالى، وهو المناسب لقوله: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أو عمّن تصرّف فيها قبلهم ممن كانت في أيديهم فانتقلت لهم. وعلى كلّ، ففيه حثّ على الإنفاق، وتهوين له. أما على الأول فظاهر. لأنه أذن له في الإنفاق من ملك غيره، ومثله يسهل إخراجه وتكثيره. وعلى الثاني أيضا، لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله، علم أنه لا يدوم له أيضا، فيسهل عليه الإخراج.
ومال المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بدّ يوما أن ترد الودائع
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 8]
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي وما يصدّكم عنه، وقد ظهرت دواعيه،
واتضحت سبله لذويه كما قال وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ أي يدعوكم من طريق النظر والتفكّر إلى الإيمان بالذي ربّاكم بنعمه، وصرّفكم بآلائه، فوجب عليكم شكره. وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أي بالإيمان، إذ ركّب فيكم العقول، ونصب الأدلّة.
ومكّنكم من النظر، بل أودع في فطركم ما يضطركم لذلك إذا نبهتم، وقد حصل ذلك بتذكير الرسول، فما عليكم إلا أن تأخذوا في سبيله. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال القاشاني: أي إن بقي نور الفطرة والإيمان الأزلي فيكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 9]
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ أي حججا واضحات، وبراهين قاطعات، لِيُخْرِجَكُمْ أي الله، أو عبده بآياته مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات الجهل والكفر والأهواء المتضادّة، إلى نور الهدى واليقين، الذي تشعر به النفوس، وتطمئن به القلوب. وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي في إنزاله الكتب، وإرساله الرسل لهدايتكم، إزاحة للعلل، وإزالة للشبه.
ولما كان إنزال هذه السورة للأمر بالإنفاق في سبيل الله، والترغيب فيه، والحث عليه، أكثر من ذكره في ضروب من البيان، وفنون من الأحكام. ولذا قال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 10]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يرث كل شيء فيهما، ولا يبقى لأحد مال. وإذا كان كذلك، فما أجدر أن ينفق المرء في حياته، ويتخذه ذخرا يجده بعد مماته.
قال الشهاب: هذا من أبلغ ما يكون في الحث على الإنفاق، لأنه قرنه بالإيمان أولا لما أمرهم به، ثم وبخهم على ترك الإيمان، مع سطوع براهينه، وعلى ترك الإنفاق
في سبيل من أعطاه لهم، مع أنهم على شرف الموت، وعدم بقائه لهم إن لم ينفقوه.
وسبيل الله كل خير يوصلهم إليه، أعم من الجهاد وغيره. وقصر بعضهم إياه على الجهاد، لأنه فرده الأكمل، وجزؤه الأفضل، من باب قصر العامّ على أهم أفراده وأشملها، لا سيما وسبب النزول كان لذلك.
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أي من قبل فتح مكة، أو صلح الحديبية، وقاتل لتعلو كلمة الحق. ومن أنفق من بعد وقاتل في حال قوة الإسلام، وعزة أهله. فحذف الثاني لوضوح الدلالة عليه. فإن الاستواء لا يتم إلا بذكر شيئين.
على أنه أشير إليه بقوله مستأنفا عنهم، زيادة في التنويه بهم: أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا أي لعظم موقع نصرة الرسول، صلوات الله عليه، بالنفس، وإنفاق المال في تلك الحال، وفي المسلمين قلة، وفي الكافرين شوكة وكثرة عدد. فكانت الحاجة إلى النصرة والمعاونة أشد، بخلاف ما بعد الفتح، فإن الإسلام صار في ذلك الوقت قويّا، والكفر ضعيفا. ويدل عليه قوله تعالى:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة: 100] ، وقوله عليه الصلاة والسلام «1» : لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه. وهذه الآية دالة على فضل من سبق إلى الإسلام وأنفق وجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم- أفاده الرازي-.
وفي (الإكليل) : في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق، وعلى تنزيل الناس منازلهم، وعلى أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين، لأن الأجر على قدر النصب. انتهى.
وَكُلًّا أي وكل واحد من الفريقين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى، وهي الجنة، لا الأولين فقط، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء.
قال ابن كثير: وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر، فيمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي من النفقة في سبيله، وجهاد أعدائه، وغير ذلك فيجازيكم على جميع ذلك.
قال ابن كثير: ولخبرته تعالى، فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل،
(1)
أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم 221، عن أبي هريرة.

ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول، وإخلاصه التامّ، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق. وفي
الحديث «1» : سبق درهم مائة ألف
.
ولا شك عند أهل الإيمان أن الصّدّيق أبا بكر رضي الله عنه، له الحظّ الأوفر من هذه الآية، فإنه سيّد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عزّ وجلّ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها. وقوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 11]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال أبو السعود: ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيله، بعد الأمر به، والتوبيخ على تركه، وبيان درجات المنفقين.
أي: من ذا الذي ينفق ماله في سبيله تعالى رجاء أن يعوضه، فإن كمن يقرضه.
وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه، وتحري أكرم المال، وأفضل الجهات له. فالقرض مجاز عن حسن إنفاقه مخلصا في أفضل جهات الإنفاق. وذلك إما بالتجوز في الفعل، فيكون استعارة تبعية تصريحية، أو في مجموع الجملة، فيكون استعارة تمثيلية. وقد زعم بعضهم أنها مقصورة على النفقة في القتال، وآخرون على نفقة العيال. قال ابن كثير: والصحيح أنه أعم من ذلك، فكلّ من أنفق في سبيل الله بنيّة خالصة، وعزيمة صادقة، دخل في عموم هذه الآية.
وهو جليّ، وقد أسلفنا بيانه مرارا.
وقوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أي يعطيه ثوابه أضعافا مضاعفة، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي جزاء شريف جميل. والجملة حالية، أو معطوفة مشيرة إلى أن الأجر كما زاد كمّه، زاد كيفه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 12]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أي:
لكونهم على الصراط المستقيم، متوجهين إليه تعالى. و (النور) إما حقيقيّ حسيّ،
(1)
أخرجه النسائي في: الزكاة، 49- باب جهد المقلّ، عن أبي هريرة.

على ما روي عن ابن مسعود: أن نورهم على قدر أعمالهم، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، فدون ذلك.
قيل: وإنما خصصت تلك الجهات، لأن منها أخذت صحف الأعمال، فجعل الله معها نورا يعرف به أنهم من أصحاب اليمين وإما مجازيّ معنوي مراد به ما يكون سببا للنجاة، واختاره ابن جرير، وأيده بقوله: لو عنى بذلك النور، الضوء المعروف، لم يخص عنه الخبر بالسعي بين الأيدي والأيمان، دون الشمائل، لأن الضوء المعروف، لم يخص عنه الخبر بالسعي بين الأيدي والأيمان، دون الشمائل، لأن ضياء المؤمنين الذين يؤتونه في الآخرة يضيء لهم جميع ما حولهم، وفي تخصيص الخبر عن سعيه بين أيديهم وبأيمانهم، دون الشمائل، ما يدل على أنه معنيّ به غير الضياء وإن كانوا لا يخلون من الضياء. فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا: وكلّا وعد الله الحسنى يوم ترون المؤمنين والمؤمنات يسعى ثواب إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم وفي أيمانهم كتب أعمالهم تطاير. ويعني بقوله (يسعى) يمضي والباء في قوله: وَبِأَيْمانِهِمْ بمعنى (في) وكان بعض نحويي البصرة يقول: الباء في قوله:
وَبِأَيْمانِهِمْ بمعنى (على أيمانهم) وقوله: يَوْمَ تَرَى من صلة (وعد) . انتهى.
بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي: يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة: بشراكم أي:
المبشّر به جنات أو بشراكم دخول جنات. وقد قيل: إن البشارة تكون بالأعيان فلا حاجة لتقدير مضاف تصحيحا للحمل.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 13]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي:
نصب منه. يقال: اقتبس، أي: أخذ قبسا، وهو الشعلة. وانْظُرُونا بمعنى انظروا إلينا، على الحذف والإيصال، لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية، يتعدى ب (إلى) فإن أريد التأمل تعدى ب (في) . وقولهم ذلك، إما حينما يساق المؤمنون إلى الجنة زمرا، والمنافقون في العرصات شاخصون إليهم، أو حينما يشرفون من الغرف على المنافقين، وهم في ضوضائهم وجلبتهم في جهنم، كقوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.. [الأعراف:
50] الآية. وقيل: انْظُرُونا بمعنى انتظرونا، وهو الذي عول عليه ابن جرير.
والمراد حينئذ من الانتظار للاقتباس، هو رجاء شفاعتهم لهم، أو دخولهم الجنة معهم طمعا في غير مطمع، يقولون لهم ذلك حينما يسرع بهم إلى الجنة.
قِيلَ أي: قالت الملائكة أو المؤمنون، ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً قال الزمخشري: طرد لهم، وتهكم بهم. أي: ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هناك، فمن ثم يقتبس. أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا بتحصيل سببه. وهو الإيمان. أو ارجعوا خائبين. وتنحوا عنا، فالتمسوا نورا آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور وقد علموا أن لا نور وراءهم، وإنما هو تخييب وإقناط لهم.
وكلامه يدل على حمل النور على حقيقته. ولا مانع من أنه كنى به عن الإيمان والعمل الصالح. أي: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا إيمانا وعملا طيبا يهديكم إلى النجاة، كما أن النور يهدي في الظلمات، على طريق الاستعارة. والأمر للتخسير والتنديم. وهذا، مع ما ذكره الزمخشري رحمه الله، وجه رابع.
ونقل الرازي عن أبي مسلم، أن المراد من قول المؤمنين (ارجعوا) منع المنافقين عن الاستضاءة كقول الرجل لمن يريد القرب منه: وراءك أوسع لك. قال الرازيّ: فعلى هذا القول، المقصود من قوله (ارجعوا) أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب، لأنه أمر لهم بالرجوع. انتهى. وهذا وجه خامس.
ثم أشار إلى امتياز الفريقين في المنازل وتباينهما فيها، بقوله سبحانه:
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ أي: بين المؤمنين والمنافقين بحائط متين، يحجزهم عن أنوار المؤمنين، لتتم ظلمتهم لَهُ أي: لذلك السور بابٌ أي: لأهل الجنة يدخلون منه، ويرى به المنافقون المؤمنين ليكلموهم باطِنُهُ وهو الجانب الذي يلي المؤمنين فِيهِ الرَّحْمَةُ يعني: الجنة وما فيها من رضوان الله والنعيم المقيم وَظاهِرُهُ وهو الذي يلي المنافقين، مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أي: من عنده، ومن جهته الظلمة والنار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : الآيات 14 الى 15]
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ يريدون موافقتهم في الظاهر قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي محنتموها بالنفاق وأهلكتموها وَتَرَبَّصْتُمْ أي بالمؤمنين الدوائر، ليظهر الكفر فتظهروا ما في أنفسكم وَارْتَبْتُمْ أي في توحيد الله، ونبوّة نبيّه، أو في البعث بعد الموت، أو في قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33] و [الفتح: 28] ، ووعده بنصر المؤمنين، أو في جميع ذلك. وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي طول الآمال، والطمع في امتداد الأعمار. أو قولهم: سَيُغْفَرُ لَنا. حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ يعني: الموت، أو مصداق وعده بنصره رسوله، وإظهاره دينه، أو عذاب النار وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي الشيطان، فأطمعكم بالنجاة والفوز والغلبة. وقرئ (الغرور) بالضم. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ هذا من تتمة قول المؤمنين للمنافقين، بعد أن ميز بينهم. أي فاليوم لا يقبل منكم ما يفتدى به، بدلا من عذابكم، وعوضا من عقابكم وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المهاجرين بالكفر من المحادّين لله ولرسوله مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ أي أولى بكم، أو تتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي النار.
ثم نعى عليهم رخاوة عقدهم فيما ندبوا إليه من التصدق في سبيل الله، بأن ذلك من أثر قلة العناية بالخضوع لذكره وتنزيله، تعريضا بالمنافقين، وسوقا للمؤمنين إلى الكمال، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 16]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16)
أَلَمْ يَأْنِ أي ألم يحن. من (أنى الأمر) يأتى، إذا جاء إناه، أي وقته لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ أي أن تلين وترقّ وتخلص قلوبهم لذكر اسمه الكريم وما يوجبه من الوجل منه والخشية، أو لذكر وعده ووعيده. وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ يعني القرآن الذي لو أنزل على جبل لتصدع. قال أبو السعود: ومعنى الخشوع له، الانقياد التامّ لأوامره ونواهيه، والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام، التي من جملتها ما سبق وما لحق من الإنفاق في سبيل الله تعالى. وقد قيل: إن عطفه على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر، وأن ذكر الله ككلام الله، بمعنى القرآن، وكذا ما نزل من الحق، فالعطف لتغاير العنوانين، فإنه ذكر وموعظة، كما أنه حق نازل. وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي الأجل والإمهال




والاستدراج فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي لزوال الخشية والروعة التي كانت تأتيهم من الكتابين وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي خارجون عن دينهم، نابذون لما في كتابهم.
تنبيه:
قال ابن كثير: في الآية نهي للمؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، فإنهم لما تطاول عليهم الأمد، وبدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنا قليلا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فقست قلوبهم، وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه. ولهذا نهى المؤمنون أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية. ونظير الآية قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ.. [النساء: 155] ، و [المائدة: 13] ، إلى آخرها.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #580  
قديم 21-06-2025, 06:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,489
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الحديد
المجلد السادس عشر
صـ 5686 الى صـ 5695
الحلقة (580)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 17]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي فهو محييكم بعد مماتكم ومحاسبكم، فلا منتدح لكم عن الجزاء. أي فاحذروا مغبة القسوة والفسق. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أي الحجج وضروب الأمثال لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لتثوبوا إلى عقولكم ومراشدكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ أي المتصدقين والمتصدقات في سبيل الله وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أي لتصديقهم بجميع أخبار الله وأحكامه، وشهادتهم بحقية جميع ذلك. وقد جوز في الشهداء وجهان:
أحدهما- أن يكون معطوفا على ما قبله، أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء، وهو الظاهر، لأن الأصل الوصل لا التفكيك.
والثاني- أن يكون مبتدأ، خبره لَهُمْ أَجْرُهُمْ. والشُّهَداءُ حينئذ إما الأنبياء الذين يشهدون على قومهم بالتبليغ أو الذين يشهدون للأنبياء على قومهم، أو الذين قتلوا في سبيل الله. واختار الوجه الثاني ابن جرير، قال: لأن الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم (شهيد) لا بمعنى غيره، إلا أن يراد به شهيد على ما آمن به وصدقه، فيكون ذلك وجها، وإن كان فيه بعض البعد، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه إذا أطلق بغير وصل فتأويل قوله: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ إذن، والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، أو أهلكوا في سبيله، عند ربهم، لهم ثواب الله في الآخرة ونورهم. انتهى.
ثم رأيت لابن القيّم في (طريق الهجرتين) بسطا لهذين الوجهين في بحث الصديقية. ننقله لنفاسته. قال رحمه الله في مراتب المكلفين في الآخرة وطبقاتهم:
الطبقة الرابعة- ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علما وعملا، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم. وهذه أفضل مراتب الخلق، بعد الرسالة والنبوة، وهي مرتبة الصديقية. ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء، فقال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] .
فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة. وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول وأمته. فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه. وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ، قيل: إن الوقف على قوله: هُمُ الصِّدِّيقُونَ ثم يبتدئ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ فيكون الكلام جملتين، أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون، والإيمان التام يستلزم العلم والعمل، والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه. وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين، هنا، وفي سورة النساء، وهكذا جاء ذكرهم مقدما على الشهداء في
كلام النبيّ «1» في قوله: (اثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصديق وشهيد)
ولهذا كان نعت الصديقية وصفا لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق. ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتا له رضي الله عنه.
(1)

أخرجه البخاري في: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 5- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا، حديث 1728، عن أنس.
وقيل: إن الكلام جملة واحدة، أخبر عن المؤمنين أنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم. وعلى هذا، فالشهداء هم الذين يستشهدهم الله على الناس يوم القيامة، وهي قوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] ، وهم المؤمنون، فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا، وشهداء على الناس يوم القيامة، ويكون الشهداء وصفا لجملة (المؤمنين الصديقين) .
وقيل: الشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله. وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين، ويكون قوله: وَالشُّهَداءُ مبتدأ خبره ما بعده، لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيدا في سبيل الله. ويرجحه أيضا أنه لو كان الشُّهَداءُ داخلا في جملة الخبر، لكان قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ داخلا أيضا في جملة الخبر عنهم، ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء:
أحدها- أنهم هم الصدّيقون.
والثاني- أنهم هم الشهداء.
والثالث- أن لهم أجرهم ونورهم.
وذلك يتضمن عطف الخبر الثاني على الأول، ثم ذكر الخبر الثالث مجردا عن العطف. وهذا كما تقول: زيد كريم وعالم له مال. والأحسن في هذا تناسب الأخبار، بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعا، فقول. زيد كريم عالم له مال أو كريم وعالم وله مال، فتأمله! ويرجحه أيضا أن الكلام يصير جملا مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء، وهم الصديقون والشهداء والصالحون، وهم المذكورون في الآية، وهم المتصدقون الذين أقرضوا الله قرضا حسنا. فهؤلاء ثلاثة أصناف. ثم ذكر الرسل في قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ [الحديد:
25] ، فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء فهؤلاء هم السعداء، ثم ذكر الأشقياء وهم نوعان: كفار ومنافقون، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الآية، وذكر المنافقين في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ [الحديد: 13] الآية. فهؤلاء أصناف العالم كلهم. وترك سبحانه ذكر المخلّط صاحب الشائبتين، على طريق القرآن في ذكر السعداء والأشقياء، دون المخلطين غالبا، لسرّ اقتضته حكمته. فليحذر صاحب التخليط، فإنه لا ضمان له على الله، فلا هو من أهل وعده المطلق، ولا ييأس من روح الله، فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب، ولكنه بين الجنة والنار، واقف بين الوعد والوعيد، كل منهما يدعوه إلى موجبه لأنه أتى بسببه، وهذا هو الذي لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين، ولكن غلطوا في
تخليده في النار، ولو نزلوه بين المنزلتين، ووكلوه إلى المشيئة لأصابوا. انتهى كلام ابن القيم، وفيه موافقة لما اختاره ابن جرير في الآية.
ولما ذكر تعالى السعداء ومآلهم، عطف بذكر الأشقياء، وبين حالهم بقوله:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
ثم حقر تعالى أمر الدنيا، وبين حاصل أمرها عند أهلها، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 20]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ أي تفريح نفس وَلَهْوٌ أي باطل وَزِينَةٌ أي منظر حسن وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ أي في الحسب والنسب وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أي مطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي الزراع نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ أي يجف بعد خضرته ونضرته فَتَراهُ مُصْفَرًّا أي من اليبس ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي هشيما متكسرا، وكذلك الدنيا لا تبقى كما لا يبقى النبات وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أي لمن ترك طاعة الله، ومنع حق الله وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ أي في الآخرة لمن أطاع الله، وأدى حق الله من ماله وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ قال المهايمي: يأخذ صاحبها ملاعب الدنيا بدل ملاعب الحور العين، ولهوها بملاذ الجنة. وزينتها بزينة الجنة. والتفاخر بدل التفاخر بجوار الله والقرب، والتكاثر بالأموال والأولاد بدل نعم الله والولدان المخلدين في الجنة.
ولما حقر الحياة الحسية النفسية الفانية، وصورها في صورة الخضراء السريعة الانقضاء، دعاهم إلى الحياة الباقية، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 21]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بادروا بالتوبة من ذنوبكم، إلى نيل مغفرة وتجاوز عن خطيئاتكم من ربكم وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
أي الإيمان اليقيني. ذلِكَ أي المغفرة والجنة فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي ممن كان أهلا له وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قال ابن جرير أي بما بسط لخلقه من الرزق في الدنيا، ووهب لهم من النعم، وعرّفهم موضع الشكر، ثم جزاهم في الآخرة على الطاعة، ما وصف أنه أعدّه لهم،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ أي من قحط وجدب ووباء وغلاء وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ أي من خوف ومرض وموت أهل وولد، وذهاب مال إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي إلا في علم أزليّ من قبل خلق المصيبة أو الأنفس. وما علم الله كونه فلا بد من حصوله إِنَّ ذلِكَ أي حفظه وتقديره على الأنفس المبروءة ما قدر، عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي لسعة علمه وإحاطته لِكَيْلا تَأْسَوْا أي تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ أي من عافية ورزق ونحوهما وَلا تَفْرَحُوا أي تبطروا بِما آتاكُمْ أي من نعم الدنيا. والمعنى: أعلمناكم بأنا قد فرغنا من التقدير، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير، فلا الحزن يدفعه، ولا السرور يجلبه ويجمعه. قال القاشاني: أي لتعلموا علما يقينيّا أن ليس لكسبكم وحفظكم وحذركم وحراستكم فيما آتاكم، مدخل وتأثير. ولا لعجزكم وإهمالكم وغفلتكم وقلة حيلتكم. وعدم احترازكم واحتفاظكم فيما فاتكم مدخل. فلا تحزنوا على فوات خير، ونزول شر، ولا تفرحوا بوصول خير. وزوال شر، إذ كلها مقدرة وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ أي متبختر من شدة الفرح بما آتاه فَخُورٍ أي به على الناس، لعدم يقينه، وبعده عن الحق، بحب الدنيا، واحتجابه بالظلمات عن النور الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أي بالإنفاق في سبيل الله، لشدة محبة المال وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أي لاستيلاء الرذيلة عليهم، والموصول إما مبتدأ وخبره محذوف، أي لهم وعيد شديد، أو خبر ومبتدؤه محذوف، أي هم الذين، أو بدل من (كل) . وَمَنْ يَتَوَلَّ أي يعرض عن ذكر الله، وما أمر به فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ أي عنه، لاستغنائه بذاته الْحَمِيدُ أي لاستقلاله
بكماله، وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق، لا لما يعود عليه تعالى، فإنه الغنيّ المطلق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج والبراهين القاطعة على صحة ما يدعون إليه وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي التامّ في الحكم والأحكام وَالْمِيزانَ أي العدل- قاله مجاهد وقتادة وغيرهما- قال ابن كثير: وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة، المخالفة للآراء السقيمة لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي بالحق والعدل، وهو اتباع الرسل فيما أمروا به، وتصديقهم فيما أخبروا عنه، فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام: 115] . أي صدقا في الأخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، ولهذا يقول المؤمنون، إذا تبوأوا غرف الجنات الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 43] . وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يعني القتال به، فإن آلات الحروب متخذة منه وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي في مصالحهم ومعايشهم، فما من صناعة إلا وللحديد يد فيها.
فإن قيل: الجمل المتعاطفة لا بد فيها من المناسبة، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله؟
فالجواب: أن بينهما مناسبة تامة، لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا، حتى ينالوا السعادة في الأخرى. ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة. ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم. ومن تمرد وطغا وقسا يضرب بالحديد، الرادّ لكل مريد. وإلى الأولين أشار بقوله: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة. وإلى الثالث أشار بقوله: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فكأنه قال: أنزلنا ما يهتدي به الخواصّ، وما يهتدي به أتباعهم، وما يهتدي به من لم يتبعهم، فهي حينئذ معطوفة، لا معترضة لتقوية الكلام كما توهم، إذ لا داعي له، وليس في الكلام ما يقتضيه، بل فيه ما ينافيه.
قال العتبي في أول (تاريخه) : كان يختلج في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافرا، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيح العلة وينقع الغلة، حتى أعملت التفكر، فوجدت (الكتاب) قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد حظر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة، فلذا جمع الْكِتابَ وَالْمِيزانَ وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف، وجذوة عقابه، وعذاب عذابه، وهو (الحديد) الذي وصفه الله بالبأس الشديد. فجمع بالقول الوجيز، معاني كثيرة الشعوب، متدانية الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المبادئ والمقاطع- نقله الشهاب-.
وأوّل القاشاني (البينات) بالمعارف والحكم، والْكِتابَ بالكتابة، والْمِيزانَ بالعدل، لأنه آلته، والْحَدِيدَ بالسيف، لأنه مادته. قال: وهي الأمور التي بها يتم الكمال النوعي، وينضبط الكليّ، المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد، إذ الأصل المعتبر والمبدأ الأول، هو العلم والحكمة. والأصل المعول عليه في العمل، والاستقامة في طريق الكمال، هو العدل، ثم لا ينضبط النظام، ولا يتمشى صلاح الكل إلا بالسيف والقلم اللذين يتم بهما أمر السياسة. فالأربعة هي أركان كمال النوع، وصلاح الجمهور. ويجوز أن تكون (البينات) إشارة إلى المعارف والحقائق النظرية والْكِتابَ إشارة إلى الشريعة والحكم العملية والْمِيزانَ إلى العمل بالعدل والسوية والْحَدِيدَ إلى القهر ودفع شرور البرية. وقيل: (البينات) العلوم الحقيقية، والثلاثة الباقية هي النواميس الثلاثة المشهورة المذكورة في الكتب الحكمية. أي الشرع، والدينار المعدل للأشياء في المعاوضات، والملك. وأيّا ما كان فهي الأمور المتضمنة للكمال الشخصيّ والنوعيّ في الدارين، إذ لا يحصل كمال الشخص إلا بالعلم والعمل، ولا كمال النوع إلا بالسيف والقلم، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن الإنسان مدني بالطبع، محتاج إلى التعامل والتعاون، لا تمكن معيشته إلا بالاجتماع. والنفوس إما خيّرة أحرار بالطبع، منقادة للشرع، وإما شريرة عبيد بالطبع آبية للشرع. فالأولى يكفيها في السلوك طريق الكمال والعمل بالعدالة واللطف وسياسة الشرع. والثانية لا بدّ لها من القهر وسياسة الملك. انتهى.
تنبيه:
لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في معنى نزول القرآن ولفظ النزول، حيث ذكر
في كتاب الله تعالى، بيّن فيها أن كثيرا من الناس فسروا النزول في مواضع من القرآن بغير ما هو معناه المعروف، لاشتباه المعنى في تلك المواضع. وصار ذلك حجة لمن فسر نزول القرآن بتفسير أهل البدع. وحقق رحمه الله أن ليس في القرآن ولا في السنة لفظ (نزول) إلا فيه معنى النزول المعروف. قال: وهو اللائق بالقرآن، فإنه نزل بلغة العرب، ولا تعرف العرب منزولا إلا بهذا المعنى. ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطابا بغير لغتها. ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى، في معنى آخر بلا بيان، وهذا لا يجوز بما ذكرنا. قال: وقد ذكر سبحانه إنزال الحديد، والحديد يخلق في المعادن. وما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن آدم عليه السلام نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة- فهو كذب لا يثبت مثله. وكذلك
الحديث الذي رواه الثعلبي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض، فأنزل الحديد والماء والنار والملح
-
حديث موضوع ومكذوب والناس يشهدون أن هذه الأمة تصنع من حديد المعادن ما يريدون.

فإن قيل: إن آدم عليه السلام نزل معه جميع الآلات، فهذه مكابرة للعيان.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 450.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 445.06 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.30%)]