الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال - الصفحة 6 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4477 - عددالزوار : 975596 )           »          Find Sexy Girls in your city for night (اخر مشاركة : lolaem - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4013 - عددالزوار : 494255 )           »          دور المواد الغذائية في التطور الجسمي والعقلي للجنين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 83 )           »          دليلـك نحـو المهـارات التربويـة المهمة للتعامل مع فترة المراهقة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 84 )           »          فضائل عرفة وأحكام الأضحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 70 )           »          الخلاصة النافعة في أحكام الحج والعمرة (word) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          استحباب صوم يوم عرفة وإن وافق يوم السبت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          مختصر الطواف وبعض ما يتعلق به من أحكام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          العشر والأضحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #51  
قديم 12-04-2024, 04:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,471
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (51) قصة إحياء الطيور الأربعة (13)



كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ‌أَرِنِي ‌كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).

الفائدة التاسعة:

ذكرنا أن هذه الآية الكريمة تدلُ على أن الإيمانَ أصلٌ وله كمال، وأنه يزيدُ وينقصُ، وننقلُ اليوم نُقولًا عن أهل العلم في حُكم تَرك مباني الإسلام الأربعة، عدا الشهادتين.

قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "أما هذه الخمس فإن زالتْ كُلُها سقطَ البنيانُ، ولم يثبتْ بعد زوالها، وكذلك إن زالَ منها الركنُ الأعظمُ وهو الشهادتان، وزوالهما يكونُ بالإتيان بما يضادهما ولا يجتمعُ معهما، وأما زوالُ الأربع البواقي فاختلف العلماء: هل يزول الاسمُ بزوالها؟ أم بزوال واحد منها؟ أم لا يزول بذلك؟ أم يُفرَّق بين الصلاة وغيرها؛ فيزول بترك الصلاة دون غيرها؟ أم يختص زوالُ الإسلام بترك الصلاة والزكاة خاصة؟ وفي ذلك اختلاف مشهور، وهذه الأقوال كلها محكية عن الإمام أحمد" (فتح الباري لابن رجب).

قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما مع الإقرار بالوجوب إذا تركَ شيئًا مِن هذه الأركان الأربعة، ففي التكفير أقوالٌ للعلماءِ، هي روايات عن أحمد:

أحدها: أنه يُكفَّر بترك واحدة من الأربعة، حتى الحج، وإن كان في جواز تأخيره نزاعٌ بين العلماءِ، فمتى عَزم على تركه بالكُلية كَفَرَ، وهذا قول طائفة من السلف، وهي إحدى الروايات عن أحمد اختارها أبوبكر.

الثاني: أنه لا يُكفَّر بترك شيء من ذلك، مع الإقرار بالوجوب، وهذا هو المشهور عند كثيرٍ من الفقهاءِ من أصحابِ أبي حنيفة ومالك والشافعي، وهي إحدى الروايات عند أحمد، اختارها ابن بطة وغيره.

الثالث: لا يُكفَّر إلا بترك الصلاة، وهذه هي الرواية الثانية عند أحمد، وقول كثير من السلف، وطائفة من أصحاب مالك والشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد.

الرابع: يُكفَّر بتركها وترك الزكاة فقط.

الخامس: يُكفّر بتركها وترك الزكاة إذا قاتلَ الإمامَ عليها دون ترك الصيام والحج" (مجموع الفتاوى).

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "أركانُ الإسلام الخمسة: أولها: الشهادتان، ثم الأركان الأربعة؛ فالأربعةُ إذا أقَرَّ بها، وتركها تهاوُنًا، فنحن وإن قاتَلْناه على فِعْلِها، فلا نُكَفِّرُه بتَرْكِها، والعلماءُ اختلفوا في كُفرِ التاركِ لها كَسَلًا من غيرِ جُحودٍ، ولا نُكَفِّرُ إلَّا ما أجمع عليه العُلماءُ كُلُّهم، وهو: الشَّهادتان" (الدرر السنية).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في شرح العمدة: "ويُقتل -أي: تارك الصلاة- لكُفره في إحدى الروايتين، وفي الأخرى: يُقتل كما يُقتل الزاني والمحارب مع ثبوت إسلامه حدًّا محضًا، وهو اختيار ابن بطة، وقال: هذا هو المذهب، وأنكر خلاف هذا" (انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله).

قال في الإنصاف: "عن ابن بطة المذهب على هذا، لم أجد في المذهب خلافه -يعني مذهب الإمام أحمد-، واختاره -يعني ابن قدامة-، وقال: هو أصوب القولين، ومال إليه الشارحُ، واختاره ابن عبدوس في تذكرته، وابن عبدوس المتقدم، وصححه المجدُ -يَعني مجد الدين ابن تيمية جد شيخ الإسلام-، وصاحب المذهب، ومسبوك الذهب، وابن رُزين، والنظم، والتصحيح، ومجمع البحرين، وجَزم به في الوجيز، والمنور، والمنتخب، وقدَّمه في المحرر، وابن تميم، والفائق. وقال في الرعاية: وعنه يُقتل حدًّا. وقيل: لفسقه" (انتهى من الإنصاف).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في أدلة رواية عدم القتل في شرح العمدة أيضًا: "لما روى عبادةُ بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَن شَهِدَ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه، وأنَّ عيسى عبدُه ورسولُه وابنُ أَمَتِهِ، وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ ورُوحٌ منه، وأنَّ الجنةَ حقٌّ، وأنَّ النارَ حقٌّ، وأنَّ البَعْثَ حقٌّ، أدخله اللهُ الجنةَ على ما كان من عملٍ) (متفق عليه)، وعن أنس أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومُعاذ بنُ جَبَلٍ رَدِيفهُ علَى الرَّحْلِ، قالَ: (يا مُعاذُ قالَ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: يا مُعاذُ قالَ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: يا مُعاذُ قالَ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: ما مِن عَبْدٍ يَشْهَدُ أنَّ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ إلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ علَى النَّارِ، قالَ: يا رَسولَ اللهِ، أفَلا أُخْبِرُ بها الناس فَيَسْتَبْشِرُوا، قالَ: إذًا يَتَّكِلُوا) فأخْبَرَ بها مُعاذُ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا. (متفق عليه)، ولما تَقَدَّم مِن حديث أبي عبادة، وقوله -صلى الله عليه وسلم- فيمَن لم يحافظ عليها: (‌لَمْ ‌يَكُنْ ‌لَهُ ‌عِنْدَ ‌اللَّهِ ‌عَهْدٌ، ‌إِنْ ‌شَاءَ ‌عَذَّبَهُ، ‌وَإِنْ ‌شَاءَ ‌غَفَرَ ‌لَهُ) (رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني).

وعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام بآيات من القرآن يرددها، حتى صلى الغَداةَ، فقال: "دَعَوْتُ لِأُمَّتِي، فَقَالَ: مَاذَا أُجِبْتَ وَمَاذَا رُدَّ عَلَيْكَ، فَقَالَ: مَا لَوِ اطَّلَعُوا عَلَيْهِ اطِّلَاعَةً لَتَرَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمُ الصَّلَاةَ"، قَالَ: أَفَلَا أَذْهَبُ فَأُبَشِّرُ النَّاسَ بِذَلِكَ فَذَهَبَ مُعَنِّفًا قَذْفَةَ حُجْرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ‌إِنْ ‌تَبْعَثْ ‌بِهَا ‌إِلَى ‌النَّاسِ ‌يَتَّكِلُوا ‌عَنِ ‌الْعِبَادَةِ، قَالَ: فَرَدَّنِي وَلَمْ أَقَلْ شَيْئًا" (رواه أحمد في مسنده، والبزار، وسنده حسن).

والآية: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:118)؛ ولأن الصلاة عملٌ من أعمال الجوارح فلم يُكفّر بتركه كسائر الأعمال المفروضة؛ ولأن مِن أصول أهل السُّنة أنهم لا يُكفرون أحدًا من أهل السنة بذنبٍ، ولا يخرجونه من الإسلام بعملٍ؛ بخلاف ما عليه الخوارج، وإنما الكفرُ بالاعتقادات.

وقد رُوي عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثٌ من أصلِ الإيمانِ: الْكفُّ عمَّن قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ولا نُكفِّرُهُ بذنبٍ ولا نخرِجُهُ منَ الإسلامِ بعملٍ، والجِهادُ ماضٍ منذُ بعثَني اللَّهُ إلى أن يقاتِلَ آخرُ أمَّتي الدَّجَّالَ، لا يبطلُهُ جورُ جائرٍ ولا عدلُ عادلٍ، والإيمانُ بالأقدار" (رواه أبو داود والبيهقي، وضعفه الألباني).

وتارك الصلاة مع إقراره بالوجوب صحيح الاعتقاد فلا يُكفَّر، والرواية الأولى -يعني التكفير- اختيار أكثر الأصحاب، مثل: أبي بكر، وابن شاقلا، وابن حامد القاضي وأصحابه، وهو المنقول عن جماهير السلف، ثم ذكر أدلةَ ذلك" (انتهى من شرح العمدة لابن تيمية -رحمه الله-).

وقال -في خاتمة الكلام بعد أن رجَّح أن كُفرَ تارك الصلاة دون أن يُدعى إليها كافرًا كفر نفاق، وأما مَن دُعي إليها فأصرَّ على تركها حتى قُتل فإنه يُقتل كافرًا-: "وأما الأحاديث المطلقة في الشهادتين فعنها أجوبة ... الرابع: أن هذا كله محمول على مَن يؤخرها عن وقتها وينوي قضاءها، أو يُحدّث به نفسه كالأمراء الذين كانوا يؤخِّرون الصلاة حتى يخرج الوقت، وكما فسَّره ابن مسعود وبيَّن أن تأخيرها عن وقتها من الكبائر، وأن تركها بالكلية كفر، وكذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكفِّ عن قتال هؤلاء الأئمة ما صلوا، فعُلِم أنهم لو تركوا الصلاة لقوتِلوا، والإمام لا يجوزُ قتالُه حتى يَكفر، وإلا فبمجرد الفسق لا يجوز قتالُه، ولو جاز قتالُه بذلك لقوتِل على تفويتِها، كما يُقاتل على تركِها، وهذا دليلٌ مستقلٌ في المسألةِ.

ويُحمل أيضًا على مَن يخل ببعض فرائضها ببعض الأوقات، وشبه ذلك، وأما مَن لا يصلي قطّ في طول عمره، ولا يَعزم على الصلاة ومات على غير توبة، أو ختم له بذلك، فهذا كافر قطعًا"، وهذا صريح في أنَّ مَن يعزم على الصلاة لا يُكفِّره شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.

فائدة:

قال في الإنصاف: "الداعي له هو الإمام أو نائبه، فلو ترك صلوات كثيرة قبل الدعاء لم يجبْ قتله، ولا يكفرُ على الصحيح من المذهب، وعليه جماهيرُ الأصحابِ، وقطعَ به كثيرٌ منهم، وكذا لو تركَ كفارةً أو نذرًا، وذكر الآجُرِّيُ أنه يكفرُ بترك الصلاة، ولو لم يُدع إليها. قال في الفروع: وهو ظاهر كلام جماعة، ويأتي كلامه في المستوعب في باب ما يفسده الصوم، عند قوله: "أو اغتسل" يعني بعد ما أصبح".

فائدة ثانية:

اختلف العلماءُ في كُفر إبليس، فذكر أبو إسحاق بن شاقلا أنه كفرَ بترك السجود لا بجحودهِ. وقيل: كفرَ لمخالفته الأمر الشفاهي من الله -تعالى-؛ فإنه -سبحانه وتعالى- خاطَبَه بذلك؛ قال الشيخُ برهان الدين: "قاله صاحب الفروع في الاستعاذة له"، وقال جمهور العلماء: "إنما كفرَ؛ لأنه أبى واستكبرَ، وعاندَ وطغى، وأصرَّ واعتقدَ أنه محقٌ في تمردِه، واستدل بأنه خيرٌ منه، فكان تركُه للسجود تسفيهًا لأمر الله -تعالى- وحكمته".

قال الإمام أحمد: "إنما أُمِرَ بالسجود فاستكبر وكان من الكافرين، والاستكبارُ كفرٌ"، وقالت الخوارج: "كفرٌ بمعصية الله، وكل معصية كفر"، وهذا خلاف الإجماع" (الإنصاف).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فيمن يتركُ الصلاةَ بعض الأوقات لا يقضيها، ولا ينوي قضاءَها: "والأشبه في مثل هذا أنه لا يكفر بالباطن أيضًا، حتى يعزم على تركها بالكلية، كما لم يكفر في تأخيرها عن وقتها، كما تقدَّم مِن الأحاديث، ولأن الفرائض تُجبر يوم القيامة بالنوافل؛ ولأنه متى عَزم على بعض الصلاة فقد أتى بما هو مجرد إيمان" (شرح العمدة).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #52  
قديم 13-04-2024, 04:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,471
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (52) قصة إحياء الطيور الأربعة (14)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ‌أَرِنِي ‌كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).
الفائدة العاشرة:
إن هذه الآية العظيمة -إحياء الموتى- التي أراها اللهُ -عز وجل- إبراهيمَ -صلى الله عليه وسلم- قد أرى نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- آياتٍ أعظم منها في المعراج، كما قال -تعالى-: (‌مَا ‌كَذَبَ ‌الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم:11-18).
ومدحه الله -عز وجل- أعظم مدحٍ، فقال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)، فكان ما رآه مِن غير سؤال ولا تطلع منه لما أوريه، ولا زيغٍ عما يرى من هوله وعظمته، فرأى جبريل -عليه الصلاة والسلام- على صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، قد سد أفق السماء، وهو المقصود بقوله -تعالى-: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)، والنزلة الأولى: كانت بالأفق المبين بالأرض في أجياد مكة، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ . وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ . وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ) (التكوير:23-25).
وفي مسند أحمد وسنن النسائي بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قال: "رأى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جبريلَ في صورتِه وله ستُّمائةِ جَناحٍ، كلُّ جَناحٍ منها قد سدَّ الأفُقَ، يسقُطُ مِنْ جَناحِه مِنَ التهاويلِ والدُّرِّ والياقوتِ ما اللهُ به عليمٌ"، والتهاويل: الجواهر العظيمة"، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- سدرة المنتهى، وما يخرج منها من الأنهار، وما يتغشاها من الفراش الذي من ذهب والألوان، ففي صحيح مسلم، من حديث أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة -رضي الله عنهما- ذكر قصة المعراج، وفيه: (ثُمَّ انْطَلَقْنا حتَّى انْتَهَيْنا إلى السَّماءِ السَّادِسَةِ، فأتَيْتُ علَى مُوسَى -عليه السَّلامُ-، فَسَلَّمْتُ عليه، فقالَ: مَرْحَبًا بالأخِ الصَّالِحِ والنبيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا جاوَزْتُهُ بَكَى، فَنُودِيَ: ما يُبْكِيكَ؟ قالَ: رَبِّ، هذا غُلامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُلُ مِن أُمَّتِهِ الجَنَّةَ أكْثَرُ ممَّا يَدْخُلُ مِن أُمَّتِي، قالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنا حتَّى انْتَهَيْنا إلى السَّماءِ السَّابِعَةِ، فأتَيْتُ علَى إبْراهِيمَ، وقالَ في الحَديثِ: وحَدَّثَ نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- أنَّه رَأَى أرْبَعَةَ أنْهارٍ يَخْرُجُ مِن أصْلِها نَهْرانِ ظاهِرانِ، ونَهْرانِ باطِنانِ، فَقُلتُ: يا جِبْرِيلُ، ما هذِه الأنْهارُ؟ قالَ: أمَّا النَّهْرانِ الباطِنانِ فَنَهْرانِ في الجَنَّةِ، وأَمَّا الظّاهِرانِ: فالنِّيلُ والْفُراتُ)، وفي غير الصحيح عن مقاتل: "الباطنان" هما: السلسبيل والكوثر. والله أعلم.
وفي رواية في الصحيح: (النِّيلُ والفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا)، وهذا يدل على أن أصل هذين النهرين العظيمين كانا في السماء ولا يزالا، ونزل منهما هذا الجزء الذي يجري في الأرض إلى الآن؛ ولذا نرجو الله -عز وجل- أن لا يضمحل هذان النهران أبدًا؛ لبركة مصدرهما، ويبقى الجزء الأكبر منهما في السماء.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود قال: "لَمّا أُسْرِيَ برَسولِ اللهِ -صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، اُنْتُهي به إلى سِدْرَةِ المُنْتَهى، وهي في السَّماءِ السّادِسَةِ، إلَيْها يَنْتَهِي ما يُعْرَجُ به مِنَ الأرْضِ فيُقْبَضُ مِنْها، وإلَيْها يَنْتَهِي ما يُهْبَطُ به مِن فَوْقِها فيُقْبَضُ مِنْها، قالَ: (إِذْ يَغْشى السِّدْرَةَ ما يَغْشى)، قالَ: فَراشٌ مِن ذَهَبٍ، قالَ: فَأُعْطِيَ رَسولُ اللهِ -صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- ثَلاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ، وأُعْطِيَ خَواتِيمَ سُورَةِ البَقَرَةِ، وغُفِرَ لِمَن لَمْ يُشْرِكْ باللَّهِ مِن أُمَّتِهِ شيئًا، المُقْحِماتُ".
وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- في قصة المعراج، قال: (ثُمَّ عُرِجَ بنا إلى السَّماءِ السَّابِعَةِ، فاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فقِيلَ: مَن هذا؟ قالَ: جِبْرِيلُ، قيلَ: ومَن معكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، قيلَ: وقدْ بُعِثَ إلَيْهِ؟ قالَ: قدْ بُعِثَ إلَيْهِ، فَفُتِحَ لنا فإذا أنا بإبْراهِيمَ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلى البَيْتِ المَعْمُورِ، وإذا هو يَدْخُلُهُ كُلَّ يَومٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بي إلى السِّدْرَةِ المُنْتَهَى، وإذا ورَقُها كَآذانِ الفِيَلَةِ، وإذا ثَمَرُها كالْقِلالِ (وفي رواية: "كقِلالِ هَجَر"، وهي: الجَرَّة العظيمة) قالَ: فَلَمَّا غَشِيَها مِن أمْرِ اللهِ ما غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَما أحَدٌ مِن خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أنْ يَنْعَتَها (أي: يصفها) مِن حُسْنِها)، وفي رواية: (وغَشِيَهَا ألْوَانٌ لا أدْرِي ما هي) (أي: من الجمال العجيب والألوان العجيبة).
وذكر النووي -رحمه الله- الجمع بين ما ورد في حديث أنس من أن سدرة المنتهى في السماء السابعة، وفي حديث ابن مسعود أنها في السماء السادسة؛ بأن أصلها في السماء السادسة، ومعظمها في السابعة، فقد علم أنها في نهاية مِن العِظَم، والله أعلى وأعلم.
ومِن الآيات التي أراها الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى الجنة ودخلها، ففي حديث أنس في صحيح مسلم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنابِذُ اللُّؤْلُؤِ وإذَا تُرَابُهَا المِسْكُ)، وسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- صريف الأقلام التي تكتب بها المقادير اليومية، كما في حديث ابن عباس وأبي حَبَّة الأنصاري عند مسلم: كان يقولان: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثُمَّ عَرَجَ بي حتّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أسْمَعُ فيه صَرِيفَ الأقْلامِ).
قال النووي -رحمه الله-: "معنى "ظهرتُ" علوت، و"المستوى" قال الخطابي: المراد به المصعد. وقيل: المكان المستوي. و"صريف الأقلام" تصويتها حال الكتابة. قال الخطابي: هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله -تعالى- ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله -تعالى- من ذلك أن يُكتب ويرفع لما أراده من أمره وتدبيره.
قال القاضي: في هذا حجة لمذهب أهل السنة في الإيمان بصحة كتابة الوحي والمقادير في كُتْب الله -تعالى- من اللوح المحفوظ وما شاء بالأقلام التي هو -تعالى- يعلم كيفيتها على ما جاءت به الآيات من كتاب الله -تعالى- والأحاديث الصحيحة، وأن ما جاء من ذلك على ظاهره، لكن كيفية ذلك وصورته وجنسه مما لا يعلمه إلا الله -تعالى-، أو مَن أطلعه على شيء مِن ذلك من ملائكته ورسله، ولا يتأوُّل هذا ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان؛ إذ جاءت به الشريعة المطهرة، ودلائل العقول لا تحيله، والله -تعالى- يفعل ما يشاء ويحكم ويريد؛ حكمةً من الله -تعالى- وإظهارًا لما يشاء مِن غيبه لمَن يشاء مِن ملائكته وسائر خلقه؛ وإلا فهو الغني عن الكتب والاستذكار سبحانه وتعالى.
قال القاضي -رحمه الله-: وفيه علو منزلة نبيبنا -صلى الله عليه وسلم-، وارتفاعه فوق منازل سائر الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وبلوغه حيث بلغ من ملكوت السماوات دليل على علو درجته وإبانة فضله" (شرح النووي على مسلم).
ومن الآيات التي أراها اللهُ نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم-: أنه رأى البيت المعمور ومن حوله سبعون ألفًا مِن الملائكة يطوفون حوله كل يوم لا يعودون إلى يوم القيامة، بل يأتي غيرهم كما سبق ذكر ذلك من الأحاديث الصحيحة.
ومن ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى مالكًا -خازن النار- وسلَّم عليه، رواه مسلم من رواية ابن عباس -رضي الله عنهما-.
ورأى أرواح الأنبياء مصورةً في صورة أجسادهم، إلا عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- فإنه رآه بروحه وجسده في السماء الثانية، فرأى في السماء الأولى آدم -عليه السلام-، ورأى في الثانية عيسى ويحيى -ابني الخالة-، ورأى في السماء الثالثة يوسف -عليه السلام-، ورأى إدريس في السماء الرابعة، ورأى هارون في السماء الخامسة، ورأى موسى في السماء السادسة، وفي رواية: في السابعة، ورأى إبراهيم في السماء السابعة، وفي رواية: في السادسة، والله أعلى وأعلم، ولا مانع من أن ينتقل الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- بين هذه السماوات.
ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- صورة الدجال، وكُشف له عنها، وليس معنى ذلك أن الدجال في السماء؛ بل هو في الأرض كما دل عليه حديث تميم الداري في إحدى جزر البحار الشرقية.
كل هذا رأه النبي -صلى الله عليه وسلم- دون أن يطلب؛ فعلمنا بذلك فضله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه أفضل من جميع الخلق، وعلمنا معنى قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّما كُنتُ خليلًا مِن وراءَ وراءَ) (رواه مسلم)، فخلة النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم خلة من جميع الأخلاء، ومنزلته فوق جميع الخلق -صلى الله عليه وسلم-.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #53  
قديم 13-04-2024, 04:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,471
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (53) قصة إحياء الطيور الأربعة (15)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ‌أَرِنِي ‌كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).
الفائدة الحادية عشرة: ما رآه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من الآية العظيمة:
قد جَعَلَ اللهُ لنا في آياته المشهودة التي أرشدتنا إليها آياتُه المقروءة ما هو مثله لمَن تدبر في خَلْق الإنسان، وفي إحياء الأرض بعد موتها، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:12-14).
وقال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ . ذَ?لِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ) (الحج:5-7).
وفي علم الأجنة الحديث ومتابعة مراحل السقط، بل تصوير حركة الحيوانات المنوية والبويضة ونموها، وكيف تحيط الحيوانات المنوية بالبويضة؛ حتى إذا أدخل واحدٌ مِن هذه العشرات من الملايين من الحيوانات المنوية -التي هي جزء من مئات الملايين في الدفقة الواحدة من الرَّجل- رأسَه في جدار البويضة؛ توقفت كل الحيوانات الأخرى، ثم تدخل المادة الوراثية -الموجودة في نواة الحيوان المنوي- داخل البويضة، وينحل جدار نواة البويضة، وتصطف كل الكروموزومات من الحيوان المنوي ومن البويضة كلٌ أمام نظيره؛ ثلاثة وعشرون زوجًا نصفها من الرجل، ونصفها من المرأة، تحمل كل الصفات الوراثية على أشرطتها من خلال مئات الآلاف من الجينات المرصودة وغير المرصودة.
ثم يتكوَّن غشاء للنواة الجديدة في البويضة الملقحة، ثم تهاجر البويضة الملحقة إلى تجويف الرحم، ثم تُزرع في جداره الخلفي الأعلى، وتبدأ في امتصاص المواد الغذائية والأكسجين من دم الأم الموجود في جدار الرحم؛ لتبدأ مرحلة العلقة، كما تمص العلقة (الدودة) الدم من جلد المحجوم ومَن تلتصق بجلده، ثم تتكاثر الخلايا وتهاجر من أماكنها؛ لتصطف في ثلاث طبقات خارجية وداخلية ومتوسطة.
وتبدأ مرحلة المضغة تمامًا مثل قطعة اللحم الممضوغة، ثم تهاجر كل مجموعة من الخلايا إلى موضع العضو الذي سيتكوَّن منها بقدرة الله، إلى أن يتم خلق الخلايا العظمية، ثم بعدها الخلايا اللحمية، ثم يُشكل الإنسانُ من بداية الأسبوع السابع؛ أي: عند اثنتين وأربعين ليليةً -كما في الحديث الذي رواه مسلم عن حذيفة بن أُسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم- إلى تمام ست وخمسين يومًا من تاريخ التلقيح؛ فتتكوَّن كل أجهزة الجسم من الطبقات الثلاثة التي خُلِقت في مرحلة المضغة.
فيتكوَّن الجهاز العصبي والجلد والجهاز الدوري -بما فيه من القلب والشرايين- والرئتان والجهاز التنفسي كله، والكليتان والجهاز البولي، والجهاز التناسلي، والجهاز الهضمي، والهيكل العظمي، واليدان، والرجلان، والرأس وما حواه؛ من العينين والأذنين، والفم والأنف، واللسان والشفتين بطريقة عجيبة بديعة! واللهِ إنها لأعجبُ من هجرة أجزاء الطيور الأربعة -التي رآها إبراهيم- إلى رؤوسها وأجزائها الأخرى، حتى عادت كما كانت! فتبارك الله أحسن الخالقين.
وأما حياة النبات: فتبدأ من جنين البذرة؛ فإذا سُقيت البذرةُ وامتص جنينُها العناصرَ الغذائية -الموجودة حوله داخل البذرة نفسها- بدأ في تصنيع الجذر والساق الذي يتجه كلٌّ منهما بوجهته المعروفة؛ هذا إلى باطن الأرض، والساق إلى فوق، ثم يشق الأرض.
وعندها يبدأ تكوُّن الأوراق التي تمتص الأكسجين وثاني أكسيد الكربون والطاقة الشمسية، ويتحول كل ذلك -بقدرة الله من خلال مادة الكلورفيل- إلى عناصر غذائية مع الماء، والعناصر الأرضية التي امتصها الجذر من باطن الأرض، وهذه كلها لا تدرك ولا تعقل، وليس لها عقلٌ، ولكن آثار قدرة الله -سبحانه وتعالى-.
وتمتد الخلايا وتتكاثر وتنمو وتهاجر إلى أجزائها المرتقبة من مزيد الجذور، والساق المرتفعة والأغصان والأوراق، ثم الثمار بعد الأزهار، ثم في نهاية الأمر كما قال -سبحانه وتعالى- تراه مصفرًا ثم يكون حطامًا، قال -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَذِكْرَى? لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (الزمر:21)، وقال -عز وجل-: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ . أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ . نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ . عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى? فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ . أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ . أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ . لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ . إِنَّا لَمُغْرَمُونَ . بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (ق:58-67).
الفائدة الثانية عشرة:
ختْمُ هذه الآية الكريمة بقوله -عز وجل-: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) دليلٌ على أن ابتداء الخلق وإعادته، وإحياء الموتى من مقتضى عزته وحكمته -سبحانه وتعالى-؛ فهو عز وجل العزيز الغالب الذي لا يُمانَع، الذي قهر الخلق جميعًا بقدرته، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) (الأنعام:18)، وهو سبحانه وتعالى غالبٌ على أمره؛ إذا أراد شيئًا قال له كن فكان.
وهو -عز وجل- الحكيم الذي أحكم خَلْق الأشياء وأتقن صنع كل شيء، وهو -سبحانه- الذي أحكم ما شاء مِن خلقه؛ ليريَ عبادَه قدرتَه، ثم هو الحكيم الذي له الحكمة التامة في خَلْق ما خَلَق، وفي شرع ما شرع.
ومَن تأمل الكون المشهود عَلِم الحكمة التامة، والعِلْم والعِزَّة، والقهر والغلبة، ظاهرةً باديةً في الموت والحياة، وفي دورة حياة الإنسان، وحياة النبات، وحياة الحيوان.
وكل ذلك -لمن تدبر- دالٌّ على كمال أسماء الله -سبحانه وتعالى- وصفاته.
ونسأل الله عز وجل أن يمنَّ علينا بشهود معاني أسمائه وصفاته في الكون، كما نتعلمها من كتاب الله سبحانه وتعالى.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #54  
قديم 13-04-2024, 04:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,471
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (54) اصطفاءُ الله -عز وجل- لإبراهيم -عليه السلام- وذريته (1)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ‌آدَمَ ‌وَنُوحًا ‌وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 33-34).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ اخْتَارَ هَذِهِ الْبُيُوتَ عَلَى سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَاصْطَفَى آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ خَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَهْبَطَهُ مِنْهَا، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَاصْطَفَى نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَمَّا عَبَدَ النَّاسُ الْأَوْثَانَ، وَأَشْرَكُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانَا، وَانْتَقَمَ لَهُ لَمَّا طَالَتْ مُدَّتُهُ بَيْنَ ظَهْرَاني قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَجِهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا فِرَارًا، فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَأَغْرَقَهُمُ اللَّهُ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ، وَاصْطَفَى آلَ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْهُمْ: سَيِّدُ الْبَشَرِ وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-، وَآلَ عِمْرَانَ، وَالْمُرَادُ بِعِمْرَانَ هَذَا: هُوَ وَالِدُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ أُمِّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسار: هُوَ عِمْرَانُ بْنُ يَاشَمَ بْنِ أَمُونَ بْنِ مَيْشَا بْنِ حِزْقِيَا بْنِ أحريق بن يوثم بن عزاريا ابن أَمْصِيَا بْنِ يَاوشَ بْنِ أجريهو بْنِ يَازِمَ بْنِ يَهْفَاشَاطَ بْنِ إِنْشَا بْنِ أَبِيَّانَ بْنِ رُخَيْعَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، فَعِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وقال ابن جرير -رحمه الله-: "يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن الله اجتبى آدمَ ونوحًا واختارهما لدينهما -أي: مِن أجل دينهما-، وآل إبراهيم وآل عمران لدينهم الذي كانوا عليه؛ لأنهم كانوا أهل الإسلام، فأخبرَ اللهُ -عز وجل- أنه اختار دين مَنْ ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته، وإنما عَنَى بـ"آل إبراهيم وآل عمران" المؤمنين" (تفسير الطبري).
وقد دللنا على أن "آل الرجل" أتباعه وقومه، ومَن هو على دينه، عن ابن عباس -رضي الله عنه- في قوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد، يقول الله -عز وجل-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ‌وَهَذَا ‌النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (آل عمران: 68)، وهم المؤمنون.
عن قتادة في قوله -تعالى-: "(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) رجلان نبيَّان اصطفاهما الله على العالمين" -(قلتُ: لعله قصد نوحًا وإبراهيم؛ لأن الله ذكرهما مُقدَّمين على العالمين في مواضع عِدَّة)-، وعن قتادة في الآية قال: ذكر الله أهلَ بيتين صالحين، ورجلين صالحين، ففضَّلهم على العالمين، فكان محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- من آل إبراهيم.
وعن الحسن في قوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ) إلى قوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، قال: فضلهم الله على العالمين بالنبوة، على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياءَ المصطفين لربهم، وقوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) قال ابن جرير: يعني بذلك: إن الله اصطفى آلَ إبراهيم وآل عمران ذريةً بعضها من بعض.
وإنما جعل "بعضهم من بعض" في الموالاة في الدين، والمؤازرة على الإسلام والحق، كما قال جل ثناؤه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وقال في موضع آخر: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) (التوبة: 67)، يعني: أن دينهم واحدٌ وطريقتهم واحدة، فكذلك قوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)، إنما معناه: ذرية دينُ بعضها دينُ بعض، وكلمتهم واحدةٌ، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته.
وعن قتادة في قوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)، يقول: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له.
وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، يعني بذلك: والله ذُو سمع لقول امرأة عمران، وذو علم بما تُضمره في نفسها، إذ نذَرت له ما في بطنها مُحرَّرًا (انتهى من ابن جرير).
قال القرطبي -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ)، قال: التقدير: إن الله اصطفى دينهم وهو دين الإسلام، فحُذِف المضاف. وقال الزجاج: اختارهم للنبوة على عالمي زمانهم. (وَنُوحًا) قيل: إنه مشتق مِن ناح ينوح، وهو اسم أعجمي؛ إلا أنه انصرف؛ لأنه على ثلاثة أحرف (قلتُ: هذا هو الصحيح، وليس أنه مشتق من النوح؛ فلا دليل على ذلك).
قال: "وهو شيخ المرسلين، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم -عليه السلام- بتحريم البنات والأخوات، والعمات والخالات، وسائر القرابات، ومَن قال: إن إدريس كان قبله من المؤرخين فقد وَهِم على ما يأتي بيانه في (الأعراف) إن شاء الله".
قوله -تعالى-: (وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) في البخاري عن ابن عباس قال: آل إبراهيم وآل عمران: المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد، يقول الله -تعالى-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:68).
وقيل: آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من آل إبراهيم. وقيل: آل إبراهيم نفسه، وكذا آل عمران، ومنه قوله -تعالى-: (وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ) (البقرة: 248)، وفي الحديث: "يا أبا مُوسى لقَدْ أُوتِيتَ مِزْمارًا مِن مَزامِيرِ آلِ داوُدَ" متفق عليه، وقيل: آل عمران آل إبراهيم، كما قال: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)، وقيل: المراد عيسى؛ لأن أمه ابنة عمران، وقيل: نفسه كما ذكرنا، وقال مقاتل: هو عمران أبو موسى وهارون، وهو عمران بن يصهر بن فاهاث بن لاوى بن يعقوب، وقال الكلبي: هو عمران أبو مريم، وهو مِن ولد سليمان -عليه السلام-.
وحكى السهيلي: عمران بن ماتان، وامرأته حنة، خص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء؛ لأن الأنبياء والرسل بقضهم وقضيضهم من نسلهم، ولم ينصرف عمران؛ لأن في آخره ألفًا ونونًا زائدتين، ومعنى قوله: (عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: على عالمي زمانهم في قول أهل التفسير، وقال الترمذي الحكيم: على جميع الخلق كلهم، وقيل: (عَلَى الْعَالَمِينَ): على جميع الخلق كلهم إلى يوم الصور؛ وذلك لأن هؤلاء رسل وأنبياء فهم صفوة الخلق، فأما محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد جازت مرتبته الاصطفاء؛ لأنه حبيب ورحمة، قال الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، فالرسل خُلِقوا للرحمة، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- خُلق بنفسه رحمة؛ فلذلك صار أمانًا للخلق لما بعثه الله أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور، وسائر الأنبياء لم يَحِلُّوا هذا المحل؛ ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "يا أيُّها النّاسُ إنَّما أنا رحمةٌ مُهداةٌ" (رواه الدارمي، وصححه الألباني)، يخبر أنه بنفسه رحمة من الله للخلق، وقوله: "مهداة" أي: هدية من الله للخلق.
ويقال: اختار آدم بخمسة أشياء: أولها: أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته. والثاني: أنه علَّمه الأسماء كلها. والثالث: أمر الملائكة بأن يسجدوا له. والرابع: أسكنه الجنة، والخامس جعله أبا البشر.
واختار نوحًا بخمسة أشياء: أولها: أنه جعله أبا البشر؛ لأن الناس كلهم غرقوا وصار ذريته هم الباقين، والثاني: أنه أطال عمره. ويُقَال: طوبى لمَن طال عمره وحسن عمله. والثالث أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين. والرابع: أنه حمله على السفينة. والخامس: أنه كان أول مَن نسخ الشرائع، وكان قبل ذلك لم يحرِّم تزويج الخالات والعمات.
واختار إبراهيم بخمسة أشياء: أولها: أنه جعله أبا الأنبياء؛ لأنه رُوي أنه خرج من صُلبه ألف نبي من زمانه إلى زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-. والثاني: أنه اتخذه خليلًا. والثالث: أنه أنجاه من النار. والرابع: أنه جعله إمامًا للناس. والخامس: أنه ابتلاه بالكلمات فوفَّقه حتى أتمهن. (قلتُ: أما أنه خرج من صلبه ألف نبي؛ فهذا لا دليل عليه).
ثم قال: وآل عمران، فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنما اختارهما على العالمين؛ حيث بَعَثَ على قومه المنَّ والسلوى، وذلك لم يكن لأحدٍ مِن الأنبياء في العالم، وإن كان أبا مريم فإنه اصطفى له مريم بولادة عيسى بغير أب ولم يكن ذلك لأحدٍ في العالم، والله أعلم.
وقوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ): معنى بعضها مِن بعض، يعني في التناصر في الدين، كما قال: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) يعني في الضلالة، قاله الحسن وقتادة. وقيل: في الاجتباء والاصطفاء والنبوة. وقيل: المراد به التناسل، وهذا أضعفها" (انتهى).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #55  
قديم 14-04-2024, 02:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,471
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (55) اصطفاء الله إبراهيم وآله وذريته (2)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ‌آدَمَ ‌وَنُوحًا ‌وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 33-34).
في الآية فوائد:
الأول: الاصطفاء والاجتباء من صفات الله -تعالى- الفعلية؛ فهو وحده يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس كما يشاء -سبحانه-، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص:68)، والخيرة في الآية ليست بمعنى الإرادة؛ بل بمعنى الاصطفاء والاجتباء والتفضيل، كما قال -تعالى- لموسى: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) (طه:13)، فكما يصطفي اللهُ -سبحانه- للنبوة والرسالة مَن شاء مِن خلقه؛ فهو يجتبي ويصطفي مَن شاء للصلاح من عباده المؤمنين ولاتباع دين الإسلام، كما قال -تعالى-: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:78).
والنظر في الاجتباء والاصطفاء والتفضيل مأمور به شرعًا؛ ليتعظ الإنسان، ويعرف أن الله وحده الذي له التفضيل، قال -عز وجل-: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء: 21).
وليشهد المؤمن آثارَ الحكمة والقدرة، والإرادة والعلم، والسمع والبصر من صفات الله -تعالى-، ومَن تأمَّل مَنْ اجتباهم الله واصطفاهم، وكيف كانت صفاتهم وأخلاقهم، وأعمالهم، وأحوالهم الإيمانية؛ فإنه لا بد أن يحبهم، ولا بد أن يحب الذي اصطفاهم وصنعهم على عينه؛ فهو أعلم -سبحانه- بالشاكرين، وأعلم حيث يجعل رسالته، وهو الذي يَقْسِم رحمته الدينية والدنيوية بين خلقه، (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32)، وهو -سبحانه- يقسم رحمته بفضله وعلمه، وحكمته، وسمعه وبصره، وكل ذلك أيضًا بالعدل فهو لا يظلم الناس شيئًا، لكن الناس أنفسهم يظلمون.
الفائدة الثانية: ذِكرُ اللهِ اجتباء آدم ونوحًا، وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ولا نزاع في نبوة آدم ونوح وإبراهيم -صلى الله عليهم وسلم أجمعين-، ولا أعلمُ نصًّا في إثبات أو نفي نبوة عمران، إن كان هو والد مريم كما رجَّحه ابن كثير، أو إن كان والد موسى وهارون -صلى الله عليهما وسلم- كما رجَّحه غير ابن كثير، والاصطفاء كما ذكرنا يكون بالاختيار للعمل الصالح والدين الحق، كما قد يكون بالنبوة والرسالة، فالأقرب في ذلك السكوت والتوقف لاحتمال الأدلة للأمرين وعدم ظهور الترجيح بينهما.
الفائدة الثالثة: اجتباء واصطفاء الله لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، اجتباءٌ واصطفاءٌ عظيم؛ إذ اتخذه خليلًا وأتاه رشده من أول أمره، وابتلاه بكلمات فأتمهن، وصبرَ على الرمي في النار، وصبر على ذبح الولد لله -عز وجل-، وصبر على ترك وَلَدِه وأمِ ولده في وادٍ غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، وبنى بيتَ الله الحرام، وحجَ البيتَ هو وذريته جميعًا، وذريتهم مِن بعده، وأتاه الصحف، صحف إبراهيم، وجعل من ذريته النبوة والكتاب، وكان الذي عمّر بالتوحيد أعظم بقاع الأرض مكة المكرمة، ثم بيت المَقدس، وصبر على الدعوة إلى الله أعظم الصبر، ولم يؤمن به إلا رجلٌ واحدٌ وهو لوط -عليه السلام-، وامرأةٌ واحدةٌ هي امرأته سارة، ووصفه اللهُ بأنه حليم أوّاه منيب، وفارق قومه وهاجر لله -سبحانه وتعالى-، وتبرأ منهم لما أصروا على الكفر، فجعله الله الأسوة الحسنة للمؤمنين عبر الزمان، قال -تعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الممتحنة:4-6).
فلذلك حُقَّ للأمم أن تسعى للانتساب لإبراهيم، والقرب منه، فمنَّ اللهُ على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذه الأولوية وهذا الشرف، وباتباع ملته حقًا، فقال -عز وجل-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:67 -68)، فلا تصحُ نِسْبة إلى إبراهيم إلا من خلال اتباع محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وخاتم الأنبياء، الذي هو مِن آل إبراهيم، بل هو أشرف آل إبراهيم، بل هو أشرف الخليقة على الإطلاق -صلى الله عليه وسلم-.
ولا بد لصحة الانتساب إلى إبراهيم مِن الإيمان بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ولا يصح اتباع ملة إبراهيم ودين إبراهيم الحق إلا باتباع دين محمد -صلى الله عليه وسلم- وشريعته، والبراءة ممن كذَّبه أو خالفه؛ حتى لو انتسب إلى الأنبياء السابقين، فإن العهد الذي أخذه الله عليهم بالإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- يُوجب عليهم الإيمان به إذا بلغه خبره، وإلا كفروا برسلهم وأنبيائهم، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:81)، وقال الله -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف 156 -158).
وقال الله -تعالى-: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح:29).
فلا يصح إيمانٌ بالتوراة ولا بالإنجيل، ولا بموسى ولا بعيسى ولا بأبيهم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ إلا بالإيمان بالرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبالقرآن العظيم؛ فهذا هو الدين الإبراهيمي الحق، لا دينَ إبراهيمي يمكن أن يحصل للإنسان دون أن يؤمنَ بالقرآن، وبالرسول -عليه الصلاة والسلام-.
فاللهم يا مُقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك، ويا مُصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #56  
قديم 14-04-2024, 02:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,471
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (56) حقيقة دين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وعلاقته باليهودية والنصرانية



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:65 -68).
إن هذه الآيات الكريمة مِن أوضح وأصرح الآيات في القرآن في بيان حقيقة دين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وأنه الإسلام دون غيره، وأنه لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين.
وينبغي كثرة تلاوة هذه الآيات على مسامع الناس في الصلاة، وخطب الجمعة والدروس واللقاءات؛ حتى تستقر معانيها في النفوس في مقاومة ومواجهة ما يسمى بـ"الدين الإبراهيمي الجديد"، الذي هو خدعة اليهود وأذنابهم، ولا علاقة له بدين إبراهيم الحقيقي القائم على البراءة من الشرك وأهله، وهم يدَّعون زورًا وبهتانًا تضمنه الشرك ومساواة الملل، وقبول تكذيب الأنبياء، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
ولنتعلم تفسير هذه الآية الكريمة ونعلِّمه للناس؛ حتى لا يلبِّس عليهم أحدٌ في هذه المسألة الخطيرة التي تعصفُ مخالفتُها بأصل دين الإنسان، وتلحقه بالكافرين، وهو قد يظنُ نفسه من المسلمين؛ لأنها تقدحُ وتنقضُ شهادة: "أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، ومَن انتقضت عنده الشهادتان لم ينفعه عملٌ، ولا قولٌ، ولا خلقٌ طيبٌ، ولا معاملةٌ حسنةٌ مع الناس؛ لأن الله لا يغفر أن يُشْرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وتصحيحُ عبادة غير الله وقبولها -ولو كان المعبود من الأنبياء أو الملائكة أو الأولياء- هدمٌ كاملٌ لكلمة لا إله إلا الله، قال الله -تعالى-: (ما كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) (آل عمران:79- 80).
وكذا تصحيح دين مَن يُكذّب رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ويُكذّب القرآنَ المنزل من عند الله عليه، يعتبر هَدمًا كاملًا لشهادة: "أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، والدين الإبراهيمي الجديد الذي يُروِّج له اليهودُ وأتباعهم إنما يقوم على ذلك، فلا بد من مقاومة ذلك، وتحصين المسلمين ضده، وإظهار مخالفته، والبراءة منه، وعدم الرضا به.
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآيات: "ينكر -تبارك وتعالى- على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام-، ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم، كما قال محمد بن إسحاق بن يسار -بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه-: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا؛ فأنزل الله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) إلى آخر الآيات، أي: كيف تَدَّعون أيها اليهود أنه كان يهوديًّا، وقد كان زمنُه قبل أن ينزل اللهُ التوراةَ على موسى؟! وكيف تدّعون أيها النصارى أنه كان نصرانيًّا، وإنما حدثتْ النصرانيةُ بعد زمنه بدهر؟! ولهذا قال -تعالى-: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، ثم قال: (هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ) الآية، هذا إنكار على مَن يُحاج فيما لا علم له به، فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه عِلم -مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم- لكان أولى بهم، وإنما تكلموا فيما لا يعلمون، فأنكر الله عليهم ذلك، وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها؛ ولهذا قال: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، ثم قال -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا) أي: مُتحنِّفًا عن الشرك قاصدًا إلى الإيمان، وما كان من المشركين، وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (البقرة:135).
ثم قال -تعالى-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) يقول -تعالى-: أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل -صلى الله عليه وسلم- الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي -يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم-، والذين آمنوا مِن أصحابه المهاجرين والأنصار ومَن تبعهم بعدهم.
قال سعيد بن منصور بسنده عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ لِكلِّ نبيٍّ وُلَاةً مِنَ النَّبيِّينَ وإنَّ وليِّيَ أَبِي وخليلُ ربِّي، ثمَّ قرأَ: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (رواه الترمذي). وقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أي: وَليُّ جميع المؤمنين برسله" (انتهى من تفسير ابن كثير بصرفٍ يسيرٍ).
قلتُ: وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني -رحمه الله-، وهو يدل على ولاية خاصة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بإبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وإن كانت الولاية لجميع الأنبياء حاصلة صلى الله عليهم وسلم أجمعين، ولكن هناك ولاية أخص لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وإبراهيم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #57  
قديم 14-04-2024, 02:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,471
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (57) حقيقة دين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وعلاقته باليهودية والنصرانية (2)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:65 -68).
قال ابن جرير -رحمه الله-: (يعني تعالى ذكره بقوله: يا أهل الكتاب، يا أهل التوراة والإنجيل لِمَ تحاجون، لم تجادلون في إبراهيم وتخاصمون فيه، يعني: في إبراهيم خليل الرحمن -صلوات الله عليه وسلامه-، وكان حجِاجهم فيه: ادّعاءُ كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان منهم، وأنه كان يدين دينَ أهل نِحْلته، فعابهم الله -عز وجل- بادِّعائهم ذلك، ودلَّ على مُناقضتهم ودعواهم، فقال: وكيف تدَّعون أنه كان على ملتكم ودينكم، ودينُكم إما يهودية أو نصرانية، واليهودي منكم يزعُم أن دينه إقامةُ التوراة والعملُ بما فيها، والنصراني منكم يزعم أن دينه إقامةُ الإنجيل وما فيه، وهذان كتابان لم ينـزلا إلا بعد حين من مَهلِك إبراهيم ووفاته؟ فكيف يكون منكم؟ فما وجه اختصامكم فيه وادعاؤكم أنه منكم، والأمر فيه على ما قد علمتم؟!
وقيل: نـزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم، وادعاء كل فريق منهم أنه كان منهم، عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبارُ يهود عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيمُ إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا! فأنـزل الله -عز وجل- فيهم: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (آل عمران:65)، قالت النصارى: كان نصرانيًّا! وقالت اليهود: كان يهوديًّا، فأخبرهم الله أن التوراة والإنجيل ما أنـزلا إلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية.
وعن قتادة قوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) (آل عمران:65)، يقول: لِمَ تحاجون في إبراهيم وتزعمون أنه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وما أنـزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، فكانت اليهودية بعد التوراة، وكانت النصرانية بعد الإنجيل، أفلا تعقلون؟!
وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه منهم، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- دعا يهود أهل المدينة إلى كلمة السواء، وهم الذين حاجُّوا في إبراهيم، وزعموا أنه مات يهوديًّا؛ فأكذبهم الله -عز وجل- ونفاهم منه، فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (ورَوَى عن الربيع مثله).
وروى عن مجاهد في قول الله -عز وجل-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ)، قال: اليهود والنصارى، برَّأه الله -عز وجل- منهم، حين ادَّعت كل أمة أنه منهم، وألحق به المؤمنين مَنْ كان من أهل الحنيفية (قلتُ: قول مجاهد يوافِق القول الأول أنها نزلت في اليهود والنصارى كما ذكره محمد بن إسحاق عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهذا أقرب إلى سياق الآيات؛ فإنها نزلت في شأن المسيح -صلى الله عليه وسلم- ومعلوم أنها كانت عند مجيء وفد نصارى نجران إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومجادلتهم إياه، فالمناسب أنها كانت في اليهود والنصارى معًا كما سبق في القول الأول).
وأما قوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فإنه يعني: أفلا تفقَهون خطأ قيلكم: إن إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وقد علمتم أنّ اليهودية والنصرانية حدَثَت مِن بعد مَهلكه بحين؟!
وقوله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (آل عمران: 66).
قال أبو جعفر ابن جرير الطبري -رحمه الله-: يعني بقوله جل ثناؤه: ها أنتم، القومَ الذين قالوا في إبراهيم ما قالوا حاججتم، خاصمتم وجادلتم فيما لكم به علم من أمر دينكم الذي وجدتموه في كتبكم، وأتتكم به رسل الله من عنده، وفي غير ذلك مما أوتيتموه وثبتت عندكم صحته؛ فلِمَ تحاجون، يقول: فلم تجادلون وتخاصمون فيما ليس لكم به علم، يعني: في الذي لا علم لكم به من أمر إبراهيم ودينه، ولم تجدوه في كتب الله، ولا أتتكم به أنبياؤكم، ولا شاهدتموه فتعلموه؟
عن السدي: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)؛ فلمَ تحاجُّون فيما ليس لكم به علم، أما الذي لهم به علم، فما حرَّم عليهم وما أمروا به، وأما الذي ليس لهم به علم، فشأن إبراهيم.
عن قتادة: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)، يقول: فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم؛ فلمَ تحاجُّون فيما ليس لكم به علم، فيما لم تشاهدوا ولم تروا ولم تعاينوا، والله يعلم وأنتم لا تعلمون؟! وروى عن الربيع مثله.
قال ابن جرير: قوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، يقول: والله يعلم ما غَاب عنكم فلم تشاهدوه ولم تروه، ولم تأتكم به رسلُه من أمر إبراهيم وغيره من الأمور، ومما تجادلون فيه؛ لأنه لا يغيب عنه شيء، ولا يعزُبُ عنه علم شيء في السماوات ولا في الأرض، وأنتم لا تعلمون من ذلك إلا ما عاينتم فشاهدتم أو أدركتم علمه بالإخبار والسَّماع.
وقوله -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 67).
قال أبو جعفر الطبري: وهذا تكذيبٌ من الله -عز وجل- دعوَى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى، وادَّعوا أنه كان على ملتهم وتبرئة لهم منه، وأنهم لدينه مخالفون، وقضاءٌ منه -عز وجل- لأهل الإسلام ولأمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- أنهم أهل دينه، وعلى منهاجه وشرائعه دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم.
يقول الله عز وجل: ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا كان من المشركين الذين يعبدون الأصنامَ والأوثانَ أو مخلوقًا دون خالقه الذي هو إله الخلق وبارئهم، ولكن كان حنيفًا، يعني: متبعًا أمرَ الله وطاعته، مستقيمًا على محجَّة الهدى التي أمر بلزومها، مسلمًا يعني: خاشعًا لله بقلبه، متذللًا له بجوارحه، مذعنًا لما فَرَض عليه وألزمه من أحكامه.
عن عامر، قال: قالت اليهود: إبراهيم على ديننا. وقالت النصارى: هو على ديننا. فأنـزل الله -عز وجل-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا) الآية، فأكذبهم الله، وأدحض حجتهم -يعني: اليهودَ الذين ادّعوا أن إبراهيم ماتَ يهوديًّا-، وعن الربيع مثله.
عن سالم بن عبد الله -لا أراه إلا يحدثه عن أبيه-: أنَّ زيد بن عمرو بن نفيل خرَج إلى الشام يسأل عن الدِّين، ويتبعه، فلقيَ عالمًا من اليهود، فسأله عن دينه، وقال: إني لعلِّي أنْ أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. فقال له اليهودي: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غَضب الله شيئًا أبدًا وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا! قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يك يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وكان لا يعبد إلا الله.
فلقي عالمًا من النصارى، فسأله عن دينه فقال: إني لعلِّي أن أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. قال: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: لا أحتمل من لعنة الله شيئًا، ولا من غضب الله شيئًا أبدًا، وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحوًا مما قاله اليهودي: لا أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. فخرج من عنده، وقد رَضِي الذي أخبراه والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم، فلم يزل رافعًا يديه إلى الله وقال: اللهم إني أشهِدك أني على دين إبراهيم. (قلتُ: قد ثبت في السنة الصحيحة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثنى على زيد بن عمر بن نوفيل، ورآه في هيئة حسنة).
وقوله -تعالى-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 68).
قال أبو جعفر: يعني -جل ثناؤه- بقوله: إن أولى الناس بإبراهيم، إن أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته وولايته للذين اتبعوه، يعني: الذين سلكوا طريقَه ومنهاجه، فوحَّدوا الله مخلصين له الدين، وسنُّوا سُنته، وشرَعوا شرائعه، وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به، وهذا النبي يعني: محمدًا -صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا، يعني: والذين صدّقوا محمدًا، وبما جاءهم به من عند الله والله ولي المؤمنين، يقول: والله ناصرُ المؤمنين بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، المصدِّقين له في نبوّته وفيما جاءهم به مِن عنده، على مَن خالفهم مِن أهل الملل والأديان.
وعن قتادة قوله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ)، يقول: الذين اتبعوه على ملّته وسنَّته ومنهاجه وفطرته وهذا النبي، وهو نبي الله محمد والذين آمنوا معه، وهم المؤمنون الذين صدّقوا نبي الله واتبعوه. كان محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذين معه من المؤمنين، أولى الناس بإبراهيم. وروى عن الربيع مثله.
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبيّ ولاةً من النبيين، وإن وليِّي منهم أبِي وخليل رَبّي، ثم قرأ: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (حديث صحيح)، وعن ابن عباس في قول الله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ)، وهم المؤمنون" (انتهى من تفسير ابن جرير).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #58  
قديم 16-04-2024, 09:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,471
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (58) حقيقة دين إبراهيم وعلاقته باليهودية والنصرانية (3)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:65 -68).
هذه الآيات فيها فوائد:
الأولى: هذه الآية الكريمة هي أقوى حُجَّة عقلية ونقلية على براءة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من اليهودية والنصرانية الحاليين منذ بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهما قائمتان على تكذيب الرسل، والوقوع في الشرك، وهذا خلاف ما جاء به موسى وعيسى -صلى الله عليهما وسلم-، فإنهما جاءا بالإسلام كما كان هو دين أبيهما إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى- مُبينًا كفر اليهود والنصارى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 30- 33).
وقال -تعالى- مُبينًا كفرَ مَن كذَّب رسولًا من رُسله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا . وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (النساء: 150 - 152)؛ فكيف بمَن كذَّب خاتمهم وأفضلهم سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم؟! وقال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران: 81).
فكُفر اليهودِ بعيسى -صلى الله عليه وسلم- واتهامهم أمه بالبهتان العظيم كفرٌ مستقل؛ إضافة إلى عبادة أحبارهم الذين حرَّفوا التوراة وبدَّلوا الأحكام، قال الله -تعالى-: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا . وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا . بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا . وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) (النساء:156 - 159).
وقال -تعالى- مُبينًا تحريف أحبار اليهود لِمَا أنزلَ اللهُ عليهم في التوراة ومسارعتهم في الكفر بذلك: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 41)، وهذه الآيات نزلتْ في شأنِ تبديلِ اليهودِ حُكمَ التوراة بالرجم، وجعلهم الجلد والتحميم مكان الرجم، فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: "ائْتُوا هذا النبي فإنه بُعثَ بالتخفيف؛ فإن حَكمَ لكم بالجلد والتحميم فخذوه، وقولوا حَكمَ به نبيٌ، وإن لم تؤتوه فاحذروا"، وهذا فضلًا عن كفرهم وتكذيبهم برسول الله محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، والقرآن الذي أنزله عليه فيه كلام الله، ومَن كذّب الله؛ فقد كفر به وبأنبيائه وبرسله جميعًا، قال الله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) (الفتح: 29).
وكفر النصارى بعبادتهم للمسيح -صلى الله عليه وسلم- وقولهم بألوهية الأقانيم الثلاثة، وهذا يتضمن عبادة النبي عيسى، وعبادة الروح القدس، وهذا كله من الشرك البيِّن، وكذا اتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، حين اتبعوهم على تحريم الحلال وتحليل الحرام، وهذا كفرٌ مستقل كما بيّنه الله في كتابه، فعن عدي بن حاتم قال: أتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ وفي عنقي صليبٌ من ذَهبٍ. فقالَ يا عديُّ اطرح عنْكَ هذا الوثَنَ، وسمعتُهُ يقرأُ في سورةِ براءةٌ "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ" قالَ: أما إنَّهم لم يَكونوا يعبدونَهم؛ ولَكنَّهم كانوا إذا أحلُّوا لَهم شيئًا استحلُّوهُ، وإذا حرَّموا عليْهم شيئًا حرَّموه" (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ إضافة إلى كُفرهم بمحمدٍ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرآن العظيم كلام الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلّا كانَ مِن أصْحابِ النّارِ" (متفقٌ على صحته).
وفي هذا كلِّه -وفي غيره من الآيات والأدلة المبثوثة في كتاب الله- أوضح الدليل على بطلان ما يُسمّى بـ"الدين الإبراهيمي الجديد"، الذي يُسوّي مخترعوه ومتبعوه بين المِلل الثلاث، وهو مِن أعظم المُحال والتناقض كما بينّا من قبل.
الثانية: دلّتْ الآيةُ على أن أهل الكتاب عندهم عِلْمٌ بأخبار أنبيائهم دون غيرها، وقد تضمَّنت كتبُهم -رغم ما وقع فيها من تحريف- حقيقةَ الدين الحق المقبول عند الله، الذي هو التوحيد، الذي هو دين إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أول وصية لموسى أوصاها بها ربه -عزَّ وجل- وهي أعظم وصية لعيسى -صلى الله عليه وسلم- بنص الإنجيل بعد نص التوراة، ففي التوراة في سفر الخروج <20: 2-5> في الوصية الأولى لموسى وبني إسرائيل: (أنا الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورة ما، لا تسجد لهن ولا تعبدهن؛ لأني أنا الرب إلهك إله غيور)، وفي سفر أشعياء (43 :5 - 44 : 6): (قَبلي لم يُصوّر إله، وبعدي لا يكون، إني أنا الرب، وليس غيري مخلص أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري).
وفي الإنجيل نصوصٌ كثيرةٌ على إثباتِ التوحيدِ، ففي إنجيل مرقص (28 – 30): (جاء واحد من الكتبة فسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسنًا سأله: أي وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك) هذه هي الوصية الأولى، وفي إنجيل يوحنا (17 : 3): (هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته).
وهذا من كلام المسيح -صلى الله عليه وسلم-، ومَن تأمَّلَ هذه النصوص عَلِمَ حقيقة الديانة النصرانية في مهدِها وفي بدايتِها، أنها قامتْ على التوحيد المحض، ومَن رأى مَن الذي يدعو إلى هذه الوصية التي هي أول الوصايا، التي هي دين إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لم يجد إلا أهل الإسلام الذين يرفعون شعارهم في العالم كله: "لا إله إلا الله".
فالحمد لله على نعمة الإسلام.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #59  
قديم 16-04-2024, 09:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,471
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (59) حقيقة دين إبراهيم وعلاقته باليهودية والنصرانية (4)



كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قوله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:65 -68).

الفائدة الثالثة:

دَلَّ قوله تعالى: (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ) (آل عمران: 66)، على أن الجدال بغير علمٍ مذموم، وقد صار الجدال بغير علمٍ مَرَضًا اجتماعيًّا عند كثيرٍ مِن الناس؛ خاصة في مجالس السَّمر على المقاهي والنوادي ونحوها، وصار كلُّ أحدٍ يتحدثُ فيما لا يعلمُ، ويجادلُ فيما لا يعلمُ، وهو لم يدرس شيئًا في المسألة التي يتكلم فيها، ويجادل ويخاصم فيها، والواجب على المسلم الإعراض عن هذا كما قال تعالى: (خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بِالعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنْ الجَاهِلِين) (الأعراف: 199).

والجدالُ بغير علمٍ يتضمنُ الفتوى بغير علمٍ، وربما كانت شرًّا منه؛ لأن السائلَ يثقُ في المسؤول ويقبل كلامه، وقد دعا النبي -صلى الله عليه- وسلم على مَن أفتى بغير علمٍ بالتشدد الباطل الذي أدَّى إلى قتلِه، فقال: (قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا ‌شِفَاءُ ‌الْعِيِّ ‌السُّؤَالُ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني)، وذلك لمَّا أفتوا مَن أصابته جراحة بالغسل، وعدم التيمم والمسح على الخرقة التي يربطها على جُرحه.

وقد دَخَلَ مَن أفتى بغير علمٍ فيمَن يُضِل الناسَ، قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ . ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) (الحج:8-9).

وهذه الآية في رؤوس الضلال والبدع الذين يُضلون غيرهم، وليس عندهم علم بالوحي، فيقولون على الله ما لا يعلمون في: أسمائه وصفاته، وربوبيته، وألوهيته، وأمره ونهيه، وقضائه وقدره، وما أخبر عبادَه في كتبه المنزلة، وعلى ألسنة رسله.

فالواجب على الإنسان أن يحذر كلَّ الحذر مِن أن يقول على الله ما لا يعلم، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33).

ولا شكَّ أنَّ المُقَلِّدَ الذي لا يعلمُ النصوصَ والأدلةَ ويسترشدُ بأقوالِ أهلِ العلمِ داخلٌ في هذا العمومِ، الذي دلتْ عليه الآياتُ مِن ذمِّ مَنْ قالَ على الله بغير علمٍ، وكذلك القاضي والحاكم الذي يحكمُ بالتقليد أو بالهوى؛ هو ممَّن يقول على اللهِ ما لم يعلم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌الْقُضَاةُ ‌ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

وهذا يدلُ على أن الذي قَضَى بالجهل ولو وافق الحقَّ لا يُقبَلُ منه، بل هو في النار؛ لأنه إنما قَضَى به لكونه وافق هواه، ولا يجوزُ لأحدٍ أن تغره المناصب الرسمية، والأسماء الرنانة التي يُطلقها عليه الناسُ؛ فيقبل أن يُفتي أو يحكم أو يقضي أو يدعو بغير علمٍ بالوحي المنزل من الكتاب والسنة؛ فهذا هو العلم، وهل حرَّفَ الناسُ دينَ الرسلِ إلا باتباعهم مَنْ يُجادلون في الله بغير علم ويقولون على الله بغير علم!، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) (الحج: 3)، وهذه في المُقلدين المُتبعين لشياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، ولتصغى إليه قلوب أتباعهم الذين لا يؤمنون بالآخرة لتنفذ مشيئة الله بالعدل فيهم، وعذابهم على ما اقترفوه من الجرائم، والصدِّ عن سبيل الله، وتحريف كتبه ودعوة رسله.

الفائدة الرابعة:

دلَّ قولُه تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (آل عمران: 66)، أنَّ عِلْمَ البشر مهما بلغَ فهو إلى علم الله جهلٌ، قال الخضر لموسى -عليهما السلام- لما أراد أن يُبين لموسى قِلَّة علم البشر: "يا موسى أنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علمٍ من علم الله علمنيه لا تعلمه، وما علمي وعلمك وعلم الخلائق إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر"، وكان مِن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أعلم الخلق بالله وأشدهم له خشية: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي ‌وَجَهْلِي، ‌وَإِسْرَافِي ‌فِي ‌أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي) (رواه مسلم).

وإنَّ مِن أخطر الأمراض في زماننا الاغترار بالعلوم الحديثة، والاختراعات والاكتشافات، مع أن العَالِم كلما تبحّر في علمه عَلِمَ أن علوم البشر في الحقيقة ما هي إلا قشرة رقيقة صغيرة من علوم لا يحيطُ بها إلا الله في مجال علمه؛ فضلًا عن غيره، فلا يُغتر بالله ولا يظنُ أنه بإمكانهم محاداة الله في أمره، كما يقع من الملحدين الجاهلين، الذين كان عِلمهم الدنيوي فتنةً لهم، مع أنه في الحقيقة لا علم، قال تعالى عن قارون: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص: 78).

وقد ظنَّ كثيرٌ من المغرورين أنَّ ما عارض ما يُسمُونه العلم الحديث من النصوص يجب رده، حتى ولو كان ما يُسمونه عِلْمًا، هو مجرد افتراض أو نظرية، ولم يصل إلى أن يكون حقيقةً علميةً!

فمهما كانتْ النصوصُ الصحيحةُ ثابتة فهُم يردونها بزعم مخالفة العلم الحديث؛ فكذَّب بعضُهم القرآنَ، وكذَّب بعضُهم السنةَ الصحيحةَ الثابتةَ، أو أوَّلوا النصوصَ وحرَّفوها عن معانيها، بما يَقطع كل عالِم ببطلان هذا التأويل، كما يقوله مَن يقول بفرضية النشوء والارتقاء والتطور، أو مَن يحاول التعديل لها ليوافق الغرب؛ فيقول بالتطور الموجَّه مع أنَّ الفرضية لم تتجاوز مجرد الفرض!

ومَن تأمّل النصوصَ جَزَمَ بالخَلق المستقل لهذه المخلوقات؛ فأما خَلقُ آدم وخَلقُ إبليس فالنصوص أكثر من أن تُحصَى، وآدم أبو البشر بنص السنة، وكذا من معنى الكتاب.

وأمَّا خَلقُ الأنعامِ: فقد قال الله عز وجل: (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) (الزمر: 6).

فهذه الأوهامُ التي يتّبعونها داخلةٌ في قول الله عز وجل: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 28)، وقال: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ?لظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام:116).

فالمؤمنُ يعلمُ يقينُا أنَّ الله يعلم ونحن لا نعلم، فيجب أن نقدِّم نصوص الكتاب والسنة على كلِّ ما سواها، وأما الحقائق العلمية فيستحيل أن تأتي النصوص بمخالفتها، فإن الشرعّ يأتي بمحاراة العقول، أي: ما تحار فيه العقول، ولا يأتي أبدًا بمحالات العقول، أي: ما يستحيل في العقل.

ونسألُ الله أن يثبتنا على الهدى.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #60  
قديم 16-04-2024, 09:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,471
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (60) حقيقة دين إبراهيم عليه السلام وعلاقته باليهودية والنصرانية (5)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ‌لِمَ ‌تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 65-68).
الفائدة الخامسة:
دَلَّ قولُه تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) على براءة إبراهيم صلى الله عليه وسلم من اليهودية والنصرانية، وأنه كان مسلمًا، وهذا الإسلام -الذي هو دِين الأنبياء جميعًا- قَائِمٌ على توحيد الله، ونفي الشرك عنه وإبطاله، والإيمان برسل الله واتِّباعهم صلى الله عليهم وسلم جميعًا، قال الله عز وجل عن نوح صلى الله عليه وسلم: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس:72).
وقال عن موسى صلى الله عليه وسلم: (‌وَقَالَ ‌مُوسَى ‌يَا قَوْمِ ‌إِنْ ‌كُنْتُمْ ‌آمَنْتُمْ ‌بِاللَّهِ ‌فَعَلَيْهِ ‌تَوَكَّلُوا ‌إِنْ ‌كُنْتُمْ ‌مُسْلِمِينَ . فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا) (يونس: 84-85).
وقال الله تعالى عن فرعون وهو يغرق معلنًا دخول دين موسى عليه السلام وبني إسرائيل: (حَتَّى إِذَا ‌أَدْرَكَهُ ‌الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس:90)، وقال سبحانه عن الحواريين في إيمانهم بعيسى صلى الله عليه وسلم: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) (المائدة:111)، وقال سبحانه وتعالى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:52).
فهذا الإٍسلام هو دين الله في كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ لا يقبل اللهُ غيرَه مِن أحدٍ، وبعد بعثةِ النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوجب اللهُ اتِّباعه على الإنس والجن؛ لم يعد ممكنًا أن يحقق أحدٌ صحةَ الانتسِاب لدين الإسلام إلا بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتِّباعه، واتِّباع الشريعة الخاتمة التي أُنزِلت عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَوْ كَانَ ‌مُوسَى ‌حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي) (رواه أحمد، وحسنه الألباني)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن عيسى صلى الله عليه وسلم -عندما ينزل في آخر الزمان حاكمًا بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومبطِلًا لسائر الملل-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم حَكَمًا مُقْسِطًا؛ فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، ‌وَيَضَعَ ‌الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) (متفق عليه).
وقال تعالى: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) (النساء:159)؛ فسَّرها أبو هريرة رضي الله عنه بإيمان أهل الكتاب قَبْل موت عيسى صلى الله عليه وسلم بعد نزوله الأرض قائدًا وإماما؛ لأمة الإسلام أمةٍ محمد صلى الله عليه وسلم.
الفائدة السادسة:
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ): يدل على نفي وإبطال الشرك بأنواعِه كلِّها: الشرك في الربوبية، والشرك في الألوهية، والشرك في الأسماء والصفات؛ فأما الشرك في الأسماء والصفات فهو: بأن يعتقد وصفَ الله بصفاتِ المخلوقين، أو أن يصفَ المخلوقين بصفات الله، أو أن يجحدَ وينفي أسماءَ الله وصفاته الدَّالَّة على كماله.
فأما وصفُ الله بصفات المخلوقين، فهو كما قال الله عز وجل عن اليهود: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ ‌مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) (المائدة:64)، وقال الله عز وجل عنهم: (لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ? سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (آل عمران:181).
وأنكر الله عز وجل على مَن قال اتَّخذ الله وَلَدًا! كما قال سبحانه: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ‌قَاتَلَهُمُ ‌اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة:30)، وقال سبحانه وتعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص).
وقال عز وجل عن مشركي قريش: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ? وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ . سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الصافات:158- 159).
وأما مَن وصفَ المخلوق بصفة الخالق؛ كمَن يعتقد أن غيرَ الله عز وجل يَمْلِكُ الضرَّ والنفع، والإحياء والإماتة، والخفض والرفع، والإعزاز والإذلال؛ فقد قال الله عز وجل: (‌قُلِ ‌اللَّهُمَّ ‌مَالِكَ ‌الْمُلْكِ ‌تُؤْتِي ‌الْمُلْكَ ‌مَنْ ‌تَشَاءُ ‌وَتَنْزِعُ ‌الْمُلْكَ ‌مِمَّنْ ‌تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:26).
وكالذين يعتقدون أن غيرَ اللهَ عز وجل يدبِّر الأمر، أو يَمْلِك شيئًا في هذا العَالَم! قال سبحانه وتعالى: (?قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ . وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (سبأ:22-23)، وقال عز وجل: (أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) (يونس:31).
فإذا كان هؤلاء المشركون كَفَروا؛ رغم اعتقادهم أن تدبيرَ الأمر، ومِلك السمع والبصر لله وحده؛ فكيف بمَن اعتقد بأن الله يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويدبِّر الأمر؟! تعالى الله عن ذلك!
ومِن الشرك في الربوبية: دعاوى الحرية المُعَاصِرَة التي لا تَرَى سقفًا لحرية البشر؛ إلا أهواؤهم، وهم يرون أنهم أحرارٌ في أنفسهم ليسوا مملوكين لله! والله سبحانه وتعالى هو المَلِك الحق دون مَن سواه.
وكذلك مَن يعتقد أن غيرَ الله يأمر وينهى ويشرِّع، ويَسَود الناس بما يريده دون شرع الله: قال الله عز وجل: (‌اتَّخَذُوا ‌أَحْبَارَهُمْ ‌وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه: (أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟) قال: فقلت: بَلَى، قَالَ: (فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ) (رواه الترمذي والبيهقي، وصححه الألباني).
ودعاوى الديموقراطية على النمط الغربي الذي يَرَى حقَّ الناس في وضع التشريعات دون رجوعٍ لشرع الله، بل يعاقبون مَن يطالب بالرجوع إلى شرع الله! هو مِن الشرك الأكبر في الربوبية.
وأما الشرك في الألوهية فهو: بصرف العبادة لغير الله، مِن: حبٍّ وخوفٍ ورجاءٍ، وتوكل وإنابة، وافتقار، وإخلاص، وشكر وصبر، وذبح ونذر، وحَلِف، ودعاء، واستغاثة، واستعانة، واستعاذة، وسائر أنواع العبادات.
ودَلَّت الآية -أيضًا- على وجوب البراءة مِن الشرك وأهله؛ وإلا فمَن صَحَّح شركهم ورضي به وأحبه، واتبعهم عليه، ونصرهم عليه، وحارب أهلَ الإيمان في صفهم؛ فهو مشرك مثلهم.
نعوذ بالله من الشرك.
ونستكمل في المقال القادم إن شاء الله.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 181.10 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 175.26 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (3.23%)]