تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى - الصفحة 60 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير قوله تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه...} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          المبالغة في تشقيق العلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          كشف الأستار بشرح قصة الثلاثة الذين حبسوا في الغار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 12 )           »          من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (اللطيف، الخبير) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          {يغشى طائفة منكم} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          جوامع الكلم النبوي: دراسة في ثراء المعاني من حديث النغير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          حتى لا تفقد قلبك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          وفاة ملكة جمال الكون! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الإمام أبو بكر الصديق ثاني اثنين في الحياة وبعد الممات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          حقوق الحيوان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #591  
قديم 09-07-2025, 12:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ يس
من صــ 356 الى صــ 362
الحلقة (591)






دون الله ، أعبدتموهم لأن لهم شركة في خلق السموات ، أم خلقوا من الأرض شيئا { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً } أي أم عندهم كتاب أنزلناه إليهم بالشركة. وكان في هذا رد على من عبد غير الله عز وجل ؛ لأنهم لا يجدون في كتاب من الكتب أن الله عز وجل أمر أن يعبد غيره. { فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم { عَلَى بَيِّنَةٍ } بالتوحيد ، وجمع الباقون. والمعنيان متقاربان إلا أن قراءة الجمع أولى ؛ لأنه لا يخلو من قرأه { عَلَى بَيِّنَةٍ } من أن يكون خالف السواد الأعظم ، أو يكون جاء به على لغة من قال : جاءني طلحت ، فوقف بالتاء ، وهذه لغة شاذة قليلة ؛ قال النحاس. وقال أبو حاتم وأبو عبيد : الجمع أولى لموافقته الخط ، لأنها في مصحف عثمان {بينات} بالألف والتاء. { بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً } أي أباطيل تغر ، وهو قول السادة للسفلة : إن هذه الآلهة تنفعكم وتقربكم. وقبل : إن الشيطان يعد المشركين ذلك. وقيل : وعدهم بأنهم ينصرون عليهم.
الآية : [41] { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }
قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا } لما بين أن ألهتهم لا تقدر على خلق شيء من السموات والأرض بين أن القهما وممسكهما هو الله ، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده ، ولا يبقى إلا ببقائه. و { إِنَّ } في موضع نصب بمعنى كراهة أن تزولا ، أو لئلا تزولا ، أو يحمل على المعنى ؛ لأن المعنى أن الله يمنع السموات والأرض أن تزولا ، فلا حاجة على هذا إلى إضمار ، وهذا قول الزجاج. { وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ } قال الفراء : أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد. و {إن} بمعنى ما. قال : وهو مثل قوله : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } . وقيل : المراد زوالهما
يوم القيامة. وعن إبراهيم قال : دخل رجل من أصحاب ابن مسعود إلى كعب الأحبار يتعلم منه العلم ، فلما رجع قال له ابن مسعود : ما الذي أصبت من كعب ؟ قال سمعت كعبا يقول : إن السماء تدور على قطب مثل قطب الرحى ، في عمود على منكب ملك ؛ فقال له عبدالله : وددت أنك انقلبت براحلتك ورحلها ، كذب كعب ، ما ترك يهوديته! إن الله تعالى يقول : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا } إن السموات لا تدور ، ولو كانت تدور لكانت قد زالت. وعن ابن عباس نحوه ، وأنه قال لرجل مقبل من الشام : من ، لقيت به ؟ قال كعبا. قال : وما سمعته يقول ؟ قال : سمعته يقول : إن السموات على منكب ملك. فال : كذب كعب ، أما ترك يهوديته بعد! إن الله تعالى يقول : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا } والسموات سبع والأرضون سبع ، ولكن لما ذكرهما أجراهما مجرى شيئين ، فعادت الكناية إليهما ، وهو كقوله تعالى : { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } ثم ختم الآية بقوله : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } لأن المعنى فيما ذكره بعض أهل التأويل : أن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا من كفر الكافرين ، وقولهم اتخذ الله ولدا. قال الكلبي : لما قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ، كادت السموات والأرض أن تزولا عن أمكنتهما ، فمنعهما الله ، وأنزل هذه الآية فيه ؛ وهو كقوله تعالى : { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } الآية.
الآية : [42] { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً }
الآية : [43] { اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }
قوله تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ } هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله رسول محمدا صلى الله عليه وسلم ، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم ، فلعنوا من كذب نبيه منهم ، وأقسموا بالله جل اسمه { لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ } أي نبي { لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } يعني ممن كذب الرسل من أهل الكتاب. وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كانت الرسل من بني إسرائيل ، فلما جاءهم ما تمنوه وهو النذير من أنفسهم ، نفروا عنه ولم يؤمنوا به. { اسْتِكْبَاراً } أي عتوا عن الإيمان { وَمَكْرَ السَّيِّئِ } أي مكر العمل السيئ وهو الكفر وخدع الضعفاء ، وصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم. وأنث { مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ } لتأنيث أمة ؛ قاله الأخفش. وقرأ حمزة والأخفش { وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ } فحذف الإعراب من الأول وأثبته في الثاني. قال الزجاج : وهو لحن ؛ وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه. وزعم المبرد أنه لا يجوز في كلام ولا في شعر ؛ لأن حركات الإعراب لا يجوز حذفها ، لأنها دخلت للفرق بين المعاني. وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحله يقرأ بهذا ، قال : إنما كان يقف عليه ، فغلط من أدى عنه ، قال : والدليل على هذا أنه تمام الكلام ، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعرب باتفاق ، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين. وقد احتج بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه ، وأنه أنشد هو وغيره :
إذا اعوججن قلت صاحِبْ قَوِّم
وقال الآخر :
فاليوم أشربْ غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
وهذا لاحجة فيه ؛ لأن سيبويه لم يجزه ، وإنما حكاه عن بعض النحويين ، والحديث إذا قيل فيه عن بعض العلماء لم يكن فيه حجة ، فكيف وإنما جاء به على وجه الشذوذ ولضرورة الشعر وقد خولف فيه. وزعم الزجاج أن أبا العباس أنشده :
إذا اعوججن قلت صاح قوم
وأنه أنشد :
فاليوم اشرب غير مستحقب
بوصل الألف على الأمر ؛ ذكر جميعه النحاس. الزمخشري : وقرأ حمزة { الْمَكْرُ السَّيِّئُ } بسكون الهمزة ، وذلك لاستثقاله الحركات ، ولعله اختلس فظن سكونا ، أو وقف وقفة خفيفة ثم ابتدأ {وَلا يَحِيقُ} . وقرأ ابن مسعود { وَمَكْرَاً سيئاً } وقال المهدوي : ومن سكن الهمزة من قوله : {ومكر السيئ} فهو على تقدير الوقف عليه ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، أو على أنه أسكن الهمزة لتوالي الكسرات والياءات ، كما قال :
فاليوم اشرب غير مستحقب
قال القشيري : وقرأ حمزة {ومكر السيئْ } بسكون الهمزة ، وخطأه أقوام. وقال قوم : لعله وقف عليه لأنه تمام الكلام ، فغلط الراوي وروى ذلك عنه في الإدراج ، وقد سبق الكلام في أمثال هذا ، وقلنا : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأه فلا بد من جوازه ، ولا يجوز أن يقال : إنه لحن ، ولعل مراد من صار إلى الخطة أن غيره أفصح منه ، وإن كان هو فصيحا. { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } أي لا ينزل عاقبه الشرك إلا بمن أشرك. وقيل : هذا إشارة إلى قتلهم ببدر. وقال الشاعر :
وقد دفعوا المنية فاستقلت ... ذراعا بعد ما كانت تحيق
أي تنزل ، وهذا قول قطرب. وقال الكلبى : { يَحِيقُ } بمعنى يحيط. والحوق الإحاطة ، يقال : حاق به كذا أي أحاط به. وعن ابن عباس أن كعبا قال له : إني أجد في التوراة "من حفر لأخيه حفرة وقع فيها" ؟ فقال ابن عباس : فاني أوجدك في القرآن ذلك. قال : وأين ؟ قال : فاقرأ { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّبِأَهْلِهِ } ومن أمثال
العرب "من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا" وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله تعالى يقول : { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } ، ولا تبغ ولا تعن باغيا فإن الله تعالى يقول : { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } وقال تعالى : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } وقال بعض الحكماء :"
يا أيها الظالم في فعله ... والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى ... تحصي المصائب وتنسى النعم
وفي الحديث "المكر والخديعة في النار" . فقوله : "في النار" يعني في الآخرة تدخل أصحابها في النار ؛ لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في سياق هذا الحديث : "وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة والخيانة" . وفي هذا أبلغ تحذير عن التخلق بهذه الأخلاق الذميمة ، والخروج عن أخلاق الإيمان الكريمة.
قوله تعالى : { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّض سُنَّتَ الأَوَّلِينَ } أي إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين. { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } أي أجرى الله العذاب على الكفار ، وجعل ذلك سنة فيهم ، فهو يعذب بمثله من استحقه ، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره. والسنة الطريقة ، والجمع سنن. وقد مضى في {آل عمران} وأضافها إلى الله عز وجل. وقال في موضع آخر : {سنة سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا } فأضاف إلى القوم لتعلق الأمر بالجانبين ؛ وهو كالأجل ، تارة يضاف إلى الله ، تارة إلى القوم ؛ قال الله تعالى : { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ } وقال : { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ }
الآية : [44] { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً }
بين السنة التي ذكرها ؛ أي أو لم يروا ما أنزلنا بعاد وثمود ، ومدين وأمثالهم لما كذبوا الرسل ، فتدبروا ذلك بنظرهم إلى مساكنهم ودورهم ، وبما سمعوا على التواتر بما حل بهم ، أفليس فيه عبرة وبيان لهم ؛ ليسوا خيرا من أولئك ولا أقوى ، بل كان أولئك أقوى ؛ دليله قوله : { وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ } أي إذا أراد إنزال عذاب بقوم لم يعجزه ذلك. { إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً } .
الآية : [45] { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً }
قوله تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا } يعني من الذنوب. { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } قال ابن مسعود : يريد جميع الحيوان مما دب ودرج. قال قتادة : وقد فعل ذلك ومن نوح عليه السلام. وقال الكلبي : { مِنْ دَابَّةٍ } يريد الجن والإنس دون غيرهما ؛ لأنهما مكلفان بالعقل. وقال ابن جرير والأخفش والحسين بن الفضل : أراد بالدابة هنا الناس هنا وحدهم دون غيرهم.
قلت : والأول أظهر ؛ لأنه عن صحابي كبير. قال ابن مسعود : كاد الجعل أن يعذب في حجره بذنب ابن آدم. وقال يحيى بن أبي كثير : أمر رجل بالمعروف ونهى عن المنكر ، فقال له رجل : عليك بنفسك فإن الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال أبو هريرة : كذبت ؟ والله الذي لا إله إلا هو ثم قال والذي نفسي بيده إن الحبارى لتموت هزلا في وكرها بظلم الظالم. وقال الثمالي ويحيى بن سلام في هذه الآية : يحبس الله المطر فيهلك كل شيء. وقد مضى في {البقرة} نحو هذا عن عكرمة ومجاهد في تفسير { وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم. وذكرنا هناك حديث البراء



بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } قال : "دواب الأرض" . { وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } قال مقاتل : الأجل المسمى هو ما وعدهم في اللوح المحفوظ. وقال يحيى : هو يوم القيامة. { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ } أي بمن يستحق العقاب منهم { بَصِيراً } ولا يجوز أن يكون العامل في {إذا} { بَصِيراً } كما لا يجوز : اليوم إن زيدا خارج. ولكن العامل فيها { جَاءَ } لشبهها بحروف المجازاة ، والأسماء التي يجازى بها يعمل فيها ما بعدها. وسيبويه لا يرى المجازاة بـ {إذا} إلا في الشعر ، كما قال :
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب
ختمت سورة {فاطر} والحمد لله.
المجلد الخامس عشر


تفسير سورة يس
الجزء 15 من الطبعة


سورة يس

وهي مكية بإجماع. وهي ثلاث وثمانون آية ؛ إلا أن فرقة قالت : إن قوله تعالى : {نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } [يس : 12] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم ، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، على ما يأتي. وفي كتاب أبي داود عن معقل بن يسار قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "اقرؤوا يس على موتاكم" . وذكر الآجري من حديث أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من ميت يقرأ عليه سورة يس إلا هون الله عليه. وفي مسند الدارمي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قرأ سورة يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة "خرجه أبو نعيم الحافظ أيضا. وروى الترمذي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات "قال : هذا حديث غريب ، وفي إسناده هارون أبو محمد شيخ مجهول ؛ وفي الباب عن أبي بكر الصديق ، ولا يصح حديث أبي بكر من قبل إسناده ، وإسناده ضعيف. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن في القرآن لسورة تشفع لقرائها ويغفر لمستمعها ألا وهي سورة يس تدعى في التوراة المعمة "قيل : يا رسول الله وما المعمة ؟ قال :" تعم صاحبها بخير الدنيا وتدفع عنه أهاويل الآخرة وتدعى الدافعة والقاضية "قيل : يا رسول الله وكيف ذلك ؟ قال :" تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة ومن قرأها عدلت له عشرين حجة ومن سمعها كانت له كألف دينار تصدق بها في سبيل الله ومن كتبها وشربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف نور وألف يقين وألف رحمة وألف رأفة وألف هدى ونزع
عنه كل داء وغل ". ذكره الثعلبي من حديث عائشة ، والترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مسندا. وفي مسند الدارمي عن شهر بن حوشب قال : قال ابن عباس : من قرأ" يس "حين يصبح أعطي يسر يومه حتى يمسي ومن قرأها في صدر ليلته أعطي يسر ليلته حتى يصبح. وذكر النحاس عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لكل شيء قلب وقلب القرآن يس من قرأها نهارا كفي همه ومن قرأها ليلا غفر ذنبه. وقال شهر بن حوشب : يقرأ أهل الجنة" طه "و" يس "فقط."

رفع هذه الأخبار الثلاثة الماوردي فقال : روى الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لكل شيء قلبا وإن قلب القرآن يس ومن قرأها في ليلة أعطي يسر تلك الليلة ومن قرأها في يوم أعطي يسر ذلك اليوم وإن أهل الجنة يرفع عنهم القرآن فلا يقرؤون شيئا إلا طه ويس" . وقال يحيى بن أبي كثير : بلغني أن من قرأ سورة "يس" ليلا لم يزل في فرح حتى يصبح ، ومن قرأها حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي ؛ وقد حدثني من جربها ؛ ذكره الثعلبي وابن عطية ، قال ابن عطية : ويصدق ذلك التجربة. وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن الصلت عن عمر بن ثابت عن محمد بن مروان عن أبي جعفر قال : من وجد في قلبه قساوة فليكتب "يس" في جام بزعفران ثم يشربه ؛ حدثني أبي رحمه الله قال : حدثنا أصرم بن حوشب ، عن بقية بن الوليد ، عن المعتمر بن أشرف ، عن محمد بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "القرآن أفضل من كل شيء دون الله وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه فمن وقر القرآن فقد وقر الله ومن لم يوقر القرآن لم يوقر الله وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده. القرآن شافع مشفع وما حل مصدق فمن شفع له القرآن شفع ومن محل به القرآن صُدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار. وحملة القرآن هم المحفوفون بحرمة الله الملبسون نور الله المعلمون كلام الله من والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد عادى الله ، يقول الله تعالى : يا حملة القرآن"
استجيبوا لربكم بتوقير كتابه يزدكم حبا ويحببكم إلى عباده يدفع عن مستمع القرآن بلوى الدنيا ويدفع عن تالي القرآن بلوى الآخرة ومن استمع آية من كتاب الله كان له أفضل مما تحت العرش إلى التخوم وإن في كتاب الله لسورة تدعى العزيزة ويدعى صاحبها الشريف يوم القيامة تشفع لصاحبها في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس ". وذكر الثعلبي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من قرأ سورة يس ليلة الجمعة أصبح مغفورا له ". وعن أنس أن رسول الله صلى قال :" من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات "."
3 -
الآية : 1 - 5 {يس ، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}

قوله تعالى : {يس} في "يس" أوجه من القراءات : قرأ أهل المدينة والكسائي {يس والقرآن الحكيم} بإدغام النون في الواو. وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة {يَسِنْ} بإظهار النون. وقرأ عيسى بن عمر {يَسِنَ} بنصب النون. وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم {يسِنِ} بالكسر. وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع {يَسِنُ} بضم النون ؛ فهذه خمس قراءات. القراءة الأولى بالإدغام على ما يجب في العربية ؛ لأن النون تدغم في الواو. ومن بين قال : سبيل حروف الهجاء أن يوقف عليها ، وإنما يكون الإدغام في الإدراج. وذكر سيبويه النصب وجعله من جهتين : إحداهما : أن يكون مفعولا ولا يصرفه ؛ لأنه عنده اسم أعجمي بمنزلة هابيل ، والتقدير أذكر يسين. وجعله سيبويه اسما للسورة. وقوله الآخر أن يكون مبنيا على الفتح مثل كيف وأين. وأما الكسر فزعم الفراء أنه مشبه بقول العرب جير لا أفعل ، فعلى هذا يكون {يسِنِ} قسما. وقاله ابن عباس. وقيل : مشبه بأمس وحذام وهؤلاء ورقاش. وأما الضم فمشبه بمنذ وحيث وقط ، وبالمنادى المفرد إذا قلت يا رجل ، لمن يقف عليه. قال ابن السميقع وهارون : وقد جاء في تفسيرها
يا رجل فالأولى بها الضم. قال ابن الأنباري " {يس} وقف حسن لمن قال هو افتتاح للسورة. ومن قال : معنى {يس} يا رجل لم يقف عليه. وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن معناه يا إنسان ، وقالوا في قوله تعالى : {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } [الصافات : 130] أي على آل محمد. وقال سعيد بن جبير : هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ودليله {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } . قال السيد الحميري :"

يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة ... على المودة إلا آل ياسين

وقال أبو بكر الوراق : معناه يا سيد البشر. وقيل : إنه اسم من أسماء الله ؛ قاله مالك. روى عنه أشهب قال : سألته هل ينبغي لأحد أن يتسمى بياسين ؟ قال : ما أراه ينبغي لقول الله : {يس ، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} يقول هذا اسمي يس. قال ابن العربي هذا كلام بديع ، وذلك أن العبد يجوز له أن يتسمى باسم الرب إذا كان فيه معنى منه ؛ كقوله : عالم وقادر ومريد ومتكلم. وإنما منع مالك من التسمية بـ {يسين} ؛ لأنه اسم من أسماء الله لا يدرى معناه ؛ فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبد. فإن قيل فقد قال الله تعالى : {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } [الصافات : 130] قلنا : ذلك مكتوب بهجاء فتجوز التسمية به ، وهذا الذي ليس بمتهجى هو الذي تكلم مالك عليه ؛ لما فيه من الإشكال ؛ والله أعلم. وقال بعض العلماء : افتتح الله هذه السورة بالياء والسين وفيهما مجمع الخير : ودل المفتتح على أنه قلب ، والقلب أمير على الجسد ؛ وكذلك {يس} أمير على سائر السور ، مشتمل على جميع القرآن. ثم اختلفوا فيه أيضا ؛ فقال سعيد بن جبير وعكرمة : هو بلغة الحبشة. وقال الشعبي : هو بلغة طي. الحسن : بلغة كلب. الكلبي : هو بالسريانية فتكلمت به العرب فصار من لغتهم. وقد مضى هذا المعنى في {طه} وفي مقدمة الكتاب مستوفى. وقد سرد القاضي عياض أقوال المفسرين في معنى {يس} فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لي عند ربي عشرة أسماء" ذكر أن منها طه ويس اسمان له.
قلت : وذكر الماوردي عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله تعالى أسماني في القرآن سبعة أسماء محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبدالله" قاله القاضي. وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق أنه أراد يا سيد ، مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس : {يس} يا إنسان أراد محمدا صلى الله عليه وسلم. وقال : هو قسم وهو من أسماء الله سبحانه. وقال الزجاج : قيل معناه يا محمد وقيل يا رجل وقيل يا إنسان. وعن ابن الحنفية : {يس} يا محمد. وعن كعب : {يس} قسم أقسم الله به قبل أن يخلق السماء والأرض بألفي عام قال يا محمد : {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ثم قال : {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} . فإن قدر أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم ، وصح فيه أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم ، ويؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه. وإن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته. أقسم الله تعالى باسمه وكتابه أنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده ، وعلى صراط مستقيم من إيمانه ؛ أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق. قال النقاش : لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له ، وفيه من تعظيمه وتمجيده على تأويل من قال إنه يا سيد ما فيه ، وقد قال عليه السلام : "أنا سيد ولد آدم" انتهى كلامه. وحكى القشيري قال ابن عباس : قالت كفار قريش لست مرسلا وما أرسلك الله إلينا ؛ فأقسم الله بالقرآن المحكم أن محمدا من المرسلين. "والحكيم" المحكم حتى لا يتعرض لبطلان وتناقض ؛ كما قال : {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود : 1] . وكذلك أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل. وقد يكون {الْحَكِيمُ} في حق الله بمعنى المحكم بكسر الكاف كالأليم بمعنى المؤلم. {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي دين مستقيم وهو الإسلام. وقال الزجاج : على طريق الأنبياء الذين تقدموك ؛ وقال : {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} خبر إن ، و {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} خبر ثان ، أي إنك لمن المرسلين ، وإنك على صراط مستقيم. وقيل : المعنى لمن المرسلين على استقامة ؛ فيكون قوله : {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} من صلة المرسلين ؛ أي إنك لمن المرسلين
الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة ؛ كقوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} أي الصراط الذي أمر الله به.

قوله تعالى : {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} قرأ ابن عامر وحفص والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف : {تَنْزِيلَ} بنصب اللام على المصدر ؛ أي نزل الله ذلك تنزيلا. وأضاف المصدر فصار معرفة كقوله : {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد : 4] أي فضربا للرقاب. الباقون {تَنْزِيلُ} بالرفع على خبر ابتداء محذوف أي هو تنزيل ، أو الذي أنزل إليك تنزيل العزيز الرحيم. هذا وقرئ : {تنزيل} بالجر على البدل من {القرآن} والتنزيل يرجع إلى القرآن. وقيل : إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي إنك لمن المرسلين ، وإنك {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} . فالتنزيل على هذا بمعنى الإرسال ؛ قال الله تعالى : {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُو} [الطلاق : 11] ويقال : أرسل الله المطر وأنزله بمعنى. ومحمد صلى الله عليه وسلم رحمة الله أنزلها من السماء. ومن نصب قال : إنك لمن المرسلين إرسالا من العزيز الرحيم. و {العزِيزِ} المنتقم ممن خالفه {الرحِيم} بأهل طاعته.

3 -
الآية : 6 - 8 {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ، لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ }

قوله تعالى : {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ } {مَا} لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير ، منهم قتادة ؛ لأنها نفي والمعنى : لتنذر قوما ما أتى آباءهم قبلك نذير. وقيل : هي بمعنى الذي فالمعنى : لتنذرهم مثل ما أنذر آباؤهم ؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة أيضا. وقيل : إن {مَا} والفعل مصدر ؛ أي لتنذر قوما إنذار آبائهم. ثم يجوز أن تكون العرب قد بلغتهم بالتواتر أخبار الأنبياء ؛ فالمعنى لم ينذروا برسول من أنفسهم. ويجوز أن يكون بلغهم الخبر ولكن غفلوا وأعرضوا ونسوا. ويجوز أن يكون هذا خطابا لقوم لم يبلغهم خبر نبي ، وقد قال الله : {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ}







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #592  
قديم 09-07-2025, 12:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ يس
من صــ 6 الى صــ 16
الحلقة (592)




وقال : {تُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [السجدة : 3] أي لم يأتهم نبي. وعلى قول من قال بلغهم خبر الأنبياء ، فالمعنى فهم معرضون الآن متغافلون عن ذلك ، ويقال للمعرض عن الشيء إنه غافل عنه. وقيل : {فَهُمْ غَافِلُونَ} عن عقاب الله.
قوله تعالى : {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} أي وجب العذاب على أكثرهم {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بإنذارك. وهذا فيمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره. ثم بين سبب تركهم الإيمان فقال : {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} . قيل : نزلت في أبي جهل بن هشام وصاحبيه المخزوميين ؛ وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه بحجر ؛ فلما رآه ذهب فرفع حجرا ليرميه ، فلما أومأ إليه رجعت يده إلى عنقه ، والتصق الحجر بيده ؛ قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما ؛ فهو على هذا تمثيل أي هو بمنزلة من علت يده إلى عنقه ، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى ، فقال الرجل الثاني وهو الوليد بن المغيرة : أنا أرضخ رأسه. فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه ، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال : والله ما رأيته ولقد سمعت صوته. فقال الثالث : والله لأشدخن أنا رأسه. ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه. فقيل له : ما شأنك ؟ قال شأني عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه ، وإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت فحلا قط أعظم منه حال بيني وبينه ، فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني. فأنزل الله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ } . وقرأ ابن عباس : {إنا جعلنا في أيمانهم} وقال الزجاج : وقرئ {إنا جعلنا في أيديهم} . قال النحاس : وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف. وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة ؛ التقدير : إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان ، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق ، والعرب تحذف مثل هذا. ونظيره : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل : 81] وتقديره وسرابيل تقيكم البرد فحذف ؛ لأن ما وقى من الحر وقى من البرد ؛ لأن الغل إذا كان في العنق فلا بد أن
يكون في اليد ، ولا سيما وقد قال الله عز وجل : {فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ} فقد علم أنه يراد به الأيدي. {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق ؛ لأن من علت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه. روى عبدالله بن يحيى : أن علي بن أبي طالب عليه السلام أراهم الإقماح ، فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه. قال النحاس ، وهذا أجل ما روي فيه وهو مأخوذ مما حكاه الأصمعي. قال : يقال أقمحت الدابة إذا جذبت لجامها لترفع رأسها. قال النحاس : والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها. كما يقال : قهرته وكهرته. قال الأصمعي : يقال أكمحت الدابة إذا جذبت عنانها حتى ينتصب رأسها. ومنه قول الشاعر :
.
.. والرأس مكمح

ويقال : أكمحتها وأكفحتها وكبحتها ؛ هذه وحدها بلا ألف عن الأصمعي. وقمح البعير قموحا : إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب ، فهو بعير قامح وقمح ؛ يقال : شرب فتقمح وانقمح بمعنى إذا رفع رأسه وترك الشرب ريا. وقد قامحت إبلك : إذا وردت ولم تشرب ، ورفعت رأسها من داء يكون بها أو برد. وهي إبل مقامحة ، وبعير مقامح ، وناقة مقامح أيضا ، والجمع قماح على غير قياس ؛ قال بشر يصف سفينة :
ونحن على جوانبها قعود ... نغض الطرف كالإبل القماح
والإقماح : رفع الرأس وغض البصر ؛ يقال : أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه. وشهرا قماح : أشد ما يكون من البرد ، وهما الكانونان سميا بذلك ؛ لأن الإبل إذا وردت آذاها برد الماء فقامحت رؤوسها ؛ ومنه قمحت السويق. وقيل : هو مثل ضربه الله تعالى لهم في امتناعكم من الهدى كامتناع المغلول ؛ قال يحيى بن سلام وأبو عبيدة. وكما يقال : فلان حمار ؛ أي لا يبصر الهدى. وكما قال :
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وفي الخبر : أن أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية ، فلما أسلم راودته فأبى وأنشأ يقول :
فليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا فاستراح العواذل
أراد منعنا بموانع الإسلام عن تعاطي الزنى والفسق. وقال الفراء أيضا : هذا ضرب مثل ؛ أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله ؛ وهو كقوله تعالى : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء : 29] وقال الضحاك. وقيل : إن هؤلاء صاروا في الاستكبار عن الحق كمن جعل في يده غل فجمعت إلى عنقه ، فبقي رافعا رأسه لا يخفضه ، وغاضا بصره لا يفتحه. والمتكبر يوصف بانتصاب العنق. وقال الأزهري : إن أيديهم لما علت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل ترفع رؤوسها. وهذا المنع بخلق الكفر في قلوب الكفار ، وعند قوم بسلبهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم. وقيل : الآية إشارة إلى ما يفعل بأقوام غدا في النار من وضع الأغلال في أعناقهم والسلاسل ؛ كما قال تعالى : {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ } [غافر : 71] وأخبر عنه بلفظ الماضي. {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} تقدم تفسيره. قال مجاهد : {مُقْمَحُونَ} مغلون عن كل خير.
3 -
الآية : 9 {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ َسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ }

قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} قال مقاتل : لما عاد أبو جهل إلى أصحابه ، ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وسقط الحجر من يده ، أخذ
الحجر رجل آخر من بني مخزوم وقال : أقتله بهذا الحجر. فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم طمس الله على بصره فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم ، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه ، فهذا معنى الآية. وقال محمد بن إسحاق في روايته : جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل وأمية بن خلف ، يرصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغوا من أذاه ؛ فخرج عليهم عليه السلام وهو يقرأ {يس} وفي يده تراب فرماهم به وقرأ : {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} فأطرقوا حتى مر عليهم عليه السلام. وقد مضى هذا في سورة {سبحان} ومضى في {الكهف} الكلام في {سَدّاً} بضم السين وفتحها وهما لغتان ، {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} أي غطينا أبصارهم ؛ وقد مضى في أول "البقرة" . وقرأ ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} بالعين غير معجمة من العشاء في العين وهو ضعف بصرها حتى لا تبصر بالليل قال :
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
وقال تعالى : {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [الزخرف : 36] الآية. والمعنى متقارب ، والمعنى أعميناهم ؛ كما قال :
ومن الحوادث لا أبا لك أنني ... ضربت علي الأرض بالأسداد
لا أهتدي فيها لموضع تلعة ... بين العذب وبين أرض مراد
{فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} أي الهدى ؛ قاله قتادة. وقيل : محمدا حين ائتمروا على قتله ؛ قاله السدي. وقال الضحاك : {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} أي الدنيا {وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} أي الآخرة ؛ أي عموا عن البعث وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا ؛ قال الله تعالى : {قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } [فصلت : 25] أي زينوا لهم الدنيا ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة. وقيل : على هذا {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} أي غرورا بالدنيا {وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} أي تكذيبا بالآخرة. وقيل : {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الآخرة {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الدنيا. {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} تقدم في "البقرة" والآية رد على القدرية وغيرهم.
وعن ابن شهاب : أن عمر بن عبدالعزيز أحضر غيلان القدري فقال : يا غيلان بلغني أنك تتكلم بالقدر ؛ فقال : يكذبون على يا أمير المؤمنين. ثم قال : يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان : 2] قال : أقرأ يا غيلان فقرأ حتى انتهى إلى قوله : {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } [الإنسان : 29] فقال اقرأ فقال : {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [الإنسان : 30] فقال : والله يا أمير المؤمنين إن شعرت أن هذا في كتاب الله قط. فقال له : يا غيلان أقرأ أول سورة [يس] فقرأ حتى بلغ {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فقال غيلان : والله يا أمير المؤمنين لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم ؛ اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب. قال عمر : اللهم إن كان صادقا فتب عليه وثبته ، وإن كان كاذبا فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمومنين ؛ فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه وصلبه. وقال ابن عون : فأنا رأيته مصلوبا على باب دمشق. فقلنا : ما شأنك يا غيلان ؟ فقال : أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبدالعزيز.
قوله تعالى : {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} يعني القرآن وعمل به. {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} أي ما غاب من عذابه وناره ؛ قاله قتادة. وقيل : أي يخشاه في مغيبه عن أبصار الناس وانفراده بنفسه. {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} أي لذنبه {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي الجنة.
12 {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} أخبرنا تعالى بإحيائه الموتى ردا على الكفرة. وقال الضحاك والحسن : أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل. والأول أظهر ؛ أي نحييهم بالبعث للجزاء. ثم توعدهم بذكره كَتْب الآثار وهي :
الثانية : وإحصاء كل شيء وكل ما يصنعه الإنسان. قال قتادة : معناه من عمل. وقاله مجاهد وابن زيد. ونظيره قوله : {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار : 5 ] وقوله : يُنَبَّأُ
الأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة : 13] ، وقال : {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } [الحشر : 18] فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعد الإنسان من خير أو شر يجازى عليها : من أثر حسن ؛ كعلم علموه ، أو كتاب صنفوه ، أو حبيس احتبسوه ، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك. أو سيئ كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين ، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم ، أو شيء أحدثه فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاه ، وكذلك كل سنة حسنة ، أو سيئة يستن بها. وقيل : هي آثار المشائين إلى المساجد. وعلى هذا المعنى تأول الآية عمر وابن عباس وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس أيضا أن معنى : {وَآثَارَهُمْ} خطاهم إلى المساجد. قال النحاس : وهذا أولى ما قيل فيه ؛ لأنه قال : إن الآية نزلت في ذلك ؛ لأن الأنصار كانت منازلهم بعيدة عن المسجد. وفي الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يكتب له برجل حسنة وتحط عنه برجل سيئه ذاهبا وراجعا إذا خرج إلى المسجد" .
قلت : وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأردوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية : {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن آثاركم تكتب" فلم ينتقلوا. قال : هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال : أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد ؛ قال : والبقاع خالية ؛ قال : فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم" فقالوا : ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا. وقال ثابت البناني : مشيت مع أنس بن مالك إلى الصلاة فأسرعت ، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال : مشيت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأسرعت ، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال : "أما علم أن الآثار تكتب" فهذا احتجاج بالآية. وقال قتادة ومجاهد أيضا والحسن : الآثار في هذه الآية الخطا. وحكى الثعلبي عن أنس أنه قال : الآثار هي الخطا إلى الجمعة. وواحد الآثار أثر ويقال أثر.
الثالثة : في هذه الأحاديث المفسرة لمعنى الآية دليل على أن البعد من المسجد أفضل ، فلو كان بجوار مسجد ، فهل له أن يجاوزه إلى الأبعد ؟ اختلف فيه ، فروي عن أنس أنه كان يجاوز المحدث إلى القديم. وروي عن غيره : الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا. وكره الحسن وغيره هذا ؛ وقال : لا يدع مسجدا قربه ويأتي غيره. وهذا مذهب مالك. وفي تخطي مسجده إلى المسجد الأعظم قولان. وخرج ابن ماجه من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. : "صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة" .
"دياركم" منصوب على الإغراء أي ألزموا ، و "تكتب" جزم على جواب ذلك الأمر. : {وَكُلَّ} نصب بفعل مضمر يدل عليه {أَحْصَيْنَاهُ} كأنه قال : وأحصينا كل شيء أحصيناه. ويجوز رفعه بالابتداء إلا أن نصبه أولى ؛ ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل. وهو قول الخليل وسيبويه. والإمام : الكتاب المقتدى به الذي هو حجة. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : أراد اللوح المحفوظ. وقالت فرقة : أراد صحائف الأعمال.
الآية : [13] {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}
الآية : [14] { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ}
الآية : [15] { قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}
الآية : [16] { قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}
الآية : [17] {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}
الآية : [18] { قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيم}
الآية : [19] { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}
قوله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أمر أن يضرب لقومه مثلا بأصحاب القرية هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين فيما ذكر الماوردي. نسبت إلى أهل أنطبيس وهو اسم الذي بناها ثم غير لما عرب ؛ ذكره السهيلي. ويقال فيها : أنتاكية بالتاء بدل الطاء. وكان بها فرعون يقال له أنطيخس بن أنطيخس يعبد الأصنام ؛ ذكره المهدوي ، وحكاه أبو جعفر النحاس عن كعب ووهب. فأرسل الله إليه ثلاثة : وهم صادق ، وصدوق ، وشلوم هو الثالث. هذا قول الطبري. وقال غيره : شمعون ويوحنا. وحكى النقاش : سمعان ويحيى ، ولم يذكرا صادقا ولا صدوقا. ويجوز أن يكون {مَثَلاً} و {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} مفعولين لأضرب ، أو {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} بدلا من {مَثَلاً} أي اضرب لهم مثل أصحاب القرية فحذف المضاف. أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار هؤلاء المشركين أن ما يحل بهم ما حل بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل. قيل : رسل من الله على الابتداء. وقيل : إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله. وهو قوله تعالى : {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} أضاف الرب ذلك إلى نفسه ؛ لأن عيسى أرسلهما بأمر الرب ، وكان ذلك حين رفع عيسى إلى السماء. {فَكَذَّبُوهُمَا} قيل ضربوهما وسجنوهما. {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي فقوينا وشددنا الرسالة {بِثَالِثٍ} . وقرأ أبو بكر عن عاصم : {بِثَالِثٍ} بالتخفيف وشدد الباقون. قال الجوهري : وقوله تعالى : {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} يخفف ويشدد ؛ أي قوينا وشددنا. قال الأصمعي : أنشدني فيه أبو عمرو بن العلاء للمتلمس :
أُجُدٌّ إذا رحلت تعزز لحمها ... وإذا تشد بنسعها لا تنبس
أي لا ترغو ؛ فعلى هذا تكون القراءتان بمعنىً. وقيل : التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا ؛ ومنه : {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } [ص : 23] . والتشديد بمعنى قوينا وكثرنا. وفي القصة : أن عيسى أرسل
إليهم رسولين فلقيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار صاحب {يس} فدعوه إلى الله وقالا : نحن رسولا عيسى ندعوك إلى عبادة الله. فطالبهما بالمعجزة فقالا : نحن نشفي المرضى وكان له ابن مجنون. وقيل : مريض على الفراش فمسحاه ، فقام بإذن الله صحيحا ؛ فآمن الرجل بالله. وقيل : هو الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ، ففشا أمرهما ، وشفيا كثيرا من المرضى ، فأرسل الملك إليهما - وكان يعبد الأصنام - يستخبرهما فقالا : نحن رسولا عيسى. فقال : وما آيتكما ؟ قالا : نبرئ الأكمه والأبرص ونبرئ المريض بإذن الله ، وندعوك إلى عبادة الله وحده. فهم الملك بضربهما. وقال وهب : حبسهما الملك وجلدهما مائة جلدة ؛ فانتهى الخبر إلى عيسى فأرسل ثالثا. قيل : شمعون الصفا رأس الحواريين لنصرهما ، فعاشر حاشية الملك حتى تمكن منهم ، واستأنسوا به ، ورفعوا حديثه إلى الملك فأنس به ، وأظهر موافقته في دينه ، فرضي الملك طريقته ، ثم قال يوما للملك : بلغني أنك حبست رجلين دعواك إلى الله ، فلو سألت عنهما ما وراءهما. فقال : إن الغضب حال بيني وبين سؤالهما. قال : فلو أحضرتهما. فأمر بذلك ؛ فقال لهما شمعون : ما برهانكما على ما تدعيان ؟ فقالا : نبرئ الأكمه والأبرص. فجيء بغلام ممسوح العينين ؛ موضع عينيه كالجبهة ، فدعوا ربهما فأنشق موضع البصر ، فأخذا بندقتين طينا فوضعاهما في خديه ، فصارتا مقلتين يبصر بهما ؛ فعجب الملك وقال : إن ها هنا غلاما مات منذ سبعة أيام ولم أدفنه حتى يجيء أبوه فهل يحييه ربكما ؟ فدعوا الله علانية ، ودعاه شمعون سرا ، فقام الميت حيا ، فقال للناس : إني مت منذ سبعة أيام ، فوجدت مشركا ، فأدخلت في سبعة أودية من النار ، فأحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله ، ثم فتحت أبواب السماء ، فرأي شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة شمعون وصاحبيه ، حتى أحياني الله ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن عيسى روج الله وكلمته ، وأن هؤلاء هم رسل الله. فقالوا له وهذا شمعون أيضا معهم ؟ قال : نعم وهو أفضلهم. فأعلمهم شمعون أنه رسول المسيح إليهم ، فأثر قوله في الملك ، فدعاه إلى الله ، فآمن الملك في قوم كثير وكفر آخرون.
وحكى القشيري أن الملك آمن ولم يؤمن قومه ، وصاح جبريل صيحة مات كل من بقي منهم من الكفار.
وروي أن عيسى لما أمرهم أن يذهبوا إلى تلك القرية قالوا : يا نبي الله إنا لا نعرف أن نتكلم بألسنتهم ولغاتهم. فدعا الله لهم فناموا بمكانهم ، فهبوا من نومتهم قد حملتهم الملائكة فألقتهم بأرضى أنطاكية ، فكلم كل واحد صاحبه بلغة القوم ؛ فذلك قوله : {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة : 87] فقالوا جميعا : {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} تأكلون الطعام وتمشون في الأسواق {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} يأمر به ولا من شيء ينهى عنه {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} في دعواكم الرسالة ؛ فقالت الرسل {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} وإن كذبتمونا {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} في أن الله واحد {قَالُوا} لهم {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي تشاءمنا بكم. قال مقاتل : حبس عنهم المطر ثلاث سنين فقالوا هذا بشؤمكم. ويقال : إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين. {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا} عن إنذارنا {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} قال الفراء : لنقتلنكم. قال : وعامة ما في القرآن من الرجم معناه القتل. وقال قتادة : هو على بابه من الرجم بالحجارة. وقيل : لنشتمنكم ؛ وقد تقدم جميعه. {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قيل : هو القتل. وقيل : هو التعذيب المؤلم. وقيل : هو التعذيب المؤلم قبل القتل كالسلخ والقطع والصلب. فقالت الرسل : {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي شؤمكم معكم أي حظكم من الخير والشر معكم ولازم في أعناقكم ، وليس هو من شؤمنا ؛ قال معناه الضحاك. وقال قتادة : أعمالكم معكم. ابن عباس : معناه الأرزاق والأقدار تتبعكم. الفراء : {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} رزقكم وعملكم ؛ والمعنى واحد. وقرأ الحسن : "أطيركم" أي تطيركم. "أئن ذكرتم" قال قتادة : إن ذكرتم تطيرتم. وفيه تسعة أوجه من القراءات : قرأ أهل المدينة : {أينْ ذُكِّرْتُمْ } بتخفيف الهمزة الثانية. وقرأ أهل الكوفة : {أاَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} بتحقيق الهمزتين. والوجه الثالث : {أاَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} بهمزتين بينهما ألف أدخلت الألف كراهة للجمع بين الهمزتين. والوجه الرابع : {أاَإِنْ} بهمزة بعدها ألف وبعد الألف همزة مخففة. والقراءة الخامسة {أاَإِنْ} بهمزتين مفتوحتين بينهما ألف. والوجه السادس : {أأن} بهمزتين محققتين مفتوحتين. وحكى الفراء : أن هذه القراءة قراءة أبي رزين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #593  
قديم 09-07-2025, 12:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ يس
من صــ 16 الى صــ 26
الحلقة (593)






قلت : وحكاه الثعلبي عن زر بن حبيش وابن السميقع. وقرأ عيسى بن عمر والحسن البصري : {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَينْ ذُكِّرْتُمْ} بمعنى حيث. وقرأ يزيد بن القعقاع والحسن وطلحة {ذُكِّرْتُمْ} بالتخفيف ؛ ذكر جميعه النحاس. وذكر المهدوي عن طلحة بن مصرف وعيسى الهمذاني : {آنْ ذُكِّرْتُمْ} بالمد ، على أن همزة الاستفهام دخلت على همزة مفتوحة. الماجشون : {آنْ ذُكِّرْتُمْ} بهمزة واحدة مفتوحة. فهذه تسع قراءات. وقرأ ابن هرمز {طيركم معك} . {أئنْ ذُكِّرْتُمْ} أي لإن وعظتم ؛ وهو كلام مستأنف ، أي إن وعظتم تطيرتم. وقيل : إنما تطيروا لما بلغهم أن كل نبي دعا قومه فلم يجيب كان عاقبتهم الهلاك. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} قال قتادة : مسرفون في تطيركم. يحيى بن سلام : مسرفون في كفركم. وقال ابن بحر : السرف ها هنا الفساد ، ومعناه بل أنتم قوم مفسدون. وقيل : مسرفون مشركون ، والإسراف مجاوزة الحد ، والمشرك يجاوز الحد.
الآية : [20] {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}
الآية : [21] { اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ}
الآية : [22] { وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
الآية : [23] { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ}
الآية : [24] { إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
الآية : [25] { إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}
الآية : [26] { قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}
الآية : [27] { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}
الآية : [28] { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينْ }
الآية : [29] {كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ }
قوله تعالى : {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} هو حبيب بن مري وكان نجارا. وقيل : إسكافا. وقيل : قصارا. وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : هو حبيب
بن إسرائيل النجار وكان ينحت الأصنام ، وهو ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة ، كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما. ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره. قال وهب : وكان حبيب مجذوما ، ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة ، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم ، لعلهم يرحمونه ويكشفون ضره فما استجابوا له ، فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة الله فقال : هل من آية ؟ قالوا : نعم ، ندعو ربنا القادر فيفرج عنك ما بك. فقال : إن هذا لعجب! أدعو هذه الآلهة سبعين سنة تفرج عني فلم تستطع ، فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة ؟ قالوا : نعم ، ربنا على ما يشاء قدير ، وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر. فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به ، كأن لم يكن به بأس ، فحينئذ أقبل على التكسب ، فإذا أمسى تصدق بكسبه ، فأطعم عياله نصفا وتصدق بنصف ، فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهم. فـ {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} الآية. وقال قتادة : كان يعبد الله في غار ، فلما سمع بخبر المرسلين جاء يسعى ، فقال للمرسلين : أتطلبون على ما جئتم به أجرا ؟ قالوا : لا ما أجرنا إلا على الله. قال أبو العالية : فاعتقد صدقهم وآمن بهم وأقبل على قومه فـ {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} . {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} أي لو كانوا متهمين لطلبوا منكم المال {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فاهتدوا بهم. {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} قال قتادة : قال له قومه أنت على دينهم ؟ ! فقال : {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أي خلقني. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وهذا احتجاج منه عليهم. وأضاف الفطرة إلى نفسه ؛ لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر ، والبعث إليهم ؛ لأن ذلك وعيد يقتضي الزجر ؛ فكان إضافة النعمة إلى نفسه اظهر شكرا ، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ أثرا.
قوله تعالى : {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} يعني أصناما. {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ } يعني ما أصابه من السقم. {لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} يخلصوني مما أنا فيه من البلاء {إِنِّي إِذاً} يعني إن فعلت ذلك {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي خسران ظاهر. ، {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} قال ابن مسعود : خاطب الرسل بأنه
مؤمن بالله ربهم. ومعنى {فَاسْمَعُونِ} أي فأشهدوا ، أي كونوا شهودي بالإيمان. وقال كعب ووهب : إنما قال ذلك لقومه إنى آمنت بربكم الذي كفرتم به. وقيل : إنه لما قال لقومه {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} رفعوه إلى الملك وقالوا : قد تبعت عدونا ؛ فطول معهم الكلام ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل ، إلى أن قال : {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} فوثبوا عليه فقتلوه. قال ابن مسعود : وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره ، وألقي في بئر وهي الرس وهم أصحاب الرس. وفي رواية أنهم قتلوا الرسل الثلاثة. وقال السدي : رموه بالحجارة وهو يقول : اللهم اهد قومي حتى قتلوه. وقال الكلبي : حفروا حفرة وجعلوه فيها ، وردموا فوقه التراب فمات ردما. وقال الحسن : حرقوه حرقا ، وعلقوه من سور المدينة وقبره في سور أنطاكية ؛ حكاه الثعلبي. وقال القشيري : وقال الحسن لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إلى السماء ، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة ، فإذا أعاد الله الجنة أدخلها. وقيل : نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه ، فوالله ما خرجت روحه إلا إلى الجنة فدخلها ؛ فذلك قوله : {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} . فلما شاهدها {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} أي بغفران ربي لي ؛ فـ "ما" مع الفعل بمنزلة المصدر. وقيل : بمعنى الذي والعائد من الصلة محذوف. ويجوز أن تكون استفهاما فيه معنى التعجب ، كأنه قال ليت قومي يعلمون بأي شيء غفر لي ربي ؛ قال الفراء. واعترضه الكسائي فقال : لو صح هذا لقال بم من غير ألف. وقال الفراء : يجوز أن يقال بما بالألف وهو استفهام وأنشد فيه أبياتا. الزمخشري : {بِمَ غَفَرَ لِي رَبِّي} بطرح الألف أجود ، وإن كان إثباتها جائزا ؛ يقال : قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت. المهدوي : وإثبات الألف في الاستفهام قليل. فيوقف على هذا على {يَعْلَمُونَ} . وقال جماعة : معنى {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} وجبت لك الجنة ؛ فهو خبر بأنه قد استحق دخول الجنة ؛ لأن دخولها يستحق بعد البعث.
قلت : والظاهر من الآية أنه لما قتل قيل له ادخل الجنة. قال قتادة : أدخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق ؛ أراد قوله تعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران : 169] على ما تقدم في "آل عمران" بيانه. والله أعلم.
قوله تعالى : {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} وهو مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قول عند ذلك الفوز العظيم الذي هو {مَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} وقرئ {من المكرمين} وفي معنى تمنيه قولان : أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته. الثاني تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله. قال ابن عباس : نصح قومه حيا وميتا. رفعه القشيري فقال : وفي الخبر أنه عليه السلام قال في هذه الآية : "إنه نصح لهم في حياته وبعد موته" . وقال ابن أبي ليلى : سُبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب وهو أفضلهم ، ومؤمن آل فرعون ، وصاحب يس ، فهم الصديقون ؛ ذكره الزمخشري مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الآية تنبيه عظيم ، ودلالة على وجوب كظم الغيظ ، والحلم عن أهل الجهل. والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي ، والتشمر في تخليصه ، والتلطف في افتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته ، والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام. فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل النقمة على قومه ، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم ؛ فذلك قوله : {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} أي ما أنزلنا عليهم من رسالة ولا نبي بعد قتله ؛ قال قتادة ومجاهد والحسن. قال الحسن : الجند الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء. وقيل : الجند العساكر ؛ أي لم أحتج في هلاكهم إلى إرسال جنود ولا جيوش ولا عساكر ؛ بل أهلكهم بصيحة واحدة. قال معناه ابن مسعود وغيره. فقوله : {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} تصغير لأمرهم ؛ أي أهلكناهم بصيحة واحدة من بعد ذلك الرجل ، أو من بعد رفعه إلى السماء. وقيل : {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} على من كان قبلهم.
الزمخشري : فان قلت فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق ؟ فقال : {وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا } [الأحزاب : 9] ، وقال : {بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران : 124] . {بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ } [آل عمران : 125] .
قلت : إنما كان يكفي ملك واحد ، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل ، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة ، ولكن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم بكل شيء على سائر الأنبياء وأولي العزم من الرسل فضلا عن حبيب النجار ، وأولاه من أسباب الكرامة والإعزاز ما لم يوله أحدا ؛ فمن ذلك أنه أنزل له جنودا من السماء ، وكأنه أشار بقوله : {وَمَا أَنْزَلْنَا} . {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك ، وما كنا نفعل لغيرك. {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} قراءة العامة {وَاحِدَةً } بالنصب على تقدير ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج : {صَيْحَةً} بالرفع هنا ، وفي قوله : {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ} جعلوا الكون بمعنى الوقوع والحدوث ؛ فكأنه قال : ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة. وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث فهو ضعيف ؛ كما تكون ما قامت إلا هند ضعيفا ؛ من حيث كان المعنى ما قام أحد إلا هند. قال أبو حاتم : فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال : إن كان إلا صيحة. قال النحاس : لا يمتنع شيء من هذا ، يقال : ما جاءتني إلا جاريتك ، بمعنى ما جاءتني امرأة أو جارية إلا جاريتك. والتقدير في القراءة بالرفع ما قاله أبو إسحاق ، قال : المعنى إن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة ، وقدره غيره : ما وقع عليهم إلا صيحة واحدة. وكان بمعنى وقع كثير في كلام العرب. وقرأ عبدالرحمن بن الأسود - ويقال إنه في حرف عبدالله كذلك - {إن كانت إلا زقية واحدة} . وهذا مخالف للمصحف. وأيضا فإن اللغة المعروفة زقا يزقو إذا صاح ، ومنه المثل : أثقل من الزواقي ؛ فكان يجب على هذا أن يكون زقوة. ذكره النحاس.
قلت : وقال الجوهري : الزقو والزقي مصدر ، وقد زقا الصدى يزقو زقاء : أي صاح ، وكل صائح زاق ، والزقية الصيحة.
قلت : وعلى هذا يقال : زقوة وزقية لغتان ؛ فالقراءة صحيحة لا اعتراض عليها. والله أعلم. {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} أي ميتون هامدون ؛ تشبيها بالرماد الخامد. وقال قتادة : هلكى. والمعنى واحد.
30 {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ، أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ، وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ }
قوله تعالى : {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} منصوب ؛ لأنه نداء نكرة ولا يجوز فيه غير النصب عند البصريين. وفي حرف أبي {يا حسرة العباد} على الإضافة. وحقيقة الحسرة في اللغة أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيرا. وزعم الفراء أن الاختيار النصب ، وأنه لو رفعت النكرة الموصولة بالصلة كان صوابا. واستشهد بأشياء منها أنه سمع من العرب : يا مهتم بأمرنا لا تهتم. وأنشد :
يا دار غيرها البلى تغييرا
قال النحاس : وفي هذا إبطال باب النداء أو أكثره ؛ لأنه يرفع النكرة المحضة ، ويرفع ما هو بمنزلة المضاف في طول ، ويحذف التنوين متوسطا ، ويرفع ما هو في المعنى مفعول بغير علة أوجبت ذلك. فأما ما حكاه عن العرب فلا يشبه ما أجازه ؛ لأن تقدير يا مهتم بأمرنا لا تهتم على التقديم والتأخير ، والمعنى : يا أيها المهتم لا تهتم بأمرنا. وتقدير البيت : يا أيتها الدار ، ثم حول المخاطبة ؛ أي يا هؤلاء غير هذه الدار البلى ؛ كما قال الله جل وعز : {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ } [يونس : 22] . فـ {حَسْرَةً} منصوب على النداء ؛ كما تقول يا رجلا أقبل ، ومعنى النداء
هذا موضع حضور الحسرة. الطبري : المعنى يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندما وتلهفا في استهزائهم برسل الله عليهم السلام. ابن عباس : {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} أي يا ويلا على العباد. وعنه أيضا : حل هؤلاء محل من يتحسر عليهم. وروى الربيع عن أنس عن أبي العالية أن العباد ها هنا الرسل ؛ وذلك أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا : {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} فتحسروا على قتلهم ، وترك الإيمان بهم ؛ فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم الإيمان ؛ وقال مجاهد. وقال الضحاك : إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل. وقيل : {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ، لما وثب القوم لقتله. وقيل : إن الرسل الثلاثة هم الذين قالوا لما قتل القوم ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ، وحل بالقوم العذاب : يا حسرة على هؤلاء ، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد أمنوا. وقيل : هذا من قول القوم قالوا لما قتلوا الرجل وفارقتهم الرسل ، أو قتلوا الرجل مع الرسل الثلاثة ، على اختلاف الروايات : يا حسرة على هؤلاء الرسل ، وعلى هذا الرجل ، ليتنا آمنا بهم في الوقت الذي ينفع الإيمان. وتم الكلام على هذا ، ثم ابتدأ فقال : {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} . وقرأ ابن هرمز ومسلم بن جندب وعكرمة : {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} بسكون الهاء للحرص على البيان وتقرير المعنى في النفس ؛ إذ كان موضع وعظ وتنبيه والعرب تفعل ذلك في مثله ، وإن لم يكن موضعا للوقف. ومن ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقطع قراءته حرفا حرفا ؛ حرصا على البيان والإفهام. ويجوز أن يكون {عَلَى الْعِبَادِ} متعلقا بالحسرة. ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف لا بالحسرة ؛ فكأنه قدر الوقف على الحسرة فأسكن الهاء ، ثم قال : {عَلَى الْعِبَادِ} أي أتحسر على العباد. وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما : {يا حسرة العباد} مضاف بحذف "على" . وهو خلاف المصحف. وجاز أن يكون من باب الإضافة إلى الفاعل فيكون العباد فاعلين ؛ كأنهم إذا شاهدوا العذاب تحسروا فهو كقولك يا قيام زيد. ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المفعول ، فيكون العباد مفعولين ؛ فكأن العباد يتحسر عليهم من يشفق لهم. وقراءة من قرأ : {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} مقوية لهذا المعنى.
قوله تعالى : {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} قال سيبويه : "أن" بدل من "كم" ، ومعنى كم ها هنا الخبر ؛ فلذلك جاز أن يبدل منها ما ليس باستفهام. والمعنى : ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم أنهم إليهم لا يرجعون. وقال الفراء : {كَمْ} في موضع نصب من وجهين : أحدهما بـ {يَرَوْا} واستشهد على هذا بأنه في قراءة ابن مسعود {ألم يروا من أهلكنا} . والوجه الآخر أن يكون {كَمْ} في موضع نصب بـ {أَهْلَكْنَا} قال النحاس : القول الأول محال ؛ لأن "كم" لا يعمل فيها ما قبلها ؛ لأنها استفهام ، ومحال أن يدخل الاستفهام في خبر ما قبله. وكذا حكمها إذا كانت خبرا ، وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل "أنهم" بدلا من كم. وقد رد ذلك محمد بن يزيد أشد رد ، وقال : "كم" في موضع نصب بـ {أَهْلَكْنَا} و {أَنَّهُمْ} قي موضع نصب ، والمعنى عنده بأنهم أي {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} بالاستئصال. قال : والدليل على هذا أنها في قراءة عبدالله {من أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون} . وقرأ الحسن : {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} بكسر الهمزة على الاستئناف. وهذه الآية رد على من زعم أن من الخلق من يرجع قبل القيامة بعد الموت. {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} يريد يوم القيامة للجزاء. وفرأ ابن عامر وعاصم وحمزة : { وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا} بتشديد {لَمَّا} . وخفف الباقون. فـ "إن" مخففة من الثقيلة وما بعدها مرفوع بالابتداء ، وما بعده الخبر. وبطل عملها حين تغير لفظها. ولزمت اللام في الخبر فرقا بينها وبين إن التي بمعنى ما. "وما" عند أبي عبيدة زائدة. والتقدير عنده : وإن كل لجميع. قال الفراء : ومن شدد جعل "لما" بمعنى إلا و "إن" بمعنى ما ، أي ما كل إلا لجميع ؛ كقوله : {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } [المؤمنون : 25] . وحكى سيبويه في قوله : سألتك بالله لما فعلت. وزعم الكسائي أنه لا يعرف هذا. وقد مضى هذا المعنى في {هود} . وفي حرف أبي {وإن منهم إلا جميع لدينا محضرون} .
قوله تعالى : {آيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} نبههم الله تعالى بهذا على إحياء الموتى ، وذكرهم توحيده وكمال قدرته ، وهي الأرض الميتة أحياها بالنبات وإخراج الحب منها. {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} {فَمِنْهُ} أي من الحب {يَأْكُلُونَ} وبه يتغذون. وشدد أهل المدينة {الْمَيْتَةُ} وخفف الباقون ، وقد تقدم. {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} أي في الأرض. {جَنَّاتٍ} أي بساتين. {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} وخصصهما بالذكر ؛ لأنهما أعلى الثمار. {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} أي في البساتين. {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} الهاء في {ثَمَرِهِ} تعود على ماء العيون ؛ لأن الثمر منه أندرج ؛ قاله الجرجاني والمهدوي وغيرهما. وقيل : أي ليأكلوا من ثمر ما ذكرنا ؛ كما قال : {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل : 66] . وقرأ حمزة والكسائي : {من ثمره} بضم الثاء والميم. وفتحهما الباقون. وعن الأعمش ضم الثاء وإسكان الميم. وقد مضى الكلام فيه في "الأنعام" . {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } "ما" في موضع خفض على العطف على "من {مِنْ ثَمَرِهِ} أي ومما عملته أيديهم. وقرأ الكوفيون : {وما عملت} بغير هاء. الباقون {عَمِلَتْهُ} على الأصل من غير حذف. وحذف الصلة أيضا في الكلام كثير لطول الاسم. ويجوز أن تكون "ما" نافية لا موضع لها فلا تحتاج إلى صلة ولا راجع. أي ولم تعمله أيديهم من الزرع الذي أنبته الله لهم. وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل. وقال غيرهم : المعنى ومن الذي عملته أيديهم أي من الثمار ، ومن أصناف الحلاوات والأطعمة ، ومما"
اتخذوا من الحبوب بعلاج كالخبز والدهن المستخرج من السمسم والزيتون. وقيل : يرجع ذلك إلى ما يغرسه الناس. روي معناه عن ابن عباس أيضا. {أَفَلا يَشْكُرُونَ} نعمه.
قوله تعالى : {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} نزه نفسه سبحانه عن قول الكفار ؛ إذ عبدوا غيره مع ما رأوه من نعمه وآثار قدرته. وفيه تقدير الأمر ؛ أي سبحوه ونزهوه عما لا يليق به. وقيل : فيه معنى التعجب ؛ أي عجبا لهؤلاء في كفرهم مع ما يشاهدونه من هذه الآيات ؛ ومن تعجب من شيء قال : سبحان الله! والأزواج الأنواع والأصناف ؛ فكل زوج صنف ؛ لأنه مختلف في الألوان والطعوم والأشكال والصغر والكبر ، فاختلافها هو ازدواجها. وقال قتادة : يعني الذكر والأنثى. {مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} يعني من النبات ؛ لأنه أصناف. {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} يعني وخلق منهم أولادا أزواجا ذكورا وإناثا. {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} أي من أصناف خلقه في البر والبحر والسماء والأرض. ثم يجوز أن يكون ما يخلقه لا يعلمه البشر وتعلمه الملائكة. ويجوز ألا يعلمه مخلوق. ووجه الاستدلال في هذه الآية أنه إذا انفرد بالخلق فلا ينبغي أن يشرَك به.
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }
قوله تعالى : {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} أي وعلامة دالة على توحيد الله وقدرته ووجوب إلاهيته. والسلخ : الكشط والنزع ؛ يقال : سلخه الله من دينه ، ثم تستعمل بمعنى الإخراج. وقد جعل ذهاب الضوء ومجيء الظلمة كالسلخ من الشيء وظهور المسلوخ فهي استعارة. و {مُظْلِمُونَ} داخلون في الظلام ؛ يقال : أظلمنا أي دخلنا في ظلام الليل ، وأظهرنا دخلنا في وقت الظهر ، وكذلك أصبحنا وأضحينا وأمسينا. وقيل : {مِنْهُ} بمعنى عنه ، والمعنى نسلخ عنه ضياء النهار. {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي في ظلمة ؛ لأن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء فاذا خرج منه أظلم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #594  
قديم 09-07-2025, 12:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ يس
من صــ 17 الى صــ 35
الحلقة (594)



قوله تعالى : {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} يجوز أن يكون تقديره وآية لهم الشمس. ويجوز أن يكون {وَالشَّمْسُ} مرفوعا بإضمار فعل يفسره الثاني. ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء {تَجْرِي} في موضع الخبر أي جارية. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل : {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال : "مستقرها تحت العرش" . وفيه عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما : "أتدرون أين تذهب هذه الشمس" ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : "إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتدرون متى ذلكم ذاك حين {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } [الأنعام : 158] " . ولفظ البخاري عن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس : "تدري أين تذهب" قلت الله ورسوله أعلم ، قال : "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى : {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . ولفظ الترمذي عن أبي ذر قال : دخلت المسجد حين غابت الشمس والنبي صلى الله عليه وسلم جالس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه "قال قلت : الله ورسوله أعلم ؛ قال :" فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها اطلعي من حيث جئت فتطلع من مغربها "قال : ثم قرأ {ذلك مستقر لها} قال وذلك قراءة عبدالله. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح."
وقال عكرمة : إن الشمس إذا غربت دخلت محرابا تحت العرش تسبح الله حتى تصبح ، فإذا أصبحت استعفت ربها من الخروج فيقول لها الرب : ولم ذاك ؟ قالت : إني إذا خرجت عبدت من دونك. فيقول الرب تبارك وتعالى : أخرجي فليس عليك من ذاك شيء ، سأبعث إليهم جهنم مع سبعين ألف ملك يقودونها حتى يدخلوهم فيها.
وقال الكلبي وغيره : المعنى تجري إلى أبعد منازلها في الغروب ، ثم ترجع إلى أدنى منازلها ؛ فمستقرها بلوغها الموضع الذي لا تتجاوزه بل ترجع منه ؛ كالإنسان يقطع مسافة حتى يبلغ أقصى مقصوده فيقضي وطره ، ثم يرجع إلى منزل الأول الذي ابتدأ منه سفره. وعلى تبليغ الشمس أقصى منازلها ، وهو مستقرها إذا طلعت الهنعة ، وذلك اليوم أطول الأيام في السنة ، وتلك الليلة أقصر الليالي ، فالنهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات ، ثم يأخذ في النقصان وترجع الشمس ، فإذا طلعت الثريا استوى الليل والنهار ، وكل واحد ثنتا عشرة ساعة ، ثم تبلغ أدنى منازلها وتطلع النعائم ، وذلك اليوم أقصر الأيام ، والليل خمس عشرة ساعة ، حتى إذا طلع فرس الدلو المؤخر استوى الليل والنهار ، فيأخذ الليل من النهار كل يوم عشر ثلث ساعة ، وكل عشرة أيام ثلث ساعة ، وكل شهر ساعة تامة ، حتى يستويا ويأخذ الليل حتى يبلغ خمس عشرة ساعة ، ويأخذ النهار من الليل كذلك. وقال الحسن : إن للشمس في السنة ثلاثمائة وستين مطلعا ، تنزل في كل يوم مطلعا ، ثم لا تنزله إلى الحول ؛ فهي تجري في تلك المنازل وهي مستقرها. وهو معنى الذي قبله سواء. وقال ابن عباس : إنها إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه استقرت تحت العرش إلى أن تطلع.
قلت : ما قاله ابن عباس يجمع الأقوال فتأمله. وقيل : إلى انتهاء أمدها عند انقضاء الدنيا وقرأ ابن مسعود وابن عباس {والشمس تجري لا مستقر لها} أي إنها تجري في الليل والنهار لا وقوف لها ولا قرار ، إلى أن يكورها الله يوم القيامة. وقد احتج من خالف المصحف فقال : أنا أقرأ بقراءة ابن مسعود وابن عباس. قال أبو بكر الأنباري : وهذا باطل مردود على من نقله ؛ لأن أبا عمر وروى عن مجاهد عن ابن عباس وابن كثير روى
عن مجاهد عن ابن عباس {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} فهذان السندان عن ابن عباس اللذان يشهد بصحتهما الإجماع - يبطلان ما روي بالسند الضعيف مما يخالف مذهب الجماعة ، وما اتفقت عليه الأمة.
قلت : والأحاديث الثابتة التي ذكرناها ترد قوله ، فما أجرأه على كتاب الله ، قاتله الله. وقوله : {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أي إلى مستقرها ، والمستقر موضع القرار. {ذَلِكَ تَقْدِيرُ } أي الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس تقدير {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ }
قوله تعالى : {وَالْقَمَرَ} يكون تقديره وآية لهم القمر. ويجوز أن يكون {والقمر} مرفوعا بالابتداء. وقرأ الكوفيون {وَالْقَمَرَ} بالنصب على إضمار فعل وهو اختيار أبي عبيد. قال : لأن قبله فعلا وبعده فعلا ؛ قبله {نَسْلَخُ} وبعده {قَدَّرْنَاهُ} . النحاس : وأهل العربية جميعا فيما علمت على خلاف ما قال : منهم الفراء قال : الرفع أعجب إلي ، وإنما كان الرفع عندهم أولى ؛ لأنه معطوف على ما قبله ومعناه وآية لهم القمر. وقوله : إن قبله {نَسْلَخُ} فقبله ما هو أقرب منه وهو {تَجْرِي} وقبله {وَالشَّمْسُ} بالرفع. والذي ذكره بعده وهو {قَدَّرْنَاهُ} قد عمل في الهاء. قال أبو حاتم : الرفع أولى ؛ لأنك شغلت الفعل عنه بالضمير فرفعته بالابتداء. ويقال : القمر ليس هو المنازل فكيف قال : {قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ففي هذا جوابان : أحدهما قدرناه إذا منازل ؛ مثل : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف : 82] . والتقدير الآخر قدرنا له منازل ثم حذفت اللام ، وكان حذفها حسنا لتعدي الفعل إلى مفعولين مثل {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} [الأعراف : 155] . والمنازل ثمانية وعشرون منزلا ، ينزل القمر كل ليلة منها بمنزل ؛ وهي : الشرطان. البطين. الثريا. الدبران. الهقعة. الهنعة. الذراع. النثرة. الطرف. الجبهة. الخراتان. الصرفة. العواء. السماك. الغفر.
الزبانيان. الإكليل. القلب. الشولة. النعائم. البلدة. سعد الذابح. سعد بلع. سعد السعود. سعد الأخبية. الفرغ المقدم. الفرغ المؤجر. بطن الحوت. فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها ، فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة. ثم يستسر ثم يطلع هلالا ، فيعود في قطع الفلك على المنازل ، وهي منقسمة على البروج لكل برج منزلان وثلث. فللحمل السرطان والبطين وثلث الثريا ، وللثور ثلثا الثريا والدبران وثلثا الهقعة ، ثم كذلك إلى سائرها. وقد مضى في "الحجر" تسمية البروج والحمد لله. وقيل : إن الله تعالى خلق الشمس والقمر من نار ثم كسيا النور عند الطلوع ، فأما نور الشمس فمن نور العرش ، وأما نور القمر فمن نور الكرسي ، فذلك أصل الخلقة وهذه الكسوة. فأما الشمس فتركت كسوتها على حالها لتشعشع وتشرق ، وأما القمر فأمرّ الروح الأمين جناح على وجهه فمحا ضوءه بسلطان الجناح ، وذلك أنه روح والروح سلطانه غالب على الأشياء. فبقي ذلك المحو على ما يراه الخلق ، ثم جعل في غلاف من ماء ، ثم جعل له مجرى ، فكل ليلة يبدو للخلق من ذلك الغلاف قمرا بمقدار ما يقمر لهم حتى ينتهي بدؤه ، ويراه الخلق بكماله واستدارته. ثم لا يزال يعود إلى الغلاف كل ليلة شيء منه فينقص من الرؤية والإقمار بمقدار ما زاد في البدء. ويبتدئ في النقصان من الناحية التي لا تراه الشمس وهي ناحية الغروب حتى يعود كالعرجون القديم ، وهو العذق المتقوس ليبسه ودقته. وإنما قيل القمر ؛ لأنه يقمر أي يبيض الجو ببياضه إلى أن يستسر.
قوله تعالى : {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } قال الزجاج : هو عود العذق الذي عليه الشماريخ ، وهو فعلون من الانعراج وهو الانعطاف ، أي سار في منازل ، فإذا كان في آخرها دق واستقوس وضاق حتى صار كالعرجون. وعلى هذا فالنون زائدة. وقال قتادة : هو العذق اليابس المنحني من النخلة. ثعلب : {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } قال : {العرجون} الذي يبقى من الكباسة في النخلة إذا قطعت ، و {القديم} البالي. الخليل : في باب الرباعي {العرجون} أصل العذق وهو أصفر عريض يشبه به الهلال إذا انحنى. الجوهري :
{العرجون} أصل العذق الذي يعوج وتقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابسا ؛ وعرجنه : ضربه بالعرجون. فالنون على قول هؤلاء أصلية ؛ ومنه شعر أعشى بني قيس :
شرق المسك والعبير بها ... فهي صفراء كعرجون القمر
فالعرجون إذا عتق ويبس وتقوس شبه القمر في دقته وصفرته به. ويقال له أيضا الإهان والكباسة والقنو ، وأهل مصر يسمونه الإسباطة. وقرئ : {العرجون} بوزن الفرجون وهما لغتان كالبُزيون والبِزيون ؛ ذكره الزمخشري وقال : هو عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة. واعلم أن السنة منقسمة على أربعة فصول ، لكل فصل سبعة منازل : فأولها الربيع ، وأوله خمسة عشر يوما من آذار ، وعدد أيامه اثنان وتسعون يوما ؛ تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، وسبعة منازل : الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع. ثم يدخل فصل الصيف في خمسة عشر يوما من حزيران ، وعدد أيامه اثنان وتسعون يوما ؛ تقطع الشمس فيه ثلاثة بروج : السرطان ، والأسد ، والسنبلة ، وسبعة منازل : وهي النثرة والطرف والجبهة والخراتان والصرفة والعواء والسماك. ثم يدخل فصل الخريف في خمسة عشر يوما من أيلول ، وعدد أيامه أحد وتسعون يوما ، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج ؛ وهي الميزان ، والعقرب ، والقوس ، وسبعة منازل الغفر والزبانان والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة. ثم يدخل فصل الشتاء في خمسة عشر يوما من كانون الأول ، وعدد أيامه تسعون يوما وربما كان أحدا وتسعين يوما ، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج : وهي الجدي والدلو والحوت ، وسبعة منازل سعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم ، والفرغ المؤخر وبطن الحوت. وهذه قسمة السريانيين لشهورها : تشرين الأول ، تشرين الثاني ، كانون الأول ، كانون الثاني ، أشباط ، آذار ، نيسان ، أيار ، حزيران ، تموز ، آب ، أيلول ، وكلها أحد وثلاثون إلا تشرين الثاني ونيسان وحزيران وأيلول ، فهي ثلاثون ، وأشباط ثمانية وعشرون يوما وربع يوم.
وإنما أردنا بهذا أن تنظر في قدرة الله تعالى : فذلك قوله تعالى : {الْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} فإذا كانت الشمس في منزل أهل الهلال بالمنزل الذي بعده ، وكان الفجر بمنزلتين من قبله. فإذا كانت الشمس بالثريا في خمسة وعشرين يوما من نيسان ، كان الفجر بالشرطين ، وأهل الهلال بالدبران ، ثم يكون له في كل ليلة منزلة حتى يقطع في ثمان وعشرين ليلة ثمانيا وعشرين منزلة. وقد قطعت الشمس منزلتين فيقطعهما ، ثم يطلع في المنزلة التي بعد منزلة الشمس فـ {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .
قوله تعالى : {القديم} قال الزمخشري : القديم المحول وإذا قدم دق وانحنى واصفر فشبه القمر به من ثلاثة أوجه. وقيل : أقل عدة الموصوف بالقديم الحول ، فلو أن رجلا قال : كل مملوك لي قديم فهو حر ، أو كتب ذلك في وصيته عتق من مضى له حول أو أكثر.
قلت : قد مضى في "البقرة" ما يترتب على الأهلة من الأحكام والحمد لله.
الآية : 40 {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }
قوله تعالى : {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} رفعت {الشَّمْسُ } بالابتداء ، ولا يجوز أن تعمل {لا} في معرفة. وقد تكلم العلماء في معنى هذه الآية ، فقال بعضهم : معناها إن الشمس لا تدرك القمر فتبطل معناه. أي لكل واحد منهما سلطان على حياله ، فلا يدخل أحدهما على الآخر فيذهب سلطانه ، إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك ، فتطلع الشمس من مغربها على ما تقدم في آخر سورة {الأنعام} بيانه. وقيل : إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء ، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء. روي معناه عن ابن عباس والضحاك. وقال مجاهد : أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر. وقال قتادة : لكل حد وعلم لا يعدوه
ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا. وقال الحسن : إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة. أي لا تبقى الشمس حتى يطلع القمر ، ولكن إذا غربت الشمس طلع القمر. يحيى بن سلام : لا تدرك الشمس القمر ليلة البدر خاصة لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها. وقيل : معناه إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل لا يشتركان فيها ؛ قاله ابن عباس أيضا. وقيل : القمر في السماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة فهي لا تدركه ؛ ذكره النحاس والمهدوي. قال النحاس : وأحسن ما قيل في معناها وأبينه مما لا يدفع : أن سير القمر سير سريع والشمس لا تدركه في السير ذكره المهدوي أيضا. فأما قوله سبحانه : {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة : 9] فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع على ما تقدم بيانه في آخر "الأنعام" ويأتي في سورة [القيامة] أيضا. وجمعهما علامة لانقضاء الدنيا وقيام الساعة. {وَكُلٌّ} يعني من الشمس والقمر والنجوم {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي يجرون. وقيل : يدورون. ولم يقل تسبح ؛ لأنه وصفها بفعل من يعقل. وقال الحسن : الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصقة ؛ ولو كانت ملصقة ما جرت ذكره الثعلبي والماوردي. واستدل بعضهم بقوله تعالى : {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} على أن النهار مخلوق قبل الليل ، وأن الليل لم يسبقه بخلق. وقيل : كل واحد منهما يجيء وقته ولا يسبق صاحبه إلى أن يجمع بين الشمس والقمر يوم القيامة ؛ كما قال : {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وإنما هذا التعاقب الآن لتتم مصالح العباد. {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } [يونس : 5] ويكون الليل للإجمام والاستراحة ، والنهار للتصرف ؛ كما قال تعالى : {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص : 73] وقال : {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي راحة لأبدانكم من عمل النهار. فقوله : {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي غالب النهار ؛ يقال : سبق فلان فلانا أي غلبه. وذكر المبرد قال : سمعت عمارة يقرأ : {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} فقلت ما هذا ؟ قال : أردت سابق النهار فحذفت التنوين ؛ لأنه أخف. قال النحاس : يجوز أن يكون {النَّهَارِ} منصوبا بغير تنوين ويكون التنوين حذف لالتقاء الساكنين.
الآية : [41] {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}
الآية : [42] { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}
الآية : [43] { وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ}
الآية : [44] { إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ }
قوله تعالى : {وَآيَةٌ لَهُمْ} يحتمل ثلاثة معان : أحدها عبرة لهم ؛ لأن في الآيات اعتبارا. الثاني نعمة عليهم ؛ لأن في الآيات إنعاما. الثالث إنذار لهم ؛ لأن في الآيات إنذارا. {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} من أشكل ما في السورة ؛ لأنهم هم المحمولون. فقيل : المعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فالضميران مختلفان ؛ ذكره المهدوي. وحكاه النحاس عن علي بن سليمان أنه سمعه يقوله. وقيل : الضميران جميعا لأهل مكة على أن يكون ذرياتهم أولادهم وضعفاءهم ؛ فالفلك على القول الأول سفينة نوح. وعلى الثاني يكون اسما للجنس ؛ خبّر جل وعز بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذمة والضعفاء ، فيكون الضميران على هذا متفقين. وقيل : الذرية الآباء والأجداد ، حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام ؛ فالآباء ذرية والأبناء ذرية ؛ بدليل هذه الآية ؛ قاله أبو عثمان. وسمي الآباء ذرية ؛ لأن منهم ذرأ الأبناء. وقول رابع : أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيها بالفلك المشحون ؛ قاله علي بن أبى طالب رضي الله عنه ؛ ذكره الماوردي. وقد مضى في {البقرة} اشتقاق الذرية والكلام فيها مستوفى. و {الْمَشْحُونِ} المملوء الموقر ، و {الْفُلْكِ} يكون واحدا وجمعا. وقد تقدم في {يونس} القول فيه.
قوله تعالى : {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} والأصل يركبونه فحذفت الهاء لطول الاسم وأنه رأس آية. وفي معناه ثلاثة أقوال : مذهب مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير ،
وروي عن ابن عباس أن معنى "من مثله" للإبل ، خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر ؛ والعرب تشبه الإبل بالسفن. قال طرفة :
كأن حدوج المالكية غدوة ... خلايا سفين بالنواصف من دَدِ
جمع خلية وهي السفينة العظيمة. والقول الثاني أنه للإبل والدواب وكل ما يركب. والقول الثالث أنه للسفن ؛ النحاس : وهو أصحها لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس. {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} قال : خلق لهم سفنا أمثالها يركبون فيها. وقال أبو مالك : إنها السفن الصغار خلقها مثل السفن الكبار ؛ وروي عن ابن عباس والحسن. وقال الضحاك وغيره : هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح. قال الماوردي : ويجيء على مقتضى تأويل علي رضي الله عنه في أن الذرية في الفلك المشحون هي النطف في بطون النساء قول خامس في قوله : {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} أن يكون تأويله النساء خلقن لركوب الأزواج لكن لم أره محكيا.
قوله تعالى : {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} أي في البحر فترجع الكناية إلى أصحاب الذرية ، أو إلى الجميع ، وهذا يدل على صحة قول ابن عباس ومن قال : إن المراد {مِنْ مِثْلِهِ } السفن لا الإبل. {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} أي لا مغيث لهم رواه سعيد عن قتادة. وروى شيبان عنه : فلا منعة لهم ومعناهما متقاربان. و {صَرِيخَ} بمعنى مصرخ فعيل بمعنى فاعل. ويجوز {فلا صريخ لهم} ؛ لأن بعده ما لا يجوز فيه إلا الرفع ؛ لأنه معرفة وهو {وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ} والنحويون يختارون لا رجل في الدار ولا زيد. ومعنى : {يُنْقَذُونَ} يخلصون من الغرق. وقيل : من العذاب. {إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا} قال الكسائي : هو نصب على الاستثناء. وقال الزجاج : نصب مفعول من أجله ؛ أي للرحمة {وَمَتَاعاً} إِلَى حِينٍ معطوف عليه. {إِلَى حِينٍ} إلى الموت ؛ قاله قتادة. يحيى بن سلام : إلى القيامة أي إلا أن نرحمهم ونمتعهم إلى آجالهم ، وأن الله عجل عذاب الأمم السالفة ، وأخر عذاب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كذبوه إلى الموت والقيامة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #595  
قديم 09-07-2025, 12:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ يس
من صــ 37 الى صــ 46
الحلقة (595)






الآية : [45] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
الآية : [46] { وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}
الآية : [47] { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }
الآية : [48] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
الآية : [49] { مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ}
الآية : [50] { فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ }
قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} قال قتادة : يعني {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم ، {وَمَا خَلْفَكُمْ} من الآخرة. ابن عباس وابن جبير ومجاهد : "ما بين أيديكم" ما مضى من الذنوب ، {وَمَا خَلْفَكُمْ} ما يأتي من الذنوب. الحسن : {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} ما مضى من أجلكم {وَمَا خَلْفَكُمْ} ما بقي منه. وقيل : {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من الدنيا ، {وَمَا خَلْفَكُمْ} من عذاب الآخرة ؛ قاله سفيان. وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس. قال : {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من أمر الآخرة وما عملوا لها ، {وَمَا خَلْفَكُمْ} من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها. وقيل : {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} ما ظهر لكم {وَمَا خَلْفَكُمْ} ما خفي عنكم. والجواب محذوف ، والتقدير : إذا قيل لهم ذلك أعرضوا ؛ دليله قول بعد : {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } فاكتفى بهذا عن ذلك.
قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } أي تصدقوا على الفقراء. قال الحسن : يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقيل : هم المشركون قال لهم فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله ؛ وذلك قوله : وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا
ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً [الأنعام : 136] فحرموهم وقالوا : لو شاء الله أطعمكم - استهزاء - فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. قالوا {أَنُطْعِمُ} أي أنرزق أَن {مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ} كان بلغهم من قول المسلمين : أن الرازق هو الله. فقالوا هزءا : أنرزق من لو يشاء الله أغناه. وعن ابن عباس : كان بمكة زنادقة ، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا : لا والله! أيفقره الله ونطعمه نحن. وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون : لو شاء الله لأغنى فلانا ؛ ولو شاء الله لأعز ، ولو شاء الله لكان كذا. فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين ، وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى. وقيل : قالوا هذا تعلقا بقول المؤمنين لهم : {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي فإذا كان الله رزقنا فهو قادر على أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق منا ؟ . وكان هذا الاحتجاج باطلا ؛ لأن الله تعالى إذا ملك عبدا مالا ثم أوجب عليه فيه حقا فكأنه انتزع ذلك القدر منه ، فلا معنى للاعتراض. وقد صدقوا في قولهم : لو شاء الله أطعمهم ولكن كذبوا في الاحتجاج. ومثله قوله : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } [الأنعام : 148] ، وقوله : {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [ المنافقون : 1] . {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} قيل هو من قول الكفار للمؤمنين ؛ أي في سؤال المال وفي اتباعكم محمدا. قال معناه مقاتل وغيره. وقيل : هو من قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وقيل من قول الله تعالى للكفار حين ردوا بهذا الجواب. وقيل : إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال : يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء ؟ قال : نعم. قال : فما باله لم يطعمهم ؟ قال : ابتلى قوما بالفقر ، وقوما بالغنى ، وأمر الفقراء بالصبر ، وأمر الأغنياء بالإعطاء. فقال : والله يا أبا بكر ما أنت إلا في ضلال أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت ؟ فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله تعالى : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل : 5 - 6] الآيات. وقيل : نزلت الآية في قوم من الزنادقة ، وقد كان فيهم أقوام يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع واستهزؤوا بالمسلمين بهذا القول ؛ ذكره القشيري والماوردي.
قوله تعالى : {يَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} لما قيل لهم : اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا
خَلْفَكُمْ قالوا : {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} وكان هذا استهزاء منهم أيضا أي لا تحقيق لهذا الوعيد ، قال الله تعالى : {مَا يَنْظُرُونَ} أي ما ينتظرون {إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} وهي نفخة إسرافيل {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي يختصمون في أمور دنياهم فيموتون في مكانهم ؛ وهذه نفخة الصعق. وفي {يَخِصِّمُونَ} خمس قراءات : قرأ أبو عمرو وابن كثير : {وهم يخصمون} بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد. وكذا روى ورش عن نافع. فأما أصحاب القراءات وأصحاب نافع سوى ورش فرووا عنه {يخصمون} بإسكان الخاء وتشديد الصاد على الجمع ببن ساكنين. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة : {وهم يخصمون} بإسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصمه. وقرأ عاصم والكسائي {وهم يخصمون} بكسر الخاء وتشديد الصاد ، ومعناه يخصم بعضهم بعضا. وقيل : تأخذهم وهم عند أنفسهم يختصمون في الحجة أنهم لا يبعثون. وقد روى ابن جبير عن أبي بكر عن عاصم ، وحماد عن عاصم كسر الياء والخاء والتشديد. قال النحاس : القراءة الأولى أبينها ، والأصل فيها يختصمون فأدغمت التاء في الصاد فنقلت حركتها إلى الخاء. وفي حرف أبي {وهم يختصمون} - وإسكان الخاء لا يجوز ، لأنه جمع بين ساكنين وليس أحدهما حرف مد ولين. وقيل : أسكنوا الخاء على أصلها ، والمعنى يخصم بعضهم بعضا فحذف المضاف ، وجاز أن يكون المعنى يخصمون مجادلهم عند أنفسهم فحذف المفعول. قال الثعلبي : وهي قراءة أبي بن كعب. قال النحاس : فأما {يخصمون} فالأصل فيه أيضا يختصمون ، فأدغمت التاء في الصاد ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وزعم الفراء أن هذه القراءة أجود وأكثر ؛ فترك ما هو أولى من إلقاء حركة التاء على الخاء واجتلب لها حركة أخرى وجمع بين ياء وكسرة ، وزعم أنه أجود وأكثر. وكيف يكون أكثر وبالفتح قراءة الخلق من أهل مكة وأهل البصرة وأهل المدينة! وما روي عن عاصم من كسر الياء والخاء فللإتباع. وقد مضى هذا في "البقرة" في يَخْطَفُ
أَبْصَارَهُمْ [البقرة : 20] وفي "يونس" {يَهْدِِّي } [يونس : 35] . وقال عكرمة في قوله جل وعز : {إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} قال : هي النفخة الأولى في الصور. وقال أبو هريرة : ينفخ في الصور والناس في أسواقهم : فمن حالب لقحة ، ومن ذارع ثوبا ، ومن مار في حاجة. وروى نعيم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فلا يطويانه حتى تقوم الساعة ، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم الساعة ، والرجل يخفض ميزانه فما يرفعه حتى تقوم الساعة ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما يبتلعها حتى تقوم الساعة" . وفي حديث عبدالله بن عمرو : "وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله - قال - فيصعق ويصعق الناس" الحديث. {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي بعضا لما في يده من حق. وقيل : لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضا بالتوبة والإقلاع ؛ بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم. {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} إذا ماتوا. وقيل : إن معنى {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} لا يرجعون إليهم قولا. وقال قتادة : {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} أي إلى منازلهم ؛ لأنهم قد أعجلوا عن ذلك.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ، إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ، فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} هذه النفخة الثانية للنشأة. وقد بينا في سورة : "النمل" أنهما نفختان لا ثلاث. وهذه الآية دالة على ذلك. وروى المبارك بن
فضالة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بين النفختين أربعون سنة : الأولى يميت الله بها كل حي ، والأخرى يحيي الله بها كل ميت" . وقال قتادة : الصور جمع صورة ؛ أي نفخ في الصور والأرواح. وصورة وصور مثل سورة البناء وسور ؛ قال العجاج :
ورب ذي سرادق محجور ... سرتُ إليه في أعالي السور
وقد روي عن أبي هريرة أنه قرأ : {ونفخ في الصور} . النحاس : والصحيح أن {الصور} بإسكان الواو : القرن ؛ جاء بذلك التوقيف عن رسول الله ، وذلك معروف في كلام العرب. أنشد أهل اللغة :
نحن نطحناهم غداة الغورين ... بالضابحات في غبار النقعين
نطحا شديدا لا كنطح الصورين
وقد مضى هذا في "الأنعام" مستوفى. {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ} أي القبور. وقرئ بالفاء "من الأجداف" ذكره الزمخشري. يقال : جدث وجدف. واللغة الفصيحة الجدث : "بالثاء" والجمع أجدث وأجداث ؛ قال المتنخل الهذلي :
عرفت بأجدث فنعاف عرق ... علامات كتحبير النماط
واجتدث : أي اتخذ جدثا. {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} أي يخرجون ؛ قال ابن عباس وقتادة ومنه قول امرئ القيس :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي
ومنه قيل للولد نسل ؛ لأنه يخرج من بطن أمه. وقيل : يسرعون. والنسلان والعسلان : الإسراع في السير ، ومنه مشية الذئب ؛ قال :
عسلان الذئب أمسى قاربا ... برد الليل عليه فنسل
يقال : عسل الذئب ونسل ، يعسل وينسل ، من باب ضرب يضرب. ويقال : ينسل بالضم أيضا. وهو الإسراع في المشي ؛ فالمعنى يخرجون مسرعين. وفي التنزيل : مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ
إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان : 28] ، وقال : {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ } [القمر : 7] ، وفي {سأل سائل} [المعارج : 1] {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [المعارج : 43] أي يسرعون. وفي الخبر : شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الضعف فقال : "عليكم بالنسل" أي بالإسراع في المشي فإنه ينشط.
قوله تعالى : {قَالُوا يَا وَيْلَنَا} قال ابن الأنباري : {يا ويلنا} وقف حسن ثم تبتدئ {من بعثنا} وروي عن بعض القراء {يا ويلنا من بعثنا} بكسر من والثاء من البعث. روي ذلك عن علي رضي الله عنه ؛ فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على قوله : {يا ويلنا} حتى يقول : {من مرقدنا} . وفي قراءة أبي بن كعب {من هبّنا} بالوصل {من مرقدنا} فهذا دليل على صحة مذهب العامة. قال المهدوي : قرأ ابن أبي ليلى : {قالوا يا ويلتنا} بزيادة تاء وهو تأنيث الوصل ، ومثله : {يا ويلتا أألد وأنا عجوز} [هود : 72] . وقرأ علي رضي الله عنه {يا ويلتا من بعثنا} فـ {من} متعلقة بالويل أو حال من {ويلتا} فتتعلق بمحذوف ؛ كأنه قال : يا ويلتا كائنا من بعثنا ؛ وكما يجوز أن يكون خبرا عنه كذلك يجوز أن يكون حالا منه. و {من} من قوله : {من مرقدنا} متعلقة بنفس البعث. ثم قيل : كيف قالوا هذا وهم من المعذبين في قبورهم ؟ فالجواب أن أبي بن كعب قال : ينامون نومة. وفي رواية فيقولون : يا ويلتا من أهبنا من مرقدنا. قال أبو بكر الأنباري : لا يحمل هذا الحديث على أن {أهبنا} من لفظ القرآن كما قال من طعن في القرآن ، ولكنه تفسير {بعثنا} أو معبر عن بعض معانيه. قال أبو بكر : وكذا حفظته {من هبنا} بغير ألف في أهبنا مع تسكين نون من. والصواب فيه على طريق اللغة {من أهبنا} بفتح النون على أن فتحة همزة أهب ألقيت على نون {من} وأسقطت الهمزة ؛ كما قالت العرب : من أخبرك من أعلمك ؟ وهم يريدون من أخبرك. ويقال : أهببت النائم فهب النائم. أنشدنا أحمد بن يحيى النحوي :
وعاذلة هبت بليل تلومني ... ولم يعتمرني قبل ذاك عذول
وقال أبو صالح : إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة ؛ فذلك قولهم : {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا }
وقاله ابن عباس وقتادة. وقال أهل المعاني : إن الكفار إذا عاينوا جهنم وما فيها من أنواع العذاب صار ما عذبوا به في قبورهم إلى جنب عذابها كالنوم. قال مجاهد : فقال لهم المؤمنون : {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ } . قال قتادة : فقال لهم من هدى الله : {هذا ما وعد الرحمن} . وقال الفراء : فقالت لهم الملائكة : "هذا ما وعد الرحمن" . النحاس : وهذه الأقوال متفقة ؛ لأن الملائكة من المؤمنين وممن هدى الله عز وجل. وعلى هذا يتأول قول الله عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة : 7] وكذا الحديث : "المؤمن عند الله خير من كل ما خلق" . ويجوز أن تكون الملائكة وغيرهم من المؤمنين قالوا لهم : {هذا ما وعد الرحمن} . وقيل : إن الكفار لما قال بعضهم لبعض : {من بعثنا من مرقدنا} صدقوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به ، ثم قالوا : {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} فكذبنا به ؛ أقروا حين لم ينفعهم الإقرار. وكان حفص يقف على {من مرقدنا} ثم يبتدئ فيقول : {هذا} . قال أبو بكر بن الأنباري : {من بعثنا من مرقدنا} وقف حسن ؛ ثم تبتدئ : {هذا ما وعد الرحمن} ويجوز أن تقف على مرقدنا هذا "فتخفض هذا على الإتباع للمرقد ، وتبتدئ : {ما وعد الرحمن} على معنى بعثكم ما وعد الرحمن ؛ أي بعثكم وعد الرحمن. النحاس : التمام على {من مرقدنا} و {هذا} في موضع رفع بالابتداء وخبره {ما وعد الرحمن} . ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت لـ {مرقدنا} فيكون التمام {من مرقدنا هذا} . {ما وعد الرحمن} في موضع رفع من ثلاث جهات. ذكر أبو إسحاق منها اثنتين قال : يكون بإضمار هذا. والجهة الثانية أن يكون بمعنى حق ما وعد الرحمن بعثكم. والجهة الثالثة أن يكون بمعنى ما وعد الرحمن. {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً } يعني إن بعثهم وإحياءهم كان بصيحة واحدة وهي قول إسرافيل : أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة والشعور المتمزقة! إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وهذا معنى قول الحق : {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ.} [ق : 42] . وقال : {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ } [القمر : 8] على ما يأتي. وفي قراءة ابن مسعود إن صح عنه إن كانت إلا زقية"
واحدة والزقية الصيحة ؛ وقد تقدم هذا. {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } {فإذا هم} مبتدأ وخبره {جميع} نكرة ، و {محضرون} من صفته. ومعنى {محضرون} مجموعون أحضروا موقف الحساب ؛ وهو كقوله : {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ } [النحل : 77] . قوله تعالى : {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } أي لا تنقص من ثواب عمل. {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } {ما} في محل نصب من وجهين : الأول : أنه مفعول ثان لما لم يسم فاعله. والثاني : بنزع حرف الصفة تقديره : إلا بما كنتم تعملون ؛ أي تعملونه فحذف.
الآية : 55 {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ، هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ، لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ، سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ، وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ }
قوله تعالى : {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد : شغلهم افتضاض العذارى. وذكر الترمذي الحكيم في كتاب مشكل القرآن له : حدثنا محمد بن حميد الرازي ، حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية ، عن شقيق بن سلمة ، عن عبدالله بن مسعود في قوله : {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } قال : شغلهم افتضاض العذارى. حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا هارون بن المغيرة ، عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس بمثله. وقال أبو قلابة : بينما الرجل من أهل الجنة مع أهله إذ قيل له تحول إلى أهلك فيقول أنا مع أهلي مشغول ؛ فيقال تحول أيضا إلى أهلك. وقيل : أصحاب الجنة في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي ومصيرهم إلى النار ، وما هم فيه من أليم العذاب ، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم ؛ قال سعيد بن المسيب وغيره. وقال وكيع : يعني في السماع. وقال ابن كيسان : {فِي شُغُلٍ } أي في زيارة بعضهم بعضا. وقيل : في ضيافة الله تعالى. وروي أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين عبادي الذين
أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب ؟ فيقومون كأنما وجوههم البدر والكوكب الدري ، ركبانا على نجب من نور أزمتها من الياقوت ، تطير بهم على رؤوس الخلائق ، حتى يقوموا بين يدي العرش ، فيقول الله جل وعز لهم : "السلام على عبادي الذين أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب ، أنا اصطفيتكم وأنا أجتبيتكم وأنا اخترتكم ، اذهبوا فادخلوا الجنة بغير حساب فـ {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } [الزخرف : 68] " فيمرون على الصراط كالبرق الخاطف فتفتح لهم أبوابها. ثم إن الخلق في المحشر موقوفون فيقول بعضهم لبعض : يا قوم أين فلان وفلان! ؟ وذلك حين يسأل بعضهم بعضا فينادي مناد {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } . و {شُغُل} و {شُغْل} لغتان قرئ بهما ؛ مثل الرعب والرعب ؛ والسحت والسحت ؛ وقد تقدم. {فاكهون} قال الحسن : مسرورون. وقال ابن عباس : فرحون. مجاهد والضحاك : معجبون. السدي : ناعمون. والمعنى متقارب. والفكاهة المزاح والكلام الطيب. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج : {فكهون} بغير ألف وهما لغتان كالفاره والفره ، والحاذر والحذر ؛ قاله الفراء. وقال الكسائي وأبو عبيدة : الفاكه ذو الفاكهة ؛ مثل شاحم ولاحم وتامر ولابن ، والفكه : المتفكه والمتنعم. و {فكهون} بغير ألف في قول قتادة : معجبون. وقال أبو زيد : يقال رجل فكه إذا كان طيب النفس ضحوكا. وقرأ طلحة بن مصرف : {فاكهين} نصبه على الحال. {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ } مبتدأ وخبره. ويجوز أن يكون {هم} توكيدا {وأزواجهم} عطف على المضمر ، و {متكئون} نعت لقوله {فاكهون} . وقراءة العامة : {في ظلال} بكسر الظاء والألف. وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف : {في ظلل} بضم الظاء من غير ألف ؛ فالظلال جمع ظل ، وظلل جمع ظلة. {على الأرائك} يعني السرر في الحجال واحدها أريكة ؛ مثل سفينة وسفائن ؛ قال الشاعر :
كأن احمرار الورد فوق غصونه ... بوقت الضحى في روضه المتضاحك
خدود عذارى قد خجلن من الحيا ... تهادين بالريحان فوق الأرائك
وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارا" . وقال ابن عباس : إن الرجل من أهل الجنة ليعانق الحوراء سبعين سنة ، لا يملها ولا تمله ، كلما أتاها وجدها بكرا ، وكلما رجع إليها عادت إليه شهوته ؛ فيجامعها بقوة سبعين رجلا ، لا يكون بينهما مني ؛ يأتي من غير مني منه ولا منها. {لهم فيها فاكهة} ابتداء وخبر. {ولهم ما يدعون} الدال الثانية مبدلة من تاء ، لأنه يفتعلون من دعا أي من دعا بشيء أعطيه. قاله أبو عبيدة ؛ فمعنى {يدعون} يتمنون من الدعاء. وقيل : المعنى أن من أدعى منهم شيئا فهو له ؛ لأن الله تعالى قد طبعهم على ألا يدعي منهم أحد إلا ما يجمل ويحسن أن يدعيه. وقال يحيى بن سلام : {يدعون} يشتهون. ابن عباس : يسألون. والمعنى متقارب. قال ابن الأنباري : {ولهم ما يدعون} وقف حسن ، ثم تبتدئ : {سلام} على معنى ذلك لهم سلام. ويجوز أن يرفع السلام على معنى ولهم ما يدعون مسلّم خالص. فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على {ما يدعون} . وقال الزجاج : {سلام} مرفوع على البدل من {ما} أي ولهم أن يسلم الله عليهم ، وهذا مُنَى أهل الجنة. وروي من حديث جرير بن عبدالله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تعالى قد اطلع عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله : {سلام قولا من رب رحيم} . فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركاته عليهم في ديارهم" ذكره الثعلبي والقشيري. ومعناه ثابت في صحيح مسلم ، وقد بيناه في "يونس" عند قوله تعالى : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26] . ويجوز أن تكون {ما} نكرة ؛ و {سلام} نعتا لها ؛ أي ولهم ما يدعون مسلّم. ويجوز أن تكون {ما} رفع بالابتداء ، و {سلام} خبر عنها. وعلى هذه الوجوه لا يوقف على {ولهم ما يدعون} . وفي قراءة ابن مسعود {سلاما} يكون مصدرا ، وإن شئت في موضع الحال ؛ أي ولهم
ما يدعون ذا سلام أو سلامة أو مسلما ؛ فعى هذا المذهب لا يحسن الوقف على {يدعون} وقرأ محمد بن كعب القرظي {سِلم} على الاستئناف كأنه قال : ذلك سلم لهم لا يتنازعون فيه. ويكون {ولهم ما يدعون} تاما. ويجوز أن يكون {سلام} بدلا من قوله : {ولهم ما يدعون} ، وخبر {ما يدعون} {لهم} . ويجوز أن يكون {سلام} خبرا آخر ، ويكون معنى الكلام أنه لهم خالص من غير منازع فيه. {قولا} مصدر على معنى قال الله ذلك قولا. أو بقوله قولا ، ودل على الفعل المحذوف لفظ مصدره. ويجوز أن يكون المعنى ولهم ما يدعون قولا ؛ أي عدة من الله. فعلى هذا المذهب الثاني لا يحسن الوقف على {يدعون} . وقال السجستاني : الوقف على قوله : {سلام} تام ؛ وهذا خطأ لأن القول خارج مما قبله.
قوله تعالى : {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} ويقال تميزوا وأمازوا وامتازوا بمعنىً ؛ ومزته فانماز وامتاز ، وميزته فتميز. أي يقال لهم هذا عند الوقوف للسؤال حين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة ؛ أي اخرجوا من جملتهم. قال قتادة : عزلوا عن كل خير. وقال الضحاك : يمتاز المجرمون بعضهم من بعض ؛ فيمتاز اليهود فرقة ، والنصارى فرقة ، والمجوس فرقة ، والصابئون فرقة ، وعبدة الأوثان فرقة. وعنه أيضا : إن لكل فرقة في النار بيتا تدخل فيه ويرد بابه ؛ فتكون فيه أبدا لا تَرى ولا تُرى. وقال داود بن الجراح : فيمتاز المسلمون من المجرمين ، إلا أصحاب الأهواء فيكونون مع المجرمين.
الآية : [60] {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
الآية : [61] { وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
الآية : [62] { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}
الآية : [63] { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}
الآية : [64] { اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #596  
قديم 10-07-2025, 12:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ يس
من صــ 47 الى صــ 56
الحلقة (596)






قوله تعالى : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ } العهد هنا بمعنى الوصية ؛ أي ألم أوصكم وأبلغكم على ألسنة الرسل. {أن لا تعبدوا الشيطان} أي لا تطيعوه في معصيتي. قال الكسائي : لا للنهي. {وأن اعبدوني} بكسر النون على الأصل ، ومن ضم كره كسرة بعدها ضمة. {هذا صراط مستقيم} أي عبادتي دبن قويم.
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ } أي أغوى {جِبِلّاً كَثِيراً } أي خلقا كثيرا ؛ قاله مجاهد. قتادة : جموعا كثيرة. الكلبي : أمما كثيرة ؛ والمعنى واحد. وقرأ أهل المدينة وعاصم : {جبلا} بكسر الجيم والباء. وأبو عمرو وابن عامر {جبلا} بضم الجيم وإسكان الباء. الباقون {جبلا} ضم الجيم والباء وتخفيف اللام ، وشددها الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعبدالله بن عبيد والنضر بن أنس. وقرأ أبو يحيى والأشهب العقيلي {جبلا} بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام. فهذه خمس قراءات. قال المهدوي والثعلبي : وكلها لغات بمعنى الخلق. النحاس : أبينها القراءة الأولى ؛ والدليل على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن قرؤوا {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ } [الشعراء : 184] فيكون {جبلا} جمع جبلة والاشتقاق فيه كله واحد. وإنما هو من جبل الله عز وجل الخلق أي خلقهم. وقد ذكرت قراءة سادسة وهي : {ولقد أضل منكم جيلا كثيرا} بالياء. وحكي عن الضحاك أن الجيل الواحد عشرة آلاف ، والكثير ما لا يحصيه إلا الله عز وجل ؛ ذكره الماوردي. {أفلم تكونوا تعقلون} عداوته وتعلموا أن الواجب طاعة الله. {هذه جهنم} أي تقول لهم خزنة جهنم هذه جهنم التي وعدتم فكذبتم بها. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا كان يوم القيامة جمع الله الإنس والجن والأولين والآخرين في صعيد واحد ثم أشرف عنق من النار على الخلائق فأحاط بهم ثم ينادي مناد {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } فحينئذ تجثو الأمم على ركبها وتضع كل ذات حمل حملها ؛ وتذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد" .
الآية : [65] {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
الآية : [66] { وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ}
الآية : [67] { وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ}
الآية : [68] { وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ }
قوله تعالى : {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال : "هل تدرون مم أضحك ؟ - قلنا : الله ورسوله أعلم قال : - من مخاطبة العبد ربه ، يقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال : يقول بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال : فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال : فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله قال : ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل" خرجه أيضا من حديث أبي هريرة. وفيه : "ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك ومتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه" . وخرج الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال : وأشاره بيده إلى الشام فقال : "من ها هنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفِدام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه" في رواية أخرى : "فخذه وكفه" الفدام مصفاة الكوز والإبريق ؛ قال الليث. قال أبو عبيد : يعني أنهم منعوا الكلام حتى تكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق. ثم قيل في سبب الختم أربعة أوجه : أحدها : لأنهم قالوا
{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام : 23] فختم الله على أفواههم حتى نطقت جوارحهم ؛ قاله أبو موسى الأشعري. الثاني : ليعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم ؛ قاله ابن زياد. الثالث : لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق لخروجه مخرج الإعجاز ، إن كان يوما لا يحتاج إلى إعجاز. الرابع : ليعلم أن أعضاءه التي كانت أعوانا في حق نفسه صارت عليه شهودا في حق ربه. فإن قيل : لم قال {وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} فجعل ما كان من اليد كلاما ، وما كان من الرجل شهادة ؟ قيل : إن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرة ، وقول الحاضر على غيره شهادة ، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما قال أو فعل ؛ فلذلك عبر عما صدر من الأيدي بالقول ، وعما صدر من الأرجل بالشهادة. وقد روي عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل اليسرى" ذكره الماوردي والمهدوي. وقال أبو موسى الأشعري : إنى لأحسب أن أول ما ينطق منه فخذه اليمنى ؛ ذكره المهدوي أيضا. قال الماوردي : فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء ؛ لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي هي في الشطر الأسفل منها الفخذ ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها. قال : وتقدمت اليسرى ؛ لأن الشهوة في ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها ؛ فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى لقلة شهوتها.
قلت : أو بالعكس لغلبة الشهوة ، أو كلاهما معا والكف ؛ فإن بمجموع ذلك يكون تمام الشهوة واللذة. والله أعلم.
قوله تعالى : {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ } حكى الكسائي : طمَس يطمِس ويطمُس. والمطموس والطميس عند أهل اللغة الأعمى الذي ليس في عينيه شق. قال ابن عباس : المعنى لأعميناهم عن الهدى ، فلا يهتدون أبدا إلى طريق الحق. وقال الحسن والسدي : المعنى لتركناهم عميا يترددون. فالمعنى لأعميناهم فلا يبصرون طريقا إلى تصرفهم في منازلهم ولا غيرها. وهذا اختيار الطبري. وقوله {فاستبقوا الصراط} أي استبقوا الطريق ليجوزوا {فأنى يبصرون} أي فمن أين يبصرون. وقال عطاء ومقاتل وقتادة وروي عن ابن عباس : ولو نشاء لفقأنا
أعين ضلالتهم ، وأعميناهم عن غيهم ، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى ؛ فاهتدوا وأبصروا رشدهم ، وتبادروا إلى طريق الآخرة. ثم قال : {فأنى يبصرون} ولم نفعل ذلك بهم ؛ أي فكيف يهتدون وعين الهدى مطموسة ، على الضلال باقية. وقد روي عن عبدالله بن سلام في تأويل هذه الآية غير ما تقدم ، وتأولها على أنها في يوم القيامة. وقال : إذا كان يوم القيامة ومد الصراط. ، نادى مناد ليقم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ؛ فيقومون برهم وفاجرهم يتبعونه ليجوزوا الصراط ، فإذا صاروا عليه طمس الله أعين فجارهم ، فاستبقوا الصراط فمن أين يبصرونه حتى يجاوزوه. ثم ينادي مناد ليقم عيسى وأمته ؛ فيقوم فيتبعونه برهم وفاجرهم فيكون سبيلهم تلك السبيل ، وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام. ذكره النحاس وقد كتبناه في التذكرة بمعناه حسب ما ذكره ابن المبارك في رقائقه. وذكره القشيري. وقال ابن عباس رضي الله عنه : أخذ الأسود بن الأسود حجرا ومعه جماعة من بني مخزوم ليطرحه على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فطمس الله على بصره ، وألصق الحجر بيده ، فما أبصره ولا اهتدى ، ونزلت الآية فيه. والمطموس هو الذي لا يكون بين جفنيه شق ، مأخوذ من طمس الريح الأثر ؛ قاله الأخفش والقتبي.
قوله تعالى : {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ } المسخ : تبديل الخلقة وقلبها حجرا أو جمادا أو بهيمة. قال الحسن : أي لأقعدناهم فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم. وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر. وقد يكون المسخ تبديل صورة الإنسان بهيمة ، ثم تلك البهيمة لا تعقل موضعا تقصده فتتحير ، فلا تقبل ولا تدبر. ابن عباس رضي الله عنه : المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم. وقيل : المعنى لو نشاء لمسخناهم في المكان الذي اجترؤوا فيه على المعصية. ابن سلام : هذا كله يوم القيامة يطمس الله تعالى أعينهم على الصراط. وقرأ الحسن والسلمي وزر بن حبيش وعاصم في رواية أبي بكر : {مكاناتهم} على الجمع ، الباقون بالتوحيد. وقرأ أبو حيوة : {فما استطاعوا مضيا} بفتح الميم. والمضى بضم الميم مصدر يمضى مضيا إذا ذهب.
قوله تعالى : {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} قرأ عاصم وحمزة {ننكسه} بضم النون الأولى وتشديد الكاف من التنكيس. الباقون {نَنْكُسه} بفتح النون الأولى وضم الكاف من نكست الشيء أنكسه نكسا قلبته على رأسه فانتكس. قال قتادة : المعنى أنه يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا. وقال سفيان في قوله تعالى : {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} إذا بلغ ثمانين سنة تغير جسمه وضعفت قوته. قال الشاعر :
من عاش أخلقت الأيام جدته ... وخانه ثقتاه السمع والبصر
فطول العمر يصير الشباب هرما ، والقوة ضعفا ، والزيادة نقصا ، وهذا هو الغالب. وقد تعوذ صلى الله عليه وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر. وقد مضى في "النحل" بيانه. {أفلا يعقلون} أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم. وقرأ نافع وابن ذكوان : {تعقلون} بالتاء. الباقون بالياء "."
الآية : 69 {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ }
قوله تعالى : {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أخبر تعالى عن حال نبيه صلى الله عليه وسلم ، ورد قول من قال من الكفار إنه شاعر ، وإن القرآن شعر ، بقوله : {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } وكذلك كان رسول الله صلى عليه وسلم لا يقول الشعر ولا يزنه ، وكان إذا حاول إنشاد ببت قديم متمثلا كسر وزنه ، وإنما كان يحرز المعاني فقط صلى الله عليه وسلم. من ذلك أنه أنشد يوما قول طرفة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك من لم تزوده بالأخبار
وأنشد يوما وقد قيل له من أشعر الناس فقال الذي يقول :
ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها وإن لم تطب طيبا
وأنشد يوما :
أتجعل نهبي ونهب العبـ ... ـيد بين الأقرع وعيينة
وقد كان عليه السلام ربما أنشد البيت المستقيم في النادر. روي أنه أنشد بيت عبدالله بن رواحة :
ببيت يجافي جنبة عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وقال الحسن بن أبي الحسن : أنشد النبي عليه السلام :
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا
فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله إنما قال الشاعر :
هريرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال أبو بكر أو عمر : أشهد أنك رسول الله ، يقول الله عز وجل : {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } . وعن الخليل بن أحمد : كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام ، ولكن لا يتأتى له.
إصابته الوزن أحيانا لا يوجب أنه يعلم الشعر ، وكذلك ما يأتي أحيانا من نثر كلامه ما يدخل في ورن ، كقول يوم حنين وغيره :
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وقوله :
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبدالمطلب
فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن ، وفي كل كلام ؛ وليس ذلك شعرا ولا في معناه ؛ كقوله تعالى : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران : 92] ، وقوله : {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } [الصف : 13] ، وقوله : {جِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } [سبأ : 13] إلى غير ذلك من الآيات. وقد ذكر ابن العربي منها آيات وتكلم عليها وأخرجها عن الوزن ، على أن أبا الحسن الأخفش قال في قوله : "أنا النبي لا كذب" ليس بشعر. وقال الخليل في كتاب العين : إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعرا. وروي عنه أنه من منهوك
الرجز. وقد قيل : لا يكون من منهوك الرجز إلا بالوقف على الباء من قوله : "لا كذب" ، ومن قوله : "عبدالمطلب" . ولم يعلم كيف قاله النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن العربي : والأظهر من حال أنه قال : "لا كذب" الباء مرفوعة ، ويخفض الباء من عبد المطلب على الإضافة. وقال النحاس قال بعضهم : إنما الرواية بالإعراب ، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعرا ؛ لأنه إذا فتح الباء من البيت الأول أو ضمها أو نونها ، وكسر الباء من البيت الثاني خرج عن وزن الشعر. وقال بعضهم : ليس هذا الوزن من الشعر. وهذا مكابرة العيان ؛ لأن أشعار العرب على هذا قد رواها الخليل وغيره. وأما قوله : "هل أنت إلا إصبع دميت" فقيل إنه من بحر السريع ، وذلك لا بكون إلا إذا كسرت التاء من دميت ، فإن سكن لا يكون شعرا بحال ؛ لأن هاتين الكلمتين على هذه الصفة تكون فعول ، ولا مدخل لفعول في بحر السريع. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قالها ساكنة التاء أو متحركة التاء من غير إشباع. والمعول عليه في الانفصال على تسليم أن هذا شعر ، ويسقط الاعتراض ، ولا يلزم منه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عالما بالشعر ولا شاعر - أن التمثل بالبيت النزر وإصابة القافيتين من الرجز وغيره ، لا يوجب أن يكون قائلها عالما بالشعر ، ولا يسمى شاعرا باتفاق العلماء ، كما أن من خاط خيطا لا يكون خياطا. قال أبو إسحاق الزجاج : معنى : {وما علمناه الشعر} وما علمناه أن يشعر أي ما جعلناه شاعرا ، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئا من الشعر. قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في هذا. وقد قيل : إنما خبر الله عز وجل أنه ما علمه الله الشعر ولم يخبر أنه لا ينشد شعرا ، وهذا ظاهر الكلام. وقيل فيه قول بين ؛ زعم صاحبه أنه إجماع من أهل اللغة ، وذلك أنهم قالوا : كل من قال قولا موزونا لا يقصد به إلى شعر فليس بشعر وإنما وافق الشعر. وهذا قول بين. قالوا : وإنما الذي نفاه الله عن نبيه عليه السلام فهو العلم بالشعر وأصنافه ، وأعاريضه وقوافيه والاتصاف بقوله ، ولم يكن موصوفا بذلك بالاتفاق. ألا ترى أن قريشا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه إذا قدموا عليهم الموسم ، فقال بعضهم : نقول إنه شاعر. فقال أهل الفطنة منهم : والله لتكذبنكم
العرب ، فإنهم يعرفون أصناف الشعر ، فوالله ما يشبه شيئا منها ، وما قوله بشعر. وقال أنيس أخو أبي ذر : لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم أنه شعر. أخرجه مسلم ، وكان أنيس من أشعر العرب. وكذلك عتبة بن أبي ربيعة لما كلمه : والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ؛ على ما يأتي بيانه من خبره في سورة [فصلت] إن شاء الله تعالى. وكذلك قال غيرهما من فصحاء العرب العرباء ، واللسن البلغاء. ثم إن ما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يعد شعرا ، وإنما يعد منه ما يجري على وزن الشعر مع القصد إليه ؛ فقد يقول القائل : حدثنا شيخ لنا وينادي يا صاحب الكسائي ، ولا يعد هذا شعرا. وقد كان رجل ينادي في مرضه وهو من عرض العامة العقلاء : اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى.
الثالثة : روى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشعر فقال : لا تكثرن منه ؛ فمن عيبه أن الله يقول : {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } قال : ولقد بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري : أن أجمع الشعراء قِبلك ؛ وسلهم عن الشعر ، وهل بقي معهم معرفة ؛ وأحضر لبيدا ذلك ؛ قال : فجمعهم فسألهم فقالوا إنا لنعرفه ونقوله. وسأل لبيدا فقال : ما قلت شعرا منذ سمعت الله عز وجل يقول : {الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } [البقرة : 1] قال ابن العربي : هذه الآية ليست من عيب الشعر ؛ كما لم يكن قوله : {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [العنكبوت : 48] من عيب الكتابة ، فلما لم تكن الأمية من عيب الخط ، كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي صلى الله عليه وسلم من عيب الشعر. روي أن المأمون قال لأبي علي المنقري : بلغني أنك أمي ، وأنك لا تقيم الشعر ، وأنك تلحن. فقال : يا أمير المؤمنين ، أما اللحن فربما سبق لساني منه بشيء ، وأما الأمية وكسر الشعر فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقيم الشعر. فقال له : سألتك عن ثلاثة عيوب فيك فزدتني رابعا وهو الجهل ، يا جاهل! إن ذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم فضيلة ، وهو فيك وفي أمثالك نقيصة ، وإنما منع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لنفي الظنة عنه ، لا لعيب في الشعر والكتابة.
الرابعة- قوله تعالى : {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أي وما ينبغي له أن يقول. وجعل الله جل وعز ذلك علما من أعلام نبيه عليه السلام لئلا تدخل الشبهة على من أرسل إليه ؛ فيظن أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر. ولا اعتراض لملحد على هذا بما يتفق الوزن فيه من القرآن وكلام الرسول ؛ لأن ما وافق وزنه وزن الشعر ، ولم يقصد به إلى الشعر ليس بشعر ؛ ولو كان شعرا لكان كل من نطق بموزون من العامة الذين لا يعرفون الوزن شاعرا ؛ على ما تقدم بيانه. وقال الزجاج : معنى {وما ينبغي له} أي ما يتسهل له قول الشعر إلا الإنشاء. {إن هو} أي هذا الذي يتلوه عليكم {إلا ذكر وقرآن مبين}
قوله تعالى : {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً } أي حي القلب ؛ قال قتادة. الضحاك : عاقلا وقيل : المعنى لتنذر من كان مؤمنا في علم الله. هذا على قراءة التاء خطابا للنبي عليه السلام ، وهي قراءة نافع وابن عامر. وقرأ الباقون بالياء على معنى لينذر الله عز وجل ؛ أو لينذر محمد صلى الله عليه وسلم ، أو لينذر القرآن. وروي عن ابن السميقع {لينذر} بفتح الياء والذال. {ويحق القول على الكافرين} أي وتجب الحجة بالقرآن على الكفرة.
الآية : 71 - 73 {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ، وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ، وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ }
قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ } هذه رؤية القلب ؛ أي أو لم ينظروا ويعتبروا ويتفكروا. {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة. و {ما} بمعنى الذي وحذفت الهاء لطول الاسم. وإن جعلت {ما} مصدرية لم تحتج إلى إضمار الهاء. {أنعاما} جمع نعم والنعم مذكر. {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } ضابطون قاهرون. {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ } أي سخرناها لهم حتى يقود الصبي الجمل العظيم ويضربه ويصرفه كيف شاء لا يخرج من طاعته. {فمنها ركوبهم} قراءة العامة بفتح الراء ؛ أي مركوبهم ، كما يقال : ناقة
حلوب أي محلوب. وقرأ الأعمش والحسن وابن السميقع : {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } بضم الراء على المصدر. وروى عن عائشة أنها قرأت : {فمنها ركوبتهم} وكذا في مصحفها. والركوب والركوبة واحد ، مثل الحلوب والحلوبة ، والحمول والحمولة. وحكى النحويون الكوفيون : أن العرب تقول : امرأة صبور وشكور بغير هاء. ويقولون : شاة حلوبة وناقة ركوبة ؛ لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان له الفعل وبين ما كان الفعل واقعا عليه ، فحذفوا الهاء مما كان فاعلا وأثبتوها فيما كان مفعولا ؛ كما قال :
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم
فيجب أن يكون على هذا ركوبتهم. فأما البصريون فيقولون : حذفت الهاء على النسب. والحجة للقول الأول ما رواه الجرمي عن أبي عبيدة قال : الركوبة تكون للواحد والجماعة ، والركوب لا يكون إلا للجماعة. فعلى هذا يكون لتذكير الجمع. وزعم أبو حاتم : أنه لا يجوز {فمنها ركوبهم} بضم الراء لأنه مصدر ؛ والركوب ما يركب. وأجاز الفراء {فمنها ركوبهم} بضم الراء ، كما تقول فمنها أكلهم ومنها شربهم. {ومنها يأكلون} من لحمانها {ولهم فيها منافع} من أصوافها وأوبارها وأشعارها وشحومها ولحومها وغير ذلك. {ومشارب} يعني ألبانها ؛ ولم ينصرفا لأنهما من الجموع التي لا نظير لها في الواحد. {أَفَلا يَشْكُرُونَ } الله على نعمه.
الآية : 74 {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ، لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ، فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }
قوله تعالى : {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً } أي قد رأوا هذه الآيات من قدوتنا ، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل. {لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ } أي لما يرجون من نصرتها



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #597  
قديم 10-07-2025, 12:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ الصافات
من صــ 57 الى صــ 66
الحلقة (597)






لهم إن نزل بهم عذاب. ومن العرب من يقول : لعله أن يفعل. {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } يعني الآلهة. وجمعوا بالواو والنون ؛ لأنه أخبر عنهم بخبر الآدميين. {وهم} يعني الكفار {لهم} أي للآلهة {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ } قال الحسن : يمنعون منهم ويدفعون عنهم. وقال قتادة : أي يغضبون لهم في الدنيا. وقيل : المعنى أنهم يعبدون الآلهة ويقومون بها ؛ فهم لها بمنزلة الجند وهي لا تستطيع أن تنصرهم. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وقيل : إن الآلهة جند للعابدين محضرون معهم في النار. فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل : معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم ؛ لأنهم يلعنونهم ويتبرؤون من عبادتهم. وقيل : الآلهة جند لهم محضرون يوم القيامة لإعانتهم في ظنونهم. وفي الخبر : "إنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله فيتبعونه إلى النار ؛ فهم لهم جند محضرون"
قلت : ومعنى هذا الخبر ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ، وفي الترمذي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون..." وذكر الحديث بطوله.
قوله تعالى : {فلا يحزنك قولهم} هذه اللغة الفصيحة. ومن العرب من يقول يحزنك. والمراد تسلية نبيه عليه السلام ؛ أي لا يحزنك قولهم شاعر ساحر. وتم الكلام. ثم استأنف فقال : {إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون} من القول والعمل وما يظهرون فنجازيهم بذلك.
الآية : 77 {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ }
قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ } قال ابن عباس : الإنسان هو عبدالله بن أبي. وقال سعيد بن جبير : هو العاص بن وائل السهمي. وقال الحسن : هو أبي بن خلف الجمحي.
وقاله ابن إسحاق ، ورواه ابن وهب عن مالك. {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ } وهو اليسير من الماء ؛ نطف إذا قطر. {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } أي مجادل في الخصومة مبين للحجة. يريد بذلك أنه صار به بعد أن لم يكن شيئا مذكورا خصيما مبينا. وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل فقال : يا محمد أترى أن الله يحيي هذا بعد ما رم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "نعم ويبعثك الله ويدخلك النار" فنزلت هذه الآية.
الآية : 78 {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }
قوله تعالى : {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ }
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ } أي ونسي أنا أنشأناه من نطفة ميتة فركبنا فيه الحياة. أي جوابه من نفسه حاضر ؛ ولهذا قال عليه السلام : "نعم ويبعثك الله ويدخلك النار" ففي هذا دليل على صحة القياس ؛ لأن الله جل وعز احتج على منكري البعث بالنشأة الأولى. {قال من يحي العظام وهي رميم} أي بالية. رم العظم فهو رميم ورمام. وإنما قال رميم ولم يقل رميمة ؛ لأنها معدولة عن فاعلة ، وما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن إعرابه ؛ كقول : {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [مريم : 28] أسقط الهاء ؛ لأنها مصروفة عن باغية. {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } قيل : إن هذا الكافر قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن سحقتها وأذريتها في الريح أيعيدها الله! فنزلت : {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي من غير شيء فهو قادر على إعادتها في النشأة الثانية من شيء وهو عجم الذنب. ويقال عجب الذنب بالباء. {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } عليم كيف يبدئ ويعيد
الثانية- في هذه الآية دليل على أن في العظام حياة وأنها تنجس بالموت. وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي. وقال الشافعي رضي الله عنه : لا حياة فيها. وقد تقدم هذا في "النحل" . فإن قيل : أراد بقوله {من يحي العظام} أصحاب العظام وإقامة المضاف مقام المضاف إليه كثير في اللغة ، موجود في الشريعة. قلنا : إنما يكون إذ احتيج لضرورة وليس ها هنا ضرورة تدعو إلى هذا الإضمار ، ولا يفتقر إلى هذا التقدير ، إذا الباري سبحانه قد أخبر به وهو قادر عليه والحقيقة تشهد له ؛ فإن الإحساس الذي هو علامة الحياة موجود فيه ؛ قاله ابن العربي.
الآية : 80 {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
قوله تعالى : {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً } نبه تعالى على وحدانيته ، ودل على كمال قدرته في إحياء الموتى بما يشاهدونه من إخراج المحرق اليابس من العود الندي الرطب. وذلك أن الكافر قال : النطفة حارة رطبة بطبع حياة فخرج منها الحياة ، والعظم بارد يابس بطبع الموت فكيف تخرج منه الحياة! فأنزل الله تعالى : {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً } أي إن الشجر الأخضر من الماء والماء بارد رطب ضد النار وهما لا يجتمعان ، فأخرج الله منه النار ؛ فهو القادر على إخراج الضد من الضد ، وهو على كل شيء قدير. معني بالآية
ما في المرخ والعفار ، وهي زنادة العرب ؛ ومنه قولهم : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار ؛ فالعفار الزند وهو الأعلى ، والمرخ الزندة وهي الأسفل ؛ يؤخذ منهما غصنان مثل المسواكين يقطران ماء فيحك بعضهما إلى بعض فتخرج منهما النار. وقال : {من الشجر الأخضر} ولم يقل الخضراء وهو جمع ، لأن رده إلى اللفظ. ومن العرب من يقول : الشجر الخضراء ؛ كما قال عز وجل : {مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } [الواقعة : 52] . ثم قال تعالى محتجا : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } أي أمثال المنكرين للبعث. وقرأ سلام أبو المنذر ويعقوب الحضرمي : { يقدر على أن يخلق مثلهم} على أنه فعل. {بلى} أي إن خلق السموات والأرض أعظم من خلقهم ؛ فالذي خلق السموات والأرض يقدر على أن يبعثهم. {وهو الخلاق العليم} وقرأ الحسن باختلاف عنه {الخالق} .
قوله تعالى : {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } قرأ الكسائي {فيكون} بالنصب عطفا على {يقول} أي إذا أراد خلق شيء لا يحتاج إلى تعب ومعالجة. وقد مضى هذا في غير موضع. {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء} نزه نفسه تعالى عن العجز والشرك. وملكوت وملكوتي في كلام العرب بمعنى ملك. والعرب تقول : جبروتي خير من رحموتي. وقال سعيد عن قتادة : {ملكوت كل شيء} مفاتح كل شيء. وقرأ طلحة بن مصرف وإبراهيم التيمي والأعمش {ملكة} ، وهو بمعنى ملكوت إلا أنه خلاف المصحف. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي تردون وتصيرون بعد مماتكم. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب. وقرأ السلمي وزر بن حبيش وأصحاب عبدالله {يرجعون} بالياء على الخبر.
تفسير سورة الصافات
مكية في قول الجميع
بسم الله الرحمن الرحيم

الآية : 1 {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً ، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً ، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ، إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ }
قوله تعالى : {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً ، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً ، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً } هذه قراءة أكثر القراء. وقرأ حمزة بالإدغام فيهن. وهذه القراءة التي نفر منها أحمد بن حنبل لما سمعها. النحاس : وهي بعيدة في العربية من ثلاث جهات : إحداهن : أن التاء ليست من مخرج الصاد ، ولا من مخرج الزاي ، ولا من مخرج الذال ، ولا من أخواتهن ، وإنما أختاها الطاء والدال ، وأخت الزاي الصاد والسين ، وأخت الذال الظاء والثاء. والجهة الثانية : أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى. والجهة الثالثة : أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين ، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة ؛ نحو دابة وشابة. ومجاز قراءة حمزة أن التاء قريبة المخرج من هذه الحروف. {والصافات} قسم ؛ الواو بدل من الباء. والمعنى برب الصافات و {الزاجرات} عطف عليه. {إن إلهكم لواحد} جواب القسم. وأجاز الكسائي فتح إن في القسم. والمراد بـ {الصافات} وما بعدها إلى قوله : {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} الملائكة في قول ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. تصف في السماء كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة. وقيل : تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد. وهذا كما تقوم العبيد بين أيدي ملوكهم صفوفا. وقال الحسن : {صَفّاً } لصفوفهم عند ربهم في صلاتهم. وقيل : هي الطير ؛ دليله قوله
تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ } [الملك : 19] . والصف ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة. {وَالصَّافَّاتِ } جمع الجمع ؛ يقال : جماعة صافة ثم يجمع صافات. وقيل : الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفا في الصلاة أو في الجهاد ؛ ذكره القشيري. {فَالزَّاجِرَاتِ } الملائكة في قول ابن عباس وابن مسعود ومسروق وغيرهم على ما ذكرناه إما لأنها تزجر السحاب وتسوقه في قول السدي. وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ والنصائح. وقال قتادة : هي زواجر القرآن. {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً } الملائكة تقرأ كتاب الله تعالى ؛ قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وابن جبير والسدي. وقيل : المراد جبريل وحده فذكر بلفظ الجمع ؛ لأنه كبير الملائكة فلا يخلو من جنود وأتباع. وقال قتادة : المراد كل من تلا ذكر الله تعالى وكتبه. وقيل : هي آيات القرآن وصفها بالتلاوة كما قال تعالى : {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ } [النمل : 76] . ويجوز أن يقال لآيات القرآن تاليات ؛ لأن بعض الحروف يتبع بعضا ؛ ذكره القشيري. وذكر الماوردي : أن المراد بالتاليات الأنبياء يتلون الذكر على أممهم. فإن قيل : ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات ؟ قيل له : إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود ؛ كقوله :
يا لهف زيابة للحارث الصـ ... ـابح فالغانم فالآيب
كأنه قال : الذي صبح فغنم فآب. وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك : خذ الأفضل فالأكمل ، واعمل الأحسن فالأجمل. وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله : رحم الله المحلقين فالمقصرين. فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات ؛ قاله الزمخشري. {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } جواب القسم. قال مقاتل : وذلك أن الكفار بمكة قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا ، وكيف يسع هذا الخلق فرد إله! فأقسم الله بهؤلاء تشريفا.
ونزلت الآية. قال ابن الأنباري : وهو وقف حسن ، ثم تبتدئ {رب السماوات والأرض} على معنى هو رب السموات. النحاس : ويجوز أن يكون {رب السموات والأرض} خبرا بعد خبر ، ويجوز أن يكون بدلا من {واحد} .
قلت : وعلى هذين الوجهين لا يوقف على {لَوَاحِدٌ} . وحكى الأخفش : {رب السموات - ورب المشارق} بالنصب على النعت لاسم إن. بين سبحانه معنى وحدانيته وألوهيته وكمال قدرته بأنه {رب السموات والأرض} أي خالقهما ومالكهما {وما بينهما ورب المشارق} أي مالك مطالع الشمس. ابن عباس : للشمس كل يوم مشرق ومغرب ؛ وذلك أن الله تعالى خلق للشمس ثلاثمائة وخمسة وستين كوة في مطلعها ، ومثلها في مغربها على عدد أيام السنة الشمسية ، تطلع في كل يوم في كوة منها ، وتغيب في كوة ، لا تطلع في تلك الكوة إلا في ذلك اليوم من العام المقبل. ولا تطلع إلا وهي كارهة فتقول : رب لا تطلعني على عبادك فإني أراهم يعصونك. ذكره أبو عمر في كتاب التمهيد ، وابن الأنباري في كتاب الرد عن عكرمة ؛ قال : قلت لابن عباس أرأيت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمية بن أبي الصلت : "آمن شعره وكفر قلبه" قال : هو حق فما أنكرتم من ذلك ؟ قلت : أنكرنا قوله :
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء يصبح لونها يتورد
ليست بطالعة لهم في رسلها ... إلا معذبة وإلا تجلد
ما بال الشمس تجلد ؟ فقال : والذي نفسي بيده ما طلعت شمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك ، فيقولون لها اطلعي اطلعي ، فتقول لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله ، فيأتيها ملك فيستقل لضياء بني آدم ، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع بين قرنيه فيحرقه الله تعالى تحتها ، فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما طلعت إلا بين قرني شيطان ولا غربت إلا بين قرني شيطان وما غربت قط إلا خرت لله ساجدة فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن السجود فتغرب بين قرنيه فيحرقه الله تعالى تحتها" لفظ ابن الأنباري. وذكر
عن عكرمة عن ابن عباس قال : صدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم أمية بن أبي الصلت في هذا الشعر :
زحل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء يصبح لونها يتورد
ليست بطالعة لهم في رسلها ... إلا معذبة وإلا تجلد
قال عكرمة : فقلت لابن عباس : يا مولاي أتجلد الشمس ؟ فقال : إنما اضطره الروي إلى الجلد لكنها تخاف العقاب. ودل بذكر المطالع على المغارب ؛ فلهذا لم يذكر المغارب ، وهو كقوله : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [النحل : 81] . وخص المشارق بالذكر ؛ لأن الشروق قبل الغروب. وقال في سورة [الرحمن] {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } [الرحمن : 17] أراد بالمشرقين أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال ، وأقصر يوم في الأيام القصار على ما تقدم في "يس" والله أعلم.
الآية : 6 {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ، وحفظا من كل شيطان مارد ، لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب ، دحورا ولهم عذاب واصب ، إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب}
قوله تعالى : {إنا إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } قال قتادة : خلقت النجوم ثلاثا ؛ رجوما للشياطين ، ونورا يهتدى بها ، وزينة لسماء الدنيا. وقرأ مسروق والأعمش والنخعي وعاصم وحمزة : {بِزِينَةٍ} مخفوض منون {الْكَوَاكِبِ } خفض على البدل من {زينة} لأنها هي. وقرأ أبو بكر كذلك إلا أنه نصب {الكواكب} بالمصدر الذي هو زينة. والمعنى بأن زينا الكواكب فيها. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعنى ؛ كأنه قال : وإنا زيناها {بزينة} أعني {الكواكب} . وقيل : هي بدل من زينة على الموضع
ويجوز {بزينة الكواكب} بمعنى أن زينتها الكواكب. أو بمعنى هي الكواكب. الباقون {بزينة الكواكب} على الإضافة. والمعنى زينا السماء الدنيا بتزيين الكواكب ؛ أي بحسن الكواكب. ويجوز أن يكون كقراءة من نون إلا أنه حذف التنوين استخفافا. {وحفظا} مصدر أي حفظناها حفظا. {من كل شيطان مارد} لما أخبر أن الملائكة تنزل بالوحي من السماء ، بين أنه حرس السماء عن استراق السمع بعد أن زينها بالكواكب. والمارد : العاتي من الجن والإنس ، والعرب تسميه شيطانا.
قوله تعالى : {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى} قال أبو حاتم : أي لئلا يسمعوا ثم حذف "أن" فرفع الفعل. الملأ الأعلى : أهل السماء الدنيا فما فوقها ، وسمي الكل منهم أعلى بالإضافة إلى ملأ الأرض. الضمير في {يسمعون} للشياطين. وقرأ جمهور الناس {يسمعون} بسكون السين وتخفيف الميم. وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص {لا يسمعون} بتشديد السين والميم من التسميع. فينتفي على القراءة الأولى سماعهم وإن كانوا يستمعون ، وهو المعنى الصحيح ، ويعضده قوله تعالى : {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء : 212] . وينتفي على القراءة الأخيرة أن يقع منهم استماع أو سماع. قال مجاهد : كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون. وروي عن ابن عباس {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى } قال : هم لا يسمعون ولا يتسمعون. وأصل {يسمعون} يتسمعون فأدغمت التاء في السين لقربها منها. واختارها أبو عبيد ؛ لأن العرب لا تكاد تقول : سمعت إليه وتقول تسمعت إليه. {ويقذفون من كل جانب} أي يرمون من كل جانب ؛ أي بالشهب. {دحورا} مصدر لأن معنى {يقذفون} يدحرون. دحرته دحرا ودحورا أي طردته. وقرأ السلمي ويعقوب الحضرمي {دحورا} بفتح الدال يكون مصدرا على فعول. وأما الفراء فإنه قدره على أنه اسم الفاعل. أي ويقذفون بما يدحرهم أي بدحور ثم حذف الباء ؛ والكوفيون يستعملون هذا كثيرا كما أنشدوا :
تمرون الديار ولم تعرجوا
واختلف هل كان هذا القذف قبل المبعث ، أو بعده لأجل المبعث ؛ على قولين. وجاءت الأحاديث بذلك على ما يأتي من ذكرها في سورة [الجن] عن ابن عباس. وقد يمكن الجمع بينهما أن يقال : إن الذين قالوا لم تكن الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم رميت ؛ أي لم تكن ترمى رميا يقطعها عن السمع ، ولكنها كانت ترمى وقتا ولا ترمى وقتا ، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب. ولعل الإشارة بقوله تعالى : {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} إلى هذا المعنى ، وهو أنهم كانوا لا يقذفون إلا من بعض الجوانب فصاروا يرمون واصبا. وإنما كانوا من قبل كالمتجسسة من الإنس ، يبلغ الواحد منهم حاجته ولا يبلغها غيره ، ويَسلَم واحد ولا يَسلَم غيره ، بل يقبض عليه ويعاقب وينكل. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد في حفظ السماء ، وأعدت لهم شهب لم تكن من قبل ؛ ليدحروا عن جميع جوانب السماء ، ولا يقروا في مقعد من المقاعد التي كانت لهم منها ؛ فصاروا لا يقدرون على سماع شيء مما يجري فيها ، إلا أن يختطف أحد منهم بخفة حركته خطفة ، فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل إلى الأرض فيلقيها إلى إخوانه فيحرقه ؛ فبطلت من ذلك الكهانة وحصلت الرسالة والنبوة. فإن قيل : إن هذا القذف إن كان لأجل النبوة فلم دام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فالجواب : أنه دام بدوام النبوة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ببطلان الكهانة فقال : "ليس منا من تكهن" فلو لم تحرس بعد موته لعادت الجن إلى تسمعها ؛ وعادت الكهانة. ولا يجوز ذلك بعد أن بطل ، ولأن قطع الحراسة عن السماء إذا وقع لأجل النبوة فعادت الكهانة دخلت الشبهة على ضعفاء المسلمين ، ولم يؤمن أن يظنوا أن الكهانة إنما عادت لتناهي النبوة ، فصح أن الحكمة تقضي دوام الحراسة في حياة النبي عليه السلام ، وبعد أن توفاه الله إلى كرامته صلى الله عليه وعلى آله . {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ } أي دائم ، عن مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس : شديد. الكلبي والسدي وأبو صالح : موجع ؛ أي الذي يصل وجعه إلى القلب ؛ مأخوذ من الوصب وهو المرض.
قوله تعالى : {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ } استثناء من قوله : {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ } وقيل : الاستثناء يرجع إلى غير




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #598  
قديم 10-07-2025, 01:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ الصافات
من صــ 67 الى صــ 76
الحلقة (598)



الوحي ؛ لقوله تعالى : {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء : 212] فيسترق الواحد منهم شيئا مما يتفاوض فيه الملائكة ، مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض ؛ وهذا لخفة أجسام الشياطين فيرجمون بالشهب حينئذ. وروي في هذا الباب أحادث صحاح ، مضمنها : أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء ، فتقعد للسمع واحدا فوق واحد ، فيتقدم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه ثم الذي يليه ، فيقضي الله تعالى الأمر من أمر الأرض ، فيتحدث به أهل السماء فيسمعه منهم الشيطان الأدنى ، فيلقيه إلى الذي تحته فربما أحرقه شهاب ، وقد ألقى الكلام ، وربما لم يحرقه على ما بيناه. فتنزل تلك الكلمة إلى الكهان ، فيكذبون معها مائة كذبة ، وتصدق تلك الكلمة فيصدق الجاهلون الجميع كما بيناه في "الأنعام" . فلما جاء الله بالإسلام حرست السماء بشدة ، فلا يفلت شيطان سمع بَتّةً. والكواكب الراجمة هي التي يراها الناس تنقض. قال النقاش ومكي : وليست بالكواكب الجارية في السماء ؛ لأن تلك لا ترى حركتها ، وهذه الراجمة ترى حركتها ؛ لأنها قريبة منا. وقد مضى في هذا الباب في سورة [الحجر] من البيان ما فيه كفاية. وذكرنا في "سبأ" حديث أبي هريرة. وفيه : "والشياطين بعضهم فوق بعض" وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح. وفيه عن ابن عباس : "ويختطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يحرفونه ويزيدون" . قال هذا حديث حسن صحيح. والخطف : أخذ الشيء بسرعة ؛ يقال : خَطَفَ وخَطِف وخَطّف وخِطّف وخِطّف. والأصل في المشددات اختطف فأدغم التاء في الطاء لأنها أختها ، وفتحت الخاء ؛ لأن حركة التاء ألقيت عليها. ومن كسرها فلالتقاء الساكنين. ومن كسر الطاء أتبع الكسر الكسر.
قوله تعالى : {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } أي مضيء ؛ قاله الضحاك والحسن وغيرهما. وقيل : المراد كواكب النار تتبعهم حتى تسقطهم في البحر. وقال ابن عباس في الشهب : تحرقهم من غير موت. وليست الشهب التي يرجم الناس بها
من الكواكب الثوابت. يدل على ذلك رؤية حركاتها ، والثابتة تجري ولا ترى حركاتها لبعدها. وقد مضى هذا. وجمع شهاب شهب ، والقياس في القليل أشهبة وإن لم يُسمع من العرب و {ثاقب} معناه مضيء ؛ قاله الحسن ومجاهد وأبو مجلز. ومته قوله :
وزندك أثقب أزنادها
أي أضوأ. وحكى الأخفش في الجمع : شُهُبٌ ثُقُبٌ وثواقب وثقاب. وحكى الكسائي : ثقبت النار تثقب ثقابةً وثقوبا إذا اتقدت ، وأثقبتها أنا. وقال زيد بن أسلم في الثاقب : إنه المستوقد ؛ من قولهم : أثقب زندك أي استوقد نارك ؛ قال الأخفش. وأنشد قول الشاعر :
بينما المرء شهاب ثاقب ... ضرب الدهر سناه فخمد
الآية : 11 {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ، بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ، وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ، وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ، أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ، أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ }
قوله تعالى : {فَاسْتَفْتِهِمْ } أي سلهم يعني أهل مكة ؛ مأخوذ من استفتاء المفتي. {أهم أشد خلقا أم من خلقنا} قال مجاهد : أي من خلقنا من السموات والأرض والجبال والبحار. وقيل : يدخل فيه الملائكة ومن سلف من الأمم الماضية. يدل على ذلك أنه أخبر عنهم {بمن} قال سعيد بن جبير : الملائكة. وقال غيره : {من} الأمم الماضية وقد هلكوا وهم أشد خلقا منهم. نزلت في أبي الأشد بن كلدة ، وسمى بأبى الأشد لشدة بطشه وقوته. وسيأتي في "البلد" ذكره. ونظير هذه : {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } غافر : 57] وقوله : {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ } [النازعات : 27] . {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ } أي لاصق ؛ قال ابن عباس. ومنه قول علي رضي الله عنه :
تعلم فإن الله زادك بسطة ... وأخلاق خير كلها لك لازب
وقال قتادة وابن زيد : معنى {لازب} لازق. الماوردي : والفرق بين اللاصق واللازق أن اللاصق : هو الذي قد لصق بعضه ببعض ، واللازق : هو الذي يلتزق بما أصابه. وقال عكرمة : {لازب} لزج. سعيد بن جبير : أي جيد حر يلصق باليد. مجاهد : {لازب} لازم. والعرب تقول : طين لازب ولازم ، تبدل الباء من الميم. ومثله قولهم : لا تب ولازم. على إبدال الباء بالميم. واللازب الثابت ؛ تقول : صار الشيء ضربة لازب ، وهو أفصح من لازم. قال النابغة :
ولا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازب
وحكى الفراء عن العرب : طين لاتب بمعنى لازم. واللاتب الثابت ؛ تقول منه : لتب يلتب لتبا ولتوبا ، مثل لزب يزب بالضم لزوبا ؛ وأنشد أبو الجراح في اللاتب :
فإن يك هذا من نبيذ شربته ... فإني من شرب النبيذ لتائب
صداع وتوصيم العظام وفترة ... وغم مع الإشراق في الجوف لاتب
واللاتب أيضا : اللاصق مثل اللازب ، عن الأصمعي حكاه الجوهري. وقال السدي والكلبي في اللازب : إنه الخالص. مجاهد والضحاك : إنه المنتن.
قوله تعالى : {بَلْ عَجِبْتَ } قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم بفتح التاء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي بل عجبت مما نزل عليك من القرآن وهم يسخرون به. وهي قراءة شريح وأنكر قراءة الضم وقال : إن الله لا يعجب من شيء ، وإنما يعجب من لا يعلم. وقيل : المعنى بل عجبت من إنكارهم للبعث. وقرأ الكوفيون إلا عاصما بضم التاء. واختارها أبو عبيد والفراء ، وهي مروية عن علي وابن مسعود ؛ رواه شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ : {بل عجبت} بضم التاء. ويروى عن ابن عباس. قال الفراء في قوله سبحانه : {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } قرأها الناس بنصب
التاء ورفعها ، والرفع أحب إلي ؛ لأنها عن علي وعبدالله وابن عباس. وقال أبو زكريا القراء : العجب إن أسند إلى الله عز وجل فليس معناه من الله كمعناه من العباد ؛ وكذلك قوله : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } [البقرة : 15] ليس ذلك من الله كمعناه من العباد. وفي هذا بيان الكسر لقول شريح حيث أنكر القراءة بها. روى جرير والأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال : قرأها عبدالله يعني ابن مسعود {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ } قال شريح : إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم. قال الأعمش فذكرته لإبراهيم فقال : إن شريحا كان يعجبه رأيه ، إن عبدالله كان أعلم من شريح وكان يقرؤها عبدالله {بل عجبتُ} . قال الهروي : وقال بعض الأئمة : معنى قوله : {بَلْ عَجِبْتُ } بل جازيتهم على عجبهم ؛ لأن الله تعالى أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الحق ؛ فقال : {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم} [ص : 4] وقال : {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ، {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ } [يونس : 2] فقال تعالى : {بَلْ عَجِبْتُ } بل جازيتهم على التعجب.
قلت : وهذا تمام معنى قول الفراء واختاره البيهقي. وقال علي بن سليمان : معنى القراءتين واحد ، التقدير : قيل يا محمد بل عجبت ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بالقرآن. النحاس : وهذا قول حسن وإضمار القول كثير. البيهقي : والأول أصح. المهدوي : ويجوز أن يكون إخبار الله عن نفسه بالعجب محمولا على أنه أظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين ؛ كما يحمل إخباره تعالى عن نفسه بالضحك لمن يرضى عنه - على ما جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم - على أنه أظهر له من رضاه عنه ما يقوم له مقام الضحك من المخلوقين مجازا واتساعا. قال الهروي : ويقال معنى : "عجب ربكم" أي رضي وأثاب ؛ فسماه عجبا وليس بعجب في الحقيقة ؛ كما فال تعالى : {وَيَمْكُرُ اللَّهُ } [الأنفال : 30] معناه ويجازيهم الله على مكرهم ، ومثله في الحديث : "عجب ربكم من إلّكُم وقنوطكم" . وقد يكون العجب بمعنى وقوع ذلك العمل عند الله عظيما. فيكون معنى قوله : {بل عجبت} أي بل عظم فعلهم عندي. قال البيهقي : ويشبه أن يكون هذا معنى حديث عقبة بن عامر قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "عجب ربك من شاب ليست له صبوة" وكذلك ما خرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل" قال البيهقي : وقد يكون هذا الحديث وما ورد من أمثاله أنه يعجب ملائكته من كرمه ورأفته بعباده ، حين حملهم على الإيمان به بالقتال والأسر في السلاسل ، حتى إذا آمنوا أدخلهم الجنة. وقيل : معنى {بَلْ عَجِبْتُ } بل أنكرت. حكاه النقاش. وقال الحسين بن الفضل : التعجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه ، وهو لغة العرب. وقد جاء في الخبر : "عجب ربكم من إلّكُم وقنوطكم" .
قوله تعالى : {وَيَسْخَرُونَ } قيل : الواو واو الحال ؛ أي عجبت منهم في حال سخريتهم. وقيل : تم الكلام عند فوله : {بَلْ عَجِبْتُ } ثم استأنف فقال : {وَيَسْخَرُونَ } أي مما جئت به إذا تلوته عليهم. وقيل : يسخرون منك إذا دعوتهم. {وَإِذَا ذُكِّرُوا } أي وعظوا بالقرآن في قول قتادة : {لا يَذْكُرُونَ } لا ينتفعون به. وقال سعيد بن جبير : أي إذا ذكر لهم ما حل بالمكذبين من قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا . {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً } أي معجزة {يَسْتَسْخِرُونَ } أي يسخرون في قوله قتادة. ويقولون إنها سحر. واستسخر وسخر بمعنىً مثل استقر وقر ، واستعجب ، وعجب. وقيل : {يَسْتَسْخِرُونَ } أي يستدعون السخري من غيرهم. وقال مجاهد : يستهزئون. وقيل : أي يظنون أن تلك الآية سخرية. {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي إذا عجزوا عن مقابلة المعجزات بشيء قالوا هذا سحر وتخييل وخداع. {أئذا متنا} أي انبعث إذا متنا ؟ . فهو استفهام إنكار منهم وسخرية. {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ } أي أو تبعث آباؤنا دخلت ألف الاستفهام على حرف العطف. قرأ نافع : {أو آباؤنا} بسكون الواو. وقد مضى هذا في سورة "الأعراف" . في قوله تعالى : {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } [الأعراف : 98] .
الآية : 18 {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ، فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ، وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ، هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }
قوله تعالى : {قُلْ نَعَمْ } أي نعم تبعثون. {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ } أي صاغرون أذلاء ؛ لأنهم إذا رأوا وقوع ما أنكروه فلا محالة يذلون. وقيل : أي ستقوم القيامة وإن كرهتم ، فهذا أمر واقع على رغمكم وإن أنكرتموه اليوم بزعمكم. {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } أي صيحة واحدة ، قاله الحسن وهي النفخة الثانية. وسميت الصيحة زجرة ؛ لأن مقصودها الزجر أي يزجر بها كزجر الإبل والخيل عند السوق. {فإذا هم} قيام
قوله تعالى : {ينظرون} أي ينظر بعضهم إلى بعض. وقيل : المعنى ينتظرون ما يفعل بهم. وقيل : هي مثل قوله : {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الأنبياء : 97] . وقيل : أي ينظرون إلى البعث الذي أنكروه.
قوله تعالى : {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ } نادوا على أنفسهم بالويل ؛ لأنهم يومئذ يعلمون ما حل بهم. وهو منصوب على أنه مصدر عند البصريين. وزعم الفراء أن تقديره : ياوي لنا ، ووي بمعنى حزن. النحاس : ولو كان كما قال لكان منفصلا وهو في المصحف متصل ، ولا نعلم أحدا يكتبه إلا متصلا. و {يوم الدين} يوم الحساب. وقيل : يوم الجزاء. {هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون} قيل : هو من قول بعضهم لبعض ؛ أي هذا اليوم الذي كذبنا به. وقيل : هو قول الله تعالى لهم. وقيل : من قول الملائكة ؛ أي هذا يوم الحكم بين الناس فيبين المحق من المبطل. فـ { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } [الشورى : 7] .
الآية : 22 احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ، مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ ، مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ،
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ، قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ، قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ، وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ ، فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ، فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ، فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ، إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ، إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ
قوله تعالى : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } هو من قول الله تعالى للملائكة : {احْشُرُوا ا} المشركين {وَأَزْوَاجَهُمْ } أي أشياعهم في الشرك ، والشرك الظلم ؛ قال الله تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان : 13] فيحشر الكافر مع الكافر ؛ قاله قتادة وأبو العالية. وقال عمر بن الخطاب في قول الله عز وجل : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } قال : الزاني مع الزاني ، وشارب الخمر مع شارب الخمر ، وصاحب السرقة مع صاحب السرقة. وقال ابن عباس : {وَأَزْوَاجَهُمْ } أي أشباههم. وهذا يرجع إلى قول عمر. وقيل : {وَأَزْوَاجَهُمْ} نساؤهم الموافقات على الكفر ؛ قاله مجاهد والحسن ، ورواه النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب. وقال الضحاك : {وأزواجهم} قرناءهم من الشياطين. وهذا قول مقاتل أيضا : يحشر كل كافر مع شيطانه في سلسلة. {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ، مِنْ دُونِ اللَّهِ } من الأصنام والشياطين وإبليس. {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } أي سوقوهم إلى النار. وقيل : {فأهدوهم} أي دلوهم. يقال : هديته إلى الطريق ، وهديته الطريق ؛ أي دللته عليه. وأهديت الهدية وهديت العروس ، ويقال أهديتها ؛ أي جعلتها بمنزلة الهدية.
قوله تعالى : {وَقِفُوهُمْ } وحكى عيسى بن عمر {أنهم} بفتح الهمزة. قال الكسائي : أي لأنهم وبأنهم ، يقال : وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هي وقوفا ، يتعدى ولا يتعدى ؛ أي احسبوهم. وهذا يكون قبل السوق إلى الجحيم ؛ وفيه تقديم وتأخير ،
أي قفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار. وقيل : يساقون إلى النار أولا ثم يحشرون للسؤال إذا قربوا من النار. {إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ } عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم ؛ قال القرظي والكلبي. الضحاك : عن خطاياهم. ابن عباس : عن لا إله إلا الله. وعنه أيضا : عن ظلم الخلق. وفي هذا كله دليل على أن الكافر يحاسب. وقد مضى في "الحجر" الكلام فيه. وقيل : سؤالهم أن يقال لهم : {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [الأنعام : 130] إقامة للحجة. ويقال لهم : {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ } على جهة التقريع والتوبيخ ؛ أي ينصر بعضكم بعضا فيمنعه من عذاب الله. وقيل : هو إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر : {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ } [القمر : 44] . وأصله تتناصرون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا. وشدد البزي التاء في الوصل.
قوله تعالى : {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } قال قتادة : مستسلمون في عذاب الله عز وجل. ابن عباس : خاضعون ذليلون. الحسن : منقادون. الأخفش : ملقون بأيديهم. والمعنى متقارب. {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } يعني الرؤساء والأتباع {يَتَسَاءَلُونَ } يتخاصمون. ويقال لا يتساءلون فسقطت لا. النحاس : وإنما غلط الجاهل باللغة فتوهم أن هذا من قوله : {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [المؤمنون : 101] إنما هو لا يتساءلون بالأرحام ، فيقول أحدهم : أسألك بالرحم الذي بيني وبينك لما نفعتني ، أو أسقطت لي حقا لك علي ، أو وهبت لي حسنة. وهذا بين ؛ لأن قبله {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ } [المؤمنون : 101] . أي ليس ينتفعون بالأنساب التي بينهم ؛ كما جاء في الحديث : "إن الرجل ليسر بأن يصبح له على أبيه أو على ابنه حق فيأخذه منه لأنها الحسنات والسيئات" ، وفي حديث آخر : "رحم الله امرأ كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فأتاه فاستحله قبل أن يطالبه به فيأخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات زيد عليه من سيئات المطالب" . و {يتساءلون} ها هنا إنما هو أن يسأل بعضهم بعضا ويوبخه في أنه أضله أو فتح بابا من المعصية ؛ يبين ذلك أن بعده {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } قال مجاهد : هو قول الكفار للشياطين. قتادة : هو قول الإنس للجن. وقيل : هو من قول
الأتباع للمتبوعين ؛ دليله قوله تعالى : {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ } [ سبأ : 31] الآية. قال سعيد عن قتادة : أي تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها. وعن ابن عباس نحو منه. وقيل : تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك من جهة النصح. والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح. وقيل : {تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } تأتوننا مجيء من إذا حلف لنا صدقناه. وقيل : تأتوننا من قبل الدين فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها.
قلت : وهذا القول حسن جدا ؛ لأن من جهة الدين يكون الخير والشر ، واليمين بمعنى الدين ؛ أي كنتم تزينون لنا الضلالة. وقيل : اليمين بمعنى القوة ؛ أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر ؛ قال الله تعالى : {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ } [الصافات : 93] أي بالقوة وقوة الرجل في يمينه ؛ وقال الشاعر :
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة والقدرة. وهذا قول ابن عباس. وقال مجاهد : {تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } أي من قبل الحق أنه معكم ؛ وكله متقارب المعنى. {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } قال قتادة : هذا قول الشياطين لهم. وقيل : من قول الرؤساء ؛ أي لم تكونوا مؤمنين قط حتى ننقلكم منه إلى الكفر ، بل كنتم على الكفر فأقمتم عليه للألف والعادة. {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أي من حجة في ترك الحق {بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ } أي ضالين متجاوزين الحد. {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا } هو أيضا من قول المتبوعين ؛ أي وجب علينا وعليكم قول ربنا ، فكلنا ذائقون العذاب ، كما كتب الله وأخبر على ألسنة الرسل {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة : 13] . وهذا موافق للحديث : "إن الله جل وعز كتب للنار أهلا وللجنة أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم" . {فَأَغْوَيْنَاكُمْ } أي زينا لكم ما كنتم عليه من الكفر {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ } بالوسوسة والاستدعاء. ثم قال مخبرا عنهم : {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } الضال والمضل. {إِنَّا كَذَلِكَ } أي مثل هذا الفعل {فْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ } أي المشركين. {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } أي إذا قيل لهم قولوا فأضمر القول.
و {يَسْتَكْبِرُونَ } في موضع نصب على خبر كان. ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر إن ، وكان ملغاة. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب عند موته واجتماع قريش : "قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم" أبوا وأنفوا من ذلك. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أنزل الله تعالى في كتابه فذكر قوما استكبروا فقال : {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } وقال تعالى : {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [الفتح : 26] وهي :" لا إله إلا الله محمد رسول الله "استكبر عنها المشركون يوم الحديبية يوم كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة ؛ ذكر هذا الخبر البيهقي ، والذي قبله القشيري."
الآية : 36 - 40 {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ، بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ، وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ }
قوله تعالى : {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } أي لقول شاعر مجنون ؛ فرد الله جل وعز عليهم فقال : {بل جاء بالحق} يعني القرآن والتوحيد {وصدق المرسلين} فيما جاؤوا به من التوحيد. {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ } الأصل لذائقون فحذفت النون استخفافا وخفضت للإضافة. ويجوز النصب كما أنشد سيبويه :
فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا
وأجاز سيبويه {الْمُقِيمِي الصَّلاةِ } على هذا. {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي إلا بما عملتم من الشرك {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } استثناء ممن يذوق العذاب. وقراءة أهل المدينة والكوفة {المخلصين} بفتح اللام ؛ يعني الذين أخلصهم الله لطاعته ودينه وولايته. الباقون بكسر اللام ؛ أي الذين أخلصوا لله العبادة. وقيل : هو استثناء منقطع ، أي إنكم أيها المجرمون ذائقو العذاب لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #599  
قديم 10-07-2025, 01:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ الصافات
من صــ 77 الى صــ 86
الحلقة (599)






الآية : 41 {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ، فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ، يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ، بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ، وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ }
قوله تعالى : {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ } يعني المخلصين ؛ أي لهم عطية معلومة لا تنقطع. قال قتادة : يعني الجنة. وقال غيره : يعني رزق الجنة. وقيل : هي الفواكه التي ذكر قال مقاتل : حين يشتهونه. وقال ابن السائب : إنه بمقدار الغداة والعشي ؛ قال الله تعالى : {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم : 62] . {فواكه} جمع فاكهة ؛ قال الله تعالى : {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ } [الطور : 22] وهي الثمار كلها رطبها ويابسها ؛ قاله ابن عباس. {وهم مكرمون} أي ولهم إكرام من الله جل وعز برفع الدرجات وسماع كلامه ولقائه. {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } أي في بساتين يتنعمون فيها. وقد تقدم أن الجنان سبع في سورة "يونس" منها النعيم.
قوله تعالى : {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } قال عكرمة ومجاهد : لا ينظر بعضهم في قفا بعض تواصلا وتحاببا. وقيل : الأسرة تدور كيف شاؤوا فلا يرى أحد قفا أحد. وقال ابن عباس : على سرر مكللة بالدر والياقوت والزبرجد ؛ السرير ما بين صنعاء إلى الجابية ، وما بين عدن إلى أيلة. وقيل : تدور بأهل المنزل الواحد. والله أعلم. {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } لما ذكر مطاعمهم ذكر شرابهم. والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكل إناء مع شرابه ؛ فإن كان فارغا فليس بكأس. قال الضحاك والسدي : كل كأس في القرآن فهي الخمر ، والعرب تقول للإناء إذا كان فيه خمر كأس ، فإذا لم يكن فيه خمر قالوا إناء وقدح. النحاس : وحكى من يوثق به من أهل اللغة
أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر : كأس ؛ فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح ؛ كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام : مائدة ؛ فإذا لم يكن عليه طعام لم تقل له مائدة. قال أبو الحسن بن كيسان : ومنه ظعينة للهودج إذا كان فيه المرأة. وقال الزجاج : {بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض. والمعين : الماء الجاري الظاهر . {بَيْضَاءَ } صفة للكأس. وقيل : للخمر. قال الحسن : خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. وقيل : {بَيْضَاءَ } أي لم يعتصرها الرجال بأقدامهم. { لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } {لَذَّةٍ } قال الزجاج : أي ذات لذة فحذف المضاف. وقيل : هو مصدر جعل اسما أي بيضاء لذيذة ؛ يقال شراب لذ ولذيذ ، مثل نبات غض وغضيض. فأما قول القائل :
ولذ كطعم الصرخدي تركته ... بأرض العدا من خشية الحدثان
فانه يريد النوم. { لا فِيهَا غَوْلٌ } أي لا تغتال عقولهم ، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع. {وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ } أي لا تذهب عقولهم بشربها ؛ يقال : الخمر غول للحلم ، والحرب غول للنفوس ؛ أي تذهب بها. وقال : نزف الرجل ينزف فهو منزوف ونزيف إذا سكر. قال امرؤ القيس :
وإذا هي تمشي كمشي النزيـ ... ـف يصرعه بالكثيب البهر
وقال أيضا :
نزيف إذا قام لوجه تمايلت ... تراشي الفؤاد الرخص ألا تخرا
وقال آخر :
فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي ؛ من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر. يقال : أحصد الزرع إذا حان حصاده ، وأقطف الكرم إذا حان قطافه ، وأركب المهر إذا حان ركوبه. وقيل : المعنى لا ينفدون شرابهم ؛ لأنه دأبهم ؛ يقال : أنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره. قال الحطيئة :
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
النحاس : والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى ؛ لأن معنى {يُنْزَفُونَ } عند جلة أهل التفسير منهم مجاهد لا تذهب عقولهم ؛ فنفى الله عز وجل عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر. ومعنى {يُنْزَفُونَ } الصحيح فيه أنه يقال : أنزف الرجل إذا نفد شرابه ، وهو يبعد أن يوصف به شراب الجنة ؛ ولكن مجازه أن يكون بمعنى لا ينفد أبدا. وقيل : {لاَ يُنْزَفُونَ } بكسر الزاي لا يسكرون ؛ ذكره الزجاج وأبو علي على ما ذكره القشيري. المهدوي : ولا يكون معناه يسكرون ؛ لأن قبله {لا فِيهَا غَوْلٌ } . أي لا تغتال عقولهم فيكون تكرارا ؛ ويسوغ ذلك في "الواقعة" . ويجوز أن يكون معنى {لا فِيهَا غَوْلٌ } لا يمرضون ؛ فيكون معنى {وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} لا يسكرون أو لا ينفد شرابهم. قال قتادة الغول وجع البطن. وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد {لا فِيهَا غَوْلٌ } قال لا فيها وجع بطن. الحسن : صداع. وهو قول ابن عباس : {لا فِيهَا غَوْلٌ } لا فيها صداع. وحكى الضحاك عنه أنه قال : في الخمر أربع خصال : السكر والصداع والقيء والبول ؛ فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال. مجاهد : داء. ابن كيسان : مغص. وهذه الأقوال متقاربة. وقال الكلبي : { لا فِيهَا غَوْلٌ } "لا فيها غول" أي إثم ؛ نظيره : {لا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ } [الطور : 23] . وقال الشعبي والسدي وأبو عبيدة : لا تغتال عقولهم فتذهب بها. ومنه قول الشاعر :
وما زالت الكأس تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول
أي تصرع واحدا واحدا. وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع الالتذاذ عنهم بنعيمهم. وقال أهل المعاني : الغول فساد يلحق في خفاء. يقال : اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره في خفية. ومنه الغول والغيلة : وهو القتل خفية.
قوله تعالى : {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي نساء قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم ؛ قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغيرهم. عكرمة : {قاصرات الطرف} أي محبوسات على أزواجهن. والتفسير الأول أبين ؛ لأنه ليس في الآية مقصورات ولكن في موضع آخر "مقصورات" يأتي بيانه. و {قاصرات} مأخوذ من قولهم : قد اقتصر على كذا إذا اقتنع به وعدل عن غيره ؛ قال امرؤ القيس :
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الإتب منها لأثرا
ويروى : فوق الخد. والأول أبلغ. والإتب القميص ، والمحول الصغير من الذر. وقال مجاهد أيضا : معناه لا يغرن. "عين" عظام العيون الواحدة عيناء ؛ وقال السدي. مجاهد : "عين" حسان العيون. الحسن : الشديدات بياض العين ، الشديدات سوادها. والأول أشهر في اللغة. يقال : رجل أعين واسع العين بيّن العين ، والجمع عين. وأصله فعل بالضم فكسرت العين ؛ لئلا تنقلب الواو ياء. ومنه قيل لبقر الوحش عين ، والثور أعين ، والبقرة عيناء. {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } أي مصون. قال الحسن وابن زيد : شبهن ببيض النعام ، تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار ، فلونها أبيض في صفرة وهو حسن ألوان النساء. وقال ابن عباس وابن جبير والسدي : شبهن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي. وقال عطاء : شبهن بالسحاء الذي يكون بين القشرة العليا ولباب البيض. وسحاة كل شيء : قشره والجمع سحا ؛ قاله الجوهري. ونحوه قول الطبري ، قال : هو القشر الرقيق ، الذي على البيضة بين ذلك. وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والعرب تشبه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها ؛ قال امرؤ القيس :
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل
وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة : كأنه بيض النعام المغطى بالريش. وقيل : المكنون المصون عن الكسر ؛ أي إنهن عذارى. وقيل : المراد بالبيض اللؤلؤ ؛ كقوله تعالى : { وَحُورٌ عِينٌ ، كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } [ الواقعة : 23] أي في أصدافه ؛ قاله ابن عباس أيضا. ومنه قول الشاعر :
وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغـ ... ـواص ميزت من جوهر مكنون
وإنما ذكر المكنون والبيض جمع ؛ لأنه رد النعت إلى اللفظ.
الآية : 50 - 61 {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ، أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ، قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ، أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ }
قوله تعالى : {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } أي يتفاوضون فيما بينهم أحاديثهم في الدنيا. وهو من تمام الأنس في الجنة. وهو معطوف على معنى {يُطَافُ عَلَيْهِمْ } المعنى يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشراب. قال بعضهم :
وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام
فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا ؛ إلا أنه جيء به ماضيا على عادة الله تعالى في إخباره.
قوله تعالى : {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ } أي من أهل الجنة {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } أي صديق ملازم {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } أي بالمبعث والجزاء. وقال سعيد بن جبير : قرينه شريكه. وقد مضى في "الكهف" ذكرهما وقصتهما والاختلاف في اسميهما مستوفى عند قوله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ } [الكهف : 32] وفيهما أنزل الله جل وعز : {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } إلى {مِنَ الْمُحْضَرِينَ } وقيل : أراد بالقرين قرينه من الشيطان كان يوسوس إليه بإنكار البعث. وقرئ : {أئنك لمن المصدقين} بتشديد الصاد. رواه علي بن كيسة عن سليم عن حمزة. قال النحاس : ولا يجوز {أئنك لمن المصَدقين} لأنه لا معنى للصدقة ها هنا. وقال القشيري : وفي قراءة عن حمزة {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } بتشديد الصاد. واعترض عليه بأن هذا من التصديق لا من التصدق. والاعتراض باطل ؛ لأن القراءة إذا ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا مجال للطعن فيها. فالمعنى {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } بالمال طلبا في ثواب الآخرة. {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } أي مجزيون محاسبون بعد الموت فـ "قال" الله تعالى لأهل الجنة : {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ } . وقيل : هو من قول المؤمن لإخوانه في الجنة هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين. وقيل : هو من قول الملائكة. وليس {هل أنتم مطلعون} باستفهام ، إنما هو بمعنى الأمر ، أي اطلعوا ؛ قاله ابن الأعرابي وغيره. ومنه لما نزلت آية الخمر ، قام عمر قائما بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رفع رأسه إلى السماء ، ثم قال : يا رب بيانا أشفى من هذا في الخمر. فنزلت : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة : 91] قال : فنادى عمر انتهينا يا ربنا. وقرأ ابن عباس : {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ } بإسكان الطاء خفيفة {فأُطْلِعَ} بقطع الألف مخففة على معنى هل أنتم مقبلون ، فأقبل. قال النحاس {فأطلع فرآه} فيه قولان : أحدهما : أن يكون فعلا مستقبلا معناه فأطلع أنا ، ويكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام. والقول الثاني : أن يكون فعلا ماضيا ويكون اطلع وأطلع واحدا. قال الزجاج : يقال طلع وأطلع واطلع بمعنى واحد. وقد حكى
{هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ } بكسر النون وأنكره أبو حاتم وغيره. النحاس : وهو لحن لا يجوز ؛ لأنه جمع بين النون والإضافة ، ولو كان مضافا لكان هل أنتم مطلعي ، وإن كان سيبويه والفراء قد حكيا مثله ، وأنشدا :
هم القائلون الخير والآمرونه ... إذا ما خشوا من حدث الأمر معظما
وأنشد الفراء : والفاعلونه. وأنشد سيبويه وحده :
ولم يرتفق والناس محتضرونه
وهذا شاذ خارج عن كلام العرب ، وما كان مثل هذا لم يحتج به في كتاب الله عز وجل ، ولا يدخل في الفصيح. وقد قيل في توجيهه : إنه أجرى اسم الفاعل مجرى المضارع لقربه منه ، فجرى {مطلعون} مجرى يطلعون. ذكره أبو الفتح عثمان بن جني وأنشد :
أرأيت إن جئت به أملودا ... مرجلا ويلبس البرودا
أقائلن أحضروا الشهودا
فأجرى أقائلن مجرى أتقولن. وقال ابن عباس في قوله تعالى : {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ، فاطلع فرآه } إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار وأهلها. وكذلك قال كعب فيما ذكر ابن المبارك ، قال : إن بين الجنة والنار كوى ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى ، قال الله تعالى : {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ } أي في وسط النار والحسك حواليه ؛ قاله ابن مسعود. ويقال : تعبت حتى انقطع سوائي : أي وسطي. وعن أبي عبيدة : قال لي عيسى بن عمر : كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائي. وعن قتادة قال : قال بعض العلماء : لولا أن الله جل وعز عرفه إياه لما عرفه ، لقد تغير حبره وسبره. فعند ذلك يقول : {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ } {إن} مخففة من الثقيلة دخلت على كاد كما
تدخل على كان. ونحوه {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا } [الفرقان : 42] واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } في النار. وقال الكسائي : {لتردين} أي لتهلكني ، والردى الهلاك. وقال المبرد : لو قيل : {لتردين} لتوقعني في النار لكان جائزا {ولولا نعمة ربي} أي عصمته وتوفيقه بالاستمساك بعروة الإسلام والبراءة من القرين السوء. وما بعد لولا مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف. {لكنت من المحضرين} قال الفراء : أي لكنت معك في النار محضرا. وأحضر لا يستعمل مطلقا إلا في الشر ؛ قاله الماوردي.
قوله تعالى : {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ } وقرئ "بمائتين" والهمزة في {أفما} للاستفهام دخلت على فاء العطف ، والمعطوف محذوف معناه أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين ولا معذبين. {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى } يكون استثناء ليس من الأول ويكون مصدرا ؛ لأنه منعوت. وهو من قول أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت ، ويقال : يا أهل الجنة خلود ولا موت ، ويا أهل النار خلود ولا موت. وقيل : هو من قول المؤمن على جهة الحديث بنعمة الله في أنهم لا يموتون ولا يعذبون ؛ أي هذه حالنا وصفتنا. وقيل : هو من قول المؤمن توبيخا للكافر لما كان ينكره من البعث ، وأنه ليس إلا الموت في الدنيا. ثم قال المؤمن مشيرا إلى ما هو فيه ؛ {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } يكون "هو" مبتدأ وما بعده خبر عنه والجملة خبر إن. ويجوز أن يكون {هو} فاصلا. {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } يحتمل أن يكون من كلام المؤمن لما رأى ما أعد الله له في الجنة وما أعطاه قال : {لمثل هذا} العطاء والفضل {فليعمل العاملون} نظير ما قال له الكافر : {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } [الكهف : 34] . ويحتمل أن يكون من قول الملائكة. وقيل : هو من قول الله عز وجل لأهل الدنيا ؛ أي قد سمعتم ما في الجنة من الخيرات والجزاء ، و {لِمِثْلِ هَذَا } الجزاء {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } . النحاس : وتقدير الكلام - والله أعلم - فليعمل العاملون لمثل هذا. فإن قال قائل : الفاء في العربية تدل على أن الثاني بعد الأول ، فكيف صار ما بعدها ينوى به التقديم ؟ فالجواب أن التقديم كمثل التأخير ؛ لأن حق حروف الخفض وما بعدها أن تكون متأخرة.
الآية : 62 {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ، إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ، إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ، طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ، فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ }
قوله تعالى : {أَذَلِكَ خَيْرٌ } مبتدأ وخبر ، وهو من قول الله جل وعز. {نُزُلاً } على البيان ؛ والمعنى أنعيم الجنة خير نزلا. {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ } والنزل في اللغة الرزق الذي له سعة - النحاس - وكذا النزل إلا أنه يجوز أن يكون النزل بإسكان الزاي لغة ، ويجوز أن يكون أصله النزل ؛ ومنه أقيم للقوم نزلهم ، واشتقاقه أنه الغذاء الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه. وقد مضى هذا في آخر سورة "آل عمران" وشجرة الزقوم مشتقة من التزقم وهو البلع على جهد لكراهتها ونتنها. قال المفسرون : وهي في الباب السادس ، وأنها تحيا بلهب النار كما تحيا الشجرة ببرد الماء ؛ فلا بد لأهل النار من أن ينحدر إليها من كان فوقها فيأكلون منها ، وكذلك يصعد إليها من كان أسفل. واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي تعرفها العرب أم لا على قولين : أحدهما : أنها معروفة من شجر الدنيا. ومن قال بهذا اختلفوا فيها ؛ فقال قطرب : إنها شجرة مرة تكون بتهامة من أخبث الشجر. وقال غيره : بل هو كل نبات قاتل. القول الثاني : إنها لا تعرف في شجر الدنيا. فلما نزلت هذه الآية في شجرة الزقوم قالت كفار قريش : ما نعرف هذه الشجرة. فقدم عليهم رجل من إفريقية فسألوه فقال : هو عندنا الزُبد والتمر. فقال ابن الزبعري : أكثر الله في بيوتنا الزقوم فقال أبو جهل لجاريته : زقمينا ؛ فأتته بزبد وتمر. ثم قال لأصحابه : تزقموا ؛ هذا الذي يخوفنا به محمد ؛ يزعم أن النار تنبت الشجر ، والنار تحرق الشجر.
قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ } أي المشركين ، وذلك أنهم قالوا : كيف تكون في النار شجرة وهي تحرق الشجر ؟ وقد مضى هذا المعنى في "سبحان" واستخفافهم في هذا كقولهم في قوله تعالى : {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [المدثر : 30] . ما الذي يخصص هذا العدد ؟ حتى قال بعضهم : أنا أكفيكم منهم كذا فاكفوني الباقين. فقال الله تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } [المدثر : 31] والفتنة الاختبار ، وكان هذا القول منهم جهلا ، إذ لا يستحيل في العقل أن يخلق الله في النار شجرا من جنسها لا تأكله النار ، كما يخلق الله فيها الأغلال والقيود والحيات والعقارب وخزنة النار. وقيل : هذا الاستبعاد الذي وقع للكفار هو الذي وقع الآن للملحدة ، حتى حملوا الجنة والنار على نعيم أو عقاب تتخلله الأرواح ، وحملوا وزن الأعمال والصراط واللوح والقلم على معاني زوروها في أنفسهم ، دون ما فهمه المسلمون من موارد الشرع ، وإذا ورد خبر الصادق بشيء موهوم في العقل ، فالواجب تصديقه وإن جاز أن يكون له تأويل ، ثم التأويل في موضع إجماع المسلمين على أنه تأويل باطل لا يجوز ، والمسلمون مجمعون على الأخذ بهذه الأشياء من غير مصير إلى علم الباطن. وقيل إنها فتنة أي عقوبة للظالمين ؛ كما قال : {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [الذاريات : 14] .
قوله تعالى : {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ } أي قعر النار ومنها منشؤها ثم هي متفرعة في جهنم. {طَلْعُهَا } أي ثمرها ؛ سمي طلعا لطلوعه. { كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } قيل : يعني الشياطين بأعيانهم شبهها برؤوسهم لقبحهم ، ورؤوس الشياطين متصور في النفوس وإن كان غير مرئي. ومن ذلك قولهم لكل قبيح هو كصورة الشيطان ، ولكل صورة حسنة هي كصورة ملك. ومنه قوله تعالى مخبرا عن صواحب يوسف : {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } [يوسف : 31] وهذا تشبيه تخييلي ؛ روي معناه عن ابن عباس والقرظي. ومنه قول امرئ القيس :
ومسنونة زرق كأنياب أغوال




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #600  
قديم 10-07-2025, 01:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ الصافات
من صــ 87 الى صــ 96
الحلقة (600)






وإن كانت الغول لا تعرف ؛ ولكن لما تصور من قبحها في النفوس. وقد قال الله تعالى : {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ } [الأنعام : 112] فمردة الإنس شياطين مرئية. وفي الحديث الصحيح : "ولكأن نخلها رؤوس الشياطين" وقد أدعى كثير من العرب رؤية الشياطين والغيلان. وقال الزجاج والفراء : الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف ، وهي من أقبح الحيات وأخبثها وأخفها جسما. قال الراجز وقد شبه المرأة بحية لها عرف :
عنجرد تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف
الواحدة حماطة. والأعرف الذي له عف. وقال الشاعر يصف ناقته :
تلاعب مثنى حضرمي كأنه ... تعمج شيطان بذي خروع قفر
التعمج : الاعوجاج في السير. وسهم عموج : يتلوى في ذهابه. وتعمجت الحية : إذا تلوت في سيرها. وقال يصف زمام الناقة :
تلاعب مثنى حضرمي كأنه ... تعمج شيطان بذي خروع قفر
وقيل : إنما شبه ذلك بنبت قبيح في اليمن يقال له الأستن والشيطان. قال النحاس : وليس ذلك معروفا عند العرب. الزمخشري : هو شجر خشن منتن مر منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين. النحاس : وقيل : الشياطين ضرب من الحيات قباح. {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة. وقال في "الغاشية] : {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ } [الغاشية : 6] وسيأتي. {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا } أي بعد الأكل من الشجرة {لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } الشوب الخلط ، والشب والشوب لغتان كالفَقر والفُقر والفتح أشهر. قال الفراء : شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوبا وشيابة. فأخبر أنه يشاب لهم. والحميم : الماء الحار ليكون أشنع ؛ قال الله تعالى : {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } [محمد : 15] . السدي : يشاب لهم الحميم بغساق أعينهم وصديد من قيحهم ودمائهم. وقيل : يمزج لهم الزقوم بالحميم ليجمع لهم بين مرارة الزقوم وحراوة الحميم ؛ تغليظا لعذابهم وتجديدا"
لبلائهم. {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ } قيل : إن هذا يدل على أنهم كانوا حين أكلوا الزقوم في عذاب غير النار ثم يردون إليها. وقال مقاتل : الحميم خارج الجحيم فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردون إلى الجحيم ؛ لقوله تعالى : {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [الرحمن : 44] . وقرأ ابن مسعود : {ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم} قال أبو عبيدة : يجوز أن تكون {ثم} بمعنى الواو. القشيري : ولعل الحميم في موضع من جهنم على طرف منها.
الآية : 69 - 74 {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ، وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ }
قوله تعالى : {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ } أي صادفوهم كذلك فاقتدوا بهم. {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } أي يسرعون ؛ عن قتادة. وقال مجاهد : كهيئة الهرولة. قال الفراء : الإهراع الإسراع برعدة. وقال أبو عبيدة : {يهرعون} يستحثون من خلفهم. ونحوه قول المبرد. قال : المهرع المستحث ؛ يقال : جاء فلان يهرع إلى النار إذا استحثه البرد إليها. وقيل : يزعجون من شدة الإسراع ؛ قال الفضل. الزجاج : يقال هرع وأهرع إذا استحث وأزعج.
قوله تعالى : {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} أي من الأمم الماضية. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ } أي رسلا أنذروهم العذاب فكفروا . {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ } أي آخر أمرهم. {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي الذين استخلصهم الله من الكفر. وقد تقدم. ثم قيل : هو استثناء من {المنذَرين} . وقيل هو من قوله تعالى : {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ } .
الآية : 75 {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ، وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ، وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ }
قوله تعالى : {وَلَقَدْ نَادَانَا } من النداء الذي هو الاستغاثة ؛ ودعا قيل بمسألة هلاك قومه فقال : {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [نوح : 26] . {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } قال الكسائي : أي {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } له كنا. {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } يعني أهل دينه ، وهم من آمن معه وكانوا ثمانين على ما تقدم. {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } وهو الغرق. {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } قال ابن عباس : لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه ؛ فذلك قوله : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } . وقال سعيد بن المسيب : كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح : فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب : السند والهند والنوب والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم. ويافث أبو الصقالبة والترك واللان والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك. وقال قوم : كان لغير ولد نوح أيضا نسل ؛ بدليل قوله : {ذرية من حملنا مع نوح} [الإسراء : 3] . وقوله : {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود : 48] فعلى هذا معنى الآية : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } دون ذرية من كفر أنا أغرقنا أولئك
قوله تعالى : {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ } أي تركنا عليه ثناء حسنا في كل أمة ، فإنه محبب إلى الجميع ؛ حتى إن في المجوس من يقول إنه أفريدون. روى معناه عن مجاهد وغيره. وزعم الكسائي أن فيه تقديرين : أحدهما : {وتركنا عليه في الآخرين} يقال : {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ } أي تركنا عليه هذا الثناء الحسن. وهذا مذهب أبي العباس المبرد. أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية ؛ يعني يسلمون له تسليما ويدعون له ؛ وهو من الكلام المحكي ؛ كقوله تعالى : {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا } . [النور : 1] . والقول الآخر أن يكون المعنى وأبقينا عليه. وتم الكلام ثم ابتدأ فقال : {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ } أي سلامة له من أن يذكر بسوء {في الآخرين} . قال الكسائي : وفي قراءة ابن مسعود {سلاما} منصوب بـ {تركنا} أي تركنا عليه ثناء حسنا سلاما. وقيل : {فِي الْآخِرِينَ } أي في أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : في الأنبياء إذ لم يبعث بعده نبي إلا أمر بالاقتداء به ؛ قال الله تعالى : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً } [الشورى : 13] . وقال سعيد بن المسيب : وبلغني أنه من قال حين يسمي {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } لم تلدغه عقرب. ذكره أبو عمر في التمهيد. وفي الموطأ عن خولة بنت حكيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من نزل منزلا فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لن يضره شيء حتى يرتحل" . وفيه عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم قال : ما نمت هذه الليلة ؛ فقال وسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أي شيء" فقال : لدغتني عقرب ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك" .
قوله تعالى : {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي نبقي عليهم الثناء الحسن. والكاف في موضع نصب ؛ أي جزاء كذلك. {إنه من عبادنا المؤمنين} هذا بيان إحسانه. قوله تعالى : {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } أي من كفر. وجمعه أُخر. والأصل فيه أن يكون معه {من} إلا أنها حذفت ؛ لأن المعنى معروف ، ولا يكون آخرا إلا وقبله شيء من جنسه. {ثم} ليس للتراخي ها هنا بل هو لتعديد النعم ؛ كقوله : {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } [البلد : 16] أي ثم أخبركم أني قد أغرقت الآخرين ، وهم الذين تأخروا عن الإيمان.
الآية : 83 {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ َلإِبْرَاهِيمَ ، إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ }
قوله تعالى : {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ َلإِبْرَاهِيمَ } قال ابن عباس : أي من أهل دينه. وقال مجاهد : أي على منهاجه وسنته. قال الأصمعي : الشيعة الأعوان ، وهو مأخوذ من الشياع ، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد. وقال الكلبي والفراء : المعنى وإن من شيعة محمد لإبراهيم. فالهاء في {شيعته} على هذا لمحمد عليه السلام. وعلى الأول لنوح وهو أظهر ، لأنه هو المذكور أولا ، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان هود وصالح ، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة ؛ حكاه الزمخشري.
قوله تعالى : {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي مخلص من الشرك والشك. وقال عوف الأعرابي : سألت محمد بن سيرين ما القلب السليم ؟ فقال : الناصح لله عز وجل في خلقه. وذكر الطبري عن غالب القطان وعوف وغيرهما عن محمد بن سيرين أنه كان يقول للحجاج : مسكين أبو محمد! إن عذبه الله فبذنبه ، وإن غفر له فهنيئا له ، وإن كان قلبه سليما فقد أصاب الذنوب من هو خير منه. قال عوف : فقلت لمحمد ما القلب السليم ؟ قال : أن يعلم أن الله حق ، وأن الساعة قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور. وقال هشام بن عروة : كان أبي يقول لنا : يا بني لا تكونوا لعانين ، ألم تروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئا قط ، فقال تعالى : {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } . ويحتمل مجيئه إلى ربه وجهين : أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته ؛ الثاني عند إلقائه في النار.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيه } {لأبيه} وهو آزر ، وقد مضى الكلام فيه. {وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } تكون {ما} في موضع رفع بالابتداء و {ذا} خبره. ويجوز أن تكون
{ما} و {ذا} في موضع نصب بـ {تعبدون} . {أئفكا} نصب على المفعول به ؛ بمعنى أتريدون إفكا. قال المبرد : والإفك أسوأ الكذب ، وهو الذي لا يثبت ويضطرب ، ومنه ائتفكت بهم الأرض. {آلهة} بدل من إفك {دون الله تريدون} أي تعبدون. ويجوز أن يكون حالا بمعنى أتريدون ألهة من دون الله آفكين. {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره ؟ فهو تحذير ، مثل قوله : {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } [ الانفطار : 6] . وقيل : أي شيء أوهمتموه حتى أشركتم به غيره.
قوله تعالى : {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ } قال ابن زيد عن أبيه : أرسل إليه ملكهم إن غدا عيدنا فاخرج معنا ، فنظر إلى نجم طالع فقال : إن هذا يطلع مع سقمي. وكان علم النجوم مستعملا عندهم منظورا فيه ، فأوهمهم هو من تلك الجهة ، وأراهم من معتقدهم عذرا لنفسه ؛ وذلك أنهم كانوا أهل رعاية وفلاحة ، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم. وقال ابن عباس : كان علم النجوم من النبوة ، فلما حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون أبطل ذلك ، فكان نظر إبراهيم فيها علما نبويا. وحكى جويبر عن الضحاك. كان علم النجوم باقيا إلى زمن عيسى عليه السلام ، حتى دخلوا عليه في موضع لا يطلع عليه منه ، فقالت لهم مريم : من أين علمتم بموضعه ؟ قالوا : من النجوم. فدعا ربه عند ذلك فقال : اللهم لا تفهمهم في علمها ، فلا يعلم علم النجوم أحد ؛ فصار حكمها في الشرع محظورا ، وعلمها في الناس مجهولا. قال الكلبي : وكانوا في قرية بين البصرة والكوفة يقال لهم هرمز جرد ، وكانوا ينظرون في النجوم. فهذا قول. وقال الحسن : المعنى أنهم لما كلفوه الخروج معهم تفكر فيما يعمل. فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي ؛ أي فيما طلع له منه ، فعلم أن كل حي يسقم فقال. {إِنِّي سَقِيمٌ } الخليل والمبرد : يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره : نظر في النجوم. وقيل : كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تغشاه فيها الحمى. وقيل : المعنى فنظر فيما نجم من الأشياء فعلم أن لها خالقا
ومدبرا ، وأنه يتغير كتغيرها. فقال : {إِنِّي سَقِيمٌ } . وقال الضحاك : معنى {سقيم} سأسقم سقم الموت ؛ لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت ، وهذا تورية وتعريض ؛ كما قال للملك لما سأل عن سارة هي أختي ؛ يعني أخوة الدين. وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك أيضا أشار لهم إلى مرض وسقم يعدي كالطاعون ، وكانوا يهربون من الطاعون ، {فـ} لذلك {تَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي فارين منه خوفا من العدوى. وروى الترمذي الحكيم قال : حدثنا أبي قال حدثنا عمرو بن حماد عن أسباط عن السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس ، وعن سمرة عن الهمداني عن ابن مسعود قال : قالوا لإبراهيم : إن لنا عيدا لو خرجت معنا لأعجبك ديننا. فلما كان يوم العيد خرجوا إليه وخرج معهم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه ، وقال إني سقيم أشتكي رجلي ، فوطئوا رجله وهو صريع ، فلما مضوا نادى في آخرهم {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } [ الأنبياء : 57] . قال أبو عبدالله : وهذا ليس بمعارض لما قال ابن عباس وابن جبير ؛ لأنه يحتمل أن يكون قد اجتمع له أمران.
قلت : وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : "لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث كذبات..." الحديث. وقد مضى في سورة "الأنبياء" وهو يدل على أنه لم يكن سقيما وإنما عرض لهم. وقد قال جل وعز : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } [الزمر : 30] . فالمعنى إني سقيم فيما استقبل فتوهموا هم أنه سقيم الساعة. وهذا من معاريض الكلام على ما ذكرنا ، ومنه المثل السائر [كفى بالسلامة داء] وقول لبيد :
فدعوت ربي بالسلامة جاهدا ... ليصحني فإذا السلامة داء
وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس فقالوا : مات وهو صحيح! فقال أعرابي : أصحيح من الموت في عنقه! فإبراهيم صادق ، لكن لما كان الأنبياء لقرب محلهم واصطفائهم عد هذا ذنبا ؛ ولهذا قال : {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } [الشعراء : 82] وقد مضى هذا كله مبينا والحمد لله. وقيل : أراد سقيم النفس لكفرهم. والنجوم يكون جمع نجم ويكون واحدا مصدرا.
الآية : 91 - 96 {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ، مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ، قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }
قوله تعالى : {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ } قال السدي : ذهب إليهم. وقال أبو مالك : جاء إليهم. وقال قتادة : مال إليهم. وقال الكلبي : أقبل عليهم. وقيل : عدل. والمعنى متقارب. فراغ يروغ روغا وروغانا إذا مال. وطريق رائغ أي مائل. وقال الشاعر :
ويريك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
فقال : {أَلا تَأْكُلُونَ } فخاطبها كما يخاطب من يعقل ؛ لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة. وكذا قيل : كان بين يدي الأصنام طعام تركوه ليأكلوه إذا رجعوا من العيد ، وإنما تركوه لتصيبه بركة أصنامهم بزعمهم. وقيل : تركوه للسدنة. وقيل : قرب هو إليها طعاما على جهة الاستهزاء ؛ فقال : {أَلا تَأْكُلُونَ ، مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ } {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ } خص الضرب باليمين لأنها أقوى والضرب بها أشد ؛ قال الضحاك والربيع بن أنس. وقيل : المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال : {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } [الأنبياء : 57] . وقال الفراء وثعلب : ضربا بالقوة واليمين القوة. وقيل : بالعدل واليمين ها هنا العدل. ومنه قوله تعالى : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } [الحاقة : 44] أي بالعدل ، فالعدل لليمين والجور للشمال. ألا ترى أن العدو عن الشمال والمعاصي عن الشمال والطاعة عن اليمين ؛ ولذلك قال : {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } [الصافات : 28] أي من قبل الطاعة. فاليمين هو موضع العدل من المسلم ، والشمال موضع الجور. ألا ترى أنه بايع الله بيمينه يوم الميثاق ، فالبيعة باليمين ؛ فلذلك يعطى كتابه غدا بيمينه ؛ لأنه وفي بالبيعة ، ويعطى الناكث للبيعة الهارب برقبته من الله بشماله ؛ لأن الجور هناك. فقوله : {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ } أي بذلك العدل الذي كان بايع الله عليه يوم الميثاق ثم وفى له ها هنا. فجعل تلك الأوثان جذاذا ، أي فتاتا كالجذيذة
وهي السويق وليس من قبيل القوة ؛ قاله الترمذي الحكيم. {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } قرأ حمزة {يزفون} بضم الياء. الباقون بفتحها. أي يسرعون ؛ قاله ابن زيد. قتادة والسدي : يمشون. وقيل : المعنى يمشون بجمعهم على مهل آمنين أن يصيب أحد آلهتهم بسوء. وقيل : المعنى يتسللون تسللا بين المشي والعدو ؛ ومنه زفيف النعامة. وقال الضحاك : يسعون وحكى يحيى بن سلام : يرعدون غضبا. وقيل : يختالون وهو مشي الخيلاء ؛ قاله مجاهد. ومنه أُخِذ زفاف العروس إلى زوجها. وقال الفرزدق :
وجاء قريع الشول قبل إفالها ... يزف وجاءت خلفه وهي زُفَّف
ومن قرأ : {يزفون} فمعناه يزفون غيرهم أي يحملونهم على التزفيف. وعلى هذا فالمفعول محذوف. قال الأصمعي : أزففت الإبل أي حملتها على أن تزف. وقيل : هما لغتان يقال : زف القوم وأزفوا ، وزففت العروس وأزففتها وازدففتها بمعنى ، والمزفة : المحفة التي تزف فيها العروس ؛ حكي ذلك عن الخليل. النحاس : "ويزفون" بضم الياء. زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة ، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء وشبهها بقولهم : أطردت الرجل أي صيرته إلى ذلك. وطردته نحيته ؛ وأنشد هو وغيره :
تمنى حصين أن يسود جذاعة ... فأمسى حصين قد أذل وأ قهرا
أي صير إلى ذلك ؛ فكذلك {يزفون} يصيرون إلى الزفيف. قال محمد بن يزيد : الزفيف الإسراع. وقال أبو إسحاق : الزفيف أول عدو النعام. وقال أبو حاتم : وزعم الكسائي أن قوما قرؤوا {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُونَ } خفيفة ؛ من وزف يزف ، مثل وزن يزن. قال النحاس : فهذه حكاية أبي حاتم وأبو حاتم لم يسمع من الكسائي شيئا. وروى الفراء وهو صاحب الكسائي عن الكسائي أنه لا يعرف {يزفون} مخففة. قال الفراء : وأنا لا أعرفها. قال
أبو إسحاق : وقد عرفها غيرهما أنه يقال وزف يزف إذا أسرع. قال النحاس : ولا نعلم أحدا قرأ {يزفون} .
قلت : هي قراءة عبدالله بن يزيد فيما ذكر المهدوي. الزمخشري : و {يزفون} على البناء للمفعول. {يزفون} من زفاه إذا حداه ؛ كأن بعضهم يزف بعضا لتسارعهم إليه. وذكر الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميقع : {يزفون} بالراء من رفيف النعام ، وهو ركض بين المشي والطيران.
قوله تعالى : {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } فيه حذف ؛ أي قالوا من فعل هذا بآلهتنا ، فقال محتجا : {أتعبدون ما تنحون} أي أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم تنجرونها. والنحت النجر والبري نحته ينحته بالكسر نحتا أي براه. والنحاتة البراية والمنحت ما ينحت به. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } {ما} في موضع نصب أي وخلق ما تعملونه من الأصنام ، يعني الخشب والحجارة وغيرهما ؛ كقوله : {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ } [الأنبياء : 56] وقيل : إن {ما} استفهام ومعناه التحقير لعملهم. وقيل : هي نفي ، والمعنى وما تعملون ذلك لكن الله خالقه. والأحسن أن تكون {ما} مع الفعل مصدرا ، والتقدير والله خلقكم وعملكم وهذا مذهب أهل السنة : أن الأفعال خلق لله عز وجل واكتساب للعباد. وفي هذا إبطال مذاهب القدرية والجبرية. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله خالق كل صانع وصنعته" ذكره الثعلبي. وخرجه البيهقي من حديث حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله عز وجل صنع كل صانع وصنعته فهو الخالق وهو الصانع سبحانه" وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
الآية : 97 {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ، فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ }




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 395.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 390.13 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]