تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 62 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كتاب الصيام والحج من الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 19 - عددالزوار : 22 )           »          واتساب يستخدم وضع الإضاءة المنخفضة لمكالمات الفيديو.. كيف يعمل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          هل يعانى هاتف أيفون 16 من مشكلات فى عمر البطارية؟ إليكم ما نعرفه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          استكشف مزايا أنظمة شبكة Wi-Fi مقارنة بأجهزة التوجيه التقليدية فى منزلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          كوالكوم تلغي إنتاج نظام Windows المصغر على أجهزة الكمبيوتر بهذا المعالج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          تطبيق ChatGPT متوفر الآن لنظام Windows.. اعرف التفاصيل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          ما تخافش لو اتسرق منك.. 3 مزايا جديدة من جوجل تساعدك على استعادة هاتفك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          Android 15 متاح الآن لهواتف Pixel.. كيفية التحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          علامات إدمان الأطفال للهواتف الذكية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          هل سقط الماء على اللاب توب؟ إليك كيفية إصلاحه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #611  
قديم 22-06-2025, 07:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ القيامة
المجلد السادس عشر
صـ 5998 الى صـ 6007
الحلقة (611)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (75) : الآيات 31 الى 40]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
فَلا صَدَّقَ أي بالدين والكتاب. أو صدق ماله، أي ما زكاه وَلا صَلَّى أي الصلاة التي هي رأس العبادات، التي سها عنها. وَلكِنْ كَذَّبَ أي بدل التصديق وَتَوَلَّى أي بدل الصلاة التي بها كمال التوجه إلى الله تعالى: ثُمَّ أي مع هذه التقصيرات في جنب الله تعالى: ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي يتبختر في مشيته.
وأصله (يتمطط) أي يتمدد، لأن المتبختر يمد خطاه.
تنبيهات:
الأول- الضمير في الآيات للإنسان المتقدم في قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ.
الثاني- قال الرازي: إنه تعالى شرح كيفية عمله فيما يتعلق بأصول الدين وفروعه، وفيما يتعلق بدنياه. أما ما يتعلق بأصول الدين فهو أنه ما صدق بالدين،
ولكن كذب به. وأما ما يتعلق بفروع الدين فهو أنه ما صلى، ولكنه تولى، وأعرض.
وأما ما يتعلق بدنياه، فهو أنه ذهب إلى أهله يتمطى ويختال في مشيته.
الثالث- دلت الآية على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة، كما يستحقهما بترك الإيمان.
الرابع- قال الرازي: قال أهل العربية: (لا) هاهنا في موضع (لم) فقوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى أي لم يصدق ولم يصلّ، وهو كقوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: 11] ، أي لم يقتحم.
وكذلك ما روي «1» : أرأيت من لا أكل ولا شرب ولا استهل. قال الكسائيّ: لم أر العرب قالت في مثل هذا كلمة وحدها، حتى تتبعها بأخرى، إما مصرحا بها، أو مقدرا. أما المصرح، فلا يقولون لا عبد الله خارج، حتى يقولوا ولا فلان، ولا يقولون مررت برجل لا يحسن، حتى يقولوا ولا يجمل. وأما المقدر فهو كقوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: 11] ، ثم اعترض الكلام فقال: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ، وكان التقدير: لا فك رقبة ولا أطعم مسكينا، فاكتفى به مرة واحدة. ومنهم من قال: التقدير في قوله: فَلَا اقْتَحَمَ أي أفلا اقتحم، وهلا اقتحم. انتهى. أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أي ويل لك مرة بعد مرة. دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه وأذلاء متكررا متضاعفا.
وقيل: المعنى بعدا لك. فبعدا في أمر دنياك، وبعدا لك فبعدا في أمر أخراك- حكاه الرازي عن القاضي- ثم قال: قال القفال: هذا يحتمل وجوها.
أحدها- أنه وعيد مبتدأ من الله للكافر.
والثاني- أنه شيء قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم لعدوه- يعني أبا جهل- فاستنكره عدو الله لعزته عند نفسه، فأنزل الله تعالى مثل ذلك.
والثالث- أن يكون ذلك أمرا من الله لنبيه بأن يقولها لعدو الله، فيكون المعنى: ثم ذهب إلى أهله يتمطى، فقل له يا محمد: أولى لك فأولى، أي احذر،
(1)

أخرجه البخاري في صحيحه في: الطب، 46- الكهانة، حديث رقم 2269، عن أبي هريرة، ونصه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل، فقتلت ولدها الذي في بطنها. فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية ما في بطنها غرة: عبد أو أمة. فقال ولي المرأة التي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهلّ، ومثل ذلك بطل؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهّان
.

فقد قرب منك ما لا قبل لك به من المكروه. انتهى. والأظهر هو الأول.
لطيفة:
تفسير أَوْلى لَكَ ب (ويل لك) قال الشهاب: هو محصل معناه المراد منه، فإنه مثله، فيرد للدعاء عليه، أو للتهديد والوعيد.
وعن الأصمعي أنها تكون للتحسر على أمر فات.
هذا هو المعنى المراد بها. وأما الكلام في لفظها فقيل: هو فعل ماض دعائي من (الولي) واللام مزيدة. أي أولاك الله ما تكرهه. أو غير مزيدة، أي أدنى الهلاك لك. وقريب منه قول الأصمعي: إن معناه قاربه ما يهلكه أن ينزل به. واستحسنه ثعلب.
وقيل: إنه اسم وزنه (أفعل) من الويل، فقلب. وقيل فعلى، ولذا لم ينون.
ومعناه ما ذكر، وألفه للإلحاق لا للتأنيث. وعلى الاسمية هو مبتدأ، و (لك) الخبر.
وقيل: إنه اسم فعل مبنيّ، ومعناه وليك شر بعد شر.
ونقل الزمخشري عن أبي عليّ أنه علم لمعنى الويل، وهو غير منصرف للعلمية ووزن الفعل. وقيل عليه: إن الويل غير متصرف، ومثل (يوم أيوم) غير منقاس، ولا يفرد عن الموصوف. وادعاء القلب من غير دليل، لا يسمع، وعلم الجنس خارج عن القياس. فما ذكر بعيد من وجوه عدة. وقيل: الأحسن أنه أفعل تفضيل خبر لمبتدأ يقدر كما يليق بمقامه. فالتقدير هنا: النار أولى لك. يعني: أنت أحق بها، وأهل لها. انتهى.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي: هملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يجازى، مع أنه الإنسان الذي أودع العقل وعلّم البيان، وغرز في طبعه أن يعيش مجتمعا، وخص من المواهب ما فضل على غيره. فمن تمام الإحسان إليه إنقاذه من حيرته، وإعلامه بسبيل هدايته، وأن لا يترك خابطا في متائه جهالته، وقد كان ذلك بفضل الله ونعمته، كما أشار لذلك بقوله:
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى أي يصبّ في الرحم.
ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي دما فَخَلَقَ أي قدّر أعضاءه فَسَوَّى أي سوى تلك الأعضاء لأعمالها وعدّلها.
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ أي الصنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي لبقاء نوعه، يعمر الدنيا إلى الأجل الذي كتبه وقدره.
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي فيوجدهم بعد مماتهم لعمارة الآخرة.
وقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: سبحانك، فبلى- رواه أبو داود عن رجل من الصحابة.
ورواه أيضا عن أبي هريرة بلفظ: من قرأ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى فليقل: بلى. ورواه الإمام أحمد والترمذي
أيضا- والله أعلم-.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #612  
قديم 22-06-2025, 11:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الإنسان
المجلد السادس عشر
صـ 6008 الى صـ 6017
الحلقة (612)






بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الإنسان
وتسمى سورة (الدهر) و (الأمشاج) و (هل أتى) وهي مكية وآيها إحدى وثلاثون.
روى الإمام مسلم «1» عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة- الم تنزيل السجدة- وهل أتى على الإنسان
.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أي في ذلك الحين، بل كان شيئا منسيّا، نطفته في الأصلاب. والاستفهام للتقرير.
قال الشهاب: أي الحمل على الإقرار بما دخلت عليه، والمقرر به من ينكر البعث. وقد علم أنهم يقولون: نعم، قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه. فيقال لهم: فالذي أوجدهم بعد أن لم يكونوا، كيف يمتنع عليه إحياؤهم بعد موتهم؟
والمراد بالإنسان جنس بني آدم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 2]
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ أي ذات أخلاط، وهي موادها المؤلفة منها. جمع مشج أو مشيج. كسبب وأسباب، ونصير وأنصار. أو مفرد، كبرمة أعشار (البرمة القدر. وأعشار أي منكرة كأنها صارت عشر قطع) انتهى نَبْتَلِيهِ أي نختبره. والجملة في موضع الحال أي خلقناه مبتلين له، أي مريدين ابتلاءه، لا عبثا وسدى فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً أي لننظر هل صرف سمعه وبصره إلى استماع آيات الله والنظر فيها. ولما كان تمام المنّة بهما بهبة العقل، أشار إليه بقوله سبحانه:
(1)
أخرجه في: الجمعة، حديث رقم 64.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 3]
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك. أي عرّفناه وبينا له ذلك، بأدلة العقل والسمع إِمَّا شاكِراً أي بالاهتداء والأخذ فيه وَإِمَّا كَفُوراً أي بالإعراض عنه. ونصبهما ب (يكون) مقدرة. أي ليكون إما شاكرا وإما كفورا. أي ليتميز شكره من كفره، وطاعته من معصيته. كقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] .
(قال الرازي) قال القفال: ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل قول القائل: قد نصحت لك. إن شئت فاقبل وإن شئت فاترك. أي فإن شئت فتحذف الفاء. فكذا المعنى إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ فإما شاكرا وإما كفورا. فتحذف الفاء. وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد. أي إنا هديناه السبيل فإن شاء فليكفر، وإن شاء فليشكر. فإنا أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا. كقوله: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] . انتهى.
لطيفة:
قال في (النهر) : لما كان الشكر قلّ من يتصف به قال (شاكرا) ولما كان الكفر كثيرا من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر قال: كَفُوراً بصيغة المبالغة. انتهى.
وهذا ألطف من القول بمراعاة رؤوس الآي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 4]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ أي ليقادوا بها ويستوثق بها منهم شدّا في الجحيم وَأَغْلالًا أي لتشد فيها أيديهم إلى أعناقهم وَسَعِيراً أي نارا تسعر عليهم فتتوقد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 5 الى 6]
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6)
إِنَّ الْأَبْرارَ أي الذين برّوا بطاعتهم ربهم في أداء فرائضه واجتناب معاصيه
يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ أي خمر، أطلقت عليها للمجاورة كانَ مِزاجُها أي ما تمزج به كافُوراً قال ابن جرير: يعني في طيب رائحتها كالكافور. ولما كان الكافور من أطيابهم كان كناية عما يطيب به مما له عرف ذكي عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أي يثيرونها من منابعها في روض الجنة، إثارة مبهجة، تفننا في النعيم. وعَيْناً منصوب بنحو (يؤتون) والباء في بِها بمعنى من. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 7]
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ استئناف مسوق لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر من النعيم، مشتمل على نوع تفصيل لما ينبئ عنه اسم الأبرار إجمالا. كأنه قيل: ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك الرتبة العالية؟ فقيل: يوفون بما أوجبوه على أنفسهم، فكيف بما أوجبه الله تعالى عليهم؟ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ أي عذابه مُسْتَطِيراً منتشرا ظاهرا للغاية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 8]
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي مع حب الطعام، كقوله: حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] ، أو على حب الله تعالى، لما سيأتي من قوله: لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان: 9] ، مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً أي مأسورا من حرب أو مصلحة.
وإنما اقتصر على الثلاثة لأنهم من أهم من تجدر الصدقة عليهم. فإن المسكين عاجز عن الاكتساب لما يكفيه. واليتيم مات من يعوله ويكتسب له، مع نهاية عجزه بصغره. والأسير لا يملك لنفسه نصرا ولا حيلة.
قال في (الإكليل) : والآية تدل على أن إطعام المشرك ما يتقرب به إلى الله تعالى، أي لقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 9]
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي قائلين ذلك بلسان الحال أو المقال، إزاحة لتوهم المنّ المبطل للصدقة وتوقع المكافأة. أي لا نقصد بإطعامكم إلا ثوابه تعالى والقربة إليه والزلفى عنده. وإطلاق (الوجه) على الذات مجاز مشهور لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً أي مكافأة وَلا شُكُوراً أي ثناء ومديحا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 10]
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً أي عذاب يوم عَبُوساً أي شديدا مظلما. أو تعبس فيه الوجوه من شدة مكارهه وطول بلائه قَمْطَرِيراً أي شديد العبوسة والكرب. وخوفهم من اليوم كناية عن عمل ما يؤمنهم فزعه وهوله، من الصالحات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 11 الى 13]
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13)
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي بسبب ما ذكر من خوفهم منه وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي في الوجوه وَسُرُوراً أي في القلوب وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا أي على طاعة الله واجتناب محارمه والدعوة لسبيله واحتمال الأذى جَنَّةً وَحَرِيراً أي يلبسونه ويتزيّنون به مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ أي السّرر لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً أي لا حرّا ولا بردا. من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 14 الى 16]
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16)
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها أي ظلال أشجارها. أي قريبة منهم، مظلة عليهم، زيادة في نعيمهم وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا أي سهلت ثمارها لمتناوليها. فلا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك. وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ جمع كوب، وهو كوز لا أذن له: كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قال أبو البقاء: حسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلهما. ولولا التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية، لشدة اتصال الصفة بالموصوف قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم. فجاءت كما قدّروا. أو قدرها لهم السقاة على قدر ريّهم. لا يزيد ولا ينقص. وهو ألذّ للشارب، لكونه على مقدار حاجته، لا يفضل عنها ولا يعجز.
قال أبو حيان: أقرب من هذا ما نحاه أبو حاتم. وهو أن أصله قدر ريهم منها تقديرا والري العطش، فحذف المضاف وحرف الجر وأوصل الفعل له بنفسه.
قال الشهاب: وفي كونه أقرب، نظر. فإنه أكثر تكلفا. ولكن كل حزب بما لديهم فرحون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 17 الى 18]
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا أي ما يشبهه في الطعم. وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا وهي شديدة الجرية المنسابة بنوع خاص بهيج. ونصب عَيْناً بنحو (يؤتون) أو (ينظرون) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 19]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي لا يموتون. أو دائم شبابهم لا يتغيّرون عن تلك السن. أو مسوّرون. أو مقرطون. إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أي لحسنهم وكثرتهم في منازلهم، وانبثاثهم في منازه أماكنهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 20 الى 21]
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21)
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ أي نظرت في الجنة، ورميت بطرفك ما أوتي الأبرار رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً أي واسعا لا ينفذه البصر عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ وهو ما رقّ من الحرير خُضْرٌ قرئ بالرفع صفة ل ثِيابُ وبالجر ل سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٌ وهو ما غلظ من الديباج. وفيه القراءتان، رفعا وجرّا وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً أي ليس برجس كخمر الدنيا. أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدى الوضرة، وتدوسه الأقدام الدنسة، ولم يجعل في الدنان التي لم يعن بتنظيفها. والآية مما يستروح بها في نجاسة الخمر، لما فيها من التعريض بها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 22]
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
إِنَّ هذا أي ما عدّ من ثوابهم كانَ لَكُمْ جَزاءً أي على ما قدمتم من الصالحات وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي مجازى عليه غير مضيّع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 23]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أي عظيما لا يقدر قدره. أي فأمره الحق ووعده الصدق. والقصد تثبيت قلبه صلوات الله عليه، وشرح صدره وتحقيق أن المنزل وحي. وعدم المبالاة برميهم له بالسحر والكهانة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 24]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي من الصدع به، والتبليغ لآية والعمل بأوامره وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أي ولا تطع في معصيته تعالى من مشركي مكة، من ركب الإثم وجاهر بالكفر، ممن يريدك عن الرجوع عن دعوتك، بما شئت من مال أو مطلب وأَوْ إما على بابها. أي لا تطع من كان فيه أحد هذين الوصفين، فالنهي عمن اجتمعا فيه يعلم بالطريق الأولى. وإما بمعنى الواو.
قال الفرّاء: أَوْ هاهنا بمنزلة الواو. وفي الجحد والاستفهام والجزاء يكون بمعنى (لا) فهذا من ذلك مع الجحد. انتهى.
وإما بمعنى (بل) إضراب إلى وصف هو به أخلق وأجدر. وإما للتخيير في التسمية أي من شئت تسميه بالآثم أو الكفور، لتحقق مفهومهما فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 25 الى 26]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي بدعائه وتسبيحه والصلاة له بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي بالتهجد فيه وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا أي مقدارا طويلا، نصفه أو زيادة عليه. وفي هذه الأوامر، مع الأمر في أول (المزمل) وأمثالها، ما يدل على العناية بقيام الليل والحرص عليه.
ويأتي البحث المتقدم هنا أيضا. في أن الأمر خاص به صلوات الله عليه بناء على أنه للوجوب، أو يشمل غيره تبعا وهو للقدر المشترك، قولان معروفان في نظيره. والقصد حثه صلى الله عليه وسلم أن يستعين في دعوة قومه والصدع بما أمر به، بالصبر على
أذاهم والصلاة والتسبيح وقد كثر ذلك في مواضع من التنزيل كقوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] ، وقوله: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ [ق: 39- 40] ، وأمثالهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 27]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
إِنَّ هؤُلاءِ أي المشركين يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي اللذات العاجلة، فيسعون لها جهدهم، وإن أهلكوا الحرث والنسل وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا أي شديدا، لثقل حسابه وشدته وعسره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 28]
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ أي خلقهم وأعضاء بناهم.
قال الشهاب: الأسر، معناه لغة الشد والربط. ويطلق أيضا على ما يشد ويربط به. ولذا سمي الأسير أسيرا بمعنى مربوطا. فشبهت الأعصاب بالحبال المربوط بها، ليقوى البدن بها أو لإمساكها للأعضاء. ولذا سموها رباطات أيضا.
وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أي بإهلاكهم والإتيان بآخرين. وهذا محط الترهيب، وما قبله كالتعليل له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 29]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29)
إِنَّ هذِهِ أي السورة، أو الآيات القريبة تَذْكِرَةٌ أي عظة لمن اعتبر واتعظ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي بالطاعة الموصلة لقربه، إيصال السبيل للمقاصد.
فهو تمثيل.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #613  
قديم 22-06-2025, 11:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المرسلات
المجلد السادس عشر
صـ 6018 الى صـ 6028
الحلقة (613)





القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 30 الى 31]
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قال ابن جرير: أي وما تشاءون اتخاذ السبيل إلى ربكم إلا أن يشاء الله ذلك لكم، لأن الأمر إليه لا إليكم. أي لأن ما لم يشأ الله وقوعه من العبد، لا يقع من العبد. وما شاء منه وقوعه، وقع. وهو رديف (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) هذا تأويل السلف. وقالت المعتزلة: أي وما تشاءون الطاعة إلا أن يشاء الله بقسرهم عليها. والمسألة مبسوطة في الكلام. وقد لخصناها في (شرح لقطة العجلان) فارجع إليه. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بأحوالهم وما يكون منهم حَكِيماً أي في تدبيره وصنعه وأمره يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ قال أبو السعود:
بيان لإحكام مشيئته المترتبة على علمه وحكمته. أي يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها. وهو الذي يصرف مشيئته نحو اتخاذ السبيل إليه تعالى، حيث يوفّقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة. وَالظَّالِمِينَ وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى خلاف ما ذكر أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني عذاب النار. وقاناه الله بمنه وكرمه.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المرسلات
وتسمى سورة العرف وهي مكية وآيها خمسون.
روى البخاري «1» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله في غار بمنى، إذ أنزلت عليه و (المرسلات) فإنه ليتلوها، وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها، إذ وثبت علينا حيّة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتلوها. فابتدرناها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقيت شركم كما وقيتم شرها. وأخرجه مسلم «2» أيضا.
وروى الإمام أحمد «3» عن ابن عباس عن أمّه أنها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا. ورواه الشيخان أيضا «4» .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7)
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً إقسام بالرياح المرسلة متتابعة كشعر العرف. أو بالملائكة المرسلة بأمر الله ونهيه. وذلك هو العرف. أو بالرسل من بني آدم المبعوثة بذلك فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً أي الرياح الشديدات الهبوب، السريعات الممرّ وَالنَّاشِراتِ نَشْراً أي الرياح التي تنشر السحاب والمطر، كما قال: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: 57] ، وقوله: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ [الروم: 48] ، أو الملائكة التي تنشر الشرائع والعلم
(1)
أخرجه في: التفسير، سورة المرسلات، 1- باب حدثني محمود، حدثنا عبيد الله، حديث رقم 927.

(2)
أخرجه في: السلام، حديث رقم 137.

(3)
أخرجه في مسنده 6/ 338. []

(4)
أخرجه البخاري في: الأذان، 98- باب القراءة في المغرب، حديث رقم 463، عن أم الفضل.

وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم 173.
والحكمة والنبوّة والهداية في الأرض فَالْفارِقاتِ فَرْقاً أي الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل بسبب إنزال الوحي والتنزيل. أو الآيات القرآنية التي تفرق كذلك. أو السحب التي نشرن الموات ففرقن بين من يشكر الله تعالى وبين من يكفر كقوله:
لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: 16] ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً أي الملائكة الملقيات ذكر الله إلى أنبيائه، المبلغات وحيه عُذْراً أَوْ نُذْراً أي إعذارا من الله لخلقه، وإنذارا منه لهم. مصدران بمعنى الإعذار والإنذار. أي الملقيات ذكرا للإعذار والإنذار. أي لإزالة إعذارهم، وإنذارهم عقاب الله تعالى إن عصوا أمره إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ جواب القسم. أي: إن الذي توعدون به من مجيء القيامة والجزاء، لكائن نازل، كقوله: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: 6] ، أو من زهوق ما أنتم عليه من الباطل، وظفر الحق بقرنه، أو ما هو أعم. والأول أولى. لإردافه بعلاماته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 8 الى 15]
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)
لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي محقت أو ذهب ضياؤها، كقوله: انْكَدَرَتْ [التكوير: 2] ، وانْتَثَرَتْ [الانفطار: 2] . وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أي شققت وصدعت وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أي اقتلعت من أماكنها بسرعة. فكانت هباء منبثا وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي أجلت للاجتماع لوقتها يوم القيامة للشهادة على أممهم والفوز بما وعدوه من الكرامة. والهمزة من أُقِّتَتْ مبدلة من الواو.
قال ابن جرير وقرأه بعض قراء البصرة بالواو وتشديد القاف. وأبو جعفر بالواو وتخفيف القاف. وكل ذلك قراءات معروفات ولغات مشهورات بمعنى واحد. فبأيتها قرأ القارئ فمصيب. غير أن من العرب من يستثقل ضمة الواو- كما يستثقل كسرة الياء في أول الحرف. فيهمزها.
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ أي أخرت عن معاجلة الثواب والعقاب. أي يقال لأي يوم أجلت فالجملة مقول قول مضمر، هو جواب (إذا) أو حال من مرفوع (أقتت) والمعنى ليوم عظيم أخرت أمور الرسل. وهو تعذيب الكفرة وإهانتهم، وتعظيم المؤمنين ورعايتهم، وظهور ما كانت الرسل تذكرة من أحوال الآخرة وأهوالها، ولذا عظم شأن اليوم، وهوّل أمره بالاستفهام. وقوله تعالى: لِيَوْمِ الْفَصْلِ بدل مما قبله، مبين له. أو متعلق بمقدر. أي أجلت ليوم الفصل بين الخلائق. وقد قيل: لامه بمعنى (إلى) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ أي بين السعداء والأشقياء. والاستفهام كناية عن تهويله وتعظيمه.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بيوم الفصل. كما قال في سورة المطففين الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المطففين: 11] ، والتكذيب به، إنكار البعث له والحشر إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 19]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أي الأمم الماضين المكذبين بالرسل والجاحدين بالآيات، كقوم نوح، وعاد، وثمود. ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ أي من قوم لوط، وموسى.
فنسلك بهم سبل أولئك. وهو وعيد لأهل مكة كَذلِكَ أي مثل ذلك الأخذ العظيم. نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي بكل من أجرم وطغى وبغى وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قال ابن جرير: أي بأخبار الله التي ذكرها في هذه الآية، الجاحدين قدرته على ما يشاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 20 الى 24]
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي من نطفة ضعيفة فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي رحم استقر فيها فتمكّن إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ أي وقت معلوم لخروجه من الرحم فَقَدَرْنا قرئ بالتخفيف والتشديد. أي فقدرنا على ذلك أو قدّرناه فَنِعْمَ الْقادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بقدرته تعالى على ذلك، أو على الإعادة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 25 الى 26]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً قال ابن جرير: أي وعاء. تقول هذا كفت هذا وكفيته إذا كان وعاءه. والمعنى ألم نجعل الأرض كفات أحيائكم وأمواتكم، تكفت أحياءكم في المساكن والمنازل فتضمهم فيها وتجمعهم، وأمواتكم في بطونها في القبور فيدفنون فيها؟ وجائز أن يكون عنى بقوله: كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً تكفت أذاهم في حال حياتهم، وجيفهم بعد مماتهم. انتهى.
و (الكفات) إما اسم جنس لما يضم ويقبض. يقال: كفته الله إليه أي قبضه.
ولذلك سميت المقبرة كفتة وكفاتا. ومنه الضمام والجماع، لما يضم ويجمع. يقال
هذا الباب جماع الأبواب. وإما اسم آلة، لأن فعالا كثر فيه ذلك. أو مصدر كقتال.
أوّل بالمشتق ونعت به، كرجل عدل. أو جمع كافت كصائم وصيام. أو كفت بكسر فسكون كقدح وقداح.
وكِفاتاً منصوب على أنه مفعول ثان ل نَجْعَلِ لأنها للتصيير، وأَحْياءً وَأَمْواتاً منصوبان على أنهما مفعولان به ل كِفاتاً.
قال الشهاب: وهذا ظاهر على كون (كفاتا) مصدرا أو جمع كافت. لا على كونه اسم آلة فإنه لا يعمل، كما صرح به النحاة. وحينئذ فيقدر فعل ينصبه من لفظه، كما صرح به ابن مالك في كل منصوب بعد اسم غير عامل. وثمة وجوه أخر.
تنبيه:
في (الإكليل) قال إلكيا الهراسي: عنى بالكفات الانضمام. ومراده أنها تضمهم في الحالتين. وهذا يدل على وجوب مواراة الميت فلا يرى منه شيء. وقال ابن عبد البرّ: احتج ابن القاسم في قطع النباش بهذه الآية. لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحيّ، فيكون حرزا. انتهى.
ونقله القفّال عن ربيعة. وعندي أن مثل هذا الاحتجاج من الإغراق في الاستنباط وتكلف التماس ما يؤيد المذهب المتبوع كيفما كان، مما يعد تعسّفا وتعصّبا. وبين فحوى الآية وهذا الاستنباط ما بين المنجد والمتهم. ومثله أخذ بعضهم من الآية السابقة لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ تأجيل القضاة الخصوم في الحكومات، ليقع فصل القضاء عند تمام التأجيل. كما نقله في (الإكليل) عن ابن الفرس.
ومآخذ الدين والتشريع ليست من الأحاجي والمعميات. وبالله التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 27 الى 28]
وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ أي جبالا شاهقات وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي عذبا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : آية 29]
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
انْطَلِقُوا أي يقال لهؤلاء المكذبين بهذه النعم والحجج التي احتج بها عليهم يوم القيامة: انطلقوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي من عذاب الله للكفرة الفجرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 30 الى 40]
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ أي فرق. وذلك دخان جهنم المرتفع من وقودها، إذا تصاعد تفرّق شعبا ثلاثا، لعظمه.
قال الشهاب: فيه استعارة تهكمية لتشبيه ما يعلو من الدخان بالظل. وفيه إبداع، لأن الظل لا يعلو ذا الظل. وقوله تعالى: لا ظَلِيلٍ تهكم بهم. لأن الظل لا يكون إلا ظليلا أي مظللا. فنفيه عنه للدلالة على أن جعله ظلّا تهكم بهم، ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم، فنفي هذا الاحتمال بقوله: لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أي لا يردّ عنهم من لهب النار شيئا. والمعنى أنه لا يظلهم من حرّها ولا يكنّهم من لهبها إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ أي تقذف كل شررة كالقصر في عظمها، والقصر واحد القصور.
قال ابن جرير: العرب تشبّه الإبل بالقصور المبنية، كما قال الأخطل في صفة ناقة:
كأنها برج رومي يشيّده ... لزّ بجصّ وآجرّ وأحجار
ثم قال: وقيل بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ولم يقل كالقصور. والشرر جمع. كما قيل:
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ولم يقل الأدبار لأن الدبر بمعنى الأدبار. وفعل ذلك توفيقا بين رؤوس الآي ومقاطع الكلام. لأن العرب تفعل ذلك كذلك. وبلسانها نزل القرآن.
كَأَنَّهُ جِمالَتٌ وقرئ (جمالات) جمع (جمال) جمع (جمل) أو جمع (جمالة) جمع (جمل) أيضا. ونظيره: رجال ورجالات، وبيوت وبيوتات، وحجارة وحجارات. صُفْرٌ أي في لونها. فإن الشرار بما فيه من النارية يكون أصفر. وقيل:
صفر أي سود.
قال قتادة وغيره: أي كالنوق السود، واختاره ابن جرير: زاعما أنه المعروف من
كلام العرب وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ أي بحجة. أو في وقت من أوقاته. لأنه يوم طويل ذو مواقف ومواقيت. أو جعل نطقهم كلا نطق، لأنه لا ينفع ولا يسمع فلا ينافي آية وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، ووَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء: 42] ، وثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 31] ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ أي لا يمهد لهم الإذن في الاعتذار، لعدم قبول معذرتهم بقيام الحجة عليهم. وإنما لم يقل (فيعتذروا) محافظة على رؤوس الآي. وقيل: هو معطوف على يُؤْذَنُ منخرط معه في سلك النفي. والمعنى ولا يكون لهم إذن واعتذار متعقب له، من غير أن يجعل الاعتذار مسببا عن الإذن وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي الحق بين العباد جَمَعْناكُمْ أي حشرناكم فيه وَالْأَوَّلِينَ أي من الأمم الهالكة فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ أي احتيال للتخلص من العذاب فَكِيدُونِ أي فاحتالوا له.
قال الزمخشري: تقريع لهم على كيدهم لدين الله وذويه، وتسجيل عليهم بالعجز والاستكانة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي فإنه لا حيلة لهم في دفع العقاب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 41 - 46 ] إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون

إن المتقين أي: الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه في ظلال أي: كنان من الحر والقر وعيون أي: أنهار تجري خلال أشجار.

وفواكه مما يشتهون أي: يرغبون، مقولا لهم: كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين أي: في طاعتهم وعبادتهم وعملهم.

ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون أي: حظكم حظ من أجرم، وهو الأكل والتمتع أياما قلائل، ثم البقاء في الهلاك أبدا.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #614  
قديم 22-06-2025, 11:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النبأ
المجلد السابع عشر
صـ 6029 الى صـ 6038
الحلقة (614)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 46]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه فِي ظِلالٍ أي كنان من الحرّ والقرّ وَعُيُونٍ أي أنهار تجري خلال أشجار وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي يرغبون، مقولا لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي في طاعتهم وعبادتهم وعملهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي حظكم حظ من أجرم، وهو الأكل والتمتع أياما قلائل، ثم البقاء في الهلاك أبدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 47 الى 50]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا أي اخضعوا لهذا الحق الذي نزل، وتواضعوا لقبوله، واخشعوا لذكره لا يَرْكَعُونَ أي لا يخضعون ولا ينقادون ولا يقبلون، تجبرا واستكبارا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي الذين كذبوا رسل الله، فردوا عليهم ما بلغوا من أمر الله إياهم ونهيه لهم. وتكرير آية وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ للتأكيد. وهو من المقاصد الشائعة. وقيل: لا تكرار، لاختلاف متعلق كل منها.
وتقدم تمام البحث في سورة (الرحمن) فارجع إليه في خاتمتها فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي بعد هذا القرآن، إذا كذبوا به، مع وضوح برهانه وصحة دلائله، في أنه حق منزل من عنده تعالى. وفيه تنبيه على أنه لا حديث يساويه في الفضل أو يدانيه، فضلا عن أن يفوقه ويعلوه، فلا حديث أحق بالإيمان منه.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النّبأ
وتسمى سورة عَمَّ يَتَساءَلُونَ. وهي مكية، وآيها أربعون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
عَمَّ يَتَساءَلُونَ أي هؤلاء المشركون بالله ورسوله. قال ابن جرير وذلك أن قريشا جعلت، فيما ذكر عنها، تختصم وتتجادل في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الإقرار بنبوته، والتصديق بما جاء به من عند الله تعالى، والإيمان بالبعث.
فقال الله تعالى لنبيه: فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون؟. و (في) و (عن) في هذا الموضع بمعنى واحد. انتهى.
والاستفهام للتفخيم أو للتبكيت. والتفاعل إما على بابه، أو هو بمعنى (فعل) والمعنى على الأول يتساءلون فيما بينهم. وعلى الثاني يسألون الرسول صلوات الله عليه وسلامه، أو المؤمنين. قيل مجيء تفاعل بمعنى فعل إذا كان في الفاعل كثرة، مراعاة لمعنى التشارك بقدر الإمكان ونوقش بأن (تفاعل) يكون بمعنى (فعل) كثيرا وإن لم يتعدد فاعله. كتواني زيد وتدانى الأمر. بل حيث لا يمكن التعدد نحو تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 63] ، وقوله:
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ بيان للمفخم شأنه، أو للمبكت من أجله الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ أي منقسمون، بعضهم يجحده وآخر يرتاب فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 4 الى 5]
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ردع للمتسائلين ووعيد لهم. والتكرير للمبالغة لحذف مفعول العلم. فإما أن يقدر سيعلمون حقيقة الحال وما عنه السؤال.
أو سيعلمون ما يحل بهم العقوبات والنكال. فتكريره مع الإبهام، يفيد مبالغة.

وفي ثُمَّ إشعار بأن الوعيد الثاني أشد. لأنها هنا للبعد والتفاوت الرتبيّ. فكأنه قيل:
ردع وزجر لكم شديد، بل أشد وأشد. وبهذا الاعتبار صار كأنه مغاير لما قبله. ولذا خص عطفه ب ثُمَّ غالبا. هذا ملخص ما في (العناية) .
ثم ذكّرهم تعالى بدلائل قدرته وآيات رحمته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 6 الى 11]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10)
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي فراشا وموطئا تتمهدونها وتفترشونها وَالْجِبالَ أَوْتاداً أي للأرض. أي أرسيناها بالجبال كما يرسي البيت بالأوتاد، حتى لا تميد بأهلها فيكمل كون الأرض مهادا بسبب ذلك. قال الإمام مفتي مصر: وإنما كانت الجبال أوتادا لأن بروزها في الأرض كبروز الأوتاد المغروزة فيها، ولأنها في تثبيت الأرض ومنعها من الميدان والاضطراب، كالأوتاد في حفظ الخيمة من مثل ذلك.
كأن أقطار الأرض قد شدت إليها ولولا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب بما في جوفها من الموادّ الدائمة الجيشان.
وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أي ذكورا وإناثا. قال الإمام: ليتم الائتناس والتعاون على سعادة المعيشة وحفظ النسل وتكميله بالتربية.
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أي راحة ودعة، يريح القوى من تعبها ويعيد إليها ما فقد منها. إطلاقا للملزوم وهو (السبات) بمعنى النوم، وإرادة لّلازم وهو (الاستراحة) . وقيل: السبات هو النوم الممتد الطويل السكون. ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم: إنه مسبوت وبه سبات. ووجه الامتنان بذلك ظاهر، لما فيه من المنفعة والراحة، لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبان شيئا من الراحة. وقد أفاض السيد المرتضى في أماليه في لطائف تأويل هذه الآية.
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً أي كاللباس بإحاطة ظلمته بكل أحد، وستره لهم.
قال الرازي: ووجه النعمة في ذلك، أن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدوّ أو بياتا له، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان إطلاع غيره عليه. قال المتنبي:
وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبّر أن المانوية تكذب
وأيضا، فكما أن الإنسان، بسبب اللباس، يزداد جماله وتتكامل قوته ويندفع
عنه أذى الحر والبرد، فكذا لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم يزيد في جمال الإنسان وفي طراوة أعضائه وفي تكامل قواه الحسية والحركية، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني وأذى الأفكار الموحشة.
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أي وقت معاش. إذ فيه تتقلب الخلق في حوائجهم ومكاسبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 12 الى 16]
وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً قال الرازي: أي سبع سماوات شدادا جمع (شديدة) يعني محكمة قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الزمان، لا فطور فيها ولا فروج.
وقال الإمام: السبع الشداد الطرائق السبع. وهي ما فيه الكواكب السبعة السيارة المشهورة. وخصها بالذكر لظهورها ومعرفة العامة لها. وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً أي متلألئا وقّادا. يعني الشمس وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ أي السحائب إذا أعصرت، أي شارفت أن تعصرها الرياح ماءً ثَجَّاجاً أي منصبّا متتابعا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً قال ابن جرير: الحب كل ما تضمنه كمام الزرع التي تحصد. والنبات الكلأ الذي يرعى من الحشيش والزروع.
وقال الزمخشري: يريد ما يتقوّت من نحو الحنطة والشعير، وما يعلف من التبن والحشيش. كما قال: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه: 54] .
وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أي حدائق ملتفة الشجر، مجتمعة الأغصان.
قال الرازي: قدم الحب لأنه الأصل في الغذاء. وثنى بالنبات لاحتياج الحيوانات إليه. وأخر الجنات لأن الحاجة إلى الفواكه ليست بضرورية. ثم قال: وكان الكعبي من القائلين بالطبائع. فاحتج بقوله تعالى: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا إلخ على بطلان قول من قال: إنه تعالى لا يفعل شيئا بواسطة شيء آخر. أي لأن ارتباط المسببات بالأسباب مما بنى عليه سبحانه، بحكمته الباهرة، نظام العمران.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي يوم يفصل بين الناس ويفرق السعداء من الأشقياء، باعتبار تفاوت الأعمال، وهو يوم القيامة كانَ أي عند الله وفي علمه وحكمه مِيقاتاً أي حدّا معينا، ووقتا مؤقتا، ينتهي الخلق إليه ليرى كلّ جزاء عمله يَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
بدل من يَوْمَ الْفَصْلِ أو عطف بيان. كناية عن اتصال الأرواح بالأجساد، ورجوعها بها إلى الحياة والحشر في الآخرة. كما قال القاشاني والشهاب.
وقال الإمام: النفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق: فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] ، وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً أي فرقا مختلفة، كل فرقة مع إمامهم، على حسب تباين عقائدهم وأعمالهم وتوافقها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 19 الى 20]
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20)
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً قال ابن جرير: أي وشققت السماء فصدعت، فكانت طرقا، وكانت من قبل شدادا لا فطور فيها ولا صدوع.
وقال القاضي فيما نقله الرازيّ: وهذا الفتح هو معنى قوله: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] ، وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] ، إذ الفتح والتشقق والتفطر تتقارب، وهذا، كما قال ابن جرير، متين للغاية. وتعقب الرازي له، وقوف مع الألفاظ لا يفيد. لا سيما والأصل هو التفسير بالنظائر والأشباه.
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً أي رفعت من أماكنها في الهواء. وذلك إنما يكون بعد تفتيتها وجعلها أجزاء متصاعدة كالهباء. وفي الآية تشبيه بليغ. والجامع أن كلّا منهما يرى على شكل شيء، وليس به. فالسراب يرى كأنه بحر وليس كذلك. والجبال إذا فتتت وارتفعت في الهواء، ترى كأنها جبال وليست بجبال. بل غبار غليظ متراكم، يرى من بعيد كأنه جبل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 21 الى 26]
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25)
جَزاءً وِفاقاً (26)
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً أي موضع رصد، يرصد فيه خزنتها من كان يكذب بها وبالمعاد. على أن مِرْصاداً اسم مكان. أو مجدّة في ترصدهم وارتقاب مقدمهم. على أنه صيغة مبالغة لِلطَّاغِينَ مَآباً أي للذين طغوا في الدنيا، فتجاوزوا حدود الله استكبارا على ربهم، منزلا ومرجعا يصيرون إليه لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً أي دهورا متتابعة إلى غير نهاية. كقوله: خالِدِينَ فِيها أَبَداً [الأحزاب: 65] ، لا
يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً
أي روحا وراحة وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً أي ماء حارّا انتهى غليانه وَغَسَّاقاً أي صديدا. وهو ما يخرج من جلودهم مما تصهرهم النار، في حياض يجتمع فيها، فيسقونه جَزاءً وِفاقاً أي: جوزوا بذلك جزاء موافقا لما ارتكبوه من الأعمال، وقدموه من العقائد والأخلاق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 27 الى 29]
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29)
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً قال القاشاني: أي ذلك العذاب، لأنهم كانوا موصوفين بهذه الرذائل من عدم توقع المكافاة والتكذيب بالآيات. أي لفساد العمل والعلم. فلم يعملوا صالحا رجاء الجزاء، ولم يعلموا علما فيصدقوا بالآيات.
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً قال القاشاني: أي كل شيء من أعمالهم ضبطناه بالكتابة عليهم في صحائف نفوسهم.
وقال الرازيّ: المراد من قوله: كِتاباً تأكيد ذلك الإحصاء والعلم. وهذا التأكيد إنما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر. فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال، لأنه واجب لذاته. انتهى.
وهو بمعنى ما نقله الشهاب أنه تمثيل لإحاطة علمه بالأشياء لتفهيمنا. وإلا فهو تعالى غني عن الكتابة والضبط. ومذهب السلف الإيمان بهذه الظواهر وتفويض تأويلها إلى الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 30 الى 36]
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً أي يقال لهم ذاك، تقريعا وغضبا وتأنيبا لهم من تخفيف العذاب، وإعلاما بمضاعفته.
ولما ذكر وعيد الكفار، تأثره بوعد الأبرار، بقوله سبحانه إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً أي فوزا بالنعيم. ونجاة من النار، التي هي مآب الطاغين حَدائِقَ وَأَعْناباً الحدائق
جمع حديقة وهي البستان فيه أنواع الشجر المثمر المحوط بالحيطان المحدقة به.
والأعناب معروفة. قال ابن جرير: أي وكروم وأعناب، فاستغنى بالأعناب عنها.
وَكَواعِبَ أي بنات فلكت ثديّهن، أي استدارت مع ارتفاع يسير أَتْراباً أي متساويات في السن وَكَأْساً دِهاقاً أي ملأى من خمر لذة للشاربين لا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة لَغْواً أي باطلا من القول وَلا كِذَّاباً أي مكاذبة.
أي لا يكذب بعضهم بعضا.
قال الإمام: اللغو والتكذيب مما تألم له أنفس الصادقين، بل هو من أشد الأذى لقلوبهم. فأراد الله إزاحة ذلك عنهم جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً أي جزاء لهم على صالح أعمالهم، تفضّلا منه تعالى بذلك الجزاء حِساباً أي كافيا، أو على حسب أعمالهم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #615  
قديم 22-06-2025, 11:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النازعات
المجلد السابع عشر
صـ 6039 الى صـ 6048
الحلقة (615)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 37]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37)
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً قال ابن جرير: أي لا يملكون أن يخاطبوا الله. قال: والمخاطب المخاصم الذي يخاصم صاحبه. وقال غيره: أي لا يملكهم الله منه خطابا في شأن الثواب والعقاب. بل هو المتصرّف فيه وحده. وهذا كما تقول (ملكت منه درهما) ف (من) ابتدائية متعلقة ب (يملكون) وعلى ما ذكره ابن جرير من أن المعنى لا يملكون أن يخاطبوه بشيء من نقص العذاب، ف (منه) صلة (خطابا) كما تقول (خاطبت منك) على معنى خاطبتك. ك (بعت زيدا) أو (بعت من زيد) ف (منه) بيان مقدم على المصدر لا صلة (يملكون) وقد قرئ (رب) و (الرحمن) بالجر وبالرفع. وقرئ بجر الأول ورفع الثاني.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 38 الى 39]
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ أي جبريل عليه السلام وهو المعبّر عنه بروح القدس في آية أخرى وفيه أقوال أخر نقلها ابن جرير. وما ذكرناه أصوبها. والتنزيل يفسر بعضه بعضا.
ثم رأيت الرازي نقل عن القاضي اختياره، قال: لأن القرآن دل على أن هذا الاسم اسم جبريل عليه السلام. وثبت أن القيام صحيح من جبريل، والكلام صحيح منه، ويصح أن يؤذن له. فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه، أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام؟ وقوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قال القاشاني: أي صافّين في مراتبهم، كقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] .
وقال الرازي: يحتمل أن يكون المعنى صفّا وحدا. ويحتمل أنه صفان، ويجوز صفوفا. والصف في الأصل مصدر، فينبئ عن الواحد والجمع. ورجح بعضهم الأخير لآية وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] ، انتهى.
وقوله تعالى: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً أي لا يتكلمون في الشفاعة كقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ، والضمير للملائكة أو أعمّ كقوله: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود: 105] .
قال الزمخشري: هما شريطتان: أن يكون المتكلّم منهم مأذونا له في الكلام، وأن يتكلّم بالصواب، فلا يشفع لغير مرتضى لقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: 28] .
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الواقع الذي لا يمكن إنكاره والْحَقُّ صفة أو خبر.
فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً قال ابن جرير: أي فمن شاء اتخذ بالتصديق بهذا اليوم الحق، والاستعداد له والعمل بما فيه، النجاة له من أهواله، مرجعا حسنا يؤوب إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 40]
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
َّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
يعني عذاب الآخرة وقربه. لأن مبدأه الموت وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
أي من خير أو شرّ. أي ينظر جزاءه: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
أي مثله. لم أصب حظّا من الحياة، لما يلقى من عذاب الله الذي أعدّ لأمثاله. وقاناه الله بمنه وكرمه.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النازعات
وتسمى سورة الساهرة. والطامّة. وهي مكية. وآيها ست وأربعون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5)
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً يعني الغزاة أو أيديهم. يقال للرامي (نزع في قوسه) إذا مدها بالوتر. و (نزع في قوسه فأغرق) و (أغرق النازع في القوس) إذا استوفى مدها.
ويضرب مثلا للغلوّ والإفراط. وغَرْقاً بمعنى إغراقا كالسلام بمعنى التسليم، وهو الإغراق بحذف الزوائد. أو وَالنَّازِعاتِ الكواكب. من (نزع الفرس سننا) جرى طلقا، أي الجاريات على السير المقدر، والحدّ المعين، مجدّة في السير، مسرعة للغاية. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً أي الخيل لأنها تخرج من دار إلى دار. من قولهم (ثور ناشط) إذا خرج من بلد إلى بلد. أو هي السهام. يعني خروجها عن أيدي الرماة ونفوذها. وكل شيء حللته، فقد نشطته. ومنه (نشاط الرجل) وهو انبساطه وخفته.
أو الكواكب تنشط من برج إلى برج. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً أي الخيل تسبح في عدوها فتسبق إلى العدوّ. وهو مستعار من (سبح في الماء) لكنه ألحق بالحقيقة لشهرته. أو هي الكواكب تسبح في الفلك. لأن مرورها في الجو كالسبح، كما قال تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. [الأنبياء: 33] ، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً أي الخيل تسبق إلى العدوّ في حومة الوغى. أو الكواكب السيارة تسبق غيرها في السير، لكونها أسرع حركة. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً أي الخيل. أسند إليها أمر تدبير الظفر مجازا لأنها سببه. أو المدبرات مثل المعقبات. أي أنه يأتي في أدبار هذا الفعل الذي هو نزع السهام وسبح الخيل وسبقها، الأمر الذي هو النصر. أو هي الكواكب تدبر أمرا نيط بها. كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات، مجازا أيضا. لأنها
سببه. أو هي الملائكة تدبر ما نيط بها من أمر الله تعالى. وقد جوّز فيما قبلها أن تكون الملائكة أيضا. واللفظ الكريم متسع لما ذكر من المعاني بلا تدافع. ولا إمكان للجزم بواحد، إذ لا قاطع. ولذا قال ابن جرير: الصواب عندي أن يقال إنه تعالى أقسم بالنازعات غرقا، ولم يخصص نازعة دون نازعة. فكل نازعة غرقا، فداخلة في قسمه ملكا أو نجما أو قوسا أو غير ذلك. وكذا عم القسم بجميع الناشطات من موضع إلى موضع. فكل ناشط فداخل فيما أقسم به، إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها، بأن المعنى بالقسم من ذلك، بعض دون بعض. وهكذا في البقية. وكلامه رحمه الله متجه للغاية. إذ فيه إبقاء اللفظ على شموله، وهو أعم فائدة وعدم التكلف للتخصيص بلا قاطع. وإن كانت القرائن واستعمال موادها في مثلها وشواهدها، مما قد يخصص الصيغ. إلا أن التنزيل الكريم يتوقّى في التسرّع فيه ما لا يتوقى في غيره.
لطائف:
قال أبو السعود: العطف مع اتحاد الكل، بتنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما في قوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور، حقيق بأن يكون على حياله، مناطا لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام، بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه. والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة. وغَرْقاً مصدر مؤكد بحذف الزوائد. وانتصاب نَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً أيضا على المصدرية، وأما أَمْراً فمفعول للمدبرات. وتنكيره للتهويل والتفخيم. والمقسم عليه محذوف، تعويلا على إشارة ما قبله من المقسم به إليه، ودلالة ما بعده من أحوال القيامة عليه، وهو (لنبعثن) وبه تعلق قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 6 الى 10]
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ أي الواقعة التي ترجف عندها الأجرام الساكنة. أي تتحرك حركة شديدة وتزلزل زلزلة عظيمة. فالإسناد إليها مجازي لأنها سببه. أو التجوز في الطرف يجعل سبب الرجف راجفا. أو الراجفة الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذ كالأرض والجبال. فتسميتها راجفة باعتبار الأول. قال الشهاب: ولو فسرت الراجفة بالمحركة جاز، وكان حقيقة. لأن (رجف) يكون بمعنى حرّك وتحرّك.
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أي السماء وما فيها. تردفها فتنشق وتنتثر كواكبها. ولوقوع ذلك فيها بعد الرجفة الأولى، جعلت رادفة لها. أو الرادفة النفخة الثانية لبعث يوم القيامة.
قال الحسن: هما النفختان. أما الأولى فتميت الأحياء. وأما الثانية فتحيي الموتى. ثم تلا الحسن: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي شديدة الاضطراب، خوفا من عظيم الهول النازل أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي أبصار أهلها ذليلة، مما قد علاها من الكآبة والحزن، من الخوف والرعب. وقوله تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ قال ابن جرير: أي يقول هؤلاء المكذبون بالبعث من مشركي قريش، إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت:
أإنا لمردودون إلى حالنا الأولى قبل الممات، فراجعون أحياء كما كنا؟ وقال أبو السعود: حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المكذبون بالآيات الناطقة به، إثر بيان وقوعه بطريق التوكيد القسمي، وذكر مقدماته الهائلة وما يعرض عند وقوعها للقلوب والأبصار. أي يقولون، إذا قيل لهم إنكم تبعثون، منكرين له متعجبين منه: أإنا لمردودون بعد موتنا في الحافرة؟ أي في الحالة الأولى. يعنون الحياة. من قولهم (رجع فلان في حافرته) أي في طريقته التي جاء فيها فحفرها. أي أثر فيها بمشيه.
وتسميتها (حافرة) مع أنها محفورة كقوله تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة:
21] ، أي منسوبة إلى الحفر والرضا. أو كقولهم (نهاره صائم) على تشبه القابل بالفاعل. أي شبه القابل للفعل بمن يفعله، لتنزيله منزلته. فالاستعارة في الضمير المستتر، وإثبات الحافرية له، تخييل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 11 الى 14]
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً أي بالية. وقرئ ناخرة. من (نخر العظم) بلي. فصار يمرّ به الريح فيسمع له نخير، وقوله تعالى: قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي ذات خسر. أو خاسرة أصحابها أي إن صحت فنحن إذا خاسرون. قال ابن زيد: وأي كرة أخسر منها؟ أحيوا ثم صاروا إلى النار، فكانت كرة سوء.
وقال أبو السعود: هذا حكاية لكفر آخر لهم، متفرع على كفرهم السابق. ولعل توسيط قالُوا بينهما للإيذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الاطراد والاستمرار، مثل كفرهم السابق المستمر صدوره عنها في كافة أوقاتهم. حسبما ينبئ. عنه حكايته بصيغة المضارع. أي قالوا ذلك بطريق الاستهزاء، مشيرين إلى ما أنكروه من الردة في الحافرة. وقوله تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ تعليل لمقدر يقتضيه إنكارهم لإحياء العظام النخرة التي عبروا عنها بالكرّة. فإن مداره لما كان استصعابهم إياها، رد عليهم ذلك، فقيل: لا تستصعبوها فإنما هي صيحة واحدة.
أي حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية. وفيه تهوين لأمر الإعادة. على وجه بليغ لطيف فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ أي على ظهر الأرض أحياء.
قال ابن جرير: والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة (قال) وأراهم سموا ذلك بها لأن فيه نوم الحيوان وسهرها. فوصف بصفة ما فيه. وقيل لأن السراب يجري فيها. من قولهم: (عين ساهرة) للتي يجري ماؤها، وفي ضدها نائمة. والسهر على الأول بمعناه المعروف، والتحوز في الإسناد.
وفي الثاني مجاز على المجاز، لشهرة لأول التي ألحقته بالحقيقة. ثم ذكّر سبحانه الكفرة ما حل بمن هو أشد منهم قوة، لما طغوا، ترهيبا وإنذارا، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 16]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي خبره حين ناجاه ربه تعالى. قال أبو السعود:
ومعنى هَلْ أَتاكَ إن اعتبر هذا أول ما أتاه صلى الله عليه وسلم من حديثه عليه السلام، ترغيب له في استماع حديثه. كأنه قيل هل أتاك حديثه أنا أخبرك به. وإن اعتبر إتيانه، قبل هذا، وهو المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص، حمله صلى الله عليه وسلم على أن يقرّ بأمر يعرفه قبل ذلك. كأنه قيل أليس قد أتاك حديثه؟
وقال الشهاب: المقصود من الاستفهام التذكير لا التقرير، كما قيل. ولا مجافاة في المعنى على كلّ، كما لا يخفى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً إلى حين ناداه بالوادي المطهر المبارك. وهو واد في أسفل جبل طور سيناء من برية فلسطين.
وإِذْ ظرف للحديث لا للإتيان، لاختلاف وقتيهما وطُوىً اسم لذلك الوادي.
ومصدر لنادى. أو المقدس. أي ناداه نداءين. أو المقدس مرة بعد أخرى.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #616  
قديم 22-06-2025, 11:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النازعات
المجلد السابع عشر
صـ 6049 الى صـ 6059
الحلقة (616)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 17 الى 19]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أي عتا وتجاوز حدّه في العدوان على بني إسرائيل، وانتحال صفات الربوبية، ونسبتها إلى نفسه فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى أي تتزكى وتتطهر من دنس الشرك والطغيان. وإِلى متعلقة بمبتدأ محذوف. أي هل لك سبيل أو رغبة إلى أن تتزكى؟
وقال أبو البقاء: لما كان المعنى أدعوك. جيء ب إِلى فجعل الظرف متعلقا بمعنى الكلام أو بمقدر يدل عليه وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي أرشدك إلى علم ما يرضيه عنك. وذلك الدين القيم فَتَخْشى أي عقابه من سلب الملك وإذاقة البأس مكان النعم. وذلك بأداء ما ألزمك من فرائضه واجتناب ما نهاك عنه من معاصيه. وفيه إشارة إلى أن الخشية مسببة عن العلم. كما في آية: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ، أي العلماء به.
قال الزمخشري:
ذكر الخشية لأنها ملاك الأمر. من خشي الله أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر. وبدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض. كما يقول الرجل لضيفه:
هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرفيق. ليستدعيه بالتلطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوّه. كما أمر بذلك في قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] ، انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 20 الى 26]
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى أي الدلالة الكبرى على أنه لله رسول أرسله إليه. والفاء فصيحة، تفصح عن جمل قد طويت، تعويلا على تفصيلها في السور الأخرى. أي فذهب وبلغ ورجع وتحدّى فأراه الآية الكبرى. وهو على ما قاله مجاهد، عصاه ويده.
أي عصاه إذ تحولت ثعبانا مبينا. ويده إذ أخرجها بيضاء للناظرين. وإفرادهما لأنهما كالآية الواحدة في الدلالة. أو هي العصا لأنها كانت المقدمة والأصل. والبقية
كالتبع. وقيل وكونها كبرى باعتبار معجزات من قبله من الرسل. أو هو للزيادة المطلقة فَكَذَّبَ وَعَصى أي فكذب فرعون موسى فيما أتاه من الآيات المعجزة، ودعاها سحرا، وعصاه فيما أمره به من طاعة ربه وخشيته إياه ثُمَّ أَدْبَرَ أي أعرض عما هدي إليه. أو انصرف عن المجلس كبرا يَسْعى أي يجدّ في معارضة الآية بالمكايد الشيطانية والحيل النفسانية. أو أدبر بعد ما رأى الثعبان، مرعوبا مسرعا في مشيه فَحَشَرَ أي جمع السحرة، أو قومه وأتباعه فَنادى أي في المجمع بنفسه أو بمناد فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي على كل من يلي أمركم. وفي (التنوير) : أي أنا ربكم ورب أصنامكم الأعلى فلا تتركوا عبادتها.
قال القاضي: وقد كان الأليق به، بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية، أن لا يقول هذا القول. لأن، عند ظهور الذلة والعجز كيف يليق أن يقول أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى؟ فدلت هذه الآية على أنه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول. انتهى.
وهذا على أنه أراد بالرب الخالق والموجد. والظاهر أن مراده ذو السلطان الأعلى والنفوذ الأقوى. وأنه الذي يستأهل الطاعة دون غيره. ولا يخفى ما فيه من جحود قدرة الله تعالى التي هي فوق قدرته، والكفر بآية موسى والصد عن دعوته. ولذا أخذ أشد الأخذ. فإنه لم يزل في عتوه حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر، عند خروجهم من مصر، فأغرقه الله تعالى في البحر. وهو معنى قوله تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي عذبه عذابهما. أي أن أخذه لم يكن مقصورا على الإغراق وحده، بل نكل به وعذبه عذاب يوم القيامة. ونَكالَ مفعول مطلق (أخذ) بتأويل في الأول أو في الثاني، والإضافة من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة. وقيل الآخرة هي قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى والأولى هي تكذيبه موسى حين أراه الآية.
قال القفال: وهذا كأنه هو الأظهر. لأنه تعالى قال: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فذكر المعصيتين ثم قال:
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فظهر أن المراد أنه عاقبة على هذين الأمرين.
انتهى.
وما ذكره القفّال كان وقع في قلبي قبل أن أراه. وأراني في إيثار له. ثم ختم تعالى القصة بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى أي في أخذه وما أحل به من العذاب والخزي، عظة ومعتبرا لمن يخاف الله ويخشى عقابه، ويعلم أن هذه سنته في كل من يقاوم الحق ويحاربه. فإن نبأ الأولين عبرة للآخرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 33]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ خطاب للمكذّبين بالبعث من قريش، المتقدم قولهم أول السورة، بطريق التبكيت، لتنبيههم على سهولته في جانب القدرة الربانية.
فإن من رفع السماء على عظمها، هيّن عليه خلقهم وخلق أمثالهم، وإحياؤهم بعد مماتهم.
كما قال سبحانه: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:
57] ، وقوله تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] ، ثم بيّن كيفية خلقها بقوله: بَناها قال ابن جرير: أي رفعها فجعلها للأرض سقفا وقال الإمام: البناء ضم الأجزاء المتفرّقة بعضها إلى بعض، مع ربطها بما يمسكها حتى يكون عنها بنية واحدة. وهكذا صنع الله بالكواكب. وضع كلّا منها على نسبة من الآخر، مع ما يمسك كلّا في مداره، حتى كان عنها علم واحد في النظر، سمي باسم واحد وهو السماء التي تعلونا. وهو معنى قوله: رَفَعَ سَمْكَها أي أعلاه و (السمك) قامة كل شيء وقد رفع تعالى أجرامها فوق رؤوسنا فَسَوَّاها عدلها بوضع كل جرم في موضعه وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي جعله مظلما. قال ابن جرير: أضاف الليل إلى السماء، لأن الليل غروب الشمس، وغروبها وطلوعها فيها، فأضيف إليها لما كان فيها، كما قيل (نجوم الليل) إذ كان فيه الطلوع والغروب. وَأَخْرَجَ ضُحاها أي أبرز نهارها. و (الضحى) انبساط الشمس وامتداد النهار. وإيثار الضحى لأنه وقت قيام سلطان الشمس وكمال إشراقها. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد تسوية السماء على الوجه السابق، وإبراز الأضواء دَحاها أي بسطها ومهدها لسكنى أهلها، وتقلبهم في أقطارها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها أي بأن فجر منها عيونا وأجرى أنهارا وَمَرْعاها أي رعيها وهو النبات.
قال الشهاب: والمرعى ما يأكله الحيوان غير الإنسان، فأريد به هنا، مجازا، مطلق المأكول للإنسان وغيره. فهو مجاز مرسل.
وقال الطيبي: يجوز أن يكون استعارة مصرحة. لأن الكلام مع منكري الحشر
بشهادة قوله: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً كأنه قيل: أيها المعاندون الملزوزون في قرن البهائم، في التمتع بالدنيا والذهول عن الآخرة.
وَالْجِبالَ أَرْساها أي أثبتها فيها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي انتفاعا إلى حين قال أبو السعود: ونصبه إما على أنه مفعول له، أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم، لأن فائدة ما ذكر من البسط والتمهيد وإخراج الماء والمرعى، واصلة إليهم وإلى أنعامهم. فإن المراد بالمرعى ما يعم ما يأكله الإنسان وغيره- كما تقدم- وإما مصدر مؤكد لفعله المضمر. أي متعكم بذلك متاعا. أو مصدر من غير لفظه، فإن قوله تعالى: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها في معنى متع بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 41]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى أي الداهية العظمى التي تطم على كل هائلة من الأمور، فتغمر ما سواها بعظيم هولها. وهي القيامة للحساب والجزاء يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى أي ما عمل من خير أو شر. وذلك بعرضه عليه وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أي أظهرت نار الله لأبصار الناظرين فَأَمَّا مَنْ طَغى أي أفرط في تعديه ومجاوزته حد الشريعة والحق، إلى ارتكاب العصيان والفساد والضلال وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي متاعها وشهواتها، على كرامة الآخرة وما أعد فيها للأبرار فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى أي مأواه ومرجعه وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقامه بين يديه للسؤال، أو جلاله وعظمته. أي اتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي فيما يكرهه الله ولا يرضاه منها، فخالفها إلى ما أمره به فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أي مصيره يوم القيامة وجواب (إذا) محذوف لدلالة التقسيم عليه. تقديره: ظهرت الأعمال. أو انقسم الناس قسمين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها أي إقامتها. أي متى يقيمها الله ويكوّنها.
قال الناصر: وفيه إشعار بثقل اليوم كقوله: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الإنسان: 27] ، ألا تراهم لا يستعملون الإرساء إلا فيما له ثقل، كمرسى السفينة وإرساء الجبال فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها
أي في أي شيء أنت من ذكر ساعتها لهم. أي ليس إليك ذكرها لأنها من الغيوب، فلا معنى لسؤالهم إياك عنها. ولذا قال: إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي منتهى علمها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي ما بعثت إلا لإنذار من يخاف حسابها، وعقاب الله على إجرامه. ولم تكلف علم وقت قيامها كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي كأن هؤلاء المكذبين بها، وبما فيها من الجزاء والحساب، يوم يشاهدون وقوعها، من عظيم هولها، لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور إلا ساعة من نهار، بمقدار عشية أو ضحاها. وإضافة الضحى إلى العشية، لما بينهما من الملابسة، لاجتماعهما في يوم واحد.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة عبس
وتسمى الصاخبة. مكية وآيها اثنتان وأربعون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2)
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى.
روى ابن جرير: وابن أبي حاتم: عن ابن عباس، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب، وكان يتصدى لهم كثيرا، ويحرص عليهم أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له عبد الله بن أم مكتوم، يمشي وهو يناجيهم. فجعل عبد الله يستقرئ النبيّ صلى الله عليه وسلم آية من القرآن وقال:
يا رسول الله! علمني مما علمك الله. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبس في وجهه وتولى وكره كلامه. وأقبل على الآخرين فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجواه، وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض بصره وخفق برأسه ثم أنزل الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى الآيات. فلما نزل فيه ما نزل، أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما حاجتك؟ هل تريد من شيء؟ وإذا ذهب من عنده قال: هل لك حاجة في شيء؟
قال ابن كثير: وهكذا ذكر عروة بن الزبير ومجاهد وأبو مالك وقتادة.
والضحاك. وابن زيد. وغير واحد من السلف والخلف أنها نزلت في ابن أم مكتوم.
والمشهور أن اسمه عبد الله. ويقال عمرو. والله أعلم. انتهى.
وقال الرازي: أجمع المفسرون على أن الذي عبس وتولى هو الرسول صلوات الله عليه. وأجمعوا أن الأعمى هو ابن أم مكتوم. قال الشهاب: وهو مكيّ قرشي من المهاجرين الأولين.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستخلفه على المدنية في أكثر غزواته. وكان ابن خال خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.
قيل: عمي رضي الله عنه بعد نور. وقيل: ولد أعمى. ولذا لقبت أمه أم مكتوم. والتعرض لعنوان عماه، إما لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم وتشاغله بالقوم: وإما لزيادة الإنكار. كأنه قيل: تولى لكونه أعمى. وكان يجب أن يزيده لعماه، تعطفا وترؤفا وتقريبا وترحيبا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة عبس (80) : الآيات 3 الى 10]
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7)
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي يتطهر- بما يتلقن منك- من الجهل أو الإثم.
وفي الالتفات إلى الخطاب إنكار للمواجهة بالعتب أوّلا، إذ في الغيبة إجلال له صلى الله عليه وسلم، لإيهام أن من مصدر منه ذلك غيره، لأنه لا يصدر عنه مثله. كما أن في الخطاب إيناسا بعد الإيحاش، وإقبالا بعد إعراض.
وقال أبو السعود: وكلمة (لعل) مع تحقق التزكي، واردة على سنن الكبرياء أو على اعتبار معنى الترجي بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم. للتنبيه على أن الإعراض عنه، عند كونه مرجوّ التزكي، مما لا يجوز. فكيف إذا كان مقطوعا بالتزكي؟ كما في قولك (لعلك ستندم على ما فعلت) وفيه إشارة إلى أن إعراضه كان لتزكية غيره. وأن من تصدى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلا أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أي يعتبر ويتعظ فتنفعه موعظتك. وتقديم التزكية على التذكر. من باب تقديم التخلية على التحلية.
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى أي بماله وقوته عن سماع القرآن والهداية والموعظة فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي تعرض بالإقبال عليه، رجاء أن يسلم ويهتدي وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام. إن عليك إلا البلاغ. قال الرازي: أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم، إلى أن تعرض عمن أسلم، للاشتغال بدعوتهم وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى أي يسرع في طلب الخير وَهُوَ يَخْشى أي يخاف الله ويتقيه فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تعرض وتتشاغل بغيره.
تنبيهات:
الأول: قال السيوطي في (الإكليل) : في هذه الآيات حث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجلس العلم وقضاء حوائجهم، وعدم إيثار الأغنياء عليهم. وقال الزمخشري: لقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدبا حسنا. فقد روي
عن سفيان الثوريّ رحمه الله أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء.
الثاني: في هذه الآيات ونحوها، دليل على عدم ضنه صلى الله عليه وسلم بالغيب. قال ابن زيد: كان يقال: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم من الوحي شيئا، كتم هذا عن نفسه.
الثالث: قال الرازي: القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء عليهم السلام، تمسكوا بهذه الآية وقالوا: لما عاتبه الله في ذلك الفعل، دل على أن ذلك الفعل كان معصية. وهذا بعيد فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين، إلا بحسب هذا الاعتبار الواحد. وهو أنه يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء. وذلك غير لائق بصلابة الرسول عليه السلام. وإذا كان كذلك، كان ذلك جاريا مجرى ترك الاحتياط وترك الأفضل، فلم يكن ذلك ذنبا البتة.
وأجاب الإمام ابن حزم في (الفصل) بقوله: وأما قوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى الآيات فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش، ورجا إسلامه. وعلم عليه السلام أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير، وأظهر الدين. وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته، وهو حاضر معه. فاشتغل عنه عليه السلام بما خاف فوته من عظيم الخير، عما لا يخاف فوته. وهذا غاية النظر في الدين والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر ونهاية التقرب إلى الله، الذي لو فعله اليوم منا فاعل، لأجر. فعاتبه الله عزّ وجلّ على ذلك، إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي، وهذا نفس ما قلناه! انتهى.
وقال القاشاني: كان صلى الله عليه وسلم في حجر تربية ربه، لكونه حبيبا. فكلما ظهرت نفسه بصفة حجبت عنه نور الحق، عوتب وأدب كما
قال «1» : (أدبني ربي فأحسن تأديبي)
إلى أن تخلق بأخلاقه تعالى. انتهى. وقوله سبحانه:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #617  
قديم 22-06-2025, 11:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة عبس
المجلد السابع عشر
صـ 6060 الى صـ 6074
الحلقة (616)



القول في تأويل قوله تعالى: [سورة عبس (80) : الآيات 11 الى 17]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17)
كَلَّا ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله. قال أنس رضي الله عنه:
كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه. رواه أبو يعلى. وقوله تعالى إِنَّها تَذْكِرَةٌ أي إن المعاتبة المذكورة موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها.
(1)
أخرجه العسكري في: كشف الخفاء، عن علي رضي الله عنه.

قال الشهاب: وكون عتابه على ما ذكر عظة، لأنه مع عظمة شأنه ومنزلته عند الله إذا عوتب على مثله. فما بالك بغيره؟ وجوّز عود الضمير للآيات وللسورة، والوصية بالمساواة بين الناس، ولدعوة الإسلام. وقوله تعالى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي حفظه. على أنه من (الذكر) خلاف النسيان: أو اتعظ به، من (التذكير) .
قال الزمخشري: وذكّر الضمير لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وقيل:
الضمير للقرآن. والكلام استطراد فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ يعني صحف آيات التنزيل وسوره مَرْفُوعَةٍ أي عالية المقدار مُطَهَّرَةٍ من التغيير والنقص والضلالة بِأَيْدِي سَفَرَةٍ جمع سافر بمعنى سفير. أو هو الذي سعى بين قومه بالصلح والسلام. يقال:
سفر بين القوم، إذا أصلح بينهم. ومنه قوله:
وما أدع السفارة بين قومي ... وما أمشي بغشّ، إن مشيت
والسفرة، إما الملائكة لأنهم يسفرون بالوحي بين الله تعالى ورسله. كأنه محمول بأيديهم. وإما الأنبياء لأنهم وسائط في الوحي يبلغونه للناس كِرامٍ أي عنده تعالى، لاصطفائهم للرسالة بَرَرَةٍ أي أخيار. جمع (بارّ) وهو صانع البر والخير.
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين، عجّب عباده المؤمنين من ذلك. فكأنه قيل: وأي سبب في هذا العجب والترفع؟ مع أنّ أوله نطفة قذرة وآخرة جيفة مذرة. وفيما بين الوقتين حمال عذرة. فلا جرم، ذكر تعالى ما يصلح أن يكون علاجا لعجبهم، وما يصلح أن يكون علاجا لكفرهم. فإن خلق الإنسان تصلح لأن يستدل بها على وجود الصانع وعلى القول بالبعث والحشر والنشر. ومرجعه إلى أن المراد بالإنسان من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال عليه والإيمان به. وجوز أن يراد بالإنسان الجنس المنتظم للمستغني، ولأمثاله من أفراده، لا باعتبار جميع أفراده.
لطائف:
الأولى: قال الزمخشري: قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه وهي من أشنع دعواتهم.
لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها.
الثانية: قال ابن جرير: في قوله: ما أَكْفَرَهُ وجهان أحدهما التعجب من
كفره مع إحسان الله إليه وأياديه عنده. والآخر ما الذي أكفره، أي أيّ شيء أكفره.
وعلى الثانية، فالهمزة للتصيير ك (أغدّ البعير) .
الثالثة: قال الزمخشري في هذه الآية: ولا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أخشن منتنا ولا أدل على سخط ولا أبعد شوطا في المذمة. مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأئمة، على قصر متنه. وسره ما أشار له الرازيّ من أن قوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب. وقوله: ما أَكْفَرَهُ تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات.
الرابعة: أفاد في (الكشف) أن الدعاء ليس على حقيقته، لامتناعه منه تعالى، لأن منشأه العجز، فالمراد به إظهار السخط باعتبار جزئه الأول، وشدة الذم باعتبار جزئه الثاني. أي لاستحالة التعجب بمعناه المعروف أيضا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة عبس (80) : الآيات 18 الى 21]
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ شروع في بيان إفراطه في الكفر، بتفصيل ما أفاض عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره، من فنون النعم الموجب لقضاء حقها بالشكر والطاعة، مع إخلاله بذلك. وفي الاستفهام عن مبدأ خلقه، ثم بيانه بقوله تعالى:
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ تحقير له. أي من أي شيء حقير مهين خلقه؟ من نطفة مذرة خلقه فَقَدَّرَهُ أي فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال. أو فقدّره أطوارا إلى أن تم خلقه ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي سهله. وهو مخرجه من رحم أمّه بعد اجتنانه وتعاصيه. أو سبيل الإسلام.
قال ابن زيد هداه للإسلام الذي يسره له وأعلمه به. أي بما غرز في فطرته من الخير، وأودع في غريزته من وجدان معرفة الخالق. وقال مجاهد: يعني سبيل الشقاء والسعادة وهو كقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الإنسان: 3] ، واختاره أبو مسلم قال:
المراد من هذه الآية هو المراد من قوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] ، فهو يتناول التمييز بين كل خير وشر يتعلق بالدنيا، وبين كل خير وشر يتعلق بالدين. أي جعلناه متمكنا من سلوك سبيل الخير والشر. والتيسير يدخل فيه الإقدار والتعريف والعقل وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب. نقله الرازيّ. ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعله ذا قبر يوارى فيه. تكرمة له، ولم يجعله مطروحا على وجه الأرض للطير والسباع، كالحيوان.
قال الفراء: ولم يقل (فقبره) لأن القابر هو الدافن بيده، والمقبر هو الله تعالى يقال (قبر الميت) إذا دفنه. و (أقبر الميت) إذا أمر غيره بأن يجعله في القبر.
وقال ابن جرير: القابر هو الدافن الميت بيده كما قال الأعشى:
ولو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة عبس (80) : الآيات 22 الى 32]
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31)
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي بعثه بعد مماته وأحياه. وإنما قال: إِذا شاءَ لأن وقت البعث غير معلوم لأحد. فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى. متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم.
قال الشهاب: وتخصيص النشور به دون الإماتة والإقبار، لأن وقتهما معين إجمالا، على ما هو المعهود في الأعمار الطبيعية.
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ قال ابن جرير: أي ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر، من أنه قد أذى حق الله عليه، في نفسه وماله، فإنه لما يؤد ما فرض عليه من الفرائض، ربّه.
وقال القاشانيّ: لما بين أن القرآن تذكرة للمتذكرين، تعجب من كفران الإنسان واحتجابه حتى يحتاج إلى التذكير. وعدد النعم الظاهرة التي يمكن بها الاستدلال على المنعم بالحس، من مبادئ خلقته، وأحواله في نفسه، وما هو خارج عنه مما لا يمكن حياته إلا به. وقرر أنه مع اجتماع الدليلين، أي النظر في هذه الأحوال الموجب لمعرفة الموجد المنعم والقيام بشكره، وسماع الوعظ والتذكير بنزول القرآن، لما يقض في الزمان المتطاول ما أمره الله به من شكر نعمته، باستعمالها في إخراج كماله إلى الفعل، والتوصل بها إلى المنعم. بل احتجب بها وبنفسه عنه. انتهى.
ولما فصل تعالى النعم المتعلقة بحدوثه، تأثرها بتعداد النعم المتعلقة ببقائه.
فقال سبحانه فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أي فإن لم يشهد خلق ذاته، وعمي عن
الآيات في نفسه، وأصر على جحوده توحيد ربه، فلينظر إلى طعامه ومأكله الذي هو أقرب الأشياء لديه. ماذا صنعنا في إحداثه وتهيئته لأن يكون غذاء صالحا، وقوله تعالى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ أي من المزن صَبًّا أي شديدا ظاهرا. وقد قرئ بكسر همزة (إنا) على الاستئناف المبين لكيفية حدوث الطعام، وبالفتح على البدلية، بدل اشتمال. بمعنى سببية الأول للثاني أو تقوم الثاني بالأول. فهو من اشتمال الثاني عليه أو بدل كلّ، ادعاء ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أي صدعناها بالنبات. أو شققنا أجزاءها بعد الريّ ليتخلل الهواء والضباء في جوفها فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا يعني حب الزرع.
وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما من الحبوب وَعِنَباً وَقَضْباً وهو كل ما أكل من النبات رطبا، كالقثاء والخيار ونحوهما. سمي قضبا لأنه يقضب، أي يقطع مرة بعد أخرى وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ جمع حديقة وهي البساتين ذوات الأشجار المثمرة، عليها حوائط تحيط بها غُلْباً جمع غلباء أي ضخمة عظيمة.
وعظمها إما لاتساعها البالغ حد البصر، أو لغلظ أشجارها وتكاثفها والتفافها وَفاكِهَةً أي ما يؤكل من ثمار الأشجار وَأَبًّا وهو المرعى الذي تأكله البهائم من العشب والنبات مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي تمتيعا. مفعول له ل (أنبتنا) أو مصدر حذف فعله وجرّد من الزوائد. أي متعكم بذلك متاعا. وجعلكم تنتفعون به أنتم وأنعامكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ يعني الداهية الشديدة، وهي صيحة القيامة وصوت زلزالها الهائل المصمّ للآذان. يقال صخّه يصخه، ضرب أذنه فأصمها. وصاح بهم صيحة تصخّ الآذان، وقد صخ صخيخا، وهو صوته إذا قرع. وصخ لحديثه إذا أصاخ له، بمعنى استمع كما في (الأساس) ويجوز على الأخير أن تجعل بمعنى المستمعة، مجازا في الإسناد. وجواب (إذا) محذوف يدل عليه ما بعده. كيشتغل كل بنفسه، أو افترق الناس يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ أي زوجته وَبَنِيهِ أي لاشتغاله بنفسه، وعلمه بأنهم لا ينفعونه.
قال الشهاب: يعني أن الإقبال عليهم إما للنفع أو للانتفاع، وكلاهما منتف لاشتغاله بنفسه عن نفس غيره، وعلمه بعدم نفعه. وتأخير الأحب فالأحب للمبالغة.
فهو للترقي. كذا قيل.
قال الشهاب: والظاهر أنه لم يقصد ذلك لاختلاف الناس والطباع فيه لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي يكفيه في الاهتمام به. كأنه ذلك الهم الذي نزل به، قد ملأ صدره فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر، فصار شبيها بالغني وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ أي مضيئة ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أي مسرورة بنيل كرامة الله والنعيم المتزايد، وهي وجوه المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقدموا من الخير والعمل الصالح ما ملأوا به صحفهم وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أي غبار وكدورة تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أي تغشاها ظلمة أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أي الفسقة الذين لا يبالون ما أتوا به من معاصي الله، وركبوا من محارمه، فجوزوا بسوء أعمالهم وخبث نياتهم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة التّكوير
وتسمى سورة إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وهو مكية وآيها تسع وعشرون.
روى الإمام أحمد «1» عن ابن عمر: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى يوم القيامة، كأنه رأي عين فليقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وهكذا رواه الترمذيّ «2» .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أي أزيلت من مكانها، وألقيت عن فلكها، ومحي ضوؤها وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي تنثرت وانقضّت وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أي رفعت عن وجه الأرض، ونسفت. من أثر الرجفة والزلزال الذي قطع أوصالها وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ أي تركت مهملة لا راعي لها ولا طالب. والعشار جمع عشراء وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر. وخصلها، لأنها أنفس أموالهم. أي فإذا هذه الحوامل التي يتنافس فيها أهلها أهملت، فتركت من شدة الهول النازل بهم، فكيف بغيرها؟ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أي جمعت من كل جانب واختلطت، لما دهم أوكارها ومكامنها من الزلزال والتخريب، فتخرج هائمة مذعورة من أثر زلزال الأرض وتقطع أوصالها وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي: ملئت بتفجير بعضها إلى بعض، حتى تعود بحرا واحدا. من (سجر التنور) إذا ملأه بالحطب. كقوله: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وقيل: المعنى تأججت نارا. قال القفال: يحتمل أن تكون جهنم في قعور البحار،
(1)
أخرجه في المسند 2/ 27.

(2)
أخرجه في: التفسير، سورة إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ.

فهي الآن غير مسجورة لقوام الدنيا. فإذا انتهت مدة الدنيا، أوصل الله تأثير تلك النيران إلى البحار، فصارت بالكلية مسجورة بسبب ذلك. وأوضحه الإمام بقوله: وقد يكون تسجيرها إضرامها نارا. فإن ما في بطن الأرض من النار يظهر إذ ذاك بتشققها وتمزق طبقاتها العليا، أما الماء فيذهب عند ذلك بخارا ولا يبقى في البحار إلا النار.
أما كون باطن الأرض يحتوي على نار فقد ورد به بعض الأخبار. ورد أن البحر غطاء جهنم، وإن لم يعرف في صحيحها. ولكن البحث العلميّ أثبت ذلك. ويشهد عليه غليان البراكين وهي جبال النار. انتهى.
قال الرازي: واعلم أن هذه العلامات الستة يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا، ويمكن وقوعها أيضا بعد قيام القيامة. وليس في اللفظ ما يدل على أحد الاحتمالين. أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة. انتهى.
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي قرنت الأرواح بأجسادها. أو ضمت إلى أشكالها في الخير والشر، وصنّفت أصنافا ليحشر كل إلى من يجانسه من السعداء والأشقياء.
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ يعني البنات التي كانت طوائف العرب يقتلونهن. قال السيد المرتضى في (أماليه) : الموءودة هي المقتولة صغيرة. وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات، بأن يدفنوهنّ أحياء، وهو قوله تعالى: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ [النحل: 59] ، وقوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 140] ، ويقال إنهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين:
أحدهما أنهم كانوا يقولون إن الإناث بنات الله، فألحقوا البنات بالله فهو أحق بها منا. والأمر الآخر أنهم كانوا يقتلونهن خشية الإملاق. قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام: 151] . قال المرتضى: وجدت أبا علي الجبائيّ وغيره يقول: إنما قيل لها موءودة لأنها ثقلت بالتراب الذي طرح عليها حتى ماتت. وفي هذا بعض النظر. لأنهم يقولون من الموءودة وأد (يئد) (وأدا) والفاعل (وائد) والفاعلة (وائدة) ومن الثقل يقولون آدني الشيء يؤودني، إذا أثقلني، أودا. انتهى.
وإنما قال (بعض النظر) لأن القلب معهود في اللغة، فلا يبعد أن يكون (وأد) مقلوبا من (آد) . وقال المرتضى: فإن سأل سائل، كيف يصح أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل، فأي فائدة في سؤالها عن ذلك، وما وجه الحكمة فيه؟ والجواب من وجهين: أحدهما أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها، وسئل عن قتله لها بأي ذنب كان، على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة. فالقتلة هاهنا هم المسؤولون على الحقيقة، لا المقتولة، وإنما المقتولة مسؤول عنها. ويجري هذا مجرى قولهم (سألت حقي) أي طالبت به ومثله قوله تعالى:
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [الإسراء: 34] ، أي مطالبا به مسؤولا عنه. والوجه الآخر أن يكون السؤال توجه إليها على الحقيقة، على سبيل التوبيخ له، والتقريع له، والتنبيه له، على أنه لا حجة له في قتلها. ويجري هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه السلام:
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] ، على طريق التوبيخ لقومه، وإقامة الحجة عليهم. فإن قيل على هذا الوجه: كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم؟ فالجواب أن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول، إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه وإدخال الغم عليه في ذلك الوقت على سبيل العقاب، لم يمتنع أن يقع. وإن لم يكن من الموءودة فهم له. لأن الخطاب. وإن علق عليها، وتوجه إليها، والغرض في الحقيقة به غيرها. قالوا وهذا يجري مجرى من ضرب ظالم طفلا من ولده فأقبل على ولده يقول له: ضربت ما ذنبك وبأي شيء استحل هذا منك؟ فغرضه تبكيت الظالم لا خطاب الطفل. والأولى أن يقال في هذا:
إن الأطفال، وإن كانوا من جهة العقول لا يجب في وصولهم إلى الأغراض المستحقة، أن يكونوا كاملي العقول، كما يجب مثل ذلك في الوصول إلى الثواب. فإن كان الخير متظاهرا والأمة متفقة على أنهم في الآخرة، وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات وأفضل الأحوال، وأن عقولهم تكون كاملة، فعلى هذا يحسن توجه الخطاب إلى الموءودة، لأنها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله. وإن كان الغرض منه التبكيت للقاتل وإقامة الحجة عليه. انتهى.
قال الشهاب: والتبكيت قرره الطيبيّ، بأن المجنيّ عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت له الجناية دون الجاني، بعث ذلك الجاني على التفكّر في حاله وحال المجني عليه. فيرى براءة ساحته، وأنه هو المستحق للعقاب والعذاب. وهذا استدراج على طريق التعريض، وهو أبلغ من التصريح. والمراد بالاستدراج سلوك طريق توصل إلى المطلوب بسؤال غير المذنب ونسبة الذنب له. حتى يبين من صدر عنه ذلك. كما سئل عيسى دون الكفرة، وهو فن من البديع، بديع. انتهى.
وقال الزمخشريّ وإنما قيل (قتلت) بناء على أن الكلام إخبار عنها.
تنبيه:
قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية تعظيم شأن الوأد، وهو دفن الأولاد أحياء.
وأخرج مسلم «1»
أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال: الوأد الخفيّ. وهي: وإذا الموءودة سئلت.
انتهى.
(1)
أخرجه مسلم في: النكاح، حديث رقم 141، عن جذامة بنت وهب الأسدية.

وقد روى عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب في هذه الآية قال: جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني وأدت بنات لي في الجاهلية.
قال: أعتق عن كل واحدة منهن رقبة. قال: يا رسول الله! إني صاحب إبل. قال:
فانحر عن كل واحدة منهن بدنة.
وروى الدراميّ «1»
في أوائل مسنده أن رجلا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان. فكنا نقتل الأولاد. وكانت عندي ابنة لي. فلما أجابت، وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها. فدعوتها يوما فاتبعتني فمررت حتى أتيت بئرا من أهلي غير بعيد فأخذت بيدها فرديتها في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول يا أبتاه يا أبتاه. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف دمع عينيه. فقال له رجل من جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحزنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كف.
فإنه يسأل عما أهمه. ثم قال له: أعد علي حديثك. فأعاده. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته. ثم قال له: إن الله قد وضع عن الجاهلية ما عملوا، فاستأنف عملك.
وكان للعرب تفنن في الوأد، فمنهم من إذا صارت ابنته سداسية يقول لأمها:
طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها. وقد حفر لها بئرا في الصحراء. فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها. ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض.
ومنهم من كان إذا قربت امرأته من الوضع، حفر حفرة لتتمخّض على رأس الحفرة. فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة. وإن ولدت ابنا حبسته. وقد اشتهر صعصعة بن ناجية بن عقال، جد الفرزدق بن غالب، بأنه كان ممن فدى الموءودات في الجاهلية، ونهى عن قتلهن. قيل إنه أحيا ألف موءودة، وقيل دون ذلك. وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله:
ومنا الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم يوأد
وفي قوله أيضا:
أنا ابن عقال وابن ليلى وغالب ... وفكّاك أغلال الأسير المكفّر
وكان لنا شيخان ذو القبر منهما ... وشيخ أجار الناس من كل مقبر
على حين تحيى البنات وإذ هم ... عكوف على الأصنام حول المدوّر
أنا ابن الذي ردّ المنية فضله ... وما حسب دافعت عنه بمعور
(1)
أخرجه في مسنده في: 1- باب ما كان عليه الناس قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم من الجهل والضلالة.

أبي أحد الغيثين صعصعة الذي ... متى تخلف الجوزاء والنجم يمطر
أجار بنات الوائدين ومن يجر ... على القبر، يعلم أنه غير مخفر
وفارق ليل من نساء أتت أبى ... تعالج ريحا ليلها غير مقمر
فقالت أجر لي ما ولدت فإنني ... أتيتك من هزلى الحمولة مقتر
رأى الأرض منها راحة فرمى بها ... إلى خدد منها وفي شر محفر
فقال لها نامي فأنت بذمتي ... لبنتك جار من أبيها القنوّر
وروى أبو عبيدة: أن صعصعة- هذا- وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم. قال: وكان صعصعة منع الوأد في الجاهلية، فلم يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك. فجاء الإسلام وقد فدى في بعض الروايات أربعمائة موءودة، وفي أخرى ثلاثمائة، فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي! أوصني. فقال: أوصيك بأمك وأبيك وأختك وأخيك وأدانيك أدانيك، فقال: زدني. فقال عليه الصلاة والسلام: احفظ ما بين لحييك ورجليك. ثم قال عليه الصلاة والسلام: ما شيء بلغني عنك فعلته؟
فقال: يا رسول الله! رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الصواب. غير أني علمت أنهم ليسوا عليه. فرأيتهم يئدون بناتهم، فعرفت أن ربهم عزّ وجلّ لم يأمرهم بذلك. فلم أتركهم. ففديت ما قدرت عليه
.
ويقال إنه اجتمع جرير والفرزدق يوما عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا. فقال الفرزدق: أنا ابن محيي الموتى، فقال له سليمان: أنت ابن محيي الموتى؟ فقال: إن جدي أحيا الموءودة، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة: 32] ، وقد أحيا جدي اثنتين وتسعين موءودة فتبسم سليمان. وقال: إنك مع شعرك لفقيه. نقله المرتضى في (أماليه) وبالجملة، فكان الوأد عادة من أشنع العوائد في الجاهلية، مما يدل على نهاية القسوة وتمام الجفاء والغلظة.

قال الإمام: انظر إلى هذه القسوة وغلظ القلب وقتل البنات البريئات بغير ذنب سوى خوف الفقر والعار، كيف استبدلت بالرحمة والرأفة بعد أن خالط الإسلام قلوب العرب؟ فما أعظم نعمة الإسلام على الإنسانية بأسرها بمحوه هذه العادة القبيحة. انتهى.
ومن أثر نعمته أن صار أدباء الصدر الأول يصوغون في مدحهن ما هو أبهى من عقود الجمان فمن ذلك قول معن بن أوس:
رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وفيهن، لا نكذب، نساء صوالح
وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ... خوادم لا يمللنه ونوائح
وقال العلويّ الجمانيّ، في صديق له ولدت له بنت فسخطها، شعرا.
قالوا له ماذا رزقتا ... فأصاخ ثمّت قال: بنتا
وأجلّ من ولد النساء ... أبو البنات. فلم جزعتا
إن الذين تودّ من ... بين الخلائق ما استطعتا
نالوا بفضل البنت ما ... كبتوا به الأعداء كبتا
وحكي أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ابنته. فقال: من هذه يا معاوية؟ فقال: هذه تفاحة القلب وريحانة العين وشمامة الأنف. فقال: أمطها عنك.
قال: ولم؟ قال: لأنهن يلدن الأعداء، ويقرّبن البعداء، ويورثن الشحناء، ويثرن البغضاء. قال: لا تقل ذلك يا عمرو! فو الله ما مرّض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الزمان، ولا أذهب جيش الأحزان مثلهن، وإنك لواجد خالا قد نفعه بنو أخته، وأبا قد رفعه نسل بنيه. فقال: يا معاوية! دخلت عليك وما على الأرض شيء أبغض إليّ منهن. وإنى لأخرج من عندك وما عليها شيء أحب إليّ منهن. وفي رقعة للصاحب بالتهنئة بالبنت: أهلا وسهلا بعقيلة النساء وأم الأبناء وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #618  
قديم 23-06-2025, 12:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الانفطار
المجلد السابع عشر
صـ 6075 الى صـ 6085
الحلقة (618)







فلو كان النساء كمن وجدنا ... لفضّلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... وما التذكير فخر للهلال
والله تعالى يعرفك البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادّرع اغتباطا، واستأنف نشاطا. فالدنيا مؤنثة. والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها. والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية. وفيها كثرت الذرية. والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب وحليت بالنجم الثاقب. والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان. والحياة مؤنثة، ولو لاها لم تتصرف الأجسام ولا عرف الأنام. والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون وفيها ينعم المرسلون. فهنيئا لك هنيئا بما أوتيت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت.
ونسخت رقعة لأبى الفرج الببغاء: اتصل بي خبر المولودة المسعودة كرم الله عرقها، وأنبتها نباتا حسنا. وما كان من تغيرك عند اتصال الخبر وإنكارك ما اختاره الله لك في سابق القدر. وقد علمت أنهن أقرب من القلوب، وأن الله بدأ بهن في الترتيب فقال عزّ من قائل: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ [الشورى: 49] ، وما سماه الله تعالى هبة، فهو بالشكر أولى، وبحسن التقبل أحرى.
فهنأك الله بورود الكريمة عليك. وثمرتها إعداد النسل الطيب لديك.
والنوادر في هذا لا تحصى. وكلها من بركة الإسلام وفضله، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : الآيات 10 الى 14]
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ قال ابن جرير: أي صحف أعمال العباد نشرت لهم، بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ أي قلعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، كقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [ابراهيم: 48] ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أي أوقد عليها فأحميت. قال قتادة: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي قربت للمتقين عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ أي علمت كل نفس عند ذلك، ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة، أو شر فتصير به إلى النار. أي تبيّن لها عند ذلك ما كانت جاهلة به، وما الذي كان فيه صلاحها من غيره. و (علمت) جواب لجميع ما سبق من الشروط.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 21]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ أي الرواجع من النجوم. من (خنس) إذا رجع وتأخر. قال الزمخشريّ: بينا ترى النجم في آخر البرج، إذ كرّ راجعا إلى أوله الْجَوارِ جمع جارية، من الجري الْكُنَّسِ أي الغيب التي تدخل في بروجها، في رأي العين. من (كنس الوحش) إذا دخل كناسه وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر. فهو في الأصل مجاز بطريق التشبيه، ثم صار بالغلبة في الاستعمال، حقيقة وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أدبر ولم يبق إلا اليسير، وذلك وقت السحر وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي أقبل وتبيّن. أو هبّ نسيمه اللطيف أو انجابت عنه غمة الليل وكربته. تشبيها بمن نفس عنه كربه.
قال الإمام: أقسم الله تعالى بهذه الدراريّ لينوه بشأنها من جهة ما في حركاتها من الدلائل على قدرة مصرّفها ومقدّرها، وإرشاد تلك الحركات إلى ما في كونها من بديع الصنع وإحكام النظام، مع نعتها، في القسم، بما يبعدها عن مراتب الألوهية، من الخنوس والكنوس، تقريعا لمن خصها بالعبادة واتخذها من دونه أربابا. وفي الليل إذا أدبر زوال تلك الغمة التي تغمر الأحياء بانسدال الظلمة بعد ما استعادت الأبدان نشاطها وانتعشت من فتورها. وفي الصبح إذا تنفس بشرى الأنفس بالحياة الجديدة في النهار الجديد، تنطلق فيه الإرادات إلى تحصيل الرغبات وسد الحاجات والاستدراك والاستعداد لما هو آت. انتهى.
وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني روح القدس الذي ينفث في روعه صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام. والضمير إما للبعث والجزاء، المفهوم من قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ أو للمذكور وهو هذا أو للقرآن ذِي قُوَّةٍ أي على تحمل أعباء الرسالة، وعلى كل ما يؤمر به، كما تقدم في قوله تعالى:
شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] ، عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي صاحب مكانة وشرف ومنزلة لديه تعالى مُطاعٍ ثَمَّ أي في الملأ الأعلى أَمِينٍ أي على وحيه تعالى ورسالته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : الآيات 22 الى 25]
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25)
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ أي ليس ممن يتكلم عن جنّة ويهذي هذيان المجانين. بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 37] ، وهذا نفي لما كان يبهته به أعداؤه، صلى الله عليه وسلم، حسدا ولؤما.
قال الشهاب: وفي قوله صاحِبُكُمْ تكذيب لهم بألطف وجه. إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن، فأنتم أعرف به وبأنه أتم الخلق عقلا وأرجحهم نبلا وأكملهم وأصفاهم ذهنا. فلا يسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون. ولله در البحترىّ في قوله:
إذا محاسني اللّاتي أدلّ بها ... كانت ذنوبي، فقل لي كيف أعتذر
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أي ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل بالأفق الأعلى، المظهر لما يرى فيه.
قال ابن كثير: والظاهر، والله أعلم، أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى. وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى [النجم: 13- 15] ، فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء.
والقصد من بيان رؤيته لجبريل عليهما السلام، متمثلا له، هو التحقيق الموحي به، وأن أمره مبني على مشاهدة وعيان، لا على ظن وحسبان. وما سبيله كذلك فلا مدخل للريب فيه وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي ببخيل.
قال مجاهد: ما يضن عليكم بما يعلم. أي لا يبخل بالتعليم والتبليغ. وقال الفراء: يأتيه غيب السماء، وهو شيء نفيس، فلا يبخل به عليكم. وقال أبو علي الفارسيّ: المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه، كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلوانا وقرئ (بظنين) بالظاء: أي ما هو بمتهم على ما يخبر به من الغيب.
قال القاشانيّ: لامتناع استيلاء شيطان الوهم وجنّ التخيل عليه، فيخلط كلامه ويمتزج المعنى القدسي بالوهميّ والخياليّ، لأن عقله صفّي عن شوب الوهم.
والمعنى أنه صادق فيما يخبر به من الوحي واليوم الآخر والجزاء، ليس من شأنه أن يتهم فيه. كما قال هرقل «1» لأبي سفيان: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.
تنبيه:
قال بن جرير: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب، ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به، وذلك بِضَنِينٍ بالضاد. لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. فأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من تأوّله (وما محمد، على ما علمه الله من وحيه وتنزيله، ببخيل بتعليمكموه أيها الناس. بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلموه) انتهى. واختار أبو عبيدة القراءة بالظاء لوجهين:
أحدهما أن الكفار لم يبخلوه، وإنما اتهموه، فنفي التهمة أولى من نفي البخل.
وثانيهما قوله: عَلَى الْغَيْبِ ولو كان المراد البخل لقال (بالغيب) لأنه يقال فلان ضنين بكذا وقلما يقال على كذا.
وقال الشهاب: قال في (النشر) : هو بالضاد في جميع المصاحف، ولا ينافي هذا قول أبي عبيدة، إن الضاد الظاء في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة رأس إحداهما على الأخرى، زيادة يسيرة، قد تشتبه. وهو كما قال. ويعرفه من قرأ الخط المسند. وليس فيه اتهام لنقلة المصاحف كما توهم، لأن ما نقلوه موافق للقراءة
(1)
أخرجه البخاري في: بدء الوحي، عن أبي سفيان بن حرب، 6- حدثنا أبو اليمان حديث رقم 7.

المتواترة. ولا بد مما ذكره أبو عبيدة، لأنهم اشترطوا في القراءات موافقة الرسم العثمانيّ، ولولاه كانت قراءة الظاء مخالفة له. انتهى قال ابن كثير: وكلتا القراءتين متواترة ومعناها صحيح كما تقدم وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي من إلقاء الشيطان المطرود عن بلوغ هذا المقام. وهو نفي لقولهم إنه كهانة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : الآيات 26 الى 29]
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي أيّ مسلك تسلكون، وقد قامت عليكم الحجة؟ لا جرم أنكم تنحون الضلال بعد هذه المزاعم في الوحي ومبلغه. فمن سلك طرقها فقد بعد عن الصواب، بما لا يضبط ولم يتقرّب إليه بوجه. كمن سلك طريقا يبعده عن سمت مقصده، فيقال: أين تذهب.
قال الزمخشريّ: استضلال لهم، كما يقال لتارك الجادّة اعتسافا أو ذهابا في بنيّات الطريق: أين تذهب؟ مثلت حالهم بحاله، في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل إِنْ هُوَ أي القرآن المتلوّ عليكم إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي تذكرة وعظة لهم.
قال الإمام: موعظة يتذكّرون بها ما غرز الله في طباعهم من الميل إلى الخير.
وإنما أنساهم ذكره ما طرأ على طباعهم من ملكات السوء التي تحدثها أمراض الاجتماع. وقوله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بدل من (العالمين) أي إنه ذكرى لمن أراد الاستقامة على الطريق الحق، بصرف إرادته وميله إليه والثبات عليه.
أما من أعرض ونأى. فمن أين تنفعه الذكرى، وقد زاده الران عمى؟ وقوله تعالى:
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي وما تشاءون شيئا من فعالكم، إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم، وإقداركم عليها، والتخلية بينكم وبينها. وفائدة هذا الإخبار، هو الإعلام بالافتقار إلى الله تعالى، وأنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدره الله عزّ وجلّ. فهو خاضع لسلطان مشيئته، مقهور تحت تدبيره وإرادته.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الانفطار
وهي مكية. وآيها تسعة عشر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت كما في آية وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25] ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي تساقطت. والانتثار استعارة لإزالة الكواكب، حيث شبهت بجواهر قطع سلكها. وهي مصرحة أو مكنية وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ أي فتح بعضها إلى بعض، لزوال الحاجز بزلزلة الأرض وارتجافها وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أي بحثت وأخرج موتاها.
قال الشهابي: يعني أزيل التراب التي ملئت به، وكان حتى على موتاها فانفتحت وخرج من دفن فيها. وهذا معنى البعثرة. وحقيقتها تبديد التراب أو نحوه.
وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته فقد يذكر ويراد معناه ولازمه معا، كما هنا. وقد يتجوّز به عن البعث والإخراج كما في سورة العاديات. والفارق بينهما أنه أسند هنا للقبور فكان على حقيقته. وثمّ، لما فيها، فكانت مجازا عما ذكر. ثم قال: وذهب بعض الأئمة كالزمخشريّ والسهيليّ إلى أنه مركب من كلمتين اختصارا. ومثله كثير في لغة العرب ويسمى نحتا. وأصله (بعث) و (أثير) أي حرك وأخرج. وله نظائر كبسمل، وحوقل، ودمعز. أي قال بسم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وأدام الله عزه. فعلى هذا يكون معناه النبش والإخراج معا. ولا يرد عليه أن الراء ليست من أحرف الزيادة، كما توهمه أبو حيان، فإنه فرق بين التركيب والنحت من كلمتين، والزيادة على بعض الحروف الأصول من كلمة واحدة، كما فصّله في (المزهر) نقلا عن أئمة اللغة.
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ أي لذلك اليوم من عمل صالح أو سيّئ وَأَخَّرَتْ أي تركت من خير أو شر. أو المعنى: ما قدمت من عمل طيب لم تقصر فيه، وما أخرت أي قصرت فيه. والمراد بالعلم بالتقديم والتأخير، وجدان الجزاء عليهما، وتحقق مصداق الوعد عليهما.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #619  
قديم 23-06-2025, 12:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة المطففين
المجلد السابع عشر
صـ 6086 الى صـ 6095
الحلقة (619)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانفطار (82) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8)
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أي: أيّ شيء خدعك وجرّأك على عصيانه والانحراف عن فطرته. وذكر الْكَرِيمِ للمبالغة في المنع عن الاغترار. لأنه بمعنى العظيم الجليل الكامل في نعوته. ومن كان كذلك فجدير بأن يرهب عقابه ويخشى انتقامه وعذابه. لا سيما وله من النعم العظيمة والقدرة الكاملة ما يزيد في الرهبة، كما قال: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ أي جعلك سويّا متساوي الأعضاء والقوى.
وأصل التسوية جعل الأشياء على سواء. فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به فَعَدَلَكَ أي جعلك معتدلا متناسب الخلق، معتدل القامة. لا كالبهائم.
وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى المشدّد، أو بمعنى صرفك عن خلقة غيرك إلى خلقة حسنة، مزت بها على سائر الحيوان فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ أي: في أي صورة شاءها ركبك عليها. يعني أنه ركّبك في صورة هي أبدع الصور وأعجبها. ف (أيّ) استفهامية. والمجرور متعلق ب رَكَّبَكَ وما زائدة وجملة شاءَ صفة صُورَةٍ.
والقصد أن من خلق هذا الخلق البديع وسوّاه وعدله بقدرته وتقديره، حتى أحكم صورته في ذلك التركيب، لجدير بأن يتّقى بأسه ويحذر بطشه ويرهب أشد الترهيب.
تنبيه:
قال الإمام ابن القيّم في (الجواب الكافي) في بحث كون القرآن من أوله إلى آخره صريحا في ترتيب الجزاء بالخير والشر، والأحكام الكونية، على الأسباب، ما تتمته: فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب- وهذا من أهم الأمور- فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرّة له في دنياه وآخرته، ولا بدّ. ولكن تغالطه نفسه.
ثم ذكر من أنواع المغترين من يغترّ بفهم فاسد، فهمه هو وأضرابه من نصوص القرآن والسّنّة فاتكلوا عليه. قال: كاغترار بعض الجهّال بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ فيقول: كرمه. وقد يقول بعضهم إنه لقن المغتر حجته. وهذا
جهل قبيح. وإنما غرّه بربه الغرور، وهو الشيطان، ونفسه الأمّارة بالسوء، وجهله وهواه. وأتى سبحانه بلفظ الْكَرِيمِ وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال لحقه. فوضع هذا المغتر (الغرور) في غير موضعه، واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به. انتهى.
وفي مثل هذا الغرور يجب- كما قال الغزاليّ- على العبد أن يستعمل الخوف.
فيخوّف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه، ويقول: إنه، مع أنه غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب. وإنه، مع أنه كريم، خلد الكفار في النار أبد الآباد. مع أنه لم يضرّه كفرهم. بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا. وهو قادر على إزالتها. فمن هذه سنته في عباده، وقد خوّفني عقابه، فكيف لا أخافه؟ وكيف أغتر به؟ فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل. فما لا يبعث على العمل فهو تمنّ وغرور.
ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم، وسبب إقبالهم على الدنيا، وسبب إعراضهم عن الله تعالى، وإهمالهم السعي للآخرة، فذلك غرور. وقد روي أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة. وقد كان ذلك. فقد كان الناس في الإعصار الأول يواظبون على العبادات، ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، يخافون على أنفسهم، وهم طول الليل والنهار في طاعة الله، يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات، والشهوات، ويبكون على أنفسهم في الخلوات وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين. مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى. زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله، راجون لعفوه ومغفرته. كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون. فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى، وينال بالهوينا، فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم؟
ثم قال: والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف. ولا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه، إن كان مؤمنا بما فيه. وترى الناس يهذّونه هذّا. يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها، وكأنهم يقرءون شعرا من أشعار العرب. لا يهمهم الالتفات إلى معانيه، والعمل بما فيه. وهل في العالم غرور يزيد على هذا؟ انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانفطار (82) : الآيات 9 الى 12]
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ قال الإمام: أي لا شيء يغرك ويخدعك. بل إن سعة
عطاء ربك وحكمته في كرمه، تدلك وتوحي إلى نفسك أنك مبعوث في يوم آخر، لثواب أو عقاب. وإنما الذي يقع منك، أيها الإنسان، هو العناد والتكذيب بالدين.
أي الجزاء، أي الانصراف عمدا وعنادا عما يدعو إليه الشعور الأول، وعن الدليل الذي تقيمه الرسل، والحجة التي يأتي بها الأنبياء. مع أن الله تعالى لم يترك عملا من أعمالك إلا حفظه وأحصاه عليك حتى يوفيك جزاءه كما قال: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ أي رقباء يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم كِراماً كاتِبِينَ أي يكتبون ما تقولون.
يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ أي من خير أو شر. أي يحصونه عليكم، فلا يغفلون ولا ينسون.
قال الرازيّ: إن الله تعالى أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم. لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم. ولما كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج كتاب بشهود، خوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة. فيخرج لهم كتب منشورة، ويحضر هناك ملائكة يشهدون عليهم، كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره. فيقولون له: أعطاك الملك كذا وكذا. وفعل بك كذا وكذا، ثم قد خالفته وفعلت كذا وكذا. فكذا ها هنا. والله أعلم بحقيقة ذلك.
انتهى.
ولا يخفى أن الحفظة الكرام وعملهم، من الغيب الذي لا يمكن اكتناهه.
فيجب الإيمان به، كما ورد. مع تفويض كنهه إلى بارئه تعالى. ومن الفضول في العلم التوسع فيما لا يدرك بالنظر وتسويد وجوه الصحف بها. وبالله سبحانه التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 19]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17)
ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ قال ابن جرير: أي إن الذين برّوا بأداء فرائض الله، واجتناب معاصيه، لفي نعيم الجنان ينعمون فيها.
والأبرار جمع (برّ) بفتح الباء وهو المتصف بالبرّ (بكسرها) أي الطاعة. قال الأصفهاني: وقد اشتمل عليه قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
[البقرة: 177] ، وقوله تعالى:
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ أي الذين فجروا عن أمر الله. أي انشقوا عنه وخالفوه. وهم من لم توجد فيهم نعوت الأبرار المذكورة في الآية قبل يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ أي يوم يدان العباد بالأعمال، فيجازون بها وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ أي بخارجين، لأنهم مخلدون في صليّها. وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ تفخيم لأمر ذلك اليوم وتعظيم لشأنه. أي أيّ شيء أعلمك به؟ أي أنت لا تدريه مع أنه من أوجب ما تهمّ درايته والبحث عنه. والخطاب للإنسان المتقدم أول السورة.
ثم فسّر تعالى بعض شأنه بقوله: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً أي من دفع ضرّ أو كشف همّ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أي أمر الملك الظاهر، ونفوذ القضاء القاهر، يومئذ لله وحده. لاضمحلال الممالك وذهاب الرياسات.
قال الرازيّ: وهو وعيد عظيم، من حيث إنه عرّفهم أنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ، دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا، من مال وولد وأعوان وشفعاء.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المطفّفين
قال المهايميّ: سميت به دلالة على أن من أخلّ بأدنى حقوق الخلق، استحق أعظم ويل من الحق. فكيف من أخل بأعظم حقوق الحق، من الإيمان به وبآياته ورسله؟ وهي مكية على الأظهر. فإن سياقها يؤيد أنها كأخواتها اللائي نزلن بمكة، لا سيما خاتمتها، فإنها صفات المستهزئين الذين كانوا بمكة. وحملها على المنافقين بالمدينة بعيد، إذ لم يبلغ بهم الحال ذلك. وأما ما رواه النسائي وابن ماجة «1» - كما في ابن كثير عن ابن عباس، لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل- فقد ذكرنا مرارا أن معنى الإنزال، في إطلاق السلف، لا يكون مقصورا على أن كذا سبب النزول. بل إن كذا مما نزل فيه ذلك. كأنّ أهل المدينة تلي عليهم ما سبق إنزاله في مكة. وقيل لهم: أنزل الله حظر ما أنتم عليه والوعيد فيه. فأقلعوا. وهذا ظاهر لمن له أنس بعلم الآثار وملكة فيه.
ومنه يعلم أن قول بعضهم: نزلت بمكة إلا قصة التطفيف.
وقول آخر: إن كل نوع من المكيّ والمدنيّ منه آيات مستثناة- منشؤه الحيرة في المطابقة بين ظاهر ما يتبادر من المأثور في سبب النزول، وبين ما يدل عليه السياق من خلافه. وبالوقوف على عرف السلف يزول الإشكال ويتضح الحال.
(1)
أخرجه ابن ماجة في: التجارات، 35- التوقي في الكيل والوزن، حديث 2223.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ أي هلاك لهم. قال الأصفهاني: ومن قال: وَيْلٌ واد في جهنم، فإنه لم يرد أن (ويلا) في اللغة هو موضوع لهذا. وإنما أراد: من قال الله تعالى ذلك فيه، فقد استحق مقرّا من النار.
ثم بيّن تعالى المطففين بقوله: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ أي إذا أخذوا الكيل من الناس يأخذونه وافيا وزائدا. على إيهام أن بذلك تمام الكيل. وإذا فعلوا ذلك في الكيل الذي هو أجلّ مقدارا، ففي الوزن بطريق الأولى. وإيثار عَلَى على (من) للإشارة إلى ما فيه عملهم المنكر من الاستعلاء والقهر. شأن المتغلب المتحامل المتسلط، الذي لا يستبرئ لدينه وذمته: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أي كالوا للناس أو وزنوا لهم، ينقصونهم حقهم الواجب لهم، وهو الوفاء والتمام. ففيهما حذف وإيصال.
قال ابن جرير: من لغة أهل الحجاز أن يقولوا: وزنتك حقك، وكلتك طعامك، بمعنى وزنت لك وكلت لك.
تنبيه:
في (الإكليل) : في الآية ذم التطفيف والخيانة في الكيل والوزن. أي لأنه من المنكر فهو من المحظورات أشد الحظر، لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل في الأخذ والدفع، ولو في القليل. لأن من دنؤت نفسه إلى القليل دل على فساد طويته وخبث ملكته، وأنه لا يقعده عن التوثب إلى الكثير إلا عجز أو رقابة. قال ابن جرير:
وأصل التطفيف من الشيء الطفيف، وهو القليل النزر. والمطفف: المقلل حق صاحب الحق عما له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن. ومنه قيل للقوم الذين
يكونون سواء في حسبة أو عدد: هم سواء كطف الصاع. يعني بذلك كقرب الممتلئ منه ناقص عن الملء. وقد أمر تعالى بالوفاء في الكيل والميزان. فقال تعالى في عدة آيات: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء: 35] ، وقال تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرحمن: 9] ، وقص تعالى علينا أنه أهلك قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال. ثم قال سبحانه متوعدا لهم:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 4 الى 6]
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ أي من قبورهم بعد مماتهم لِيَوْمٍ عَظِيمٍ أي عظيم الهول جليل الخطب كثير الفزع، من خسر فيه أدخل نارا حامية يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي لأمره وقضائه فيهم بما يستحقون، في موقف يغشى المجرم فيه من الهول، ما يود الافتداء بكل مستطاع. وفي تأثر الويل للمطففين بما ذكر في هاتين الآيتين. مبالغات في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه. ووجه ذلك، كما لخصه الشهاب، أن في ذكر الظن من التجهيل مع اسم الإشارة الدال على التبعيد، تحقيرا- ووصف يوم قيامهم بالعظمة- وإبدال يَوْمَ يَقُومُ منه، فإنه يدل على استعظام ما استحقروه. والحكمة اقتضت أن لا تهمل مثقال ذرة من خير وشر.
وعنوان (رب العالمين) للمالكية والتربية الدالة على أنه لا يفوته ظالم قويّ، ولا يترك حق مظلوم ضعيف- وفي تعظيم أمر التطفيف إيماء إلى العدل وميزانه، وأن من لا يهمل مثل هذا، كيف يهمل تعطيل قانون عدله في عباده؟ وناهيك بأنه وصفهم بصفات الكفرة. فتأمّل هذا المقام، ففيه ما تتحيّر فيه الأوهام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 11]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
كَلَّا ردع عن التطفيف الذي يقترفونه لغفلتهم عن يوم الحساب وضعف اعتقادهم به إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ أي ما كتب فيه من عملهم السيء وأحصي عليهم.
وإيثار المظهر للإشعار بوصف لهم ثان، وهو الفجور، بخروجهم عن حد العدالة المتفق عليها الشرع والعقل لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ أي مسطور
بيّن الكتابة. أو معلّم برقم ينبئ عن قبحه. سمي سجينا- فعّيلا من السجن وهو الحبس والتضييق- لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم. فهو بمعنى (فاعل) في الأصل. أو لأنه مطروح في أسفل مكان مظلم. فهو بمعنى (مفعول) كأنه مسجون لما ذكر. وقيل: هو اسم مكان، فيقدر مضاف فيه أو فيما بعده. والتقدير: ما كتاب سجين أو محل كتاب مرقوم؟ فحذف المضاف وقيل إنه مشترك بين المكان والكتاب. وقال الأصفهاني: السجين اسم لجهنم بإزاء علّيّين. وزيد لفظه تنبيها على زيادة معناه. وقيل: هو اسم للأرض السابعة.
ثم قال: وقد قيل إن كل شيء ذكره الله تعالى بقوله: وَما أَدْراكَ فسّره. وكل ما ذكره بقوله: وَما يُدْرِيكَ تركه مبهما. وفي هذا الموضع ذكر وَما أَدْراكَ وكذا في قوله: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ثم فسّر الكتاب، لا السجين والعليون. وفي هذه الطبقة موضعها الكتب التي يتبع هذا الكتاب، لا هذا. انتهى.
وقال القاشانيّ: لَفِي سِجِّينٍ في مرتبة من الوجود مسجون أهلها في حبوس ضيقة مظلمة أذلاء أخساء في أسفل مراتب الطبيعة ودركاتها. وهو ديوان أعمال أهل الشرّ ولذلك فسّر بقوله: كِتابٌ مَرْقُومٌ أي ذلك المحل المكتوب فيه أعمالهم، كتاب مرقوم برقوم هيئات رذائلهم وشرورهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم الحساب والمجازاة. وفيه إشعار بأن المطففين ممن يتناولهم هذا الوصف. لأن إصرارهم على التعدي والاجترام يدل على عدم الظن بالبعث. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 12 الى 13]
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أي مجاوز طور الفطرة الإنسانية، بتجاوزه، حد العدالة، إلى الإفراط في أفعاله بالبغي والعدوان أَثِيمٍ أي مبالغ في ارتكاب أفانين الإثم وأنواع المعاصي إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما سطروه من الأحاديث والأخبار. يريد أنه ليس بوحي ربّاني، ولا تنزيل إلهيّ. مع نصوع بيانه وشواهد برهانه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #620  
قديم 23-06-2025, 12:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الانشقاق
المجلد السابع عشر
صـ 6096 الى صـ 6105
الحلقة (620)






القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : آية 14]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
كَلَّا أي ليست هذه الآيات بأساطير الأولين. بل هي الحق المبين، والشفاء لما في الصدور بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي غطّى على مداركهم ما اكتسبوه من الآثام حتى كدّر جوهرها وصار صدأ عليها بالرسوخ فيها. و (الرين) أصل معناه الصدأ والوسخ القارّ، شبه به حب المعاصي الراسخ في النفس. وذلك أنه يحصل من تكرار الفعل ملكة راسخة لا تقبل الزوال، وصفة للنفس قارّة فيها. فبكثرة المعاصي يرسخ حبها في القلب بحيث لا يزول، كالصدإ الذي لا يزول بسهولة. قال في (الأساس) : الران ما غطى على القلب وركبه من القسوة للذنب بعد الذنب. من قولهم: (ران عليه الشراب والنعاس) و (ران به) إذا غلب على عقله. و (رين بفلان) ونظيره الغين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : آية 15]
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
كَلَّا ردع لهم عن الكسب الرائن على قلوبهم. أو بمعنى حقّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال ابن جرير: أي فلا يرونه ولا يرون شيئا من كرامته يصل إليهم، فهم محجوبون عن رؤيته وعن كرامته. وتخصيص الحجب بهؤلاء يقتضي أن غيرهم غير محجوب فيراه الله تعالى ويرى كرامته. قال الشهاب: لما كان الحجاب هو الساتر من ستارة بزّ وغيرها، استعير تارة لعدم الرؤية، لأن المجوب لا يرى ما حجب. وتارة للإهانة، لأن الحقير يحجب ويمنع من الدخول على الرؤساء. ولذا قالت العرب: الناس ما بين مرحوب ومحجوب، أي معظم ومهان. وهو بمعانيه محال أن يتصف به الله. فلا يصح إطلاقه عليه تعالى، كما صرحوا به. وإنما يوصف به الخلق، كما في هذه الآية. فإذا أجري على اسم من أسمائه تعالى، فهو وصف سببيّ لا حقيقيّ. بل التشبيه للخلق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 16 الى 17]
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ أي محترقون بها. وقد أشار القاشاني إلى سر ترادف هذه الجمل الكريمة، بأن ما اكتسبوه من الذنوب لما صار كالصدإ على قلوبهم بالرسوخ فيها، كدّر جوهرها وغيرها عن طباعها. فعندها تحقق الحجاب وانغلق باب المغفرة، ولذلك قال: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ لامتناع قبول قلوبهم
للنور، وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطريّ. كالماء الكبريتي مثلا، إذ لو روّق أو صعّد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة، لاستحالة جوهرها. بخلاف الماء المسخن الذي استحالت كيفيته دون طبيعته ولهذا استحقوا الخلود في العذاب.
وحكم عليهم بقوله: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ انتهى.
قال ابن القيم في (بدائع الفوائد) في هذه الآية ما مثاله: جمع لهم سبحانه بين العذابين عذاب الحجاب وعذاب النار. فألم الحجاب يفعل في قلوبهم وأرواحهم، نظير ما تفعله النار في أجسامهم. كحال من حيل بينه وبين أحب الأشياء إليه في الدنيا، وأخذ بأشد العذاب. فإن أخص عذاب الروح أن تتعلق بمحبوب لا غنى لها عنه، وهي ممنوعة من الوصول إليه. فكيف إن حصل لها، مع تواري المحبوب عنها وطول احتجابه، بغضه لها ومقته وطرده وغضبه الشديد عليها؟ فأي نسبة لألم البدن إلى هذا الألم الذي لا يتصوره إلا من بلي به أو بشيء منه؟ فلو توهمت النفوس ما في احتجاب الله سبحانه عنها يوم لقائه من الألم والحسرة، لما تعرضت لأسباب ذلك الاحتجاب. وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة، منتهى حسنها إلى ما يعلم، كيف يضجّون من ألم احتجاب محبوبهم عنهم وإعراضه وهجره؟ ويرى أحدهم كالموت أو أشد منه من بين ساعة، كما قال:
وكنت أرى كالموت من بين ليلة ... فكيف ببين كان ميعاده الحشر
وإنما يتبين الحال في هذا بمعرفة ما خلقت له الروح وما هيئت له وما فطرت عليه، وما لا سعادة لها ولا نعيم ولا حياة إلا بإدراكه.
فاعلم أن الله سبحانه خلق كل عضو من الأعضاء لغاية ومنفعة، فكماله ولذته في أن يحصل فيه ما خلق له، فخلق العين للإبصار والأذن للسمع والأنف للشم واللسان للنطق واليد للبطش والرجل للمشي والروح لمعرفته ومحبته والابتهاج بقربه والتنعم بذكره. وجعل هذا كمالها وغايتها. فإذا تعطلت من ذلك كانت أسوأ حالا من العين والأذن واللسان واليد والرجل، التي تعطلت عما خلقت له، وحيل بينها وبينه. بل لا نسبة لألم هذه لروح إلى ألم تلك الأعضاء المعطلة البتة. بل ألمها أشد الألم. وهو من جنس ألمها إذ فقدت أحب الأشياء إليها وأعزه عليها، وحيل بينها وبينه، وشاهدت غيرها قد ظفر بوصله وفاز بقربه ورضاه. والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها، الذي لا تقرّ عينها إلا بقربه والأنس به والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه. فهذا غاية
كمالها وأعظم نعيمها وجنّتها العاجلة في الدنيا. فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب الذي كان يحجبها في الدنيا عن رؤية وجهه وسماع كلامه.
وفي حديث الرؤية «1» : فو الله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه.
ثم قال: وكما جمع سبحانه لأعدائه بين هذين العذابين، وهما ألم الحجاب وألم العذاب، جمع لمحبيه بين نوعي النعيم نعيم القرب والنظر، ونعيم الأكل والشرب والنكاح والتمتع بما في الجنة، في قوله: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الإنسان: 11] الآيات.
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي في الدنيا. قال الإمام: تبكيتا لهم وزيادة في التنكيل بهم. فإن أشد شيء على الإنسان، إذا أصابه مكروه، أن يذكر وهو يتألم له، بأن وسائل النجاة من مصابه كانت بين يديه فأهملها. وأسباب التفصي عنه كانت في مكنته فأغفلها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 21]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
كَلَّا ردع عن التكذيب، أو بمعنى حقّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ قال القاشانيّ: أي ما كتب من صور أعمال السعداء وهيئات نفوسهم النورانية وملكاتهم الفاضلة، في عليين. وهو مقابل للسجين، في علوه وارتفاع درجته، وكونه ديوان أعمال أهل الخير. كما قال: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ أي محل شريف رقم بصور أعمالهم: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي يحضره المقربون من حضرة ذي الجلال، كما في آية فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 55] .
والمقربون هم الأبرار: أعاد ذكرهم، بوصف ثان، تنويها بهم وتعديدا لصفاتهم.
أو هم الملائكة إجلالا لهم وتعظيما لشأنهم.
ولما عظم تعالى كتابهم، تأثره بتعظيم منزلتهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 22 الى 26]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26)
(1)
أخرجه الترمذي في: الجنة، 16- باب ما جاء في رؤية الرب تبارك وتعالى.

إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ أي عظيم دائم، وذلك نعيمهم في الجنان عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي على الأسرة والمتكآت ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة وأفانين النعيم تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي بهجته ورونقه، كما يرى على وجوه المترفهين ماؤه وحسنه يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ أي خمر، إلا أنه خص بالخالص الذي لا غش فيه، كما قال حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفّق بالرحيق السّلسل
ومنه قولهم. مسك رحيق لا غش فيه، وحسب رحيق لا شوب فيه.
وقوله تعالى: مَخْتُومٍ أي ختم على أوانيه تكريما له لصيانته عن أن تمسه الأيدي على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان خِتامُهُ مِسْكٌ قال القفال:
أي الذي يختم به رأس قارورة ذلك الرحيق، هو المسك، كالطين الذي يختم به رؤوس القوارير فكأن ذلك المسك رطب ينطبع فيه الخاتم.
وعن بعض السلف واللغويين المختوم الذي له ختام أي عاقبة، وقد فسرت بالمسك. أي من شربه كان ختم شربه على ريح المسك. والقصد لذة المقطع بذكاء الرائحة وأرجها، على خلاف خمر الدنيا الخبيثة الطعم والرائحة وَفِي ذلِكَ أي النعيم المنوه به وما تلاه فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي فليرغب الراغبون بالاستباق إلى طاعة الله تعالى:
قال ابن جرير: التنافس أن ينفس الرجل على الرجل بالشيء يكون له، ويتمنى أن يكون له دونه. وهو مأخوذ من الشيء النفيس، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتشتهيه. وكأن معناه في ذلك: فليجدّ الناس فيه وإليه، فليستبقوا في طلبه ولتحرص عليه نفوسهم. وقال الرازيّ: إن مبالغته تعالى في الترغيب فيه تدل على علوّ شأنه. وفيه إشارة إلى أن التنافس يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم العظيم الدائم، لا في النعيم الذي هو مكدر سريع الفناء. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 27 الى 28]
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عطف على (ختامه) صفة أخرى (لرحيق) وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته. أي ما يمزج به ذلك الرحيق من ماء تسنيم. والتسنيم في الأصل مصدر سنمه بمعنى رفعه، ومنه السنام. سمي الماء به لارتفاعه وانصبابه من علوّ. وقد بينه بقوله: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أي يشربون بها الرحيق، والكلام
في الباء، كما في آية يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الإنسان: 6] ، من كونها زائدة، أو بمعنى (من) أو صلة الامتزاج أو الالتذاذ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 31]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا يعني كفار قريش كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أي استهزاء بهم لإيمانهم بالله وحده وبما أوحاه إلى رسوله صلوات الله عليه، ونبذهم ما ألفوا عليه آباءهم.
قال الإمام: الذين أجرموا هم المعتدون الأئمة الذين شريت نفوسهم في الشر، وصمّت آذانهم عن سماع دعوة الحق. هؤلاء كانوا يضحكون من الذين آمنوا. ذلك لأنه حين رحم الله هذا العالم ببعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأي الدهماء وفي ضلال العامة. وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته عليه السلام، ثم يهمس بها بعض من يليه. ويجيب دعوته من الضعفاء الذين لم تطمس أهواؤهم سبيل الحق إلى قلوبهم فيسرّ بها إلى من يرجوه، ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه. ومن شأن القويّ المستعز بالقدرة والكثرة أن يضحك ممن يخالفه في المنزع ويدعوه إلى غير ما يعرفه، وهو أضعف منه قوة وأقل عددا. كذلك كان شأن جماعة من قريش، كأبي جهل والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل وأشياعهم. وهكذا يكون شأن أمثالهم في كل زمان متى عمت البدع، وتفرقت الشيع وخفي طريق الحق بين طرق الباطل، وجهل معنى الدين، وأزهقت روحه من عباراته وأساليبه، ولم يبق إلا ظواهر لا تطابقها البواطن، وحركات أركان لا تشايعها السرائر. وتحكمت الشهوات فلم تبق رغبة تحدو بالناس إلى العمل، إلا ما تعلق بالطعام والشراب والزينة والرياش والمناصب والألقاب. وتشبثت الهمم بالمجد الكاذب. وأحب كل واحد أن يحمد بما لم يفعل. وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل. واستوى في ذلك الكبير والصغير، والأمير والمأمور، والجاهل والملقب بلقب العالم. إذا صار الناس إلى هذه الحال، ضعف صوت الحق وازدرى السامعون منهم بالداعي إليه.
وانطبق عليهم نص الآية الكريمة. انتهى.
وَإِذا مَرُّوا
أي الذين آمنوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ
أي يغمز بعضهم بعضا استهزاء وسخرية. والغمز: الإشارة بالجفن والحاجب.
قال السيوطيّ: وفي هذا دلالة على تحريم السخرية بالمؤمنين، والضحك منهم، والتغامز عليهم وَإِذَا انْقَلَبُوا أي هؤلاء المجرمون من مجالسهم إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي متلذذين بالسخرية وحكاية ما يعيبون به أهل الإيمان. أو بما هم فيه من الشرك والطغيان والتنعم بالدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 32 الى 36]
وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
وَإِذا رَأَوْهُمْ أي رأوا المؤمنين قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي لتركهم ما عليه العامة، والاعتصام بغيره. وقوله تعالى: وَما أُرْسِلُوا أي هؤلاء المجرمون القائلون ما ذكر عَلَيْهِمْ أي على المسلمين حافِظِينَ أي لأعمالهم. جملة حالية من (واو قالوا) أي قالوا ذلك، والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى موكلين بهم، يحفظون عليهم أحوالهم، ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم.
وهذا تهكم بهم وإشعار بأن ما اجترءوا عليه من القول، من وظائف من أرسل من جهته تعالى.
وقد جوّز أن يكون ذلك من جملة قول المجرمين. كأنهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا علينا حافظين. إنكارا لصدهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام، وإنما قيل عَلَيْهِمْ نقلا له بالمعنى كما في قولك: (حلف ليفعلنّ) لا بالعبارة، كما في قولك: (حلف لأفعلنّ) أفاده أبو السعود فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ تفريع على ما قبله، للدلالة على أنه جزاء سخريتهم في الدنيا و (اليوم) يوم الدين والجزاء. وضحكهم من الكفار ضحك المسرور بما نزل بعدوّه من الهوان والصغار، بعد العزة والكبر. عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ إلى ما أوتوا من النعيم، وما حل بالمجرمين من عذاب الجحيم هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ أي جوزوا ثواب ما كانوا يفعلون في الدنيا.
والجملة متعلقة ب (ينظرون) في محل نصب بعد إسقاط الجار. أو مستأنفة.
والاستفهام للتقرير كأنه خطاب للمؤمنين، تعظيما لهم وتكريما وزيادة في مسرتهم.
أي هل رأيتم كيف جازى الله الكافرين بأعمالهم، أي أنه فعل. و (ما) مصدرية أو موصولة.
وثوّبه وأثابه بمعنى جازاه. وهو من (ثاب) بمعنى رجع. فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله. ويستعمل في الخير والشر.
ونظير هذه الآيات قوله تعالى: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ [المؤمنون: 108- 111] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الانشقاق
وتسمى سورة إذا السماء انشقت. وهي مكية. وهي خمس وعشرون آية. قيل ترتيب هذه السور الثلاث ظاهر. لأن في (انفطرت) تعريف الحفظة الكاتبين وفي (المطففين) مقرّ كتبهم. وفي هذه عرضها للقيامة.
روى الإمام مالك «1» عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم: إذا السماء انشقت. فسجد فيها. فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها.
ورواه مسلم «2» والنسائي «3» وأخرج البخاري «4» عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة. فقرأ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد. فقلت:
ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم
.
فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه.

وفي رواية للنسائي «5» عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.
(1)
أخرجه في الموطأ في: الأمر بالوضوء لمن مس القرآن، حديث رقم 12.

(2)
أخرجه في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 107.

(3)
أخرجه في: الافتتاح، 51- باب السجود في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ.

(4)
أخرجه في: سجود القرآن، 11- باب من قرأ السجدة في الصلاة فسجد بها. حديث رقم 466.

(5)
أخرجه في: الافتتاح، 51- باب السجود في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. []






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 406.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 400.75 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.44%)]