فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 8 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         أشهى الوصفات للإفطار فى رمضان جدول أكل رمضان ثلاثون يوما تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 29 - عددالزوار : 30 )           »          إزاى تصاحبى بنتك فى فترة المراهقة؟ 8 أسرار تخليكى تكسبى صداقتها وثقتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          طريقة عمل أقراص الحمضيات الفوارة للاستحمام.. انتعاش دائم بتكلفة أقل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          6 خطوات ذكية تحمي علاقتك الزوجية من الفتور والجفاف العاطفي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          وصفات طبيعية للعناية بالبشرة توفر بديل مثالي للكريمات اليومية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          5 خضراوات غنية بمضادات الأكسدة تجعل بشرتك نضرة بدون مكياج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          5 أشياء يجب عدم وضعها أبدا فى حمام صغير.. اعرف البدائل ووسع على نفسك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          7 أطعمة لتعزيز التعلم وتحسين المزاج والنوم لدى الأطفال.. مهمة فى اللانش بوكس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          كيف تساعد ابنك المراهق على تقبل شكله؟.. عزز ثقته واحميه من هوس المثالية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          طريقة عمل كيك التين مع صوص اللبن الرايب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-02-2022, 05:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,725
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (67)

من صــ 209 الى صـ
ـ 216

وهكذا الحسد يقع كثيرا بين المتشاركين في رئاسة أو مال إذا أخذ بعضهم قسطا من ذلك وفات الآخر؛ ويكون بين النظراء لكراهة أحدهما أن يفضل الآخر عليه كحسد إخوة يوسف كحسد ابني آدم أحدهما لأخيه فإنه حسده لكون أن الله تقبل قربانه ولم يتقبل قربان هذا؛ فحسده على ما فضله الله من الإيمان والتقوى - كحسد اليهود للمسلمين - وقتله على ذلك؛ ولهذا قيل أول ذنب عصي الله به ثلاثة: الحرص والكبر والحسد.
فالحرص من آدم والكبر من إبليس والحسد من قابيل حيث قتل هابيل. وفي الحديث {ثلاث لا ينجو منهن أحد: الحسد والظن والطيرة. وسأحدثكم بما يخرج من ذلك إذا حسدت فلا تبغض وإذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض} رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة.

وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم {دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء وهي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين} فسماه داء كما سمى البخل داء في قوله: {وأي داء أدوأ من البخل} فعلم أن هذا مرض وقد جاء في حديث آخر {أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء} فعطف الأدواء على الأخلاق والأهواء.

فإن " الخلق " ما صار عادة للنفس وسجية. قال تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} قال ابن عباس وابن عيينة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم عنهم: على دين عظيم وفي لفظ عن ابن عباس: على دين الإسلام. وكذلك قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان خلقه القرآن. وكذلك قال الحسن البصري: أدب القرآن هو الخلق العظيم.
وأما " الهوى " فقد يكون عارضا والداء هو المرض وهو تألم القلب والفساد فيه وقرن في الحديث الأول الحسد بالبغضاء؛ لأن الحاسد يكره أولا فضل الله على ذلك الغير؛ ثم ينتقل إلى بغضه؛ فإن بغض اللازم يقتضي بغض الملزوم فإن نعمة الله إذا كانت لازمة وهو يحب زوالها وهي لا تزول إلا بزواله أبغضه وأحب عدمه والحسد يوجب البغي كما أخبر الله تعالى عمن قبلنا: أنهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فلم يكن اختلافهم لعدم العلم بل علموا الحق ولكن بغى بعضهم على بعض كما يبغي الحاسد على المحسود. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تحاسدوا ولا تباغضوا؛ ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال: يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من رواية أنس أيضا {والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}.
وقد قال تعالى: {وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا} {ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما}. فهؤلاء المبطئون لم يحبوا لإخوانهم المؤمنين ما يحبون لأنفسهم بل إن أصابتهم مصيبة فرحوا باختصاصهم وإن أصابتهم نعمة لم يفرحوا لهم بها بل أحبوا أن يكون لهم منها حظ فهم لا يفرحون إلا بدنيا تحصل لهم أو شر دنيوي ينصرف عنهم إذا كانوا لا يحبون الله ورسوله والدار الآخرة ولو كانوا كذلك لأحبوا إخوانهم وأحبوا ما وصل إليهم من فضله وتألموا بما يصيبهم من المصيبة ومن لم يسره ما يسر المؤمنين ويسوءه ما يسوء المؤمنين فليس منهم.
ففي الصحيحين عن عامر قال سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول: {سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد. إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر} وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه}.
والشح مرض والبخل مرض والحسد شر من البخل كما في الحديث الذي رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار} وذلك أن البخيل يمنع نفسه والحسود يكره نعمة الله على عباده وقد يكون في الرجل إعطاء لمن يعينه على أغراضه وحسد لنظرائه وقد يكون فيه بخل بلا حسد لغيره والشح أصل ذلك.
وقال تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا} وكان عبد الرحمن بن عوف يكثر من الدعاء في طوافه يقول: اللهم قني شح نفسي فقال له رجل: ما أكثر ما تدعو بهذا فقال: إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة. والحسد يوجب الظلم
فصل:
فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعها بل وحبها لما يضرها ولهذا يقرن الحسد بالحقد والغضب وأما مرض الشهوة والعشق فهو حب النفس لما يضرها وقد يقترن به بغضها لما ينفعها والعشق مرض نفساني وإذا قوي أثر في البدن فصار مرضا في الجسم إما من أمراض الدماغ كالماليخوليا؛ ولهذا قيل فيه هو مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا وإما من أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك. والمقصود هنا " مرض القلب " فإنه أصل محبة النفس لما يضرها كالمريض البدن الذي يشتهي ما يضره وإذا لم يطعم ذلك تألم وإن أطعم ذلك قوي به المرض وزاد.
كذلك العاشق يضره اتصاله بالمعشوق مشاهدة وملامسة وسماعا بل ويضره التفكر فيه والتخيل له وهو يشتهي ذلك فإن منع من مشتهاه تألم وتعذب وإن أعطي مشتهاه قوي مرضه وكان سببا لزيادة الألم. وفي الحديث: {أن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب} وفي مناجاة موسى المأثورة عن وهب التي رواها الإمام أحمد في (كتاب الزهد " {يقول الله تعالى: إني لأذود أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة.
وإني لأجنبهم سكونها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة وما ذلك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ولم يطفئه الهوى}. وإنما شفاء المريض بزوال مرضه بل بزوال ذلك الحب المذموم من قلبه.
(وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111)
[فصل: نقض دعواهم الاستغناء باليهودية والنصرانية]
فصل

ثم قالوا: " إنا نعجب من هؤلاء القوم، الذين مع أدبهم وما يأخذون به أنفسهم من الفضل، كيف لم يعلموا أن الشرائع شريعتان: شريعة عدل وشريعة فضل؛ لأنه لما كان الباري عدلا وجوادا وجب أن يظهر عدله على خلقه فأرسل موسى إلى بني إسرائيل فوضع شريعة العدل وأمرهم بفعلها إلى أن استقرت في نفوسهم، ولما كان الكمال الذي هو الفضل لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال، وجب أن يكون هو - تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه - الذي يضعه؛ لأنه ليس شيء أكمل منه، ولأنه جواد؛ وجب أن يجود بأجل الموجودات وليس في الموجودات أكمل من كلمته؛ لذلك وجب أن يجود بكلمته، فلهذا وجب أن يجود بكلمته، فلهذا وجب أن يتحد بذات محسوسة يظهر منها قدرته وجوده. ولما لم يكن في المخلوقات أجل من الإنسان، اتحد بالطبيعة البشرية من السيدة الطاهرة، من مريم البتول المصطفاة على نساء العالمين، وبعد هذا الكمال ما تبقى شيء يوضع؛ لأن جميع ما يتقدمه وما يأتي مقتضيه، وما يأتي بعد الكمال غير محتاج إليه؛ لأن ليس شيء يأتي بعد الكمال فيكون فاضلا، بل دون، أو أخذ منه.

فهو فاضل لا يحتاج إليه، وفي هذا القول نفع. والسلام على من اتبع الهدى، وهذا مما عرفته من أن القوم الذين رأيتهم وخاطبتهم في محمد - عليه السلام - وما يحتجون به عن أنفسهم، فإن يكن ما ذكروه صحيحا؛ فلله الحمد. وإن كان خلاف ذلك فمولانا يكتب ذلك، فقد جعلوني سفيرا، والحمد لله رب العالمين ".

والجواب على هذا من وجوه، أحدها: أن يقال: بل الشرائع ثلاثة: شريعة عدل فقط، وشريعة فضل فقط، وشريعة تجمع العدل والفضل، فتوجب العدل، وتندب إلى الفضل، وهذه أكمل الشرائع الثلاث وهي شريعة القرآن الذي
جمع فيه بين العدل والفضل. مع أنا لا ننكر أن يكون موسى - عليه السلام - أوجب العدل وندب إلى الفضل، وكذلك المسيح - أيضا - أوجب العدل وندب إلى الفضل.
وأما من يقول: إن المسيح أوجب الفضل وحرم على كل مظلوم أن يقتص من ظالمه، أو أن موسى لم يندب إلى الإحسان، فهذا فيه غضاضة بشريعة المرسلين. لكن قد يقال: إن ذكر العدل في التوراة أكثر، وذكر الفضل في الإنجيل أكثر، والقرآن جمع بينهما على غاية الكمال.
والقرآن بين أن السعداء أهل الجنة، وهم أولياء الله نوعان: أبرار مقتصدون، ومقربون سابقون؛ فالدرجة الأولى تحصل بالعدل: وهي أداء الواجبات وترك المحرمات، والثانية لا تحصل إلا بالفضل: وهو أداء الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات.
فالشريعة الكاملة تجمع العدل والفضل؛ كقوله - تعالى - {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280].
فهذا عدل واجب، من خرج عنه استحق العقوبة في الدنيا والآخرة.
ثم قال: {وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة: 280].
فهذا فضل مستحب مندوب إليه، من فعله أثابه الله ورفع درجته، ومن تركه لم يعاقبه.
وقال - تعالى -:.
{ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} [النساء: 92].
فهذا عدل.
ثم قال - تعالى -: {إلا أن يصدقوا} [النساء: 92].
فهذا فضل.
وقال - تعالى -:.
{والجروح قصاص} [المائدة: 45].
فهذا عدل.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10-02-2022, 05:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,725
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (68)

من صــ 217 الى صـ
ـ 224

ثم قال:.
{فمن تصدق به فهو كفارة له} [المائدة: 45].
فهذا فضل.
وقال - تعالى -:.
{وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237].
فهذا عدل.

ثم قال:.
{إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة: 237].
فهذا فضل.
وقال - تعالى -:.
{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126].
فهذا عدل.
ثم قال:.
{ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل: 126].
فهذا فضل.
وقال - تعالى -.
{وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40].
فهذا عدل.
ثم قال:.
{فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40].
فهذا فضل.
وهو - سبحانه - دائما يحرم الظلم ويوجب العدل ويندب إلى الفضل، كما في آخر سورة البقرة لما ذكر حكم الأموال. والناس فيها إما محسن وإما عادل وإما ظالم؛ فالمحسن المتصدق، والعادل المعاوض كالبايع، والظالم كالمرابي.

فبدأ بالإحسان والصدقة فذكر ذلك ورغب فيه فقال: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم - الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون - قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم} [البقرة: 261 - 263] الآيات.
ثم ذكر تحريم الربا، فقال:
{الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 275].
ثم لما أحل البيع ذكر المداينات، وحكم البيع الحال والمؤجل، وحفظ ذلك بالكتاب والشهود أو الرهن، وختم السورة بأصول الإيمان من الإيمان بالكتب والرسل، وهو - سبحانه - بعد أن افتتحها بذكر أصناف الناس، وهم ثلاثة: إما مؤمن وإما كافر وإما منافق. فذكر نعت المؤمنين، ثم ذكر نعت الكافرين، ثم ذكر نعت المنافقين، ثم مهد أصول الإيمان؛ فأمر بعبادة الله - تعالى - وذكر آياته وآلائه. ثم قرر نبوة رسله، ثم ذكر اليوم الآخر والوعد والوعيد، ثم ذكر بدء العالم وخلق السماوات والأرض، ثم خلق آدم وإسجاد الملائكة له وخروجه من الجنة، وهبوطه إلى الأرض.
ثم بعد أن عم بالدعوة جميع الخلق، خص أهل الكتاب فخاطبهم: خاطب اليهود أولا بني إسرائيل، ثم النصارى، ثم خاطب المؤمنين فقرر لهم قواعد دينه؛ فذكر أصل ملة إبراهيم وبناءه للبيت ودعاءه لأهل مكة، ووكد الأمر بملة إبراهيم، ثم ذكر ما يتعلق بالبيت من اتخاذه قبلة ومن تعظيم شعائر الله التي عنده كالصفا والمروة، ثم ذكر التوحيد والحلال والحرام والمطاعم للناس عموما، ثم للذين آمنوا خصوصا.
ثم ذكر ما يتعلق بالقتل من القصاص وبالموت من الوصية، ثم ذكر شرائع الدين، فذكر صيام شهر رمضان، وما يكون فيه من الاعتكاف، ثم ذكر ما يتصل بشهر الصيام، وهو أشهر الحج، فذكر الحج، وذكر حكم القتال عموما، وخصوصا في البلد الحرام. ولما ذكر الصلاة والصيام والحج والجهاد والصدقة، ذكر بعد ذلك الحلال والحرام في الفروج. فذكر أحكام وطء النساء والحيض والإيلاء منهن والطلاق لهن، واختلاعهن. وذكر حكم الأولاد وإرضاعهم، واعتداد النساء وخطبتهن في العدة، وطلاقهن قبل الدخول وبعده، ثم ذكر الصلوات والمحافظة عليهن، ثم قرر المعاد وما يدل عليه من إحياء الموتى في الدنيا مرة بعد مرة.
فتضمنت هذه السورة الواحدة جميع ما يحتاج الناس إليه في الدين وأصوله وفروعه، وافتتحها بالإيمان بالكتب والرسل، ووسطها بالإيمان بالكتب والرسل، وختمها بالإيمان بالكتب والرسل. فإن الإيمان بالكتب والرسل هو عمود الإيمان وقاعدته وجماعه.
وأمر فيها الخلق عموما وخصوصا، وذكر فيها الإيمان بالخالق وآيات ربوبيته، والإيمان بالمعاد والدار الآخرة، والأعمال الصالحة التي أمر بها، وأن من كان من أتباع الرسل من المؤمنين واليهود والنصارى.
والصابئين قائما بهذه الأصول: وهو الإيمان بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح فهو السعيد في الآخرة الذي له أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
بخلاف من بدل منهم الكتاب، أو كذب بكتاب فإن هؤلاء من الكفار. فمن كان متبعا لشرع التوراة قبل مبعث المسيح، غير مبدل له فهو من السعداء. وكذلك من كان متبعا لشرع الإنجيل قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - غير مبدل له فهو من السعداء. ومن بدل شرع التوراة أو كذب بالمسيح فهو كافر، كاليهود بعد مبعث المسيح - عليه السلام - وكذلك من بدل شرع الإنجيل أو كذب محمدا - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر كالنصارى بعد مبعث محمد، صلى الله عليه وسلم.
فقدماء اليهود والنصارى الذين اتبعوا الدين قبل النسخ والتبديل سعدوا، وأما اليهود والنصارى الذين تمسكوا بشرع مبدل منسوخ وتركوا اتباع الكتب والرسول الذي أرسل إليهم وإلى غيرهم وعدلوا عن الشرع المنزل المحكم، فهم كفار.
ورد دعاوى اليهود والنصارى الكاذبة، مثل قول هؤلاء:
{لن يدخل الجنة إلا من كان هودا} [البقرة: 111].
وقول هؤلاء: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فقال:.
{بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 112].
وبين من كفر اليهود والنصارى، مما عرف بهم حالهم.

لكن أكثر ما ذكر في هذه السورة: اليهود، كما أن أكثر ما ذكر في سورة آل عمران النصارى، فإن هذه نزلت أول مقدمه المدينة، وكان اليهود جيرانه. وآل عمران تأخر نزولها إلى آخر الأمر، لما قدم عليه نصارى نجران، وفيها فرض الحج، لما طهر الله مكة من المشركين، فكان أكثر دعائه في أول الأمر للمشركين؛ لأنهم جيرانه
بمكة، ثم لليهود؛ لأنهم جيرانه بالمدينة، ثم للنصارى؛ لأنهم كانوا أبعد عنه من ناحية الشام واليمن، والمجوس - أيضا - لأنهم كانوا أبعد عنه بأرض العراق وخراسان.
وهذا هو الترتيب المناسب، يدعو الأقرب إليه فالأقرب، ثم يرسل رسله إلى الأبعد. وهو - صلى الله عليه وسلم - كان - أولا - مشغولا بجهاد المشركين واليهود. فلما صالح المشركين صلح
الحديبية، وحارب يهود خيبر عقيب ذلك، ففتحها الله عليه، وقسمها بين الذين بايعوه تحت الشجرة: الذين شهدوا صلح الحديبية، تفرغ لمن بعد عنه، فأرسل رسله إلى جميع من حواليه من الأمم.
أرسل إلى ملوك النصارى بمصر والشام والحبشة، فإنه كان
قد مات ملك الحبشة النجاشي الذي أسلم، وأخبر الناس بموته يوم مات، وخرج بأصحابه إلى ظاهر المدينة فصلى عليه بهم صلاة الجنازة كما كان يصلي على سائر موتى المسلمين. وتولى بعد النجاشي آخر فأرسل إليه كما ذكره مسلم في صحيحه، وأرسل إلى ملوك اليمن من المشركين واليهود، وإلى ملوك العرب. وكان في العرب خلق كثير يهود، وخلق كثير نصارى، وخلق كثير مجوس فدعا جميع الخلق من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، عربهم وعجمهم.
الوجه الثاني: أن يقال لهم: الناس لهم في أمر الله ونهيه قولان مشهوران:
أحدهما: أنه يرجع إلى محض المشيئة، لا يعتبر فيه أن يكون المأمور به مصلحة للخلق، وإن اتفق أن يكون مصلحة، وإن كان الواقع كونه مصلحة، وهذا قول من يقول: لا يفعل ولا يحكم بسبب ولا لحكمة ولا لغرض.

والقول الثاني: - وهو قول جمهور الناس - إن الله إنما أرسل الرسل ليأمروا الناس بما يصلحهم وينفعهم إذا فعلوه، كما قال - تعالى -:
{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].
وقال - تعالى -:{فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى - ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى - قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا - قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 123 - 126].
فإن قيل بالأول: لم يسأل عن حكمة إرسال الرسل، وإن قيل بالثاني: ففي إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - من الحكم
والمصالح أعظم مما كان في إرسال موسى والمسيح، والذي حصل به من صلاح العباد في المعاش والمعاد أضعاف ما حصل بإرسال موسى والمسيح من جهة الأمر والخلق. فإن في شريعته من الهدى ودين الحق أكمل مما في الشريعتين المتقدمتين.
وتيسير الله من اتباع الخلق له واهتدائهم به ما لم يتيسر مثله لمن قبله، فحصل فضيلة شريعته من جهة فضلها في نفسها، ومن جهة كثرة من قبلها وكمال قبولهم لها، بخلاف شريعة من قبله، فإن موسى - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى بني إسرائيل، وكان فيهم من الرد والعناد في حياة موسى وبعد موته ما هو معروف، وقد ذكر النصارى في كتابهم هذا من ذلك ما تقدم.

ولم تكن شريعة التوراة في الكمال مثل شريعة القرآن، فإن القرآن فيه ذكر المعاد وإقامة الحجج عليه وتفصيله، ووصف الجنة والنار، ما لم يذكر مثله في التوراة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10-02-2022, 05:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,725
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (69)

من صــ 225 الى صـ
ـ 232


وفيه من ذكر قصة هود وصالح وشعيب وغيرهم من الأنبياء، ما لم يذكر في التوراة، وفيه من ذكر أسماء الله الحسنى وصفاته ووصف ملائكته وأصنافهم وخلق الإنس والجن ما لم يفصل مثله في التوراة، وفيه من تقرير التوحيد بأنواع الأدلة ما لم يذكر مثله في التوراة، وفيه من ذكر أديان أهل الأرض ما لم يذكر مثله في التوراة، وفيه من مناظرة المخالفين وإقامة البراهين على أصول الدين ما لم يذكر مثله في التوراة، مع أنه لم ينزل كتاب من السماء أهدى من القرآن والتوراة.
وفي شريعة القرآن تحليل الطيبات وتحريم الخبائث، وشريعة التوراة فيها تحريم كثير من الطيبات عليهم، حرمت عليهم عقوبة لهم، وفي شريعة القرآن من قبول الدية في الدماء ما لم يشرع في التوراة، وفيها من وضع الآصار والأغلال التي في التوراة ما يظهر به أن نعمة الله على أهل القرآن أكمل.

وأما الإنجيل؛ فليس فيه شريعة مستقلة، ولا فيه الكلام على التوحيد وخلق العالم وقصص الأنبياء وأممهم، بل أحالهم على التوراة في أكثر الأمر. ولكن أحل المسيح بعض ما حرم عليهم، وأمرهم
بالإحسان والعفو عن الظالم واحتمال الأذى، والزهد في الدنيا، وضرب الأمثال لذلك.
فعامة ما امتاز به الإنجيل عن التوراة بمكارم الأخلاق المستحسنة، والزهد المستحب، وتحليل بعض المحرمات وهذا كله في القرآن، وهو في القرآن أكمل، فليس في التوراة والإنجيل والنبوات ما هو من العلوم النافعة والأعمال الصالحة إلا وهو في القرآن أو ما هو أفضل منه. وفي القرآن من العلوم النافعة والأعمال الصالحة من الهدى ودين الحق ما ليس في الكتابين. لكن النصارى لم يتبعوا لا التوراة ولا الإنجيل، بل أحدثوا شريعة لم يبعث بها نبي من الأنبياء، كما وضعوا لقسطنطين (الأمانة) ووضعوا له أربعين كتابا فيها القوانين، فيها بعض ما جاءت به الأنبياء، وفيها شيء كثير مخالف لشرع الأنبياء وصاروا إلى كثير من دين المشركين الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى، وكذبوا رسله فصار في دينهم من الشرك وتغيير دين الرسل ما غيروا به شريعة الإنجيل؛ ولهذا التبست عند عامتهم شريعة الإنجيل بغيرها، فلا يعرفون ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره ولا ما شرعه مما أحدث بعده.
فالمسيح لم يأمرهم بتصوير الصور وتعظيمها، ولا دعاء من صورت تلك التماثيل على صورته، ولا أمر بهذا أحد من الأنبياء.
لا يوجد قط عن نبي أنه أمر بدعاء الملائكة والاستشفاع بهم، ولا بدعاء الموتى من الأنبياء والصالحين والاستشفاع بهم، فضلا عن دعاء تماثيلهم والاستشفاع بها، فإن هذا من أصول الشرك الذي نبهت عليه الرسل، وهذا كان أصل الشرك في بني آدم من عهد نوح - عليه السلام -.
قال الله - تعالى - عن قوم نوح:
{لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا} [نوح: 23].

قال كثير من العلماء، منهم ابن عباس وغيره: وهؤلاء كانوا قوما
صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم وقد ذكر ذلك المسيح وعلماء النصارى.
والمسيح - عليه السلام - لم يأمرهم بعبادته ولا قال: إنه الله، ولا بما ابتدعوه من التثليث والاتحاد. والمسيح لم يأمرهم باستحلال كل ما حرمه الله في التوراة من الخبائث؛ كالخنزير وغيره، فاستحلوا الخبائث المحرمة وغيروا شريعة التوراة والإنجيل. والمسيح لم يأمرهم بأن يصلوا إلى المشرق ولم يأمرهم أن يعظموا الصليب، ولم
يأمرهم بترك الختان ولا بالرهبانية ولا بسائر ما ابتدعوه بعده.
ولهذا لما ظهر فساد دين النصارى، صار بعض الناس، كأبي عبد الله الرازي يقول: " لم يظهر الانتفاع بدين المسيح، إلا في طائفة قليلة كانوا قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الدين الذي كان عليه جمهور النصارى، ليس هو دين المسيح.
وتبين هذا:
بالوجه الثالث: وهو أن يقال: هب إن شريعة الكتاب كانت كافية، فإنما ذاك إذا كانت محفوظة معمولا بها، ولم يكن الأمر كذلك، بل كانت قد درس كثير من معالمها.
وقد اختلف أهل الكتاب في المسيح وغيره اختلافا عظيما كما قال تعالى:

{ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14].
وقد قال - تعالى -: {كان الناس أمة واحدة} [البقرة: 213].
أي فاختلفوا.

{فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه} [البقرة: 213].
والوقت الذي بعث الله فيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قد بقي أحد مظهرا لما بعث الله به الرسل قبله.
فبعثه على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، أحوج ما كان الناس إلى رسول، كما في صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب" ".
وكان الناس حين مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - إما أميين، لا كتاب لهم، يشركون بالرحمن، ويعبدون الأوثان، وإما أهل كتاب قد بدلوا معانيه وأحكامه وحرفوا حلاله وحرامه ولبسوا حقه بباطله، كما هو الموجود. فلو أراد الرجل أن يميز له أهل الكتاب ما جاءت به الأنبياء مما هم عليه مما أحدثوه بعدهم، لم يعرف جمهورهم ذلك، بل قد صار الجميع عندهم دينا واحدا.
فبعث الله - تبارك وتعالى - محمدا بالكتاب الذي أنزله عليه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا، فميز به الحق من الباطل والهدى من الضلال والغي من الرشاد. قال - تعالى -:{ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين - يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم - لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة: 15 - 17].
إلى قوله.
{ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير} [المائدة: 19].
الوجه الرابع: إن شريعة التوراة تغلب عليها الشدة، وشريعة الإنجيل يغلب عليها اللين، وشريعة القرآن معتدلة جامعة بين هذا وهذا، كما قال - تعالى -: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143].
وقال في وصف أمته:
{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29].
وقال - أيضا -:
{فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} [المائدة: 54].
فوصفهم بالرحمة للمؤمنين، والذلة لهم، والشدة على الكفار والعزة عليهم.
وكذلك كان صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيهم، أكمل النبيين وأفضل الرسل؛ بحيث قال: " "أنا محمد وأنا أحمد، وأنا نبي الرحمة، وأنا نبي الملحمة، وأنا نبي التوبة، وأنا الضحوك القتال" ".

فوصف نفسه بأنه نبي الرحمة والتوبة، وأنه نبي الملحمة، وأنه الضحوك القتال، وهذا أكمل ممن نعت بالشدة والبأس غالبا، أو باللين غالبا، وقد قيل بسبب ذلك: أن بني إسرائيل كانت نفوسهم قد ذلت لقهر فرعون لهم واستعباد فرعون لهم، فشرعت لهم الشدة لتقوى أنفسهم ويزول عنهم ذلك الذل.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10-02-2022, 05:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,725
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (70)

من صــ 233 الى صـ
ـ 240


ولهذا لما أمروا بالجهاد نكلوا عنه وقال لهم موسى:{ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين - قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون - قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين - قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 21 - 24].
وأما أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال له قائلهم يوم بدر: "والله لا نقول لك كما قال قوم موسى:
{فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24].
" لكن نقاتل أمامك ووراءك وعن يمينك وعن يسارك. والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك".

وكان الكلام قريبا من (بدر) والبحر من جهة الغرب و (برك الغماد) مكان من يماني مكة، بينه وبين مكة عدة ليال، والكفار كانوا - إذ ذاك - بمكة وأصحابه من ناحية المدينة شامي مكة، فمكة جنوبهم والبحر غربهم. تقول: لو طلبت أن ندخل بلد العدو ونذهب إلى تلك الناحية لفعلناه. قالوا: فلما نصر الله بني إسرائيل وأظهرهم، ظهرت فيهم الأحداث بعد ذلك وتجبروا، وقست قلوبهم وصاروا شبها بآل فرعون، فبعث الله المسيح - عليه السلام - باللين والصفح والعفو عن المسيء واحتمال أذاه؛ ليلين أخلاقهم ويزيل ما كانوا فيه من الجبرية والقسوة.
فأفرط هؤلاء في اللين حتى تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وتركوا الحكم بين الناس بالعدل وإقامة الحدود، وترهب عبادهم منفردين، مع أن في ملوك النصارى من الجبرية والقسوة والحكم بغير ما أنزل الله وسفك الدماء بغير حق مما يأمرهم به علماؤهم وعبادهم ومما لم يأمروهم به ما شاركوا فيه اليهود.
فبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالشريعة الكاملة العادلة، وجعل أمته عدلا خيارا لا ينحرفون إلى هذا الطرف ولا إلى هذا الطرف، بل يشتدون على أعداء الله ويلينون لأولياء الله ويستعملون العفو والصفح فيما كان لنفوسهم، ويستعملون الانتصار والعقوبة فيما كان حقا لله.
وهذا كان خلق نبيهم، كما في الصحيحين عن عائشة قالت: " "ما ضرب رسول الله بيده خادما ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله" ".
وفي الصحيح عن أنس أنه قال: " "خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لا فعلته؟ " "وكان بعض أهله إذا عتبوني على شيء يقول: " دعوه، فلو قدر شيء لكان"، هذا مع قوله - في الحديث الصحيح - "لما سرقت امرأة كانت من أشرف قريش من بني مخزوم فأمر بقطع يدها، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد؟ فكلموه فكلمه فيها، فقال: " يا أسامة! أتشفع في حد من حدود الله؟ إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة
بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
ففي شريعته - صلى الله عليه وسلم - من اللين والعفو والصفح ومكارم الأخلاق أعظم مما في الإنجيل، وفيها من الشدة والجهاد، وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين أعظم مما في التوراة، وهذا هو غاية الكمال؛ ولهذا قال بعضهم: بعث موسى بالجلال، وبعث عيسى بالجمال، وبعث محمد بالكمال.

الوجه الخامس: إن نعم الله على عباده تتضمن نفعهم والإحسان إليهم، وذلك نوعان:أحدهما: أن يدفع بذلك مضرتهم ويزيل حاجتهم وفاقتهم؛ مثل رزقهم الذي لولا هو لماتوا جوعا، ونصرهم الذي لولا هو لأهلكهم عدوهم، ومثل هداهم الذي لولا هو لضلوا ضلالا يضرهم في آخرتهم. وهذا النوع من النعمة لا بد لهم منه، وإن فقدوه حصل لهم ضرر، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما؛ ولهذا كان في سورة النحل، وهي
سورة النعم، في أولها أصول النعم، وفي أثنائها كمال النعم.

والنوع الثاني: النعم التي تحصل بها من كمال النعم وعلو الدرجة ما لا يحصل بدونها، كما أنهم في الآخرة نوعان: أبرار أصحاب يمين، ومقربون سابقون. ومن خرج عن هذين كان من أصحاب الجحيم.
وإذا كانت النعمة نوعين، فالخلق كانوا محتاجين إلى إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذين الوجهين، وحصل بإرساله هذان النوعان من النعمة، فإن الناس بدونه كانوا جهالا ضالين أميين، وأهل الكتاب منهم.
ولم يكن قد بقي من أهل الكتاب - أتباع المسيح - من هو قائم بالدين الذي يوجب السعادة عند الله في الآخرة، بل كانوا قد بدلوا وغيروا.
وأيضا فلو قدر أنهم لم يبدلوا شيئا ففي إرساله من كمال النعم وتواصلها وعلو الدرجات في السعادة ما لم يكن حاصلا بالكتاب الأول، فكان إرساله أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض من نوعي النعيم.
ومن استقرأ أحوال العالم تبين له أن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إنعامه بإرساله - صلى الله عليه وسلم - وإن الذين ردوا رسالته هم من قال الله فيهم:
{ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار} [إبراهيم: 28].
ولهذا وصف بالشكر من قبل هذه النعمة فقال - تعالى -:
{وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} [الأنعام: 53].
وقال - تعالى -:

{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران: 144].

الوجه السادس: أن يقال: قولهم: " إنا نعجب من هؤلاء القوم. . . . " إلى آخر الفصل، قول جاهل ظالم يستحق أن يقال له: بل
العجب من هذا العجب هو الواجب، بل هو الذي لا ينقضي منه العجب، وإن كل عاقل ليعجب ممن عرف دين محمد - صلى الله عليه وسلم - وقصده الحق، ثم اتبع غيره، ويعلم أنه لا يفعل ذلك إلا مفرط في الجهل والضلال أو مفرط في الظلم واتباع الهوى.
وذلك أن أهل الأرض نوعان: أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، وغير أهل الكتاب كالمشركين من العرب والهند والترك، وغيرهم كالمجوس من الفرس، وغيرهم كالصابئة من المتفلسفة، وغيرهم.
وأهل الكتاب يسلمون لنا أن من سوى أهل الكتاب انتفع بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - منفعة ظاهرة، وأنه دعا جميع طوائف
المشركين والمجوس والصابئين إلى خير مما كانوا عليه، بل كانوا أحوج الناس إلى رسالته. وأما أهل الكتاب: فاليهود مسلمون لنا حاجة النصارى إليه، وأنه دعاهم إلى خير مما كانوا عليه، والنصارى تسلم لنا حاجة اليهود إليه، وأنه دعاهم إلى خير مما كانوا عليه.
فما من طائفة من طوائف أهل الأرض إلا وهم مقرون بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - دعا سائر الطوائف - غيرهم - إلى خير مما كانوا عليه هذه شهادة من جميع أهل الأرض؛ بأنه دعا أهل الأرض إلى خير مما كانوا عليه. فإن شهادة جميع الطوائف مقبولة على غيرهم؛ إذ كانوا غير متهمين عليهم، فإنهم معادون لمحمد وأمته، معادون لسائر الطوائف، وأما شهادتهم لأنفسهم فغير مقبولة فإنهم خصومه وشهادة الخصم على خصمه غير مقبولة.
وقد اعترف الفلاسفة بأنه لم يقرع العالم ناموس بأفضل من ناموسه، واعترفوا بأنه أفضل من ناموس موسى والمسيح عليهما الصلاة والسلام، بل كان لهم من الطعن في نواميس غيره ما ليس هذا موضع ذكره.

بخلاف ناموس محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يطعن فيه أحد منهم، إلا من كان خارجا عن قانون الفلسفة التي توجب عندهم العدل والكلام بعلم. وأما من التزم منهم الكلام بعلم وعدل فهم متفقون على أن ناموس محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل ناموس طرق العالم، فكيف يعجب من مثل هذا الناموس؟!.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 24-02-2022, 06:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,725
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (72)

من صــ 249 الى صـ
ـ 256

فالمجوس والمشركون من العرب، والسودان والترك وأصناف الخزر والصقالبة، إذا اتبعوه كان خيرا لهم مما هم عليه وسائر أصناف الكفار معترفون بأن أتباعه خير من غيرهم. ومن ليس من أهل الكتاب - عامتهم - معترفون بأن دين المسلمين خير من دين اليهود والنصارى. وحينئذ فيقال: من جاء بهذا الدين الذي يفضله جميع أهل الأرض على غيره يمتنع أن يكون من أكفر الناس وأحقهم بغضب الله وعقابه.
وكل من قال: إنه رسول الله؛ فإن كان صادقا كان من خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه، وإن كان كاذبا كان من شر أهل الأرض وأحقهم بغضب الله وعقابه. ومن حصل منه هذا الخير والعلم والهدى وما فيه صلاح الدنيا والآخرة أعظم مما حصل من جميع الخلق يمتنع أن يكون من أكفر الناس المستحقين لغضب الله وعقابه، فوجب أن يكون من خير أهل الأرض، بل هو خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه.
الوجه العاشر: إن الله - سبحانه وتعالى - كانت سنته قبل إنزال
التوراة، إذا كذب نبي من الأنبياء ينتقم الله من أعدائه بعذاب من عنده، كما أهلك قوم نوح بالغرق، وقوم هود بالريح الصرصر، وقوم صالح بالصيحة، وقوم شعيب بالظلة، وقوم لوط بالحاصب، وقوم فرعون بالغرق قال تعالى:{ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} [القصص: 43].

فلما أنزل التوراة، أمر أهل الكتاب بالجهاد، فمنهم من نكل ومنهم من أطاع.
وصار المقصود بالرسالة لا يحصل إلا بالعلم والقدرة كما قال تعالى:
{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا} [الفتح: 28].
فقول هؤلاء: " إن التوراة جاءت بالعدل، والإنجيل بالفضل فلا حاجة إلى غيرهما، لو قدر أنه حق. إنما يستقيم إذا كان الكتابان لم يبدلا، بل كانا متبعين علما وعملا، وكان أهلهما مع ذلك منصورين مؤيدين على من خالفهم، فكيف وكل منهما قد بدل كثير مما فيه، وأهلهما غير منصورين على سائر الكفار، بل الكفار ظاهرون عليهم في أكثر الأرض؛ كأرض اليمن والحجاز وسائر جزيرة العرب وأرض العراق وخراسان والمغرب وأرض الهند والسند والترك، وكان بأيدي أهل الكتاب الشام ومصر وغير ذلك، ومع هذا فكانت الفرس قد غلبتهم على ذلك،، ثم إن الله أظهر النصارى عليهم، فكان ظهورهم توطئة وتمهيدا لإظهار دين الإسلام.
فإن الفرس المجوس لما غلبوا الروم ساء ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به، وفرح بذلك مشركو العرب وكانوا أكثر من المؤمنين؛ لأن أهل الكتاب أقرب إلى المؤمنين من المجوس، والمجوس أقرب إلى المشركين منهم إلى أهل الكتاب، ووعد الله المؤمنين أن تغلب الروم بعد ذلك، وأنه يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
فأضاف النصرة إلى اسم الله، ولم يقل بنصر الله إياهم. وذلك أنه حين ظهرت الروم على فارس كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد ظهروا على المشركين واليهود.
وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك يدعو ملوك النصارى بالشام ومصر إلى الإيمان به، فعرفوه وعرفوا أنه النبي المبشر به، وكان ذلك أول ظهور دينه، ثم أرسل طائفة من أصحابه إلى غيرهم، ثم خرج بالمسلمين بنفسه معهم عام تبوك إلى الشام، ثم فتح هذه البلاد أصحابه، فكان تأييد دين الله وظهوره وإذلال المشركين والمجوس وغيرهم من الكفار على يديه ويدي أمته، لا على يد اليهود والنصارى.
فلو قدر أن شرع أولئك كامل لا تبديل فيه، لكان مغلوبا مقهورا، وكان الله قد أرسل من يؤيد دينه ويظهره، فكيف وهو مبدل؟ ولو لم يبدل فدين أحمد أكمل وأفضل منه، فذاك مفضول مبدل، وهذا فاضل لم يبدل، وذلك مغلوب مقهور، وهذا مؤيد منصور. وببعض هذا تحصل الفائدة في إرساله.
فكان من أجل الفوائد إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف يقال: إنه لا فائدة في إرساله.
الوجه الحادي عشر: قولهم: " لما كان الباري عدلا جوادا أوجب أن يظهر عدله وجوده " فيقال لهم: جود الجواد غير إلزام الناس بترك حقوقهم، فإن الجواد هو الذي يحسن إلى الناس ليس هو الذي يلزم الناس بترك حقوقهم، وهؤلاء يزعمون أن شريعة الإنجيل ألزمت الناس بترك حقوقهم، وأنه لا ينصف مظلوم من ظالمه، ولهذا ليس عندهم حكم عدل يحكمون به بين الناس، بل الحكم عندهم حكمان: حكم الكنيسة، وليس فيه إنصاف المظلوم من الظالم. والثاني: حكم الملوك، وليس هو شرعا منزلا، بل هو بحسب آراء الملوك.
ولهذا تجدهم يردون الناس إلى حكم شرع الإسلام في الدماء والأموال ونحو ذلك، حتى في بعض بلادهم يكون الملك والعسكر كلهم نصارى، وفيهم طائفة قليلة مسلمون لهم حاكم،
فيردون الناس في الدماء والأموال إلى حكم شرع المسلمين، وذلك أن الدماء والأموال وإن كان يستحب للمظلوم أن يعفو فيها عن ظالمه، فالحاكم الذي يحكم بين الناس، متى حكم على المظلوم بترك حقه كان حاكما بالظلم لا بالعدل.
ولو أمرنا كل ولي مقتول أن لا يقتص من القاتل، وكل صاحب دين أن لا يطالب غريمه، بل يدعه على اختياره، وكل مشتوم ومضروب أن لا ينتصف من ظالمه، لم يكن للظالمين زاجر يزجرهم، وظلم الأقوياء الضعفاء، وفسدت الأرض. قال تعالى:
{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة: 251].
فلا بد من شرع يتضمن الحكم بالعدل ولا بد - مع ذلك - من ندب الناس إلى العفو والأخذ بالفضل.
وهذه شريعة الإسلام كما تقدم ما ذكرنا من الآيات مثل قوله:
{والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} [المائدة: 45].
وقوله:
{وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم} [البقرة: 280].:.
وقوله:
{وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40].
وقوله:{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل: 126].
وقوله:
{الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} [آل عمران: 134].
وقوله:
{ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} [النساء: 92] ..

وقوله:
{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 43].
وقال أنس: " "ما رفع للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر فيه القصاص، إلا أمر فيه بالعفو" " فكان يأمر بالعفو، ولا يلزم الناس به؛ ولهذا لما عتقت (بريرة)، وكان لها أن تفسخ النكاح، وطلب زوجها أن لا تفارقه، شفع إليها أن لا تفارقه، فقالت: أتأمرني؟ قال: لا إنما أنا شافع فلم يوجب عليها قبول شفاعته - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الثاني عشر: قولهم: " ولما كان الكمال الذي هو الفضل
لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال " فيقال لهم: العدل والفضل لا يشرعه إلا الله، فشريعة التوراة لم يشرعها إلا الله، وشريعة الإنجيل لم يشرعها إلا الله - عز وجل -.
يبين ذلك أن الله كلم موسى من الشجرة تكليما، وهم غاية ما قرروا به إلهية المسيح أن زعموا أن الله كلم الناس من ناسوت المسيح، كما كلم موسى من الشجرة، ومعلوم عند كل عاقل، لو كان هذا حقا، أن تكليمه لموسى من الشجرة أعظم تكليم كلمه الله لعباده فكيف يقال: إن شريعة العدل لم يشرعها الله عز وجل؟.
ثم يقال لهم: بل شريعة العدل أحق بأن تضاف إلى الله من شريعة الفضل، فإن الأمر بالإحسان والعفو يحسنه كل أحد، وأما معرفة العدل والحكم بين الناس به، فلا يقدر عليه إلا آحاد الناس؛ ولهذا يوجد الذي يصلح بين الناس بالإحسان خلق كثير، وأما الذي يحسن أن يفصل بينهم بالعدل فناس قليل، فكيف يقال: إن الذي يأمر بشرع الفضل هو الله، دون الذي يأمر بشرع العدل؟.
والله - تعالى - أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ ليقوم الناس بالقسط كما قال تعالى:
{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} [الحديد: 25].
وأمر المسيح - عليه السلام - للمظلوم بالعفو عن الظالم: ليس فيه ما يدل على أنه من الواجب الذي من تركه استحق الذم والعقاب، بل هو من المرغب فيه الذي من فعله استحق المدح والثواب. وموسى - عليه السلام - أوجب العدل الذي من تركه استحق الذم والعقاب. وحينئذ فلا منافاة بين إيجاب العدل، وبين استحباب الفضل.
لكن إيجاب العدل يقترن به الترهيب والتخويف في تركه، واستحباب الفضل يقترن به الترغيب والتشويق إلى فعله، فذاك فيه رهبة مع ما فيه من الرغبة. وهذا فيه رغبة بلا رهبة؛ ولهذا قال المسيح - عليه السلام -:.
{وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد - إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 117 - 118].
ولهذا قيل: إن المسيح - عليه السلام - بعث لتكميل التوراة، فإن النوافل تكون بعد الفرائض كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

"يقول الله - تعالى -: " من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه".



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 24-02-2022, 06:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,725
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (73)

من صــ 257 الى صـ
ـ 264

وإلا فلو قيل: إن المسيح - عليه السلام - أوجب على المظلوم العفو عن الظالم؛ بمعنى أنه يستحق الوعيد والذم والعقاب إن
لم يعف عنه لزم من هذا أن يكون كل من انتصف من الظالم، ظالما مستحقا للذم والعقاب، وهذا ظلم ثان للمظلوم الذي انتصف؛ فإن الظالم ظلمه أولا فلما انتصف منه ظلم ظلما ثانيا، فهو ظلم العادل انتصف من ظالمه.
وما أحسن كلام الله حيث يقول:.
{فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون - والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون - والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون - والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون - وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين - ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل - إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم - ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 36 - 43].
وقال:
{ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور} [الحج: 60].
فهذا من أحسن الكلام وأعدله وأفضله حيث شرع العدل فقال:
{وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40].

ثم ندب إلى الفضل، فقال:
{فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين} [الشورى: 40].
ولما ندب إلى العفو، ذكر أنه لا لوم على المنتصف، لئلا يظن أن العفو فرض فقال:
{ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} [الشورى: 41].
ثم بين أن السبيل إنما يكون على الظالمين فقال:
{إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم} [الشورى: 42].
ثم لما رفع عنهم السبيل ندبهم مع ذلك إلى الصبر والعفو فقال:.
{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 43].
فهذا أحسن شرع وأحكمه يرغب في الصبر والغفر والعفو والإصلاح بغاية الترغيب، ويذكر ما فيه من الفضائل والمحاسن وحميد
العاقبة، ويرفع عن المنتصف ممن ظلمه الملام والعذل، ويبين أنه لا حرج عليه ولا سبيل إذا انتصر بعدما ظلم.
فهل يمكن أن تأتي شريعة بأن تجعل على المنتصف سبيلا مع عدله وهي لا تجعل على الظالم سبيلا مع ظلمه؟.
فعلم أن ما أمر به المسيح من العفو لم يكن لأن تاركه مستحق للذم والعقاب، بل لأنه محروم مما يحصل للعافي المحسن من الأجر والثواب، وهذا حق لا يناقض شرع التوراة، فعلم أن شرع الإنجيل لم يناقض شرع التوراة؛ إذ كان فرعا عليها ومكملا لها، وحينئذ فزعمهم أن شرع الإنجيل شرعه الله دون شرع التوراة كلام من هو من أجهل الناس وأضلهم ولهذا كان فرعا على قولهم بالاتحاد، وأن المسيح هو الله.
فذاك الضلال مما أوجب هذا القول المحال.
[فصل: بطلان استدلالهم بما يدعونه أنه من كلام الأنبياء السابقين]
فصل

وجميع ما احتجوا به من التوراة والإنجيل وغيرهما من كلام الأنبياء - عليهم السلام - إنما يكون الحجة فيه علمية برهانية، إذا أقاموا الدليل على نبوة من احتجوا بكلامه، بأن بينوا إمكان النبوة ثم بينوا وقوعها في الشخص المعين بالطرق التي يستدل بها على نبوة النبي.
وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، بل احتجوا بذلك بناء على أنها مقدمة مسلمة يسلمها المسلمون لهم. وهذا لا ينفعهم لوجوه:
أحدها: أن فيمن ذكروه من لم يثبت عند المسلمين أنه نبي كميخا وعاموص.
الثاني: أن من ثبت عند المسلمين نبوته كموسى وعيسى وداود وسليمان لم يثبت عندهم أنهم قالوا جميع ما ذكروه من الكلام وأن ترجمته بالعربية هو ما ذكروه، وأن مرادهم به ما فسروه.
الثالث: أن جمهور المسلمين لا يعلمون نبوة أحد من الأنبياء قبل محمد إلا بإخبار محمد - صلى الله عليه وسلم - بنبوتهم فلا يمكنهم التصديق بنبوة أحد من هؤلاء إلا بعد التصديق بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فإذا طلب هؤلاء من المسلمين أن يسلموا نبوة هؤلاء، دون نبوة محمد لم يمكن المسلمين أن يسلموا ذلك لهم، ولا يشرع ذلك للمسلمين لا عقلا ولا نقلا، وحينئذ إذا لم يقيموا الأدلة على نبوة أولئك؛ لم يكونوا قد ذكروا لا حجة برهانية ولا حجة جدلية.
الرابع: أن المسلمين لم يصدقوا بنبوة موسى وعيسى، إلا مع إخبارهما بنبوة محمد، فإن سلموا أنهما أخبرا بنبوة محمد ثبتت نبوته ونبوتهما، وإن جحدوا ذلك جحد المسلمون نبوة من يدعون أنه موسى.
وعيسى اللذين لم يخبرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
الخامس: أن المسلمين وكل عاقل، يمنع - بعد النظر التام - أن يقر بنبوة موسى وعيسى دون محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ كانت نبوته أكمل، وطرق معرفتها أتم وأكثر وما من دليل يستدل به على نبوة غيره إلا وهو على نبوته أدل، فإن جحد نبوته يستلزم جحد نبوة غيره بطريق الأولى. ولكن من قال ذلك هو متناقض كما يتناقض سائر أهل الباطل؛ ولهذا قال - تعالى - في الكفار:
{إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك} [الذاريات: 8].

(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (113)

ذكر محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
رضي الله عنهما أنه قال لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى والإنجيل جميعا، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله ذلك في قولهما {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب} [البقرة: 113].
قال: كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر: أي تكفر اليهود بعيسى، وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام، وفي الإنجيل بإجابة عيسى بتصديق موسى، وبما جاء به من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يدي صاحبه.قال قتادة {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} [البقرة: 113] قال: بلى قد كان أوائل النصارى على شيء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا.
{وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} [البقرة: 113] قال: بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا.
فاليهود كذبوا بدين النصارى، وقالوا ليسوا على شيء، والنصارى كذبوا بجميع ما تميز به اليهود عنهم، حتى في شرائع التوراة التي لم ينسخها المسيح، بل أمرهم بالعمل بها، وكذبوا بكثير من الذين تميزوا به عنهم، حتى كذبوا بما جاء به عيسى عليه السلام من الحق.
لكن النصارى - وإن بالغوا في تكفير اليهود ومعاداتهم على الحد الواجب عما ابتدعوه من الغلو والضلال - فلا ريب أن اليهود لما كذبوا المسيح صاروا كفارا، كما قال تعالى للمسيح: {إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا} [آل عمران: 55].

وقال تعالى: {قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14].







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 24-02-2022, 06:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,725
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (74)

من صــ 265 الى صـ
ـ 272

وكفر النصارى بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، وبمخالفة المسلمين أعظم من كفر اليهود بمجرد تكذيب المسيح، فإن المسيح لم ينسخ من شرع التوراة إلا قليلا، وسائر شرعه إحالة على التوراة، ولكن عامة دين النصارى أحدثوه بعد المسيح، فلم يكن في مجرد تكذيب اليهود له من مخالفة شرع الله الذي جاء بكتاب مستقل من عند الله لم يحل شيئا من شرعه على شرع غيره.
قال الله تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 51].
والقرآن أصل كالتوراة وإن كان أعظم منها ; ولهذا علماء النصارى يقرنون بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال النجاشي ملك النصارى لما سمع القرآن: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.

وكذلك «قال ورقة بن نوفل، وهو من أحبار نصارى العرب، لما سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إنه يأتيك الناموس الذي يأتي موسى، يا ليتني فيها جذعا، حين يخرجك قومك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا».
ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن، في مثل قوله {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا} [القصص: 48] ويعني التوراة والقرآن، وفي القراءة الأخرى (قالوا ساحران) أي محمد وموسى.
{وقالوا إنا بكل كافرون - قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 48 - 49].
فلم ينزل كتاب من عند الله أهدى من التوراة والقرآن.
ثم قال تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [القصص: 50].
(الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون (121)
(فصل)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وكذلك لفظ " التلاوة " فإنها إذا أطلقت في مثل قوله: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} تناولت العمل به كما فسره بذلك الصحابة والتابعون مثل ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم قالوا: يتلونه حق تلاوته يتبعونه حق اتباعه فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه. وقيل: هو من التلاوة بمعنى الاتباع كقوله: {والقمر إذا تلاها} وهذا يدخل فيه من لم يقرأه وقيل: بل من تمام قراءته أن يفهم معناه ويعمل به كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. وقوله: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} قد فسر بالقرآن وفسر بالتوراة. وروى محمد بن نصر بإسناده الثابت عن ابن عباس: {يتلونه حق تلاوته} قال يتبعونه حق اتباعه. وروي أيضا عن ابن عباس: يتلونه حق تلاوته قال: يحلون حلاله. ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه وعن قتادة: يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به قال: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا بكتاب الله وصدقوا به أحلوا حلاله وحرموا حرامه وعملوا بما فيه ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول إن حق تلاوته: أن يحل حلاله ويحرم حرامه وأن نقرأه كما أنزل الله ولا نحرفه عن مواضعه وعن الحسن: يتلونه حق تلاوته قال: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه وعن مجاهد: يتبعونه حق اتباعه وفي رواية: يعملون به حق عمله.
(وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124)
[فصل البرهان الحادي عشر " إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي " والجواب عليه]
فصل قال الرافضي: " البرهان الحادي عشر: قوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي}
[سورة البقرة: 124]. روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي عن ابن مسعود، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انتهت الدعوة إلي وإلى علي، لم يسجد أحدنا لصنم قط، فاتخذني نبيا واتخذ عليا وصيا». وهذا نص في الباب ". والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا كما تقدم. الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع بإجماع أهل العلم. وانظر: زاد المسير 1 139 - 141، الدر المنثور للسيوطي 1 118. الثالث: أن قوله: " انتهت الدعوة إلينا " كلام لا يجوز أن ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه إن أريد: أنها لم تصب من قبلنا كان ممتنعا ; لأن الأنبياء من ذرية إبراهيم دخلوا في الدعوة. قال تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} [سورة الأنبياء: 72 - 73] وقال تعالى: {وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل} [سورة الإسراء: 2]. وقال عن بني إسرائيل: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [سورة السجدة: 24]
وقال: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض} [سورة القصص: 5، 6]. فهذه عدة نصوص من القرآن في جعل الله [أئمة] من ذرية إبراهيم قبل أمتنا. وإن أريد: انتهت الدعوة إلينا: أنه لا إمام بعدنا، لزم أن لا يكون الحسن والحسين ولا غيرهما أئمة، وهو باطل بالإجماع. ثم التعليل بكونه لم يسجد لصنم [هو] هو علة موجودة في سائر المسلمين بعدهم. الوجه الرابع: أن كون الشخص لم يسجد لصنم فضيلة يشاركه فيها جميع من ولد على الإسلام، مع أن السابقين الأولين أفضل منه، فكيف يجعل المفضول مستحقا لهذه المرتبة دون الفاضل؟ الخامس: أنه لو قيل أنه لم يسجد لصنم لأنه أسلم قبل البلوغ، فلم يسجد بعد إسلامه، فهكذا كل مسلم، والصبي غير مكلف. وإن قيل: إنه لم يسجد قبل إسلامه فهذا النفي غير معلوم، ولا قائله ممن يوثق به. ويقال: ليس كل من لم يكفر أو من لم يأت بكبيرة أفضل ممن تاب عنها مطلقا بل قد يكون التائب من الكفر والفسوق أفضل ممن لم يكفر ولم يفسق، كما دل على ذلك الكتاب [العزيز] فإن الله فضل الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وأولئك كلهم أسلموا بعد [الكفر]. وهؤلاء فيهم من ولد على الإسلام. وفضل
السابقين الأولين على التابعين لهم بإحسان، وأولئك آمنوا بعد الكفر، و [أكثر] التابعين ولدوا على الإسلام. وقد ذكر الله في القرآن أن لوطا آمن لإبراهيم، وبعثه الله نبيا. وقال شعيب: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} [سورة الأعراف: 89]. وقال تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا} [سورة إبراهيم: 13]. وقد أخبر الله عن إخوة يوسف بما أخبر، ثم نبأهم بعد توبتهم، وهم الأسباط الذين أمرنا أن نؤمن بما أوتوا في سورة البقرة وآل عمران والنساء. وإذا كان في هؤلاء من صار نبيا، فمعلوم أن الأنبياء أفضل من غيرهم. وهذا مما تنازع فيه الرافضة وغيرهم، ويقولون: من صدر منه ذنب لا يصير نبيا. والنزاع فيمن أسلم أعظم، لكن الاعتبار بما دل عليه الكتاب والسنة. والذين منعوا من هذا عمدتهم أن التائب من الذنب يكون ناقصا مذموما لا يستحق النبوة، ولو صار من أعظم الناس طاعة. وهذا هو الأصل الذي نوزعوا فيه، والكتاب والسنة و [الإجماع] يدل على بطلان قولهم فيه.
(قال لا ينال عهدي الظالمين (124)
[فصل قال الرافضي الخامس قوله تعالى " لا ينال عهدي الظالمين " أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم والرد عليه]
فصل

قال الرافضي: " الخامس: قوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} [سورة البقرة: 124] أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم. والكافر ظالم ; لقوله: {والكافرون هم الظالمون} [سورة البقرة: 254]. ولا شك في أن الثلاثة كانوا كفارا يعبدون الأصنام، إلى أن ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم ".
والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: الكفر الذي يعقبه الإيمان الصحيح لم يبق على صاحبه منه ذم. هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، بل من دين الرسل كلهم.
كما قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [سورة الأنفال: 38]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث
الصحيح: " «إن الإسلام يجب ما قبله» "، وفي لفظ: " «يهدم من كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله» ".
الثاني: أنه ليس كل من ولد على الإسلام بأفضل ممن أسلم بنفسه، بل قد ثبت بالنصوص المستفيضة أن خير القرون القرن الأول، وعامتهم أسلموا بأنفسهم بعد الكفر، وهم أفضل من القرن الثاني الذين ولدوا على الإسلام.
ولهذا قال أكثر العلماء: إنه يجوز على الله أن يبعث نبيا ممن آمن بالأنبياء قبل محمد - صلى الله عليه وسلم ; فإنه إذا جاز أن يبعث نبيا من ذرية إبراهيم وموسى، فمن الذين آمنوا بهما أولى وأحرى.
كما قال تعالى: {فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي} [سورة العنكبوت: 26].
وقال تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين - ولنسكننكم الأرض من بعدهم} [سورة إبراهيم: 13 - 14].
وقال تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين - قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا} الآية [سورة الأعراف: 88 - 89].
وطرد هذا: من تاب من الذنب وغفر له لم يقدح في علو درجته كائنا من كان. والرافضة لهم في هذا الباب قول فارقوا به الكتاب والسنة وإجماع السلف ودلائل العقول، والتزموا لأجل ذلك ما يعلم بطلانه بالضرورة، كدعواهم إيمان آزر، وأبوي النبي وأجداده وعمه أبي طالب، وغير ذلك.
الثالث: أن يقال: قبل أن يبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أحد مؤمنا من قريش: لا رجل ولا صبي ولا امرأة، ولا الثلاثة، ولا علي، وإذا قيل عن الرجال: إنهم كانوا يعبدون الأصنام، فالصبيان كذلك: علي وغيره.
وإن قيل: كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ.
قيل: ولا إيمان الصبي مثل إيمان البالغ ; فأولئك يثبت لهم حكم الإيمان والكفر وهم بالغون، وعلي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ.
والصبي المولود بين أبوين كافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا
باتفاق المسلمين. وإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم الإسلام قبل البلوغ؟ على قولين للعلماء، بخلاف البالغ فإنه يصير مسلما باتفاق المسلمين.
فكان إسلام الثلاثة مخرجا لهم من الكفر باتفاق المسلمين. وأما إسلام علي، فهل يكون مخرجا له من الكفر؟ على قولين مشهورين. ومذهب الشافعي أن إسلام الصبي غير مخرج له من الكفر.
وأما كون صبي من الصبيان قبل النبوة سجد لصنم أو لم يسجد، فهو لم يعرف ; فلا يمكن الجزم بأن عليا أو الزبير ونحوهما لم يسجدوا لصنم، كما أنه ليس معنا نقل بثبوت ذلك، بل ولا معنا نقل معين عن أحد من الثلاثة أنه سجد لصنم. بل هذا يقال لأن من عادة قريش قبل الإسلام أن يسجدوا للأصنام ; وحينئذ فهذا ممكن في الصبيان، كما هو العادة في مثل ذلك.
الرابع: أن أسماء الذم: كالكفر، والظلم، والفسق التي في القرآن - لا تتناول إلا من كان مقيما على ذلك، وأما من (* صار مؤمنا بعد الكفر، وعادلا بعد الظلم، وبرا بعد الفجور - فهذا تتناوله أسماء المدح *) دون أسماء الذم باتفاق المسلمين.
فقوله عز وجل: {لا ينال عهدي الظالمين} [سورة البقرة: 124]، أي:

ينال العادل دون الظالم، فإذا قدر أن شخصا كان ظالما ثم تاب وصار عادلا تناوله العهد كما يتناوله سائر آيات المدح والثناء.
لقوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} [سورة المطففين: 22]، وقوله: {إن المتقين في جنات ونعيم} [سورة الطور: 17].
الخامس: أن من قال: إن المسلم بعد إيمانه كافر، فهو كافر بإجماع المسلمين. فكيف يقال عن أفضل الخلق إيمانا: إنهم كفار ; لأجل ما تقدم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 24-02-2022, 06:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,725
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (75)

من صــ 273 الى صـ
ـ 280

السادس: أنه قال لموسى: {إني لا يخاف لدي المرسلون - إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم} [سورة النمل: 10 - 11.
السابع: أنه قال: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا - ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} الآية [سورة الأحزاب: 72 - 73].
فقد أخبرنا الله عن جنس الإنسان أنه ظلوم جهول، واستثنى من العذاب من تاب. ونصوص الكتاب صريحة في أن كل بني آدم لا بد أن يتوب. وهذه المسألة متعلقة بمسألة العصمة: هل الأنبياء معصومون من الذنوب أم لا فيحتاجون إلى توبة؟ والكلام فيها مبسوط قد تقدم.
(وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126)
سئل شيخ الإسلام مفتي الأنام أوحد عصره فريد دهره: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية - رحمه الله ورضي عنه -:
عن الرجل: إذا قطع الطريق وسرق أو أكل الحرام ونحو ذلك هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله، ليس هذا هو الرزق الذي أباحه الله له ولا يحب ذلك ولا يرضاه. ولا أمره أن ينفق منه. كقوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} وكقوله تعالى: {وأنفقوا من ما رزقناكم} ونحو ذلك لم يدخل فيه الحرام بل من أنفق من الحرام فإن الله تعالى يذمه ويستحق بذلك العقاب في الدنيا والآخرة بحسب دينه. وقد قال الله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وهذا أكل المال بالباطل.
ولكن هذا الرزق الذي سبق به علم الله وقدره كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد} فكما أن الله كتب ما يعمله من خير وشر وهو يثيبه على الخير ويعاقبه على الشر فكذلك كتب ما يرزقه من حلال وحرام مع أنه يعاقبه على الرزق الحرام. ولهذا كل ما في الوجود واقع بمشيئة الله وقدره كما تقع سائر الأعمال لكن لا عذر لأحد بالقدر بل القدر يؤمن به وليس لأحد أن يحتج على الله بالقدر بل لله الحجة البالغة ومن احتج بالقدر على ركوب المعاصي فحجته داحضة ومن اعتذر به فعذره غير مقبول كالذين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} والذين قالوا: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} كما قال تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين} {أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين}.

وأما الرزق الذي ضمنه الله لعباده فهو قد ضمن لمن يتقيه أن يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وأما من ليس من المتقين فضمن له ما يناسبه بأن يمنحه ما يعيش به في الدنيا ثم يعاقبه في الآخرة كما قال عن الخليل: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} - قال الله -: {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير}.

والله إنما أباح الرزق لمن يستعين به على طاعته لم يبحه لمن يستعين به على معصيته؛ بل هؤلاء وإن أكلوا ما ضمنه لهم من الرزق فإنه يعاقبهم كما قال: {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} وقال تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم} فإنما أباح الأنعام لمن يحرم عليه الصيد في الإحرام.
وقال تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} فكما أن كل حيوان يأكل ما قدر له من الرزق فإنه يعاقب على أخذ ما لم يبح له سواء كان محرم الجنس أو كان مستعينا به على معصية الله ولهذا كانت أموال الكفار غير مغصوبة بل مباحة للمؤمنين وتسمى فيئا إذا عادت إلى المؤمنين؛ لأن الأموال إنما يستحقها من يطيع الله لا من يعصيه بها فالمؤمنون يأخذونها بحكم الاستحقاق والكفار يعتدون في إنفاقها كما أنهم يعتدون في أعمالهم فإذا عادت إلى المؤمنين فقد فاءت إليهم كما يفيء المال إلى مستحقه.
(قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (133)
[فصل: رد استدلال النصارى بما ورد في التوراة من كلام الله لموسى وما يفيده ذلك من تعدد ألوهيته سبحانه]

قالوا: نذكر خامسا، وفي السفر الثاني من التوراة: وكلم الله موسى من العليقة قائلا: (أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب)، ولم يقل أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، بل كرر اسم الإله ثلاث دفوع قائلا: أنا إله وإله؛ لتحقق مسألة الثلاث أقانيم في لاهوته.
والجواب: أن الاحتجاج بهذا على الأقانيم الثلاثة من أفسد الأشياء، وذلك يظهر من وجوه:
أحدها: أنه لو أريد بلفظ الإله أقنوم الوجود، وبلفظ الإله مرة ثانية أقنوم الكلمة، وبالثالث أقنوم الحياة، لكان الأقنوم الواحد إله إبراهيم، والأقنوم الثاني إله إسحاق، والأقنوم الثالث إله يعقوب، فيكون كل من الأقانيم الثلاثة إله أحد الأنبياء الثلاثة، والأقنومين ليسا بإلهين له.
وهذا كفر عندهم، وعند جميع أهل الملل، وأيضا فيلزم من ذلك أن يكون الآلهة ثلاثة، وهم يقولون: إله واحد، ثم هم إذا قالوا: كل من الأقانيم إله واحد، فيجعلون الجميع إله كل نبي، فإذا احتجوا بهذا النص على قولهم لزم أن يكون إله كل نبي، ليس هو إله النبي الآخر، مع كون الآلهة ثلاثة.
الوجه الثاني: أنه يقال: إن الله رب العالمين، ورب السماوات ورب الأرض ورب العرش ورب كل شيء، أفيلزم أن يكون رب السماوات ليس هو رب الأرض، رب كل شيء.
وكذلك يقال: إله موسى وإله محمد، مع قولنا: إله إبراهيم وإسحاق، ويعقوب، (أفتكون الآلهة خمسة، وقد قال يعقوب لبنيه: (ما تعبدون من بعدي)، قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق.
أفتراه أثبت إلهين: أحدهما إلهه، والآخر إله الثلاثة؟!
الوجه الثالث: أن العطف يكون تارة لتغاير الذوات، وتارة لتغاير الصفات كقوله تعالى:
{سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] (1) {الذي خلق فسوى} [الأعلى: 2] (2) {والذي قدر فهدى} [الأعلى: 3] (3) {والذي أخرج المرعى} [الأعلى: 4] (4) {فجعله غثاء أحوى} [الأعلى: 5].
والذي خلق هو الذي قدر وأخرج، وكذلك قوله:
{إلهك وإله آبائك} [البقرة: 133].
وهو هو سبحانه، وقال إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلامه لقومه:
{قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون} [الشعراء: 75] (75) {أنتم وآباؤكم الأقدمون} [الشعراء: 76] (76) {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء: 77] (77) {الذي خلقني فهو يهدين} [الشعراء: 78] (78) {والذي هو يطعمني ويسقين} [الشعراء: 79] (79) {وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 80] (80) {والذي يميتني ثم يحيين} [الشعراء: 81] (81) {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} [الشعراء: 82]
والذي خلقه هو الذي يطعمه ويسقيه، وهو الذي يميته ثم يحييه.
فقوله في التوراة: إله إبراهيم وإله إسحاق، وإله يعقوب، هو من هذا الباب، ولا يختص هذا بثلاثة، بل يقال في الاثنين والأربعة والخمسة بحسب ما يقصد المتكلم ذكره من الصفات، وفي هذا من الفائدة ما ليس في قوله: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فإنه لو قيل ذلك لم يفد إلا أنه معبود الثلاثة، لا يدل على أنهم عبدوه مستقلين، كل منهم عبده عبادة اختص بها، لم تكن هي نفس عبادة الأول.

وأيضا فإنه إذا قيل: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب دل على عبادة كل منهم باللزوم، وإذا قال: وإله، دل على أنه معبود كل من الثلاثة، فأعاده باسم الإله الذي يدل على العبادة دلالة باللفظ المتضمن لها، وفي ذلك من ظهور المعنى للسامع وتفرعه بصورة له من غير فكر - ما ليس في دلالة الملزوم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 24-02-2022, 06:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,725
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (76)

من صــ 281 الى صـ
ـ 288

[فصل: رد ما جاء في التوراة من قوله نقدسك ونعظمك ونثلث لك تقديسا مثلثا كالمكتوب على لسان نبيك أشعيا]
وأما قولهم: (نقدسك، ونعظمك، ونثلث لك تقديسا مثلثا، كالمكتوب على لسان نبيك أشعيا).
وقولهم: قدوس، قدوس، قدوس، رب القوات، ورب السماوات والأرض)، فيقال: هذا الكلام صريح في أن المثلث هو نفس التقديس لا نفس الإله المقدس.
وكذلك قولهم: (قدوس، قدوس، قدوس). قدسوه ثلاث مرات، فإنه قال: (نقدسك، ونثلث لك تقديسا مثلثا). فنصب التثليث على المصدر الذي ينصب بفعل التقديس، فقال: نقدسك تقديسا مثلثا.
(فنصب التقديس على المصدر)، كما تقول: سبحتك تسبيحا مثلثا، أي سبحتك ثلاث مرات، وقال: نثلث لك أي نثلث تقديسا لك، لم يقل: أنت ثلاثة، بل جعلوا أنفسهم هم الذين يقدسون التقديس المثلث، وهم يثلثون له، وهذا صريح في أنهم يسبحونه ثلاث مرات، ولا يسبحون ثلاثة آلهة، ولا ثلاثة أقانيم.
وهذا كما في السنن عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «(إذا قال العبد في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاثا، فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاثا، فقد تم سجوده وذلك أدناه»)، والتسبيح هو تقديس الرب، وأدناه أن يقدسه ثلاث مرات، فمعناه: قدسوه ثلاث مرات، لا تقتصروا على مرة واحدة.
ولهذا يقولون مجاوبين: قدوس، قدوس، قدوس، فيقدسونه ثلاث مرات، فعلم أن المراد تثليث التقديس حيث ما دل عليه لفظه، وما يفعلونه ممتثلين لهذا الأمر، وما يفعل في نظير ذلك من تثليث تقديسه، وأن يقدس ثلاث مرات لا أن يكون المقدس ثلاث أقانيم، فإن هذا أمر لم ينطق نبي من الأنبياء به لا لفظا ولا معنى، بل جميع الأنبياء عليهم السلام أثبتوا إلها واحدا له الأسماء الحسنى.
وأسماؤه متعددة تدل على صفاته المتعددة، ولا يختص ذلك بثلاثة أسماء، ولا بثلاث صفات، (وليست الصفات أقنوما هو ذات وصفة، بل ليس إلا ذات واحدة لها صفات) متعددة، فالتعدد في الصفات لا في الذات التي يسمونها الجوهر، ولا في الذات والصفة التي يسمونها الأقنوم.
(قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (139)
[فصل: الإسلام هو دين الأنبياء جميعا]

وقولهم: إنه لم يقل: كونوا له مسلمين، ولكن ونحن، أي عنه وعن العرب التابعين له، ولما أتى به وجاء في كتابه.
فيقال لهم: هذا ونظائره كلام من لم يفهم القرآن، بل ولا يفهم كلام سائر الناس، فإنه إذا عرف من صاحب كتاب يقول إنه منزل من الله، أو يقول إنه صنفه هو أنه يدعو قوما بالأقوال الصريحة الكثيرة، والأعمال البينة الظاهرة، كان سكوته عن دعائهم في بعض الألفاظ لا ينافي دعاءهم له.
لكن إن كان حكيما في كلامه كان للسكوت عن دعائهم في بعض المواضع حكمة تناسب ذلك، وهذا كقوله - تعالى -:
{قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون} [البقرة: 139].
أفتراه لما أمر أمته أن يقولوا {ونحن له مخلصون} [البقرة: 139] لم يكن أهل الكتاب مأمورين بالإخلاص لله، وقد ذكر أمر أهل الكتاب بالإخلاص في غير موضع كقوله - تعالى -: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: 4] (4) {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [البينة: 5].
وكذلك دعاهم إلى الإسلام وتوعدهم على التولي عنه في مثل:
{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} [آل عمران: 18] (18) {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب} [آل عمران: 19] (19) {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} [آل عمران: 20]، وقال - تعالى -:
{ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} [البقرة: 130] (130) {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] (131) {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132] (132) {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} [البقرة: 133].
فقد بين - سبحانه - أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه أي سفه نفسا، أي كانت نفسه سفيهة جاهلة، هذا أصح القولين في ذلك، وهو مذهب الكوفيين من النحاة، يجوزون أن يكون المنصوب على التمييز معرفة، كما يكون نكرة، ثم أخبر عنه أنه:
{إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131].
وذكر أن إبراهيم وصى بها بنيه، ويعقوب وصى بها بنيه أيضا، كلاهما قال لبنيه:
{يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132].
ثم ذكر أن يعقوب عند موته:
{إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} [البقرة: 133].
فهؤلاء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب كلهم على الإسلام وهم يأمرون بالإسلام ثم قال بعد ذلك:
{وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} [البقرة: 135].
ثم قال: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136].
ثم قال:
{فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 137].
فقد أخبر أنهم إن تولوا عن الإيمان بمثل ما آمنتم به المتضمن قولكم: ونحن له مسلمون فإنما هم في شقاق، أي: مشاقون لله ورسوله كما قال - تعالى -:
{هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار} [الحشر: 2].
إلى قوله:
{ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب} [الحشر: 4].
وقوله - تعالى -: {ونحن له مسلمون} [البقرة: 133] في العنكبوت فهو مثل قوله: {ونحن له مسلمون} [البقرة: 133] في البقرة مع دعائهم إلى الإسلام، وكذلك في سورة آل عمران في قوله:
{قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].

فقد دعاهم أولا إلى الإسلام، وهو عبادة الله وحده، لا شريك له، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، كما قال - تعالى -:
{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 24-02-2022, 07:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,725
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (77)

من صــ 289 الى صـ
ـ 296


ثم قال - تعالى -:{فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].
وهذه الآية هي التي كتب بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر ملك الروم لما دعاه إلى الإسلام.
وقال في كتابه.

«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و:
{ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64]».
فدعاه النبي إلى الإسلام، في كتابه الذي أرسله إليه وقال أيضا في آل عمران:
{ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} [آل عمران: 79] (79) {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} [آل عمران: 80].
فذكر التوحيد في هذه الآية، وكفر من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا، فكيف بمن اتخذ الأحبار والرهبان أربابا ثم ذكر الإيمان بخاتم الرسل، فقال: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} [آل عمران: 81] (81) {فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} [آل عمران: 82] (82) {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون} [آل عمران: 83] (83) {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [آل عمران: 84] (84) {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 85].

[فصل: أمر المؤمنين بقول الحق لتقوم به الحجة على المخالف]
وأما قوله - تعالى -:

{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} [العنكبوت: 46].
فهو أمر للمؤمنين أن يقولوا الحق الذي أوجبه الله عليهم، وعلى جميع الخلق ليرضوا به الله، وتقوم به الحجة على المخالفين، فإن هذا من الجدال بالتي هي أحسن، وهو أن تقول كلاما حقا يلزمك، ويلزم المنازع لك أن يقوله، فإن وافقك وإلا ظهر عناده وظلمه.
كما قال - تعالى - في الآية الأخرى:

{قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون} [البقرة: 139].

فإنا مشتركون في أنه ربنا كلنا وأن عمل كل عامل له لا لغيره،وامتزنا نحن بأنا مخلصون له، وأنتم لستم مخلصين له، فأوجب هذا أن الحق معنا دونكم، وأن أعمالنا صالحة مقبولة، وأعمالكم مردودة.
ويشبه ذلك قوله - تعالى -:
{قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].
فأمره لهم أن يقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يتضمن إقامة الحجة عليهم كما كان المسيح - عليه السلام - يقول.
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ... (143)
والوسط العدل الخيار وقد جعلهم الله شهداء على الناس وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول.
وقد ثبت في الصحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال: وجبت وجبت ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال: وجبت وجبت قالوا: يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت؟ قال: هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت: وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت: وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض}. فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء فقد أمر به وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض بل زكاهم الله في شهادتهم كما زكى الأنبياء فيما يبلغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا بحق وقال تعالى: {واتبع سبيل من أناب إلي} والأمة منيبة إلى الله فيجب اتباع سبيلها وقال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة فدل على أن متابعهم عامل بما يرضى الله والله لا يرضى إلا بالحق لا بالباطل.
[فصل: توسط المسلمين واعتدالهم في التوحيد والعبادات والمعاملات]
وإذا كان جنس أهل الكتاب أكمل - في العلوم النافعة والأعمال الصالحة - ممن لا كتاب له، فمعلوم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل من طائفتي أهل الكتاب: اليهود والنصارى وأعدل، وقد جمع لهم محاسن ما في التوراة وما في الإنجيل. فليس عند أهل الكتاب فضيلة علمية وعملية إلا وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل منهم فيها.
فأما العلوم: فهم أحذق - في جميع العلوم - من جميع الأمم حتى العلوم التي ليست بنبوية، ولا أخروية، كعلم الطب - مثلا - والحساب، ونحو ذلك، هم أحذق فيها من الأمتين، ومصنفاتهم فيها أكمل من مصنفات الأمتين، بل أحسن علما وبيانا لها من الأولين الذين كانت هي غاية علمهم، وقد يكون الحاذق فيها من هو عند المسلمين منبوذ بنفاق وإلحاد، ولا قدر له عندهم، لكن حصل له بما يعلمه من المسلمين من العقل، والبيان ما أعانه على الحذق في تلك العلوم، فصار حثالة المسلمين أحسن معرفة وبيانا لهذه العلوم من أولئك المتقدمين. وأما العلوم الإلهية والمعارف الربانية وما أخبرت به الأنبياء من الغيب كالعرش، والملائكة، والجن، والجنة، والنار، وتفاصيل المعاد، فكل من نظر في كلام المسلمين فيها وكلام علماء اليهود، والنصارى وجد كلام المسلمين فيها أكمل، وأتم.

ومعلوم أن علم أهل الكتاب والملل بذلك أتم من علم غيرهم، وأما العبادة، والزهد، والأخلاق، والسياسة المنزلية، والمدنية، فالكلام فيها مبني على أصل، وهو معرفة المقصود بها، وما به يحصل المقصود.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 332.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 326.81 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.77%)]