|
|||||||
| فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
|
#1
|
||||
|
||||
![]() الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (ت ٤٨٣ هـ) عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس) المجلد الرابع صـــ 140 الى صـــ 149 (81) (قال): وإن اشترك قوم في هدي المتعة وهم يؤمون البيت فقلدها بعضهم بأمر أصحابه صاروا محرمين؛ لأن فعله بأمر شركائه كفعلهم بأنفسهم، وإن قلدها بغير أمرهم صار هو محرما دونهم؛ لأن فعله بغير أمرهم لا يقوم مقام فعلهم وبدون فعل من جهتهم لا يصيرون محرمين، ألا ترى أنه لو قلدها أجنبي بغير أمرهم لا يصيرون محرمين فكذلك إذا قلد بعضهم بغير أمر الشركاء يصير هو محرما دونهم (قال): ويتصدق بجلال هديه إذا نحره «لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - تصدق بجلالها وخطامها». (قال): ولا يعطي شيئا من ذلك في أجر جزارته لا من جلده ولا من لحمه ولا من جلاله هكذا «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - ولا تعط الجزار منها شيئا، وقال من باع جلد ضحيته فلا أضحية له» (قال): ويستحب له أن يأكل من هدي المتعة والقران والتطوع فإن الله تعالى أمر به بقوله {، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها} [الحج: 36] وأدنى ما يثبت بالأمر الاستحباب فلذلك يستحب له ولا ينبغي له أن يتصدق بأقل من الثلث، هكذا روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه بعث بهدي مع علقمة فأمره أن يتصدق بثلث وأن يأكل ثلثا وأن يبعث إلى آل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - بثلث [ساق بدنة لا ينوي بها الهدي] (قال): وإن ساق بدنة لا ينوي بها الهدي قال: إذا كان ساقها إلى مكة فهو هدي، وإنما أراد بهذا إذا قلدها وساقها؛ لأن هذا لا يفعل عادة إلا بالهدي فكان سوقها بعد إظهار علامة الهدي عليها بمنزلة جعله إياها بلسانه هديا (قال): ولا يجزي في الهدايا والضحايا إلا الجذع من الضأن إذا كان عظيما فما فوق ذلك أو الثني من المعز والإبل والبقر لقوله - صلى الله عليه وسلم - «ضحوا بالثنيان ولا تضحوا بالجذعان» إلا أن الجذع من الضأن إذا كان عظيما يجزي لما روي «أن رجلا ساق جذعانا إلى منى فبادت عليه، فقال أبو هريرة - رضي الله عنه: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول نعمت الأضحية الجذع من الضأن فانتهزوها» ولما «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة يوم النحر من ضحى قبل الصلاة فليعد، قال أبو بردة بن نيار: إني ذبحت نسكي لأطعم أهلي وجيراني، فقال - صلى الله عليه وسلم - تلك شاة لحم فأعد نسكك، فقال: عندي عتود خير من شاتين، فقال صلوات الله عليه يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك» فدل أن ما دون الثني من المعز لا يجوز. والجذع من الضأن عند الفقهاء ما أتى عليه سبعة أشهر، وعند أهل اللغة ما تم له ستة أشهر، والثني من الغنم عند الفقهاء ما أتى عليه سنة وطعن في الثانية، وعند أهل اللغة ما تم له سنتان، والثني من المعز والبقر ما تم له سنتان وطعن في الثالثة، ومن الإبل الجذع ما تم له أربع سنين والثني ما تم له خمس سنين (قال): ولا يجزي في الهدايا العوراء أو المقطوعة الذنب أو الأذن اشتراها كذلك أو جدت عنده بعد الشراء لحديث جابر - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «استشرفوا العين والأذن» «ونهى رسول - صلى الله عليه وسلم - أن يضحى بالعوراء البين عورها والعجفاء التي لا تبقى والعرجاء التي لا تمشي إلى منسكها» والحادث من هذه العيوب بعد شراء بمنزلة الموجود وقت الشراء في المنع من الجواز، وهكذا إن أضجعها ليذبحها فأصابها شيء من ذلك في القياس، ولكن في الاستحسان هذا لا يمنع الجواز؛ لأنها تضطرب عند الذبح فيصيبها شيء من ذلك ولا يمكن التحرز في هذه الحالة فجعل عفوا لهذا، ولأنه أضجعها ليتلفها فتلف جزء منها في هذه الحالة لا يؤثر في المنع من الجواز بخلاف ما قبله. (قال : وإن كان الذاهب من العين أو الأذن أو الذنب بعضه، فإن كان ما ذهب منه كثيرا يمنع الجواز أيضا لما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يضحى بالشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة» فالشرقاء مشقوقة الأذن عرضا والخرقاء طولا والمقابلة التي ذهب قدام أذنها والمدابرة أن يكون الذاهب خلف أذنها إلا أن القليل لا يمكن التحرز عنه عادة فجعل عفوا، والحد الفاصل بين القليل والكثير عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في ظاهر الرواية أن يكون الذاهب أكثر من الثلث فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الثلث كثير»، ولكن جعله من الكثير الذي يجزي في الوصية بخلاف ما وراءه فعرفنا أن ما زاد على الثلث حكمه مخالف للثلث وما دونه، وذكر ابن شجاع عن أبي حنيفة - رحمهم الله تعالى - أن الذاهب إذا كان بقدر الربع يمنع على قياس ما تقدم من المسائل أن الربع ينزل منزلة الكمال كما في المسح والحلق، وعلى قولهما إذا كان الذاهب أكثر من الباقي لم يجز، وإن كان الباقي أكثر من الذاهب أجزأه؛ لأن القلة والكثرة من الأسماء المشتركة فإنما يظهر عند المقابلة، وإن كان الذاهب والباقي سواء لم يجز في قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى -؛ لأن المانع من الجواز إذا استوى بالمجوز يترجح المانع، وقال: أبو يوسف: أخبرت بقولي أبا حنيفة - رحمه الله تعالى -، فقال: قولي قولك أو مثل قولك، قيل: هذا رجوع من أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - إلى قوله، وقيل: هو إشارة إلى التفاوت بين القولين (قال : ويجزي في الهدي الخصي ومكسورة القرن؛ لأن ما لا قرن له يجزي فمكسور القرن أولى، وهذا لأنه لا منفعة للمساكين في قرن الهدي وأما جواز الخصي فلأنه أطيب لحما، وقال الشعبي - رحمه الله تعالى: ما زاده الخصا في طيبة لحمه خير للمساكين مما فات من الخصيين، والأصل فيه ما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أملحين موجوءين ينظران في سواد ويمشيان في سواد ويأكلان في سواد أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته» (قال : فإن اشترى هديا ثم ضل منه فاشترى مكانه آخر وقلده وأوجبه ثم وجد الأول، فإن نحرهما فهو أفضل؛ لأنه أتى بالواجب وزاد ولأنه كان وعد أن ينحر كل واحد منهما، والوفاء بالوعد مندوب إليه، وإن نحر الأول وباع الثاني جاز؛ لأنه ما أوجب الثاني ليكون أصلا بنفسه، وإنما أوجبه ليكون خلفا عن الأول قائما مقامه، فإذا أوجد ما هو الأصل سقط اعتبار الخلف، وإن باع الأول وذبح الآخر، فإن كانت قيمتهما سواء أو كانت قيمة الثاني أكثر جاز؛ لأنه مثل الأول أو أفضل منه، وإن كانت قيمة الأول أكثر فعليه أن يتصدق بالفضل؛ لأنه جعل الأول هديا أصلا فإنما يجوز إقامة الثاني مقام الأول بشرط أن لا يكون أنقص من الأول، فإذا كان أنقص كان عليه أن يتصدق بقدر النقصان؛ لأنه قصد أن يمنع شيئا مما جعله لله تعالى، وليس له ذلك، فيتصدق بالفضل ليتم جعل ذلك القدر من المالية لله تعالى. وهدي المتعة والتطوع في هذا سواء؛ لأنهما صار لله تعالى إذا جعلهما هديا في الوجهين جميعا، فإن عرف بهدي المتعة فهو حسن؛ لأن هدي المتعة نسك فينبني أمره على الشهرة، وإن ترك ذلك لم يضره؛ لأن الواجب هو التقرب بإراقة الدم فالتعريف فيه ليس من الواجب في شيء، وإن كان معه للمتعة هديان فنحر أحدهما حل؛ لأن ما زاد على الواحد تطوع فلا يتوقف حكم التحلل عليه (قال : وهدي التطوع إذا بلغ الحرم فعطب فنحر وتصدق به أجزأه بخلاف هدي المتعة فإن ذلك مختص بيوم النحر فلا يجوز ذبحه قبل يوم النحر، فأما هدي التطوع غير مختص بيوم النحر، وإنما عليه تبليغه محله بأن يذبحه في الحرم، وقد فعل ذلك (قال : فإن اشترى بدنة لمتعته ثم اشترك ستة نفر فيها بعد ما أوجبها لنفسه خاصة لا يسعه ذلك؛ لأنه لما أوجبها لنفسه صار الكل لازما عليه، فإن قدر ما يجزئ من هدي المتعة كان واجبا عليه، وما زاد على ذلك وجب بإيجابه فإشراكه الغير بعد ذلك مع نفسه يكون رجوعا عما أوجب في البعض وكما لا يجوز له أن يرجع في الكل فكذلك لا يجوز له أن يرجع في البعض، ولأن إشراكه بيع للبعض منهم، وليس له أن يبيع شيئا مما أوجبه هديا، وإن فعل فعليه أن يتصدق بالثمن، وإن كان نوى عند الشراء أن يشرك فيها ستة نفر أجزأه ذلك؛ لأنه ما أوجب الكل على نفسه بمجرد الشراء فكان هذا وما لو اشتراه السبعة سواء، فإن لم يكن عليه نية عند الشراء، ولكن لم يوجبها حتى أشرك فيها ستة نفر أجزأه، ولكن الأفضل أن يكون ابتداء الشراء منهم أو من أحدهم بأمر الباقين حتى تثبت الشركة منهم في الابتداء (قال : وإذا ولدت البدنة بعد ما اشتراها لهديه ذبح ولدها معها؛ لأنه جعلها لله تعالى خالصا والولد جزء منها، فإن كان انفصاله بعد ما جعلها لله تعالى سرى حق الله تعالى إليه فعليه أن يذبحها والولد معها، وإن باع الولد فعليه قيمته اعتبارا للجزء بالكل، وإن اشترى بها هديا فحسن، وإن تصدق بها فحسن اعتبارا للقيمة بالولد فإن الأفضل أن يذبح، ولو تصدق به كذلك أجزأه فكذلك بقيمته (قال : وإذا مات أحد الشركاء في البدنة أو الأضحية فرضي وارثه أن يذبحها معهم عن الميت أجزأهم وهو الاستحسان، وفي القياس لا يجوز؛ لأن الميت إذا لم يوص بأن يذبح عنه فقد انقطع حكم القربة عن نصيبه فصار ميراثا لوارثه والوارث لم يقصد التقرب بذبحه عن نفسه فخرج ذلك القدر من أن يكون قربة، وهذا؛ لأن التقرب بالذبح تقرب بطريق الإتلاف، وذلك لا يجوز عن الميت بغير أمره كالعتق، ولكنه استحسن، فقال: يجوز؛ لأن المقصود هو التقرب وتقرب الوارث بالتصدق عن الميت صحيح، وإن لم يوص به فكذلك تقربه بإيفاء ما قصد المورث في نصيبه بإراقة الدم فالتصدق به يكون صحيحا (قال): وإن كان أحد الشركاء في البدنة كافرا أو مسلما يريد به اللحم دون الهدي لم يجزهم. أما إذا كان أحدهم كافرا فلا يتحقق معنى القربة في نفسه لوجود ما ينافي معنى القربة وهو كفره وإراقة الدم الواحد إذا اجتمع فيه ما ينافي معنى القربة مع الموجب لها يترجح المنافي، وأما إذا كان مراد أحدهم اللحم فلا يجزئ الباقين عندنا. وقال الشافعي - رحمه الله تعالى: يجزيهم؛ لأن المنافي لمعنى القربة لم يتحقق هنا ليكون معارضا ونصيب كل واحد منهم بمنزلة هدي على حدة ولكل واحد منهم ما نوى، ولكننا نقول الذي نوى اللحم فكأنه نفى معنى القربة في نصيبه. ألا ترى أن «النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما ذبحه أبو بردة قبل الصلاة: تلك شاة لحم» فعرفنا أن هذه عبارة عما لا يكون قربة وما يمنع الجواز وإراقة الدم لا يتجزأ، فإذا اجتمع فيه المانع من الجواز مع المجوز يترجح المانع كما لو كان أحدهم كافرا، فأما إذا نووا القربة، ولكن اختلف جهات قصدهم فعلى قول زفر - رحمه الله تعالى - لا يجوز أيضا؛ لأن إراقة الدم لا يتبعض فلا تسع فيها الجهات المختلفة، ولكنا نقول قصد الكل التقرب فكانت الإراقة لله خالصا فلا يعتبر فيه اختلاف الجهات بعد ذلك، ألا ترى أن الواحد إذا وجبت عليه دماء من جهات مختلفة فنحر بدنة ينوي عن ذلك كله أجزأه فكذلك الشركاء (قال): ولا يركب البدنة بعد ما أوجبها؛ لأنه جعلها لله - جلت قدرته - خالصا فلا ينبغي له أن يصرف شيئا من عينها أو منافعها إلى نفسه قبل أن يبلغ محله إلا أن يحتاج إلى ركوبها فحينئذ لا بأس بذلك لما روي «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يسوق بدنة، فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة يا رسول الله، فقال: اركبها ويلك»، وإنما أمره بذلك؛ لأنه رآه عاجزا عن المشي محتاجا إلى ركوبها، فإذا ركبها وانتقص بركوبه شيء ضمن ما نقص ذلك؛ لأنه صرف جزءا منها إلى حاجته، وكذلك لا يحلب لبنها؛ لأن اللبن متولد منها فلا يصرفه إلى حاجة نفسه، ولكن ينبغي أن ينضح ضرعها بالماء البارد حتى يتقلص لبنها، ولكن هذا إذا كان قريبا من وقت الذبح، فأما إذا كان بعيدا ينزل اللبن ثانيا وثالثا فيصير ذلك بالبدنة ضارا فيحلبها ويتصدق بلبنها، وإن صرفه إلى حاجة نفسه تصدق بمثل ذلك أو بقيمته وأي الشركاء فيها نحرها يوم النحر أجزأهم؛ لأن كل واحد يستعين بشركائه في نحرها في وقته دلالة فيجعل ذلك بمنزلة الأمر به إفصاحا [عطب الهدي في الطريق] (قال : وإذا عطب الهدي في الطريق نحره صاحبه، فإن كان واجبا فهو لصاحبه يصنع به ما شاء؛ لأنه قصد بهذا إسقاط الواجب عن ذمته، فإذا خرج من أن يكون صالحا لإسقاط الواجب به بقي الواجب في ذمته كما كان، وهذا ملكه فيصنع به ما شاء، وإن كان تطوعا نحره وصبغ نعله بدمه ثم ضرب به صفحته، ولم يأكل منه شيئا بل يتصدق به، وذلك أفضل من أن يتركه للسباع، هكذا نقل عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - والأصل فيه ما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عام الحديبية الهدايا على يد ناجية بن جندب الأسلمي - رضي الله عنه - وأمره أن يسلك بها الفجاج والأودية حتى يخرج بها إلى منى، فقال: ماذا أصنع بما عطب على يدي منها، فقال: انحرها واصبغ نعلها بدمها» والمراد بالنعل قلادتها واضرب بها صفحة سنامها ثم خل بينها وبين الناس ولا تأكل أنت ولا أحد من رفقتك منها شيئا، ومقصوده مما ذكر أن يجعل عليها علامة يعلم بتلك العلامة أنها هدي فيتناول منها الفقراء دون الأغنياء، وإنما نهاه أن يتناول منها؛ لأنه كان غنيا مع رفقته ثم المتطوع بالهدايا إنما يتناول بإذن من له الحق، والإذن معلق بشرط بلوغه محله قال الله تعالى {فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها} [الحج: 36] ، فإذا لم تبلغ محلها لا يباح له التناول منها ولا أن يطعم غنيا بل يتصدق بها على الفقراء؛ لأنه قصد بها التقرب إلى الله تعالى، فإذا فات معنى التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم يتعين التقرب إلى الله تعالى بالتصدق، وذلك بالصرف إلى الفقراء دون الأغنياء، فإن أعطى من ذلك غنيا ضمن قيمته ويتصدق بجلالها وخطمها أيضا كما يفعل ذلك إذا بلغت محلها (قال): وإذا أخطأ الرجلان فنحر كل واحد منهما هدي صاحبه أو ضحيته عن نفسه أجزأه استحسانا وفي القياس لا يجزئ؛ لأن كل واحد منها غير مأمور بما صنع في هدي صاحبه فكان متعديا ضامنا، ولكنه استحسن، فقال: كل واحد منهما مأذون بما صنع من صاحبه دلالة؛ لأن صاحب الهدي والأضحية يستعين بكل أحد أن ينوب عنه في الذبح في وقته دلالة، والإذن دلالة بمنزلة الإذن إفصاحا كقرب ماء السقاية ونحوها ويأخذ كل واحد منهما هديه من صاحبه فيصنع به ما شاء بمنزلة ما لو فعله صاحبه بأمره وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - قال: لكل واحد منهما الخيار أن يأخذ من صاحبه هديه فيصنع به ما شاء كما لو ذبحه بنفسه وبين أن يضمن صاحبه قيمة هديه فيشتري بها هديا آخر ويذبحه في أيام النحر، وإن كان بعد أيام النحر تصدق بالقيمة. وإن نحر هديه قائما أو أضجعه فأي ذلك فعل فهو حسن. وبلغنا أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينحرونها قياما معقولة الأيدي اليسرى، وفي قوله تعالى {فإذا وجبت جنوبها} [الحج: 36] ما يدل على أنه لا بأس بأن ينحرها قائمة؛ لأن وجوب الجنب السقوط من القيام. وروي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر خمس هدايا أو ستا فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ» فدل أنه ينحر قياما. وقد حكي عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - قال: نحرت بيدي بدنة قائمة معقولة فكدت أهلك قوما من الناس؛ لأنها نفرت فاعتقدت أن لا أنحر بعد ذلك إلا باركة معقولة أو أستعين بمن يكون أقوى عليه مني (قال : ولا أحب أن يذكر مع اسم الله تعالى غيره نحو قوله اللهم تقبل من فلان لقوله - صلى الله عليه وسلم - «جردوا التسمية يعني ذكر اسم الله تعالى عند الذبح» ويكفي في هذا أن ينويه بقلبه أو يذكره قبل ذكر التسمية ثم يقول بسم الله، والله أكبر وينحر (قال : ولا يذبح البقر والغنم قياما؛ لأنه مندوب في كل نوع أن يذبحه على وجه يكون أيسر على المذبوح، قال: - صلى الله عليه وسلم - «إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» الحديث (قال): ويستحب له أن يذبح هديه أو أضحيته بيده لما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ساق مائة بدنة في حجة الوادع فنحر نيفا وستين بنفسه وولى الباقي عليا - رضي الله عنه -»، وفي هذا دليل على أن الأولى أن يذبح بنفسه، فأما إذا لم يقدر على ذلك، ولم يهتد لذلك فلا بأس بأن يستعين بغيره؛ لأن فعل الغير بأمره كفعله بنفسه. (قال : ولا أحب أن يذبحه يهودي أو نصراني؛ لأن هذا من باب القربة فلا يستعان فيه بالكافر قال: - صلى الله عليه وسلم: «إنا لا نستعين في أمر ديننا بمن ليس على ديننا» (قال): وإن ذبح هديه يوم النحر بعد طلوع الفجر أجزأه ولا يجزيه قبل طلوع الفجر إن كان هدي المتعة؛ لأنه مؤقت بيوم النحر، وإنما يدخل يوم النحر بعد طلوع الفجر الثاني وإن جعل ثوبه هديا أجزأه أن يهدي قيمته؛ لأنه جعله لله تعالى وفيما صار لله تعالى صرف العين والقيمة سواء كما في الزكاة، وكذلك لو جعل شاة من غنمه هديا أجزأه أن يهدي قيمتها، وفي رواية أبي حفص - رحمه الله تعالى - أجزأه أن يهدي مثلها قال: ألا ترى أنه يعطي في الزكاة قيمة الشاة فيجوز. وذكر في الجامع الكبير إذا قال: لله علي أن أهدي شاتين وسطين فأهدى شاة تبلغ قيمتها قيمة شاتين لا يجوز بخلاف الزكاة؛ لأنه التزم إراقة دمين، وإراقة دم واحد لا يقوم مقام إراقة دمين وما ذكر في هذا الموضع أنه لا يجزئه التصدق بالقيمة؛ لأنه إنما التزم التقرب بإراقة الدم فلا يقوم التصدق بالقيمة مقامه حتى قيل في المسألة روايتان فعلى ما ذكر هنا يجب أن يجوز هناك أيضا. وإن قال: لله علي أن أهدي شاة فأهدى جزورا يجزئه وهو محسن في ذلك؛ لأنه أدى الواجب عليه وزيادة فإن الجزور قائم مقام سبع من الغنم حتى يجزي عن سبعة نفر ففيه وفاء بالواجب وزيادة، وإنما أورد هذا لإيضاح أنه إذا أهدى مثل ما عينه في نذره أو أفضل منه أو أهدى قيمته أجزأه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [باب الحج عن الميت وغيره] (باب الحج عن الميت وغيره) (قال) - رضي الله عنه - رجل دفع مالا إلى رجل ليحج به عن الميت فلم يبلغ مال الميت النفقة فأنفق المدفوع إليه من ماله ومال الميت فإن كان أكثر النفقة من مال الميت وكان ماله بحيث يبلغ ذلك أو عامة النفقة فهو جائز وإلا فهو ضامن يرده، ويحج من حيث يبلغ؛ لأن المعتبر في الحج عن الغير الإنفاق من ماله في الطريق والأكثر له حكم الكل والتحرز عن القليل غير ممكن فقد يضيفه إنسان يوما فلا ينفق من مال الميت، وقد يستصحب مع نفسه زادا أو ثوبا من مال نفسه، وقد يشرب الماء فيعطي السقاء شيئا من عند نفسه وما لا يمكن التحرز عنه يجعله عفوا فاعتبرنا الأكثر وقلنا إذا كان أكثر النفقة من مال الميت فكأن الكل من مال الميت، وإن كان أكثر النفقة من مال نفسه كان جميع نفقته من مال نفسه فيكون الحج عنه ويضمن ما أنفق من مال الميت؛ لأنه مخالف لأمره فإنه أمر بأن ينفق في سفر الحج بذلك السفر عن الميت لا عن نفسه، وهذه المسألة تدل على أن الصحيح من المذهب فيمن حج عن غيره أن أصل الحج يكون عن المحجوج عنه وأن إنفاق الحاج من مال المحجوج عنه كإنفاق المحجوج عنه من مال نفسه أن لو قدر على الخروج بنفسه وبنحوه جاءت السنة «فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسائلة حجي عن أبيك واعتمري»، وقال رجل : «يا رسول الله إن أبى مات ولم يحج أفيجزئني أن أحج عنه فقال - صلى الله عليه وسلم - نعم»، وحديث الخثعمية مشهور حيث قالت «يا رسول الله إن فريضة الله الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفيجزئني أن أحج عنه فقال صلوات الله تعالى عليه أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يقبل منك؟ قالت: نعم، فقال - صلى الله عليه وسلم - الله أحق أن يقبل» فدل أن أصل الحج يقع عن المحجوج عنه. وروي عن محمد - رحمه الله تعالى - أنه قال: للمحجوج عنه ثواب النفقة فأما الحج يكون عن الحاج، وهذا لأن الحج عبادة بدنية، والعبادات البدنية لا تجزي بالنيابة في أدائها؛ لأن الواجب عليه إنفاق المال في الطريق وأداء الحج، فإذا عجز عن أداء الحج بقي عليه مقدار ما يقدر عليه وهو إنفاق المال في الطريق فلزمه دفع المال لينفقه الحاج في طريق الحج، ولكن الأول أصح فإن فرض الحج لا يسقط بهذا عن الحاج، وكذلك في هذه المسألة إذا كان أكثر نفقته من مال نفسه حتى صار حجه عن نفسه كان ضامنا لما أنفق من مال الميت ولو كان للميت ثواب النفقة فقط لا يصير ضامنا؛ لأن ذلك قد حصل للميت فلما قال يضمن ويحج به عن الميت من حيث يبلغ عرفنا أن الحج عن الميت. (قال)، وإن أنفق المدفوع إليه من مال نفسه وفي مال الميت وفاء بحجه رجع به في مال الميت إذا كان قد دفع إليه وجاز الحج عن الميت؛ لأنه قد يبتلى بالإنفاق من مال نفسه في طريق الحج بأن لا يكون مال الميت حاضرا أو يتعذر عليه إظهاره، ولا فرق في حق الميت بين أن ينفق من ماله وبين أن ينفق من مال نفسه فيرجع به في مال الميت كالوصي والوكيل يشتري لليتيم ويعطي الثمن من مال نفسه يرجع به في مال اليتيم (قال) فإن نوى الحاج عن الغير أن يقيم بمكة بعد النفر خمسة عشر يوما بطلت نفقته من مال الميت؛ لأن بهذه النية صار مقيما بمكة وتوطنه بمكة لحاجة نفسه لا لحاجة الميت فلا يستحق فيه النفقة في مال الميت، وإنما استحقاقه النفقة في مال الميت في سفره ذاهبا وجائيا؛ لأنه في ذلك عامل للميت، وإن كان أقام دون خمسة عشر يوما فهو مسافر على حاله فنفقته في مال الميت، وقد كان بعض المتقدمين من مشايخنا - رحمهم الله - رحمهم الله تعالى - يقول: إن أقام بعد النفر ثلاثا فنفقته في مال الميت؛ لأنه محتاج إلى هذا القدر من المقام للاستراحة، وإن أقام أكثر من ذلك فنفقته في مال نفسه، ولكن هذا الجواب كان في زمانهم؛ لأنه كان يقدر أن يخرج من مكة متى شاء فأما في زماننا لا يقدر على الخروج إلا مع الناس فإن كان مقامه بمكة لانتظار خروج قافلته فنفقته في مال الميت سواء أقام خمسة عشر يوما أو أقل أو أكثر؛ لأنه لا يقدر على الخروج إلا معهم فلم يكن هو متوطنا بمكة لحاجة نفسه، وإن أقام بعد خروج قافلته فحينئذ ينفق من مال نفسه فإن بدا له بعد المقام أن يرجع فنفقته في مال الميت؛ لأنه كان استحق نفقة الرجوع في مال الميت، وإنما كان ينفق من مال نفسه لتأخير الرجوع. فإذا أخذ في الرجوع عادت نفقة الرجوع في مال الميت وهو نظير الناشزة إذا عادت إلى بيت زوجها تستحق النفقة، وكذلك المضارب إذا أقام في بلدته أو في بلدة أخرى ونوى الإقامة خمسة عشر يوما لحاجة نفسه لم ينفق من مال المضاربة فإن خرج مسافرا بعد ذلك كانت النفقة في مال المضاربة. وقد روي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه قال: لا تعود نفقته من مال الميت هنا؛ لأن القياس أن لا يستوجب نفقة الرجوع في مال الميت؛ لأنه في حق الرجوع عامل لنفسه لا للميت، ولكنا تركنا ذلك وقلنا أصل سفره كان لعمل الميت فما بقي ذلك السفر تبقى نفقته في مال الميت، وبالوصول لم يبق ذلك السفر، ثم هو أنشأ سفرا بعد ذلك لحاجة نفسه وهو الرجوع إلى وطنه فلا يستوجب لهذا السفر النفقة في مال الميت، ولم يذكر في الكتاب أنه إذا وصل إلى مكة قبل وقت الحج بزمان كيف يكون حاله في الإنفاق، وقد ذكر في النوادر عن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - أنه إذا قدم في الأيام العشر فنفقته في مال الميت، وإن قدم قبل ذلك أنفق من مال نفسه إلى أن تدخل أيام العشر، ثم نفقته في مال الميت بعد ذلك؛ لأن العادة أن قدوم قوافل مكة يتقدم ويتأخر، ولكنه في الأيام العشر موافق لما هو العادة. فأما قدومه قبل أيام العشر مخالف لما هو العادة وهو في هذه الإقامة ليس يعمل للميت شيئا فلهذا كانت نفقته في مال نفسه [أوصى أن يحج عنه بألف درهم فبلغت حججا] (قال): فإن أوصى أن يحج عنه بألف درهم فبلغت حججا فالوصي بالخيار إن شاء دفع كل سنة حجة وإن شاء أحج عنه رجالا في سنة واحدة وهو أفضل؛ لأن الوصية بالحج بمال مقدر بمنزلة الوصية بالتصدق بمال مقدر، وفي ذلك الوصي بالخيار بين التقديم والتأخير، والتعجيل أفضل؛ لأنه أقرب إلى تحصيل مقصود الموصى وأبعد عن فوات مقصوده بهلاك المال (قال): وإذا حج العبد بإذن مولاه فإن ذلك لا يجزئه عن حجة الإسلام لقوله - صلى الله عليه وسلم - «أيما عبد حج ولو عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا عتق وأيما صبي حج ولو عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا بلغ وأيما أعرابي حج ولو عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا هاجر»، وإنما قال هذا حين كانت الهجرة فريضة وكان المعنى فيه أن العتق من شرائط وجوب الحج ولا يتحقق الوجوب بدون شرطه فيكون المؤدى قبل وجود الشرط نفلا فلا ينوب عن الفرض، وهذا بخلاف الفقير إذا حج، ثم استغنى حيث جاز ما أدى عن الفرض؛ لأن مالك المال ليس بشرط للوجوب إنما شرط الوجوب التمكن من الوصول إلى موضع الأداء، ألا ترى أن المكي الذي هو في موضع الأداء لا يعتبر في حقه ملك المال، وفي حق الآفاقي لا يتقدر المال بالنصاب بل يختلف ذلك باختلاف قربه من موضع الأداء وبعده فعرفنا أن الشرط هو التمكن من الوصول إلى موضع الأداء فبأي طريق وصل الفقير إلى ذلك الموضع وجب الأداء فإنما حصل أداؤه بعد الوجوب فكان فرضا. فأما العتق من شرائط الوجوب فإن العبد الذي هو بمكة لا يلزمه الحج فالمؤدى قبل العتق لا يكون فرضا، توضيحه أنه إنما أدى الحج بمنافعه ومنافع الفقير حقه، فإذا أداه بما هو حقه كان فرضا فأما منافع العبد لمولاه وبإذن مولاه لا تخرج المنفعة من ملكه فإنما أداه بما هو ملك الغير وملك الغير لا يسقط ما هو فرض العمر عنه، وهذا بخلاف الجمعة إذا أداها بإذن المولى؛ لأن الجمعة تؤدى في وقت الظهر، ومنافعه لأداء الظهر صارت مستثناة عن حق المولى فإنما أداه بمنافع مملوكة له فهذا جائز عنه بخلاف ما نحن فيه فإن هذا غير مستثنى من حق المولى فلا تتأدى به حجة الإسلام. ![]()
__________________
|
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (ت ٤٨٣ هـ) عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس) المجلد الرابع صـــ 150 الى صـــ 159 (82) (قال): فإن أصاب صيدا فعليه الصيام؛ لأنه صار جانيا على إحرامه بقتل الصيد وهو ليس من أهل التكفير بإراقة الدم ولا بالإطعام فيكفر بالصوم كما إذا حنث في يمينه كان عليه أن يكفر بالصوم. (قال): وإن جامع مضى فيه حتى يفرغ منه؛ لأن حجه، وإن فسد لكن عليه المضي في الفاسد، وإن إحرامه كان لازما فلا يخرج عنه إلا بأداء أفعال الحج فاسدا كان أو صحيحا، وعليه الهدي إذا عتق لتعجل الإحلال بالجماع، وهذا الدم لا يقوم الصوم مقامه، والأصل في كل دم لا يقوم الصوم مقامه يتأخر عن العبد حتى يعتق، وكل ما يقوم الصوم مقامه فعليه أن يؤديه بالصوم وعليه حجة مكان هذه ينوي حجة الإسلام؛ لأنه أفسدها بعدما صح شروعه فيها فعليه قضاؤها وإن لم يجامع، ولكنه فاته الحج يحل بالطواف والسعي والحلق؛ لأنه بعد صحة شروعه في الإحرام يتحلل بما يتحلل به الحر، والحر إنما يتحلل بعد فوات الحج بإعمال العمرة فكذلك العبد وعليه أن يحج حجة إذا عتق سوى حجة الإسلام لفوات ما شرع فيه. وإن أطعم عنه مولاه أو ذبح عنه من الدماء ما يلزمه لا يجزئه؛ لأنه لم يصر مالكا للطعام الذي يؤدى في الكفارة ولا لما يراق دمه فإن الرق ينافي الملك وبدون الملك فيما كفر به لا تسقط عنه الكفارة إلا في الإحصار خاصة فإن على مولاه أن يبعث بهدي عنه حتى يحل؛ لأنه هو الذي أدخله في هذه العهدة بإذنه بالإحرام فإنه لو أحرم بغير إذنه كان له أن يحلله بغير هدي، فإذا أحرم بإذنه كان المولى هو المكتسب لسبب وجوب هذا الدم فعليه أن يحلله ولا يبعد أن يجب على المولى حق بسبب عبده كما يجب عليه صدقة الفطر عن عبده، ثم على العبد إذا عتق حجة وعمرة كما هو الحكم في المحصر إذا كان حرا ويتحلل بالهدي العبد إذا تحلل به (قال): وإذا أراد الرجل أن يحج رجلا عن نفسه فأحب إلي أن يحج رجلا قد حج عن نفسه؛ لأنه أبعد عن اختلاف العلماء - رحمهم الله تعالى - ولأنه أهدى في إقامة أعمال الحج لصيرورتها معهودة عنده فإن أحج صرورة عن نفسه يجوز عندنا وعلى قول الشافعي - رحمه الله تعالى - لا يجوز ويكون حج الصرورة عن نفسه لا عن الآمر وحجته ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه رأى رجلا يلبي عن شبرمة فقال - عليه الصلاة والسلام: من شبرمة؟ فقال: أخ لي أو صديق لي، فقال - عليه الصلاة والسلام: حج عن نفسك، ثم عن شبرمة» وحجتنا في ذلك حديث الخثعمية «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوز لها أن تحج عن أبيها، ولم يستفسر أنها حجت عن نفسها أو لا». وفي الحديث الأخير تعارض فقد روي «أنه سمع رجلا يلبي عن نبيشة، فقال: من نبيشة، فقال: صديق لي، فقال: إذا حججت عن نبيشة فحج عن نفسك» وتأويل الحديث الأخير أن ذلك الرجل لم يحرم، ولكن على سبيل التعليم للكيفية في التلبية عن الغير فأشار عليه - عليه الصلاة والسلام - بأن يبدأ بالحج عن نفسه وبه نقول أن الأفضل أن يحج عن نفسه أولا. والاختلاف في هذا نظير الاختلاف في الصرورة إذا حج بنية النفل عندنا حجه يكون نفلا، وعند الشافعي - رحمه الله تعالى - يكون عن حجة الإسلام وحجته في ذلك أن نية النفل لغو؛ لأنه عبارة عن الزيادة ولا يتصور ذلك قبل الأصل، وإذا لغت نية النفل يبقى مطلق نية الحج وبمطلق النية يتأدى الفرض يدل عليه أن نية النفل نوع سفه قبل أداء حجة الإسلام، والسفيه مستحق الحجر فجعل نية النفل لغوا تحقيقيا لمعنى الحجر فيبقى مطلق النية، ويجوز أن تتأدى حجة الإسلام بغير نية كما في المغمى عليه إذا أحرم عنه أصحابه فبنية النفل أولى. وحجتنا في ذلك أن وقت أداء الفرض في الحج يتسع لأداء النفل فلا يتأدى الفرض منه بنية النفل كالصلاة بخلاف الصوم عندنا، ووقت أداء الصوم لا يتسع لأداء النفل، وهذا لأن الحج عبادة معلومة بالأفعال لا بالوقت فكان الوقت ظرفا له لا معيارا، وفي مثله لا يتميز الفرض من النفل إلا بالتعيين. وقوله "يتأدى بمطلق النية" قلنا عندنا لا يتأدى إلا بالتعيين غير أن التعيين يثبت بالنص تارة وبالدلالة أخرى، وفي الحج التعيين حاصل بدلالة العرف، فالظاهر أن الإنسان لا يتحمل المشقة العظيمة، ثم يشتغل بأداء النفل مع بقاء الفرض عليه، والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص كمن اشترى بدراهم مطلقة ينصرف إلى نقد البلد بدلالة العرف، وإنما يعتبر العرف إذا لم يوجد التصريح بخلافه، فإذا صرح بنية النفل سقط اعتبار العرف فكان حجه عما نوى وما قال باطل على أصله في الصوم فإنه لا يلغي اعتبار نية النفل بل يجعله معتبرا في الإعراض عن الفرض والمغمى عليه آذن لأصحابه بطريق الدلالة في الإحرام عنه فينزل ذلك منزلة الإذن إفصاحا فإنما يتأدى له حج بالنية. وإن أراد أن يعين رجلا بماله للحج عن نفسه فالصرورة أولى بذلك ممن قد حج؛ لأن الصرورة بماله يتوسل إلى أداء الفرض، ومن قد حج مرة يتوسل إلى أداء النفل وكما أن درجة أداء الفرض أعلى كانت الإعانة عليه بالمال أولى (قال): والحج التطوع جائز عن الصحيح يريد أن به الصحيح البدن إذا أحج رجلا بماله على سبيل التطوع عنه فهو جائز؛ لأن هذا إنفاق المال في طريق الحج، ولو فعله بنفسه كان طاعة عظيمة فكذلك إذا صرفه إلى غيره ليفعله عنه يكون جائزا وكونه صحيحا لا يمنعه عن أداء التطوع بهذا الطريق، وإن كان يمنعه عن أداء الفرض؛ لأن في التطوع الأمر موسع عليه، ألا ترى أن في الصلاة يجوز التطوع قاعدا مع القدرة على القيام، وإن كان لا يجوز ذلك في الفرض فكذا هنا في حجة الإسلام. والحاصل أن العبادات المالية المقصود منها صرف المال إلى سد خلة المحتاج وذلك يحصل نيابة فيجوز الإنابة فيها في حالة الاختيار والضرورة، والعبادات البدنية المحضة المقصود منها إما التعظيم بالجوارح كالصلاة، وإما إتعاب النفس الأمارة بالسوء ابتغاء مرضات الله تعالى، وذلك لا يحصل بالنائب أصلا ولا تجزي النيابة في أدائها، والحج فيه المعنيان جميعا معنى التعظيم للبقعة، وذلك بالنائب يحصل ومعنى تحمل المشقة للتوسل إلى أدائها، وذلك بالنائب لا يحصل فلا تجزئ النيابة فيها عند القدرة على الأداء بنفسه لانعدام أحد المعنيين في الأداء بالنائب، وتجزئ النيابة فيها عند تحقق العجز عن الأداء بالبدن لحصول أحد المعنيين بالنائب. وفي العبادات البدنية المعتبر الوسع ولا يعتبر العجز للحال؛ لأن الحج فرض العمر فيعتبر فيه عجز مستغرق لبقية العمر ليقع به اليأس عن الأداء بالبدن فقلنا: إن كان عجزه بمعنى لا يزول أصلا كالزمانة يجوز الأداء بالنائب مطلقا. وإن كان عارضا يتوهم زواله بأن كان مريضا أو مسجونا، فإذا أدى بالنائب كان ذلك مراعى، فإن دام به العذر إلى أن مات تحقق اليأس عن الأداء بالبدن فوقع المؤدى موقع الجواز، وإن برئ من مرضه تبين أنه لم يقع فيه اليأس عن الأداء بالبدن فكان عليه حجة الإسلام والمؤدي تطوع له والمال جعل خلفا عن القدرة على الأداء بالبدن في جواز الأداء به بعد تقرر الوجوب، فأما في ثبوت حكم الوجوب بسببه ففيه اختلاف العلماء فالمذهب عندنا أن المعضوب والمقعد والزمن لا يجب عليه الحج باعتبار ملك المال، وعلى قول الشافعي - رحمه الله تعالى - يجب وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - وحجته في ذلك حديث الخثعمية حيث قالت: إن فريضة الله الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة فقولها "شيخا كبيرا" نصب على الحال يعني لزمه الحج في هذه الحالة، ولم ينكر عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فدل أن الحج يجب على المعضوب والمقعد والزمن، والمعنى فيه أن شرط الوجوب التمكن من أداء الواجب بالمال، فإذا جاز أداء الواجب بالمال عند العجز عن الأداء بالبدن عرفنا أن شرط الوجوب يتم به. وإذا جاز بقاء الواجب بعد وقوع اليأس عن الأداء بالبدن يؤدى بالمال فكذلك يثبت الوجوب بالبدن ابتداء بهذه الصفة كالصوم في حق الشيخ الفاني يجب باعتبار بدله وهو الفدية. وحجتنا في ذلك قوله تعالى {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] فإنما أوجب الله تعالى الحج على من يستطيع الوصول إلى بيت الله تعالى والزمن لا يستطيع الوصول إلى بيت الله تعالى فلا يتناوله هذا الخطاب، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل الشرط ما لا يوصله إلى البيت بقوله «من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى» وزاد المعضوب وراحلته لا يبلغانه بيت الله تعالى فصار وجوده كعدمه، ولأن المقصود بهذه العبادة تعظيم البقعة بالزيارة والمال شرط ليتوسل به إلى هذا المقصود، وما هو المقصود فائت في حق المعضوب ولا يعتبر وجود الشرط؛ لأن الشرط تبع والتبع لا يقوم مقام الأصل في إثبات الحكم به ابتداء، وإن كان يبقى الحكم بعد ثبوته باعتباره واعتبار الابتداء بالبقاء فاسد فإنه إذا افتقر بهلاك ماله بعد ما وجب الحج عليه يبقى واجبا، ثم لا يجب ابتداء على الفقير، وليس هذا نظير الفدية في حق الشيخ الفاني؛ لأنه بدل عن أصل الصوم بالنص فيجوز أن يجب الأصل باعتبار البدل وهناك المال ليس ببدل عن أصل الحج، ألا ترى أنه لا يتأدى بالمال، وإنما يتأدى بمباشرة النائب بالحج عنه، فإذا لم يكن المال بدلا عن أصل الحج لا يثبت الوجوب باعتباره، والروايات اختلفت في الخثعمية ففي بعضها قالت: هو شيخ كبير، وهذا بيان أنه في الحال بهذه الصفة لا أنه في وقت الوجوب بهذه الصفة، ثم مرادها أن تزول فريضة الحج عنه في حال كونه شيخا؛ لأنه وجب عليه ولظاهر هذا الحديث قال الشافعي - رحمه الله تعالى - المعضوب الذي لا مال له إذا بذل ولده له الطاعة ليحج عنه يلزمه فرض الحج وبطاعة غيره من القرابات لا يلزمه؛ لأن الخثعمية لما بذلت الطاعة جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحج دينا على أبيها بقوله «فدين الله أحق»، ولم يستفسر أنه غني أو فقير فدل أن بذل الولد الطاعة يلزمه الحج، وهذا لأن الولد كسبه فيكون بمنزلة ماله فكما أن القدرة على الأداء بالمال تكفي للإيجاب عنده فكذلك القدرة بمنفعة الابن الذي هو كسبه. وهذا لأنه ليس للولد في هذه الطاعة كثير منة على أبيه بخلاف سائر القرابات فإن ذلك لا يخلو عن منة، وحجتنا في ذلك أن الولد متبرع في بذل هذه الطاعة كغيره فلا يجوز أن يكون تبرعه موجبا للحج على الأب، ألا ترى أن الابن لو بذل المال لأبيه لا يلزمه قبوله ولا يجب الحج باعتبار هذا البذل فكذلك ببذل الطاعة بل أولى؛ لأن هناك لم يكن للابن أن يرجع بعد ذلك ليتمكن الأب من مكافأته إذا استفاد مالا وهنا للابن أن يرجع عما بذل من الطاعة، فإذا لم يجب الحج على الوالد ببذل الولد المال فببذله الطاعة أولى، وعلى الأصل الذي قلنا أن المعتبر استطاعة توصله إلى البيت يتضح الكلام في هذه المسألة، وعلى هذا الأصل قال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى: الأعمى لا يلزمه الحج، وإن وجد مالا وقائدا، وعلى قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - يلزمه ذلك وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - وجه قولهما أن الأعمى متمكن من الأداء ببدنه، ولكنه محتاج إلى قائد يهديه إلى ذلك فيكون بمنزلة الضال والذي ضل الطريق إذا وجد من يهديه إلى الطريق يلزمه الحج وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول: هو عاجز عن الوصول إلى البيت بنفسه فكان بمنزلة المعضوب، وهذا لأن ملك المال إنما يعتبر إذا كان يوصله إلى البيت، والمال هنا لا يوصله إليه وبذل القائد الطاعة غير معتبر فكان وجود ذلك كعدمه فلهذا لا يلزمه الحج. وأما إذا مات الرجل فأوصى أن يحج عنه فعلى الوصي أن يحج بماله؛ لأن بموته تحقق العجز عن الأداء بالبدن، والوصي قائم مقامه فكما أنه بعد وقوع اليأس يحج بماله في حياته فكذا وصيه تقوم مقامه بعد موته. والأولى أن يحجج الوصي بماله رجلا فإن حجج امرأة جاز مع الكراهة؛ لأن حج المرأة أنقص؛ لأنه ليس فيه رمل ولا سعي في بطن الوادي ولا رفع الصوت بالتلبية ولا الحلق فكان إحجاج الرجل عنه أكمل من إحجاج المرأة (قال): وإن أحج بماله رجلا فجامع ذلك الرجل في إحرامه قبل الوقوف بعرفة فقد فسد حجه وهو ضامن للنفقة؛ لأنه أمر بإنفاق المال في سفر يؤدي به حجا صحيحا فبالإفساد يصير مخالفا فيكون ضامنا للنفقة وعليه المضي في الفاسد والدم وقضاء الحج، وبهذا استدل محمد - رحمه الله تعالى - أن أصل الحج يكون للحاج حتى إن القضاء عليه عند الإفساد دون المحجوج عنه، فأما على ظاهر الرواية إذا وافق فالحج عن المحجوج عنه، ألا ترى أنه لا بد له من أن ينوي عن المحجوج عنه، ولكن إذا خالف خرج من أن يكون بأمر المحجوج عنه فكان واقعا عن نفسه فعليه موجبه كالوكيل بالشراء إذا وافق كان مشتريا لأمره، ولو خالف كان مشتريا لنفسه (قال): ولو قرن مع الحج عمرة كان مخالفا ضامنا للنفقة عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وعندهما لا يصير مخالفا استحسانا؛ لأنه أتى بالمأمور به وزاد عليه ما يجانسه فلا يصير به مخالفا كالوكيل بالبيع إذا باع بأكثر مما سمى له من جنسه، توضيحه أن القران أفضل من الإفراد فهو بالقران زاد للميت خيرا فلا يكون مخالفا وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول: هو مأمور بإنفاق المال في سفر مجرد للحج، وسفره هذا ما تفرد للحج بل للحج والعمرة جميعا فكان مخالفا كما لو تمتع، ولأن العمرة التي زادها لا تقع عن الميت؛ لأنه لم يأمره بذلك ولا ولاية عليه للحاج في أداء النسك عنه إلا بقدر ما أمره، ألا ترى أنه لو لم يأمره بشيء لم يجز أداؤه عنه فكذلك إذا لم يأمره بالعمرة فإذا لم تكن عمرته عن الميت صار كأنه نوى العمرة عن نفسه وهناك يصير مخالفا فكذا هنا إلا أنه ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف - رحمهما الله تعالى - أنه، وإن نوى العمرة عن نفسه لا يصير مخالفا، ولكن يرد من النفقة بقدر حصة العمرة التي أداها عن نفسه وذهب في ذلك إلى أنه مأمور بتحصيل الحج للميت بجميع النفقة، فإذا ضم إليه عمرة نفسه فقد حصل الحج للميت ببعض النفقة، وبهذا لا يكون مخالفا كالوكيل بشراء عبد بألف إذا اشتراه بخمسمائة، ولكن هذا ليس بشيء فإنه مأمور بأن يجرد السفر للميت، فإذا اعتمر لنفسه لم يجرد السفر للميت، ثم الذي يحصل للميت ثواب النفقة فبقدر ما ينتقص به ينتقص من الثواب فكان هذا الخلاف ضررا عليه لا منفعة له، ثم دم القران عندهما يكون على الحج من مال نفسه، وكذلك عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - إذا كان مأمورا بالقران من جهة الميت حتى لم يصر مخالفا؛ لأن دم القران نسك وسائر المناسك عليه فكذلك هذا النسك، ولأن لهذا الدم بدلا وهو الصوم، ولو كان معسرا لم يشكل أن الصوم عليه دون المحجوج عنه فكذلك الهدي يكون عليه (قال): وكذلك لو أمر بالعمرة عن الميت فقرن معها حجة فهو على الخلاف الذي ذكرنا إلا أن على قولهما نفقة ما بقي من الحج بعد أداء العمرة يكون على الحاج خاصة؛ لأنه في ذلك عامل لنفسه لا للميت فلا يستوجب النفقة في مال الميت، وبهذا الفصل يتضح كلام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - على ما بينا (قال): وإذا كان أمر بالحج فبدأ واعتمر في أشهر الحج، ثم حج من مكة كان مخالفا في قولهم جميعا؛ لأنه مأمور بأن يحج عن الميت من الميقات والمتمتع يحج من جوف مكة فكان هذا غير ما أمر به، ولأنه مأمور بالإنفاق في سفر يعمل فيه للميت، وإنما أنفق في سفر كان عاملا فيه لنفسه؛ لأن سفره كان للعمرة وهو في العمرة عامل لنفسه (قال): وكل دم يلزم المجهز يعني الحاج عن الغير فهو عليه في ماله؛ لأنه إن كان دم نسك فإقامة المناسك عليه، وإن كان دم كفارة فالجناية وجدت منه، وإن كان دما وجب بترك واجب فهو الذي ترك ما كان واجبا عليه فلهذا كانت هذه الدماء عليه في ماله إلا دم الإحصار فإنه في مال المحجوج عنه في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى -. وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - هو على الحاج أيضا؛ لأن وجوبه لتعجيل الإحلال فيكون قياس الدم الواجب بالجماع ولأنه في معنى دم القران؛ لأنه مشروع للتحلل وهما احتجا، وقالا: دم الإحصار للخروج عن الإحرام وهو بمباشرة الإحرام كان عاملا للميت فكان الميت هو المدخل له في هذا حكما فعليه إخراجه كما بينا في العبد إذا أحرم بإذن مولاه، ثم أحصر كان عليه إخراجه، توضيحه أن دم الإحصار بمنزلة نفقة الرجوع، ونفقة الرجوع في مال البيت وكان الحاج هو المنتفع به، فكذلك دم الإحصار في ماله وإن كان الحاج هو المنتفع به، ثم يرد ما بقي من المال على وصي الميت فيحج به إنسانا من حيث يبلغ، ولا ضمان عليه فيما أنفق؛ لأنه لم يكن مخالفا لأمر الميت فيما أنفق، ألا ترى أنه لو مات في الطريق لم يضمن ما أنفق فكذلك إذا أحصر، وقوله "من حيث يبلغ" يعني إذا كان ما بقي من المال لا يمكن أن يحج به من منزل الميت فيحج به من حيث يمكن وصار هذا كما لو لم يبلغ في الابتداء ثلث ماله إلا هذا القدر فيحج به بحسب الإمكان. وأصل المسألة أن من أوصى بأن يحج عنه بثلث ماله فإنما يحج من منزله؛ لأنه لو خرج للحج بنفسه كان يخرج من منزله فكذلك يحج عنه بعد موته من منزله فإن كان ثلث ماله لا يكفي للحج من منزله يحج عنه من حيث يبلغ استحسانا وفي القياس تبطل هذه الوصية؛ لأنه عجز الوصي عن تنفيذ ما أمر به وهو الحج من منزله فكان هذا بمنزلة ما إذا أوصى بأن يشترى نسمة بألف درهم فتعتق عنه وكان ثلث ماله دون الألف درهم تبطل الوصية، وجه الاستحسان أن المقصود من الحج ابتغاء مرضاة الله تعالى ونيل الثواب فيكون بمنزلة الوصية بالصدقة، وذلك ينفذ بحسب الإمكان بخلاف الوصية بالعتق فإن العبد إن كان معينا فالوصية تقع له، وكذلك إن لم يكن معينا فإنما أوصى بعبد يساوي ألفا فلا يجوز تنفيذه بعبد يساوي خمسمائة فلو وجدوا من يحج عن الميت من منزله بذلك المال ماشيا لا يجوز لهم أن يحجوا من منزله، وإنما يجوز من حيث يبلغ راكبا حتى قال محمد - رحمه الله تعالى - في النوادر: راكب البعير في ذلك أفضل من راكب الحمار، وهذا لأنه لا يلزمه أن يحج بنفسه ماشيا إن وجد النفقة فكذلك لا يحج عنه ماشيا؛ لأن الحاصل للميت ثواب النفقة على ما بينا. وروى الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - قال: الخيار إلى الوصي إن شاء أحج عنه من حيث يبلغ راكبا، وإن شاء من منزله ماشيا؛ لأن في أحد الجانبين زيادة في المسافة ونقصانا في النفقة، وفي الجانب الآخر زيادة في النفقة ونقصان في المسافة، وفي كل واحد منهما نيل الثواب فيختار الوصي أي الجانبين شاء، فأما المحصر بعدما تحلل فعليه قضاء الحج والعمرة بمنزلة ما لو كان أحرم عن نفسه فتحلل بالهدي، وهذا شاهد لمحمد - رحمه الله تعالى - فإن المحصر غير مخالف ومع ذلك كان قضاء الحجة والعمرة عليه فدل أن أصل حجه عن نفسه وأن للميت ثواب النفقة فإن أمره رجلان كل واحد منهما بالحج فأهل بحجة عنهما كان ضامنا لهما جميعا؛ لأن كل واحد منهما أمره بأن ينفق من ماله في سفر يخلص له وأن ينويه بعينه عند الإحرام، وإذا لم يفعل صار مخالفا، ولا يستطيع أن يجعل الحجة لواحد منهما؛ لأنهما قد لزماه عن نفسه، وهذا لأنه حين نواهما، ولم يمكن تصحيح نيته عنهما؛ لأن الحجة الواحدة لا تكون عن الاثنين، وليس أحدها بأولى من الآخر فبطلت نيته عنهما فبقيت نية أصل الإحرام فكان محرما عن نفسه فلا يستطيع أن يحوله إلى غيره من بعد، وهذا بخلاف من أحرم عن أبويه كان له أن يجعله عن أيهما شاء؛ لأنه متبرع، وكان ذلك أمرا بينه وبين الله تعالى فلا يتحقق الخلاف في تركه تعيين أحدهما في الابتداء بل يجعل التعيين في الانتهاء كالتعيين في الابتداء وهنا هو غير متبرع فيما صنع، وهذا أمر بينه وبين العباد فبترك التعيين في الابتداء يصير مخالفا، وإن أمره أحدهما بالحج والآخر بالعمرة، ولم يأمراه بالجمع فجمع بينهما كان مخالفا أيضا؛ لأنه ما أتى بسفر خالص لواحد منهما فلم يكن مستوجبا للنفقة في مال واحد منهما. وإن أمراه بالجمع جاز؛ لأن كل واحد منهما صرح أن مقصوده تحصيل النسك لا خلوص السفر له، وقد حصل مقصود كل واحد منهما ولا ضمان عليه فيما أنفق من مالهما، وهدي المتعة عليه في ماله، وكذلك إن أمره بالقران رجل واحد؛ لأن الهدي نسك وسائر المناسك على الحاج فكذا هذا النسك [استأجر رجلا ليحج عنه] (قال): رجل استأجر رجلا ليحج عنه لم تجز الإجارة عندنا، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - تجوز، وأصل المسألة أن الاستئجار على الطاعات التي لا يجوز أداؤها من الكافر لا يجوز عندنا، وعند الشافعي - رضي الله عنه - كل ما لا يتعين على الأجير أداؤه يجوز الاستئجار عليه إذا كان تجزي فيه النيابة واستدل بحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - «حيث رقى الملدوغ بفاتحة الكتاب فأعطي قطيعا من الغنم فسأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق» والرقية بهذه الصفة طاعة، ثم جوز أخذ البدل عليه. والمعنى فيه أن الحج تجزي فيه النيابة في الأداء ولا يتعين على الأجير إقامته فيجوز استئجاره عليه كبناء الرباط والمسجد، وبهذا الوصف تبين أن عمل الأجير وقع للمستأجر والدليل عليه أنه استوجب النفقة في ماله عندكم، وإنما يستوجب النفقة في ماله إذا عمل له والدليل عليه أنه إذا خالف لا يستوجب النفقة عليه وإذا وقع عمله له استحق الأجر عليه بخلاف من استؤجر على الإمامة فإن عمله في الصلاة يقع له لا لغيره، وكذلك من استؤجر على الجهاد فإن المجاهد يؤدي الفرض لنفسه فلا يكون عمله لغيره، وحجتنا في ذلك حديث مرداس السلمي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياك والخبز الرقاق والشرط على كتاب الله»، وحديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - حين علم سورة من القرآن فأعطى قوسا، فقال - صلى الله عليه وسلم - «أتحب أن يقوسك الله بقوس من النار، فقال: لا، فقال صلوات الله عليه رد عليه قوسه»، وفي حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا»، ولأن المباشر لعمل الطاعة عمله لله تعالى فلا يصير مسلما إلى المستأجر فلا يجب الأجر عليه بخلاف بناء الرباط والمسجد فالعمل هناك ليس بعبادة محضة بدليل أنه يصح من الكافر، والدليل عليه أن المؤذن والمصلي خليفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ما كان يأخذ أجرا كما قال الله تعالى {قل لا أسألكم عليه أجرا} [الأنعام: 90] الآية فكذلك الخليفة. وأما حديث الرقية قلنا كان ذلك مالا أخذه من الحربي بطريق الغنيمة، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اضربوا لي فيها بسهم» مع أن ذلك لم يكن مشروطا بعينه ما ليس بمشروط يجوز أخذه، وإذا ثبت أن الاستئجار على الحج لا يجوز، قلنا: العقد الذي لا جواز له بحال يكون وجوده كعدمه، وإذا سقط اعتبار العقد بقي أمره بالحج فيكون له نفقة مثله في ماله، وهذه النفقة ليس يستحقها بطريق العوض، ولكن يستحق كفايته؛ لأنه فرغ نفسه لعمل ينتفع به المستأجر فيستحق الكفاية في ماله كالقاضي يستحق كفايته في بيت المال والعامل يستحق الكفاية في مال الصدقة والمرأة تستحق النفقة في مال الزوج لا بطريق العوض (قال): ويجوز حجة الإسلام عن المحبوس إذا مات قبل أن يخرج؛ لأنه قد تحقق اليأس عن الأداء بالبدن. (قال): والحاج عن غيره إن شاء قال: لبيك عن فلان، وإن شاء اكتفى بالنية بمنزلة الحاج عن نفسه إن شاء صرح بالحج عند الإحرام وإن شاء نوى واكتفى بالنية (قال): وإن كان الميت أوصى بالقران فخرج المجهز يؤم البيت وساق هديا فقلده يكون محرما بهما جميعا؛ لأن إحرامه عن غيره معتبر بإحرامه عن نفسه، وقد بينا أن ذلك يحصل بسوق الهدي كما يحصل بالتلبية فكذلك إحرامه عن غيره، وكذلك إن لم يكن الهدي لقرانه إنما هو من نذر كان عليه أو من جزاء صيد أو من جماع في إحرام قبل هذا أو إحصار كان قبل هذا فساق معه لذلك هديا بدنة وقلدها فهو محرم على قياس ما لو نوى الإحرام عن نفسه فإنه يصير محرما بتقليد هذه الهدايا وسوقها فكذلك إذا نوى الإحرام عن غيره؛ لأن هذه الهدايا عليه في ماله على كل حال (قال): رجل أمره رجلان أن يحج عن كل واحد منهما فأهل بحجة عن أحدهما لا ينوي عن واحد منهما، قال: له أن يصرفه إلى أيهما شاء في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى: أرى ذلك عن نفسه وهو ضامن لنفقتهما، وحجته في ذلك أنه مأمور من كل واحد منهما بتعيين النية له، فإذا لم يفعل صار مخالفا كما إذا نوى عنهما جميعا بخلاف الحاج عن الأبوين فإنه غير مأمور به من جهتهما. ألا ترى أنه يصح نيته عنهما فكذلك عن أحدهما بغير عينه، وهذا لأن النية بمنزلة الركن في العبادات فإن قيمة العمل يكون بالنية فبتركه تعيين النية يكون مخالفا في حق كل واحد منهما وهما قالا: الإبهام في الابتداء لا يمنع من انعقاد الإحرام صحيحا والتعيين في الانتهاء بمنزلة التعيين في الابتداء. ألا ترى أنه لو أحرم لا ينوي حجة ولا عمرة بعينها كان له أن يعين في الانتهاء ويجعل ذلك كتعيينه في الابتداء، وهذا لأن الإحرام بمنزلة الشرط لأداء النسك. ألا ترى أنه يصح في غير وقت الأداء ولا يتصل به الأداء فتركه نية التعيين فيه لا يجعله مخالفا، وإذا عين قبل الاشتغال بعمل الأداء كان ذلك كالتعيين في الابتداء حتى أنه لو اشتغل بالطواف قبل التعيين لم يكن له أن يعين بعد ذلك عن واحد منهما؛ لأنه لما اشتغل بالعمل تعين إحرامه عن نفسه فإن أداء العمل مع إبهام النسك لا يكون، وليس أحدهما بأولى من الآخر فتعين إحرامه عن نفسه فلا يملك أن يجعله لغيره بعد ذلك (قال): وإذا أهل الرجل عن نفسه وعن ولده الصغير الذي معه، ثم أصاب صيدا فعليه دم واحد ولا يجب عليه من جهة إهلاله عن ابنه شيء؛ لأن عبارته في إهلاله عن ابنه كعبارة ابنه أن لو كان من أهله فيصير الابن محرما بهذا لا أن يصير الأب محرما عنه بقي للأب إحرام واحد فعليه جزاء واحد بخلاف القارن فهو محرم عن نفسه بإحرامين فكان عليه جزاءان ![]()
__________________
|
|
#3
|
||||
|
||||
![]() الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (ت ٤٨٣ هـ) عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس) المجلد الرابع صـــ 160 الى صـــ 169 (83) (قال): وإذا أم الرجل البيت فأغمي عليه فأهل عنه أصحابه بالحج ووقفوا به في المواقف وقضوا له النسك كله، قال: يجزيه ذلك عن حجة الإسلام في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى: لا يجزيه. والقياس قولهما؛ لأنه لم يأمر أصحابه بالإحرام عنه، وليس للأصحاب عليه ولاية فلا يصير هو محرما بإحرامهم عنه؛ لأن عقد الإحرام عقد لازم وإلزام العقد على الغير لا يكون إلا بولاية، ولأن الإحرام لا ينعقد إلا بالنية، وقد انعدمت النية من المغمى عليه حقيقة وحكما؛ لأن نية الغير عنه بدون أمره لا تقوم مقام نيته، والدليل عليه أن سائر المناسك لا تتأدى بأداء الأصحاب عنه فكذلك الإحرام، وجه قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وهو أنه لما عاقدهم عقد الرفقة فقد استعان بهم في كل ما يعجز عن مباشرته بنفسه، والإذن دلالة بمنزلة الإذن إفصاحا كما في شرب ماء السقاية وكمن نصب القدر على الكانون وجعل فيه اللحم وأوقد النار تحته فجاء إنسان وطبخه لم يكن ضامنا لوجود الإذن دلالة، وإذا ثبت الإذن قامت نيتهم مقام نيته كما لو كان أمرهم بذلك نصا. وأما سائر المناسك فالأصح أن نياتهم عنه في أدائها صحيح إلا أن الأولى أن يقفوا به وأن يطوفوا به ليكون أقرب إلى أدائه لو كان مفيقا، ولو أدوا عنه جاز. ومن أصحابنا من فرق، فقال: الإحرام بمنزلة الشرط فتجزي النيابة في الشروط، وإن كان لا تجزي في الأعمال. ألا ترى أن المحدث إذا غسل أعضاءه غيره كان له أن يصلي بتلك الطهارة، وإن كانت النيابة لا تجزي في أعمال الصلاة. توضيحه أن النيابة عند تحقق العجز ففي أصل الإحرام تحقق عجزه عنه بسبب الإغماء فينوب عنه أصحابه، فأما في أداء الأعمال لم يتحقق العجز؛ لأنهم إذا أحضروه المواقف كان هو الواقف، وإذا طافوا به كان هو الطائف بمنزلة من طاف راكبا لعذر (قال): فإن أصاب الذي أهل عن المغمى عليه صيدا فعليه الجزاء من قبل إهلاله عن نفسه إن كان محرما، وليس عليه من جهة إهلاله عن المغمى عليه شيء لما بينا أن بهذا الإهلال يصير المغمى عليه محرما كما لو كان أمره به إفصاحا، فأما المهل بهذا الإهلال لا يصير محرما فلا يلزمه الجزاء باعتبار إحرامه (قال): وإذا حج الرجل عن أبيه أو عن أمه حجة الإسلام من غير وصية أوصى بها الميت أجزأه إن شاء الله تعالى. (قال): بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه قال للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أما كان يقبل منك، فقالت: نعم، فقال صلوات الله عليه الله أحق أن يقبل»، وفي الحديث الآخر «قال - صلى الله عليه وسلم - للتي سألته أن تحج عن أبيها: حجي واعتمري» وأن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: «يا رسول الله إن أمي قد توفيت وأنها كانت تحب الصدقة أفأتصدق عنها، فقال:» فهذه الآثار تدل على الوارث يتبرع على مورثه بمثل هذه القرب فإن قيل فلماذا قيد الجواب بالاستثناء بعد ما صح الحديث فيه. (قلنا)؛ لأن خبر الواحد لا يوجب علم اليقين فإن قيل فقد أطلق الجواب في كثير من الأحكام الثابتة بخبر الواحد. (قلنا) خبر الواحد موجب للعمل ففيما طريقه العمل أطلق الجواب فيه، فأما سقوط حجة الإسلام عن الميت بأداء الورثة طريقه العلم فإنه أمر بينه وبين ربه تعالى فلهذا قيد الجواب بالاستثناء (قال): رجل أوصى بحجة فأحج الوصي عنه رجلا فهلكت النفقة من ذلك الرجل قال: يحج عنه حجة أخرى من ثلث ما بقي من المال، وهذا قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، فأما عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - إن بقي من ثلث مال الميت ما يمكن أن يحج به يحج عنه ثانيا وإلا فقد بطلت الوصية، وعند محمد - رحمه الله تعالى - الوصية تبطل؛ لأن الوصي قائم مقام الموصي في تعيين المال، ولو عين الموصي مالا فهلك بطلت الوصية فكذلك إذا عين الوصي وأبو يوسف يقول: محل الوصية الثلث فتعيين الوصي الثلث صحيح؛ لأن به يتميز الثلث للوصية، فأما تعيينه في الثلث غير صحيح؛ لأن جميع الثلث محل الوصية فما بقي شيء يجب تنفيذ الوصية فيه. وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول: تعيين المال ليس بمقصود، وإنما المقصود به الحج عن الميت، فإذا لم يفد هذا التعيين ما هو المقصود صار كأن التعيين لم يوجد وما هلك من المال صار كأن لم يكن فلهذا يحج عنه بثلث ما بقي (قال): وإن أوصى بحجة وعتق نسمة والثلث لا يسعهما يبدأ بالذي بدأ به الميت؛ لأن البداية تدل على زيادة العناية، وقد ثبت وجوب تنفيذ الوصية الأولى قبل ذكر الثانية فلا يتغير ذلك بذكر الوصية الثانية إذ ليس في آخر كلامه ما يغير موجب أوله إلا أن يكون الحج حجة الإسلام فحينئذ يبدأ بها، وإن أخره الميت؛ لأن الترجيح بالبداية بعد المساواة في القوة ولا مساواة بين الفرض والنفل في القوة، ولأن الظاهر أن الموصى يقصد تقديم الفرض في الأداء، وإن أخره في الذكر؛ لأن إسقاط الفرض عن ذمته يترجح عنده على التبرع بما ليس عليه (قال): وإن أوصى بأن يحج عنه بثلثه، ولم يقل "حجة" حج عنه بجميع الثلث؛ لأنه جعل الثلث مصروفا إلى هذا النوع من القربة فيجب تحصيل مقصوده في جميع الثلث كما لو أوصى أن يفعل بثلثه طاعة أخرى (قال): وإن أوصى أن يحج رجل حجة فأحجوه فلما قدم فضل معه كسوة ونفقة فإن ذلك لورثة الميت؛ لأن الحاج عن الغير لا يتملك المال المدفوع إليه فإن التمليك يكون بطريق الاستئجار، وقد بينا بطلان الاستئجار على الطاعة، وإنما ينفق المال على ملك الموصي بطريق الإباحة لاستحقاقه الكفاية حين فرغ نفسه ليعمل له فما فضل من ذلك يكون باقيا على ملك الميت فيرد على ورثته (قال): وإذا أوصى لرجل، فقال: أحجوا فلانا حجة، ولم يقل عني، ولم يسم كم يعطى فإنه يعطى بقدر ما يحجه حجة وله أن لا يحج به إذا أخذه بل يصرفه إلى حاجة أخرى؛ لأنه ما أمره بالحج عنه، إنما جعل ذلك الحج عيارا لما أوصى له به من المال، ثم أشار عليه بأن يحج بذلك المال عن نفسه فكانت وصية صحيحة يجب تنفيذها بالدفع إليه، ومشورته غير ملزمة فإن شاء حج به، وإن شاء لم يحج (قال): وإذا أوصى أن يحج عنه رجل بعينه أو بغير عينه وأوصى بوصايا لأناس بأكثر من الثلث قسم الثلث بينهم بالحصص يضرب للحج فيه بأدنى ما يكون من نفقة الحج؛ لأن الوصية بالحج وجب تنفيذها له بنفقة الموصي ووجب تنفيذ سائر الوصايا حقا للموصى لهم فعند اختلاف الحقوق تجري المزاحمة بينهم في الثلث لمراعاة حق كل مستحق بخلاف ما ذكرنا من الحج والعتق؛ لأن تنفيذ الوصيتين هناك لحق الموصي فلهذا كانت البداية بما بدأ به الميت، ثم ما خص الحج من الثلث هنا يحج به من حيث يبلغ؛ لأنه هو الممكن من تحصيل مقصود الموصي بمنزلة ما لو لم يكن ثلث ماله إلا هذا وأوصى بأن يحج عنه فإنه يحج من حيث يبلغ فإن أحجوا به من موضع فرجع الحاج بفضل نفقة وكسوة فقد تبين أنهم أخطئوا فكان الوصي ضامنا لما أنفقه فيضم ذلك إلى ما بقي ويحج به عن الميت من حيث يبلغ إلا إذا كان الفاضل شيئا يسيرا فحينئذ هذا والأول سواء في القياس، ولكن في الاستحسان تجزي الحجة عن الميت ولا يكون الوصي ضامنا؛ لأن اليسير من التفاوت لا يمكن الاحتراز عنه فلا بد من أن يبقى بعد رجوعه كسرة أو جراب خلق أو ثوب خلق فلهذا جعل هذا القدر عفوا، ولكن يرد على الورثة أو على الموصى له إن كان هناك موصى له بالثلث (قال): وإذا أهلت المرأة بحجة الإسلام لم يكن لزوجها أن يمنعها إذا كان معها محرم، وإن لم يكن معها محرم كان له أن يمنعها وهي بمنزلة الحرة المحصرة، وقد بينا فيما تقدم أن من شرائط وجوب الحج عليها في حقها المحرم عندنا، ثم يشترط أن تملك قدر نفقة المحرم؛ لأن المحرم إذا كان يخرج معها فنفقته في مالها إلا في رواية عن محمد - رحمه الله تعالى - يقول: نفقة المحرم في ماله؛ لأنه غير مجبر على الخروج، فإذا تبرع به لم يستوجب بتبرعه النفقة عليها، ولكن في ظاهر الرواية هي لا تتوسل إلى الحج إلا بنفقة المحرم كما لا تتوسل إلى الحج إلا بنفقتها فكما يشترط لوجوب الحج عليها ملك الزاد والراحلة ويجعل ذلك شرطا لنفسها فكذلك للمحرم الذي يخرج معها يجعل ذلك شرطا، وقد بينا شرائط الوجوب فيما سبق، ولم يتعرض في شيء من المواضع لا من الطريق واختلف مشايخنا أن أمن الطريق شرط للوجوب أم شرط للأداء؟ وكان ابن أبي شجاع - رحمه الله تعالى - يقول: هو شرط للوجوب؛ لأن بدونه يتعذر الوصول إلى البيت إلا بمشقة عظيمة فيكون شرط الوجوب كالزاد والراحلة، وكان أبو حازم - رحمه الله تعالى - يقول: هو شرط الأداء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لما سئل عن الاستطاعة فسرها بالزاد والراحلة»، ولا تجوز الزيادة في شرط وجوب العبادة بالرأي، ولم يكن الطريق في وقت أخوف مما كان يومئذ لغلبة أهل الشرك في ذلك الموضع، ولم يشترط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمن الطريق فدل أن ذلك ليس من شرائط الوجوب إنما شرط الوجوب ملك الزاد والراحلة للذهاب والمجيء وملك نفقة من تلزمه نفقته من العيال كالزوجة والولد الصغير، وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - مع ذلك زيادة نفقة شهر؛ لأن الظاهر أنه إذا رجع لا يشتغل بالكسب إلا بعد مدة فاستحسن اشتراط ملك نفقة شهر بعد رجوعه، ثم بعد استجماع شرائط الوجوب يجب على الفور حتى يأثم بالتأخير عند أبي يوسف رواه عنه بشر بن المعلى، وهكذا ذكر ابن شجاع عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى - قال: سئل عمن له مال أيحج به أم يتزوج قال: بل يحج به فذلك دليل على أن الوجوب عنده على الفور. وعن محمد - رحمه الله تعالى - يسعه التأخير بشرط أن لا يفوته بالموت فإن أخر حتى مات فهو آثم بالتأخير، وعند الشافعي - رحمه الله تعالى - لا يأثم بالتأخير، وإن مات واستدل محمد بتأخير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحج بعد نزول فرضيته فإنها نزلت فرضية الحج في سنة ست من الهجرة وحج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنة عشر. والمعنى فيه أن الحج فرض العمر فكان جميع العمر وقت أدائه ولا يستغرق جميع العمر أداؤه فصار جميع الوقت في حق الحج كجميع وقت الصلاة في حق الصلاة وهناك التأخير يسعه بشرط أن لا يفوته عن وقته، ودليل صحة هذا الكلام أنه إذا أخره كان مؤديا لا قاضيا فدل أن جميع العمر وقت أدائه وأبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله تعالى - استدلا بقوله - صلى الله عليه وسلم - «من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى، ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا» الحديث، وقال عمر - رضي الله عنه - لقد هممت أن أنظر إلى من ملك الزاد والراحلة، ولم يحج فأحرق عليهم بيوتهم، والله ما أراهم مسلمين قالها ثلاثا. والمعنى فيه أن السنة الأولى بعد ما تمت الاستطاعة متعينة لأداء الحج بعد دخول وقت الحج فالتأخير عنه يكون تفويتا كتأخير الصوم عن شهر رمضان وتأخير الصلاة عن وقتها بيانه وهو أن يمضي هذا الوقت يعجز عن الأداء بيقين، وقدرته على الأداء بمجيء أشهر الحج من السنة الثانية موهوم فربما لا يعيش إليها وبالموهوم لا تثبت القدرة فبقي مضي هذا الوقت تفويتا له، توضيحه أن وقت أداء أشهر الحج من عمره لا من جميع الدنيا، وهذه السنة متعينة لذلك؛ لأن عدم التعيين لاعتبار المعارضة ولا تتحقق المعارضة إلا أن يتيقن بحياته إلى السنة الثانية ولا طريق لأحد إلى معرفة ذلك، ولهذا قلنا لو أخره كان مؤديا؛ لأنه لما بقي إلى السنة الثانية تحققت المعارضة فخرجت السنة الأولى من أن تكون متعينة وكانت هذه السنة في حقه تعد لما أدركها بمنزلة السنة الأولى، فأما تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد منع ذلك بعض مشايخنا - رحمهم الله تعالى - فقالوا نزول فريضة الحج بقوله تعالى {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] ، وإنما نزلت هذه الآية في سنة عشر، فأما النازل سنة ست فقوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] ، وهذا أمر بالإتمام لمن شرع فيه فلا يثبت به ابتداء الفرضية مع أن التأخير إنما لا يحل لما فيه من التعريض للفوت، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمن من ذلك؛ لأنه مبعوث لبيان الأحكام للناس والحج من أركان الدين فأمن أن يموت قبل أن يبينه للناس بفعله ولأن تأخيره كان لعذر، وذلك أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويلبون تلبية فيها شرك وما كان التغيير ممكنا للعهد حتى إذا تمت المدة بعث عليا - رضي الله تعالى عنه - حتى قرأ عليهم سورة براءة ونادى أن لا يطوفن بهذا البيت بعد هذا العام مشرك ولا عريان، ثم حج بنفسه ومن ذلك أنه كان لا يستطيع الخروج وحده بل يحتاج إلى أصحابه يكونون معه، ولم يكن متمكنا من تحصيل كفاية كل واحد منهم ليخرجوا معه فلهذا أخره أو كان للنسيء الذي كان يفعله أهل الجاهلية، وقد بينا هذه الأعذار في الخلافيات (قال): وإن أهلت المرأة بغير حجة الإسلام فللزوج أن يمنعها من الخروج إن كان لها محرم أو لم يكن؛ لأنها ممنوعة عن التطوع بغير إذن الزوج قال - صلى الله عليه وسلم - لتلك المرأة «لا تصومي تطوعا إلا بإذن زوجك» ولأنا لو مكناها من ذلك فوتت على الزوج حقه أصلا؛ لأنها كما خرجت عن حجة أحرمت بأخرى وهي لا تملك تفويت حق الزوج عليه فلهذا كان له أن يمنعها وهي بمنزلة المحصرة إلا أن للزوج أن يحللها هنا قبل أن تبعث بالهدي ليوفر حقه عليه بخلاف ما إذا عدمت المحرم في حجة الإسلام، وقد بينا هذا فيما سبق، وكذلك المملوك إذا أهل بغير إذن المالك. (قال): وإذا أذن لعبده أو لأمته في الإحرام كرهت له أن يمنعه بعد ذلك، ولو حلله جاز بخلاف الزوج، وقد تقدم بيان هذا الفرق أيضا أعاده للفرق وهو أنه لما باع المملوك بعد الإذن له فللمشتري أن يحلله بغير كراهة عندنا؛ لأن الكراهة في حق البائع كان لمعنى خلف الوعد، وذلك غير موجود في حق المشتري، وعلى قول زفر - رحمه الله تعالى - ليس للمشتري أن يحلله ويكون له أن يرده عليه بعيب الإحرام، وجعله بمنزلة النكاح إذا زوج أمته ثم باعها لم يكن للمشتري أن يبطل ذلك النكاح؛ لأنه سبق ملكه، ولكن يجوز له أن يردها إذا لم يكن عالما به فكذلك هنا، ولكنا نقول المشتري في ملك الرقبة قائم مقام البائع، ولم يكن للبائع ولاية إبطال النكاح بعد صحته فلا يكون ذلك للمشتري أيضا، وقد كان للبائع ولاية التحليل من الإحرام قبل أن يبيعه، فيكون ذلك للمشتري أيضا، وإذا ثبت له ولاية التحليل لم يكن ذلك عيبا لازما، توضيحه أن النكاح حق العباد فيكون معارضا لحق المشتري فيترجح عليه بالسبق، فأما الإحرام لزومه ليس لحق العباد، وحق العبد في المحل مقدم على حق الله تعالى فلهذا كان للمشتري أن يحلله، وعلى هذا الخلاف إذا أحرمت المرأة، ثم تزوجت كان للزوج أن يحللها إذا أحرمت بغير حجة الإسلام عندنا، وعند زفر ليس له ذلك، وإن أحرمت المرأة بحجة التطوع بغير إذن زوجها فحللها، ثم جامعها، ثم بدا له أن يأذن لها في عامه ذلك فعليها أن تحج بإحرام مستقبل وعليها دم؛ لأنها قد تحللت من الإحرام الأول بإحلال الزوج قبل أداء الأعمال فعليها الدم وقضاء الحج، وليس عليها قضاء العمرة عندنا، وقال زفر - رحمه الله تعالى: عليها ذلك بمنزلة ما لو أذن لها بعد تحول السنة، وهذا لأن بالتحلل الأول وجب عليها قضاء حجة وعمرة كما هو الحكم في المحصر وصار ذلك دينا في ذمتها فلا فرق بين أن يأذن لها في عامه ذلك أو في عام آخر وحجتنا في ذلك أن وجوب العمرة على المحصر باعتبار فوت أداء الحج في السنة بالقياس على فائت الحج فإن فائت الحج يلزمه أداء العمرة، فإذا أذن لها فحجت في هذه السنة لم يتحقق سبب وجوب العمرة عليها، فأما بعد تحول السنة فقد تحقق سبب وجوب العمرة عليها وهو فوات أداء الحج في السنة الأولى فلهذا فرقنا بينهما، والله أعلم بالصواب. [باب المواقيت] (باب المواقيت) (قال) : بلغنا «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام جحفة ولأهل نجد قرنا ولأهل اليمن يلملم ولأهل العراق ذات عرق»، وهذا الحديث مروي عن عائشة - رضي الله عنها -، فأما ابن عباس روى الحديث وذكر المواقيت الأربعة، ولم يذكر ذات عرق لأهل العراق، وابن عمر - رضي الله عنه - روى الحديث وذكر المواقيت الثلاث، ولم يذكر ذات عرق ولا يلملم وفي هذه - الآثار دليل على أن كل من وصل إلى شيء من هذه المواقيت وهو يريد دخول مكة يلزمه الإحرام؛ لأن توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخلو عن فائدة ولا فائدة في هذه المواقيت سوى المنع من تأخير الإحرام بعد ما انتهى إلى هذه المواقيت فإن قبل ذلك كان يسعه التأخير بالاتفاق والشافعي - رحمه الله تعالى - لظاهر الحديث يقول: الأفضل أن يكون إحرامه عند الميقات وعلماؤنا - رحمهم الله تعالى - قالوا: التأقيت لبيان أنه لا يسعه التأخير عنه، فأما الأفضل أن يحرم قبل أن ينتهي إلى المواقيت لحديث أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفرت له ذنوبه، وإن كانت أكثر من زبد البحر ووجبت له الجنة»، وقال علي وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهما - في تفسير قوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] : إن إتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله، قال: وبلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من وقتنا له وقتا فهو له وقت ولمن مر به من غير أهله ممن أراد الحج والعمرة» ففي هذا دليل أن كل من ينتهي إلى الميقات على قصد دخول مكة أن عليه أن يحرم من ذلك الميقات سواء كان من أهل ذلك الميقات أو لم يكن، ألا ترى أن من دخل مكة من أهل الآفاق حلالا فأراد أن يحرم بالحج كان ميقاته للإحرام ميقات أهل مكة فكذا هنا، ثم أخذ الشافعي - رحمه الله تعالى - بظاهر هذا الحديث، فقال: إنما يجب الإحرام عند الميقات على من أراد دخول مكة للحج أو العمرة. وأما من أراد دخولها لقتال فليس عليه الإحرام عنده قولا واحدا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلها يوم الفتح بغير إحرام، وإن أراد دخولها للتجارة أو طلب غريم له فله فيه قولان: في أحد قوليه "لا يلزمه الإحرام" ؛ لأن الإحرام غير مقصود لعينه بل لأداء النسك به، وهذا الرجل غير قاصد أداء النسك فكان الحرم في حقه كسائر البقاع فكان له أن يدخلها بغير إحرام، فأما عندنا ليس لأحد ينتهي إلى الميقات إذا أراد دخول مكة أن يجاوزها إلا بالإحرام سواء كان من قصده الحج أو القتال أو التجارة لحديث ابن شريح الخزاعي - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم الفتح إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة» فقد ترخص للقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال «إنما أحلت لي ساعة» فلا تحل لأحد بعده فيتبين بهذا الحديث خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بدخول مكة للقتال بغير إحرام، وإنما تظهر الخصوصية إذا لم يكن لغيره أن يصنع كصنيعه. وجاء رجل إلى ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، فقال: إني جاوزت الميقات من غير إحرام، فقال: ارجع إلى الميقات ولب وإلا فلا حج لك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يجاوز الميقات أحد إلا محرما» ولأن وجوب الإحرام على من يريد الحج والعمرة عند دخول مكة لإظهار شرف تلك البقعة، وفي هذا المعنى من يريد النسك ومن لا يريد النسك سواء فليس لأحد ممن يريد دخول مكة أن يجاوز الميقات إلا محرما، فأما من كان وراء الميقات إلى مكة فله أن يدخلها لحاجته بغير إحرام عندنا، وفي أحد قولي الشافعي - رحمه الله تعالى - ليس له ذلك فإنه لا يفرق على أحد القولين بين أهل الميقات وأهل الآفاق في أنه لا يدخل أحد منهم مكة إلا محرما، وحجتنا في ذلك حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «رخص للحطابين أن يدخلوا مكة بغير إحرام». والظاهر أنهم لا يجاوزون الميقات فدل أن كل من كان داخل الميقات له أن يدخل مكة بغير إحرام وابن عمر - رضي الله عنه - خرج من مكة يريد المدينة فلما انتهى إلى قديد بلغته فتنة بالمدينة فرجع إلى مكة ودخلها بغير إحرام وكان المعنى فيه أن من كان داخل الميقات فهو بمنزلة أهل مكة؛ لأنه محتاج إلى الدخول في كل وقت، ولأن مصالحهم متعلقة بأهل مكة ومصالح أهل مكة متعلقة بهم بهم فكما يجوز لأهل مكة أن يخرجوا لحوائجهم، ثم يدخلوها بغير إحرام فكذا لأهل الميقات، وهذا لأنا لو ألزمناهم الإحرام في كل وقت كان عليهم من الضرر ما لا يخفى فربما يحتاجون إليه في كل يوم فلهذا جوزنا لهم الدخول بغير إحرام إلا إذا أرادوا النسك فالنسك لا يتأدى إلا بإحرام، وإرادة النسك لا تكون عند كل دخول، وإذا أراد الإحرام وأهله في الوقت أو دون الوقت إلى مكة فوقته من أهله حتى لو أحرموا من الحرم أجزأهم، وليس عليهم شيء؛ لأن خارج الحرم كله بمنزلة مكان واحد في حقه والحرم حد في حقه بمنزلة الميقات في حق أهل الآفاق، وكما أن ميقات الآفاقي للإحرام من دويرة أهله ويسعه التأخير إلى الميقات فكذا هنا يسعه التأخير إلى الحرم، ولكن الشرط هناك أن لا يجاوز الميقات إلا محرما والشرط هنا أن لا يدخل الحرم إلا محرما؛ لأن تعظيم الحرم بهذا يحصل، فإن دخل مكة قبل أن يحرم فأحرم منها فعليه أن يخرج من الحرم فيلبي فإن لم يفعل حتى يطوف بالبيت فعليه دم؛ لأنه ترك الميقات المعهود في حقه للإحرام فهو بمنزلة الآفاقي يجاوز الميقات بغير إحرام، ثم يحرم وراء الميقات، وهناك يلزمه الدم إذا لم يعد لتأخير الإحرام عن مكانه فكذلك هنا يلزمه الدم إذا لم يعد إلى الحل، وإن عاد فالخلاف فيه مثل الخلاف في الآفاقي إذا عاد إلى الميقات بعد ما أحرم وراء الميقات على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى (قال): وإن أراد الكوفي بستان بني عامر لحاجة فله أن يجاوز الميقات غير محرم؛ لأن وجوب الإحرام عند الميقات على من يريد دخول مكة، وهذا لا يريد دخول مكة إنما يريد البستان، وليس في تلك البقعة ما يوجب التعظيم لها فلهذا لا يلزمه الإحرام، فإذا حصل بالبستان، ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة له كان له أن يدخلها بغير إحرام؛ لأنه لما حصل بالبستان حلالا كان مثل أهل البستان ولأهل البستان أن يدخلوا مكة لحوائجهم من غير إحرام فكذلك هذا الرجل، وهذا هو الحيلة لمن يريد دخول مكة من أهل الآفاق بغير إحرام إلا أنه روي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه إن نوى الإقامة بالبستان خمسة عشر يوما كان له أن يدخل، وإن نوى الإقامة بالبستان دون خمسة عشر يوما ليس له أن يدخل مكة إلا بالإحرام؛ لأن بنية الإقامة خمسة عشر يوما يصير متوطنا بالبستان فيصير بمنزلة أهل البستان، وإن نوى المقام بها دون خمسة عشر يوما فهو ماض على سفره فلا يدخل مكة إلا بإحرام، وجه ظاهر الرواية وهو أنه حصل بالبستان قبل قصده دخول مكة، فإنما قصد دخول مكة بعد ما حصل بالبستان فكان حاله كحال أهل البستان (قال): وليس للرجل من أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة أن يقرن أو أن يتمتع وهم في ذلك بمنزلة أهل مكة أما المكي فلأنه ليس له أن يتمتع بالنص؛ لأن الله تعالى قال في ذلك {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة: 196] واختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في حاضري المسجد الحرام، فقال مالك - رحمه الله تعالى: هم أهل مكة خاصة، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - هم أهل مكة ومن يكون منزله من مكة على مسيرة لا يجوز فيها قصر الصلاة، وقلنا أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة من حاضري المسجد الحرام بمنزلة أهل مكة بدليل أنه يجوز لهم دخول مكة بغير إحرام فلا يكون لهم أن يتمتعوا وكما لا يتمتع من هو من حاضري المسجد الحرام، فكذلك لا يقرن بين الحج والعمرة. وعند الشافعي - رحمه الله تعالى - يجوز له القران من قبل أن القارن على قوله يترفه بإدخال عمل أحد النسكين في الآخر، والمكي في هذا وغيره سواء، وعندنا معنى الترفه بالقران والتمتع في أداء النسكين في سفر واحد لا في إدخال عمل أحدهما في الآخر، ومن كان من حاضري المسجد الحرام فهو غير محتاج إلى السفر لأداء المناسك ولا يلحقه بالسفر كثير مشقة فكما لا يكون له أن يتمتع بالعمرة إلى الحج فكذلك لا يكون له أن يقرن بينهما عندنا إلا أن المكي إذا كان بالكوفة فلما انتهى إلى الميقات قرن بين الحج والعمرة فأحرم لهما صح ويلزمه دم القران؛ لأن صفة القارن أن تكون حجته وعمرته متقارنتين يحرم بهما جميعا معا، وقد وجد هذا في حق المكي، ولو اعتمر هذا المكي في أشهر الحج، ثم حج من عامه ذلك لا يكون متمتعا لأن الآفاقي إنما يكون متمتعا إذا لم يلم بأهله بين النسكين إلماما صحيحا، والمكي هنا يلم بأهله بين النسكين حلالا إن لم يسق الهدي، وكذلك إن ساق الهدي لا يكون متمتعا بخلاف الآفاقي إذا ساق الهدي، ثم ألم بأهله محرما كان متمتعا؛ لأن العود هناك مستحق عليه فيمنع ذلك صحة إلمامه بأهله وهنا العود غير مستحق عليه، وإن ساق الهدي فكان إلمامه بأهله صحيحا، فلهذا لم يكن متمتعا، وعلى هذا روى هشام عن أبي يوسف - رحمهما الله تعالى - أن المكي إذا خرج إلى الكوفة، ثم مات وأوصى بأن يحج عنه من منزله وهو بمكة بمنزلة الآفاقي يخرج مسافرا فيوصي بأن يحج عنه، ولو أوصى هذا المكي بأن يقرن عنه من الكوفة؛ لأن القران لا يكون من مكة فعرفنا أن مراده أن يقرن عنه من حيث هو. (قال): والمكي إذا خرج من مكة لحاجة له فلم يجاوز الوقت فله أن يدخل مكة بغير إحرام، وإن جاوز لم يكن له أن يدخل مكة إلا بإحرام لما بينا أن من قصد إلى موضع فحاله في حكم الإحرام كحال أهل ذلك الموضع (قال): ووقت أهل مكة للإحرام بالحج الحرم، وكذلك كل من حصل بمكة حلالا لما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر أصحابه - رضي الله تعالى عنهم - بفسخ إحرام الحج والإحرام بالعمرة فحلوا منها فلما كان يوم التروية أمرهم بأن يحرموا بالحج من جوف مكة» ![]()
__________________
|
|
#4
|
||||
|
||||
![]() الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (ت ٤٨٣ هـ) عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس) المجلد الرابع صـــ 170 الى صـــ 179 (84) (قال): وميقات إحرام أهل مكة للعمرة التنعيم أو غيره من الحل؛ لأن موضع الإحرام غير موضع أداء النسك، وأداء الحج يكون بالوقوف وهو في الحل فالإحرام به يكون في الحرم وأداء نسك العمرة بالطواف وهو في الحرم فالإحرام بها يكون في الحل. (قال): كوفي جاوز الميقات نحو مكة، ثم أحرم بالحج ووقف بعرفة جاز حجه وعليه دم لترك الوقت؛ لأنه لما انتهى إلى الميقات وجب عليه الإحرام بالحج من الميقات لما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يجاوز الميقات أحد إلا محرما، فإذا جاوزه حلالا فقد ارتكب المنهي» وأخر الإحرام عن الميقات فتمكن نقصان في حجه ونقصان الحج يجبر بالدم فإن رجع إلى الميقات ولبى إن رجع قبل أن يحرم وأحرم بالحج من الميقات فلا شيء عليه بالاتفاق؛ لأنه تلافى المتروك في وقته ومكانه فصار في الحكم كأنه لم يجاوز الميقات إلا محرما فإن الواجب عليه أداء الحج بإحرام يباشره من الميقات، وقد أتى بذلك، وإن كان أحرم بعد ما جاوز الميقات، ثم عاد إلى الميقات فعلى قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - إن لبى عند الميقات يسقط عنه الدم، وإن لم يلب لم يسقط عنه الدم وعندهما يسقط عنه الدم في الحالين جميعا، وعند زفر - رحمه الله تعالى - لا يسقط عنه الدم في الوجهين؛ لأن المستحق عليه إنشاء الإحرام بالحج من الميقات، فإذا أحرم بعد ما جاوز الميقات فقد ترك ما هو المستحق عليه فلزمه الدم كما لو لم يعد، وهذا لأن الواجب عليه إنشاء تلبية واجبة عند الميقات ووجوب التلبية عند الإحرام لا بعده فهو - وإن لبى عند الميقات - فإنما أتى بتلبية غير واجبة فلا يصير به متداركا لما فاته بخلاف ما إذا عاد فأحرم من الميقات وأبو يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - يقولان: الواجب عليه أن يكون محرما عند الميقات لا أن ينشئ الإحرام عند الميقات، ألا ترى أنه لو أحرم قبل أن ينتهي إلى الميقات، ثم مر بالميقات محرما، ولم يلب عند الميقات لا يلزمه شيء، وكذلك إذا عاد إلى الميقات بعد ما أحرم، ولم يلب فقد تدارك ما هو واجب عليه وهو كونه محرما عند الميقات واستدل أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - بقول ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال لذلك الرجل: ارجع إلى الميقات وإلا فلا حج لك. والمعنى فيه أنه لما انتهى إلى الميقات حلالا وجب عليه التلبية عند الميقات والإحرام، فإذا ترك ذلك بالمجاوزة حتى أحرم وراء الميقات، ثم عاد فإن لبى فقد أتى بجميع ما هو المستحق عليه فيسقط عنه الدم، وإن لم يلب فلم يأت بجميع ما استحق عليه، وهذا بخلاف من أحرم قبل أن ينتهي إلى الميقات؛ لأن ميقاته هناك موضع إحرامه، وقد لبى عنده فقد خرج الميقات المعهود من أن يكون ميقاتا للإحرام في حقه فلهذا لا يضره ترك التلبية عنده بخلاف ما نحن فيه على ما بينا (قال): فإن قرن هذا الكوفي بعد ما جاوز الميقات فأحرم بالحج والعمرة، ولم يرجع إلى الميقات فعليه دم واحد عندنا، وقال زفر - رحمه الله تعالى - عليه دمان؛ لأنه أخر الإحرامين جميعا عن الميقات فيلزمه لكل إحرام دم، ألا ترى أن القارن إذا ارتكب سائر المحظورات يجب عليه ضعف ما يجب على المفرد فكذلك إذا أحرم وراء الميقات، وعلماؤنا قالوا: المستحق عليه عند الميقات إحرام واحد، ألا ترى أنه لو أحرم بالعمرة عند الميقات، ثم أحرم بالحج بعد ما جاوز الميقات كان جائزا ولا شيء عليه فعرفنا أن المستحق عليه عند الميقات إحرام واحد فيجب عليه بتأخير ذلك الإحرام دم واحد بخلاف سائر المحظورات فإنه صار بجنايته مرتكبا محظور إحرامين فكان عليه جزاءان. وكذلك إن أهل بعمرة بعد ما جاوز الميقات، ثم أهل بحجة بمكة فعليه دم واحد لتأخيره إحرام العمرة عن الميقات؛ لأنه لما دخل مكة بإحرام العمرة فميقات إحرامه للحج الحرم، وقد أحرم به في الحرم، وإن كان أهل بالحجة بعد ما جاوز الميقات، ثم دخل مكة فأهل بالعمرة أيضا كان عليه دمان؛ لأنه أخر إحرام الحج عن ميقاته فوجب عليه دم، ولما دخل مكة بإحرام الحجة فميقات إحرامه للعمرة الحل بمنزلة ميقات أهل مكة فحين أهل بالعمرة في الحرم فقد ترك ميقات إحرام العمرة أيضا فيلزمه لذلك دم آخر (قال): كوفي دخل مكة بغير إحرام لحاجة له، فقال: عليه حجة أو عمرة أي ذلك شاء؛ لأن دخول مكة سبب لوجوب الإحرام عليه فمباشرة ذلك السبب بمنزلة التزامه الإحرام بالنذر، وفي نذر الإحرام يلزمه حجة أو عمرة فكذلك إذا لزمه الإحرام بدخول مكة فإن رجع إلى الميقات فأهل بحجة الإسلام أجزأه عن حجة الإسلام وعما لزمه بدخول مكة استحسانا عندنا. وفي القياس لا يجزئه عما لزمه لدخول مكة وهو قول زفر - رحمه الله تعالى -؛ لأنه بدخول مكة بغير إحرام وجب عليه حجة أو عمرة وصار ذلك دينا في ذمته، وحجة الإسلام لا تنوب عما صارت نسكا دينا في ذمته، ألا ترى أنه لو تحولت السنة، ثم أحرم بالحج في السنة الثانية من الميقات لا ينوب هذا عما لزمه لدخول مكة فكذلك في السنة الأولى، ولكن استحسن علماؤنا - رحمهم الله تعالى - فقالوا: لو كان حين انتهى إلى الميقات في الابتداء أحرم بحجة الإسلام ناب ذلك عما يلزمه لدخول مكة؛ لأن الواجب عليه أن يكون محرما عند دخول مكة لا أن يكون إحرامه لدخول مكة كمن اعتكف في رمضان أجزأه؛ لأن الواجب عليه أن يكون صائما في مدة الاعتكاف لا أن يكون صومه للاعتكاف، فإذا عرفنا هذا فنقول لو أحرم عند الميقات في الابتداء كأن يؤدي حجة الإسلام بذلك الإحرام في تلك السنة، وقد أداها حين عاد إلى الميقات فأحرم بحجة الإسلام فصار به متلافيا للمتروك فيسقط عنه ما لزمه لدخول مكة، فأما بعد ما تحولت السنة لم يصر متلافيا للمتروك؛ لأنه لو أحرم بالحج في السنة الأولى لم يكن له أن يؤدي الحج بذلك الإحرام في الثانية فعرفنا أنه لا يصير متلافيا للمتروك فإن قيل أليس أنه لو عاد إلى الميقات وأحرم بعمرة منذورة لا يسقط عنها بهذا العود ما لزمه بدخول مكة وهو حين انتهى إلى الميقات لو أحرم بالعمرة المنذورة ودخل به مكة لا يلزمه شيء، ثم لا يصير به متداركا لما هو الواجب؟. (قلنا) هو خارج على ما ذكرنا؛ لأن العمرة، وإن لم تكن مؤقتة فيكره أداؤها في خمسة أيام من السنة فلو أحرم بها في الابتداء لم يكن له أن يؤخرها إلى الوقت المكروه فلا يصير بالرجوع إلى الميقات والإحرام بالعمرة متداركا للمتروك (قال): وإذا جاوز الميقات حلالا، ثم أحرم بالحج ففاته الحج سقط عنه دم الوقت عندنا، ولم يسقط عند زفر - رحمه الله تعالى -؛ لأن الدم بمجاوزة الميقات صار واجبا عليه فلا يسقط بفوات الحج كما لو وجب عليه الدم بالتطيب أو لبس المخيط لا يسقط عنه ذلك بفوات الحج، ولكنا نقول لما فاته الحج وجب عليه القضاء وهو للقضاء يحرم من الميقات فينعدم به المعنى الذي لأجله يلزمه الدم وهو أداء الحج بإحرام بعد مجاوزة الميقات بخلاف سائر الدماء؛ لأن وجوب ذلك عليه بما ارتكب من المحظورات ولا ينعدم ذلك بفوات الحج، وعلى هذا لو جامع قبل الوقوف حتى فسد حجه سقط عنه دم الوقت عندنا؛ لأن القضاء وجب عليه، فإذا عاد للقضاء يحرم من الميقات فانعدم به المعنى الذي لأجله كان يلزمه الدم [جاوز الميقات غير محرم، ثم أتى وقتا آخر فأحرم منه] (قال): وكذلك من جاوز الميقات غير محرم، ثم أتى وقتا آخر فأحرم منه أجزأه ولا شيء عليه؛ لأن إتيانه وقتا آخر بمنزلة رجوعه إلى الميقات والإحرام عنده للأصل الذي قلنا: إن من حصل في ميقات فإحرامه يكون من ذلك الميقات سواء كان من أهل ذلك الميقات أو لم يكن فإنما أحرم بالحج من ميقاته فلهذا لا يلزمه الدم (قال): عبد دخل مكة مع مولاه بغير إحرام، ثم أذن له مولاه فأحرم بالحج فعليه إذا عتق دم لترك الوقت؛ لأنه مخاطب فيتحقق منه السبب الموجب للدم وهو تأخير الإحرام بالحج من ميقاته، ولكن ما يلزمه من الدم إذا لم يكن له مال يتأخر إلى ما بعد العتق، وهذا بخلاف النصراني يدخل مكة، ثم يسلم، ثم يحرم من مكة أو الصبي يدخل مكة بغير إحرام، ثم يحتلم بمكة فيحرم بالحج فإن هناك لا يلزمه بترك الوقت شيء؛ لأن النصراني لم يكن مخاطبا بالإحرام بالحج حين انتهى إلى الميقات فإن الخطاب بالإحرام إنما يتوجه على من يصح منه الإحرام، وكذلك الصبي فلا يتحقق منهما تأخير الإحرام الواجب؛ لأنه إنما لزمهما الإحرام عند الإسلام والبلوغ، وعند ذلك هما بمكة، وميقات إحرام الحج في حق من هو بمكة الحرم، وقد أحرما منه بخلاف العبد على ما بينا، وذكر في اختلاف زفر ويعقوب - رحمهما الله تعالى - أن النصراني لو أسلم أو بلغ الصبي فمات قبل إدراك الوقت وأوصى كل واحد منهما بأن يحج عنه حجة الإسلام فوصيتهما باطلة عند زفر - رحمه الله تعالى -؛ لأنه لم يلزمهما الحج قبل إدراك الوقت إذ لا يتصور الأداء قبل إدراك الوقت فلا تصح وصيتهما به، وعلى قول أبي يوسف يصح؛ لأن سبب الوجوب قد تقرر في حقهما، والوقت شرط الأداء وانعدام شرط الأداء لا يمنع تقرر سبب الوجوب فتصح وصيتهما بالأداء في وقته (قال): ولو أن الصبي أهل بالحج قبل أن يحتلم، ثم احتلم قبل أن يطوف بالبيت أو قبل أن يقف بعرفة لم يجزه عن حجة الإسلام عندنا، وعلى قول الشافعي - رحمه الله تعالى - يجزئه وهو بناء على ما بينا في كتاب الصلاة إذا صلى في أول الوقت، ثم بلغ في آخره عنده يجزئه عن الفرض ويجعل وكأنه بلغ قبل أداء الصلاة وهنا أيضا يجعل كأنه بلغ قبل مباشرة الإحرام فيجزئه ذلك عن حجة الإسلام قال: وهذا على أصلكم أظهر؛ لأن الإحرام عندكم من الشرائط دون الأركان ولهذا صح الإحرام بالحج قبل دخول أشهر الحج، ولكنا نقول حين أحرم: هو لم يكن من أهل أداء الفرض فانعقد إحرامه لأداء النفل فلا يصح أداء الفرض به وهو نظير الصرورة إذا أحرم بنية النفل عندنا لا يجزئه أداء الفرض به، وعنده ينعقد إحرامه للفرض والإحرام، وإن كان من الشرائط عندنا، ولكن في بعض الأحكام هو بمنزلة الأركان ومع الشك لا يسقط الفرض الذي ثبت وجوبه بيقين فلهذا لا يجزئه حجة الإسلام بذلك الإحرام إلا أن يجدد إحرامه قبل أن يقف بعرفة فحينئذ يجزئه عن حجة الإسلام؛ لأن ذلك الإحرام الذي باشره في حالة الصغر كان تخلقا، ولم يكن لازما عليه فيتمكن من فسخه بتجديد الإحرام، وهذا بخلاف العبد فإنه لو أعتقه المولى بعد ما أحرم لا يجزئه عن حجة الإسلام، وإن جدد الإحرام بعد العتق؛ لأن إحرام العبد لازم في حقه لكونه مخاطبا فلا يتمكن بعد العتق من فسخ ذلك الإحرام، وإنما طريق خروجه من ذلك الإحرام أداء الأفعال فسواء جدد التلبية أو لم يجدد فهو باق في ذلك الإحرام فلا يجزئه عن حجة الإسلام بخلاف الصبي على ما ذكرنا، وإن أعتق العبد قبل أن يحرم، ثم أحرم بحجة الإسلام أجزأه؛ لأن شرط الوجوب تقرر في حقه بالعتق فلهذا يجزئه عن حجة الإسلام. (قال): وإذا دخل الرجل مكة بغير إحرام فوجب عليه حجة أو عمرة فأهل بها بعد سنة في وقت غير وقته الأول هو أقرب منه قال: يجزيه ولا شيء عليه؛ لأنه في السنة الأولى لو أحرم من هذا الميقات أجزأه عما يلزمه لدخول مكة وجعل هذا كعوده إلى الميقات الأول، فكذلك في السنة الثانية إذا جاء إلى هذا الميقات؛ لأن من حصل عند ميقات فحكمه حكم أهل ذلك الميقات، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. [باب الذي يفوته الحج] (باب الذي يفوته الحج) (قال) : - رضي الله عنه - رجل أهل بحجة ففاته فإنه يحل بعمرة وعليه الحج من قابل، قال: وبلغنا ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمر وزيد بن ثابت - رضي الله تعالى عنهما - والمراد بالحديث المرفوع ما رواه ابن عباس وابن عمر - رضي الله تعالى عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج وليتحلل بالعمرة وعليه الحج من قابل». وأما حديث عمر وزيد بن ثابت - رضي الله تعالى عنهما - ما رواه الأسود قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - يقول: من فاته الحج تحلل بعمرة وعليه الحج من قابل، ثم لقيت زيد بن ثابت - رضي الله تعالى عنه - بعد ذلك بثلاثين سنة فسمعته يقول مثل ذلك، وكان المعنى فيه أن الإحرام بعد ما انعقد صحيحا فطريق الخروج عنه أداء أحد النسكين إما الحج أو العمرة كمن أحرم إحراما بهما وهنا تعذر عليه الخروج عنه بالحج حين فاته الحج فعليه الخروج بعمل العمرة، ثم إن عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - أصل إحرامه باق بالحج ويتحلل بعمل العمرة، وعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - يصير إحرامه إحرام عمرة، وعند زفر - رحمه الله تعالى - ما يؤديه من الطواف والسعي بقايا أعمال الحج؛ لأنه بالإحرام بالحج التزم أداء أفعال يفوت بعضها بمضي الوقت ولا يفوته البعض فيسقط عنه ما يفوت بمضي المدة ويلزمه ما لا يفوت وهو الطواف والسعي وأبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - قالا: الطواف والسعي للحج إنما يتحلل بهما من الإحرام بعد الوقوف، فأما قبل الوقوف فلا، وحاجته إلى التحلل هنا قبل الوقوف فإنما يأتي بطواف وسعي يتحلل بهما من الإحرام، وذلك طواف العمرة ولهذا قال أبو يوسف - رحمه الله تعالى: يصير أصل إحرامه للعمرة ضرورة؛ لأن التحلل بطواف العمرة إنما يكون بإحرام العمرة وأبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - قالا: لا يمكن جعل إحرامه للعمرة إلا بفسخ إحرام الحج الذي كان شرع فيه ولا طريق لنا إلى ذلك، والدليل عليه أن المكي إذا فاته الحج يتحلل بعمل العمرة من غير أن يخرج من الحرم، ولو انقلب إحرامه للعمرة لكان يلزمه الخروج إلى الحرم؛ لأنه ميقات إحرام العمرة في حق المكي (قال): فإن كان أهل بحجة وعمرة فقدم مكة، وقد فاته الحج فإنه يطوف بالبيت وبالصفا والمروة لحجه ويحل عليه الحج من قابل ولا يجعل ما أتى به من الطواف والسعي قبل فوات الحج كافيا للتحلل عن إحرام الحج؛ لأن ذلك كان طواف التحية وهو سنة فلا يحصل به التحلل فإن كان طاف لعمرته وسعى فقد أتى بهما، وإن لم يكن طاف بعمرته يطوف لها الآن؛ لأن العمرة لا تفوته، ثم يطوف بعد ذلك لحجته ويسعى حتى يتحلل، وهذا دليل لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - على أن أصل إحرامه لا ينقلب عمرة؛ لأنه لو انقلب عمرة لصار جامعا بين إحرام عمرتين وأدائهما في وقت واحد، وذلك لا يجوز، ثم لا يجب عليه الدم بالقياس على المحصر، وهذا فاسد؛ لأن المحصر عاجز عن التحلل بالطواف والسعي وفائت الحج قادر على ذلك، ثم فائت الحج يقطع التلبية حين يستلم الحجر في الطواف لما بينا أن هذا الطواف عمل العمرة وأوان قطع التلبية في حقه ما هو أوان قطع التلبية في حق المعتمر فإن كان قارنا فإنما يقطع التلبية حين يأخذ في الطواف الثاني؛ لأن العمرة ما فاتته فيجعل كأنه طاف لها قبل الفوات فلا يقطع التلبية عندها، وإنما يقطع التلبية إذا أخذ في الطواف الذي يتحلل به عن الإحرام في الحج (قال): ولو فاته الحج فمكث حراما حتى دخلت أشهر الحج من قابل فتحلل بعمل العمرة، ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا، وهذا أيضا يدل على أن إحرامه لم ينقلب إحرام عمرة فإنه لو انقلب إحرام عمرة كان متمتعا كمن أحرم للعمرة في رمضان فطاف لها في شوال، ولكنه بعمل العمرة يتحلل من إحرام الحج في شوال، وليس هذا صورة المتمتع (قال): رجل أهل بحجة فجامع فيها ثم قدم، وقد فاته الحج فعليه دم لجماعه ويحل بالطواف والسعي؛ لأن الفاسد معتبر بالصحيح فكما أن التحلل بالإحرام الصحيح بعد الفوات يكون بالطواف والسعي فكذلك عن الإحرام الفاسد، ولو كان أصاب في حجه صيدا فعليه الكفارة؛ لأن إحرامه بعد الفساد باق فيجب بارتكاب المحظور ما يلزمه بارتكابه في الإحرام الصحيح، وهذا الذي أفسد الحج إنما يقطع التلبية بعد الفوات حين يأخذ في الطواف، ألا ترى أنه لو لم يفته كان أوان قطع التلبية في حقه حين يرمي جمرة العقبة اعتبارا بمن صح حجه فكذلك بعد الفوات (قال): رجل أهل بحجة فقدم مكة، وقد فاته الحج فأقام حراما حتى يحج مع الناس من قابل بذلك الإحرام قال: لا يجزئه عن حجته، وبهذا يستدل أبو يوسف - رحمه الله تعالى - على أن إحرامه صار للعمرة حيث لا يجوز أداء الحج به، ولكنا نقول: قد بقي أصل إحرامه للحج، ولكنه تعين عليه الخروج بإعمال العمرة فلا يبطل هذا التعيين بتحول السنة مع أن إحرامه انعقد لأداء الحج في السنة الأولى فلو صح أداء الحج به في السنة الثانية تغير موجب ذلك العقد بفعله، وليس إليه تغيير موجب عقد الإحرام، وإن قدم، وقد فاته الحج فأهل بحجة أخرى فإنه يطوف للذي قد فاته ويسعى ويرفض التي أهل بها وعليه فيها ما على الرافض وعليه قضاء الفائت أيضا؛ لأن أصل إحرامه بعد الفوات تعين للحج فهو بالإهلال بحجة أخرى يصير جامعا بين حجتين فلهذا يرفض التي أهل بها، وقد تعين عليه التحلل عن الأولى بالطواف والسعي فلا يتغير ذلك بفعله، وإن نوى بهذه التي أهل بها قضاء الفائت فهي هي يعني لا يلزمه بهذا الإهلال شيء؛ لأنه نوى إيجاد الموجود فإن إحرامه بالحج باق بعد الفوات ونية الإيجاد فيما هو موجود لغو فيتحلل بالطواف والسعي وعليه قضاء الفائت فقط بخلاف الأول، فقد نوى بالإهلال هناك حجة أخرى سوى الموجود [أهل بعمرة بعد ما فاته الحج] (قال): وإن أهل بعمرة بعد ما فاته الحج رفضها أيضا ومضى في عمل الفائتة؛ لأنه لما لزمه التحلل عن الأول بعمل العمرة يصير جامعا بين العمرتين من حيث العمل، وذلك لا يجوز فلهذا يرفض التي أهل بها، وقد تعين عليه التحلل عن الأولى بالطواف والسعي فلا يتغير ذلك بفعله (قال): رجل أهل بحجتين وقدم مكة، وقد فاته الحج قال: يحل بالطواف والسعي وعليه عمرة وحجتان ودم؛ لأنه صار رافضا لإحدى الحجتين ولزمه دم لرفضها وقضاء حجة وعمرة، ثم قد فاتته الأخرى فيتحلل منها بالطواف والسعي وعليه قضاؤها ولا يكون له أن يتحلل منها بعمل عمرتين؛ لأنهما لا يجتمعان عملا فكما أخذ في عمل إحداهما صار رافضا للأخرى ولزمه الدم بالرفض (قال): وإذا ساق هديا للقران فقدم، وقد فاته الحج قال: يصنع بهديه ما شاء؛ لأنه ملكه، وقد أعده لمقصوده، فإذا فاته ذلك المقصود صنع به ما أحب، وكذلك إن لم يفته، ولكنه جامع؛ لأن بالجماع فسد حجه وخرج من أن يكون قارنا، وإنما أعد هذا الهدي للقران، فإذا فاته ذلك صنع به ما شاء فإن كان هديه قد نتج في الطرق، ثم قد فاته الحج أو جامع أو أحصر صنع أيضا بالولد ما شاء؛ لأنه جزء من الأم فكما يصنع بالأم ما شاء فكذلك بالولد، وإن لم يكن شيء من هذه العوارض فعليه أن ينحر الأم والولد جميعا فإن نحر الأم ووهب الولد أو باعه فعليه قيمة الولد، وكذلك إن ولد هذا الولد ولدا فعليه قيمة ذلك الولد أيضا؛ لأن ما ثبت من الحق في الأصل سرى إلى الولد لكونه جزءا من أجزائه، وإن كان قد كفر عن الولد بعد ما وهبه أوباعه، ثم حدث له ولد لم يكن عليه من قبل ولده شيء؛ لأن بأداء الكفارة قد سقط عنه الحق في الولد لله تعالى فلا يلزمه فيما يلد هذا الولد بعد ذلك شيء بخلاف ما قبل التكفير فإن حق الله تعالى في الولد لازم إياه قبل التكفير فيسري إلى ما يتولد منه وهو نظير من أخرج ظبية من الحرم فكفر عنها، ثم ولدت ثم ماتت لم يكن عليها فيها ولا في ولدها شيء، وإن لم يكفر عنها كان عليه فيها، وفي ولدها الكفارة (قال): محرم بالحج قدم مكة وطاف بالبيت، ثم خرج إلى الربذة فأحصر بها، ثم قدم مكة بعد فوات الحج فعليه أن يحل بعمرة ولا يكفيه الطواف الأول؛ لأن ذلك كان طواف التحية، وليس لطواف التحية أثر في التحلل، ولأن التحلل بالطواف يكون في يوم النحر أو بعده، وذلك الطواف كان قبل يوم النحر فلا يكون معتبرا في التحلل، وإن كان خروجه إلى الربذة بعد الوقت لم يفته لقوله - صلى الله عليه وسلم - «من أدرك عرفة فقد أدرك الحج»، ثم قد تقدم بيان ما عليه من الدماء بعد هذا بسبب الترك والتأخير (قال): فإن أهل بعمرة في أشهر الحج، ثم قدم مكة بعد يوم النحر يقضي عمرته، وليس عليه شيء؛ لأن العمرة غير مؤقتة فلا يفوته عمل العمرة بمضي أيام النحر فلهذا لا يلزمه شيء والحاصل أن جميع السنة وقت العمرة عندنا، ولكن يكره أداؤها في خمسة أيام يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، هكذا روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة، ولأن الله تعالى سمى هذه الأيام أيام الحج فيقتضي أن تكون متعينة للحج الأكبر فلا يجوز الاشتغال فيها بغيرها، وعلى قول الشافعي - رحمه الله تعالى - لا تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة، وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه لا تكره العمرة في يوم عرفة قبل الزوال؛ لأن دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله، ولكن مع هذه الكراهة لو أدى العمرة في هذه الأيام صح فيبقى محرما في هذه الأيام بها وهو نظير بقاء حرمة الصلاة بعد دخول وقت الكراهة [أهل الحاج صبيحة يوم النحر بحجة أخرى] (قال): وإذا أهل الحاج صبيحة يوم النحر بحجة أخرى لزمته ويقضي ما بقي عليه من الأولى ويقيم حراما إلى أن يؤدي الحج بهذا الإحرام من قابل؛ لأنه أحرم بعد مضي وقت الحج من السنة الماضية، فينعقد إحرامه لأداء الحج به في السنة القابلة وعليه بجمعه بين الحجتين دم؛ لأن إحرامه للحج باق ما لم يتحلل بالحلق والطواف والجمع بين إحرام الحجتين ممنوع عنه، فإذا فعل ذلك لزمه الدم بالجمع المنهي عنه، وهذا بخلاف ما إذا أهل بحجتين؛ لأن الدم هناك يلزمه لرفض إحداهما؛ لأن الجمع هناك لا يتحقق حين صار قاضيا لإحداهما وهنا يتحقق؛ لأنه يؤدي ما بقي من أعمال الأولى من غير أن يصير رافضا للأخرى فلهذا لزمه للجمع بينهما دم، وإن قدم الحاج مكة فأدرك الوقوف بمزدلفة لم يكن مدركا للحج لقوله - صلى الله عليه وسلم - «من فاته عرفة بليل فقد فاته الحج»، ثم ذكر بعد هذا حكم الإهلال بحجتين أو بعمرتين، وقد بينا ذلك ويستوي فيه إن أهل بهما معا أو بإحداهما، ثم بالأخرى معا؛ لأنه جامع بين الإحرامين في الحالين فإن رفض إحدى العمرتين، ثم قضاها في العام القابل ومعها حجة فهو قارن؛ لأن القران بالجمع بين الحجة والعمرة فكما أن كون الحج في ذمته لا يمنع تحقق القران فكذلك كون العمرة واجبة في ذمته. وكذلك إن أتى بهذه العمرة في أشهر الحج، ثم حج من عامه ذلك فهو متمتع إن لم يكن ألم بأهله بين النسكين حلالا فإن ألم بأهله بين النسكين حلالا لم يكن متمتعا، بلغنا ذلك عن ابن عمر وسعيد بن المسيب - رضي الله عنهم -، وهذا بخلاف القارن إن رجع إلى أهله بعد طواف العمرة؛ لأنه إنما رجع محرما فلم يصح إلمامه بأهله فلهذا كان قارنا، وقد بينا الفرق بين المتمتع الذي ساق الهدي وبين الذي لم يسق الهدي في حكم الإلمام بأهله، وقد بينا الفرق أيضا في حكم المكي الذي قدم الكوفة وبينا القران والتمتع. وروى ابن سماعة عن محمد أن المكي إذا قدم الكوفة إنما يجوز له أن يقرن إذا كان خروجه من الميقات قبل دخول أشهر الحج، فأما إذا دخلت أشهر الحج قبل خروجه من الميقات فقد حرم عليه القران والتمتع فلا يرتفع ذلك بالخروج عن الميقات بعد ذلك (قال): وإذا قدمت المرأة مكة محرمة بالحج حائضا مضت على حجتها غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها - «واصنعي جميع ما يصنعه الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت»، فإذا طهرت بعد مضي أيام النحر طافت للزيارة، ولا شيء عليها بهذا التأخير؛ لأنه كان بعذر الحيض وعليها طواف الصدر؛ لأنها طاهرة، وإن حاضت بعد ما طافت للزيارة يوم النحر فليس عليها طواف الصدر لما بينا من الرخصة الواردة للحائض في ذلك (قال): وليس على أهل مكة ومن وراء الميقات طواف الصدر إنما ذلك على أهل الآفاق الذين يصدرون عن البيت بالرجوع إلى منازلهم فإن نوى الإقامة بمكة واتخذها دارا سقط عنه طواف الصدر إن كانت نيته قبل أن يحل النفر الأول؛ لأن وقت الصدر بعد حل النفر الأول فإنما جاء وقت الصدر وهو من أهل مكة فلا يلزمه طواف الصدر، وإن كانت نيته الإقامة بعد ما حل النفر الأول فعليه طواف الصدر في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - لأن ذلك قد لزمه بمجيء وقت الصدر قبل نية الإقامة فلا يسقط عنه بنيته الإقامة بعد ذلك كالمرأة إذا حاضت بعد خروج وقت الصلاة لا تسقط عنها تلك الصلاة، وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى: إذا نوى الإقامة قبل أن يأخذ في طواف الصدر سقط عنه طواف الصدر؛ لأنه، وإن دخل وقته فلا يصير طواف الصدر دينا عليه بدخول وقته فنيته الإقامة بعد دخول وقته وقبله سواء كالمرأة إذا حاضت بعد دخول وقت الصلاة لا تلزمها تلك الصلاة. فأما إذا نوى الإقامة بعد ما أخذ في طواف الصدر فعليه أن يأتي بذلك الطواف؛ لأن بالشروع فيه لزم إتمامه فلا يسقط بنية الإقامة بعد ذلك فإن بدا له الخروج من مكة بعدما اتخذها دارا لا يلزمه طواف الصدر؛ لأنه بمنزلة المكي يقصد الخروج من مكة. وإن نوى أن يقيم بمكة أياما، ثم يصدر لم يسقط عنه طواف الصدر، وإن نوى الإقامة سنة أو أكثر؛ لأن بهذه النية لم يصر كأهل مكة؛ لأن المكي غير عازم على الصدر منها بعد مدة، وهذا على الصدر منها بعد مدة فيبقى عليه طواف الصدر على حاله (قال): وليس على فائت الحج طواف الصدر؛ لأن العود للقضاء مستحق عليه ولأنه صار بمنزلة المعتمر المقيم في حق الإعمال، وليس على المعتمر طواف الصدر. (قال): رجل قصد مكة للحج فدخلها بغير إحرام ووافاها يوم النحر، وقد فاته الحج فأحرم بعمرة وقضاها أجزأه وعليه دم لترك الوقت؛ لأنه لو أحرم بالحج بعد ما جاوز الميقات وقضاه كان عليه دم لترك الوقت فكذلك إذا أحرم بالوقت بالعمرة وقضاها؛ لأن الواصل إلى الميقات يلزمه الإحرام حاجا كان أو معتمرا، وإن لم يحرم بعمرة، ولكنه أحرم بحجة فهو محرم حتى يحج مع الناس من قابل، وقد بينا حكم الإحرام في غير أشهر الحج، ولكنه ينبغي أن يرجع إلى الوقت فيلبي منه ليسقط عنه الدم فإن لم يرجع فعليه دم لتأخير الإحرام. ![]()
__________________
|
|
#5
|
||||
|
||||
![]() الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (ت ٤٨٣ هـ) عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس) المجلد الرابع صـــ 180 الى صـــ 189 (85) (قال): ومن فاته الحج لم يسعه أن يقيم في منزله حراما من غير عذر ويبعث بالهدي، ولا يحل بالهدي إن بعث به؛ لأن التحلل بالهدي للمحصر، وهذا غير محصر بل هو فائت الحج، وقد تعين عليه التحلل بالطواف والسعي شرعا فلا يتحلل بغير ذلك، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب [باب الجمع بين الإحرامين] (باب الجمع بين الإحرامين) (قال) : والعمرة لا تضاف إلى الحج والحج يضاف إلى العمرة قبل أن يعمل منها شيئا وبعد أن يعمل، هكذا نقل عن ابن عباس - رضي الله عنه -، وهذا لأن الله تعالى جعل العمرة بداية والحج نهاية بقوله تعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة: 196] فمن أضاف الحجة إلى العمرة كان فعله موافقا لما في القرآن، ومن أضاف العمرة إلى الحج كان فعله مخالفا لما في القرآن فكان مسيئا من هذا الوجه، ولكن مع هذا هو قارن فإن القارن هو جامع بين العمرة والحج، وهو جامع بينهما على كل حال إلا أنه إذا أضاف الحج إلى العمرة بأن أهل بالعمرة أولا، ثم بالحج فهو جامع مصيب للسنة فيكون محسنا ومن أهل بالحج، ثم بالعمرة فهو جامع مخالف للسنة فكان مسيئا لهذا ويلزمه في الوجهين جميعا ما أوجب الله تعالى على المتمتع المترفق بأداء النسكين في سفر واحد كما قال الله تعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] ، وهو شاة في قول علي وابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهم - وفي قول ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - بدنة وأخذنا بالأول لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: «تمتعنا بالعمرة إلى الحج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتركنا في البدنة عن سبعة» فإن لم يجد الهدي فعليه صوم ثلاثة أيام في الحج. والأفضل أن يصوم قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة؛ لأن صوم اليوم بدل عن الهدي فالأولى أن يؤخره إلى آخر الوقت الذي يفوته بمضيه رجاء أن يجد الهدي (قال): ولو صام هذه الأيام الثلاثة بعد إحرامه للعمرة قبل إحرام الحجة جاز عندنا خلافا للشافعي - رحمه الله تعالى -، وحجته ظاهر الآية، قال الله تعالى {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة: 196] وحين صام قبل أن يحرم بالحج فصومه هذا ليس في الحج، وحجتنا في ذلك أن نقول: جعل الحج ظرفا للصوم وفعل الحج لا يصلح ظرفا للصوم فعرفنا أن المراد به الوقت كما قال الله تعالى {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] وهذا قد صام في وقت الحج بعد ما تقرر السبب، وهو التمتع؛ لأن معنى التمتع في أداء العمرة في سفر الحج في وقت الحج، وقد وجد ذلك، وأداء العبادة البدنية بعد وجود سبب وجوبها جائز إذا صام شهر رمضان وإن لم يصم حتى جاء يوم النحر تعين عليه الهدي عندنا، وهو قول عمر - رضي الله تعالى عنه - فإن رجلا أتاه يوم النحر، فقال: إني تمتعت بالعمرة إلى الحج فقال: اذبح شاة فقال ليس معي شيء فقال: سل أقاربك فقال: ليس هنا أحد منهم فقال لغلامه يا مغيث أعطه قيمة شاة، وذلك لأن البدل كان مؤقتا بالنص فبعد فوات ذلك الوقت لا يكون بدلا فتعين عليه الهدي والشافعي - رحمه الله تعالى - كان يقول في الابتداء يصوم أيام التشريق، وهو مروي عن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما -، ولكن هذا فاسد فقد صح النهي عن الصوم في هذه الأيام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز أداء الواجب بها ولو وجد الهدي بعد صوم يومين من الثلاثة كان عليه الهدي؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالخلف ما إذا قدر على أصل الهدي بعد ما يحل يوم النحر؛ لأن المقصود هو التحلل فإنما قدر على الأصل بعد حصول المقصود بالبدل، وهو كالمتيمم إذا وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة. وأما صوم السبعة ليس ببدل فيما هو مقصود، وهو التحلل ألا ترى أن أوان أدائها بعد التحلل ووجوب الهدي لا يمنع أداءها، والمراد من الرجوع المذكور في قوله تعالى {وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196] مضي أيام التشريق حتى إذا صام بعد مضيها قبل أن يرجع إلى أهله جاز عندنا، ولا يجوز عند الشافعي - رحمه الله تعالى - إلا أن ينوي المقام فحينئذ يجوز الصوم (قال): وإن أهل الآفاقي بالحج فطاف لها شوطا، ثم أهل بالعمرة رفضها وعليه قضاؤها ودم للرفض؛ لأن إحرام الحج قد تأكد بما أتى به من الطواف فإن ذلك من عمل الحج ولو بقي إحرامه للعمرة كان بانيا عمل العمرة على أعمال الحج، وذلك لا يجوز فلهذا يرفضها. وإن كان أهل بالعمرة أولا فطاف لها شوطا، ثم أهل بالحج مضى فيها؛ لأنه يبني أعمال الحج على العمرة، وذلك صحيح إلا أنه لو طاف للعمرة أقل الأشواط يكون قارنا وإن طاف لها أكثر الأشواط، ثم أهل بالحج كان متمتعا؛ لأن المتمتع من يحرم بالحج بعد عمل العمرة، ولأكثر الطواف حكم الكل، والقارن من يجمع بينهما، وقد صار جامعا حين أحرم بالحج، وقد بقي عليه أكثر طواف العمرة، وقد بينا أن المكي لا يقرن بين الحج والعمرة، ولا يضيف أحدهما إلى الآخر، فإن قرن بينهما رفض العمرة ومضى في الحج؛ لأنه ممنوع من الجمع بينهما فلا بد من رفض أحدهما، ورفض العمرة أيسر؛ لأنها دون الحج في القوة، ولأنه يمكنه أن يقضيها متى شاء. وكذلك إن أحرم أولا بالعمرة، ثم أحرم بالحج رفض العمرة؛ لأن الترجيح بالبداءة بعد المساواة في القوة، ولا مساواة هنا فيرفض العمرة على كل حال. وإن مضى فيهما حتى قضاهما أجزأه؛ لأن النهي لا يمنع تحقق المنهي عنه، وهذا بخلاف الجامع بين الحجتين والعمرتين فإن الجمع بينهما عملا منفي هناك ومع النفي لا يتحقق الاجتماع فيكون رافضا لأحدهما على كل حال، وهنا الجمع بين الحج والعمرة في حق المكي منهي عنه ومع النهي يتحقق الجمع فيجب عليه الدم لجمعه بينهما، ولكن هذا الدم ليس نظير الدم في حق الآفاقي إذا قرن بينهما فإن ذلك نسك يحل التناول منه، وهذا جبر لا يحل التناول منه؛ لأن وجوب هذا الدم بارتكاب ما هو منهي عنه فيكون واجبا بطريق الجبر للنقصان فلهذا لا يباح التناول منه وإن كان طاف للعمرة شوطا أو ثلاثة أشواط، ثم أحرم بالحج رفض الحج في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وفي قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - يرفض العمرة؛ لأنه أهل بالحج فأكثر أعمال العمرة باق عليه وللأكثر حكم الكل فكأنه أهل بالحجة قبل أن يأتي بشيء من أعمال العمرة فيرفضها وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول: إن إحرام العمرة قد تأكد بما أتى به من طواف العمرة، وإحرام الحج لم يتأكد بشيء من عمله والمتأكد بأداء العمل أقوى من غير المتأكد فلهذا يرفض الحجة، والدليل على أن التأكد يحصل بشوط من الطواف ما بينا في الآفاقي إذا طاف للحج شوطا، ثم أحرم للعمرة كان عليه رفضها لتأكد إحرام الحج بالعمل قبل الإهلال بالعمرة بخلاف ما لو أهل بالعمرة قبل أن يأتي بشيء من طواف الحج. ولو كان المكي طاف للعمرة أربعة أشواط، ثم أحرم بالحج فنقول: إنما أحرم بالحج بعد ما أتى بأكثر طواف العمرة وللأكثر حكم الكل فكأنه أحرم بالحج بعد الفراغ من العمرة فلا يرفض شيئا، ولكن يفرغ من عمرته ومن حجته وعليه دم؛ لأنه صار كالمتمتع، وهو منهي عن التمتع إلا أنه لا يحل التناول من هذا الدم؛ لأنه دم جبر كما بينا ولو كان هذا الطواف منه للعمرة في غير أشهر الحج كان عليه الدم أيضا؛ لأنه أحرم بالحج قبل أن يفرغ من العمرة، وليس للمكي أن يجمع بينهما فإذا صار جامعا كان عليه الدم، ولو كان هذا آفاقيا لم يكن عليه هذا الدم؛ لأنه غير ممنوع من الجمع بينهما، قال في الأصل: وعليه دم لترك الوقت في العمرة أيضا، وإنما أراد به إذا كان أحرم للعمرة في الحرم فإن ميقات أهل مكة لإحرام العمرة هو الحل (قال): كوفي أهل بحجة وطاف لها، ثم أهل بعمرة قال: يرفض عمرته؛ لأنه لو لم يرفضها كان بانيا للعمرة على الحجة، هذا إذا أهل بعمرة بعرفة، فإن أهل بها يوم النحر قبل أن يحل بحجته أو بعد ما حل قبل أن يطوف أمر أن يرفضها أيضا وإن لم يرفضها ومضى فيها أجزأه وعليه دم إن كان أهل بها قبل أن يحل بحجته، وإن كان بعد ما حل من حجته فليس عليه شيء إن لم يترك الوقت فيها، ولا يؤمر بأن يرفضها إذا أحرم بها بعد تمام الإحلال؛ لأنه وإن كان منهيا عن الإحرام فبعد ما أحرم يجب عليه الإتمام؛ لأنه غير جامع بينه وبين إحرام آخر فإذا أداها كان صحيحا بخلاف ما إذا أهل بها بعرفات فإن هناك قد صار رافضا للعمرة لتحقق المنافي على ما سبق، ثم إن كان إهلاله بالعمرة قبل أن يحل من الحج فقد صار جامعا بين الإحرامين على وجه هو منهي عن ذلك فلزمه لذلك دم وإن كان بعد ما حل لم يصر جامعا بين الإحرامين فلا يلزمه شيء (قال): مكي أهل بالحجة فطاف لها شوطا، ثم أهل بالعمرة قال: يرفض العمرة؛ لأن إحرامه للحج قد تأكد وقبل تأكده كان يؤمر برفض العمرة فبعد تأكده أولى، فإن لم يرفضها وطاف لها وسعى أجزأه لما بينا أن النهي لا يمنع تحقق المنهي عنه، ولكن عليه دم لإهلاله بها قبل أن يفرغ من حجته، وقد صار جامعا بينهما، وهو ممنوع من هذا الجمع (قال): محرم بعمرة جامع، ثم أضاف إليها عمرة أخرى قال: يرفض هذه ويمضي في الأولى؛ لأن الفاسد معتبر بالصحيح في وجوب الإتمام، ولو كانت الأولى صحيحة كان عليه أن يمضي فيها ويرفض الثانية فكذلك بعد فسادها وكذلك لو لم يجامع في الأولى، ولكنه طاف لها شوطا، ثم أحرم بالثانية يرفض الثانية؛ لأن الأولى قد تأكدت لما طاف لها فتعينت الثانية للرفض وكذا هذا في حجتين (قال): وإذا أهل بحجتين معا، ثم جامع قبل أن يسير فعليه للجماع دمان في قول أبي حنيفة؛ لأن من أصله أنه لا يصير رافضا لأحدهما ما لم يأخذ في عمل الأخرى، وعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - عليه دم واحد للجماع؛ لأنه كما فرغ من الإحرامين صار رافضا لأحدهما فجماعه جناية على إحرام واحد، وإن كان ذلك الجماع منه بعد ما سار فعليه دم واحد؛ لأنه صار رافضا لأحدهما حين سار إلى مكة فجماعه جناية على إحرام واحد، ثم ما يلزمه بالرفض وبالإفساد من القضاء والدم قد بيناه فيما سبق. فإن أحرم لا ينوي شيئا فطاف ثلاثة أشواط، ثم أهل بعمرة فإنه يرفض هذه الثانية؛ لأن الأولى قد تعينت عمرة حين أخذ في الطواف لما بينا أن الإبهام لا يبقى بعد الشروع في الأداء بل يبقى ما هو المتيقن، وهو العمرة فحين أهل بعمرة أخرى فقد صار جامعا بين عمرتين فلهذا يرفض الثانية (قال): وإذا كان للكوفي أهل بالكوفة وأهل بمكة يقيم عند هؤلاء سنة فاعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا؛ لأنه ملم بين النسكين بأهله إلماما صحيحا، فإن لم يكن له أهل بمكة واعتمر من الكوفة في أشهر الحج وقضى عمرته، ثم خرج إلى مصر ليس فيه أهله، ثم حج من عامه ذلك كان متمتعا ما لم يرجع إلى المصر الذي كان فيه أهله، ثم قال: بلغنا ذلك عن عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب - رضي الله عنهما - وإبراهيم - رحمه الله تعالى -، وقد بينا أن الطحاوي - رحمه الله تعالى - ذكر في هذا الفصل خلافا بين أبي حنيفة وصاحبيه - رحمهما الله تعالى - وهو الصحيح أن عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - يكون متمتعا. وحديث زيد الثقفي - رضي الله عنه - أنه سأل ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال: أتينا عمارا فقضيناها، ثم زرنا القبر، ثم حججنا فقال: أنتم متمتعون والأصل عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أنه ما لم يصل إلى أهله فهو متمتع كمن لم يجاوز الميقات وعندهما من خرج من الميقات فهو كمن وصل إلى أهله في أنه لا يكون متمتعا بعد ذلك، فإن كان له بالكوفة أهل وبالبصرة أهل فرجع إلى أهله بالبصرة، ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا؛ لأنه ألم بأهله بين النسكين حلالا (قال): وإن اعتمر الكوفي في أشهر الحج وساق هديا للمتعة، وهو يريد الحج فطاف لعمرته، ولم يحلق، ثم رجع إلى أهله، ثم حج كان متمتعا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - ولم يكن متمتعا في قول محمد - رحمه الله تعالى - إذا كان رجوعه إلى أهله بعد ما أتى بأكثر طواف العمرة وحجته، وهو أنه ملم بأهله بين النسكين، وهو إلمام صحيح فإن العود غير مستحق عليه حتى لو بعث بهديه لينحر عنه، ولم يحج كان جائزا فهو بمنزلة المكي الذي اعتمر من الكوفة وساق لهدي لمتعته فهناك لا يكون متمتعا فكذلك هنا وأبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله تعالى - يقولان: إلمامه غير صحيح بأهله هنا؛ لأنه محرم على حاله ما لم ينحر عنه الهدي فكان العود مستحقا عليه، وذلك يمنع صحة إلمامه بأهله كالقارن إذا أتى بعمل العمرة، ثم رجع إلى أهله، ثم عاد فحج كان قارنا، ولم يصح إلمامه بأهله محرما فكذا هذا، وهذا بخلاف من لا هدي معه، وقد حل هناك من إحرام العمرة فإنما لم بأهله حلالا فكان إلمامه صحيحا (قال): رجل أهل بعمرة في أشهر الحج وساق هديا معه لمتعته، ثم بدا له أن يحل وينحر هديه ويرجع إلى أهله، ولا يحج كان له ذلك؛ لأن بمجرد النية قبل الإحرام لا يلزمه أداء الحج في هذه السنة، فإن فعل ذلك، ثم حج من عامه فلا شيء عليه؛ لأنه ألم بأهله بين النسكين حلالا فخرج من أن يكون متمتعا، وإن أراد أن ينحر هديه ويحل، ولا يرجع إلى أهله ويحج من عامه ذلك لم يكن له ذلك؛ لأنه إذا لم يقصد الرجوع إلى أهله فهو قاصد إلى التمتع فكان هديه هدي المتعة فليس له أن ينحرها قبل يوم النحر لاختصاص هدي المتعة بيوم النحر، ولأنه لما ساق الهدي، وهو عازم على التمتع لزمه البقاء في الإحرام إلى أن يفرغ من عمل الحج، وليس له أن يتعجل في الإحلال قبل وقته، فإن فعل ذلك، ثم رجع إلى أهله، ثم حج فلا شيء عليه؛ لأنه لما رجع إلى أهله فقد خرج من أن يكون متمتعا، وإنما كان يلزمه تأخير الخروج عن إحرام العمرة لأجل التمتع فإذا خرج من أن يكون متمتعا تبين أن إحلاله كان في وقته فلا يلزمه شيء، وإن فرغ من عمرته وحل ونحر هديه، ثم أقام بمكة حتى حج من عامه فعليه دمان لمتعته فإنه أتى بالنسكين في سفر واحد فكان متمتعا وما نحر من الهدي قبل يوم النحر فلا يجزئه عن هدي المتعة فلهذا لزمه دم المتعة ودم آخر لإحلاله قبل وقته؛ لأنه لما كان متمتعا، وقد ساق الهدي لم يكن له أن يحل قبل يوم النحر، وهو قد حل من عمرته قبل يوم النحر فعليه دم لتعجيل الإحلال (قال): رجل أهل بعمرة في أشهر الحج، ثم أفسدها بالجماع فلما فرغ منها أهل بأخرى ينوي قضاءها، ثم حج من عامه لم يكن متمتعا أما بالعمرة الأولى فلأنه أفسدها بالجماع والتمتع بالعمرة الفاسدة لا يكون، وأما بالثانية فلأنه أحرم لها من غير الميقات، والمتمتع من تكون عمرته ميقاتية وحجته مكية، ولأنه لما دخل مكة بالعمرة الفاسدة صار بمنزلة أهل مكة، وإن كان حين فرغ من العمرة الفاسدة خرج من مكة حتى جاوز المواقيت، ثم أهل بعمرة في أشهر الحج، ثم حج من عامه ذلك، فإن كان جاوز الوقت قبل أشهر الحج كان متمتعا؛ لأنه بمجاوزة الميقات صار في حكم من لم يدخل مكة فإذا اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه فقد أتى بعمرة ميقاتية وحجة مكية فكان متمتعا، وإن لم يجاوز الوقت إلا في أشهر الحج فليس بمتمتع؛ لأن أشهر الحج لما دخلت، وهو داخل الميقات حرم عليه التمتع كما هو حرام على أهل مكة ومن هو داخل الميقات فلا تنقطع هذه الحرمة بخروجه من الميقات بعد ذلك في حق المكي ومن هو داخل الميقات، فإن كان دخوله الأول في أشهر الحج بعمرة فأفسدها وأتمها مع الفساد، ثم رجع إلى أهله، ثم عاد فقضاها وحج من عامه ذلك لم يكن متمتعا؛ لأن سفره الأول قد انقطع برجوعه إلى أهله فصار كأن لم يوجد فالمعتبر سفره الثاني، وقد أدى النسكين في هذا السفر بصفة الصحة فكان متمتعا. وإن رجع إلى بلدة أخرى، ثم عاد فقضى عمرته وحج من عامه لم يكن متمتعا في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - بناء على الأصل الذي قررنا أنه ما لم يصل إلى بلدته فهو في الحكم كأن لم يخرج من مكة فلا يكون متمتعا وعندهما يكون متمتعا؛ لأن من أصلهما أن بخروجه من الميقات انقطع حكم ذلك السفر في حق التمتع بمنزلة ما لو رجع إلى بلدته فإذا عاد معتمرا وحج من عامه كان متمتعا لأداء النسكين في سفر واحد صحيحا. وإن دخل بعمرة فاسدة في أشهر الحج فقضاها، ثم خرج حتى جاوز الميقات، ثم قرن عمرة وحجة كان قارنا؛ لأن أكثر ما فيه أن كحال المكي متى حصل بمكة بالعمرة الفاسدة، وقد بينا أن المكي إذا خرج من الميقات، ثم قرن حجة وعمرة كان قارنا فهذا مثله، ولو قضى عمرته الفاسدة، ثم أهل من مكة بعمرة وبحجة فإنه يرفض العمرة؛ لأنه متى حصل بمكة بعمرة فاسدة فهو بمنزلة مكي محرم بهما، وقد بينا أن المكي يرفض العمرة إذا أحرم بهما كذلك هنا، ولو كان أهل بعمرة في أشهر الحج فطاف لها شوطا، ثم أهل بحجة فهو على الخلاف الذي ذكرناه في حق المكي أن عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - يرفض الحج لتأكد إحرام العمرة بالطواف وعندهما يرفض العمرة على ما مر؛ لأنه لما لم يطف لها أربعة أشواط فهو بمنزلة من لم يطف لها شيئا وإذا ترك المكي أو الكوفي ميقات الإحرام في العمرة وطاف لها شوطا، ثم أراد أن يلبي من الوقت لم ينفعه، ولم يسقط عنه الدم؛ لأن إحرامه وراء الميقات قد تأكد بالطواف فهو، وإن عاد إلى الميقات ولبى فلم يصر متداركا لما فاته في وقته فلا يسقط عنه الدم. ألا ترى أنه إذا عاد لا يمكن أن يجعل كالمنشئ للإحرام الآن؛ لأن ما تقدم من الطواف محسوب له وكيف يجعل كالمنشئ الآن وطوافه قبل ذلك محسوب فلهذا لا يسقط عنه الدم، والله أعلم بالصواب. [باب التلبية] (قال): وبلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» اتفق على هذا رواة نسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم وفي نقل تلبيته، فإن اقتصر عليه فحسن، وإن زاد على هذا فحسن أيضا عندنا، وبعض أصحاب الشافعي - رحمهم الله تعالى - يقولون: يباح له الزيادة وأكثرهم على أن ذلك مكروه لحديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - «أنه سمع رجلا يقول في تلبيته: لبيك ذي المعارج لبيك، فقال: مه ما كنا نلبي، هكذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، ولأنه ذكر منظوم فلا يزاد عليه كالأذان والتشهد، وحجتنا في ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان يقول في تلبيته: لبيك إله الحق لبيك». وعن ابن مسعود أنه خرج من مسجد الخيف يلبي، فقال قائل لا يلبي هنا، فقال ابن مسعود - رضي الله عنه: أجهل الناس أم طال بهم العهد لبيك عدد التراب لبيك. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يقول في تلبيته: لبيك مرهوب منك ومرغوب إليك والنعمى والفضل والحسن لك لبيك لبيك، وتأويل حديث سعد - رضي الله عنه - أن ذلك الرجل كان ترك التلبية المعروفة واكتفى بذلك القدر فلهذا أنكر عليه وهكذا نقول إذا ترك التلبية المعروفة كان مكروها، فأما إذا أتى بالمعروف، ثم زاد كان ذلك حسنا؛ لأن المقصود هو الثناء على الله تعالى وإظهار العبودية من نفسه، وقد نقل من طريق أهل البيت - عليهم السلام - تلبية طويلة من ذلك، والجاريات في الفلك على مجاري من سلك، ثم الحاج والقارن في قطع التلبية سواء؛ لأنه لا يحل من النسكين قبل يوم النحر، وقطع التلبية حين يرمي جمرة العقبة، وقد بينا وقت قطع التلبية في حق فائت الحج والمحصر ومن أفسد حجه، وإنما يصير محرما بالتلبية إذا نوى الإحرام فأما بدون النية محرما وإن لبى، كما لا يصير بالتكبير شارعا في الصلاة إذا لم ينو، والتهليل والتسبيح بنية الإحرام به بمنزلة التلبية كما عند افتتاح الصلاة، وقد بينا الفرق بينه وبين الصلاة لأبي يوسف - رحمه الله تعالى -. وإذا توضأ الأخرس ولبس ثوبين وصلى ركعتين، ثم نوى الإحرام بقلبه وحرك لسانه كان محرما؛ لأنه أتى بما في وسعه، وليس عليه فوق ذلك كما إذا شرع في الصلاة بتحريك اللسان مع النية يصح شروعه. والمرأة بمنزلة الرجل في التلبية غير أنها لا ترفع صوتها لما بينا أن صوتها فتنة واذا لم يلب القارن والمفرد بالحج والعمرة إلا مرة واحدة فقد أساء، ولا شيء عليه؛ لأن الشروع في الإحرام بالتلبية كما أن صحة الشروع في الصلاة بالتكبير، ولو لم يأت المصلي إلا بتكبيرة الافتتاح جازت صلاته وكان مسيئا، فكذلك إذا لم يأت المحرم بالتلبية إلا مرة واحدة جاز؛ لأنه أتى بما هو الواجب وترك المسنون فيكون مسيئا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب [باب الصيد في الحرم] (باب الصيد في الحرم) (قال) : - رضي الله عنه - رجل رمى صيدا في الحل، وهو في الحل فأصابه في الحرم كان عليه الجزاء؛ لأنه من جنايته، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - فيما أعلم، ومعنى هذا التعليل أن ذهاب السهم حتى وصل إلى الصيد كان بقوة الرامي، وهو مباشر لذلك الفعل حتى يستوجب القصاص به إذا رمى إلى مسلم عمدا فقتله، وإنما أصابه بعد ما صار صيد الحرم فكان هو قاتلا صيد الحرم بفعله فيلزمه الجزاء، وهذا بخلاف ما لو أرسل كلبه على صيد في الحل فطرد الكلب الصيد حتى قتله في الحرم حيث لا يضمن قال: لأن هذا ليس من جنايته، ومعنى هذا أن طرد الكلب الصيد فعل أحدثه الكلب فلا يصير المرسل به جانيا على صيد الحرم. وحقيقة المعنى في الفرق أن الرامي مباشر لما يصيبه سهمه وفي مباشرة الفعل لا فرق بين أن يكون متعديا وبين أن يكون غير متعد فيما يلزمه من الجزاء. ألا ترى أن من رمى سهما في ملك نفسه فأصاب مالا أو نفسا كان ضامنا له فأكثر ما في الباب هنا أنه في أصل الرمي لم يكن متعديا، وهذا لا يمنع وجوب الجزاء عليه عند مباشرته، فأما مرسل الكلب متسبب لإتلاف ما يأخذه الكلب لا مباشر حتى لا يلزمه القصاص بحال، والمتسبب إذا كان متعديا في تسببه كان ضامنا وإذا لم يكن متعديا لا يكون ضامنا كمن حفر بئرا في ملك نفسه وهنا هو غير متعد في إرسال الكلب على صيد في الحل فلهذا لا يلزمه الجزاء (قال): وإن زجر الكلب بعد ما دخل في الحرم فانزجر وأخذ الصيد فعليه جزاؤه واستحسانا، وفي القياس لا يلزمه شيء؛ لأن الأخذ من الكلب يكون محالا على أصل الإرسال دون الزجر، ألا ترى لو أن مسلما أرسل كلبه على صيد فزجره مجوسي فانزجر حتى أخذ الصيد حل تناوله، وأصل الإرسال هنا لم يكن جناية فوجود الزجر بعد ذلك كعدمه، وجه الاستحسان أنه في هذا الزجر متسبب لأخذ الصيد، وهو متعد في هذا التسبب، ثم أصل الإرسال هنا ما انعقد تعديا، وكان ذلك في حكم الزجر كالمعدوم أصلا، وهو نظير القياس والاستحسان الذي ذكره في كتاب الصيد أن الكلب المعلم إذا انبعث على أثر الصيد من غير إرساله فزجره صاحبه فانزجر حتى أخذ الصيد إنما يحل تناوله استحسانا بخلاف ما إذا أرسله مجوسي، ثم زجره مسلم؛ لأن أصل الإرسال هناك كان معتبرا فيحال الحكم عليه دون الزجر (قال): ولو أرسل كلبا في الحرم على ذئب فأصاب صيدا في الحرم لم يكن عليه شيء؛ لأنه غير متعد في هذا السبب فإن إرسال الكلب على الذئب مباح له فلهذا لا يوجب عليه الضمان، وإن أخذ الكلب الصيد بخلاف ما إذا رمى إلى الذئب فأصاب صيدا؛ لأنه مباشر فلا يعتبر فيه معنى التعدي، ولكن قتل الصيد في الحرم خطأ موجب للضمان كقتله عمدا. وكذلك لو أرسل حلال كلبا على الصيد في الحل فذهب الكلب إلى صيد في الحرم فقتله لم يكن عليه جزاء كما لو دخل الصيد الذي أرسله عليه في الحرم فقتله فيه (قال): ولو أرسل المجوسي كلبا على صيد في الحرم فزجره مسلم محرم فانزجر فقتل الصيد كان على المحرم جزاؤه؛ لأن زجر المحرم لا يكون دون دلالته على الصيد والمحرم يضمن الصيد بالدلالة فبالزجر أولى، ولا يؤكل ذلك الصيد لا لزجر المحرم فإن حرمة الصيد تثبت به كما تثبت بالدلالة، ولكن لأن أخذه محال به على أصل الإرسال والمرسل كان مجوسيا (قال): ولو نصب شبكة للصيد فأصاب الصيد فعليه جزاؤه؛ لأنه متعد في هذا التسبب، ولو نصبها لذئب أو سبع آذاه وابتدأه فوقع فيه صيد لم يكن عليه شيء؛ لأنه غير متعد في هذا التسبب، وهو قياس نصب الفسطاط من المحرم على ما سبق (قال): محرم دل محرما على صيد وأمره بقتله وأمر المأمور ثانيا بقتله فقتله كان على كل واحد منهم جزاء كامل؛ لأن كل واحد منهم جان على الصيد بما صنع القاتل بالمباشرة، والآمر الثاني بدلالة القاتل عليه والآمر الأول بإعلامه الآمر الثاني بمكان الصيد حتى أمر به غيره فكانوا جميعا ضامنين، وهذا لأن فعل المأمور والثاني كفعل آمره، ولو قتل الآمر الثاني وجب الجزاء به على الآمر الأول، فكذلك إذا أمر به غيره حتى قتله وجزاء الصيد في حق المحرم لا يتجزأ فلهذا كان على كل واحد من الثلاثة جزاء كامل (قال): ولو أخبر محرم محرما ما بصيد فلم يره حتى أخبره به محرم آخر فلم يصدق الأول، ولم يكذبه، ولكن طلب الصيد فقتله كان على كل واحد منهم جزاؤه؛ لأن كل واحد منهم جان فيما صنع، وهذا بخلاف ما إذا أكذب الأول فإن هناك لا يلزمه الجزاء؛ لأنه بتكذيبه إياه انتسخ حكم دلالته فلم يكن قتل الصيد بعد ذلك محالا به على دلالة الأول، وإنما كان محالا به على دلالة الثاني، فأما إذا لم يصدقه، ولم يكذبه لم ينتسخ حكم دلالته (قال): محرم أرسل محرما إلى محرم، فقال: إن فلانا يقول لك إن في هذا الموضع صيدا فذهب فقتله كان على المرسل والرسول والقاتل الجزاء؛ لأن كل واحد منهم متعد فيما صنع فإن القاتل إنما تمكن من قتل الصيد بإرسال المرسل وتبليغ الرسول فلهذا ضمن كل واحد منهم الجزاء ![]()
__________________
|
|
#6
|
||||
|
||||
![]() الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (ت ٤٨٣ هـ) عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس) المجلد الرابع صـــ 190 الى صـــ 199 (86) (قال): وإن دل محرم على صيد رجلا، وهو يعلم به ويراه فقتله لم يكن على الدال شيء؛ لأن تمكن القاتل من قتل الصيد لم يكن بدلالته فقد كان متمكنا منه قبل دلالته (قال): محرم استعار من محرم سكينا ليذبح بها صيدا فأعاره إياه فذبح الصيد فلا جزاء على صاحب السكين ويكره له ذلك، أما الكراهة بالإعانة على المعصية بما أعطاه من الآلة، وأما حكم الجزاء فأكثر مشايخنا يقولون تأويل هذه المسألة أنه إذا كان مع المحرم القاتل سلاح يقتل بذلك السلاح الصيد فحينئذ لا يلزم الجزاء على من أعطى السكين؛ لأنه وإن لم يعطه كان متمكنا من قتله فإذا لم يكن تمكنه بما أعطي لا يجب عليه الجزاء كما لا يجب الجزاء على الدال إذا كان للمدلول علم بمكان الصيد، فأما إذا لم يكن مع المحرم القاتل ما يقتل به الصيد ينبغي أن يجب الجزاء على هذا المعير؛ لأن التمكن من قتل الصيد كان بإعارته السكين، وإلى هذا أشار في السير الكبير، والأصح عندي أنه لا يجب الجزاء على المعير للسكين على كل حال لوجهين: (أحدهما) أن الصيد مأخوذ المستعير قبل إعارة السكين منه، وكان قد تلف معنى الصيدية بأخذ المستعير إياه حكما وبقتله حقيقة، فأما إعارة السكين ليس بإتلاف معنى الصيدية عليه لا حقيقة، ولا حكما بخلاف الدلالة فإنه إتلاف لمعنى الصيدية من وجه حين أعلم بمكانه من لا يقدر الصيد على الامتناع منه فإن امتناع الصيد ممن يقدر على الامتناع منه يكون بجناحه ومن لا يقدر على الامتناع منه يكون بتواريه عن عينه فإذا أعلمه بمكانه صار متلفا معنى الصيدية حكما. (والثاني) أن الإعارة تتصل بالسكين لا بالصيد فإنها صحيحة، وإن لم يكن هناك صيد، ولا يتعين استعماله في حق قتل الصيد بخلاف الإشارة إلى قتل الصيد فإنها متصلة بالصيد ليس فيها فائدة أخرى سوى ذلك، ولا يتم ذلك إلا بصيد هناك فلهذا يتعلق وجوب الجزاء بها ولم يذكر في الكتاب مسألة نكاح المحرم وهي مسألة خلافية معروفة عندنا يجوز للمحرم أن يتزوج وأن يزوج وليته، وعند الشافعي - رحمه الله تعالى - ليس للمحرم أن يتزوج، ولا أن يزوج، ولو فعل لم ينعقد النكاح لحديث عثمان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح»، ولأن المقصود من النكاح الوطء وبسبب الإحرام يحرم عليه الوطء بدواعيه فيحرم العقد الذي لا يقصد به إلا هذا وهذا بخلاف شراء الأمة فإن الشراء غير مقصود للوطء بل للتجارة والمحرم غير ممنوع عنه، ألا ترى أن المسلم لا يتزوج المجوسية، ولا أخته من الرضاعة؛ لأنه لما حرم عليه وطؤها حرم عليه العقد أيضا وله أن يشتري هؤلاء، وحجتنا حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة - رضي الله عنها -، وهو محرم»، وهكذا روي عن عائشة - رضي الله عنها - واختلفت الروايات في حديث أبي رافع قال في بعض الروايات «تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حلال»، وفي بعضها «تزوجها، وهو محرم وبنى بها، وهو حلال وكنت أنا السفير فيما بينهما» ويتبين بهذا الحديث أن المراد من حديث عثمان - رضي الله عنه - الوطء دون العقد فإنه للوطء حقيقة، وإن كان مستعارا للعقد مجازا على ما نبينه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى، ومن حيث المعنى الكلام واضح في المسألة فإن النكاح عقد معاوضة والمحرم غير ممنوع عن مباشرة المعاوضات كالشراء ونحوه، ولو جعل عقد النكاح بمنزلة ما هو المقصود به، وهو الوطء لكان تأثيره في إيجاب الجزاء أو إفساد الإحرام به لا في بطلان عقد النكاح توضيحه أن بعد الإحرام يبقى النكاح بينه وبين امرأته صحيحا، ولو كان عقد الإحرام ينافي ابتداء النكاح لكان منافيا للبقاء كتمجسها والحرمة بسبب الرضاع ولما لم يناف بقاء النكاح، فكذلك الابتداء وبهذا فارق شراء الصيد أيضا؛ لأن الإحرام يمنع استدامة اليد على الصيد فيمنع إثبات اليد بالشراء ابتداء بخلاف النكاح والدليل عليه أنه لو راجعها، وهو محرم كان صحيحا بالاتفاق وعلى أصل الشافعي - رحمه الله تعالى - الرجعة سبب يحل الوطء به، ثم لم يكن المحرم ممنوعا عنه، فكذلك النكاح وأصل كلامه يشكل بالظهار فإن الظهار يحرم الوطء بدواعيه، ولا يمنع العقد ابتداء بأن ظاهر منها، ثم فارقها، ثم تزوجها ثم الشافعي - رحمه الله تعالى - يمنع المحرم من تزويج وليته، وليس في هذا تطرق المحرم إلى استباحة الوطء فعرفنا أن كلامه من حيث المعنى ضعيف جدا، والله أعلم. (قال): - رحمه الله تعالى - وغفر له: هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات مصليا على سيد السادات محمد المبعوث بالرسالات وعلى أهله من المؤمنين والمؤمنات. تم كتاب المناسك ولله المنة وله الحمد الدائم الذي لا يفنى أمده، ولا ينقضي عدده. [كتاب النكاح] (كتاب النكاح) (قال) : الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - رحمهما الله تعالى إملاء - اعلم بأن النكاح في اللغة عبارة عن الوطء، تقول العرب: تناكحت العرى أي تناتجت ويقول: أنكحنا العرى فسنرى لأمر يجتمعون عليه وينظرون ماذا يتولد منه، وحقيقة المعنى فيه هو الضم ومنه يقال: أنكح الظئر ولدها أي ألزمه، ويقال انكح الصبر أي الزمه، وقال القائل: إن القبور تنكح الأيامى ... والنسوة الأرامل اليتامى أي تضمهن إلى نفسها واحد الواطئين ينضم إلى صاحبه في تلك الحالة فسمي فعلهما نكاحا قال القائل كبكر تحب لذيذ النكاح أي الجماع، وقال القائل التاركين على طهر نساءهم ... والناكحين بشطي دجلة البقرا أي الواطئين، ثم يستعار للعقد مجازا إما لأنه سبب شرعي يتوصل به إلى الوطء، أو لأن في العقد معنى الضم، فإن أحدهما ينضم به إلى الآخر ويكونان كشخص واحد في القيام بمصالح المعيشة. وزعم الشافعي - رحمه الله تعالى - أن اسم النكاح في الشريعة يتناول العقد فقط، وليس كذلك فقد قال الله تعالى {حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء: 6] يعني الاحتلام فإن المحتلم يرى في منامه صورة الوطء، وقال الله تعالى {الزاني لا ينكح إلا زانية} [النور: 3] والمراد الوطء، وفي الموضع الذي حمل على العقد فذلك لدليل اقترن به من ذكر العقد أو خطاب الأولياء في قوله {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور: 32] أو اشتراط إذن الأهل في قوله تعالى {فانكحوهن بإذن أهلهن} [النساء: 25] ، ثم يتعلق بهذا العقد أنواع من المصالح الدينية والدنيوية من ذلك حفظ النساء والقيام عليهن والإنفاق، ومن ذلك صيانة النفس عن الزنا، ومن ذلك تكثير عباد الله تعالى وأمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحقيق مباهاة الرسول صلى الله عليه وسلم - بهم كما قال: «تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة» وسببه تعلق البقاء المقدور به إلى وقته فإن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى قيام الساعة وبالتناسل يكون هذا البقاء. وهذا التناسل عادة لا يكون إلا بين الذكور والإناث، ولا يحصل ذلك بينهما إلا بالوطء فجعل الشرع طريق ذلك الوطء النكاح؛ لأن في التغالب فسادا، وفي الإقدام بغير ملك اشتباه الأنساب، وهو سبب لضياع النسل لما بالإناث من بني آدم من العجز عن التكسب والإنفاق على الأولاد فتعين الملك طريقا له حتى يعرف من يكون منه الولد فيوجب عليه نفقته لئلا يضيع، وهذا الملك على ما عليه أصل حال الآدمي من الحرية لا يثبت إلا بطريق النكاح، فهذا معنى قولنا: إنه تعلق به البقاء المقدور به إلى وقته. ثم هذا العقد مسنون مستحب في قول جمهور العلماء - رحمهم الله تعالى - وعند أصحاب الظواهر واجب لظاهر الأمر به في الكتاب والسنة ولما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعكاف بن خالد ألك امرأة، فقال: لا، فقال - صلى الله عليه وسلم - تزوج فإنك من إخوان الشياطين»، وفي رواية «إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم وإن كنت منا فتزوج فإن المهاجر من أمتي من مات وله زوجة أو زوجتان أو ثلاث زوجات»، ولأن التحرز من الزنا فرض، ولا يتوصل إليه إلا بالنكاح، وما لا يتوصل إلى الفرض إلا به يكون فرضا. وحجتنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أركان الدين من الفرائض وبين الواجبات، ولم يذكر من جملتها النكاح، وقد كان في الصحابة - رضي الله عنهم - من لم يتزوج، ولم ينكر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، والصحابة - رضي الله عنهم - فتحوا البلاد ونقلوا ما جل ودق من الفرائض، ولم يذكروا من جملتها النكاح وكما يتوصل بالنكاح إلى التحرز عن الزنا يتوصل بالصوم إليه، قال - صلى الله عليه وسلم - «يا معشر الشبان عليكم بالنكاح فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» وتأويل ما روي في حق من تتوق نفسه إلى النساء على وجه لا يصبر عنهن وبه نقول إذا كان بهذه الصفة لا يسعه ترك النكاح، فأما إذا لم يكن بهذه الصفة فالنكاح سنة له قال - صلى الله عليه وسلم - «ثلاث من سنن المرسلين النكاح والتعطر وحسن الخلق» وقال - صلى الله عليه وسلم - «، النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني أي ليس على طريقتي». ولهذا قال علماؤنا - رحمهم الله تعالى: النكاح أفضل من التخلي لعبادة الله في النوافل، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - التخلي لعبادة الله تعالى أفضل إلا أن تتوق نفسه إلى النساء، ولا يجد الصبر على التخلي لعبادة الله واستدل بقوله تعالى {وسيدا وحصورا} [آل عمران: 39] فقد مدح يحيى - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان حصورا والحصور هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على الإتيان فدل أن ذلك أفضل، ولأن النكاح من جنس المعاملات حتى يصح من المسلم والكافر، والمقصود به قضاء الشهوة، وذلك مما يميل إليه الطبع فيكون بمباشرته عاملا لنفسه، وفي الاشتغال بالعبادة هو عامل لله تعالى بمخالفة هوى النفس، وفيه اشتغال بما خلقه الله تعالى لأجله، قال الله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] فكان هذا أفضل إلا أن تكون نفسه تواقة إلى النساء فحينئذ في النكاح معنى تحصين الدين والنفس عن الزنا كما قال عمر - رضي الله عنه: أيما شاب تزوج فقد حصن ثلثي دينه فليتق الله في الثلث الباقي فلهذا كان النكاح أفضل في حقه. وحجتنا قوله - صلى الله عليه وسلم - «من كان على ديني ودين داود وسليمان - عليهما السلام - فليتزوج»، وقد اشتغل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتزويج حتى انتهى العدد المشروع المباح له، ولا يجوز أن يقال: إنما فعل ذلك؛ لأن نفسه كان تواقة إلى النساء فإن هذا المعنى يرتفع بالمرأة الواحدة، ولما لم يكتف بالواحدة دل أن النكاح أفضل والاستدلال بحال الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى من الاستدلال بحال يحيى - عليه السلام - مع أنه كان في شريعتهم العزلة أفضل من العشرة، وفي شريعتنا العشرة أفضل من العزلة كما قال - صلى الله عليه وسلم - «لا رهبانية في الإسلام»، وقد بينا أن النكاح مشتمل على مصالح جمة فالاشتغال به أولى من الاشتغال بنفل العبادة على ما اختاره الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم -. وليس المقصود بهذا العقد قضاء الشهوة، وإنما المقصود ما بيناه من أسباب المصلحة، ولكن الله تعالى علق به قضاء الشهوة أيضا ليرغب فيه المطيع والعاصي المطيع للمعاني الدينية والعاصي لقضاء الشهوة بمنزلة الإمارة، ففيها قضاء شهوة الجاه، والنفوس ترغب فيه لهذا المعنى أكثر من الرغبة في النكاح حتى تطلب ببذل النفوس وجر العساكر لكن ليس المقصود بها قضاء شهوة الجاه بل المقصود قضاء إظهار الحق والعدل، ولكن الله تعالى قرن به معنى شهوة الجاه ليرغب فيه المطيع والعاصي فيكون الكل تحت طاعته والانقياد لأمره مع أن منفعة العبادة على العابد مقصورة، ومنفعة النكاح لا تقتصر على الناكح بل تتعدى إلى غيره وما يكون أكثر نفعا فهو أفضل قال - صلى الله عليه وسلم - «خير الناس من ينفع الناس» إذا عرفنا هذا فنقول بدأ الكتاب، فقال: بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا على بنت أخيها، ولا على بنت أختها، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها فإن الله تعالى هو رازقها»، وهذا الحديث يرويه رجلان من الصحابة - رضي الله عنهم - ابن عباس وجابر - رضي الله عنهما -، وهو مشهور بلغة العلماء بالمقبول، والعمل به ومثله حجة يجوز به الزيادة على كتاب الله تعالى عندنا، وفيه دليل على حرمة نكاح المرأة على عمتها وخالتها؛ لأن هذا النهي بصيغة الخبر، وهذا أبلغ ما يكون من النهي كما أن الأمر قد يكون بصيغة الخبر قال الله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} [البقرة: 228] الآية، وقال الله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة: 233] والنهي يقتضي التحريم، ثم ذكر هذا النهي من الجانبين إما للمبالغة في بيان التحريم أو لإزالة الإشكال فربما يظن ظان أن نكاح بنت الأخ على العمة لا يجوز ونكاح العمة على بنت الأخ يجوز لتفضيل العمة كما لا يجوز نكاح الأمة على الحرة ويجوز نكاح الحرة على الأمة فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثبوت هذه الحرمة من الجانبين، وقوله «لا تسأل المرأة طلاق أختها» نهي بصيغة الخبر وله تأويلان إما أن يكون المراد به الأخت دينا بأن تكون امرأتان تحت رجل، وهو يحسن إليهما فتجيء إلى الزوج إحداهما وتقول: طلق صاحبتي ليتحول نصيبها إلي، هذا منهي عنه؛ لأنه سبب للتحاسد والتنافر، وقال - صلى الله عليه وسلم - «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا» أو يكون المراد به الأخت نسبا بأن تأتي المرأة إلى زوج أختها وتقول: فارقها وتزوجني فإني أوفق لك، وهذا منهي عنه؛ لأنه سبب لقطيعة الرحم بينهما، وقطيعة الرحم من الملاعن وإليه أشار - صلى الله عليه وسلم - في بعض الروايات، فقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهن»، ومعنى قوله «لتكتفئ ما في صحفتها» أي لتحول نصيبها إلى نفسها. وروي لتكفئ وكلاهما لغة يقال كفأت القدر وأكفأتها إذا أملتها وأرقت ما فيها، وفي بعض الروايات «لتكف ما في صحفتها»، ومعناه لتقنع بما آتاها الله فإن الله تعالى هو رازقها والصحفة عبارة عن الحظ والنصيب، وقد اشتمل الحديث على الحتم والوعظ والندب فإن قوله «فإن الله هو رازقها» وعظ، وقوله لا تسأل ندب؛ لأنها لو فعلت ذلك جاز، ولكن لا ينبغي لها أن تفعله، وقوله «لا تنكح المرأة على عمتها» حتم حتى إذا فعل ذلك لم يجز النكاح عندنا، وقال عثمان البتي - رحمه الله تعالى: يجوز في غير الأختين؛ لأن المحرم بالنص الجمع بين الأختين، وهذا ناسخ لما يتلى في قوله تعالى {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24] ونسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز، ولكنا نقول الحديث صحيح مقبول والعمل به واجب فلكونه مشهورا نقول يجوز نسخ الكتاب به عندنا أو نقول هذا مبين لما ذكر في الكتاب، وليس بناسخ؛ لأن الحل في الكتاب مقيد بشرط مبهم هو قوله تعالى {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} [النساء: 24] . وهذا الشرط مبهم فالحديث ورد لبيان ما هو مبهم في الكتاب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث مبينا، قال الله تعالى {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] أو نقول هذا الحديث مقرر للحرمة المذكورة في الكتاب فإن الله تعالى ذكر في المحرمات الجمع بين الأختين؛ لأن بينهما رحما يفترض وصلها ويحرم قطعها، وفي الجمع قطيعة لرحم على ما يكون بين الضرائر من التنافر فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كل قرابة يفترض وصلها فهي في معنى الأختية في تحريم الجمع والتي بين العمة وبنت الأخ قرابة يفترض وصلها حتى لو كان أحدهما ذكرا والأخرى أنثى لم يجز للذكر أن يتزوج الأنثى صيانة للرحم، وإذا ملكه عتق عليه تحرزا عن قطيعة الرحم فكان الحديث مقررا للحرمة المذكوة في القرآن لا أن يكون ناسخا قال: وبلغنا عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: لأمنعن النساء فروجهن إلا من الأكفاء، وفي هذا دليل على أن للسلطان يدا في الأنكحة فقد أضاف المنع إلى نفسه، وذلك يكون بولاية السلطنة، وفيه دليل أن الكفاءة في النكاح معتبرة وأن المرأة غير ممنوعة من أن تزوج نفسها ممن يكافئها وأن النكاح ينعقد بعبارتها قال: وبلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها والثيب تشاور»، ومعنى قوله تستأمر في نفسها أي في أمر نفسها في النكاح فهو دليل على أنه ليس لأحد من الأولياء أن يزوجها من غير استئمارها أبا كان أو غيره، ويل: معناه تستأمر خالية لا في ملأ من الناس لكي لا يمنعها الحياء من الرد إذا كانت كارهة، ولا تذهب حشمة الولي عنه بردها قوله «وإذنها صماتها»، وفي بعض الروايات «سكوتها رضاها»، وذلك على أن رضاها شرط وأن السكوت منها دليل على رضا فيكتفى به شرعا لما روي أن عائشة - رضي الله عنها - «قالت يا رسول الله: إنها تستحي فتسكت، فقال - صلى الله عليه وسلم - سكوتها رضاها»، ومعنى هذا أنها تستحي من إظهار الرغبة في الرجال، وإذا استؤمرت فلها جوابان نعم أو لا، وسكوتها دليل على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك الجواب، وهو الرضا دون الإباء إذ ليس في الإباء إظهار الرغبة في الرجال، وقد يكون السكوت دليل الرضا كسكوت الشفيع بعد العلم بالبيع وسكوت المولى عند رؤيته تصرف العبد عن الحجر عليه، وقوله «والثيب تشاور» دليل على أنه لا يكتفى بسكوت الثيب فإن المشاورة على ميزان المفاعلة، ولا يحصل ذلك إلا بالنطق من الجانبين وبظاهره يستدل الشافعي - رحمه الله تعالى - على أن الثيب الصغيرة لا يزوجها أحد حتى تبلغ فتشاور، ولكنا نقول هذا اللفظ يتناول ثيبا تكون من أهل المشاورة والصغيرة ليست بأهل المشاورة فلا يتناولها الحديث. (قال): وبلغنا عن إبراهيم - رحمه الله تعالى - قال: البكر تستأمر في نفسها فلعل بها داء لا يعلمه غيرها قبل معنى هذا لعلها رتقاء أو قرناء، وذلك في باطنها لا يعلمه غيرها فإذا زوجت من غير استئمارها لا يحصل المقصود بالنكاح وينتهك سترها، وقيل: معناه لا تشتهي صحبة الرجال لمعنى في باطنها من غلبة الرطوبة أو نحو ذلك فإذا زوجت بغير استئمارها لا تحسن العشرة مع زوجها أو لعل قلبها مع غير هذا الذي تزوج منه فإذا زوجت بغير استئمارها لم تحسن صحبة هذا الزوج ووقعت في الفتنة لكون قلبها مع غيره وأي داء أدوى من العشق (قال): وبلغنا عن - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تنكح الأمة على الحرة وتنكح الحرة على الأمة»، وفيه دليل على أن نكاح الأمة على الحرة لا يجوز وأن هذه الحرمة ثابتة شرعا رضيت الحرة أو لم ترض، وهو مذهبنا، وقال مالك - رحمه الله تعالى - إذا رضيت الحرة جاز قال: لأن المنع لحق الحرة لا للجمع بدليل أنه إذا تقدم نكاح الأمة بقي نكاحها بعد الحرة والجمع موجود فدل أن المنع لحق الحرة، وهو أنه يغصها إدخال ناقصة الحال في فراشها، وذلك ينعدم برضاها، ولكنا نقول: المنع ليس لحقها بل؛ لأنها ليست من المحللات مضمومة إلى الحرة وهي من المحللات منفردة عن الحرة فإن الحل برقها ينتصف كما ينتصف برق الرجل على ما نبينه إن شاء الله تعالى فإذا تزوجها على الحرة فهذا حال ضمها إلى الحرة وهي ليست من المحللات في هذه الحالة، وهذا المعنى لا يزول برضاها فلهذا لا يجوز النكاح، والكلام فيه أن هذا الحديث ناسخ لما في الكتاب أو مبين بطريق التخصيص على نحو ما بينا في الحديث الأول، ثم ذكر هذا اللفظ عن علي - رضي الله عنه - أيضا وزاد فيه وللحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث وبه نأخذ فإن القسم ينبني على الحل الذي ينبني عليه النكاح وحظ الأمة فيه على النصف من حظ الحرة، وزعم بعض العلماء - رحمهم الله تعالى - أنه يسوي بينهما في القسم كما يسوي بينهما في النفقة للمساواة بينهما في الملك والحاجة، ولكنا نقول لا يسوي بينهما في النفقة أيضا فالحرة تستحق نفقة خادمها كما تستحق نفقة نفسها والأمة لا تستحق النفقة إلا أن يبوئها المولى بيتا مع زوجها (قال): وبلغنا عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: إن بعض العرب كان في الجاهلية يستحل الرجل نكاح امرأة أبيه فإذا مات أبوه ورث نكاحها عنه فأنزل الله تعالى قوله {، ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} [النساء: 22] الآية وأنزل الله تعالى قوله {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] الآية، وأن العرب في الجاهلية كانوا فريقين فريق يعتقدون الإرث في منكوحة الأب ويقولون إن ولد الرجل إذا لم يكن منها يخلفه في نكاحها كما يخلفه في ملكه فيطؤها بغير عقد جديد رضيت أو كرهت، وفيه نزل قوله تعالى {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها} [النساء: 19] وبعضهم كانوا يعتقدون أنها تحل له بعقد جديد وأنه متى رغب فيها فهو أحق بها من غيره، وفيه نزل قوله تعالى {، ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} [النساء: 22] وكانوا في الجاهلية يسمون الولد الذي يكون بينهما ولد المقت وإليه أشار الله تعالى في قوله {إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا} [النساء: 22] وقوله تعالى {إلا ما قد سلف} [النساء: 22] معناه أن ما قد سلف في الجاهلية فإنكم لا تؤاخذون بذلك إذا خليتم سبيلهن بعد العلم بالحرمة، وقيل: معناه، ولا ما قد سلف فإن كلمة إلا قد تكون بمعنى، ولا قال الله تعالى إلا الذين ظلموا منهم فيكون المعنى أنه كما لا يحل ابتداء العقد بعد نزول الحرمة لا يحل إمساك ما قد سلف بعد نزول الحرمة لكي لا يظن ظان أن هذه الحرمة تمنع ابتداء النكاح، ولا تمنع البقاء كحرمة العدة فأما قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] ففيه بيان المحرمات والحاصل أن المحرمات أربعة عشر سبع من جهة النسب وسبع من جهة النسب أما من جهة النسب فالأمهات بقوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] فأم الرجل حرام عليه وكذلك جداته من قبل أبيه أو من قبل أمه فعلى قول من يقول: إن اللفظ الواحد يجوز أن يراد به الحقيقة والمجاز في محلين مختلفين يقول: حرمت الجدات بالنص؛ لأن اسم الأمهات يتناولهن مجازا وعلى قول من يقول: لا يراد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز يقول: حرمت الجدات بدليل الإجماع إذ الأمهات هن الأصول، وهو حقيقة معنى هذا الاسم، وذلك يجمع الكل إلا أن إطلاق الاسم في الأم الأدنى دون غيرها لدليل العرف فعلى هذا يتناول النص الجدات حقيقة والثاني البنات فعلى القول الأول حرمة بنات البنات وبنات البنين وإن سفلن ثابتة بالنص أيضا؛ لأن الاسم يتناولهن مجازا وعلى القول الآخر حرمتهن بدليل الإجماع على ما بينا والثالث الأخوات تثبت حرمتهن بقوله تعالى {وأخواتكم} [النساء: 23] وهن أصناف ثلاثة الأخت لأب وأم والأخت لأب والأخت لأم وهن محرمات بالنص فالأختية عبارة عن المجاورة في الرحم أو في الصلب فكان الاسم حقيقة يتناول الفرق الثلاث والرابع العمات تثبت حرمتهن بقوله تعالى {وعماتكم} [النساء: 23] . ويدخل في ذلك أخوات الأب لأب وأم أو لأب أو لأم والخامس الخالات تثبت حرمتهن بقوله تعالى {وخالاتكم} [النساء: 23] ويدخل في ذلك أخوات الأم لأب وأم أو لأب أو لأم والسادس بنات الأخ تثبت حرمتهن بقوله تعالى {وبنات الأخ} [النساء: 23] ويدخل في ذلك بنات الأخ لأب وأم أو لأب أو لأم والسابع بنات الأخت تثبت حرمتهن بقوله تعالى {وبنات الأخت} [النساء: 23] ويستوي في ذلك أولا بنات الأخت لأب وأم أو لأب أو لأم، وأما السبع اللاتي من جهة النسب الأمهات من الرضاعة والأخوات تثبت حرمتهن بقوله تعالى {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} [النساء: 23] والحاصل أنه يثبت بالرضاع من الحرمة ما يثبت بالنسب قال - صلى الله عليه وسلم - «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». والثالث أم المرأة فإن من تزوج امرأة حرمت عليه أمها ثبت بقوله تعالى {وأمهات نسائكم} [النساء: 23] ، وهذه الحرمة تثبت بنفس العقد عندنا، وكان بشر المريسي وابن شجاع - رحمهما الله تعالى - يقولان لا تثبت إلا بالدخول بالبنت، وهو أحد قولي الشافعي - رحمه الله تعالى -. ومذهبنا مذهب عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - وإليه رجع ابن مسعود - رضي الله عنه - حين ناظره عمر - رضي الله عنه - ومذهبهم مذهب علي وزيد بن ثابت - رضي الله عنهما - واستدلوا بقوله تعالى {وأمهات نسائكم} [النساء: 23] الآية. والأصل أن الشرط والاستثناء إذا تعقب كلمات منسوقة بعضها على بعض ينصرف إلى جميع ما سبق ذكره، ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تزوج امرأة حرمت عليه أمها دخل بها أو لم يدخل وحرمت عليه ابنتها إن دخل بها»، وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: أم المرأة مبهمة فأبهموا ما أبهم الله بين أن الشرط المذكور ينصرف إلى الربائب دون الأمهات، وهذا هو الظاهر لغة فالنساء المذكورة في قوله تعالى {وأمهات نسائكم} [النساء: 23] مخفوضة بالإضافة، وفي قوله {من نسائكم} [النساء: 23] مخفوض بحرف "من" والمخفوضات بأداتين لا ينعتان بنعت واحد. ألا ترى أنه لا يستقيم أن يقول مررت بزيد إلى عمرو الظريفين، وهو الأصل في اللغة أن المعمول الواحد لا يكون بعاملين فلو جعلنا قوله {وربائبكم} [النساء: 23] ابتداء عطفا لصار قوله {من نسائكم} [النساء: 23] مخفوضا بحرف من وبالإضافة جميعا، وذلك لا يجوز فعرفنا أن قوله {وربائبكم} [النساء: 23] ابتداء بحرف الواو وأن أمهات النساء مبهمة كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما -، فأما حرمة الربيبة وهي بنت المرأة لا تثبت الحرمة إلا بالدخول بالأم لقوله تعالى {من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23] ، ولأن الربائب ليس في معنى الأمهات فالظاهر من العبارة أن أم الزوجة تبرز إلى زوج بنتها قبل الدخول، وأما بنت المرأة لا تبرز إلى زوج أمها قبل الدخول بالأم. واختلفت الصحابة - رضي الله عنهم - أن الحجر هل ينتصب شرطا لهذه الحرمة أو لا؟ فكان علي - رضي الله عنه - يقول: الحجر شرط لقوله تعالى {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23] ولما روي «أنه عرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت أم سلمة - رضي الله عنهما -، فقال: لو لم تكن ربيبتي في حجري ما كانت تحل لي أرضعتني وأباها ثويبة»، فأما عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - كانا يقولان: الحجر ليس بشرط وبه أخذ علماؤنا - رحمهم الله تعالى - للحديث الذي رويناه وتفسير الحجر، وهو أن البنت إذا زفت مع الأم إلى بيت زوج الأم فهذه كانت في حجره، وإذا كانت مع أبيها لم تكن في حجر زوج الأم، وإنما ذكر الحجر في الآية على وجه العادة فإن بنت المرأة تكون في حجر زوج أمها لا على وجه الشرط مثل قوله تعالى {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} [النور: 33] مذكور على وجه العادة لا على وجه الشرط. ![]()
__________________
|
|
#7
|
||||
|
||||
![]() الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (ت ٤٨٣ هـ) عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس) المجلد الرابع صـــ 200 الى صـــ 209 (87) ألا ترى أنه قال {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} [النساء: 23] شرط للحل عدم الدخول فذلك دليل على أنه قال بعد ما دخل بالأم لا تحل له البنت قط سواء كانت في حجره أو لم تكن، ولا يحل له أن يجمع بين الأم والبنت، وإن لم يكن دخل بالأم؛ لأن القرابة التي بينهما أقوى من القرابة التي بين المرأة وعمتها، وقد بينا أن هناك لا يجوز الجمع بينهما نكاحا فهنا أولى، فأما إذا طلق الأم قبل أن يدخل بها أو ماتت يحل له أن يتزوج البنت، وكان زيد - رحمه الله تعالى - يفرق بين الطلاق والموت فيقول: بالموت ينتهي النكاح حتى يتقرر به كمال المهر فنزل ذلك منزلة الدخول، ولكنا نقول هذه الحرمة تعلقت شرعا بشرط الدخول فلو أقمنا الموت مقامه كان ذلك بالرأي. وكما لا يجوز نصب شرط بالرأي لا يجوز إقامة شرط مقام شرط بالرأي، فأما حليلة الابن على الأب حرام سواء دخل الابن بها أو لم يدخل لقوله تعالى {وحلائل أبنائكم} [النساء: 23] سميت حليلة؛ لأنها تحل للابن من الحل أو هو مشتق من الحلول على معنى أنها تحل على فراشه وهو يحل في فراشها وكما تحرم حليلة الابن نسبا فكذلك حليلة الابن من الرضاع عندنا وعند الشافعي - رحمه الله تعالى - لا تحرم حليلة الابن من الرضاع بناء على أصله أن لبن الفحل لا يحرم واستدل بالتقييد المذكور هنا بقوله {من أصلابكم} [النساء: 23] ، ولكنا نستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.» والمراد بقوله تعالى {من أصلابكم} [النساء: 23] بيان إباحة حليلة الابن من التبني فإن التبني انتسخ بقوله تعالى {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب: 5] ، وكان «النبي - صلى الله عليه وسلم - تبنى زيد بن حارثة ثم تزوج زينب بعد ما طلقها زيد فطعن المشركون وقالوا إنه تزوج حليلة ابنه»، وفيه نزل قوله تعالى {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} [الأحزاب: 40] فهذا التقييد هنا لدفع طعن المشركين وكما تحرم حليلة الابن، فكذلك حليلة ابن الابن، وإن سفل؛ لأن اسم الابن يتناوله مجازا، فإن قيل ابن الابن لا يكون من صلبه فكيف يصح تعدية هذا التحريم إليه مع هذا التقييد قلنا مثل هذا اللفظ يذكر باعتبار أن الأصل من صلبه كقوله تعالى {هو الذي خلقكم من تراب} [غافر: 67] والمخلوق من التراب هو الأصل وكذلك منكوحة الأب حرام على الابن دخل بها الأب أو لم يدخل لقوله تعالى {، ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} [النساء: 22] وكما يحرم على الابن يحرم على النوافل من قبل الرجال والنساء جميعا؛ لأن اسم الأب يتناول الكل مجازا. فأما قوله تعالى {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23] معناه حرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين؛ لأنه معطوف على أول الآية والجمع بين الأختين نكاحا حرام وكذلك الجمع بينهما فراشا حتى لا يجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين، وهو مذهب علي وابن مسعود وعمار بن ياسر - رضوان الله عليهم - فإنه قال: ما حرم الله تعالى من الحرائر شيئا إلا وحرم من الإماء مثله إلا رجل يجمعهن يريد به الزيادة على الأربع، وكان عثمان - رضي الله عنه - يقول: أحلتهما آية وحرمتهما آية يريد بآية التحليل قوله تعالى {أو ما ملكت أيمانكم} [النساء: 3] وبآية التحريم قوله تعالى {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23] فكان يتوقف في ذلك، ولكنا نقول عند التعارض يترجح جانب الحرمة ويتأيد هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجمع ماءه في رحم أختين»، ولأن المراد من قوله {وأن تجمعوا} [النساء: 23] حرمة الجمع فراشا كما أن قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] يقتضي حرمة الاستفراش بأي سبب كان والجمع فراشا يحصل بالوطء بملك اليمين فلهذا يحرم عليه الجمع بينهما، فإن تزوجهما في عقدة واحدة بطل نكاحهما؛ لأنه لا وجه لتصحيح نكاح إحداهما بغير عينها فإن النكاح عقد تمليك فلا يثبت في المجهولة ابتداء، ولا بعينها إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى، ولا يمكن تصحيح نكاحهما؛ لأن الجمع محرم بالنص فتعين البطلان، وإن نكح إحداهما قبل الأخرى فنكاح الأولى جائز؛ لأن بهذا العقد لا يصير جامعا ونكاح الثانية فاسد؛ لأن بهذا العقد يصير جامعا بين الأختين فتعين فيه جهة البطلان فيفرق بينهما، فإن لم يكن دخل بها فلا شيء لها عليه، وإن كان قد دخل بها فعليها العدة ولها الأقل من المسمى ومن مهر المثل؛ لأن الدخول حصل بشبهة صورة النكاح فيسقط به الحد ويجب المهر والعدة كما إذا زفت إليه غير امرأته وحكم ذلك مروي عن علي - رضي الله عنه -، فأما وجوب الأقل من المسمى ومن مهر المثل فهو مذهبنا، وعند زفر - رحمه الله تعالى - يجب مهر المثل بالغا ما بلغ؛ لأن الواجب عند فساد العقد بدل المتلف. ألا ترى أن المقبوض بحكم الشراء الفاسد يكون مضمونا بالقيمة بالغة ما بلغت عند الإتلاف، فكذلك المستوفى بالنكاح الفاسد، ولكنا نقول المستوفى بالوطء ليس بمال فإنما يتقدر بالمال بالتسمية إلا أن المسمى إذا كان أكثر من مهر المثل لم تجب الزيادة لعدم صحة التسمية، فإذا كان أقل لم تجب الزيادة على قدر المسمى لانعدام التسمية فيه ولتمام التراضي على قدر المسمى بخلاف المبيع فإنه مال متقوم بنفسه فبدله يتقدر بالقيمة، وإنما يتحول عنه إلى المسمى إذا صحت التسمية فإذا لم تصح لفساد العقد كان مضمونا بالقيمة، ثم يعتزل عن امرأته حتى تنقضي عدة الأخرى سواء دخل بالأولى أو لم يدخل بها؛ لأن رحم المعتدة مشغول بمائه حكما، ولو وطئ الأخرى في هذه الحالة صار جامعا ماءه في رحم الأختين، وذلك حرام شرعا، ولكن أصل نكاح الأولى بهذا لا يبطل؛ لأن اشتغال رحم الثانية عارض على شرف الزوال فلا يبطل ذلك أصل النكاح كالمنكوحة إذا وطئت بالشبهة ووجبت عليها العدة لا يكون للزوج أن يطأها حتى تنقضي عدتها، ولا يبطل نكاحها، ولا تتزوج المرأة في عدة أختها منه من نكاح فاسد أو جائز عن طلاق بائن أو غير بائن وعلى قول الشافعي - رحمه الله تعالى - إن كانت تعتد منه من طلاق رجعي فليس له أن يتزوج، وإن كان من ثلاث أو خلع فله أن يتزوج أختها في عدتها، وقد روي مثل مذهبه عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - إلا أن أبا يوسف - رحمه الله تعالى - ذكر في الأمالي رجوع زيد - رضي الله عنه - عن هذا القول. وذكر الطحاوي - رحمه الله تعالى - قول زيد الآخر أنه ليس له أن يتزوجها وحكي أن مروان شاور الصحابة - رضي الله عنهم - في هذا فاتفقوا على أنه يفرق بينهما وخالفهم زيد، ثم رجع إلى قولهم، وقال عبيدة السلماني: ما اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم على شيء كاجتماعهم على تحريم نكاح الأخت في عدة الأخت والمحافظة على الأربع قبل الطهر وذكر سلمان بن بشار عن علي وابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - المنع من نكاح الأخت المعتدة من طلاق بائن أو ثلاث، وكان الحسن البصري - رحمه الله تعالى - يقول: إن كانت حاملا فليس له أن يتزوج أختها وإن كانت حائلا فله أن يتزوجها، وحجة الشافعي - رحمه الله تعالى - أن النكاح مرتفع بينها بجميع علائقه فيجوز له نكاح أختها كما بعد انقضاء العدة. ودليل الوصف أنه لو وطئها، وقال: علمت أنها علي حرام يلزمه الحد، ولو جاءت بولد لأكثر من سنتين حتى علم أن العلوق كان في العدة لم يثبت النسب، ولو بقيت بينهما علاقة من علائق النكاح لسقط به الحد وثبت النسب والعدة الواجبة إثر ماء محترم؛ لأنها من حقوق النكاح حتى لا يجب بدون توهم الدخول وما كان من العدة لحق النكاح لا يعتبر فيه توهم الدخول كعدة الوفاة، وإذا ثبت الوصف فتأثيره أن المحرم هو الجمع بينهما نكاحا فلا يصير جامعا بهذا حتى لم يبق بينه وبين الأولى علقة من علائق النكاح، والمقصود من هذا التحريم صيانة الرحم عن القطيعة التي تكون بسبب المنازعة بينهما في القسم، وذلك لا يتحقق بعد الخلع والتطليقات الثلاثة. (ولنا) أن هذه معتدة على الإطلاق فليس له أن يتزوج بأختها كالعدة من طلاق رجعي، وهذا لأن العدة حق من حقوق النكاح، ألا ترى أنها لا تجب بدون النكاح أو شبهة النكاح، ولا معنى لما قال: إن وجوبها بماء محترم؛ لأنه إن اعتبر أصل الماء فهو موجود في الزانية، ولا عدة، وإن اعتبر الماء المحترم فاحترام الماء يكون بالنكاح، والدليل عليه أن العدة تختلف بالرق والحرية، واشتغال الرحم بالماء لا يختلف، وإنما يختلف ملك النكاح لتفاوت بينهما في الحل الذي ينبني عليه النكاح فعرفنا أنه من حقوق النكاح، ولكن حق النكاح بعد ارتفاعه إنما يبقى إذا كان النكاح متأكدا وتأكده بالموت أو بالدخول، ولهذا لا تجب العدة على المطلقة قبل الدخول، وإذا ثبت أنه من حقوق النكاح فالحق يعمل عمل الحقيقة في إثبات الحرمة كما أن حق ملك اليمين للمكاتب كحقيقة ملك اليمين للحر في المنع من نكاح أمته وكما أن الرضاع في التحريم ينزل منزلة النسب؛ لأنه في البعضية بمنزلة الحق من الحقيقة، والدليل عليه أن في جانبها جعل الحق كالحقيقة في حق المنع من التزوج، فكذلك في جانبه ونحن نسلم ارتفاع ملك النكاح بجميع علائقه إنما ندعي بقاء الحق، وهذا الحكم عندنا يثبت بدون ملك النكاح فإن بالنكاح الفاسد أصل الملك لا يثبت، ثم يكون ممنوعا من نكاح أختها وكما يلزمه الحد إذا وطئها يلزمها الحد إذا مكنت نفسها منه، ولا يدل ذلك على زوال المنع من جانبها، فكذلك من جانبه وكما لا يجوز له أن يتزوج أختها في عدتها، فكذلك لا يجوز أن يتزوج أحدا من محارمها؛ لأنهما في معنى الأختين في حرمة الجمع بينها وكذلك لا يجوز له أن يتزوج أربعا سواها في عدتها؛ لأن الجمع بين الخمس حرام بالنكاح بمنزلة الجمع بين الأختين (قال): ولا يحل له أن يجمع بين امرأتين ذواتي رحم محرم من نسب أو رضاع؛ لأن الرضاع في حكم الحرمة بمنزلة النسب وبهذا تبين أن في المنصوص لا يعتبر المعنى وأن المعتبر حرمة الجمع بالنص لا صيانة الرحم عن القطيعة فإنه ليس بين الأختين من الرضاعة قرابة يفترض وصلها، ثم كان الجمع بينهما حراما، فإن تزوجها فهو على ما بينا في الأختين نسبا زاد في التفريع هنا، فقال: إن تزوجها في عقدة ودخل بهما فرق بينه وبينهما وعليهما العدة، وإنما تصير كل واحدة منهما شارعة في العدة من وقت التفريق عندنا، وقال زفر - رحمه الله تعالى: من آخر الوطآت وكذلك في كل نكاح فاسد؛ لأن وجوب العدة بسبب الوطء فيعتبر من آخر الوطآت، ولكنا نقول: الموجب للعدة شبهة النكاح ورفع هذه الشبهة بالتفريق. ألا ترى أن وطأها قبل التفريق لا يلزمه الحد وبعده يلزمه فلا تصير شارعة في العدة ما لم ترتفع الشبهة، وذلك بالتفريق بينهما والدليل على أن المعتبر هو الشبهة أنه، وإن وطئها مرارا لا يجب إلا مهر واحد لاستناده إلى شبهة واحدة إذا ثبت هذا فنقول بعد ما فرق بينه وبينهما ليس له أن يتزوج واحدة منهما حتى تنقضي عدة الأخرى؛ لأن الأخرى في عدته وعدة الأخت تمنع نكاح الأخت، فإن انقضت عدتهما معا فله أن يتزوج أيتهما شاء، وإن انقضت عدة إحداهما فليس له أن يتزوج التي انقضت عدتها؛ لأن الأخرى معتدة وله أن يتزوج المعتدة؛ لأن الأخرى منقضية العدة وعدة هذه لا تمنع صاحب العدة من نكاحها إنما تمنع غيره من ذلك. وكذلك لو كان دخل بإحداهما، ثم فرق بينه وبينهما فالعدة على التي دخل بها دون الأخرى وله أن يتزوج المعتدة، ولا يتزوج الأخرى حتى تنقضي عدة المعتدة لما بينا (قال): وإذا وطئ الرجل امرأة بملك يمين أو نكاح أو فجور يحرم عليه أمها وابنتها وتحرم هي على آبائه وأبنائه، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى: إن كان الوطء بنكاح أو ملك يمين، فكذلك الجواب وإن كان بالزنا لا تثبت به الحرمة واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - «الحرام لا يحرم الحلال»، وهكذا رواه ابن عباس - رضي الله عنه -. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عمن يبتغي من امرأة فجورا، ثم يتزوج ابنتها، فقال: لا بأس لا يحرم الحرام الحلال»، وقالت عائشة - رضي الله عنها - «سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل يبتغي من امرأة حراما، ثم يتزوج ابنتها، فقال: يجوز لا يحرم الحرام الحلال، وإنما يحرم ما كان من قبل النكاح» وعلل الشافعي - رحمه الله تعالى - في كتابه، فقال: النكاح أمر حمدت عليه والزنا فعل رجمت عليه فأنى يستويان، ومعنى هذا أن ثبوت حرمة المصاهرة بطريق النعمة والكرامة فإن الله تعالى من به على عباده بقوله تعالى {فجعله نسبا وصهرا} [الفرقان: 54] ، وهو معقول، فإن أمهاتها وبناتها يصرن كأمهاته وبناته حتى يخلو بهن ويسافر بهن، وهذا يكون بطريق الكرامة والزنا المحض سبب لإيجاب العقوبة فلا يصلح سببا لإيجاب الحرمة والكرامة. ألا ترى أنه لا يثبت به النسب والعدة، فكذلك حرمة المصاهرة، وحجتنا في ذلك قوله تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} [النساء: 22] ، وقد بينا أن النكاح للوطء حقيقة فتكون الآية نصا في تحريم موطوءة الأب على الابن فالتقييد بكون الوطء حلالا زيادة. ولا تثبت هذه الزيادة بخبر الواحد، ولا بالقياس والدليل عليه أن موطوءة الأب بالملك حرام على الابن بهذه الآية فدل أن المراد بالنكاح الوطء لا العقد، وقد نقل مثل مذهبنا عن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وعمران بن حصين - رضي الله عنهم - بألفاظ مختلفة والمعنى فيه أنه وطء في محله فيكون موجبا للحرمة كالوطء بالنكاح وملك اليمين وتفسير الوصف أن الوطء في هذا المحل محرم لكونه مثبتا؛ لأن هذا الفعل حرث والحرث لا يكون إلا في محل مثبت وكون المحل مثبتا لا يختلف بالملك وعدم الملك، وتأثيره أن ثبوت الحرمة بسبب هذا الوطء في الملك ليس لعين الملك بل لمعنى البعضية؛ لأن الولد الذي يتخلق من الماءين يكون بعضا لكل واحد منهما فتتعدى شبهة البعضية إلى أمهاتها وبناتها وإلى آبائه وأبنائه والشبهة تعمل عمل الحقيقة في إيجاب الحرمة، وهذا المعنى لا يختلف بالملك وعدم الملك؛ لأن سبب البعضية حسي، وإنما تكون هذه البعضية موجبة حرمة الموطوءة؛ لأن البعضية الحكمية عملها كعمل حقيقة البعضية وحقيقة البعضية توجب الحرمة في غير موضع الضرورة، فأما في موضع الضرورة لا توجب. ألا ترى أن حواء - عليها السلام - خلقت من آدم - عليه السلام - فكانت بعضه حقيقة وهي حلال له، فكذلك شبهة البعضية إنما توجب الحرمة في غير موضع الضرورة، وفي حق الموطوءة ضرورة، وهذا لأن العلل الشرعية أمارات لا موجبات فلهذا ثبت الحكم بها في الموضع الذي جعلها الشرع علة. وقد جعل الشرع موضع الضرورة مستثنى من الحرمة بقوله تعالى {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام: 119] ، فأما النسب فعندنا أحكام النسب تثبت، ولكن الانتساب لا يثبت؛ لأنه لمقصود الشرف به، ولا يحصل ذلك بالنسبة إلى الزاني والعدة إنما لا تجب؛ لأن وجوبها في الأصل باعتبار حق النكاح أو الفراش وبين النكاح والسفاح منافاة فبانعدام الفراش ينعدم السبب الموجب للعدة. وبعض أصحابنا - رحمهم الله تعالى - يقولون: الحرمة تثبت هنا بطريق العقوبة كما تثبت حرمة الميراث في حق القاتل عقوبة، والأصل فيه قوله تعالى {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم} [النساء: 160] الآية وعلى هذا الطريق يقولون المحرمية لا تثبت حتى لا تباح الخلوة والمسافرة بها، ولكن هذا التعليل فاسد فإن التعليل لتعدية حكم النص لا لإثبات حكم آخر سوى المنصوص فإن ابتداء الحكم لا يجوز إثباته بالتعليل، والمنصوص حرمة ثابتة بطريق الكرامة فإنما يجوز التعليل لتعدية تلك الحرمة إلى الفروع لا لإثبات حكم آخر سوى المنصوص، ولكن الصحيح أن نقول هذا الفعل زنا موجب للحد كما قال: ولكنه مع ذلك حرث للولد ويصلح أن يكون سببا لثبوت الحرمة والكرامة باعتبار أنه حرث للولد. ألا ترى أنه في جانبها الفعل زنا ترجم عليه، وإذا حبلت به كان لذلك الولد من الحرمة ما لغيره من بني آدم فيثبت نسبه منها وتحرم هي عليه. وثبوت هذا كله بطريق الكرامة؛ لأنه حرث لا؛ لأنه زنا، فكذا هنا فبهذا التقرير يتبين فساد استدلالهم بالحديث فإنا لا نجعل الحرام محرما للحلال، وإنما نثبت الحرمة باعتبار أن الفعل حرث للولد وحرمة هذا الفعل بكونه زنا على أن هذا الحديث غير مجرى على ظاهره فإن كثيرا من الحرام يحرم الحلال كما إذا وقعت قطرة من خمر في ماء وكالوطء بالشبهة ووطء الأمة المشتركة ووطء الأب جارية الابن فإن هذا كله حرام حرم الحلال لا؛ لأنه حرام بل للمعنى الذي قلنا، فكذلك هنا ومن فروع هذه المسألة بنت الرجل من الزنا بأن زنى ببكر وأمسكها حتى ولدت بنتا حرم عليه تزوجها عندنا، وعند الشافعي - رحمه الله تعالى - لا يكون حراما وله في البنت الملاعنة التي لم يدخل بالأم قولان واستدل، فقال: نص التحريم قوله تعالى {وبناتكم} [النساء: 23] ، وذلك يتناول البنت المضافة إليه نسبا والبنت من الزنا غير مضافة إليه نسبا بل هي حرام الإضافة إليه نسبا، ولو أثبتنا الحرمة فيها كان إثبات الحرمة بالزنا وبه فارق جانبها فإن الابن من الزنا يضاف إلى الأم نسبا فكانت هي حراما عليه لقوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] وتبين بهذا التفريق أن هذه الحرمة الثابتة شرعا تنبني على ثبوت النسب شرعا والنسبة إلى الزاني غير ثابتة من كل وجه، فكذا هنا، وهكذا يقول على أحد القولين في بنت الملاعنة وعلى القول الآخر يفرق بينهما فيقول: النسب هناك كان ثابتا باعتبار الفراش لكن انقطع باللعان وبقي موقوفا على حقه لو أكذب نفسه يثبت النسب منه، ولا يثبت من غيره، وإن أعاده فيجوز إبقاء الحرمة وهنا النسب لم يكن ثابتا أصلا لانعدام الفراش، ولا هو بعرض الثبوت منه ولنا أن ولد الزنا بعضه فتكون محرمة عليه كولد الراشدة، وهذا لأن البعضية باعتبار الماء، وذلك لا يختلف حقيقته بالملك وعدم الملك فالولد المخلوق من الماءين يكون بعض كل واحد منهما «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة - رضي الله عنها - هي بضعة مني» والبعضية علة صالحة لإثبات الحرمة؛ لأن الإنسان كما لا يستمتع بنفسه لا يستمتع ببعضه إلا أن النسب لا يثبت لا لانعدام البعضية بل للاشتباه؛ لأن الزانية يأتيها غير واحد، ولو أثبتنا النسب بالزنا ربما يؤدي إلى نسبة ولد إلى غير أبيه، وذلك حرام بالنص حتى إن في جانبها لما كان لا يؤدي إلى هذا الاشتباه كان النسب ثابتا، ولأن قطع النسب شرعا لمعنى الزجر عن الزنا فإنه إذا علم أن ماءه يضيع بالزنا يتحرز عن فعل الزنا، وذلك يوجب إثبات الحرمة؛ لأن معنى الزجر عن الزنا به يحصل فإنه إذا علم أنه بسبب الحرام مرة يفوته حلال كثير يمتنع من مباشرة الحرام فلهذا أثبتنا الحرمة. وإن لم يثبت النسب هنا إذا عرفنا هذا فنقول كما ثبتت حرمة المصاهرة بالوطء تثبت بالمس والتقبيل عن شهوة عندنا سواء كان في الملك أو في غير الملك، وعند الشافعي - رحمه الله تعالى - لا تثبت الحرمة بالتقبيل والمس عن شهوة أصلا في الملك أو في غير الملك حتى إنه لو قبل أمته، ثم أراد أن يتزوج ابنتها عنده يجوز. وكذلك لو تزوج امرأة وقبلها بشهوة، ثم ماتت عنده يجوز له أن يتزوج ابنتها بناء على أصله أن حرمة المصاهرة تثبت بما يؤثر في إثبات النسب والعدة، وليس للمس والتقبيل عن شهوة تأثير في إثبات النسب والعدة، فكذلك في إثبات الحرمة وقاس بالنكاح الفاسد فإن التقبيل والمس فيه لا يجعل كالدخول في إيجاب المهر والعدة، وكذلك في إيجاب الحل للزوج الأول، فكذا هنا، ولكنا نستدل بآثار الصحابة - رضي الله عنهم -، فقد روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: إذا جامع الرجل المرأة أو قبلها بشهوة أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وابنتها. وعن مسروق - رحمه الله تعالى - قال: بيعوا جاريتي هذه أما إني لم أصب منها ما يحرمها على ولدي من المس والقبلة، ولأن المس والتقبيل سبب يتوصل به إلى الوطء فإنه من دواعيه ومقدماته فيقام مقامه في إثبات الحرمة كما أن النكاح الذي هو سبب الوطء شرعا يقام مقامه في إثبات الحرمة إلا فيما استثناه الشرع وهي الربيبة، وهذا لأن الحرمة تنبني على الاحتياط فيقام السبب الداعي فيه مقام الوطء احتياطا، وإن لم يثبت به سائر الأحكام كما تقام شبهة البعضية بسبب الرضاع مقام حقيقة البعضية في إثبات الحرمة دون سائر الأحكام، ولو نظر إلى فرجها بشهوة تثبت به الحرمة عندنا استحسانا، وفي القياس لا تثبت، وهو قول ابن أبي ليلى والشافعي - رحمهما الله تعالى - لأن النظر كالتفكر؛ إذ هو غير متصل بها. ألا ترى أنه لا يفسد به الصوم، وإن اتصل به الإنزال، ولأن النظر لو كان موجبا للحرمة لاستوى فيه النظر إلى الفرج وغيره كالمس عن شهوة، ولكنا تركنا القياس بحديث أم هانئ - رضي الله تعالى عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نظر إلى فرج امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها» وعن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه جرد جارية، ثم نظر إليها، ثم استوهبها منه بعض بنيه، فقال: أما إنها لا تحل لك، وفي الحديث «ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها»، ثم النظر إلى الفرج بشهوة نوع استمتاع؛ لأن النظر إلى المحل إما لجمال المحل أو للاستمتاع، وليس في ذلك الموضع جمال ليكون النظر لمعنى الجمال فعرفنا أنه نوع استمتاع كالمس بخلاف النظر إلى سائر الأعضاء، ولأن النظر إلى الفرج لا يحل إلا في الملك بمنزلة المس عن شهوة بخلاف النظر إلى سائر الأعضاء، ثم معنى الشهوة المعتبرة في المس والنظر أن تنتشر به الآلة أو يزداد انتشارها، فأما مجرد الاشتهاء بالقلب غير معتبر. ألا ترى أن هذا القدر يكون من الشيخ الكبير الذي لا شهوة له، والنظر إلى الفرج الذي تتعلق به الحرمة هو النظر إلى الفرج الداخل دون الخارج، وإنما يكون ذلك إذا كانت متكئة أما إذا كانت قاعدة مستوية أو قائمة لا تثبت الحرمة بالنظر، ثم حرمة المصاهرة بهذه الأسباب تتعدى إلى آبائه، وإن علوا وأبنائه، وإن سفلوا من قبل الرجال والنساء جميعا، وكذلك تتعدى إلى جداتها وإلى نوافلها لما بينا أن الأجداد والجدات بمنزلة الآباء والأمهات، والنوافل بمنزلة الأولاد فيما تنبني عليه الحرمة، وذلك كله مروي عن إبراهيم النخعي - رحمه الله تعالى -. وعلى هذا إذا جامع الرجل أم امرأته حرمت عليه امرأته نقل ذلك عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -، وكان المعنى فيه أن الحرمة بسبب المصاهرة مثل الحرمة بالرضاع والنسب، وذلك كما يمنع ابتداء النكاح يمنع بقاء النكاح، فكذلك هذا يمنع بقاء النكاح كما يمنع ابتداءه (قال): رجل له أربع نسوة فطلق واحدة منهن بعد ما دخل بها ثلاثا أو واحدة بائنة أو خلعها لم يجز أن يتزوج أخرى ما دامت في العدة؛ لأن حرمة ما زاد على الأربع كحرمة الأختين فكما أن هناك العدة تعمل على حقيقة النكاح في المنع، فكذا هنا، فإن قال: أخبرتني أن عدتها قد انقضت، فإن كان ذلك في مدة لا تنقضي في مثلها العدة لا يقبل قوله، ولا قولها إن أخبرت إلا أن تفسر بما هو محتمل من إسقاط سقط مستبين الخلق ونحوه، وإن كان ذلك في مدة تنقضي في مثلها العدة إن صدقته أو كانت ساكتة أو غائبة فله أن يتزوج أخرى أو أختها إن شاء ذلك، وكذلك إن كذبته في قول علمائنا، وعن زفر - رحمه الله تعالى - ليس له ذلك؛ لأن عدتها باقية فإنها أمينة في الإخبار بما في رحمها، وقد أخبرت ببقاء عدتها والزوج إنما أخبر عليها وهي تكذبه في ذلك فيسقط منه اعتبار قوله كشاهد الأصل أن أكذب شاهد الفرع أو راوي الأصل إن كذب الراوي عنه والدليل عليه بقاء نفقتها وسكناها وثبوت نسب ولدها إن جاءت به لأقل من سنتين وبالاتفاق إذا حكمنا بثبوت نسب ولدها يبطل نكاح أختها، فكذلك إذا قضينا بنفقتها، وحجتنا في ذلك أنه أخبر عن أمر بينه وبين ربه عز وجل فكان أمينا مقبول القول فيه إذا احتمل كمن قال: صمت أو صليت. وبيان الوصف أنه أخبر بحل نكاح أختها له. ولا حق للمطلقة في ذلك فإن الحل والحرمة من حق الشرع، وإنما حق العباد فيه باعتبار قيام حق لهم في محله، ولا حق لها في نكاح أختها فلا يعتبر تكذيبها فيه، والدليل أن بمجرد الخبر يثبت له حل نكاح أختها، ألا ترى أنها لو كانت غائبة كان له أن يتزوج بأختها، ولو بطل ذلك الحق إنما يبطل بتكذيبها وتكذيبها يصلح حجة في إبقاء حقها لا في إبطال حق ثابت للزوج والنفقة والسكنى حقها فيكون باقيا، وأما نكاح الأخت لا حق لها فيه فلا يعتبر تكذيبها في ذلك؛ لأن ثبوت الحكم بحسب الحجة، وكذلك ثبوت النسب من حقها وحق الولد؛ لأنه يندفع به تهمة الزنا عنها ويتشرف به الولد، ثم من ضرورة القضاء بالنسب الحكم باستناد العلوق إلى ما قبل الطلاق فإذا أسندنا صار الخبر بانقضاء العدة قبل الوضع مستنكرا فلهذا بطل نكاح الأخت بخلاف القضاء بالنفقة فإنه يقتصر على الحال، وليس من ضرورة الحكم بها الحكم ببقاء العدة مطلقا فإن المال تكثر أسباب وجوبه في الجملة توضيحه أن من ضرورة القضاء بالنسب القضاء بالفراش فتبين أنه صار جامعا بين الأختين في الفراش، وليس من ضرورة القضاء بالنفقة بالفراش وأكثر ما فيه أنه يجتمع عليه استحقاق النفقة للأختين ذلك جائز كما في ملك اليمين. (قال) وإن مات لم يكن لها ميراث، وكان الميراث للأخرى، هكذا ذكر هنا وذكر في كتاب الطلاق، وقال: الميراث للأولى دون الثانية، ولكن وضع المسألة فيما إذا كان مريضا حين قال: أخبرتني أن عدتها قد انقضت، وإنما يتحقق اختلاف الروايات في حكم الميراث إذا كان الطلاق رجعيا، فأما إذا كان الطلاق بائنا أو ثلاثا، وكان في الصحة فلا ميراث للأولى سواء أخبر الزوج بهذا أو لم يخبر، ولكن في كتاب الطلاق لما وضع المسألة في المريض وكان قد تعلق حقها بماله لم يقبل قوله في إبطال حقها كما في نفقتها وهنا وضع المسألة في الصحيح، ولا حق لها في مال الزوج في صحته فكان قوله مقبولا في إبطال إرثها، توضيحه أن بقوله أخبر أن الواقع صار بائنا فكأنه أبانها في صحته فلا ميراث لها، ولو أبانها في مرضه كان لها الميراث، وقيل: هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - لأن عندهما للزوج أن يجعل الرجعى بائنا خلافا لمحمد - رحمه الله تعالى - ومتى كان الميراث للأولى فلا ميراث للثانية؛ لأن بين إرث الأختين منه بالنكاح منافاة ومتى لم ترث الأولى ورثته الثانية (قال) وإن ماتت في العدة أو لحقت بدار الحرب مرتدة حل له أن يتزوج أختها؛ لأن لحوقها كموتها فلا تبقى معتدة بعد موتها، فإن رجعت مسلمة قبل أن يتزوج أختها فله أن يتزوج أختها عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -؛ لأن العدة بعد ما سقطت لا تعود إلا بتجدد سببها وعندهما ليس له أن يتزوج أختها؛ لأنها لما عادت مسلمة كان لحوقها بمنزلة الغيبة. ألا ترى أنه يعاد إليها مالها فلا تعود كحالها فتعود كما كانت، وإن كان قد تزوج أختها قبل رجوعها، ثم رجعت مسلمة عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - روايتان في إحدى الروايتين يبطل نكاح الأخت، وفي الرواية الأخرى لا يبطل ذكر الروايتين عنه في الأمالي ![]()
__________________
|
|
#8
|
||||
|
||||
![]() الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (ت ٤٨٣ هـ) عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس) المجلد الرابع صـــ 210 الى صـــ 219 (88) (قال): ولا بأس بأن يتزوج المسلم الحرة من أهل الكتاب لقوله تعالى {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} [المائدة: 5] الآية، وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - لا يجوز ذلك ويقول: الكتابية مشركة، وقد قال الله تعالى {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: 221] ، وكان يقول: معنى الآية الثانية واللاتي أسلمن من أهل الكتاب ولسنا نأخذ بهذا فإن الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب فدل أن اسم المشرك لا يتناول الكتابي مطلقا، ولو حملنا الآية الثانية على ما قال ابن عمر - رضي الله عنهما - لم يكن لتخصيص الكتابية بالذكر معنى فإن غير الكتابية إذا أسلمت حل نكاحها. وقد جاء عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه تزوج يهودية، وكذلك كعب بن مالك - رحمهما الله تعالى تزوج يهودية، وكذلك إن تزوج الكتابية على المسلمة أو المسلمة على الكتابية جاز، والقسم بينهما سواء كأن جواز النكاح ينبني على الحل الذي به صارت المرأة محلا للنكاح وعلى ذلك ينبني القسم والمسلمة والكتابية في ذلك سواء إسرائيلية كانت أو غير إسرائيلية. وبعض من لا يعتبر قوله فصل بين الإسرائيلية وغيرها، ولا معنى لذلك في الجواز لكونها كتابية، وأما المجوسية لا يجوز نكاحها للمسلم؛ لأنها ليست من أهل الكتاب. وذكر ابن إسحاق في تفسيره عن علي - رضي الله عنه - جواز نكاح المجوسية بناء على ما روي عنه أن المجوس أهل كتاب، ولكن لما واقع ملكهم أخته، ولم ينكروا عليه أسرى بكتابهم فنسوه، وهو مخالف للنص فإن الله تعالى قال {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} [الأنعام: 156] ، وإذا قلنا للمجوس كتاب كانوا ثلاث طوائف، وقال - صلى الله عليه وسلم - «سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم» ولئن كان الأمر على ما قال علي - رضي الله عنه -، ولكن بعد ما نسوا خرجوا من أن يكونوا أهل كتاب، فأما نكاح الصابئة فإنه يجوز للمسلم عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - ويكره، ولا يجوز عند أبي يوسف ومحمد - رحمها الله تعالى - وكذلك ذبائحهم، وهذا الاختلاف بناء على أن الصابئين منهم فوقع عند أبي حنيفة - رحمه الله - أنهم قوم من النصارى يقرءون الزبور ويعظمون بعض الكواكب كتعظيمنا القبلة وهما جعلا تعظيمهم لبعض الكواكب عبادة منهم لها فكانوا كعبدة الأوثان، وقالا: إنهم يخالفون النصارى واليهود فيما يعتقدون فلا يكونون من جملتهم، ولكن أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول: مخالفتهم للنصارى في بعض الأشياء لا تخرجهم من أن يكونوا من جملتهم كبني تغلب فإنهم يخالفون النصارى في الخمور والخنازير، ثم كانوا من جملة النصارى (قال): ولا بأس بأن يتزوج الرجل المرأة وبنت زوج قد كان لها من قبل ذلك يجمع بينهما؛ لأنه لا قرابة بينهما، وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز ذلك؛ لأن بنت الزوج لو كان ذكرا لم يكن له أن يتزوج الأخرى؛ لأنها منكوحة أبيه، وكل امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا لم تجز المناكحة بينهما فالجمع بينهما نكاحا لا يجوز كالأختين، ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن جعفر - رضي الله تعالى عنه - فإنه جمع بين امرأة علي - رضي الله عنه - وابنته، ثم المانع من الجمع قرابة بين المرأتين أو ما أشبه القرابة في الحرمة كالرضاع، وذلك غير موجود هنا وما قاله ابن أبي ليلى - رحمه الله تعالى - إنما يعتبر إذا تصور من الجانبين كما في الأختين، وذلك لا يتصور هنا فإن امرأة الأب لو صورتها ذكرا جاز له نكاح البنت فعرفنا أنهما ليستا كالأختين، ولا بأس بأن يجمع بين امرأتين كانتا عند رجل واحد؛ لأنه لا قرابة بينهما وكما جاز للأول أن يجمع بينهما، فكذلك للثاني، وكذلك لا بأس بأن يتزوج المرأة ويزوج ابنه أمها أو ابنتها فإن محمد بن الحنفية - رضي الله تعالى عنه - تزوج امرأة وزوج ابنتها من ابنه، وهذا لأن بنكاح الأم تحرم الأم هي على ابنه، فأما أمها وابنتها تحرم عليه لا على ابنه فلهذا جاز لابنه أن يتزوج أمها أو ابنتها، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب [باب نكاح الصغير والصغيرة] (قال): وبلغنا «عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه تزوج عائشة - رضي الله عنها - وهي صغيرة بنت ستة سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين، وكانت عنده تسعا» ففي الحديث دليل على جواز نكاح الصغير والصغيرة بتزويج الآباء بخلاف ما يقوله ابن شبرمة وأبو بكر الأصم - رحمهم الله تعالى - أنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى يبلغا لقوله {حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء: 6] فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة، ولأن ثبوت الولاية على الصغيرة لحاجة المولى عليه حتى إن فيما لا تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات، ولا حاجة بهما إلى النكاح؛ لأن مقصود النكاح طبعا هو قضاء الشهوة وشرعا النسل والصغر ينافيهما، ثم هذا العقد يعقد للعمر وتلزمهما أحكامه بعد البلوغ فلا يكون لأحد أن يلزمهما ذلك إذ لا ولاية لأحد عليهما بعد البلوغ، وحجتنا قوله تعالى {واللائي لم يحضن} [الطلاق: 4] بين الله تعالى عدة الصغيرة، وسبب العدة شرعا هو النكاح، وذلك دليل تصور نكاح الصغيرة والمراد بقوله تعالى {حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء: 6] الاحتلام، ثم حديث عائشة - رضي الله عنها - نص فيه، وكذلك سائر ما ذكرنا من الآثار فإن قدامة بن مظعون تزوج بنت الزبير - رضي الله عنه - يوم ولدت، وقال: إن مت فهي خير ورثتي، وإن عشت فهي بنت الزبير، وزوج ابن عمر - رضي الله عنه - بنتا له صغيرة من عروة بن الزبير - رضي الله عنه - وزوج عروة بن الزبير - رضي الله عنه - بنت أخيه ابن أخته وهما صغيران ووهب رجل ابنته الصغيرة من عبد الله بن الحسن فأجاز ذلك علي - رضي الله عنه - وزوجت امرأة ابن مسعود - رضي الله عنه - بنتا لها صغيرة ابنا للمسيب بن نخبة فأجاز ذلك عبد الله - رضي الله عنه -، ولكن أبو بكر الأصم - رحمه الله تعالى - كان أصم لم يسمع هذه الأحاديث والمعنى فيه أن النكاح من جملة المصالح وضعا في حق الذكور والإناث جميعا، وهو يشتمل على أغراض ومقاصد لا يتوفر ذلك إلا بين الأكفاء. والكفء لا يتفق في كل وقت فكانت الحاجة ماسة إلى إثبات الولاية للولي في صغرها ، ولأنه لو انتظر بلوغها لفات ذلك الكفء، ولا يوجد مثله ولما كان هذا العقد يعقد للعمر تتحقق الحاجة إلى ما هو من مقاصد هذا العقد فتجعل تلك الحاجة كالمتحققة للحال لإثبات الولاية للولي، ثم في الحديث بيان أن الأب إذا زوج ابنته لا يثبت لها الخيار إذا بلغت «فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخيرها، ولو كان الخيار ثابتا لهما لخيرها كما خير عند نزول آية التخيير حتى قال لعائشة: إني أعرض عليك أمرا فلا تحدثي فيه شيئا حتى تستشيري أبويك، ثم تلا عليها قوله تعالى {فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا} [الأحزاب: 28] ، فقالت أفي هذا أستشير أبوي أنا أختار الله تعالى ورسوله» ولما لم يخيرها هنا دل أنه لا خيار للصغيرة إذا بلغت، وقد زوجها أبوها وذكر ذلك في الكتاب عن إبراهيم وشريح - رحمهما الله تعالى - وابن سماعة - رحمه الله تعالى - ذكر فيه قياسا واستحسانا، قال: في القياس يثبت لها الخيار؛ لأنه عقد عليها عقدا يلزمها تسليم النفس بحكم ذلك العقد بعد زوال ولاية الأب فيثبت لها الخيار كما لو زوجها أخوها، ولكنا نقول تركنا القياس للحديث، ولأن الأب وافر الشفعة ينظر لها فوق ما ينظر لنفسه ومع وفور الشفعة هو تام الولاية فإن ولايته تعم المال والنفس جميعا فلهذا لا يثبت لها الخيار في عقده، وليس النكاح كالإجارة؛ لأن إجارة النفس ليست من المصالح وضعا بل هو كد وتعب، وإنما تثبت الولاية فيه على الصغير لحاجته إلى التأدب وتعلم الأعمال، وذلك يزول بالبلوغ فلهذا أثبتنا لها الخيار، قال: وفي الحديث دليل فضيلة عائشة - رضي الله تعالى عنها - فإنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين في بدء أمرها، وقد أحرزت من الفضائل ما «قال - صلوات الله عليه - تأخذون ثلثي دينكم من عائشة»، وفيه دليل أن الصغيرة يجوز أن تزف إلى زوجها إذا كانت صالحة للرجال فإنها زفت إليه وهي بنت تسع سنين فكانت صغيرة في الظاهر وجاء في الحديث أنهم سمنوها فلما سمنت زفت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال): وبلغنا عن إبراهيم أنه كان يقول: إذا أنكح الوالد الصغير أو الصغيرة فذلك جائز عليهما، وكذلك سائر الأولياء وبه أخذ علماؤنا - رحمهم الله تعالى - فقالوا: يجوز لغير الأب والجد من الأولياء تزويج الصغير والصغيرة وعلى قول مالك - رحمه الله تعالى - ليس لأحد سوى الأب تزويج الصغير والصغيرة، وعلى قول الشافعي - رحمه الله تعالى - ليس لغير الأب والجد تزويج الصغير والصغيرة فمالك يقول: القياس أن لا يجوز تزويجهما إلا أنا تركنا ذلك في حق الأب للآثار المروية فيه فبقي ما سواه على أصل القياس والشافعي - رحمه الله تعالى - استدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر» واليتيمة الصغيرة التي لا أب لها قال - صلى الله عليه وسلم - «لا يتم بعد الحلم»، فقد نفى في هذا الحديث نكاح اليتيمة حتى تبلغ فتستأمر، وفي الحديث أن «قدامة بن مظعون زوج ابنة أخيه عثمان بن مظعون من ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - فردها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إنها يتيمة وإنها لا تنكح حتى تستأمر»، وهو المعنى في المسألة فنقول هذه يتيمة فلا يجوز تزويجها بغير رضاها كالبالغة وتأثير هذا الوصف أن مزوج اليتيمة قاصر الشفقة عليها ولقصور الشفقة لا تثبت ولايته في المال وحاجتها إلى التصرف في المال في الصغر أكثر من حاجتها إلى التصرف في النفس فإذا لم يثبت للولي ولاية التصرف في مالها مع الحاجة إلى ذلك فلأن لا يثبت له ولاية التصرف في نفسها كان أولى. وحجتنا قوله تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} [النساء: 3] الآية معناه في نكاح اليتامى، وإنما يتحقق هذا الكلام إذا كان يجوز نكاح اليتيمة، وقد نقل عن عائشة - رضي الله عنها - في تأويل الآية أنها نزلت في يتيمة تكون في حجر وليها يرغب في مالها وجمالها، ولا يقسط في صداقها فنهوا عن نكاحهن حتى يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وقالت في تأويل قوله تعالى {في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن} [النساء: 127] أنها نزلت في يتيمة تكون في حجر وليها، ولا يرغب في نكاحها لدمامتها، ولا يزوجها من غيره كي لا يشاركه في مالها فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر الأولياء بتزوج اليتامى أو بتزويجهن من غيرهم فذلك دليل على جواز تزويج اليتيمة «. وزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنت عمه حمزة - رضي الله عنه - من عمر بن أبي سلمة - رضي الله عنه - وهي صغيرة» والآثار في جواز ذلك مشهورة عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وابن عمر وأبي هريرة - رضوان الله عليهم - والمعنى فيه أنه وليها بعد البلوغ فيكون وليا لها في حال الصغر كالأب والجد، وهذا لأن تأثير البلوغ في زوال الولاية فإذا جعل هو وليا بعد بلوغها بهذا السبب عرفنا أنه وليها في حال الصغر وبه فارق المال؛ لأنه لا يستفيد الولاية بهذا السبب في المال بحال، وكان المعنى فيه أن المال تجري فيه الجنايات الخفية، وهذا الولي قاصر الشفقة فربما يحمله ذلك على ترك النظر لها، فأما الجناية في النفس من حيث التقصير في المهر والكفاءة، وذلك ظاهر يوقف عليه إن فعله يرد عليه تصرفه، ولأنه لا حاجة إلى إثبات الولاية لهؤلاء في المال فإن الوصي يتصرف في المال والأب متمكن من نصب الوصي وباعتباره تنعدم حاجتها. فأما التصرف في النفس لا يحتمل الإيصاء إلى الغير فلهذا يثبت للأولياء بطريق القيام مقام الآباء، والمراد بالحديث اليتيمة البالغة قال الله تعالى {وآتوا اليتامى أموالهم} [النساء: 2] والمراد البالغين، والدليل عليه أنه مده إلى غاية الاستئمار، وإنما تستأمر البالغة دون الصغيرة وتأويل حديث قدامة - رضي الله عنه - «أنها بلغت فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختارت نفسها». ألا ترى أنه روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: والله لقد انتزعت مني بعد أن ملكتها فإذا ثبت جواز تزويج الأولياء الصغير والصغيرة فلهما الخيار إذا أدركا في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - وهو قول ابن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهما - وبه كان يقول أبو يوسف - رحمه الله تعالى -، ثم رجع، وقال: لا خيار لهما، وهو قول عروة بن الزبير - رضي الله عنهما - قال: لأن هذا عقد عقد بولاية مستحقة بالقرابة فلا يثبت فيه خيار البلوغ كعقد الأب والجد، وهذا لأن القرابة سبب كامل لاستحقاق الولاية، والقريب بالتصرف ينظر للمولى عليه لا لنفسه، وهو قائم مقام الأب في التصرف في النفس كالوصي في التصرف في المال فكما أن عقد الوصي يلزم ويكون كعقد الأب فيما قام فعله مقامه، فكذلك عقد الولي وجه قولهما أنه زوجها من هو قاصر الشفقة عليها فإذا ملكت أمر نفسها كان لها الخيار كالأمة إذا زوجها مولاها، ثم أعتقها، وهذا لأن أصل الشفقة موجود للولي، ولكنه ناقص يظهر ذلك عند المقابلة بشفقة الآباء، وقد ظهر تأثير هذا النقصان حكما حين امتنع ثبوت الولاية في المال للأولياء فلاعتبار وجود أصل الشفقة نفذنا العقد ولاعتبار نقصان الشفقة أثبتنا الخيار لأن ثبوت الولاية لكي لا يفوت الكفء الذي خطبها فيكون بمعنى النظر لها، وإنما يتم النظر بإثبات الخيار حتى ينظر لنفسه بعد البلوغ بخلاف الأب فإنه وافر الشفقة تام الولاية فلا حاجة إلى إثبات الخيار في عقده، وكذلك في عقد الجد؛ لأنه بمنزلة الأب حتى تثبت ولايته في المال والنفس. وأما القاضي إذا كان هو الذي زوج اليتيمة ففي ظاهر الرواية يثبت لها الخيار؛ لأنه قال: ولهما الخيار في نكاح غير الأب والجد إذا أدركا. وروى خالد بن صبيح المروزي عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أنه لا يثبت الخيار وجه تلك الرواية أن للقاضي ولاية تامة تثبت في المال والنفس جميعا فتكون ولايته في القوة كولاية الأب. ووجه ظاهر الرواية أن ولاية القاضي متأخرة عن ولاية العم والأخ فإذا ثبت الخيار في تزويج الأخ والعم ففي تزويج القاضي أولى، وهذا؛ لأن شفقة القاضي إنما تكون لحق الدين والشفقة لحق الدين لا تكون إلا من المتقين بعد التكلف فيحتاج إلى إثبات الخيار لهما إذا أدركا، فأما الأم إذا زوجت الصغير والصغيرة جاز عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وفي إثبات الخيار لها إذا أدركا عنه روايتان في إحدى الروايتين لا يثبت؛ لأن شفقتها وافرة كشفقة الأب أو أكثر، والأصح أنه يثبت الخيار؛ لأن بها قصور الرأي مع وفور الشفقة ولهذا لا تثبت ولايتها في المال وتمام النظر بوفور الرأي والشفقة فلتمكن النقصان في رأيها أثبتنا لهما الخيار إذا أدركا، فإن اختارا الفرقة عند الإدراك لم تقع الفرقة إلا بحكم الحاكم؛ لأن السبب مختلف فيه من العلماء من رأى ومنهم من أبى، وهو غير متيقن به أيضا فإن السبب قصور الشفقة، ولا يوقف على حقيقته فكان ضعيفا في نفسه فلهذا توقف على قضاء القاضي، وهذا بخلاف خيار الطلاق فإن المخيرة إذا اختارت نفسها وقعت الفرقة من غير قضاء القاضي؛ لأن السبب هناك قوي في نفسه، وهو كونها نائبة عن الزوج في إيقاع الطلاق أو مالكة أمر نفسها بتمليك الزوج، وهذا بخلاف خيار العتق فإن المعتقة إذا اختارت نفسها وقعت الفرقة من غير قضاء القاضي؛ لأن السبب هناك قوي، وهو زيادة ملك الزوج عليها فإن قبل العتق كان يملك مراجعتها من قرأين ويملك عليها تطليقتين وعدتها حيضتان، وقد زاد ذلك بالعتق فكان لها أن تدفع الزيادة، ولا تتوصل إلى دفع الزيادة إلا بدفع أصل الملك فكما أن دفع أصل الملك عند انعدام رضاها يتم بها، فكذلك دفع زيادة الملك، فأما هنا بالبلوغ لا يزداد الملك، وإنما كان ثبوت الخيار لتوهم ترك النظر من المولى، وذلك غير متيقن به فلهذا لا تتم الفرقة إلا بالقضاء. [الفرق بين خيار البلوغ وخيار العتق] فالحاصل أن الفرق بين خيار البلوغ وخيار العتق في أربعة فصول: (أحدها) ما بينا. (والثاني) خيار المعتقة لا يبطل بالسكوت بل يمتد إلى آخر المجلس كخيار المخيرة، وخيار البلوغ في جانبها يبطل بالسكوت؛ لأن المعتقة إنما يثبت لها الخيار بتخيير الشرع حيث قال - صلى الله عليه وسلم - «ملكت بضعك فاختاري» فيكون بمنزلة الثابت بتخيير الزوج، فأما هنا الخيار يثبت للبكر لانعدام تمام الرضا منها ورضاء البكر يتم بسكوتها شرعا. ألا ترى أنها لو زوجت بعد البلوغ فسكتت كان سكوتها رضا، فكذلك إذا زوجت قبل البلوغ ولهذا قلنا لو بلغت ثيبا لا يبطل خيارها بالسكوت كما لو زوجت بعد البلوغ، وكذلك الغلام لا يبطل خياره بالسكوت؛ لأن السكوت في حقه لم يجعل رضا كما لو زوج بعد البلوغ. (والثالث) أن خيار العتق يثبت للأمة دون الغلام وخيار البلوغ يثبت لهما جميعا؛ لأن ثبوت خيار العتق باعتبار زيادة الملك، وذلك في عتق الأمة دون الغلام وثبوت خيار البلوغ لنقصان شفقة الولي، وذلك موجود في حق الغلام والجارية، ولأن في تزويج الغلام المولى ينظر له لا لنفسه، وفي تزويج الأمة ينظر لنفسه باكتساب المهر وإسقاط النفقة عن نفسه فلهذا اختلفا في حكم الخيار وهنا لا يختلف معنى نظر الولي بالغلام والجارية فلهذا يثبت الخيار في الموضعين جميعا، ولا يقال بأن الغلام هنا يتمكن من التخلص بالطلاق كما في المعتق؛ لأنه لا يتمكن من التخلص عن المهر بالطلاق، ولم يكن متمكنا من التخلص عند العقد بخلاف العبد فإنه كان عند العقد متمكنا من التخلص بالطلاق ووجوب المهر يومئذ كان في مالية المولى وباعتباره ملك المولى إجباره على النكاح، فلهذا فرقنا بينهما. (والرابع) أن المعتقة إذا علمت بالعتق، ولم تعلم أن لها الخيار لا يسقط خيارها حتى تعلم به والتي بلغت إذا لم تعلم بالخيار وعلمت بالنكاح فسكتت سقط خيارها؛ لأن سبب الخيار في العتق، وهو زيادة الملك حكم لا يعلمه إلا الخواص من الناس فتعذر بالجهل، وقد كانت مشغولة بخدمة المولى فعذرناها لذلك أما خيار البلوغ فظاهر يعرفه كل واحد ولظهوره ظن بعض الناس أنه يثبت في إنكاح الأب أيضا فلهذا لا تعذر بالجهل، ولأنها ما كانت مشغولة بشيء قبل البلوغ فكان سبيلها أن تتعلم ما تحتاج إليه بعد البلوغ فلهذا لا تعذر بالجهل (قال): فإن اختار الصغير أو الصغيرة الفرقة بعد البلوغ فلم يفرق القاضي بينهما حتى مات أحدهما توارثا؛ لأن أصل النكاح كان صحيحا والفرقة لا تقع إلا بقضاء القاضي فإذا مات أحدهما قبل القضاء كان انتهاء النكاح بينهما بالموت فيتوارثان بمنزلة ما لو وجد الاعتراض بعدم الكفاءة فمات أحدهما قبل قضاء القاضي وباعتبار هذا المعنى نقول يحل للزوج أن يطأها ما لم يفرق القاضي بينهما؛ لأن أصل النكاح كان صحيحا بخلاف النكاح الفاسد فإن أصل الملك لم يكن ثابتا فلا يثبت حل الوطء والتوارث (قال): وإذا مات زوج الصغيرة عنها بعد ما دخل بها أو طلقها وانقضت عدتها كان لأبيها أن يزوجها عندنا، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى: ليس للأب أن يزوج الثيب الصغيرة حتى تبلغ فيشاورها لقوله - صلى الله عليه وسلم - «والثيب تشاور»، فقد علق هذا الحكم باسم مشتق من معنى، وهو الثيوبة فكان ذلك المعنى هو المعتبر في إثبات هذا الحكم كالزنا والسرقة لإيجاب الحد، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «الأيم أحق بنفسها من وليها»، والمراد بالأيم الثيب. ألا ترى أنه قابلها بالبكر، فقال «البكر تستأمر في نفسها» والمعنى فيه أنها ثيب ترجى مشورتها إلى وقت معلوم فلا يزوجها وليها بدون رضاها كالنائمة والمغمى عليها، وتأثير هذا الوصف أن في الثيوبة معنى الاختبار وممارسة الرجال، وفي النكاح في جانب النساء معنيان معنى الضرر بإثبات الملك عليها، ومعنى المنفعة بقضاء شهوتها فمن ترجح معنى قضاء الشهوة في جانبها تختار الزوج ومن ترجح معنى ضرر الملك تختار التأيم، وإنما تتمكن من التمييز بالتجربة؛ لأن لذة الجماع بالوصف لا تصير معلومة والتجربة إنما تحصل بالثيوبة فكانت صفة الثيوبة في حقها نظير البلوغ في حق الغلام، وفي حق التصرف في المال ولهذا تزول ولاية الافتيات عليها بالثيوبة؛ لأن فيه تفويت ما يحدث لها في التأني من الرأي، وهذا بخلاف المجنونة؛ لأن الجنون لا يفقد شهوة الجماع، ولو لم يزوجها وليها كان فيه إضرار بها في الحال والصغر يفقد شهوة الجماع فلا يكون في تأخير العقد إلا أن تبلغ معنى الإضرار بها، ولأنه ليس لزوال الجنون غاية معلومة، ولا يدري أيفيق أم لا؟ وفي تأخير العقد لا إلى وقت معلوم إبطال حقها، فأما الصغر لزواله غاية معلومة فلا يكون في تأخير العقد إلى بلوغها إبطال حقها. وحجتنا في ذلك أنه ولى من لا يلي نفسه وماله فيستبد بالعقد عليها كالبكر. وتأثيره أن الشرع باعتبار صغرها أقام رأي الولي مقام رأيها كما في حق الغلام وكما في حق المال وبالثيوبة لا يزول الصغر، وكذلك معنى الرأي لا يحصل لها بالثيوبة في حالة الصغر؛ لأنها ما نضت شهوتها بهذا الفعل، ولو ثبت لها رأي فهي عاجزة عن التصرف بحكم الرأي فيقام رأي الولي مقام رأيها كما أنها لما كانت عاجزة عن التصرف في ملكها أقيم تصرف الولي مقام تصرفها، والمراد بالحديث البالغة؛ لأنه علق به ما لا يتحقق إلا بعد البلوغ، وهو المشاورة وكونها أحق بنفسها، وذلك إنما يتحقق في البالغة دون الصغيرة ولئن ثبت أن الصغيرة مراد فالمراد المشورة على سبيل الندب دون الحتم كما أمر باستئمار أمهات البنات، فقال: وتؤامر النساء في إبضاع بناتهن، وكان بطريق الندب فهذا مثله وكما يجوز للأب عندنا تزويج الثيب الصغيرة، فكذلك يجوز لغير الأب والجد، وعند الشافعي - رحمه الله تعالى - لا يجوز لمعنيين: أحدهما - أنها يتيمة والثاني أنها ثيب (قال): وإذا اجتمع في الصغيرة أخوان لأب وأم فأيهما زوجها جاز عندنا ومن العلماء - رحمهم الله تعالى - من يقول: لا يجوز ما لم يجتمعا عليه؛ لأن هذا قام مقام الأب فيشترط اجتماعهما لنفوذ العقد كالموليين في حق العبد أو الأمة أو المعتقة، ولكنا نستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أنكح الوليان فالأول أحق»، وفي هذا تنصيص على أن كل واحد منهما ينفرد بالعقد والمعنى فيه أن سبب الولاية هو القرابة، وهو غير محتمل للوصف بالتجزي، والحكم الثابت أيضا غير متجز وهو النكاح، فيجعل كل واحد منهما كالمنفرد به لثبوت صفة الكمال في حق كل واحد منهما بكمال السبب وكونه غير محتمل للتجزي كما في ولاية الأمان يثبت لكل واحد من المسلمين بهذا الطريق بخلاف الموليين فإن هناك السبب هو الملك أو الولاء، وذلك متجز في نفسه فلم يتكامل في حق كل واحد منهما، ألا ترى أن أحد الموليين لا يرث جميع المال بالولاء، وإن تفرد به أحد الأخوين يرث جميع المال فلهذا فرقنا بينهما. وإن كان أحد الأخوين لأب وأم والآخر لأب فعندنا الأخ لأب وأم أولى بالتزويج وعلى قول زفر - رحمه الله تعالى - يستويان؛ لأن ولاية التزويج لقرابة الأب دون قرابة الأم فإن الولي إنما يقوم مقام الأب لقرابته منه، وقد استويا في قرابة الأب، ولكنا نستدل بحديث علي - رضي الله تعالى عنه - موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «النكاح إلى العصبات» والأخ لأب وأم في العصوبة مقدم، وهو المعنى فإنه يدلي بقرابتين فيترجح على من يدلي بقرابة واحدة ويثبت الترجيح بقرابة الأم، وإن كان لا يثبت به أصل الولاية كالعصوبة والأصل في ترتيب الأولياء قوله - صلى الله عليه وسلم - «النكاح إلى العصبات» والمولى عليها لا يخلو إما أن تكون صغيرة أو كبيرة معتوهة، فإن كانت صغيرة فأولى الأولياء عليها أبوها، ثم الجد بعد الأب قائم مقام الأب في ظاهر الرواية، وذكر الكرخي - رحمه الله تعالى - أن هذا قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، فأما عند أبي يوسف ومحمد - رحمها الله تعالى - الأخ والجد يستويان؛ لأن من أصلهما أن الأخ يزاحم الجد في العصوبة حتى يشتركا في الميراث، فكذا في الولاية، وعند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - الجد مقدم في العصوبة، فكذلك في الولاية. والأصح أن هذا قولهم جميعا؛ لأن في الولاية معنى الشفقة معتبر وشفقة الجد فوق شفقة الأخ، ولهذا لا يثبت لها الخيار في عقد الجد كما لا يثبت في عقد الأب بخلاف الأخ ويثبت للجد الولاية في المال والنفس جميعا، ولا يثبت للأخ، وكذلك في حكم الميراث حال الجد أعلى حتى لا ينقص نصيبه عن السدس بحال فلهذا كان في حكم الولاية بمنزلة الأب لا يزاحمه الإخوة، ثم بعد الأجداد من قبل الآباء، وإن علوا الأخ لأب وأم، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ لأب وأم، ثم ابن الأخ لأب، ثم العم لأب وأم، ثم العم لأب، ثم ابن العم لأب وأم، ثم ابن العم لأب على قياس ترتيب العصوبة، فأما المجنونة إذا كان لها ابن فللابن عليها ولاية التزويج عندنا. وقال الشافعي - رحمه الله تعالى: ليس للابن ولاية تزويج الأم إلا أن يكون من عشيرتها بأن كان أبوه تزوج بنت عمه، وهذا بناء على أصل يأتي بيانه من بعد إن شاء الله تعالى في أن المرأة لا ولاية لها على نفسها عنده والولد جزء منها فلا يثبت له الولاية عليها، وعندنا تثبت لها الولاية على نفسها، فكذلك تثبت لابنها، وحجته في ذلك أن ثبوت الولاية لمعنى النظر للمولى عليه، ولا يحصل ذلك بإثبات الولاية للابن؛ لأنه يمتنع من تزويج أمه طبعا فلا ينظر لها في التزويج ولئن فعل ذلك يميل إلى قوم أبيه وربما لا يكون كفء لها إلا أن يكون من عشيرتها فحينئذ ينعدم هذا الضرر فأثبتنا له الولاية. وحجتنا في ذلك الحديث «النكاح إلى العصبات» والابن يستحق العصوبة، وهو المعنى الفقهي أن الوراثة نوع ولاية؛ لأن الوارث يخلف المورث ملكا وتصرفا والوراثة هي الخلافة في التصرفات وللوراثة أسباب الفريضة والعصوبة والقرابة، ولكن أقوى الأسباب العصوبة؛ لأن الإرث بها متفق عليه ويستحق بها جميع المال فلهذا رتبنا الولاية على أقوى أسباب الإرث، وهو العصوبة، ولا ينظر إلى امتناعه من تزويجها طبعا فإن ذلك موجود فيما إذا كان الابن من عشيرتها، وهذا لأنه إذا خطبها كفء فلو لم يزوجها الابن حكم القاضي عليه بالعضل فيزوجها بنفسه كما في سائر الأولياء، ثم اختلف أصحابنا - رضي الله عنهم - في الأب والابن أيهما أحق بالتزويج، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله تعالى: الابن أحق؛ لأنه مقدم في العصوبة، ألا ترى أن الأب معه يستحق السدس بالفريضة فقط، وقال محمد - رحمه الله تعالى - الأب أولى؛ لأن ولاية الأب تعم المال والنفس فلا يثبت للابن الولاية في المال، ولأن الأب ينظر لها عادة والابن ينظر لنفسه لا لها فكان الأب مقدما في الولاية وبعد هذا الترتيب في الأولياء لها كالترتيب في أولياء الصغيرة ![]()
__________________
|
|
#9
|
||||
|
||||
![]() الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (ت ٤٨٣ هـ) عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس) المجلد الرابع صـــ 220 الى صـــ 228 (89) (قال): فإن زوجها الأبعد والأقرب حاضر توقف على إجازة الأقرب؛ لأن الأبعد كالأجنبي عند حضرة الأقرب فيتوقف عقده على إجازة الولي، فإن كان الأقرب غائبا غيبة منقطعة فللأبعد أن يزوجها عندنا، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى: يزوجها السلطان، وقال زفر - رحمه الله تعالى: لا يزوجها أحد حتى يحضر الأقرب، وحجتهم في ذلك أن الأبعد محجوب بولاية الأقرب وولايته باقية بعد الغيبة إذ لا تأثير للغيبة في قطع الولاية، ألا ترى أنه لا ينقطع التوارث وأن الولاية من حق الولي ليطلب به الكفاءة فلا يبطل شيء من حقوقه بالغيبة، والدليل عليه أنه لو زوجها حيث هو جاز النكاح فدل أن ولاية الأقرب باقية إذا ثبت هذا فالشافعي - رحمه الله تعالى - يقول: تعذر عليها الوصول إلى حقها من جهة الأقرب مع بقاء ولايته فيزوجها السلطان كما لو عضلها الأقرب بخلاف ما إذا كان الأقرب صغيرا أو مجنونا؛ لأنه لا ولاية له عليها والأبعد محجوب بولاية الأقرب إلا بالغيبة وزفر - رحمه الله تعالى - يقول: الأبعد لا يزوجها لبقاء ولاية الأقرب، وكذلك السلطان لا يزوجها؛ لأن ولاية السلطان متأخرة عن ولاية الأبعد فإذا لم تثبت الولاية للأبعد هنا فالسلطان أولى بخلاف ما إذا عضلها؛ لأن هناك هو ظالم في الامتناع من إيفاء حق مستحق عليه فيقوم السلطان مقامه في دفع الظلم؛ لأنه نصب لذلك وهنا الأقرب غير ظالم في سفره خصوصا إذا سافر للحج، وهو غير ممتنع من إيفاء حق مستحق عليه ليقوم السلطان مقامه في الإيفاء فيتأخر إلى حضوره، وحجتنا في ذلك أن ثبوت الولاية لمعنى النظر للمولى عليه حتى لا يثبت إلا على من هو عاجز عن النظر لنفسه وجعل الأقرب مقدما؛ لأن نظره لها أكثر لزيادة القرب، ثم النظر لها لا يحصل بمجرد رأي الأقرب بل رأي حاضر منتفع به، وقد خرج رأيه من أن يكون منتفعا به في هذه الحال بهذه الغيبة فالتحق بمن لا رأي له أصلا كالصغير والمجنون ورأي الأبعد خلف عن رأي الأقرب، وفي ثبوت الحكم للخلف لا فرق بين انعدام الأصل وبين كونه غير منتفع به. ألا ترى أن التراب لما كان خلفا عن الماء في حكم الطهارة فمع وجود الماء النجس يكون التراب خلفا كما أن عند عدم الماء يكون التراب خلفا؛ لأن الماء النجس غير منتفع به في حكم الطهارة فهو كالمعدوم أصلا ونظيره الحضانة والتربية يقدم فيه الأقرب فإذا تزوجت الأقرب حتى اشتغلت بزوجها كانت الولاية للأبعد، وكذلك النفقة في مال الأقرب فإذا انقطع ذلك ببعد ماله وجبت النفقة في مال الأبعد، فأما إذا زوجها الأقرب حيث هو فإنما يجوز؛ لأنها انتفعت برأيه، ولكن هذه المنفعة حصلت لها اتفاقا فلا يجوز بناء الحكم عليه فلهذا تثبت الولاية للأبعد توضيحه أن للأبعد قرب التدبير وبعد القرابة وللأقرب قرب القرابة وبعد التدبير وثبوت الولاية بهما جميعا فاستويا من هذا الوجه فكانا بمنزلة وليين في درجة واحدة فأيهما زوجها يجوز والولاية إنما تثبت للقاضي عند الحاجة، ولا حاجة إلى ذلك لما ثبتت الولاية للأبعد بالطريق الذي قلنا، ثم تكلموا في حد الغيبة المنقطعة فكان أبو عصمة سعد بن معاذ - رحمه الله تعالى - يقول: أدنى مدة السفر تكفي لذلك، وهو ثلاثة أيام ولياليها؛ لأنه ليس لأقصى مدة السفر نهاية فيعتبر الأدنى وإليه يشير في الكتاب فيقول: أرأيت لو كان في السواد ونحوه أما كان يستطلع رأيه فهذا دليل على أنه إذا جاوز السواد تثبت للأبعد وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - فيه روايتان في إحدى الروايتين قال: من جابلقا إلى جابلتا وهما قريتان إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب فقالوا هذا رجوع منه إلى قول زفر - رحمه الله تعالى - أن الولاية لا تثبت للأبعد، وإنما ذكر هذا على طريق المثل، وفي الرواية الأخرى قال: من بغداد إلى الري، وهكذا روي عن محمد - رحمه الله تعالى -، وفي رواية قال: من الكوفة إلى الري ومن مشايخنا - رحمهم الله تعالى - من يقول: حد الغيبة المنقطعة أن يكون جوالا من موضع إلى موضع فلا يوقف على أثره أو يكون مفقودا لا يعرف خبره، وقيل: إن كان في موضع يقطع الكرى إلى ذلك الموضع فليست الغيبة بمنقطعة، وإن كان إنما يقطع الكرى إلى ذلك الموضع بدفعتين أو أكثر فالغيبة منقطعة، وقيل: إن كانت القوافل تنفر إلى ذلك الموضع في كل عام فالغيبة ليست بمنقطعة وإن كانت لا تنفر فالغيبة منقطعة. والأصح أنه إذا كان في موضع لو انتظر حضوره أو استطلاع رأيه فات الكفء الذي حضر لها فالغيبة منقطعة، وإن كان لا يفوت فالغيبة ليست بمنقطعة وبعد ما تثبت الولاية للأبعد إذا زوجها، ثم حضر الأقرب فليس له أن يرد نكاحها؛ لأن العقد عقد بولاية تامة (قال): ولا يجوز لغير الولي تزويج الصغير والصغيرة لقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا نكاح إلا بولي» قال: والوصي ليس بولي عندنا في التزويج، وقال ابن أبي ليلى - رحمه الله تعالى - للوصي ولاية التزويج؛ لأن وصي الأب قائم مقام الأب فيما يرجع إلى النظر للمولى عليه. ألا ترى أنه في التصرف في المال يقوم مقامه، فكذلك في التصرف في النفس ومالك - رحمه الله تعالى - يقول: إن نص في الوصاية على التزويج فله أن يزوجها كما لو وكل بذلك في حياته، وإن لم ينص على ذلك فليس له أن يزوج، ولكنا نستدل بما روينا «النكاح إلى العصبات» والوصي ليس بعصبة إذا لم يكن من قرابته فهو كسائر الأجانب في التزويج، وإن كان الوصي من القرابة بأن كان عما أو غيره فله ولاية التزويج بالقرابة لا بالوصاية، ولهذا يثبت لهما الخيار إذا أدركا، وإن حصل التزويج ممن له ولاية التصرف في المال والنفس جميعا؛ لأن ولايته في المال بسبب الوصاية، ولا تأثير للوصاية في ولاية التزويج فكان وجوده كعدمه، وكذلك إن كانا في حجر رجل يعولهما فحال هذا الرجل دون حال الوصي فلا يثبت له ولاية التزويج، ولأن من يعول الصغير إنما يملك عليه ما يتمحض منفعة للصغير كالحفظ وقبول الهبة والصدقة والنكاح ليس بهذه الصفة (قال): ومولى العتاقة تثبت له الولاية إذا لم يكن هناك أحد من القرابة؛ لأن العصوبة تستحق بولاء العتاقة وعليه ينبني ولاية التزويج. (قال): والرجل من عرض النسب إذا لم يكن أقرب منه يعني به العصبات، فأما ذوو الأرحام كالأخوال والخالات والعمات فعلى قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - يثبت لهم ولاية التزويج عند عدم العصبات استحسانا، وعلى قول محمد - رحمه الله تعالى - لا يثبت، وهو القياس، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة وقول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - مضطرب فيه، وذكر في كتاب النكاح قوله مع أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وفي كتاب الولاء ذكر في الأم قوله مع محمد - رحمه الله تعالى - أن الأم إذا عقدت الولاء على ولدها لم يصح عندهما والخلاف في التزويج وعقد الولاء سواء، وكذلك في الأم وعشيرتها من ذوي الأرحام، وجه قولهما الحديث «النكاح إلى العصبات» وإدخال الألف واللام دليل على أن جميع الولاية في باب النكاح إنما تثبت لمن هو عصبة دون من ليس بعصبة والدليل عليه أنه لا يثبت لغير العصبات ولاية التصرف في المال بحال وأن مولى العتاقة مقدم عليهم فلو كان لقرابتهم تأثير في استحقاق الولاية بها لكانوا مقدمين على مولى العتاقة إذ لا قرابة لمولى العتاقة، وحجة أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في إجازته تزويج امرأته ابنتها على ما روينا فإن الأصح أن ابنتها لم تكن من عبد الله فإنما جوز نكاحها بولاية الأمومة، والمعنى فيه وهو أن استحقاق الولاية باعتبار الشفقة الموجودة بالقرابة، وهذه الشفقة توجد في قرابة الأم كما توجد في قرابة الأب فيثبت لهم ولاية التزويج أيضا إلا أن قرابة الأب يقدمون باعتبار العصوبة، وهذا لا ينفي ثبوته لهؤلاء عند عدم العصبات كاستحقاق الميراث يكون بسبب القرابة ويقدم في ذلك العصبات، ثم يثبت بعد ذلك لذوي الأرحام وبه ينتقض قولهم أن مولى العتاقة في الولاية مقدم على ذوي الأرحام فإن في الإرث أيضا يقدم مولى العتاقة، ولا يدل ذلك على أنه لا يثبت لذوي الأرحام أصلا، فكذا هنا وعلى هذا الخلاف مولى الموالاة له ولاية التزويج على الصغير والصغيرة إذا لم يكن لهما قريب عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وليس له ذلك عند محمد - رحمه الله تعالى -؛ لأنه مؤخر عن ذوي الأرحام (قال): ولا ولاية للأب الكافر والمملوك على الصغير والصغيرة إذا كان حرا مسلما؛ لأن اختلاف الدين يقطع التوارث، فكذلك يقطع ولاية التزويج قال الله تعالى {والذين آمنوا ولم يهاجروا} [الأنفال: 72] الآية نص على قطع الولاية بين من هاجر وبين من لم يهاجر حين كانت الهجرة فريضة فكان ذلك تنصيصا على انقطاع الولاية بين الكفار والمسلمين بطريق الأولى، وكذلك الرق ينفي الولاية حتى يقطع التوارث، ولأنه ينفي ولايته عن نفسه فلأن ينفي ولايته عن غيره أولى. وأما الكافر فثبت له ولاية التزويج على ولده الكافر كما تثبت للمسلم، قال الله تعالى {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 73] والدليل عليه جريان التوارث فيما بينهم كما جرى فيما بين المسلمين (قال): ولأنكحة الكفار فيما بينهم حكم الصحة إلا على قول مالك - رحمه الله تعالى - فإنه يقول: أنكحتهم باطلة؛ لأن الجواز نعمة وكرامة ثابتة شرعا والكافر لا يجعل أهلا لمثله، ولكنا نستدل بقوله تعالى {وامرأته حمالة الحطب} [المسد: 4] ، ولو لم يكن لهم نكاح لما سماها امرأته، وقال - صلى الله عليه وسلم - «ولدت من نكاح، ولم أولد من سفاح»، وهذه نعمة كما قال: ولكن الأهلية لهذه النعمة باعتبار صفة الآدمية وبالكفر لم يخرج من أن يكون من بني آدم فلا يخرج من أن يكون أهلا لهذه النعمة (قال): ولو زوج الأب ابنته الصغيرة ممن لا يكافئها أو زوج ابنه الصغير امرأة ليست بكفء له جاز في قول أبي حنيفة استحسانا، ولم يجز عندهما، وهو القياس، وكذلك لو زوج ابنته بأقل من صداق مثلها أو ابنه بأكثر من صداق مثلها بقدر ما لا يتغابن الناس فيه لا يجوز عندهما، هكذا قال في الكتاب، ولم يبين لماذا لا يجوز حتى ظن بعض أصحابنا أن الزيادة والنقصان لا يجوز، فأما أصل النكاح صحيح؛ لأن المانع هنا من قبل المسمى، وفساد التسمية لا يمنع صحة النكاح كما لو ترك التسمية أصلا أو زوجها بخمر أو خنزير، ولكن الأصح أن النكاح لا يجوز، هكذا فسره في الجامع الصغير وجه قولهما أن ولاية الأب مقيدة بشرط النظر، ومعنى الضرر في هذا العقد ظاهر فلا يملكها الأب بولايته كما لا يملك البيع والشراء في ماله بالغبن الفاحش. والدليل عليه أنه لو زوج أمتها بمثل هذا الصداق لا يجوز فإذا زوجها أولى وولايته عليها دون ولاية المرأة على نفسها، ولو زوجت هي نفسها من غير كفء أو بدون صداق مثلها يثبت حق الاعتراض للأولياء فهذا أولى، ولكن أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - ترك القياس بما روي «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج عائشة - رضي الله عنها - على صداق خمسمائة درهم زوجها منه أبو بكر - رضي الله عنه - وزوج فاطمة - رضي الله عنها - من علي - رضي الله عنه - على صداق أربعمائة درهم». ومعلوم أن ذلك لم يكن صداق مثلهما؛ لأنه إن كان صداق مثلهما هذا المقدار مع أنهما مجمع الفضائل فلا صداق في الدنيا يزيد على هذا المقدار والمعنى فيه أن النكاح يشتمل على مصالح وأغراض ومقاصد جمة والأب وافر الشفقة ينظر لولده فوق ما ينظر لنفسه فالظاهر أنه إنما قصر في الكفاءة والصداق ليوفر سائر المقاصد عليها، وذلك أنفع لها من الصداق والكفاءة فكان تصرفه واقعا بصفة النظر فيجوز كالوصي إذا صانع في مال اليتيم جاز ذلك لحصول النظر في تصرفه، وإن كان هو في الظاهر يعطي مالا غير واجب، وهذا بخلاف تصرف الأب في المال إذ لا مقصود هناك سوى المالية فإذا قصر في المالية فليس بإزاء هذا النقصان ما يجبره، وهذا بخلاف ما إذا زوج أمتهما؛ لأن سائر مقاصد النكاح لا تحصل للصغير والصغيرة هنا إنما يحصل للأمة ففي حق الصغير قد انعدم ما يكون جبرا للنقصان وبخلاف العم والأخ؛ لأنه ليس لهما شفقة وافرة فيحمل تقصيرهما في الكفاءة والمهر على معنى ترك النظر والميل إلى الرشوة لا لتحصيل سائر المقاصد وبخلاف المرأة في نكاح نفسها؛ لأنها سريعة الانخداع ضعيفة الرأي متابعة للشهوة عادة فيكون تقصيرها في الكفاءة والصداق لمتابعة الهوى لا لتحصيل سائر المقاصد على أن سائر المقاصد تحصل لها دون الأولياء وبسبب عدم الكفاءة والنقصان في الصداق يتعير الأولياء، وليس بإزاء هذا النقصان في حقهم ما يكون جابرا فلهذا يثبت لهم حق الاعتراض (قال) وإذا أقر الوالد على الصغير أو الصغيرة بالنكاح لم يثبت النكاح بإقراره ما لم يشهد به شاهدان عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - يثبت النكاح بإقراره، وإنما يتبين هذا الخلاف فيما إذا أقر الولي عليهما، ثم أدركا وكذباه وأقام المدعي عليهما بعد البلوغ شاهدين بإقرار الولي بالنكاح في الصغر وعلى هذا الخلاف الوكيل من جهة الرجل والمرأة إذا أقر على موكله بالنكاح، وكذلك المولى إذا أقر على عبده بالنكاح فهو على هذا الخلاف أيضا أما إذا أقر على أمته بالنكاح صح إقراره بالاتفاق فهما يقولان أقر بما يملك إنشاءه فيصح كالمولى إذا أقر على أمته، وهذا؛ لأن الإقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب فإذا حصل بما لا يملك إنشاءه تتمكن التهمة في إخراج الكلام مخرج الإخبار وإذا حصل بما لا يملك إنشاءه لا يكون متهما في إخراج الكلام مخرج الإخبار لتمكنه من تحصيل المقصود بطريق الإنشاء. ألا ترى أن المطلق إذا قال قبل انقضاء العدة: كنت راجعتها كان مصدقا بخلاف ما لو أقر بذلك بعد انقضاء العدة وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول: هذا إقرار على الغير والإقرار على الغير لا يكون حجة؛ لأنه شهادة وشهادة الفرد لا تثبت الحكم، بقي كونه مالكا للإنشاء فنقول هو لا يملك إنشاء هذا العقد إلا بشاهدين كما قال - صلى الله عليه وسلم - «لا نكاح إلا بشهود» فلا يملك الإقرار به إلا من الوجه الذي يملك الإنشاء، وهكذا نقول إذا ساعده شاهدان على ذلك كان صحيحا اعتبارا للإقرار بالإنشاء، وهذا بخلاف الأمة فإن المولى هناك يقر على نفسه؛ لأن بضعها مملوك للمولى، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح مطلقا من غير أن يكون ذلك معتبرا بالإنشاء، فأما في حق العبد الإقرار عليه لا على نفسه فلا يملك إلا من الوجه الذي يملك الإنشاء. وأصل كلامهم يشكل بإقرار الوصي بالاستدانة على اليتيم فإنه لا يكون صحيحا، وإن كان هو يملك إنشاء الاستدانة (قال): وإن كان للصغيرة وليان فزوجها كل واحد منهما رجلا، فإن علم أيهما أول جاز نكاح الأول منهما لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أنكح الوليان فالأول أحق»، وهذا لأن الأول صادف عقده محله وعقد الثاني لم يصادف محله؛ لأنها بالعقد الأول صارت مشغولة، وإن لم يعلم أيهما أول أو وقع العقدان معا بطلا جميعا؛ لأنه لا وجه لتصحيحهما، وليس أحدهما بأولى من الآخر فتعين جهة البطلان فيهما (قال): وإذا تزوج الصغير امرأة فأجاز ذلك وليه جاز عندنا؛ لأن الصبي العاقل من أهل العبارة عندنا، ولكن يحتاج إلى انضمام رأي الولي إلى مباشرته ليحصل تمام النظر فإذا أجاز الولي جاز ذلك، وكان ذلك كمباشرة الولي بنفسه حتى يثبت له الخيار إذا بلغ، وعلى قول الشافعي - رحمه الله تعالى - لا ينفذ بإجازة الولي؛ لأن من أصله أن عبارة الصبي غير معتبرة في العقود، وكذلك من أصله أن العقود لا تتوقف على الإجازة وعلى هذا لو زوجت الصغيرة نفسها فأجاز الولي ذلك جاز عندنا، ولم يجز عند الشافعي - رحمه الله تعالى - لهذين المعنيين ومعنى ثالث أن عبارة النساء عنده لا تصلح لعقد النكاح، وإن كان المجيز غير الأب والجد فلمعنى رابع على قوله أيضا، وهو أن هذا المجيز لا يملك مباشرة التزويج، وإن أبطل الولي عقدهما بطل، وإن لم يتعرض له بالإجازة، ولا بالإبطال حتى بلغا فالرأي إليهما إن أجازا ذلك العقد جاز كما لو أجاز الولي في صغرهما، ولا ينفذ بمجرد بلوغهما إلا أن يجيز؛ لأن النظر عند مباشرتهما ما تم لصغرهما ونفوذ هذا العقد يعتمد تمام النظر فلهذا يعتمد إجازتهما بعد البلوغ (قال): وإذا زوج الأب ابنته الصغيرة وضمن لها المهر عن زوجها فهو جائز؛ لأنه صير نفسه زعيما والزعيم غارم بخلاف ما إذا باع مال ولده الصغير وضمن الثمن عن المشتري لا يصح الضمان؛ لأن ثبوت حق قبض الثمن للأب هناك بحكم العقد لا بولايته عليه، ألا ترى أن بعد بلوغه الأب هو الذي يقبض الثمن دون الصبي، وفيما يكون وجوبه بحكم عقده فهو كالمستحق؛ لأن حقوق ذلك العقد تتعلق بالعاقد، ولهذا لو أبرأ المشتري عن الثمن كان صحيحا فإذا ضمن الثمن عن المشتري كان في معنى الضامن لنفسه فلا يصح، فأما ثبوت حق قبض الصداق للأب بولاية الأبوة لا بمباشرته عقد النكاح؛ لأن حقوق العقد في النكاح لا يتعلق بالعاقد. ألا ترى أنها لو بلغت كان القبض إليها دون الأب فكان الأب في هذا الضمان كسائر الأجانب، ولو ضمن الصداق لها أجنبي آخر وقبل الأب ذلك كان الضمان صحيحا، فكذلك إذا ضمنه الأب، فإذا بلغت إن شاءت طالبت الزوج بالصداق بحكم النكاح، وإن شاءت طالبت بحكم الضمان، وإذا أداه الأب لم يرجع على الزوج؛ لأنه ضمن بغير أمره وإن كان ضمن عن الزوج بأمره فحينئذ يكون له أن يرجع عليه إذا أدى، فإن كان هذا الضمان في مرض الأب ومات منه فهو باطل؛ لأنه قصد إيصال النفع إلى وارثه وتصرف المريض فيما يكون فيه إيصال النفع إلى وارثه باطل (قال): وإذا زوج ابنه الصغير في صحته وضمن عنه المهر جاز يعني إذا قبلت المرأة الضمان، ثم إذا أدى الأب لم يرجع بما أدى على الابن استحسانا، وفي القياس يرجع عليه؛ لأن غيره لو ضمن بأمر الأب وأدى كان له أن يرجع به في مال الابن، فكذلك الأب إذا ضمن؛ لأن قيام ولايته عليه في حالة الصغر بمنزلة أمره إياه بالضمان عنه بعد البلوغ. ألا ترى أن الوصي لو كان هو الضامن بالمهر عن الصغير وأدى من مال نفسه يثبت له الرجوع في ماله، فكذلك الأب. وجه الاستحسان أن العادة الظاهرة أن الآباء بمثل هذا يتبرعون، وفي الرجوع لا يطمعون والثابت بدلالة العرف كالثابت بدلالة النص فلا يرجع به إلا أن يكون شرط ذلك في أصل الضمان فحينئذ يرجع؛ لأن العرف إنما يعتبر عند عدم التصريح بخلافه كتقديم المائدة بين يدي الإنسان يكون إذنا له في التناول بطريق العرف، فإن قال له: لا تأكل، لم يكن ذلك إذنا له فهذا مثله بخلاف الوصي فإن عادة التبرع في مثل هذا غير موجودة في حق الأوصياء بل يكتفى من الوصي أن لا يطمع في مال اليتيم فلهذا ثبت له حق الرجوع إذا ضمن وأدى من مال نفسه وإن مات الأب قبل أن يؤدي فهذه صلة لم تتم؛ لأن تمام الصلة يكون بالقبض، ولم يوجد، ولكنها بالخيار إن شاءت أخذت الصداق من الزوج، وإن شاءت من تركة الأب بحكم الضمان؛ لأن الاستحقاق كان ثابتا لها في حياة الأب بحكم الكفالة فلا يبطل ذلك بموته، وإذا استوفت من تركة الأب رجع سائر الورثة بذلك في نصيب الابن أو عليه إن كان قبض نصيبه، وقال زفر - رحمه الله تعالى: لا يرجعون؛ لأن أصل الكفالة انعقدت غير موجبة للرجوع عند الأداء بدليل أنه لو أداه في حياته لم يرجع عليه فبموته لا يصير موجبا للرجوع، ولكنا نقول إنما لا يرجع في حياته إذا أدى لمعنى الصلة، وقد بطل ذلك بموته قبل التسليم فكان هذا بمنزلة ما لو ضمن عنه بعد البلوغ بأمره واستوفاه من تركته بعد وفاته، وإن كان هذا الضمان في مرض الأب الذي مات فيه فهو باطل؛ لأنه تبرع منه على ولده بضمان الصداق منه وتبرع الوالد على ولده في مرضه باطل، وكذلك كل من ضمن عن وارثه أو لوارثه، ثم مات فضمانه باطل لما بينا (قال): والمجنون المغلوب بمنزلة الصبي في جميع ذلك؛ لأنه مولى عليه كالصغير ويستوي إن كان جنونه أصليا أو طارئا وعلى قول زفر - رحمه الله تعالى - في الجنون الأصلي كذلك الجواب بأن بلغ مجنونا، فأما في الجنون الطارئ لا يكون للمولى عليه ولاية التزويج؛ لأنه ثبت له الولاية على نفسه عند بلوغه والنكاح يعقد للعمر، ولا تتجدد الحاجة إليه في كل وقت فبصيرورته من أهل النظر لنفسه يقع الاستغناء فيه عن نظر الولي بخلاف المال فإن الحاجة إليه تتجدد في كل وقت، ولكنا نقول: ثبوت الولاية لعجز المولى عليه عن النظر لنفسه والجنون الأصلي والعارض في هذا سواء فربما لم يتفق له كفء في حال إفاقته حتى جن أو ماتت زوجته بعد ما جن فتتحقق الحاجة في الجنون الطارئ كما تتحقق في الجنون الأصلي، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. ![]()
__________________
|
|
#10
|
||||
|
||||
![]() الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (ت ٤٨٣ هـ) عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس) المجلد الخامس صـــ 2 الى صـــ 14 (90) [باب نكاح البكر] (قال) - رضي الله عنه: وإذا زوج الرجل ابنته الكبيرة، وهي بكر فبلغها فسكتت فهو رضاها، والنكاح جائز عليها وإذا أبت وردت لم يجز العقد عندنا وعلى قول ابن أبي ليلى - رحمه الله تعالى - يجوز العقد وهو قول الشافعي - رحمه الله تعالى - احتج بقوله - صلى الله عليه وسلم - «ليس للولي مع الثيب أمر» فتخصيص الثيب بالذكر عند نفي ولاية الاستبداد للولي بالتصرف دليل على أنه يستبد بتزويج البكر؛ ولأن هذه بكر فيملك أبوها تزويجها كما لو كانت صغيرة. وهذا لما بينا أن بالبلوغ لا يحدث لها رأي في باب النكاح، فإن طريق معرفة ذلك التجربة فكأن بلوغها مع صفة البكارة كبلوغها مجنونة بخلاف المال والغلام، فإن الرأي هناك يحدث بالبلوغ عن عقل، والدليل عليه أن للأب أن يقبض صداقها بغير أمرها إذا كانت بكرا فإذا جعل في حق قبض الصداق كأنها صغيرة حتى يستبد الأب بقبض صداقها فكذا في تزويجها. وحجتنا في ذلك حديث أبي هريرة وأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد نكاح بكر زوجها أبوها وهي كارهة» وفي حديث آخر قال «في البكر يزوجها وليها: فإن سكتت فقد رضيت وإن أبت لم تكره» وفي رواية: فلا جواز عليها. والدليل عليه حديث الخنساء «فإنها جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه وأنا لذلك كارهة فقال: - صلى الله عليه وسلم - أجيزي ما صنع أبوك فقالت ما لي رغبة فيما صنع أبي فقال - صلى الله عليه وسلم: اذهبي فلا نكاح لك انكحي من شئت فقالت أجزت ما صنع أبي ولكني أردت أن يعلم النساء أن ليس للآباء من أمور بناتهم شيء»، ولم ينكر عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالتها، ولم يستفسر أنها بكر أو ثيب فدل أن الحكم لا يختلف، وفي الحديث المعروف: «البكر تستأمر في نفسها وسكوتها رضاها». فدل أن أصل الرضا منها معتبر والشافعي - رحمه الله تعالى - لا يعمل بهذا الحديث أصلا فإنه يقول في حق الأب والجد لا يشترط رضاها وفي تزويج غير الأب والجد لا يكتفى بسكوتها وما علق في حديث آخر من الحق لها بصفة الثيوبة المراد به في حق الضم والتفرد بالسكنى. يعني أن للولي أن يضم البكر إلى نفسه؛ لأنه يخاف عليها أن تخدع فإنها لم تمارس الرجال ولم تعرف كيدهم، وللثيب أن تنفرد بالسكنى؛ لأنها آمنة من ذلك، والمعنى فيه أنها حرة مخاطبة فلا يجوز تزويجها بغير رضاها كالثيب، وتأثيره أن الحرية والخطاب وصفان مؤثران في استبداد المرء بالتصرف وزوال ولاية الافتيات عليه كما في حق المال والغلام. وبقاء صفة البكارة تأثيره في عدم الاهتداء بسبب انعدام التجربة والامتحان، ولهذا لا تثبت ولاية الافتيات عليه كما في المال، فإن الظاهر أن من يبلغ لا يكون مهتديا إلى التصرفات قبل التجربة والامتحان ولكن الاهتداء وعدم الاهتداء لا يوقف على حقيقته وتختلف فيه أحوال الناس فأقام الشرع البلوغ عن عقل مقام حقيقة الاهتداء تيسيرا للأمر على الناس، وسقط اعتبار الاهتداء الذي يحصل قبل البلوغ بسبب التجربة، ويسقط اعتبار الجهل الذي يبقى بعد البلوغ؛ لعدم التجربة. ألا ترى أن البكر التي لا أب لها غير مهتدية كالتي لها أب ثم اعتبر رضاها في تزويجها بالاتفاق وكذلك إقرارها بالنكاح يصح، فلو كان بقاء صفة البكارة في حقها كبقاء صفة الصغر لم يجز إقرارها بالنكاح. وأما قبض الصداق فعندنا لو نهت الأب عن قبض صداقها لم يكن له أن يقبض، ولكنه عند عدم النهي له أن يقبض لوجود الإذن دلالة فإن الظاهر أن البكر تستحي من قبض صداقها، وأن الأب هو الذي يقبض؛ لتجهيزها بذلك مع مال نفسه إلى بيت زوجها فكان له أن يقبض لهذا، وبعد الثيوبة لا توجد هذه العادة؛ لأن التجهيز من الآباء بالإحسان مرة بعد مرة لا يكون فصار الأب في المرة الثانية كسائر الأولياء (قال): وإن سكتت حين بلغها عقد الأب فالنكاح جائز عليها؛ لأن الشرع جعل السكوت منها رضا؛ لعلة الحياء فإن ذلك يحول بينها وبين النطق فتكون بمنزلة الخرساء فكما تقوم إشارة الخرساء مقام عبارتها فكذلك يقام سكوت البكر مقام رضاها. وكان محمد بن مقاتل - رحمه الله تعالى - يقول إذا استأمرها قبل العقد فسكتت فهو رضا منها بالنص، فأما إذا بلغها العقد فسكتت لا يتم العقد؛ لأن الحاجة إلى الإجازة هنا، والسكوت لا يكون إجازة منها؛ لأن هذا ليس في معنى المنصوص فإن السكوت عند الاستئمار لا يكون ملزما وحين يبلغها العقد الرضا يكون ملزما فلا يثبت ذلك بمجرد السكوت، ولكنا نقول هذا في معنى المنصوص؛ لأن عند الاستئمار لها جوابان نعم أو لا فيكون سكوتها دليلا على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك، وهو نعم؛ لما فيه من إظهار الرغبة إلى الرجال. وكذلك إذا بلغها العقد فلها جوابان أجزت أو رددت فيجعل السكوت دليلا على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك وهو الإجازة (قال): وكذلك لو ضحكت؛ لأن الضحك أدل على الرضا بالتصرف من السكوت بخلاف ما إذا بكت فإن البكاء دليل السخط والكراهية، وقد قال بعض المتأخرين: هذا إذا كان لبكائها صوت كالويل فأما إذا خرج الدمع من عينها من غير صوت البكاء لم يكن هذا ردا بل هي تحزن على مفارقة بيت أبويها، وإنما يكون ذلك عند الإجازة وكذلك قالوا: إن ضحكت كالمستهزئة؛ لما سمعت لا يكون رضا والضحك الذي يكون بطريق الاستهزاء معروف بين الناس (قال فإن قال قبل النكاح: إن فلانا يخطبك وأنا مزوجك إياه فسكتت ثم ذهب فزوجها جاز النكاح؛ لما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب إليه بنت من بناته دنا من خدرها وقال إن فلانا يخطب فلانة ثم ذهب فزوجها إن سكتت وإن نكتت خدرها بأصبعها لم يزوجها» وفي رواية «أنه كان يقول إن فلانا يخطب فلانة فإن كرهتيه قولي لا» فإنما طلب منها جواب الرد لا جواب الرضا فدل أن السكوت يكفي للرضا وفي الكتاب لم يشترط تسمية الصداق في الاستئمار وإنما اشترط تسمية الزوج؛ لأن الظاهر أن اختلاف رغبتها يكون باختلاف الزوج، وأن الأب لا يقف على مرادها في حق الزوج فأما في حق الصداق فالأب يعلم بمرادها في ذلك وهو صداق مثلها، فلا حاجة إلى تسمية ذلك مع أن في أصل النكاح الشرط تسمية الزوجين لا المهر ففي الاستئمار أولى. وبعض المتأخرين يقولون: لا بد من تسمية المهر في الاستئمار؛ لأن رغبتها تختلف باختلاف الصداق والقلة والكثرة والذي بيناه في الأب هو الحكم في سائر الأولياء فهذا دليل على أن الاستئمار إنما يكون معتبرا من الولي الذي يملك مباشرة العقد، فأما الأجنبي إذا استأمرها فسكتت لم يكن له أن يزوجها؛ لأن سكوتها؛ لعدم الالتفات إلى استئمار الأجنبي فكأنها قالت مالك؟ وللاستئمار حين لم تكن بسبيل من العقد إلا أن يكون الذي استأمرها رسول الولي فحينئذ الرسول قائم مقام المرسل وحكي عن الكرخي - رحمه الله تعالى - أن سكوتها عند استئمار الأجنبي يكون رضا؛ لأنها تستحي من الأجنبي أكثر مما تستحي من الولي. (قال وإذا قالت البكر: لم أرض حين بلغني وادعى الزوج رضاها فالقول قولها عندنا وقال زفر - رحمه الله تعالى: القول قول الزوج؛ لأنه متمسك بما هو الأصل وهو السكوت والمرأة تدعي عارضا وهو الرد فيكون القول قول من يتمسك بالأصل كالمشروط له الخيار مع صاحبه إذا اختلفا بعد مضي المدة فادعى المشروط له الخيار الرد وأنكره صاحبه فالقول قوله؛ لتمسكه بالأصل وهو السكوت. وكذلك الشفيع مع المشتري إذا اختلفا فقال الشفيع: علمت بالبيع أمس فطلبت الشفعة، وقال المشتري: بل سكت فالقول قول المشتري؛ لتمسكه بما هو الأصل ولكنا نقول: الزوج يدعي ملك بضعها وهذا ملك حادث، وهي تنكر ثبوت ملكه عليها فكانت هي المتمسكة بالأصل فكان القول قولها كما لو ادعى أصل العقد وأنكرت هي، وهذا؛ لأن ما قاله زفر - رحمه الله تعالى - نوع ظاهر، والظاهر يكفي لدفع الاستحقاق لا لإثبات الاستحقاق، وحاجة الزوج هنا إلى إثبات الاستحقاق. وفي الحقيقة المسألة تنبني على مسألة أخرى، وهو أنه إذا قال لعبده: إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر فمضى اليوم وقال العبد: لم أدخل وقال المولى: قد دخلت عند زفر - رحمه الله تعالى - القول قول العبد؛ لتمسكه بما هو الأصل وعندنا القول قول المولى؛ لأن حاجة العبد إلى إثبات الاستحقاق، والظاهر لهذا لا يكفي؛ ولأن عدم الدخول شرط للعتق ولا يكتفى بثبوت الشرط بطريق الظاهر فكذا هنا رضاها شرط؛ لثبوت النكاح والظاهر لا يكفي؛ لذلك فأما الشفيع إذا قال: طلبت الشفعة حين علمت فالقول قوله وإن قال: علمت أمس وطلبت الآن فالقول قول المشتري؛ لأن حاجة المشتري إلى دفع استحقاق الشفيع، والظاهر يكفي للدفع. وكذلك في باب البيع فإن سبب لزوم العقد وهو مضي مدة الخيار قد ظهر فحاجة الآخر إلى دفع استحقاق مدعي الفسخ، والظاهر يكفي لذلك، فإن أقام الزوج البينة على سكوتها ثبت النكاح وإلا فلا نكاح بينهما ولا يمين عليها في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تستحلف فإن نكلت قضي عليها بالنكاح. وأصل المسألة أن عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - لا يستحلف في ستة أشياء: في النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والنسب والولاء وعندهما يستحلف في ذلك كله فيقضى بالنكول وقد ذكر في الدعوى فصلا شائعا إذا ادعت الأمة على مولاها أنها أسقطت سقطا مستبين الخلق وصارت أم ولد له بذلك، وحجتهما في ذلك أن هذه الحقوق تثبت مع الشبهات فيجوز القضاء فيها بالنكول كالأموال، وهذا؛ لأن النكول قائم مقام الإقرار، ولكن فيه نوع شبهة؛ لأنه سكوت والسكوت محتمل فإنما يثبت به ما يثبت مع الشبهات، ولهذا لا يثبت القصاص بالنكول؛ لأنه يندرئ بالشبهات، وإنما يثبت بالنكول ما يثبت بالإبدال من الحجج نحو كتاب القاضي إلى القاضي والشهادة على الشهادة. وهذه الحقوق تثبت بذلك فكذلك بالنكول؛ لأنه بدل عن الإقرار وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول هذه الحقوق لا يجزي فيها البدل فلا يقضى فيها بالنكول كالقصاص في النفس، وبيان الوصف ظاهر فإن المرأة لو قالت لا نكاح بيني وبينك، ولكن بذلت لك نفسي لا يعمل بذلها وكذلك لو قال: لست بابن لك ولا مولى ولكن أبذل لك نفسي أو قال: أنا حر الأصل ولكن أبذل لك نفسي؛ لتسترقني لا يعمل بذله أصلا. بخلاف المال فإنه لو قال: هذا المال ليس لك، ولكن أبذله لك؛ لأتخلص من خصومتك كان بذله صحيحا، وتأثيره أن النكول بمنزلة البذل لا بمنزلة الإقرار فإنا لو جعلناه بذلا يتوصل المدعي إلى حقه مع بقاء المدعى عليه محقا في إنكاره وإذا جعلناه إقرارا يجعل المدعى عليه مبطلا في إنكاره وذلك لا يجوز إلا بحجة؛ ولأن النكول سكوت فهو إلى ترك المنازعة أقرب منه إلى الإقرار فإنما يثبت به أدنى ما يثبت بترك المنازعة وهو البذل، فرق أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - بين هذا وبين القصاص في النفس فإن هناك يستحلف وإن كان لا يقضى بالنكول؛ لأن اليمين في النفس مقصودة؛ لعظم أمر الدم ألا ترى أن الأيمان في القسامة شرعت مكررة وفي هذه المسائل اليمين ليست بحق له مقصودا وإنما المقصود منه القضاء بالنكول فإذا لم يجز القضاء بالنكول لا حاجة إلى الاستحلاف؛ لكونه غير مفيد وبأن كان يثبت بالإبدال من الحجج فذلك لا يدل على أنه يستحلف فيه كتصديق المقذوف القاذف يثبت بالإبدال من الحجج ولا يجري فيه الاستحلاف (قال وإن كان الزوج قد دخل بها ثم قالت: لم أرض لم تصدق على ذلك؛ لأن تمكينها الزوج من نفسها أدل على الرضا من سكوتها إلا أن يكون دخل بها وهي مكرهة فحينئذ القول قولها؛ لظهور دليل السخط منها دون دليل الرضا، ولا يقبل عليها قول وليها بالرضا؛ لأنه يقر عليها بثبوت الملك للزوج، وإقراره عليها بالنكاح بعد بلوغها غير صحيح بالاتفاق، وهذا؛ لأنه لا يملك إلزام العقد عليها فلا يعتبر إقراره في لزوم العقد عليها أيضا (قال وإذا زوج ابنه الكبير فبلغه فسكت لم يكن رضا حتى يرضى بالكلام أو بفعل يكون دليل الرضا؛ لأن في حق الأنثى السكوت جعل رضا؛ لعلة الحياء، وذلك لا يوجد في الغلام فإنه لا يستحي من الرغبة في النساء؛ ولأن السكوت من البكر محبوب في الناس عادة، وفي حق الغلام السكوت مذموم؛ لأنه دليل على التخنث فلهذا لا يقام سكوته مقام رضاه قال وإذا مات زوج البكر قبل أن يدخل بها بعد ما خلا بها، زوجها أبوها بعد انقضاء العدة كما تزوج البكر؛ لأن صفة البكارة قائمة؛ والحياء الذي هو علة قائم فإن بوجوب العدة والمهر لا يزول الحياء فلهذا يكتفى بسكوتها وإن جومعت بشبهة أو نكاح فاسد لم يجز تزويجها بعد ذلك إلا برضاها، ولا يكتفى بسكوتها في هذا الموضع؛ لأنها ثيب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - «والثيب تشاور» فأما إذا زنت يكتفى بسكوتها عند التزويج عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى لا يكتفى بسكوتها؛ لأنها ثيب؛ لأن الثيب اسم لامرأة يكون مصيبها عائدا إليها مشتق من قولهم ثاب أي: رجع والبكر اسم لامرأة مصيبها يكون أول مصيب لها؛ لأن البكارة عبارة عن أولية الشيء، ومنه يقال لأول النهار: بكرة، وأول الثمار: باكورة. والدليل عليه أنها تستحق من الوصية للثيب دون الوصية للإبكار، وإذا كانت ثيبا وجب مشورتها بالنص، ولا يجوز الاشتغال بالتعليل مع هذا؛ لأنه يكون تعليلا لإبطال حكم ثابت بالنص؛ ولأن الحياء بعد هذا يكون رعونة منها فإنها لما لم تستح من إظهار الرغبة في الرجال على أفحش الوجوه كيف تستحي من إظهار الرغبة على أحسن الوجوه بخلاف حياء البكر؛ لأنه حياء كرم الطبيعة، وذلك أمر محمود وهذه لو كان فيها حياء إنما هو استحياء من ظهور الفاحشة وذلك غير ما ورد فيه النص، ولكن أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول صاحب الشرع إنما جعل سكوتها رضا لا للبكارة بل لعلة الحياء، فإن عائشة - رضي الله تعالى عنها - لما أخبرت أنها تستحي فحينئذ قال: سكوتها رضاها، وغلبة الحياء هنا موجودة فإنها وإن ابتليت بالزنا مرة؛ لفرط الشبق أو أكرهت على الزنا لا ينعدم حياؤها بل يزداد؛ لأن في الاستنطاق ظهور فاحشتها، وهي تستحي من ذلك غاية الاستحياء، وهذا الاستحياء محمود منها؛ لأنها سترت ما على نفسها، وقد أمرت بذلك قال: - صلى الله عليه وسلم - «من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله»، وقبل هذا الفعل إنما كانت لا تستنطق؛ لأن الاستنطاق دليل ظهور رغبتها في الرجال فإذا سقط نطقها في موضع يكون النطق دليل رغبتها في الرجال على أحسن الوجوه فلأن يسقط نطقها في موضع يكن النطق دليل الرغبة في الرجال على أفحش الوجوه كان أولى. بخلاف ما إذا وطئت بشبهة أو بنكاح فاسد؛ لأن الشرع أظهر ذلك الفعل عليها حين ألزم المهر والعدة وأثبت النسب بذلك الفعل، وهنا الشرع ما أظهر ذلك عليها إذ لم يعلق به شيئا من الأحكام، وأمرها بالستر على نفسها فإن أخرجت وأقيم عليها الحد فالصحيح أنه لا يكتفى بسكوتها أيضا بعد ذلك. وكذلك إذا صار الزنا عادة لها، وبعض مشايخنا رحمهم الله تعالى يقول في هذين الفصلين: يكتفى بسكوتها أيضا؛ لأنها بكر شرعا، ألا ترى أنها تدخل تحت قوله - صلى الله عليه وسلم - «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» ولكن هذا ضعيف فإن في الموطوءة بالشبهة والنكاح الفاسد هذا موجود ولا يكتفى بسكوتها فعرفنا أن المعتبر بقاء صفة الحياء. ولو زالت بكارتها بالوثبة أو الطفرة أو بطول التعنيس يكتفى بسكوتها عندنا وفي أحد قولي الشافعي - رحمه الله تعالى - هي بمنزلة الثيب استدلالا بالبيع فإنه لو باع جارية بشرط أنها بكر فوجدها المشتري بهذه الصفة كان له أن يردها، فدل أنها ليست ببكر بعدما أصابها ما أصابها، ولكنا نقول: هي بكر؛ لأن مصيبها أول مصيب لها إلا أنها ليست بعذراء، والعادة بين الناس أنهم باشتراط البكارة في السرائر يريدون صفة العذرة فلهذا ثبت حق الرد، فأما هذا الحكم تعلق بالحياء أو بصفة البكارة وهما قائمان ألا ترى «أن عائشة - رضي الله تعالى عنها - لما افتخرت بالبكارة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشارت إلى هذا المعنى فقالت: أرأيت لو وردت واديين إحداهما رعاها أحد قبلك والأخرى لم يرعها أحد قبلك إلى أيهما تميل؟ فقال - صلى الله عليه وسلم: إلى التي لم يرعها أحد قبلي فقالت: أنا ذاك» فعرفنا أنها ما لم توطأ فهي بكر (قال وإذا زوج البكر أبوها من رجل وأخوها من رجل آخر بعده فأجازت نكاح الأخ جاز ذلك عليها ولم يجز نكاح الأب، وهو بناء على أصلنا أن العقد لا يجوز إلا برضاها، سواء كان المباشر أبا أو أخا فإنما وجد شرط نفوذ نكاح الأخ، وهو رضاها بذلك ومن ضرورة رضاها بنكاح الأخ رد نكاح الأب فلهذا يبطل نكاح الأب (قال وإذا زوجها وليها بغير أمرها فلم يبلغها حتى ماتت هي أو مات الزوج لم يتوارثا؛ لأن النكاح لا ينفذ عليها إلا برضاها، والإرث حكم يختص بالنكاح الصحيح المنتهي بالموت ولم يوجد فهو بمنزلة النكاح الفاسد إذا مات فيه أحدهما لم يتوارثا (قال وإن زوجها أبوها، وهو عبد أو كافر ورضيت به جاز؛ لأن العقد كان موقوفا على إجازتها ألا ترى أنها لو أذنت في الابتداء نفذ عقده بإذنها فكذلك إذا أجازت في الانتهاء، ولكن لا نقول: سكوتها رضا منها؛ لأن العاقد لم يكن وليا لها، والحاجة في عقد غير الولي إلى توكيلها لا إلى رضاها، والتوكيل غير الرضا فإن التوكيل إنابة والرضا إسقاط حق الرد فلهذا لا يثبت التوكيل بالسكوت، يبين لك ما قلنا: إن الصحيح في استئمار الأجنبي أنه لا يكتفى بسكوتها (قال وإذا زوج البكر وليها بأمرها وزوجت هي نفسها فإن قالت: هو الأول فالقول قولها، وهو الزوج؛ لأنها أقرت بملك النكاح له على نفسها، وإقرارها حجة تامة عليها، وإن قالت: لا أدري أيهما أول، ولا يعلم ذلك فرق بينهما؛ لأنه لا يمكن تصحيح نكاحهما فإن المرأة لا تحل لرجلين بالنكاح، وليس أحدهما بأولى من الآخر فيفرق بينها وبينهما لهذا، وكذلك لو زوجها وليان بأمرها، والثيب والبكر في هذا سواء؛ لما بينا (قال وإذا زوج البكر وليها فأخبرها بذلك فقالت: لا أرضى ثم قالت: قد رضيت فلا نكاح بينهما؛ لأن العقد قد بطل بينهما بردها فإنما رضيت بعد ذلك بالعقد المفسوخ، وذلك باطل، ولهذا جرى الرسم بتجديد العقد عند الزفاف؛ لأنها في المرة الأولى تظهر الرد، وغير ذلك لا يحمد منها ثم لا يزال بها أولياؤها يرغبونها حتى رضيت فلو لم يتجدد العقد كانت تزف إلى أجنبي فلهذا استحسنا تجديد العقد عند الزفاف (قال وإذا استؤمرت في نكاح رجل خطبها فأبت ثم زوجها الولي منه فسكتت فهو رضاها؛ لأنها لما أبت بطل استئمارها فكأنه زوجها من غير استئمار فيكون سكوتها رضاها وكان محمد بن مقاتل - رحمه الله تعالى - يقول هنا: لا يجوز ولا يكون سكوتها رضا؛ لأنها قد صرحت بالسخط فكيف يكون سكوتها بعد ذلك دليل رضاها، ولكنا نقول: قد يسخط المرء الشيء في وقت ويرضى به في وقت آخر فسخطها قبل العقد لا يمنعنا أن نجعل سكوتها رضا بعد العقد، والله تعالى أعلم بالصواب. [باب نكاح الثيب] (قال قد «بلغنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا زوج ابنته، وهي كارهة، وهي تريد عم صبيانها ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينها وبين الذي زوجها منه أبوها ثم زوجها عم ولدها»، وهذه المرأة كانت ثيبا؛ لأن الراوي قال: وهي تريد عم صبيانها فهذا دليل على أن نكاح الأب الثيب لا ينفذ بدون رضاها، وهو مجمع عليه، ولا يكون للشافعي في هذا الحديث حجة علينا في البكر؛ لأن ضد هذا الحكم في حق البكر مفهوم، والمفهوم عندنا ليس بحجة؛ ولأنه خص الثيب بالذكر، وتخصيص الثيب بالذكر لا يدل على أن الحكم في غيرها بخلافه ثم في هذا الحديث دليل على أن الولي إذا امتنع عن التزويج زوجها الإمام فإن الأب هنا امتنع من تزويجها ممن أرادت فزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بولاية الإمامة وفيه دليل على أن اختيار الأزواج إليها لا إلى الولي؛ لأنها هي التي تعاشر الأزواج فإنما تحسن العشرة مع من تختاره دون من يختاره الولي (قال وإذا زوج الثيب أبوها فبلغها فسكتت لم يكن سكوتها رضا بالنكاح؛ لأن الأصل في السكوت أن لا يكون رضا؛ لكونه محتملا في نفسه وإنما أقيم مقام الرضا في البكر؛ لضرورة الحياء، والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة، ولا ضرورة في حق الثيب فلهذا لا يكتفى بسكوتها عند الاستئمار، ولا إذا بلغها العقد، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. [باب النكاح بغير ولي] (قال - رضي الله عنه - بلغنا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن امرأة زوجت ابنتها برضاها فجاء أولياؤها فخاصموها إلى علي - رضي الله عنه - فأجاز النكاح، وفي هذا دليل على أن المرأة إذا زوجت نفسها أو أمرت غير الولي أن يزوجها فزوجها جاز النكاح وبه أخذ أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - سواء كانت بكرا أو ثيبا إذا زوجت نفسها جاز النكاح في ظاهر الرواية سواء كان الزوج كفؤا لها أو غير كفء فالنكاح صحيح إلا أنه إذا لم يكن كفؤا لها فللأولياء حق الاعتراض، وفي رواية الحسن - رضي الله عنه - إن كان الزوج كفؤا لها جاز النكاح، وإن لم يكن كفؤا لها لا يجوز وكان أبو يوسف - رحمه الله تعالى - أولا يقول: لا يجوز تزويجها من كفء أو غير كفء إذا كان لها ولي ثم رجع وقال: إن كان الزوج كفؤا جاز النكاح، وإلا فلا ثم رجع فقال: النكاح صحيح سواء كان الزوج كفؤا لها أو غير كفء لها، وذكر الطحاوي قول أبي يوسف رحمهما الله تعالى إن الزوج إن كان كفؤا أمر القاضي الولي بإجازة العقد فإن أجازه جاز، وإن أبى أن يجيزه لم ينفسخ ولكن القاضي يجيزه فيجوز. وعلى قول محمد - رحمه الله تعالى - يتوقف نكاحها على إجازة الولي سواء زوجت نفسها من كفء أو غير كفء فإن أجازه الولي جاز وإن أبطله بطل إلا أنه إذا كان الزوج كفؤا لها ينبغي للقاضي أن يجدد العقد إذا أبى الولي أن يزوجها منه، وعلى قول مالك والشافعي رحمهما الله تعالى تزويجها نفسها منه باطل على كل حال، ولا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلا سواء زوجت نفسها أو بنتها أو أمتها أو توكلت بالنكاح عن الغير، ومن العلماء رحمهم الله تعالى من يقول: إذا كانت غنية شريفة لم يجز تزويجها نفسها بغير رضا الولي، وإن كانت فقيرة خسيسة يجوز لها أن تزوج نفسها من غير رضا الولي، ومنهم من فصل بين البكر والثيب، وهم أصحاب الظواهر أما من شرط الولي استدل بقوله تعالى {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة: 232] . وقال الشافعي - رحمه الله تعالى: وهذه أبين آية في كتاب الله تعالى تدل على أن النكاح لا يجوز بغير ولي؛ لأنه نهى الولي عن المنع وإنما يتحقق المنع منه إذا كان الممنوع في يده وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل وإذا دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها لا وكس، ولا شطط فإن تشاجرا فالسلطان ولي من لا ولي له»، وفي الحديث المشهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا نكاح إلا بولي»، وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح خاطب وولي وشاهدا عدل»، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تنكح المرأة المرأة، ولا المرأة نفسها وإنما الزانية هي التي تنكح نفسها»، وأن عائشة - رضي الله عنها - كانت تحضر النكاح وتخطب ثم تقول اعقدوا فإن النساء لا يعقدن. والمعنى فيه أنها ناقصة بنقصان الأنوثة فلا تملك مباشرة عقد النكاح لنفسها كالصغيرة والمجنونة، وهذا لأن النكاح عقد عظيم خطره كبير، ومقاصده شريفة ولهذا أظهر الشرع خطره باشتراط الشاهدين فيه من بين سائر المعاوضات فلإظهار خطره تجعل مباشرته مفوضة إلى أولي الرأي الكامل من الرجال؛ لأن النساء ناقصات العقل والدين فكأن نقصان عقلها بصفة الأنوثة بمنزلة نقصان عقلها بصفة الصغر ولهذا قال محمد - رحمه الله تعالى: إن عقدها يتوقف على إجازة الولي كما أن عقد الصغيرة التي تعقل يتوقف على إجازة الولي وعلى قول الشافعي - رحمه الله تعالى - لا ينعقد العقد بعبارتها أصلا كما لا ينعقد التصرف بعبارة الصغيرة عنده، والدليل عليه ثبوت حق الاعتراض للأولياء إذا وضعت نفسها في غير كفء، ولو ثبتت لها ولاية الاستبداد بالمباشرة لم يثبت للأولياء حق الاعتراض كالرجل، وكذلك تملك مطالبة الولي بالتزويج، ولو كانت مالكة للعقد على نفسها لما كان لها أن تطالب الولي به. ، والدليل على اعتبار نقصان عقلها أنه لم يجعل إليها من جانب رفع العقد شيء بل الزوج هو الذي يستبد بالطلاق، وأما من جوز النكاح بغير ولي استدل بقوله تعالى {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن} [البقرة: 234] ، وبقوله تعالى {حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: 230] لقوله تعالى {أن ينكحن أزواجهن} [البقرة: 232] أضاف العقد إليهن في هذه الآيات فدل أنها تملك المباشرة، والمراد بالعضل المنع حبسا بأن يحبسها في بيت ويمنعها من أن تتزوج، وهذا خطاب للأزواج فإنه قال في أول الآية: {وإذا طلقتم النساء} [البقرة: 231] وبه نقول: أن من طلق امرأته وانقضت عدتها فليس له أن يمنعها من التزوج بزوج آخر، وأما الأخبار فقوله - صلى الله عليه وسلم: «الأيم أحق بنفسها من وليها» والأيم: اسم لامرأة لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا، وهذا هو الصحيح عند أهل اللغة، وهو اختيار الكرخي - رحمه الله تعالى - قال: الأيم من النساء كالأعزب من الرجال بخلاف ما ذكر محمد - رحمه الله تعالى - أن الأيم: اسم للثيب، وقد بينا هذا في شرح الجامع. وقال - صلى الله عليه وسلم: «ليس للولي مع الثيب أمر»، وحديث الخنساء حيث «قالت: بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكني أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من أمور بناتهم شيء» «ولما خطب رسول الله أم سلمة - رضي الله عنها - اعتذرت بأعذار من جملتها أن أولياءها غيب فقال: - صلى الله عليه وسلم - ليس في أوليائك من لا يرضى بي قم يا عمر فزوج أمك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاطب به عمر بن أبي سلمة وكان ابن سبع سنين» وعن عمر وعلي وابن عمر - رضي الله تعالى عنهم - جواز النكاح بغير ولي، وأن عائشة - رضي الله تعالى عنها - زوجت ابنة أخيها حفصة بنت عبد الرحمن من المنذر بن الزبير، وهو غائب فلما رجع قال: أومثلي يفتات عليه في بناته، فقالت عائشة - رضي الله تعالى عنها: أوترغب عن المنذر؟ والله لتملكنه أمرها، وبهذا تبين أن ما رووا من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - غير صحيح فإن فتوى الراوي بخلاف الحديث دليل وهن الحديث، ومدار ذلك الحديث على الزهري وأنكره الزهري، وجوز النكاح بغير ولي. ثم هو محمول على الأمة إذا زوجت نفسها بغير إذن مولاها أو على الصغيرة أو على المجنونة وكذلك سائر الأخبار التي رووا على هذا تحمل أو على بيان الندب أن المستحب أن لا تباشر المرأة العقد ولكن الولي هو الذي يزوجها، والمعنى فيه أنها تصرفت في خالص حقها ولم تلحق الضرر بغيرها فينعقد تصرفها كما لو تصرفت في مالها، وبيان الوصف أن النكاح من الكفء بمهر المثل خالص حقها بدليل أن لها أن تطالب الولي به، ويجبر الولي على الإيفاء عند طلبها، وهي من أهل استيفاء حقوق نفسها فإنما استوفت بالمباشرة حقها وكفت الولي الإيفاء فهو نظير صاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه فاستوفى كان استيفاؤه صحيحا فكذلك هنا، والدليل عليه أن اختيار الأزواج إليها بالاتفاق، والتفاوت في حق الأغراض والمقاصد إنما يقع باختيار الزوج لا بمباشرة العقد، ولو كان لنقصان عقلها عبرة لما كان لها اختيار الأزواج، وكذلك إقرارها بالنكاح صحيح على نفسها ولو كانت بمنزلة الصغيرة ما صح إقرارها بالنكاح. وكذلك يعتبر رضاها في مباشرة الولي العقد ولو كانت بمنزلة الصغيرة لما اعتبر رضاها، ويجب على الولي تزويجها عند طلبها، ولو كانت كالصغيرة لما وجب الإيفاء بطلبها وإنما يثبت لها حق مطالبة الولي؛ لنوع من المروءة، وهو أنها تستحي من الخروج إلى محافل الرجال لتباشر العقد على نفسها، ويعد هذا رعونة منها ووقاحة، ولكن هذا لا يمنع صحة مباشرتها كما ورد الشرع بالنهي عن أن يخطب على خطبة غيره، ولو فعل جاز؛ لأن هذا النهي؛ لنوع من المروءة فلا يمنع جواز المنهي عنه، وإذا زوجت نفسها من غير كفء فقد ألحقت الضرر بالأولياء فيثبت لهم حق الاعتراض؛ لدفع الضرر عن أنفسهم كما أن الشفيع يثبت له حق الأخذ بالشفعة؛ لدفع الضرر عن نفسه؛ ولأن طلب الكفاءة لحق الأولياء فلا تقدر على إسقاط حقهم، وهذا لا يمنع وجود أصل عقدها في حق نفسها كأحد الشريكين إذا كاتب للآخر أن يفسخ دفعا للضرر عن نفسه وعلى رواية الحسن - رحمه الله تعالى - قال: إذا زوجت نفسها من غير كفء لم يجز النكاح أصلا. وهو أقرب إلى الاحتياط فليس كل ولي يحتسب في المرافعة إلى القاضي، ولا كل قاض يعدل فكان الأحوط سد باب التزويج من غير كفء عليها وبهذا الطريق قال أبو يوسف: الأحوط أن يجعل عقدها موقوفا على إجازة الولي؛ ليندفع الضرر عن الولي إلا أن الولي إذا قصد بالفسخ دفع الضرر عن نفسه بأن لم يكن كفؤا لها صح فسخه، وإن قصد الإضرار بها بأن كان الزوج كفؤا لها لم يصح فسخه، ولكن القاضي يقوم مقامه في الإجازة كما يقوم مقامه في العقد إذا عضلها ومحمد - رحمه الله تعالى - يقول: لما توقف العقد على إجازة الولي؛ لتمام الاحتياط فكما ينعقد بإجازته ينفسخ بفسخه، وبعد ما يفسخ فليس للقاضي أن يجيزه، ولكن يستقبل العقد إذا تحقق العضل من الولي، وعلى هذا الأصل يقول: إذا زوجت نفسها من كفء ثم مات أحدهما قبل المرافعة إلى القاضي توارثا أما على قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - فظاهر وأما على قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - فلأن تصرفها في حق نفسها صحيح، ومعنى التوقف لدفع الضرر عن الولي، ولهذا لا ينفسخ بفسخ الولي، وإنما انتهى النكاح الصحيح بالموت فيجري التوارث بينهما، وعلى قول محمد - رحمه الله تعالى - لا يتوارثان؛ لأن أصل العقد كان موقوفا، وفي العقد الموقوف لا يجري التوارث، وعلى هذا لو ظاهر منها أو آلى منها صح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى خلافا لمحمد - رحمه الله تعالى -. وإن كانت قصرت في مهرها فزوجت نفسها بدون صداق مثلها كان للأولياء حق الاعتراض حتى يبلغ بها مهر مثلها أو يفرق بينهما في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يثبت للأولياء حق الاعتراض إلا أن قول محمد - رحمه الله تعالى - لا يتحقق في تزويجها نفسها، وإنما يتحقق فيما قال في كتاب الإكراه: وإذا أكرهت المرأة الولي على أن يزوجها بأقل من مهر مثلها فزوجها ثم زال الإكراه فرضيت المرأة، وأبى الولي أن يرضى فليس له ذلك في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأن المهر من خالص حقها فإنه بدل ما هو مملوك لها ألا ترى أن الاستيفاء والإبراء إليها والتصرف فيه كيف شاءت، وتصرفها فيما هو خالص حقها صحيح فلا يكون للأولياء حق الاعتراض وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول: إنها ألحقت الضرر بالأولياء فيكون لهم حق الاعتراض كما لو زوجت نفسها من غير كفء، وبيان ذلك أن الأولياء يتفاخرون بكمال مهرها ويعيرون بنقصان مهرها فإن ذلك مهر المومسات الزانيات عادة وفيه يقول القائل: وما علي أن تكون جاريه ... تمشط رأسي وتكون فاليه حتى ما إذا بلغت ثمانيه ... زوجتها مروان أو معاويه أختان صدق ومهور غاليه ، ومع لحوق العار بالأولياء فيه إلحاق الضرر بنساء العشيرة أيضا فإن من تزوج منهن بعد هذا بغير مهر فإنما يقدر مهرها بمهر هذه فعرفنا أن في ذلك ضررا عليهن، وإنما يذب عن نساء العشيرة رجالها فكان لهم حق الاعتراض فأما بعد تسمية الصداق كاملا صار حق العشيرة مستوفى، وبقاء المهر يخلص لها فإن شاءت استوفت وإن شاءت أبرأت، وهو نظير حق الشرع في تسمية أصل المهر في الابتداء وإن كان البقاء يخلص لها وإن طلقها قبل أن يدخل بها كان لها نصف ما سمى لها؛ لأن الطلاق قبل الدخول مسقط للصداق قياسا فإن المعقود عليه يعود إليها كما خرج عن ملكها، وذلك سبب لسقوط البدل إلا أنا أوجبنا لها نصف المسمى بالنص، وهو قوله تعالى {فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237] فلا تجب الزيادة على ذلك، وإن فرق القاضي بينهما فإن كان قبل الدخول بها فلا شيء عليها؛ لأنه فسخ أصل النكاح بهذا التفريق فلا يجب لها شيء وإن ولت المرأة أمرها رجلا فزوجها كفؤا فهو بمنزلة تزويجها نفسها وفي قول محمد - رحمه الله تعالى - لا يجوز ذلك كما لا يجوز تزويجها نفسها زاد في نسخ أبي حفص - رضي الله عنه - وقال: إلا أن يكون لها ولي فحينئذ يجوز، وهذا شيء رواه أبو رجاء بن أبي رجاء عن محمد رحمهما الله تعالى أنه قال: سألته عن النكاح بغير ولي فقال: لا يجوز قلت: فإن لم يكن لها ولي؟ قال: يرفع أمرها إلى الحاكم؛ ليزوجها قلت: فإن كانت في موضع لا حاكم في ذلك الموضع؟ قال: يفعل ما قال: سفيان - رحمه الله تعالى - قلت: وما فعل سفيان قال: تولي أمرها رجلا ليزوجها ثم قد صح رجوع محمد إلى قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في النكاح بغير ولي وعلى ذلك تنبني مسائل الجامع. ![]()
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |