بين يدي أعظم سورة في القرآن - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         أحب الناس إلى الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          شرح النووي لحديث: لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          حديث من دلائل النبوة:يوشك رجل شبعان متكئا علي أريكته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          أهمية الدعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          أي العمل أفضل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          حكم الإسلام في التصوف والمتصوفين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          علمتني نملة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          مظاهرات طلبة أميركا .. بداية تحول النظر إلى إسرائيل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          من أقوال السلف في الحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم: كما تداعى الأكلة إلى قصعتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-05-2024, 08:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,266
الدولة : Egypt
افتراضي بين يدي أعظم سورة في القرآن

بين يدي أعظم سورة في القرآن

الشيخ عبدالله محمد الطوالة


الحمدُ للهِ الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا، و﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان:1]، ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء:43]..

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، ولا ربَّ لنا سواهُ، ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء:44]..

والصلاةُ والسلامُ على من بعثهُ اللهُ تباركَ وتعالى هاديًا ومبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا منيرًا، فبلَّغَ الرسالةَ، وأدى الأمانةَ، ونصحَ الأُمَّةَ، وجاهدَ في الله جهــادًا كبيرًا.. صـلَّى اللهُ وسلَّم وبــاركَ وأنعـمَ عليـه، وعلى آله الأطهارِ، وصحابتهِ الأبْرارِ، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنّهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.


أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وأخلِصوا لله تعالى نياتِكم تُفلِحوا، وابتعدوا عن المنكرات تسْلموا، واستبِقوا الخيراتِ تغنموا وتربحوا، ﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء:124]..

معاشر المؤمنين الكرام: القرآن الكريم: هو الصراط المستقيم والذكر الحكيم.. حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِين، وَنُورُه المبِين، لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، نميرٌ عذبٌ، وموردٌ ثجَّاج، كلما ازدادت البصائر فيه تأمُلًا وتفكُرا، زادها هِدايةً وتبصُرا..

ووالله إن سعادةَ العبدِ، وصلاحَ أمرهِ في الدنيا والآخرة، لن تكون إلا بهذا القرآن العظيم، الذي إن تمسكنا به فلن نضِلَّ أبدًا.. ووالله ما في الدنيا شيءٌ يفعلُ بالقلوب ما يفعلهُ القرآن.. فهو يوقظها من غفلتها، ويُزيح الران عنها، ويُذكِي فيها جذوةَ الإيمان والتقوى، ويحركُ فيها كوامِن الخير والهدى.. ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون ﴾ [الحشر:21]..

ونحن اليومَ بين يديِّ سورةٍ هي بنصِّ الحديث الصحيح: "أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ"، وفي حديث صحيح آخر: قال صلى الله عليه وسلم: "مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلا فِي الإِنْجِيلِ وَلا فِي الزَّبُورِ وَلا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا"، سورةٌ عظيمةٌ كريمة، لا تصِحُ الصلاةُ بدونها..

سورةٌ مباركةٌ تميزت بفضائلها الكثيرة، وأسمائها المتعددة، والشيءُ إذا عظمُ شأنهُ وعلا مقامهُ تعددت أسماؤه، فمن أسماء هذه السورة العظمية: "فاتحة الكتاب"؛ لأنها أول سور القرآن، وتسمى "أمُّ القرآن"؛ لأنَّ جميع معاني آيات القرآن الكريم ترجع إليها، ولأنَّ كلَّ آياتِ القرآن تُفصِّيلٌ لما أُجمل فيها.. وتسمى سورة الْحَمْدُ، لابتدائها به.. وتسمى سورة الصلاة، لقوله تعالى في الحديث القدسي: "قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي".. وتسمى: "السبع المثاني والقرآن العظيم"، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87].. وتسمى كذلك الْكَافِيَةُ، لأنها تكفي عن غيرها في الصلاة، ولا يكفي غيرها عنها.. كما تسمى سورة "الرقية"، وَسورة الشِّفَاءُ، لأن لها من خصوصيَّة الشِّفاءِ ما ليس لغيرِها، بنصَّ الحديث الصحيح..

فتعالوا بنا أحبتي الكرام، نتأملُ هذه السورة العظيمة، ونتدبرُ آياتها، نستخرجُ شيئًا من دُررها وكنوزها، نتعلمُ شيئًا من معانيها ودلالاتها، نستلهمُ شيئًا من فوائدها وهِدَاياتِها، ونتخَلَّقُ بإرشَاداتِهِا وتَوجِيهَاتِهِا، فَنُحَقِق مُرادِ اللهِ، وننَالُ مَرْضَاتِهِ..

وابتداءً فينبغي لقارئ القرآن أن يبتدأ قراءته بالاستعاذة، (أعوذ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، لقوله جلَّ وعلا: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل:98].. ثم يبتدئُ قراءتهُ مُستعينًا بالله، مُتبركًا بذكر اسمه، فيقول: (بسم الله الرحمن الرحيم)، كما قال تعالى لنبيه: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق:1].. والبسملةُ وإن كانت ليست آيةً من الفاتحة، لأنها لم تُذكر في الحديث القدسي الصحيح، (قسمتُ الصلاةَ بين وبين عبدي).. إلا أن ابتداء القراءةِ بها أمرٌ مشروع..

وافتتحَ اللهُ تعالى هذه السورةَ العظيمةَ بحمد نفسهِ والثناءِ عليها، ﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة:2]، وفي ذلك دعوةٌ لعباده أن يثنوا عليه سبحانه بما هو أهلُه.. والألف واللام في بداية الآية لاستغراقِ جميع المحامِد، ولاستحقاقه سبحانه لها، فهو المستحقُ لكل الحمدِ والثناء، لكمال ذاته وصفاته، فالحمدُ كلهُ لله، والشكرُ كله لله، أبلغُ ما يكونُ الحمدُ والشكر وأشمله، وأتمهُ وأعمهُ وأكملُهُ.. الحمدُ كلهُ لله لأنَّهُ: ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، أوجدهم من العدم، ورباهم بالنعم، والحمدُ كُله للهِ لأنَّهُ: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، أرحمُ بهم من أُمهاتهِم، خلقَ مائةَ رحمةٍ، أنزلَ منها في الدنيا واحدةً، وادَّخرَ البقيةَ ليومِ الدين.. والحمدُ كلهُ للهِ لأنَّهُ: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، ومن سيقضي بينهم بالحقّ ويجازيهم، قال تعالى: ﴿ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر:75]..

والحميدُ أسمٌ من أسماء الله الحسنى، ذكرهُ اللهُ في القرآن خمسةً وعشرين مرة، ﴿ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الحج:64]، فهو المحمودٌ بكل لسان، المحمود في كل حينٍ وآن، وعلى كل حال، سبحانه وبحمده حمِدَ نفسه، وحمدته الخلائق كُلها، ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ [الإسراء:44]، وفي صحيح مسلم: قال صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله تملأُ الميزان، وسبحان اللهِ والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض).. وفي حديث صححه الالباني قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أفضلَ عبادِ اللهِ يومَ القيامةِ الحمَّادون".

﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، الـربُّ: هو الخالق الرازق السيِّد المالك، المتصرِّف، المربِّي لجميع العالمين بأصناف النِّعَم، ولعباده خاصَّة بالهداية للإيمان والهدى، و"العالمين": جمع: عالَم، وهم أصنافُ المَخلوقات وأنواعِها المختلفة، المتقدِّم منهم والمتأخِّر، كلٌّ قَد عمَّه ربُّه بأنواعٍ من النعم لا تحصى، وهداه لِمَا خُلق له..

﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة:3]: اسمان ووصْفان كريمان جليلان جميلان من أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، مُشتقَّان مِن الرحمة على وجهِ المبالغة، والرحمنُ أشدُّ مبالغةً من الرحيم.. فـ﴿ الرَّحْمَنِ ﴾ هو ذو الرحمةِ العظيمةِ الشامِلة لجميع الخلائق، كما قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف:156]، والرَّحيم ذو الرحمةِ الخاصة بالمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43].

﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة:4]، وفي قراءةٍ ملك يوم الدين: وهو الملك المالك المتصرّف في ملكه بما يشاء وكيف يشاء؛ يحكمُ لا معقب لحكمه، ولا يٌسأل عما يفعل.. و﴿ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ هو يوم الجزاء والحساب؛ وما أدراك ما يوم الدين: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين* ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [الانفطار:17]، ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَة ﴾ [الحاقة:18]، ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُم* فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾ [الزلزلة:6]..

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة:5]، هذه قلبُ الفاتحةِ وكنزُ أسرارِها، آية ٌعظِيمةُ القَدرِ والمعنى، واسِعةُ المقصِدِ والمغزَى.. أُلفت حولها كتبٌ ومجلدات.. وإذا تأمَّلت فيها وفيما قبلها: ستَجِد أنَّ اتجاهَ الخطابِ يتغيرُ عندها من الغائِبِ إلى الحاضِرِ، لكأنَّ العبدَ حين يبتدأ السورة فيُثنى على ربِّهِ بالحمدِ وبما هو أهلُهُ، أقتربَ من ربِّهِ جَلَّ وعلا، فيُخاطِبهُ قائِلًا: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، ولكَأنَّ العبدَ يخاطبُ ربِّهِ قائلًا: (أصالةً عن نفسي، ونيابةً عن إخوانيَ المؤمنين)، يا ربَّ: إيَّاكَ وحدَكَ نعبُدُ، ولا نعبُدُ غيرَكَ.. وإيَّاكَ وحدَكَ نستَعِينُ، ولا نَستَعِينُ بغيرِكَ.. يا ربّ: نعبدك وحدك حُبًا وخوفًا ورجاءً، وطاعةً وتعظيمًا، ونستعينُ بك وحدك، توكلًا وثقةً واعتمادًا..

والاستعانة هي الاعتمادُ على الله تعالى في جلْب المنافِع، ودفْع المضار، مع الثِّقة به في تحصيلِ ذلك.. فلا حُصُولَ على هِدايةٍ، ولا استِقَامَةَ على طاعةٍ، ولا بُلُوغَ لغَايةٍ، إلا بالاستِعانَةِ باللهِ تعالى، (فاستَعِن بالله ولا تَعجز)..

وإذا عُلم أنّ هِدايةَ التوفيق لكل ما سبق لا تكونُ إلا منْ عندِ اللهِ وحدَهُ، وأنه لا فوزَ ولا نجاةَ إلا بها، رأينا حِكمةَ الله ورحمتهِ في تشريعه لعباده هذا السؤال العظيم:
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة:6]، أي: دُلَّنا ووفِّقنا يا رب، وأرشِدْنا وأعنا على سلوك الطريق القويم، الذي لا مَيل فيه عن الحقِّ، ولا زيغ عن الهُدى، والذي يوصلُ إلى رِضاك وجنتك، وهو دين الإسلام وشرعه القويم، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [يس:61]..

﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة:7]، أي: اهدنا طريق الذين أنعمتَ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين علموا الحقَّ وعمِلوا به، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء:69]..

﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة:7]، أي: وجنِّبنا طريق المغضوب عليهم الذين علموا الحق ولم يعملوا به كاليهود ومن تشبه بهم، وجنِّبنا طريق الضالين الذين لم يهتدوا إلى الحق لجهلهم وضلالهم، فهم يتعبدون بأهوائهم وآرائهم المخالفة لشرع الله، كالنصارى ومن تشبه بهم..

اعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ﴾ [الأنعام:153]..
أقول ما تسعمون..

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى..

أما بعد فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب ﴾ [الزمر:18]..

معاشر المؤمنين الكرام: لهذه السورة العظيمة المباركة فوائدُ عظيمة، وهداياتٌ نفيسة: منها تأكيدُ سِعةِ رحمةِ الله، فهو الرحمنُ الرحيم، القائل عن نفسه: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف:156]، وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: "إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخَّر الله تسعا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة".. وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين ﴾ [الأنبياء:107]..

ومن الفوائد: تذكرُ المسلمُ باستحقاق اللهٍ لجميع المحامد، مما يجعلُ القلبَ يمتلئُ حبًا لله، كما قال تعالى عن المؤمنين: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة:165]، ومن أحبَّ الله اجتهدَ في طاعته، وحرص على طلبِ رضاه.. كما أنّ المسلمَ إذا تذكرَ أنّ اللهَ جلّ وعلا هو مالك يوم الدين، وأنه سيحاسب عباده على كل ما فعلوا، فسيخاف ذلك المقام العظيم، ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات:40]..

ومن الفوائد العظيمة أنّ في تكرار قول العبد: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾، تأكيدُ وتجديد البراءةِ من الشرك والرياء، وفي تكرار قوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، تأكيدُ وتجديد البراءة من الكِبْر والعُجْب، كلما تذكر العبدُ أنه لا غني له عن الاستعانة بالله..

ومن الفوائد أن تقديم العبادة على الاستعانة في قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة:5]، لأن العبادة هي الغاية من وجود الخلق، والاستعانة هي الوسيلة، فقُدِّمت الغاية لأهميتها.. وكون الخطاب بصيغة الجمع: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، تأكيدٌ على أهمية صلاة الجماعة، كما قال تعالى: ﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة:43]، وفي الآية أيضًا حثٌ على التعاون على البر والتقوى وما ينفع المسلمين في أمور دينهم ودنياهم..

ومن الفوائد: أن سؤال الله الهداية للطريق الصحيح هو أعظم وأهم سؤال، وفي الحديث القدسي، كلكم ضالٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم..

ومن الفوائد: أنَّ الصراط المستقيم طريقٌ قديم، سلكه جميعُ الصالحين من قبلنا، وليس طريقًا جديدا محدثا، وفي ذلك إبطالٌ لجميع البدع المحدثة، فهي ليست من منهج الـمُنعمِ عليهم الذين قال الله عنهم: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام:90]..

ومن الفوائد: أن آخرَ آيةٍ في السورة: قسَّمت الناسَ وأحوالهم إلى ثلاثة أقسام: قِسمٌ علم الحقّ وعمِلَ به، وقِسمٌ: علم الحق ولم يعمل به، وقِسمٌ جهِل الحق وضلَّ عنه، فعلى المسلم أن يحرص على تعلَّم الحق وسؤال الله الهداية والثبات عليه في كل الأمور والأحوال، وأن يحذر من طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النور:46]..

ومن أعظم فوائد سورة الفاتحة، أنَّ جميع معاني آيات القرآن الكريم ترجع إليها، وأنَّ كلَّ آياتِ القرآن تُفصِّيلٌ لما أجملته هذه السورة العظيمة، ولذلك سميت أم القرآن، وتفصيل ذلك يطول..

فلعلنا أن نأتي عليه في خطبة أخرى بإذن الله، فما أعظم هذه السورة المباركة، وما أجلَّ شأنها، ولعلنا الآن استشعرنا شيئًا من عظمة قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [النساء:82]، أفلا يتدبرون القرآن، فَيتَدَارَسُونَ آيَاتِهِ، ويَسْتَلْهِمُونَ هِدَاياتِهِ، ويستنزلونَ بركاته، ويَسْتَشْفُونَ بعِلاجَاتِهِ، ويَتخَلَّقُون بإرشَاداتِهِ وتَوجِيهَاتِهِ، فَيُحَقِقوا مُرادِ اللهِ، وينَالُونَ مَرْضَاتِهِ..

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..

اللهم صل على محمد....



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 58.61 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 57.08 كيلو بايت... تم توفير 1.53 كيلو بايت...بمعدل (2.61%)]