|
من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
الأذن اليسرى (قصة)
الأذن اليسرى (قصة) د. شادن شاهين لم يبْقَ إلَّا أيام قلائل ويكون لزامًا عليَّ أن أُنتزَع من جذوري وعالمي، ذلك الوحيد الذي أعرفه؛ مبنى دار الأيتام العتيق ذي السور الحجري الآيل للسقوط، واللافتة التي اختفَتْ أغلبُ حروفها تحت غبار السنين العِجاف، آن الأوان أن أتفتَّح على العالم، ذلك الغريب الذي أخشاه. طالما حدَّقْتُ بفضول وعجب في شاشة التلفاز القديم المعلَّق في الصالة الزرقاء الضيِّقة بالدار، ربما كانت الشاشة أبيض في أسود؛ لكن خيالي كان يجمح بعيدًا ليُلوِّن بفُرْشاته حوائط القصور وموائد الطعام العامرة بكل ما لا أعرفه، وكنت أقضم بأسناني الصغيرة قضمات سرية، محاولًا تخيُّل الطَّعْم المجهول في حلقي الجافِّ. وكانت الشاشة الفضيَّة تحمل لي أيضًا وجوه أُناس مساكين، ابتساماتهم تشبهني كثيرًا، نفس الزيف، نفس المرارة، نفس التناقُض مع لوعةٍ ما بالعيون، يسيرون مثلي بحذر كالبهلوانات على هامش الحياة. الشيء الوحيد الذي عجزتُ عن تخيُّل طَعْمِه، كان حضن الأُمِّ؛ لكن الأمر بدا لي كما لو كان لذلك الحضن سحرٌ ما، يأخذك أخذًا، يغمسك في نهر من نور، ثم يُعيدك طفلًا، لا بأس؛ فكثيرون عاشوا وماتوا دون أن يذوقوا مثلي ذلك الطَّعْم. إني أخاف العالم كثيرًا؛ لكن معضلتي الكبرى ليست كل ما ذكرت، ولكنها أذني اليُسرى، فقد أكلها الكلب، نعم، هذا ما حدث بالضبط. فلقد ألقتني المرأة التي ولدتني في كوم من القمامة، يوم ميلادي، وفرَّتْ هاربة، فكنت لقمة سائغة بين فكَّي كلب ضالٍّ، تَصادَفَ وجوده في تلك الليلة السوداء، كل ذلك مقيَّد في ملفِّي بالدار، فقد بدأ تاريخي بعضَّة كلب. ليته أكل قلبي فما كنت مضطرًّا لخوض تلك الحياة البائسة، أسير خائفًا خجلًا، وجنبي الأيْسَر ملتصقًا بحيطان المدينة على الدوام. لا أعرف ماذا سأقول حين أخرج من هنا، إذا سألني أحدُهم عن أذني اليُسرى، ماذا أقول؟! ترى هل يصدقونني لو ادَّعيتُ أنها قطعت بسكين في شجار ما؟ لا أظنُّ، فبقاياها غير المنتظمة والندبات العشوائية لا تنبئ أبدًا عن جرح قطعي، ستقفز صورة الكلب إلى أذهانهم حتمًا، ستفضح العضَّةُ تاريخي. ربما فقري وبُؤْسي ويُتْمي وكل شيء قابل للتحمُّل أو التجاهُل أو التغيير، إلا أذني، تلك هي المشكلة. وضعت جنبي المنهك على فراشي الجامد، وأنا أحاول تجاهُل التفكير بالأمر، حتى غرقت في نوم عميق. حلمت أنني تائه في صحراء ذات لون أحمر قانٍ، تنتثر بها شجيرات شوك سوداء قصيرة، وتزحف بها أفاعٍ سوداء نحيلة ذات فحيح عالٍ، ومن بعيد، لاح شبح شمس باهتة تختفي بين سُحُب كثيفة، بينما عواء كلب ما يأتيني من بعيد، فأمدُّ الخُطى لأبتعد وجِلًا، وكلما ابتعدتُ يعلو الصوت أكثر، فأظنُّ أنني أسير في الاتجاه الخاطئ، فأجري بسرعة في الاتجاه المعاكس، فيعلو الصوت أكثر، فأتوقَّف، ثم أختار اتجاهًا جديدًا، فيعلو الصوت أكثر، فأجري كاتمًا صراخي في حلقي. هببت من فراشي فزِعًا وحبَّات العَرَق الباردة تتفصَّد من جبيني، كانت الساعة تُشير إلى الخامسة صباحًا، لا زال الكلُّ نيامًا بالدار، لا أحد غيري الآن على قيد اليقظة. نزلت بهدوءٍ من فراشي، وتسللت إلى الحمام، أزحت بعضًا من طبقة الغبار التي تعلو ما تبقَّى من المرآة القديمة، وحدَّقت في جانب وجهي الأيسر، قفز في عمق المرآة كلبٌ أسود، أغمضتُ عيني بقوة، وأزحتُ الفكرة جانبًا، تنهَّدْتُ بسخرية ممزوجة بالمرارة حين واتَتْني فكرة، إذا سألني أحدهم عن أذني اليسرى، فسأخبره أنها "عضَّة أم".
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |