الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة - الصفحة 8 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12570 - عددالزوار : 218272 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 172 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 183 - عددالزوار : 62177 )           »          حديث قل آمنت بالله ثم استقم وقفات وتأملات كتاب الكتروني رائع (اخر مشاركة : Adel Mohamed - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          التغافل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          الطريق يبدأ من هنا.... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          دور القائد المسلم في إدارة الأزمات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          يا بنيّ إنني أمك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          كيف تحاورين والديكِ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          أخطاء بسيطة لكن مُميتة ! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى حراس الفضيلة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى حراس الفضيلة قسم يهتم ببناء القيم والفضيلة بمجتمعنا الاسلامي بين الشباب المسلم , معاً لإزالة الصدأ عن القلوب ولننعم بعيشة هنية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #71  
قديم 26-04-2024, 10:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,210
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (75)


{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (2-2)


قال بعض المؤرخين: من الممكن أن نجد مدنا بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب، ولكن لم ير إنسان قط مدينة بلا معبد، أو لا يمارس أهلها العبادة. فالعبادة من ضروريات حياة الإنسان، فهي ليست أمرا تكميليا، وليست ترفا فكريا، وإنما هي حاجة فطرية أساسية ومطلب قلبي ملح، يقول شيخ الإسلام: القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين، من جهة العبادة - وهي العلة الغائية - ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا ينعم، ولا يسر، ولا يلتذ، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة.
ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات، لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائما مفتقر إلى حقيقة {إياك نعبد وإياك نستعين}؛ فإنه لو أعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادة الله، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون الله هو غاية مراده، ونهاية مقصوده.
والعبادة وإن كانت مطلوبا شرعيا، وحقا إلهيا، إلا إن لها ثمرات طيبة، وفوائد مباركة ترجع على العباد في الدنيا والآخرة، وقد اجتهد العلماء في الوصول إلى بعض وظائف العبادة والثمرات التي تحققها في الفرد والمجتمع، ومن تلك الوظائف:
أولا: تحقيق العبودية لله تعالى والتقرب منه:
خلق الله تعالى الإنس والجن لعبادته، فقيام الإنسان بالشعائر التعبدية هو مظهر من مظاهر طاعة الله تعالى، ودليل على صدق عبودية المكلف؛ لأن الدعاوى إذا لم تؤيدها البراهين كانت أقوالا كاذبة، قال ابن القيم: وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة؛ ولهذا جعل تعالى اتباع الرسول علما عليها وشاهدا لمن ادعاها، فقال تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، وهذا معنى قول الحسن: ليس الإيمان بالتمنى ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
ثانيا: العبادة تحرير للإنسان:
تحقيق العبادة لله تعالى وحده تحرير للإنسان من كل عبودية أخرى، وذلك أن الإنسان لا ينفك عن وصف العبودية؛ لأن له قلبا إما أن يكون عبدا لله، وإلا استعبدته حاجاته ومطامعه وأهواؤه، ويؤكد شيخ الإسلام هذا المعنى فيقول: فالعبد لا بد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله، فقيرا إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا إليه.
ويقول: فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، ويقول: الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده، فالقلب عبده.
ويبين رحمه الله الأثر المترتب على حرية القلب ورقه فيقول: فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.
أما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقا مستعبدا متيما لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب؛ فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك، إذا كان قائما بما يقدر عليه من الواجبات، وأما من استعبد قلبه فصار عبدا لغير الله، فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس».
ثالثاً: تزكية النفس وتطهيرها:
العبادة سبب عظيم لتهذيب النفوس البشرية من الذنوب والأمراض التي قد تطرأ عليها، والأخلاق الرديئة التي قد تنطبع بها، وهذا ما يظهر واضحا من خلال نصوص كثيرة تربط بين العبادة والتزكية مثل قوله تعالى:{وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، وقوله:{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}، وقوله:{قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى}، ونصوص كثيرة تشير إلى أثر العبادة في تزكية الإنسان وتقويمه.
رابعاً: إعداد الفرد الصالح في المجتمع:
للعبادة وظيفة اجتماعية مهمة تتمثل في تخريج أفراد صالحين بكل معاني الصلاح، فتزكية النفوس وتهذيبها بأنواع العبادات المختلفة يعود أثره على واقع المجتمع، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وفائدة هذا عائدة على المجتمع كما لا يخفى، الزكاة تطهير للفرد من البخل والشح، ولا شك أن أفرادا كثيرين سيستفيدون من صرف الزكاة على مستحقيها في المجتمع، وقس على ذلك سائر العبادات من الصيام والحجاب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالعبادة الصحيحة توجد الفرد الصالح القائم بحقوق الله وحقوق العباد.
خامسا: العبادة مظهر من مظاهر الشكر:
العبادة تعبير عملي عن شكر النعم الكثيرة التي امتن الله تعالى بها على عباده، والله تعالى يحب أن يشكر ولا يكفر، ومن صور الشكر القيام بعبادته على الوجه المشروع كما أشار إلى ذلك تعالى في قوله: {اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور}، وحقق النبي [ هذا المعنى حين كان يقوم حتى تتفطر قدماه، فلما قيل له: لم تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال مبينا أن ذلك من موجبات الشكر و الزيادة: «أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا» أخرجه البخاري.
سادساً: العبادة سر السعادة:
يقول شيخ الإسلام: إن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له، لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب، فالموحد سعيد بتوحيده كما قال تعالى: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا}، فهذا مثل ضربه الله للمشرك الشقي بطاعة غير الله، والموحد المخلص لله فهو سعيد مرتاح.
وأيضا فإن العابد المطيع يسعد في الدنيا بالنعم العاجلة كما قال تعالى:{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}، وقال تعالى:{ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}، وقال ابن عباس مبينا الأثر العاجل للطاعة والمعصية: «إن للحسنة نورا في القلب، وزينا في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة ظلمة في القلب، وشينا في الوجه، ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق».
نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، فذلك - كما يقول ابن القيم - أنفع الدعاء وهو طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب، وبهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا فقال: «لا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #72  
قديم 26-04-2024, 02:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,210
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (76)


- شر الناس ذو الوجهين



يحث الإسلام أتباعه المؤمنين على الصدق في الأقوال والأفعال، والوضوح في المواقف، والثبات على المبادئ، فقال تعالى:{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، ويحذر من التلون والتقلب في المواقف حسب المصالح الدنيوية والأهواء الشخصية، ويعد هذا من صفات المنافقين كما قال تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا}.
قال الشيخ ابن سعدي: «فهذه الأوصاف المذمومة تدل -بتنبيهها- على أن المؤمنين متصفون بضدها من الصدق والإخلاص ظاهرا وباطنا».
وللأسف تجد بعض الناس ليس له شخصية مستقلة، ولا رأي ثابت، بل هو أقرب ما يكون شبها بالسائل الشفاف يأخذ لون الإناء الذي يوضع فيه، فهذا النوع من الناس إذا جلس مع المتدينين أظهر التدين والصلاح وانتقد غير المتدينين وعابهم، وإذا جمعه المجلس مع غير المتدينين وافقهم في أخلاقهم وأقوالهم وربما استهزأ بالمتدينين وانتقصهم.
ووقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الخلق ولا سيما إذا صاحب ذلك نميمة أو غيبة أو إفساد ، فقد أخرج الشيخان عن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَجِدُونَ النَّاسَ مَعادِنَ: خِيَارُهُم في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا، وتَجِدُونَ خِيَارَ النَّاسِ في هَذَا الشَّأنِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لَهُ، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الوَجْهَينِ، الَّذِي يَأتِي هؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ».
ويوضح الباجي سبب وصفه بذي الوجهين فيقول: «وصف بذلك لأنه يأتي هؤلاء بوجه التودد إليهم والثناء عليهم والرضا عن قولهم وفعلهم، فإذا زال عنهم وصار مع مخالفيهم لقيهم بوجه من يكره الأولين ويسيء القول فيهم والذم لفعلهم وقولهم».
ويذهب القرطبي إلى أبعد من ذلك فيعد ذلك من أحوال المنافقين فيقول: «إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق؛ إذ هو متملق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس». ومثله الإمام النووي رحمه الله إذ يقول: «ذو الوجهين: هو الذي يأتي كل جماعة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق، ومحض كذب وخداع، وتحايل على الاطلاع على أسرار الطائفتين وهي مداهنة محرمة».
ومما يؤكد خطورة هذه الخصلة الذميمة ما ورد في شأنها من وعيد شديد، فعن عمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار» أخرجه أبو داود وصححه الشيخ الألباني .
وظاهر أن هذا الجزاء من جنس العمل كما علله في «عون المعبود» فقال: «معناه: أنه لما كان يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه على وجه الإفساد، جُعل له لسانان من نار كما كان له في الدنيا لسان عند كل طائفة».
وهذا الحكم يستوي فيه الدخول على مجالس العامة ومجالس الوجهاء والأمراء على حد سواء، فقد قال أناس لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، فقال: «كنا نعده نفاقا». أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأحكام (باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير ذلك).
وذكر الحافظ أن في بعض الروايات أنهم قالوا: «إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون في شيء نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، فقال ابن عمر: «كنا نعد هذا نفاقا، فلا أدري كيف هو عندكم»؟
وهذا للأسف ما يفعله بعض الناس، حيث يدخل على الحكام والمسؤولين فيمدحهم ويتزلف لهم، فإذا خرج من عندهم بادر بانتقاصهم واغتيابهم وذكر مساوئهم، فيقال له: ما منعك من نصحهم سرا في مجلسهم أداء للأمانة ونصحا لأئمة المسلمين وعامتهم؟! أم إنه الجبن والتلون وموافقة الجلساء في الغيبة والخوف من مخالفتهم لأجل الحق والمبادئ؟!
وينبغي التفريق بين التلون في المواقف والتنازل عن المبادئ -وهو المداهنة- واستعمال الحكمة عند مخالطة الناس، والترفق بهم للإصلاح والتوعية -وهي المداراة- قال أبو حاتم البستي: «الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دفع إليه في العشرة من غير مقارفة المداهنة؛ إذ المداراة من المداري صدقة له، والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عليه».
قال النووي: «فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود»، ونقل ابن حجر عن غيره الفرق بينهما: أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى، ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليها ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح».
وقال ابن القيّم مبينا الفرق بين المداراة والمداهنة: «المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذمّ، والفرق بينهما أنّ المداري يتلطّف بصاحبه حتّى يستخرج منه الحقّ أو يردّه عن الباطل، والمداهن يتلطّف به ليقرّه على باطله ويتركه على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النّفاق. وقد ضرب مثل لذلك مطابق، وهو حال رجل به قرحة قد آلمته فجاءه الطّبيب المداوي الرّفيق، فتعرّف حالها ثمّ أخذ في تليينها، حتّى إذا نضجت أخذ في بطّها برفق وسهولة، حتّى إذا أخرج ما فيها وضع على مكانها من الدّواء والمرهم ما يمنع فسادها، ثمّ تابع عليها بالمراهم الّتي تنبت اللّحم، ثمّ يذرّ عليها بعد نبات اللّحم ما ينشّف رطوبتها، ثمّ يشدّ عليها الرّباط، ثمّ لم يزل يتابع ذلك حتّى صلحت، أمّا المداهن فقال لصاحبها: لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء، فاسترها عن العيون بخرقة، ثمّ أله عنها، فلا تزال مدّتها تقوى وتستحكم حتّى عظم فسادها».
وقال البخاري في كتاب الأدب باب المداراة مع الناس: ويذكر عن أبي الدرداء: «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم»، قال ابن حجر: «والكشر بالشين المعجمة وفتح أوله: ظهور الأسنان، وأكثر ما يطلق عند الضحك».
ثم أخرج بسنده عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: «ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة». فلما دخل ألان له الكلام فقلت له: «يا رسول الله، قلت ما قلت ثم ألنت له في القول؟» فقال: «أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه».
قال ابن بطال: «المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط; لأن المدارة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك».
فعلى المسلم أن يكون صادقا مع ربه ومع نفسه ومع الآخرين، ثابتا في مواقفه ومبادئه، حكيما في دعوته إلى الله تعالى، متوسطا بين الحزم والرفق، مفرقا بين الصراحة والوقاحة، وموازنا بين المصالح والمفاسد، جامعا بين العلم والعمل، والله تعالى الموفق لكل خير وسداد.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #73  
قديم 26-04-2024, 06:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,210
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (77)


- عَـشِّ ولا تغتر



يبتلي الله تعالى عباده بالخير والشر، فتارة يبتليهم بالفقر والمرض والحروب ونحوها من المصائب، وتارة يبتليهم بالأموال وكثرة الأولاد والتمكين في الأرض وتسخير الخيرات لهم كما قال عز وجل:{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة}، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: « أي نبتليكم بالشر والخير فتنة: بالشدة، والرخاء، والصحة، والسقم، والغنى، والفقر، والحلال، والحرام، والطاعة، والمعصية، والهدى، والضلال»، وقال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} ونحو ذلك من الآيات.
والابتلاء بالخير أشد من الابتلاء بالشر؛ لأن الشر أمره ظاهر ويتفطن له غالب الناس، أما الابتلاء بالخير فقد يغرق الإنسان في النعم ولا يتنبه إلى أن هذا اختبار من الله تعالى له ليبلوه أيشكر أم يكفر، وتجري عليه النعم سابغة وهو غافل عن المقصود منها، وقد يغتر بها ويسوقه البطر إلى نسيان شكر المنعم، والغفلة عن القيام بحقه، والمسلم الواعي لا ينشغل بالنعم عن المنعم، ولا يغتر بالدنيا، ولا يثق بزينتها وزخرفها، ويأخذ بأوثق الأمور، ويستعد لأسوأ الاحتمالات، ويعمل بأسباب النجاة؛ فالسفر طويل، والعقبة كؤود، والناقد بصير.
وهذا المثل العربي يصور هذه الحقيقة، ويقرب ذلك المعنى بأوجز عبارة وأقصر لفظ، قال الميداني في مجمع الأمثال: «أصل المثل -فيما يُقَال- أن رجلا أراد أن يُفَوِّزَ -أي يسير في المفازة-بإبله ليلا، واتّكَل على عشب يجده هناك، فقيل له‏:‏ عّشِّ ولا تَغْتَر، إي لا تغتر بما لست منه على يقين.
ويروى أن رجلاً أتى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم فقال‏:‏ كما لا ينفع مع الشرك عمل، كذلك لا يضر مع الإيمان ذنب، فكلهم قَال‏:‏ «عشِّ ولا تّغْتَر»، يقولون‏:‏ لا تُفَرِّطْ في أعمال الخير وخُذْ في ذلك بأوثقَ الأمور، فإن كان الشأن على ما ترجو من الرُّخصَة والسَّعة هناك، كان ما كسبت زيادةً في الخير، وإن كان على ما تخاف كنت قد احْتَطْتَ لنفسك.
ويوضح الغزالي أهمية اليقظة وخطورة الغرور فيقول: «إن مفتاح السعادة التيقظ والفطنة، ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة، والمغرور هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون بهداية نفسه كفيلا، وبقي في العمى، فاتخذ الهوى قائدا والشيطان دليلا».
ويعرف الغرور بأنه: «هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان، فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور، وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه، فأكثر الناس إذاً مغرورون وإن اختلفت أصناف غرورهم».
وزيادة في الإيضاح يبين ابن القيم الفرق بين الثقة والغرور فيقول: «الفرق بينهما: أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به، ووثق بالله في طلوع ثمرته وتنميتها وتزكيتها كغارس الشجرة وباذر الأرض، والمغتر العاجز قد فرط فيما أُمر به، وزعم أنه واثق بالله، والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود».
وقال رحمه الله: «إن الثقة سكون يستند إلى أدلة وأمارات يسكن القلب إليها، فكلما قويت تلك الأمارات قويت الثقة واستحكمت ولا سيما على كثرة التجارب وصدق الفراسة.
وأما الغرة فهي حال المغتر الذي غرته نفسه وشيطانه وهواه وأمله الخائب الكاذب بربه حتى أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والغرور ثقتك بمن لا يوثق به، وسكونك إلى من لا يُسكن إليه، ورجاؤك النفع من المحل الذي لا يأتي بخير، كحال المغتر بالسراب».
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في ذم الغرور بأنواعه، والتحذير من آثاره الوخيمة، فمن ذلك قوله تعالى:{يأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}، قال سعيد بن جبير: «غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا ليتني قدمت لحياتي».
وقال عز وجل: {يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}، قال ابن سعدي: «يقول تعالى معاتبا الإنسان المقصر في حقه، المجترئ على معاصيه:{يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟»، قال قتادة: «ما غر ابن آدم غير هذا العدو والشيطان».
وقال تعالى: {ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون}، قال ابن كثير: «أَيْ إِنَّمَا جَازَيْنَاكُمْ هَذَا الْجَزَاء لِأَنَّكُمْ اِتَّخَذْتُمْ حُجَج اللَّه عَلَيْكُمْ سِخْرِيًّا تَسْخَرُونَ وَتَسْتَهْزِئُونَ بِهَا، وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاة الدُّنْيَا، أَيْ خَدَعَتْكُمْ فَاطْمَأْنَنْتُمْ إِلَيْهَا فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ».
وقال عز وجل:{وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}، قال ابن سعدي: «هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها، وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقل عنها إلى دار القرار التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار من خير وشر».
وقال تعالى: {ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني}، قال الطبري: «وقوله: {وغرتكم الأماني} يقول: وخدعتكم أماني نفوسكم، فصدتكم عن سبيل الله، وأضلتكم {حتى جاء أمر الله} يقول: حتى جاء قضاء الله بمناياكم فاجتاحتكم، وعن قتادة في قوله تعالى:{ وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله} كانوا على خدعة من الشيطان - والله ما زالوا عليها - حتى قذفهم الله في النار.
وقوله: {وغركم بالله الغرور} يقول: وخدعكم بالله الشيطان، فأطمعكم بالنجاة من عقوبته، والسلامة من عذابه».
وقال صلى الله عليه وسلم: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسبابة- في اليم، فلينظر بما يرجع» أخرجه مسلم.
قال النووي: «ومعنى الحديث: ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها، ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها، إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقي البحر».
والخلاصة أن المطلوب من المسلم أن يكون متنبها إلى ما يطرأ له من ابتلاءات وفتن بالخير قبل الشر، وعليه أن يقوم بواجبه من الشكر والصبر، عدم الاغترار بالدنيا والانغماس فيها إلى درجة الاستغراق والغفلة عن الحقائق الكبرى وهي الموت والبعث والجزاء، قال الزهري: «من استطاع ألا يغتر فلا يغتر»، فليحرص كل مسلم على ما ينفعه، ويستعين بالله على طاعته وحسن عبادته، فذلك أفضل مطلوب وأعظم موهوب، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #74  
قديم 26-04-2024, 10:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,210
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (78)


- إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم



التغيير سنة ماضية، فطبيعة الزمان والمكان وأحوال الناس تتغير بشكل دائم ومستمر، فالمتأمل لأحوال الناس، والدارس لتاريخ البشرية يجد هذا الأمر واقعا ملموسا، وحقيقة محسوسة.
والتغيير قد يكون بالأفراد، كما قد يحدث بالمجتمعات، وقد يكون تغييرا نحو الأفضل، وأحيانا قد يصير التغيير للأسوأ.
فهناك تغيير مذموم، وهو اتباع سبيل الشيطان في تغيير فطرة الإنسان، والانحراف به عن شريعة الرحمن كما قال تعالى: {إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا}.
ويبين الشيخ ابن سعدي أن من إضلال الشيطان (تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله)، ويلتحق بذلك الاعتقادات الفاسدة، والأحكام الجائرة، وأوضح أن تغيير خلق الله يتناول الخلقة الظاهرة؛ بالوشم، والوشر، والنمص، والتفليج للحسن، ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن، ويتناول تغيير الخلقة الباطنة، وهي الفطرة السليمة التي تقبل الحق وتنقاد له، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل ، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان.
وقال جماعة من أهل التفسير منهم مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة: المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات، ليعتبر بها وينتفع بها، فغيـّرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، قال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم، وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق الله.
وروي عن ابن عباس في معنى {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} أي: دين الله، واختاره الطبري فقال: «وإذا كان ذلك معناه دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي؛ لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي، أي فليغيرن ما خلق الله في دينه».
وقال مجاهد أيضا: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}: فطرة الله التي فطر الناس عليها، يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره، وهو معنى قوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه». فيرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الايمان به في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى}.
ومن التغيير المذموم ما ورد النهي عنه في السنة المطهرة، فعن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله» أخرجه أحمد، وهو صحيح.
فما يفعله بعض النساء من هذه الأفعال المنكرة بحجة التزين والتجمل داخل تحت هذا الوعيد، ومشمول بهذا الذم.
وقد يكون التغيير محمودا، وذلك بأن يتبع المكلف سبيل الرحمن في تزكية نفسه بالعقيدة الصحيحة، والأخلاق القويمة، والعبادات المستقيمة، ويترك ما كان عليه من عقائد منحرفة وعبادات مبتدعة وأخلاق رذيلة، وإنما يتحقق ذلك باتباع شرع الله تعالى، والاهتداء بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
قال ابن كثير: «يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما أولياؤهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك».
والله سبحانه وتعالى أخبرنا عن سنته الماضية، وقاعدته المطردة وهي أنه تبارك وتعالى يعين من تغير إلى الخير ويوفقه، ويخذل من تغير إلى الشر ويعاقبه، فقال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال}.
قال الشيخ ابن سعدي: «{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعمة والإحسان ورغد العيش {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها؛ فيسلبهم الله عند ذلك إياها.
وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية، فانتقلوا إلى طاعة الله، غير الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} أي: عذابا وشدة وأمرا يكرهونه، فإن إرادته لا بد أن تنفذ فيهم».
وقال تعالى: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيـروا ما بأنفسهم}، قال الشيخ ابن سعدي: «{ذَلِكَ} العذاب الذي أوقعه اللّه بالأمم المكذبين، وأزال عنهم ما هم فيه من النعم والنعيم؛ بسبب ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم، {بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم} من نعم الدين والدنيا، بل يبقيها ويزيدهم منها إن ازدادوا له شكرا، {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من الطاعة إلى المعصية، فيكفروا نعمة اللّه ويبدلوها كفرا، فيسلبهم إياها ويغيرها عليهم كما غيروا ما بأنفسهم، وللّه الحكمة في ذلك والعدل والإحسان إلى عباده، حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم، وحيث جذب قلوب أوليائه إليه، بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره».
قال الشيخ ابن عاشور : «فقوله: {لم يك مغيرا} مؤذن بأنه سنة الله ومقتضى حكمته; لأن نفي الكون بصيغة المضارع يقتضي تجدد النفي ومنفيه .
والمراد بهذا التغيير (تغيير سببه) وهو الشكر بأن يبدلوه بالكفران؛ ذلك أن الأمم تكون صالحة ثم تتغير أحوالها ببطر النعمة فيعظم فسادها، فذلك تغيير ما كانوا عليه; فإذا أراد الله إصلاحهم أرسل إليهم هداة لهم، فإذا أصلحوا استمرت عليهم النعم، مثل قوم يونس وهم أهل نينوى، وإذا كذبوا وبطروا النعمة، غيـّر الله ما بهم من النعمة إلى عذاب ونقمة».
والخلاصة أن التغيير سنة ماضية، وهو وسيلة شرعية لتحصيل النعم الدينية والدنيوية والأخروية واستدامتها، إذا أخلص المسلم النية، وأحسن العمل، واستعان بربه في القيام بعبادته، وشكر نعمته، فأفضل مطلوب، وأحسن موهوب هو (الإعانة على العبادة).
والتغيير يبدأ بنية صادقة، وعزم أكيد، يحدوه علم صحيح، وعمل مستقيم كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}وقال تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} وقال عز وجل: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #75  
قديم يوم أمس, 03:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,210
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (79)


- نعــم المــال الصــالح للرجــل الصـــالح



قال أبو حاتم: «وشر المال ما اكتسب من حيث لا يحلّ، وأنفق فيما لا يجمل، ووجوده وعدمه ليسا بتجلد ولا بكثرة حيلة، ولكنه أقسام ومواهب من الخلاّق العليم»
شاع لدى بعض الناس مقولة غريبة هي: «إن الفلوس وسخ دنيا»، وظنوا أن المال أمر مذموم، وأن جامعه ملوم، وكأن المسلم الصالح لا بد أن يكون فقيرا معدما، ولا يليق به أن يكون غنيا محترما، ولعل ذلك تأثرا بقدامى الصوفية كما قال ابن الجوزي: «كان إبليس يلبس على أوائل الصوفية - لصدقهم في الزهد - فيريهم عيب المال، ويخوفهم من شره، فيتجردون من الأموال، ويجلسون على بساط الفقر، وكانت مقاصدهم صالحة، وأفعالهم في ذلك خطأ لقلة العلم».
والمتأمل في أدلة الشريعة الإسلامية وأحكامها ومقاصدها يجد أنها قد أولت الأموال اهتماما كبيرا، يقوم على الاعتدال ومراعاة الفطرة وتحقيق مصالح الفرد والمجتمع، مع القيام بحقوق الله تعالى وحقوق العباد.
فالشريعة الإسلامية تقرر أن المال - وإن كان في يد مالكه - إلا أنه في الحقيقة مال الله تعالى كما قال عز وجل: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، والإنسان مستخلف في هذا المال كما قال تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، ومالك المال الحقيقي سيسأل الإنسان عن تصرفه في هذه الأموال كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ، وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيم أنفقَهُ» أخرجه الترمذي.
والشريعة الإسلامية جعلت المال من مقاصدها الكلية، وعدته من الضروريات الخمس التي جاءت لتحصيلها وحفظها، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهذا أمر مقرر وثابت باستقراء الشريعة في أدلتها وقواعدها كما هو معلوم من أصول الفقه وقواعده.
كما أن الشريعة الإسلامية تراعي الفطرة وتهذبها، ولا تصادمها أو تعارضها، فالقرآن يقرر أن حب المال والرغبة في تملكه أمر فطري كما قال عز وجل: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}، وقال تعالى عن الإنسان: {وإنه لحب الخير لشديد} أي: المال، فحب المال غريزة، والدين جاء ليهذبها.
والشريعة الإسلامية تعد المال عونا على طاعة الله تعالى، فالله تعالى أمر بأداء الزكاة وجعلها من أركان الإسلام، وهل يمكن أداؤها إلا بتحصيل الأموال أولا؟ وشرع الله تعالى الصدقات وعدها من أبواب القربات، وأوجب الكفارات لبعض المخالفات وفيها الإطعام والكسوة وتحرير الرقاب، وألزم الله تعالى المكلف بنفقات واجبة تجاه نفسه ومن يعول كزوجته وأبنائه وأقربائه بشروط وضوابط، حيث مدح المنفقين فقال عن المتقين: {ومما رزقناهم ينفقون}، ويلزم من ذلك تحصيل الأموال ليقدر المكلف على القيام بهذه الطاعات، ولا يفرط في تلك الواجبات.
وندب الله تعالى إلى نصرة الدين بالنفس والمال فقال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم}، وقد ضرب الصحابة الكرام في ذلك أروع الأمثلة، فتبرع أبو بكر بماله كله، ودفع عمر نصف ماله، وجهز عثمان جيش العسرة كاملا، رضي الله عنهم أجمعين، وما ذلك إلا لأنهم كانوا أغنياء سخروا أموالهم في خدمة الدين.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى - وهو أن المال عون المسلم - فعن عَمْرَو بْن الْعَاصِ قال: «بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ عَلَيَّ ثِيَابِي وَسِلاحِي ثُمَّ آتِيَهُ، قَالَ: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَمْرُو إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ، فَيُغْنِمَكَ اللَّهُ وَيُسْلِمكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ رَغْبَةً صَالِحَةً مِنَ الْمَالِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الإِسْلامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: «يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ». رواه أحمد وغيره وصححه الألباني.
قال أبو حاتم البستي: «هذا الخبر يصرح عن النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة جمع المال من حيث يجب، ويحل للقائم فيه بحقوقه؛ لأن في تقرينه الصلاح بالمال والرجل جميعا بيانا واضحا؛ لأنه إنما أباح في جمع المال الذي لا يكون بمحرم على جامعه، ثم يكون الجامع له قائما بحقوق الله فيه».
والقرآن الكريم يصف المال بأنه خير في مواضع مختلفة كما قال عز وجل: {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم}. وجعل وفرة الأموال من البركة والثواب المعجل فقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}.
وروى البيهقي أنه كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة من الفقر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم»، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر».
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسالك الهدى والتقى والعفاف والغنى»، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم الغني الصالح فقال: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي».
وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص حين أراد أن يوصي بشطر ماله: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». متفق عليه.
وقال لكعب بن مالك حين أراد أن يتصدق بكل ماله في حديث توبته: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» أخرجه البخاري.
ولما طلبت أم سليم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لابنها أنس بن مالك قال: «اللهُمّ أكثِرْ مالَهُ ووَلدَهُ وأطِلْ حَياتَهُ» رواه البخاري في الأدب المفرد. قال الكرماني: وقد استجاب الله دعاءه فيه بحيث صار أكثر أصحابه مالاً، فكان له بستان يثمر في كل سنة مرتين، وأكثر ولدًا، فكان يطوف بالبيت، ومعه أكثر من سبعين نفسًا من نسله».
وفي عهد عثمان رضي الله عنه ذهب أبو ذر رضي الله عنه إلى أن ما زاد عن حاجة الإنسان فهو كنز يعرض مالكه للوعيد، ذكر البخاري ذلك في كتاب الزكاة باب ما أديّ زكاته فليس بكنز، قال الشيخ الطاهر بن عاشور: «أجمع الصحابة في عهد عثمان على مخالفة أبي ذر في دعوته الناس إلى الانكفاف عن المال، وإنبائه إياهم بأن ما جمعوه يكون وبالا عليهم في الآخرة».
وفي المقابل فإن الشريعة الإسلامية تحذر من الافتتان بالمال؛ لأنه محبب للنفس وقد يعيق الإنسان عن طاعة الله تعالى كما قال عز وجل: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم}، وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن التنافس في الأموال على غير الوجه المشروع سبب للهلاك، فعن عمرو بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين» فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: «فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» متفق عليه.
وحذرت الشريعة من تقديم المال وكسبه على المقصد الأصلي وهو عبادة الله تعالى وحده، فعند التزاحم تقدم العبادة وحقوقها على الدنيا وزينتها كما قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}، وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» أخرجه البخاري، قال ابن حجر: «قوله: (عبد الدينار) أي: طالبه الحريص على جمعه القائم على حفظه، فكأنه لذلك خادمه وعبده، قال الطيبي: «قيل: خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها، كالأسير الذي لا يجد خلاصا».
ودعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى فقال: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش» قال ابن حجر: «وسوغ الدعاء عليه كونه قصر عمله على جمع الدنيا واشتغل بها عن الذي أمر به من التشاغل بالواجبات والمندوبات».
والشريعة الإسلامية تحث المكلفين على اكتساب الأموال دون استشراف ولا إلحاح ولا تعلق القلوب بها، فعن حكيم بن حِزامٍ رضيَ اللّهُ عنه قال: سألتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثمّ سألتهُ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثمّ قال: «يا حكيمُ ! إنّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوة، فمن أخذَهُ بَسخاوةِ نفسٍ بوركَ له فيه، ومن أخذَهُ بإشْرافِ نفسٍ لم يُبارَك له فيه، كالذي يأكلُ ولا يشبَعُ، اليدُ العُليا خيرٌ منَ اليدِ السّفلى». قال حكيمٌ: فقلتُ: يا رسولَ اللّهِ، والذي بَعثكَ بالحقّ لا أرزأُ أحداً بعدَكَ شيئاً حتى أُفارِقَ الدنيا. متفق عليه.
قال أبو حاتم: «وشر المال ما اكتسب من حيث لا يحلّ، وأنفق فيما لا يجمل، ووجوده وعدمه ليسا بتجلد ولا بكثرة حيلة، ولكنه أقسام ومواهب من الخلاّق العليم».
فالمال رزق من الله تعالى، وكثرته وقلته ليست معيار الكرامة عند الله تعالى كما قال عز وجل: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}، فالكرامة عند الله تعالى بالتقوى، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، ومن التقوى بذل الأموال في طاعة الله ما كان منها واجبا أو مستحبا.
فبذل الأموال في الطاعات والقربات من سمات المؤمنين، قال تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}، ووعدهم على ذلك بالثواب الجزيل فقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، وحذر من الشح والبخل، فقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.
وخلاصة القول بعد هذا العرض الموجز أن الشريعة أولت الأموال عناية كبيرة، وحثت على اكتسابها بالوجوه المشروعة، وإنفاقها في مصارفها المقبولة، دون إفراط ولا تفريط كما قال تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملموما محسورا}، فحيازة الأموال على هذا الوجه من الأمور المحمودة، وهي خير للفرد والمجتمع والدولة، حيث تعود على الجميع بالمصالح العديدة وتدرأ عنهم الفقر والمرض والجهل والذل والحاجة للآخرين.
وأختم بوصية قيس بن عاصم لبنيه عند موته حيث قال: «عليكم بالمال واصطناعه؛ فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس؛ فإنها آخر كسب الرجل».
ومثله قول أبي قيس بن معديكرب لبنيه: «يا بنيّ اطلبوا هذا المال أجمل طلب، واصرفوه في أحسن مذهب، صلوا به الأرحام، واصطنعوا به الأقوام، واجعلوه جنّـة لأعراضكم تحسن في الناس قالتكم؛ فإنه جمعه كمال الأدب، وبذله كمال المروءة».


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #76  
قديم يوم أمس, 08:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,210
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (80)

-الرفيق الجيد يقصر الطريق


المسلم في رحلة طويلة، تكتنفها العقبات والصعاب، ويعترضها قطاع الطريق من شياطين الإنس والجن، وتسلط الأهواء، وفتن الدنيا، وإغواء النفس
يحتاج الإنسان عادة في أسفاره وتنقلاته إلى من يعينه في سفره، فيحمل عنه أثقاله، ويذهب ضجره، ويؤنس وحدته، ويسانده في محنته؛ لذا كان الرفيق في السفر مطلبا ملحا، وحاجة ضرورية نفسية وشرعية، فعنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بلَيْلٍ وَحْدَهُ» رواه البخاري، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لا يسافرن رجل وحده، ولا ينامن في بيت وحده».
ونقل ابن حجر عن الطبري قوله: «هذا الزجر زجر أدب وإرشاد؛ لما يخشى على الواحد من الوحشة والوحدة، وليس بحرام، فالسائر وحده في فلاة، وكذا البائت في بيت وحده لا يأمن من الاستيحاش، ولا سيما إذا كان ذا فكرة رديئة وقلب ضعيف».
والمسلم في رحلة طويلة، تكتنفها العقبات والصعاب، ويعترضها قطاع الطريق من شياطين الإنس والجن، وتسلط الأهواء، وفتن الدنيا، وإغواء النفس، وأمامه مراحل عديدة في الدنيا والبرزخ وأهوال الآخرة، إلى أن يضع عصاه في الجنة بإذن الله ورحمته، وما أحكم الإمام أحمد بن حنبل لما سئل: متى يجد المؤمن طعم الراحة؟ فأجاب: «عند أول قدم يضعها في الجنة»، وقال ابن القيم: «الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو النار».
ومما يعين المسلم على الصبر في هذه الرحلة، وتحمل مشاق الطريق: حسن اختيار الرفيق، الذي يعينه ولا يعطله، ويرفع همته ولا يخذله، وتأمل قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}، كيف أن ذكر الرفيق في الجنة يسهل على السالك السبيل، ويهون عليه الصعاب؛ شوقا إلى رفقتهم، وخوفا من الحرمان من صحبتهم، قال القرطبي: «والرفق لين الجانب، وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته؛ ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض».
ولأن الصحبة الصالحة والأخوة الصادقة مفيدة في الدنيا والأخرة أمرنا الله تعالى بملازمتهم وعدم الإعراض عنهم فقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، قال الشيخ ابن سعدي: «فيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على محبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء؛ فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى».
فمن الفوائد الدنيوية دعاء بعضهم لبعض ولو طال الزمان وتباعد المكان، قال تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}، قال الشيخ ابن سعدي: «وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين من السابقين، من الصحابة ومن قبلهم ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضا».
وأما في الآخرة، فإن الأخوة الإيمانية تستمر وشائجها، وتدوم فوائدها كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، قال ابن كثير: «أَيْ كُلّ صَدَاقَة وَصحَابَة لِغَيْرِ اللَّه فَإِنَّهَا تَنْقَلِب يَوْم الْقِيَامَة عَدَاوَة إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ دَائِم بِدَوَامِهِ».
ولأهمية الأخوة في الله والصحبة الصالحة حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على صحبة الأخيار وملازمة الأبرار فقال: «لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي»، ذكر الشيخ ابن باز كلاما نفيسا في شرح هذا الحديث فقال رحمه الله: «الذي نفهمــه من هـــذا الحديث، والله أعلـــم، أن النبــي صلــى الله عليه وسلم يضــع للمسلــم منهـــجاً ينطلـــق عليه في حيـــاته، ألا يصـــاحب إلا مؤمنــــاً ولا يــأكل طعــامه إلا تقــــي، ولا يعنــــي الحديـــث أنه لا يجـــوز للمسلــم أن يُطعــم غــير المــؤمن الصالـــح، وإنـــما يقصــد الحديــث أنه ينبغــي له ألا يخــالط إلا مؤمـــناً، وألا يــأكل طعـــامه إلا تقـــي، فالمخالطـــة والمصـــاحبة والمصـــادقة شـــيء، وأن يُطعــم بمنـــاسبة ما كافراً أو فــاسقاً شـــيء آخر فهـــذا يجـــوز، ولكـــن ينبغـــي ألا يكــون ذلك منهـــج حيـــاته؛ ذلك لأن المصــاحب الصالح كمثــل بائع المســـك، إما أن يحذيـك، أي: يعطيك مجـــاناً، وإما أن تشتري منه، وإما أن تشــم منه رائحــة طيبـــة، ومثل جليـــس الســوء كمثل الحداد، إما أن يحرق ثيــابك، وإما أن تشــم منه رائــحة كريهــة؛ لذلك لا يجـــوز للمسلـــم أن يخــــالط إلا الصــــالحين، هذا هـــو المقصــــود من قولـــه عليـــه الســـلام في الحديـــث الســـابق المسؤول عنه: «لا تصاحب إلا مؤمـناً، ولا يـأكل طعـــامك إلا تقي».
والنبي صلى الله عليه وسلم يصور اللحمة الإيمانية بقوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه. متفق عليه، قال النووي في فوائد الحديث: «تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم، والملاطفة، والتعاضد في غير إثم ولا مكروه».
وقد تكاثرت أقوال السلف في الحث على صحبة الإخوة العقلاء الناصحين، فقال عمر: «عليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم؛ فإنهم زين في الرخاء، وعدة في البلاء»، وقال بلال بن سعد بن تميم: «أخ لك كلما لقيك ذكـّرك بحظك من الله، خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا».
قال الراغب الأصفهاني: «الصديق محتاج إليه في كل حال: أما عند سوء الحال فيعينونه، وأما عند حسن الحال فليؤانسوه وليضع معروفه عندهم، ومن ظن أنه يمكن الاستغناء عن صديق فمغرور، ومن ظن أن وجوده سهل فمعتوه».
وقال أبو حاتم البستي: «العاقل لا يواخي إلا ذا فضل في الرأي والدين والعلم والأخلاق الحسنة، ذا عقل نشأ مع الصالحين؛ لأن صحبة بليد نشأ مع العقلاء خير من صحبة لبيب نشأ مع الجهال».
ويبين ابن القيم أنواع اللقاء بالإخوة وآثار كل منها فيقول: «الاجتماع بالإخوان قسمان:
- أحدهما: اجتماع على مؤانسة طبع وشغل وقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
- الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة، والتواصي بالحق والصبر، فهذا أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات:
- إحداها: تزّين بعضهم لبعض، الثانية: الكلام والمخالطة أكثر من الحاجة، الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود.
وبالجملة، فالاجتماع والخلطة لقاح: إما للنفس الإمارة، وإما للقلب والنفس المطمئنة، والنتيجة المستفادة من اللقاح أن من طاب لقاحه طابت ثمرته، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك، والخبيثة لقاحها من الشيطان، وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات، وعكس ذلك».
فكما يحرص الإنسان على رفقة العقلاء الناصحين في سفر الدنيا، فليحرص على صحبة الإخوة الصالحين الصادقين لسفر الآخرة، وحسن أولئك رفيقا، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 122.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 118.78 كيلو بايت... تم توفير 4.05 كيلو بايت...بمعدل (3.30%)]